تفسير سورة سورة الرعد من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى المر: أنَا اللهُ أعْلَمُ وَأرَى). وقولهُ تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي هذهِ آياتُ القرآنِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾ هو القرآنُ أيضاً، وقال قتادةُ: (الْمُرَادُ بقَوْلِهِ ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ الآيَات الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُب، وَالْمُرَادُ بـ ﴿ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ الْقُرْآنُ).
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾؛ أي هو الذي رَفَعَ السَّماوات، وأقامَها واقفةً على غير عَمَدٍ تَرونَها أنتم كذلكَ بلا عَمَد، هكذا قال أكثرُ المفسِّرين، وعن ابنِ عباس في روايةٍ (بعَمَدٍ لاَ تَرَوْنَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: بغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ). والأولُ أقربُ إلى الصحَّة؛ لأنه لو كان للسَّماء عِمَادٌ لكُنَّا نرى ذلك العمادَ، لأن مثلَ السماوات في ثُقلِها وارتفاعها وعِظَمها لا يُقِلُّها عمادٌ إلاّ وقد يكون ذلك العمادُ جَسيماً عظيماً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾؛ تقديرُه: اللهُ الذي رفعَ السماوات بغيرِ عَمَدٍ، ثم سخَّرَ الشمسَ والقمرَ وهو مستوٍ على العرشِ، لأنَّ استيلاءَ الله على الأشياءِ قدرتهُ عليها، وقدرةُ الله لا تكون مُحدَثَةً. وتسخيرُ الشمسِ والقمر إجراؤُهما لمنافعِ بني آدم، ومعنى السَّخْرِ أن يكون الشيءُ مَقهوراً لا يملكُ لنفسهِ ما يخلِّصُه من القهر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى ﴾؛ إلى وقتٍ معلوم وهو وقتُ فَنَاءِ الدُّنيا، فإذا انْفَنَتُ الدُّنيا كَوِّرَتِ الشمسُ وانكَدَرت النجومُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾؛ أي يقضِي القضاءَ، ويبعثُ الملائكةَ بالوحي، ويُنْزِلُ الرزقَ والأقضيةَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ ﴾ أي يأتِي بآيةٍ في إثْرِ آيةٍ ليكون أمكنَ للاعتبار والفكر. وقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾؛ أي لِتَسْتَيْقِنُوا بالبعثِ وبما وعَدَكم الله به من الثواب والعقاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ ﴾؛ بسَطَها طُولاً وعَرضاً.
﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ ﴾؛ أي خَلَقَ فيها جِبَالاً ثوابتَ أوتَاداً لها، ولو أرادَ أن يُمسِكَها من غير رواسي لفعلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنْهَاراً ﴾؛ أي وأجرَى فيها أنْهَاراً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾؛ أي وخلَقَ من جميعِ الثمرات من كلِّ شيء لَونَين اثنين، وجعلَ فيها الحلوَ والحامضَ، والأسود والأبيضَ. وقولهُ تعالى: ﴿ يُغْشِى ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ ﴾؛ أي يأتِي بالليلِ ليَذْهَبَ بضياءِ النهار، فتسكُنَ الناسُ بالليل، ويأتِي بضياء النهار ليمحَوَ ظلامَ الليل فتصرفَ الناسُ فيه معايشَهم.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ في صُنعِ الله، فيستدِلُّون بذلك على توحيدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾؛ منها الجبلُ الصَّلبُ، ومنها الأرضُ الْجُرُزُ التي لا يمكن النباتُ عليها إلا بالمشقَّة، ومنها الأرضُ النَّحِسَةُ، ومنها الأرض الطيِّبة، وهذه الأراضِي في ذلك متجاوراتٌ ملتزِقَةٌ.
﴿ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ ﴾؛ أي وبساتين من كُرُومٍ.
﴿ وَزَرْعٌ ﴾؛ ويجوزُ في القراءةِ (وَجَنَّاتٍ) على معنى: وجعلَ فيها جناتٍ، ومَن قرأ (وَزَرْعٌ) بالضمِّ فهو عطفٌ على القِطَعِ لأن الزرعَ لا يكون في الجنَّات، وقرأ العامَّة (وَزَرْعٍ ونَخِيلٍ) بالكسر على المجاورة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾؛ أي مجتمعٌ أصولُها في أصلٍ واحد، ونخيلٌ متفرِّق أصولُها، والصِّنْوَانُ جمعُ الصِّنْوِ، ويعني الصِّنوانُ أن يكون أصلٌ واحد تخرجُ منه النَّخلتان والثلاث والأربعِ كما وردَ في الحديثِ:" عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾؛ إما المطرُ وإما النهرُ.
﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ ﴾، بعض أكُلِها أفضلُ من بعضٍ في الطَّعم حتى يكون بعضُها حُلواً، وبعضها حامضاً، وبعضها مُرّاً، والترابُ واحدٌ، وألوانُ الثمر وطعمُها مختلفة، وذلك من الدليلِ على وحدانيَّة اللهِ عَزَّ وَجلَّ؛ لأنه الْمُحْدِثُ لها، واللهُ تعالى قَديرٌ حكيم قد أحدَثَها على علمٍ منه بها. وقال مجاهدُ: (هَذا مِثْلُ بَنِي آدَمَ، أصْلُهُمْ تُرَابٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ مِنْهُم صَالِحٌ وَخَبيثٌ، وَكَامِلُ الْخِلْقَةِ وَنَاقِصُ الْخِلْقَةِ، وَسَيِّءُ الْخُلُقِ).
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ ﴾؛ أي لعلاماتٍ دالاَّتٍ على وحدانيَّة الله؛ ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾؛ إنَّ في ذلك من اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾؛ معناهُ وإنْ تعجَبْ يا مُحَمَّدُ من تكذيب أهلِ مكة وإشرَاكِهم بالله مع ما تقدَّمَ من الدلائلِ على توحيد اللهِ قولُهم عجبٌ عند العقلاءِ العارفين حيث قالوا: إذا كُنَّا تراباً أنُبْعَثُ وتُرَدُّ فينا الروحُ بعدَ الموتِ والبلاء؟! وإنما سُمي قولُهم ﴿ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ﴾ أعجبَ؛ لأن البعثَ أسهلُ في القدرةِ مما بيَّن اللهُ لَهم؛ إذِ البعثُ إعادةٌ إلى ما كانَ، والإعادةُ أسهل في طِبَاعِ الآدميِّين من الإنشاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ ﴾؛ أي تَغُلُّ أيْمَانَهم إلى أعناقِهم السلاسِلُ في النار، ويكون يسارُهم وراءَ ظهُورِهم وهم مُصْفَدُونَ من قُرونِهم الى أقدامِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ ﴾؛ أي يستعجِلُونكَ بالعذاب الذي توعِدُهم به على وجهِ التكذيب والاستهزاءِ قبلَ الثواب الذي تعِدُهم على الإيمان، يعني مُشركي مكَّة سأَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتِيَهم العذابُ استهزاءً منهم بذلك، فقالوا:﴿ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾[الأنفال: ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ ﴾؛ العقوباتُ من الله في الأمَمِ الماضية، والْمَثُلَةُ العقوبةُ في اللغة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ﴾؛ أي لذُو تَجاوُزٍ على الناس على ظُلمِهم لأنفسهم، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ لِمَن استحقَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾؛ أي ويقولُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ: هَلاَّ نُزِّلَ عليه آيةٌ من ربه لنُبوَّتهِ، يعنون الآياتِ التي كانوا يقترحونَها عليه نحو ما ذكرَ اللهُ تعالى من قولِهم:﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠].
الى آخرِ الآيات. يقولُ الله تعالى: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾؛ أي أنتَ يا مُحَمَّد مُعَلِّمٌ بموضعِ الْمَخَافَةِ، وليس إنزالُ الآيات إليكَ، وإنما هو إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾؛ مَن جعل هذه الواوَ للجمعِ فوصَلها بما قبلها كان تقدير الكلام: إنما أنتَ منذرٌ وهادٍ لكلِّ قومٍ. ومَن قطعَ هذه الواوَ كان المعنى: لكلِّ قومٍ هادٍ؛ أي نَبِيٌّ مثلُكَ يهديهم. وقال سعيدُ بن جبير والضحَّاك: (الْهَادِي هُوَ اللهُ)، والمعنى: أنتَ منذرٌ تُنْذِرُ، واللهُ هادي كلَّ قومٍ، يهدِي من يشاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ ﴾؛ يعني من عَلَقَةٍ أو مُضْغَةٍ أو ذكرٍ أو أُنثى أو كاملِ الْخَلْقِ أو ناقصِ الخلق أو واحدٍ أو اثنين أو أكثرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾؛ أي وما تنقصُ من الأشهُرِ التسعةِ في الحمل وما تزدادُ عليهما، فإن الولدَ قد يولدُ في ستَّة أشهر فيعيشُ، ويولدَ لسنتَين فيعيشُ، وقال الحسنُ: (وَمَا تَنْقُصُ بالسَّقْطِ، وَمَا تَزْدَادُ بالتَّمَامِ). والغَيْضُ هو النُّقصان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾؛ أي بحَدٍّ لا يجاوزهُ ولا ينقص منه، ويدخلُ الولد فيه لأنه قد قَدَّرَ أجلَ حياتهِ وموتهِ، وصحَّته ومرَضهِ، ونقصان عقلهِ وكماله، وقَدَّرَ له ما جرَى من رزقٍ وما سيكونُ منه من طاعةٍ ومعصية وولدٍ وغير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ ﴾؛ أي عالِمُ ما غابَ عن العبادِ، وما عَلِمَهُ العبادُ. وَقِيْلَ: الغيبُ ما يكون، والشَّهادة ما كان. الكبيرُ: السيد الكامل المالِكُ المقتدرُ على كلِّ شيء، الْمُتَعَالِ عمَّا يقول المشرِكون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾؛ أي سواءٌ من أخفَى القولَ وكَتَمَهُ، ومن جهرَ به وأظهرَهُ، فالسِّرُّ والجهرُ عند الله سواءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ ﴾؛ أي ومن هو مُسْتَتِرٌ مُتوارٍ بالليلِ.
﴿ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ ﴾ أي ظاهرٌ في الطُّرقات، عِلْمُ الله فيهم سواءٌ. قال الزجاجُ: (مَعْنَى الآيَةِ: الْجَاهِرُ بنُطْقِهِ، وَالْمُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ، وَالظَّاهِرُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْمُسْتَخْفِي فِي الظُّلُمَاتِ، عِلْمُ اللهِ فِيْهِمْ جَمِيعاً سَوَاءٌ). ومعنى السَّارب: الظاهرُ بالنهار في سِرْبهِ؛ أي في طَريقهِ وتصرُّفه في حوائجهِ، وعن قُطرب في: (مُسْتَخْفٍ باللَّيْلِ: أيْ ظَاهِرٍ، وَسَارِبٌ بالنَّهَارِ: أيْ مُسْتَتِرٌ) يقالُ: سَرَبَ الوحشُ إذا دخل في كِنَاسِهِ، والأولُ أبْيَنُ وأبلغُ في وصفِ عالِمِ الغيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾؛ أي للإنسان مُسَاوياتٌ، والكنايةُ في قولهِ تعالى (له) رُدَّ على من أسَرَّ القولَ ومَن جَهَرَ به وهم الآدميُّون. وقال بعضُهم: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أي للهِ تعالى ملائكةٌ يتعاقَبُون بالليلِ والنهار، فإذا صعَدت ملائكةُ الليلِ أعقَبَتها ملائكةُ النَّهارِ، وإذا صعَدت ملائكةُ النهار أعقبَتها ملائكةُ الليلِ. وقولهُ تعالى: ﴿ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ يعنِي من قُدَّامِ هذا المستخفِي بالليل والسَّارب بالنهار، ومِنْ خَلْفِهِ؛ أي وراءِ ظهره ملائكةٌ يحفظونَهُ من بين يديهِ ومِن خلفهِ، فإذا جاءَ القَدَرُ خَلَّوا عنه. واختلَفُوا في الْمُعَقِّبَاتِ، قال بعضُهم: الْكِرِامُ الْكَاتِبُونَ؛ وهم أربعةً: ملَكان بالليلِ وملَكان بالنَّهار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي بأمرِ الله حتى ينهوا به إلى المقاديرِ، فيُخَلُّوا بينه وبين المقاديرِ، قال كعبُ الأحبار: (لَوْلاَ أنَّ اللهَ وَكَّلَ بكُمْ مَلاَئِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبكُمْ وَعوْرَاتِكُمْ لَخَطَفَتْكُمُ الْجِنُّ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾؛ أي لا يسلبُ قوماً نعمةً حتى يعمَلُوا المعاصِي، يعني بهذا أهلَ مكَّة، بعثَ فيهم رسولاً منهم، وأطعَمَهم من جوعٍ، وآمَنَهم من خوفٍ، فلم يعرِفُوا هذه النعمةَ وغيَّرُوها وجعلُوها لأهلِ المدينة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾؛ أي إذا أرادَ اللهُ إنزالَ عذابٍ على قومٍ فلا دافعَ له.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾؛ يتوَلاَّهم وينصرُهم، ويقال: من مَلْجَأ يلجَؤُون إليه، والْمَوْئِلُ هو الْمَلْجَأُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾؛ أي خَوْفاً للمسافرِ أن يُؤذيهِ ويُبلَّ ثيابَهُ وطريقه فلا يمكنه السيرُ، وطمَعاً للمقيمِ أن يسقي حرثَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ ﴾؛ أي يخلقُ السحابَ الثِّقال بالمطرِ فيُجرِيَهُ في الجوِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾؛ رُوي أن الرَّعْدَ اسمُ ملَكٍ يزجرُ السحابَ يؤلفُ بعضه إلى بعضٍ، وتسبيحهُ زَجْرُهُ للسحاب، قال عكرمةُ: (هُوَ كَالْحَادِي لِلإبلِ). وعن ابن عبَّاس قال:" أقْبَلَتِ الْيَهُودُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: يَا أبَا الْقَاسِمِ نَسْأَلُكَ عَنْ أشْيَاء، فَإنْ أصَبْتَ فِيْهَا اتَّبَعْنَاكَ وَآمَنَّا بكَ، قَالَ: " اسْأَلُوا " قَالُواْ: أخْبرْنَا عَنِ الرَّعْدِ، قَالَ: " مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُوَكَّلٌ بالسَّحَاب، مَعَهُ مَخَاريقَ يَسُوقُ بهَا السَّحَابَ حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ " قَالُواْ: صَدَقْتَ، فَمَا الَّذِي يُسْمَعُ؟ قَالَ: " زَجْرُ السَّحَاب إذا زَجَرَهُ الْمَلَكُ " قَالُواْ: صَدَقْتَ ". وقال عطيَّةُ: (الرَّعْدُ مَلَكٌ وَهَذا تَسْبيحُهُ، وَالْبَرْقُ سَوْطُهُ الَّذِي يَزْجُرُ بهِ السَّحَابَ، يُقَالُ لِذلِكَ الْمَلَكِ: رَعْدٌ، وَلِصَوْتِهِ: رَعْدٌ). وقالَ أبُو هريرةَ:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: " سُبْحَانَ مَنْ يُسَبحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ " "، وكان ابنُ عبَّاس إذا سَمِعَ الرعدَ قالَ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ). قال ابنُ عبَّاس: (مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَإنْ أصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ)." وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كَانَ إذا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بَغَضَبكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بعَذابكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذلِكَ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾؛ يعني ويُسَبحُ الملائكةُ من خِيْفَةِ اللهِ وخِشيَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي يرسلُ النِّيرانَ التي تسقطُ من الغيُومِ فيحرِقُ ما تقع عليه نيران البرقِ، فيُهلِكُ بها من يشاءُ من خلقهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ ﴾؛ أي الكفارُ يخاصِمون في اللهِ وفي إثبات شريكٍ معه.
﴿ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ ﴾ أي شديدُ القوَّة والعقوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ ﴾؛ أي له كلمةُ الإخلاصِ، شهادةُ أن لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي آلِهَتُهم.
﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ﴾ ما يستجيب ﴿ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ ﴾ يدعوهُ لعطشهِ مُشِيراً مُريداً بإشارتهِ أن.
﴿ لِيَبْلُغَ ﴾ الماءُ.
﴿ فَاهُ وَمَا هُوَ ﴾ أي وليس الماءُ.
﴿ بِبَالِغِهِ ﴾ ومن الْمُحَالِ أن يُجيبه بإشارتهِ، وإنْ كان الماءُ في بئرٍ، أو ماءٍ على بُعْدٍ نهرِ أبعدُ في الإحالة، وكما لا يبلغُ الماءُ فَمَ هذا الرجلِ ولا يجيبهُ وإن ماتَ من العطشِ، كذلك لا ينفعُ الصَّنم لِمَن عبدَهُ بوجهٍ من الوجوهِ، قال عطاءُ: (مَعْنَاهُ كَالرَّجُلِ الْعَطْشَانِ الْجَالِسِ عَلَى شَفِيرِ الْبئْرِ، يَمُدُّ يَدَهُ فِي الْبئْرِ فَلاَ يَبْلُغُ الْمَاءَ وَلاَ الْمَاءُ يَرْتَفِعُ إلَى يَدِهِ).
﴿ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ عن الصواب وذهابٍ عن الحقِّ؛ لأن الأصنامَ لا تسمعُ ولا تقدر على الإجابةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ ﴾؛ أي وللهِ يسجدُ ويُصَلِّي ويعبدُ مَن في السَّماوات والأرضِ والملائكة، ومَن دخلَ الإسلامَ طَوْعاً يسجدُ له طائعاً، والْمُكْرَهُ هو الذي قُوتِلَ وسُبيَ وأُجبرَ على الإسلامِ، ويقالُ: أرادَ بقوله (طَوْعاً) أهلَ الإخلاصِ، و(كَرْهاً) أهلَ النفاقِ، قوله ﴿ وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ ﴾ يعني إذا سجدَ الإنسانُ سَجَدَ معه ظِلُّهُ، قال الحسنُ: (أمَّا ظِلُّ الْكَافِرِ فَيَسْجُدُ للهِ، وَأمَّا هُوَ فَلاَ يَسْجُدُ، فَبئْسَ وَاللهِ مَا يَصْنَعُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة: مَن ربُّ السماوات والأرض؟ فَإن أجابُوكَ وقالوا: هو اللهُ، وإلاّ فقُلِ: اللهُ ربُّهما، و ﴿ قُلْ ﴾؛ لَهم: ﴿ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ أي أربَاباً.
﴿ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾؛ فكيف يَملِكون لكم النفعَ والضر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾؛ أي قُل لَهم: هل يستوي أعمَى القلب الذي يعدلُ عن عبادةِ الخالق؟ هل يستَوِي مع البصير بقلبه، العالِم بأنه تعالى إلَهُهُ ووليُّهُ والقادرُ على نفعهِ ودفعِ الضُّرِّ عنهُ.
﴿ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ ﴾؛ فيه تشبيهُ الكفرِ بالظُّلمات، وتشبيهُ الإيمانِ بالنُّور. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾؛ معناه: أجَعَلَ الكفارُ لله شُركاءَ، خلَقَت شركاؤُهم شيئاً كما خَلَقَ اللهُ.
﴿ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ فلم يعرفُوا خلقَ الشركاء من خلقِ اللهِ فأشرَكُوها معه في العبادةِ؛ ﴿ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ بلا شريكٍ، فإذا لم يكن الخلقُ إلا من واحدٍ لم يكن الخالقُ إلا واحداً، فهو الذي يستحقُّ العبادةَ بلا شريكٍ.
﴿ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾؛ الغالبُ لكلِّ شيء، لا يقهَرهُ أحدٌ. ثم ضربَ اللهُ مثلاً للحق والباطل، وقال تعالى: ﴿ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾؛ أنزلَ مطراً فسَالَتْ أودِيةٌ من ذلك المطرِ بقدرِ الأودية، فما كان منها كبيراً سالَ بقدرهِ، وما كان صَغيراً سالَ بقَدرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ﴾ أي عَالياً مُرتفعاً على الماءِ، والسَّيلُ ما يسيلُ من الموضعِ المرتفع. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ ﴾؛ أي ومما تطرَحون في النارِ من الذهب والفضَّة لطلب حِلْيَةٍ تلبَسونَها زَبَدٌ؛ أي خَبَثٌ مثلُ زبَدِ الماءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ﴾؛ أرادَ به الحديدَ والرصاص وما يشاكِلهُ مما يوقَدُ عليه في النار؛ لاتِّخاذ المتاعِ له زَبَدٌ؛ أي خَبَثٌ مثل ذلك الماءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ ﴾؛ أي هكذا يضربُ الله مَثَلَ الحقِّ والباطل.
﴿ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ﴾؛ أما زبَدُ هذه الأشياء، فيذهبُ ناحيةً لا ينتفعُ به، فإن زبدَ الماء يتعلَّقُ بأصولِ الأشجار وجَنَباتِ الوادي. والْجُفَاءُ: ما رَمَى به الوادِي، وجُفَاهُ في جَنَبَاتِهِ، يقال: أجْفَأَتِ القِدْرُ زبَدَها إذا قذفَتْ به، وكما أنَّ زَبَدَ الماءِ يذهبُ بحيث لا ينتَفعُ به، كذلك خبَثُ الذهب والفضة والحديد.
﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾.
قَوْلُهُ تعَالَى: ﴿ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ ﴾؛ للناسِ في أمر دِينهم، كما ضربَ لكم المثلَ، قال قتادةُ: (هُنَّ ثَلاَثَةُ أمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ، يَقُولُ: كَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَسَالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِهَا، الصَّغِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَالْكَبيرُ عَلَى مِقْدَارِهِ، كَذلِكَ أنْزَلَ اللهُ الْقُرْآنَ، فَاحْتَمَلَ الْقُلُوبَ عَلَى قَدَرِهَا، ذا الْيَقِينِ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِ، وَذا الشَّكِّ عَلَى قَدْرِ شَكِّهِ). قَالَ: (ثُمَّ شَبَّهَ خَطَرَاتِ وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ بالزَّبَدِ يَعْلُو عَلَى الْمَاءِ، وَذلِكَ مِنْ خَبَثِ الْبَرِّيَّةِ لاَ عَيْن الْمَاءِ، كَذَلِكَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ وَهْمٍ وَشَكٍّ فَهُوَ ذاتُ النَّفْسِ لاَ مِنَ الْحَقِّ). قَالَ: (ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الزَّبَدَ يَذْهَبُ جُفَاءً؛ أيْ هَبَاءً بَاطِلاً وَيَبْقَى صَفْوُ الْمَاءِ، كَذلِكَ يَبْطُلُ الشَّكُّ وَسُوءُ الخَطَرَاتِ وَيَبْقَى الْجَوفُ كَمَا هُوَ، وَكَذَلِكَ مَا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّار لِمَنَافِعِ النَّاسِ يَبْطُلُ زَبَدُهُ وَخَبَثُهُ وَيَبْقَى خَالِصُهُ وَصَفْوُهُ، كَذلِكَ الْبَاطِلُ يَذْهَبُ وَيَبْقَى الْحَقُّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ فيه بيانُ الذي يبقَى مما تقدَّم ذِكرهُ فهو مثلٌ لِمَن يستجيبُ لرَبهِ، والذي يذهبُ جُفاءً هو مَثَلٌ لِمَنْ لا يستجيبُ. والمرادُ بـ (الْحُسْنَى) في الآيةِ الْجَنَّةَ ونَعيمها. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾؛ أي الذين لم يستجِيبُوا لربهم إلى الإيمان.
﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾؛ من الذهب وسائر الأموالِ.
﴿ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ﴾؛ وضِعفُهُ معه.
﴿ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ﴾؛ لفَادَوا به أنفُسَهم من عذاب الله يومَ القيامةِ لو قُبلَ منهم ذلك ولكن لا يُقْبَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ ﴾؛ أي شدَّتهُ، والمناقشةُ فيه، قال إبراهيمُ النخعي: (هُوَ أنْ يُؤَخَذُوا بذُنُوبِهِمْ كُلِّهَا مِنْ دُونِ أنْ يُغْفَرَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ أي مَصيرُهم في الآخرةِ جهنَّمُ.
﴿ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾؛ أي المأْوَى، يتقلَّبون في النار ويقعُدون ويضطَجِعون عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ﴾؛ معناه: أفمَن يعلمُ إنما أُنزل إليك مِن القرآن أنه الحقُّ فآمَنَ به، كمَن هو كافرٌ يعلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾؛ أي ذوُو العقولِ.
ثم وصَفَهم فقالَ: ﴿ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ ﴾ يريدُ بالعهدِ الذين عاهَدتُم عليه في صُلب آدمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾؛ قِيْلَ: المرادُ به مواصلَةُ المؤمنين فيما بينهم بالموالاَةِ وصِلَةِ الرَّحِم بالبرِّ والشَّفقة، وَقِيْلَ: أرادَ بذلك الإيمانَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وجميعِ الرسُل.
﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾؛ أي عقابَ ربهم.
﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾؛ أي يخافون أن يؤاخَذُوا بالعقاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾؛ معطوفٌ على قولهِ﴿ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾[الرعد: ٢٠] ومعناهُ: الذين صَبَروا على أداءِ الفرائض واجتناب المحارم ومُقَاسَاةِ شدائدِ الدُّنيا لطلب ثواب الله ورضاهُ.
﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾؛ المفروضةَ.
﴿ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾؛ أي أخرَجُوا من أموالهم جميعاً الصَّدقاتِ المفروضات خِفْيَةً وجهراً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ ﴾، وإنما يكون دَرْؤُهم بالحسنةِ السيئةَ على وجهين، أحدُهما: العِلْمُ والوعظُ بالكلام الحسَنِ، والثاني: أن يقاتِلُوهم ويقبضُوا على أيديهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة لهم الدارُ التي أعقَبَتها لهم أعمالُهم وهي الجنَّة. ثم بيَّن اللهُ صفةَ الجنة فقال: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَهِيَ وَسَطُ الْجَنَّةِ، وَهِيَ مَعْدِنُ الأَنْبيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحينَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾؛ أي ويدخُلها مَن صَلُحَ من آبائهم وأزواجِهم وذُرِّياتِهم.
﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ يعني من أبواب البساتين يقولون لَهم: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ على شدائدِ الدُّنيا، وعلى المشقَّة في طاعةِ الله، فنِعْمَ الدارُ التي أعقَبَتها لهم أعمالهم، قال ابنُ عبَّاس: (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّةٌ مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ لَهَا ألْفُ بَابٍ مِصْرَاعُهُ مِنَ الذهَبِ، يَدْخُلُ عَليَْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ مَلَكٌ يَقُولُونَ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بمَا صَبَرْتُمْ.
﴿ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾؛ أي الذين يترُكون فرائضَ الله من بعدِ تأكيد العهدِ عليهم.
﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ بالظُّلم والدعاءِ إلى غير عبادة الله.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ ﴾؛ أي ما يُبعِدُهم من رحمةِ الله.
﴿ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ ﴾؛ وهو النارُ في الآخرةِ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" أعْجَلُ الْخَيْرِ ثَوَاباً صِلَةُ الرَّحِمِ، وَأعْجَلُ الشَّرِّ عِقَاباً الْبَغْيُ وَاليَمِينُ الغَمُوسٌ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾؛ أي يوسِّعُ الرزقَ في الدُّنيا على مَن يشاءُ، ويضيِّقُ على مَن يشاءُ.
﴿ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ يعني مُشركي مكَّة أشِرُوا وبَطِرُوا.
﴿ وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ﴾؛ جنب نعيمِ.
﴿ ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ﴾؛ شيءٌ قليل.
﴿ مَتَاعٌ ﴾؛ كمتاع يتمتَّعُ به ثم يفنَى ويذهبُ، قال صلى الله عليه وسلم:" وَمَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ كَمِثْلِ مَا جَعَلَ أحَدُكُمْ إصْبعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِعْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي يقولون على جِهة التَّعَنُّتِ: ﴿ لَوْلاَ ﴾؛ هَلاَّ.
﴿ أُنزِلَ عَلَيْهِ ﴾؛ على مُحَمَّدٍ.
﴿ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾؛ يعني الآياتِ التي يَقترِحونَها عليه.
﴿ قُلْ ﴾ يا مُحَمَّدُ: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ﴾ عن ثوابهِ وكرامته.
﴿ وَيَهْدِيۤ ﴾، لدِينه مَن أقبَلَ.
﴿ إِلَيْهِ ﴾؛ إلى اللهِ و.
﴿ مَنْ أَنَابَ ﴾؛ رجَعَ عن الكفر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ معناهُ: الذين آمَنوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ، تسكنُ قلوبُهم إلى ما وعدَهم اللهُ به من ثوابٍ.
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ ﴾؛ بوَعدِ الله.
﴿ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ ﴾؛ أي لهم العيشُ الطيِّبُ والكرامةُ والغِبطَةُ.
﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾؛ حُسْنُ المرجعِ، وقال مجاهدُ: (طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بلُغَةِ الْحَبَشَةِ)، وعن أبي هريرة: (اسْمُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ سَاقُهَا مِنْ ذهَبٍ، وَوَرَقُهَا الْحُلَلُ، وَثَمَرُهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ وَأغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَيْسَ مَنْزِلٌ إلاَّ وَفِيْهِ غُصْنٌ مِنْ أغْصَانِهَا، وَتَحْتَهُ كُثْبَانُ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفرَانِ، لَوْ رَكِبَ رَجُلٌ قُلُوصاً، ثُمَّ دَارَ بالشَّجَرَةِ لَمْ يَبْلُغِ الْمَكَانَ الَّذِي ارْتَحَلَ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ الْقُلُوصُ هَرَماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ ﴾؛ أي هكذا أرسَلناك إلى أُمَّة قد مَضَتْ من قبلِها أُمَمٌ أرسَلنا فيهم الرُّسل.
﴿ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾؛ يعني القرآنَ.
﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾؛ يعني أهلَ مكَّة فإنَّهم كانوا يقولون ما نعرفُ الرحمنَ إلا مُسَيْلَمَةَ، وكانوا يُسمُّونَهُ رحمانَ اليمامة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾؛ قل لَهم: الرَّحْمَنُ رَبي لا إلهَ إلا هو.
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾؛ أي وإليه أتوبُ من ذنُوبي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾؛ وذلكَ أنَّ عبدَالله بن أُمية المخزومي، وجماعةٌ من كفَّار مكة قالوا: يا مُحَمَّدُ سَيِّرْ لنا جبالَ مكَّة، فأَذهِبْها حتى تنفسحَ فيها فإن أرضَنا ضيِّقة، ثم اجعَلْ لنا فيها عُيوناً وأنْهَاراً، وقرِّبْ أسفَارَنا فيما بيننا وبين الشَّام فإن السفرَ بعيدٌ، وافعَلْ كما فعلَ سُليمان بالرياحِ بزَعمِكَ، فأَنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعناها: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ﴾ أُذهِبَتْ به الجبالُ عن وجهِ الأرض قُطِّعت به الأرضُ مسيرةَ شهرٍ في يومٍ أو أُحيي به الموتَى فتكلَّموا، لكان هذا القرآنُ لِمَا فيه من الدَّلالاتِ الكثيرةِ على صحَّة هذا الدِّين، ولو أمكن أن نجعلَ هذه الأمُورَ لشيءٍ من كُتب الله لأمكنَ بهذا القرآنِ. وأما حذفُ جواب (لَوْ) في هذهِ الآية فهي على وجهِ الاختصار؛ لأنَّ في الكلامِ دليلاً عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً ﴾؛ أي بلِ اللهُ هو المالِكُ لهذه الأشياءِ، القادرُ عليها، ولكن لا يختار إلا ما فيه مصلحةُ العبادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾؛ معناهُ: أفلَمْ يعلمِ الذين آمَنوا.
﴿ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً ﴾؛ إلى الإيمان بالإلجاءِ إليه أن اللهَ تعالى قادرٌ على ذلك، ولكن لو فَعَلَ لبَطَلَ الامتحانُ والتكليف، والإياسُ بمعنى العلمِ في لُغة النخَعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾؛ أي ولا يزالُ الذين كفَروا في عقوباتٍ مِن قِبَلِ اللهِ يزجرُهم عن الكفرِ، ويحثُّهم على التمسُّك بدين اللهِ، كما نَزَلَ بقريش من القَحطِ، وبقوم فرعونَ من الشدائدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ﴾؛ راجعٌ إلى القَارعةِ، والقَارعَةُ: هي النَّازلَةُ والشدائدُ التي تنْزِلُ بأمرٍ عظيم، ويقالُ: أراد بالقارعةِ سَرَايا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبقوله ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً ﴾ معناه: أو تَنْزِلُ أنتَ يا مُحَمَّدُ مع أصحابكَ قريباً من مكَّة تقاتِلُهم على الدِّين.
﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وقتُ إهلاكِ الكفَّار، وَقِيْلَ: فتحُ مكَّة، وَقْيَلَ: ما وعدَ اللهُ من عذابهم في الآخرة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾؛ ما وعدَ من عقاب الكفار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾؛ أي ولقدِ استُهزئَ بالأنبياءِ من قبلِكَ كما استهزَأ بكَ قومُكَ.
﴿ فَأَمْلَيْتُ ﴾ فأمهَلتُ.
﴿ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بعد استهزائِهم بالرُّسل.
﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ بذُنوبهم.
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ فانظُرْ كيف كان عاقبةُ ما حلَّ من عقاب الله بهم، فلا يكن في صدرِكَ حرجٌ من استهزائِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾؛ بالتدبيرِ ويعلمُ ما كسَبَت ويجازيها عليه، كمَن لا يعلمُ ذلك ولا يقدرُ على المجازاةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾؛ في العبادةِ بين الأصنام.
﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾؛ هؤلاء الشُّركاء بأسمائهم التي تستحقُّها، وسَمُّوا منفعتَها وتدبيرَها؛ لأن لها شركةً مع اللهِ، كما يوصَفُ الله بالخالقِ والرازق والمحيي والمميت. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي أتُخبرونَ اللهَ بما لا يصحُّ أن يكون مَعلوماً وهو كون الأصنامِ مستحقَّةً للعبادةِ، وهذا على وجه الإنكارِ، وقَولهُ تَعَالَى: ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ ﴾؛ إنكارٌ أيضاً معناهُ: أسَمَّيتم الأصنامَ آلهة بظاهرِ كتابٍ من كتُب الله، وَقِيْلَ: أسَمَّيتمُوهم آلهةً بحجَّةٍ ظاهرةٍ، بل سَمَّيتموهم بقولٍ باطل ليس لكم دليلٌ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾؛ أي زُيِّنَ لهم قولُهم وفعلُهم في عبادةِ غيرِ الله، وتكذيب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ من قرأ بفتحِ الصَّاد فالمعنى صَرَفوا الناسَ عن دينِ الله، وَمن قرأ برفعها فالمعنى صَدَّهم رؤساؤُهم عن دينِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ الأسقامُ والقتل والأسرُ.
﴿ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ ﴾؛ أي أغلَظُ من عذاب الدُّنيا.
﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ ﴾؛ يَقِيهِم من عذاب الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾؛ أي صفةُ الجنة التي وُعِدَ المتَّقون الكفرَ والمعاصي: أنَّها تجرِي من تحتها الأنْهارُ، ثَمرُها دائمٌ، لا كجِنَانِ الدُّنيا تظهرُ بظهور ورَقِها في حالٍ دون حال، وظِلُّها أيضاً دائمٌ ليس فيه شمسٌ ولا أذَىً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾؛ أي دارُ المتَّقين الجنةُ في العاقبةِ.
﴿ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ ﴾، ودارُ الكافرين في العاقبةِ النارُ، وفي الحديثِ:" أنَّ الرَّجُلَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ تُقْسَمُ لَهُ شَهْوَةُ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا، فَإذا أكَلَ سُقِيَ شَراباً طَهُوراً، فَتَصِيرُ رَشَحاً تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ أطْيَبَ مِنْ ريحِ الْمِسْكِ، ثُمَّ تَعُودُ شَهْوَتُهُ إلَى مَا كَانَتْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾؛ وذلك أن عبدَاللهِ بن سلام، ومَن أسلمَ معه من أهلِ الكتاب، قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا شَأْنُ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فِي الْقُرْآنِ قَلِيلٌ وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ كَثِيرٌ؟ فَنَزَلَ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ ﴾[الاسراء: ١١٠] ونزل ﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ مِن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾؛ أي ومِن اليهود والنصارَى من ينكرُ بعضَ " ما في " القرآن، وإنَّهم كانوا يُقِرُّونَ بصحَّة " قصة " يوسف وغيرِها مما لا يكون فيه نسخُ شريعَتِهم، وكانوا يُنكِرُونَ مِن القرآن ما لا يوافقُ مذهَبَهم ودينَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾؛ الخلائق ﴿ وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾؛ رجُوعِي في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ﴾؛ أي كما أنزلنا على الأنبياء المتقدمين بلسانهم كذلك أنزلنا اليك القرآن حُكماً عربياً، والْحُكَمْ: هو الفصل بين الشيئين على ما توجبه الحكمة، وقد يكون الحكم بمعنى الحكمة، كما في قوله تعالى﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً ﴾[مريم: ١٢] أي الحكم والنبوة. قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ﴾؛ أي دين اليهود وقبلتهم ﴿ بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾؛ أي دين الله دين ابراهيم وقبلته الكعبة ﴿ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾؛ أي من ناصر ينصرك.
﴿ وَلاَ وَاقٍ ﴾؛ أي لا دافع يدفع العقاب عنك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَيِّرُونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بتَزَوُّجِ النِّسَاءِ حَتَّى قَالُواْ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبيَّنَا لَشَغَلَتْهُ النُّبُوَّةُ عَنْ تَزْويجِ النِّسَاءِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). والمعنى: ولقد أرسَلنا رسُلاً من قبلِكَ، وجعلنا لهم نِسَاءً أكثرَ من نسائِكَ، وأولاداً أكثرَ من أولادك، كان لداودَ عليه السلام مائة امرأةٍ، ولسُليمان ثلاثمائة امرأةٍ مهرية وستُّمائة سريَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي هل يملِكُ أحدٌ من الرُّسل أن يأتي بآيةٍ إلا بإذنِ الله، فإنه سبحانَهُ هو المالكُ للآياتِ لا يقدرُ أن يأتي أحدٌ شيئاً منها إلا بإذنهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾؛ أي لكلِّ مدَّةٍ من آجَال العباد في الحياةِ والفَناءِ كتابٌ قد كتبَ اللهُ ذلك للملائكةِ؛ ليدُلَّهم به على علمهِ بالأَشياء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾؛ قال ابنُ عباس: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا كَتَبُوهُ مِنْ أعْمَالِ الْعِبَادِ مَا لاَ جَزَاءَ لَهُ، وَيَتْرُكُ مَا لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ). وقال الضحَّاكُ: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبتُ مَا يَشَاءُ فَلاَ يَنْسَخُهُ)، وعن الحسنِ: (يَمْحُو أجَلَ مَنْ حَانَ أجَلُهُ، وَيَدَعُ أجَلَ مَنْ لَمْ يَحِنْ أجَلُهُ مَيِّتاً). وَقِيْلَ: يَمحُو الله ما يشاءُ من الطاعاتِ بإحباطِها بالمعاصي، ومن المعاصِي بتكفيرها بالطاعاتِ. وقدِ اختلَفُوا: هل يدخلُ في الْمَحوِ والإثباتِ السعادةُ والشقاوة، والموتُ الحياة أم لا؟ قال ابنُ عبَّاس: (لاَ يَدْخُلُ)، وقال عمرِو بن مسعود: (تَدْخُلُ فِيْهِ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ)، وكان من دُعاء عمرَ: (اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبتْنَا، وَإنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أشْقِيَاءَ فَامْحُنَا وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، فَإنَّكَ تَمْحُو وَتُثْبتُ مَا تَشَاءُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَاب)قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ أي أصلُ الكتاب، قِيْلَ: إنه اللوحُ المحفوظ كَتَبَ اللهُ فيه كلَّ شيء قبلَ أن يخلُقَ العبادَ، ولا يُزَادُ فيه شيءٌ ولا ينقص منه شيء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾؛ أي فإما نُرِيَنَّكَ يا مُحَمَّدُ بعض الذي نَعِدُهم من نصرِ المؤمنين على الكفَّار، أو نَقبضُكَ إلينا قبلَ أن يكون ما نَعِدُهم من العذاب في حياتك.
﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ﴾؛ أي بلاغُ ما أُنزِلَ إليك.
﴿ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ ﴾؛ وعلينا حسابُ ما يعمَلون، والجزاءُ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ أوَلَمْ يَرَ أهْلُ مَكَّةَ أنَّا نَنْقُصُ الأَرْضَ مِنْ أطْرَافِهَا بفَتْحِ دِيَارهِمْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ)، وقال الحسنُ: (أرَادَ بنَقْصِ أطْرَافِ الأَرْضِ ذهَابِ فُقَهَائِهَا وَخِيَارَ أهْلِهَا). قال: (وَمَثَلُ الْعُلَمَاءِ مَثَلُ النُّجُومِ إذا بَدَتْ اقْتَدَوْا بهَا، وإذا أظْلَمَتْ سَكَنوا، وَمَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الإسْلاَمِ، لاَ يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾؛ أي واللهُ يحكمُ بفَتْحِ البُلدانِ لا يتعقَّبُ أحدٌ حُكمَهُ بالردِّ.
{ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ)؛ إذا حاسبَ محاسبةً سريعُ الحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي قد مَكَرَ الذين من قبل هؤلاء الكفارِ بأنبيائهم صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وبِمَنْ آمَن به.
﴿ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً ﴾؛ وعندَ اللهِ جزاءُ مكرِهم جميعاً، فإنَّ ما يفعلهُ الله من إيصالِ المكروه يثبتُ، ومكرهم يضمحلُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾؛ من خيرٍ أو شرٍّ فيُجازِيها عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ ﴾؛ تَهديدٌ لهم أنَّهم إذا جَهِلوا اليومَ عاقبةَ أمرِهم فسيعلمون إذا صاروا إلى الآخرةِ.
﴿ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ ﴾؛ المحمودةِ، لهم أمْ للمؤمنين؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾؛ أي ويقولُ الذين كفَرُوا من اليهود وغيرِهم: يا مُحْمَّدُ لستَ مُرسَلاً من اللهِ، ومَن يشهدُ لكَ على رسَالَتِكَ.
﴿ قُلْ ﴾؛ لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾؛ على أنِّي مرسَلٌ إليكم، شهادةُ الله على أنَّنِي نَبيُّهُ من المعجزاتِ لا شاهدَ أعدلَ من ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ كان ابنُ عباس يقرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ) بالنصب ويقولُ: (هُوَ عَبْدُاللهِ بَنُ سَلاَمٍ وَأصْحَابُهُ، كَانَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتُهُ) وكان يقولُ: (هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بالْمَدِينَةِ؛ لأَنَّ هَؤُلاَءِ أسْلَمُواْ بالْمَدِينَةِ). وكان ابنُ مسعودٍ يقرأ (وَمِنْ عِنْدِهِ) بالخفضِ على معنى أنَّ القرآنَ مِن عندِ الله، وكان يقولُ: (هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدُاللهِ بَنُ سَلاَمٍ أسْلَمَ بالْمَدِينَةِ وقُرئ (وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتَابُ) بخفض (مِن) وضمِّ العين وكسرِ اللام من علم، هكذا رُوي عن سعيدِ ابن جُبير.