تفسير سورة الرعد

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ اسم الموصول مبتدأ و ﴿ أُنزِلَ ﴾ صلته و ﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ متعلق به أو حال، وقوله: ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ خبر كما قال المفسر، والمعنى أن القرآن الذي أنزل عليك من ربك، هو الحق الذي لا شك فيه. قوله: (أي أهل مكة) هذا تفسير للناس باعتبار النزول، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأكثر الناس لا يؤمنون في كل زمان. قوله: ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا يصدقون بذلك، والمعنى لا تعتبرهم، فإنهم لا يعول عليهم. قوله: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ﴾ إلخ هذا شروع في ذكر الأدلة على وجوب وجوده تعالى، واتصافه بالكمالات، وبدأ بأدلة من العالم العلوي، وأعقبها بأدلة من العالم السفلي قوله:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ ﴾[الرعد: ٣] إلخ. قوله: (جمع عماد) أي على غير قياس، وقياسه أن يجمع على عمد بضمتين، وقد قرىء به شاذاً، وقيل جمع عمود. قوله: (وهو الإسطوانة) ويقال له سارية. قوله: (وهو صادق بأن لا عمد أصلاً) أي وهو المراد، فالنفي منصب على المقيد بقيده، أي لم تروها لعدم وجودها، وقيل إن لها عمداً على جبل قاف، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة، فالنفي منصب على القيد دون المقيد، وعلى ذلك فجملة ترونها صفة لعمد، والضمير عائد عليها، وقيل إن ترونها حال من السموات، والتقدير رفع السموات حال كونها مرئية لكم بغير عمد، وقيل إنها جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وعلى هذين القولين، فالضمير عائد على السموات. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾ ثم لمجرد العطف لا للترتيب، إذ لا ترتيب بين رفع السموات والاستواء على العرش، والاستواء في الأصل الركوب والتمكن، وذلك مستحيل عليه تعالى، لاستلزامه الجسمية أو الجهة، والمراد به هنا القهر والغلبة والاستيلاء، لأن من شأن من ركب على شيء، أن يكون قاهراً غالباً له، ومن ذلك قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق   من غير سيف ودم مهراقوهذه طريقة الخلف، وما مشى عليه المفسر طريقة السلف، وكل من الطريقتين صحيح. قوله: ﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾ أي لنفع العالم بهما. قوله: (يوم القيامة) أي وحينئذ فيلقيان في النار بعد ذهاب نورهما، ليعذب بهما عبادهما، وما درج عليه المفسر، من أن المراد بالأجل المسمى هو يوم القيامة، أحد تفسيرين، والآخر أن المراد به الوقت المعين لقطع الفلك، فإن الشمس تقطعه في سنة واحدة، والقمر في شهر لا يختلف جري واحد منهما، قال تعالى:﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ﴾[يس: ٣٨] إلخ، وكل صحيح. قوله: ﴿ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ﴾ أي أمر العالم العلوي والسفلي، وذلك بالإحياء والإماتة والإعزاز والإذلال، وغير ذلك من أنواع التصرفات. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ أي لأن من قدر على ذلك كله، فهو قادر على إحياء الإنسان بعد موته.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ ﴾ شروع في ذكر أدلة من العالم السفلي. قوله: (بسط) ﴿ ٱلأَرْضَ ﴾ أي طولاً وعرضاً ليرتاح الحيوان عليها. قوله: (ثوابت) أي لتمسكها عن الاضطراب بأهلها، وفي الحديث:" أول بقعة وضعت من الأرض موضع البيت، ثم مدت منها الأرض، وأول جبل وضعه الله على وجه الأرض أبو قبيس، ثم مدت منه الجبال ". قوله: ﴿ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ متعلق بجعل، ومفعولها الثاني محذوف تقديره لكم. قوله: ﴿ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾ بيان لأقل مراتب العدد، وإلا فقد يكون أكثر من نوعين كما هو بالمشاهدة، والمراد بالثمر ما يشمل الحب، وتعداد الأصناف المذكورة، إما باعتبار الألوان كالبياض والسواد، والطعوم كالحلاوة والملوحة والحموضة والمزوزة، أو القدر كالكبر والصغر، أو الكيفية كالحرارة والبرودة والنعومة والخشونة وغير ذلك. قوله: (يغطي) ﴿ ٱلَّيلَ ﴾ (بظلمته) ﴿ ٱلنَّهَارَ ﴾ أي ويزيل ظلمة الليل بضياء النهار، فيعدم كلاً بوجود الآخر، ففي الآية اكتفاء. قوله: ﴿ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي يتأملون، فيستدلون بتلك الصنعة على وجود صانعها، ويعرفون لها صانعاً حكيماً قادراً متصفاً بالكمالات، وخص المتفكرون بالذكر، لأنهم هم الذين يحصل لهم الاعتبار والإيمان.
قوله: (طيب) أي ينبت، وقوله: (وسبخ) أي لا ينبت شيئاً. قوله: (وهو) أي هذا الاختلاف. قوله: (بالرفع) أي له وللثلاثة بعده، وقوله: (والجر) أي كذلك، فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وهي النخلات) أي الصنوان. قوله: (بالتاء) أي وحينئذ فيقرأ نفضل بالنون والياء، وقوله: (والياء) أي وحينئذ فيقرأ نفضل بالنون لا غير، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية، خلافاً لما يوهمه المفسر من أنها أربع. قوله: ﴿ فِي ٱلأُكُلِ ﴾ أي وغيره، كاللون والرائحة والقدر والحلاوة والحموضة وغير ذلك، وهذا كمثل بني آدم، منهم الصالح الهين اللين، والخبيث الغليظ الطبع، خلقوا من آدم، وفضل الله من شاء على من شاء، ولذا قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها، فصارت قطعاً متجاورات، وأنزل على وجهها ماء السماء، فتخرج هذه زهرتها وثمرتها، وتخرج هذه نباتها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكل يسقى بماء، كذلك الناس من خلقوا من آدم، فينزل الله عليهم من السماء تذكرة، فترق قلوب وتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع. قوله: (بضم الكاف وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان بمضى مأكول. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ خصوا بالذكر، لأنهم الذين ينتفعون بالتفكير والاعتبار.
قوله: ﴿ وَإِن تَعْجَبْ ﴾ بإدغام الباء في الفاء وبتحقيقها قراءتان سبعيتان، والعجب استعظام أمر خفي سببه. قوله: (من تكذيب الكفار لك) أي مع كونك كنت مشهوراً بينهم بالأمانة والصدق، فلما جئت بالرسالة كذبوك. قوله: ﴿ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾ لا بد هنا من صفة محذوفة لتتم الفائدة، والتقدير فعجب عظيم أو أي عجب، وعجب خبر مقدم، وقولهم مبتدأ مؤخر. قوله: (منكرين للبعث) حال من الضمير في ﴿ قَوْلُهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً ﴾ هذه الجملة في محل نصب مقول القول وهو أحسن ما يقال. قوله: (لأن القادر) إلخ، تعليل لقوله: ﴿ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾.
قوله: (وما تقدم) أي من رفع السماوات بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر، وغير ذلك من الأمور المتقدمة. قوله: (قادر على إعادتهم) أي لأنه إذا تعلقت قدرته بشيء كان، فلا فرق بين الابتداء والإعادة، وأما قوله تعالى:﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ ﴾[الروم: ٣٧]، فذلك باعتبار عادة المخلوقات، أن القادر على الابتداء، تسهل عليه الإعادة بالأولى، وإلا فالكل في قدرته تعالى سواء. قوله: (وفي الهمزتين في الموضعين) إلخ، من هنا إلى قوله: (وتركها) أربع قراءات. قوله: (وفي قراءة بالاستفهام في الأول) إلخ، وفي ذلك ثلاث قراءات، تحقيق الهمزتين من غير إدخال ألف بينهما، وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، مع إدخال ألف بينهما وبدونها، وقوله: (وأخرى عكسه) قراءتان التحقيق مع الألف ودونها، ولا يجوز تسهيل الثانية، فتكون القراءات تسعاً وكلها سبعية، واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً، وهو في أحد عشر موضعاً، في تسع سور من القرآن، فأولها في هذه السورة. والثاني والثالث في الإسراء بلفظ واحد﴿ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾[الإسراء: ٧٩].
والرابع في المؤمنون:﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾[المؤمنون: ٨٢].
والخامس في النمل﴿ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴾[النمل: ٦٧].
والسادس في العنكبوت﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ ﴾[العنكبوت: ٢٨-٢٩].
والسابع في الم السجدة:﴿ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾[السجدة: ١٠].
والثامن والتاسع في الصافات﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾[الصافات: ١٦].
﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾[الصافات: ٥٣].
والعاشر في الواقعة:﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾[الواقعة: ٤٧].
والحادي عشر في النازعات:﴿ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً ﴾[النازعات: ١٠-١١].
والوجه في الاستفهام في الموضعين، أن الأول للإنكار، والثاني تأكيد، والوجه في كونه في موضع واحد، حصول الإنكار به، وإحدى الجملتين مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداهما، حصل الإنكار في الأخرى. قوله: ﴿ ٱلأَغْلاَلُ ﴾ جمع غل، وهو طوق من حديد يجعل في أعناقهم. قوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾ أي لا محيص لهم عنها، فهم ملازمون لها، كالصاحب الملازم لصاحبه. قوله: (ونزل في استعجالهم العذاب) أي وذلك أن مشركي مكة، كانوا يطلبون تعجيل العذاب استهزاء حيث يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. قوله: ﴿ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ ﴾ أي وهو تأخير العذاب عنهم. قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ﴾ الجملة حالية. قوله: (جمع المثلة) بفتح الميم وضم المثلثة، أي وهي النقمة تنزل بالشخص، فجعل مثلاً يرتدع به غيره، قوله: (بوزن السمرة) أي وهو شجرة الطلح أي الموز. قوله: ﴿ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ المراد بها ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها حالاً، بل يؤخر الأخذ بها، فإن تاب الشخص ورجع، دام ذلك الستر عليه، وإلا أخذه أخذ عزيز مقتدر. قوله: ﴿ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ﴾ الجملة حالية، أي والحال أنهم ظالمون لأنفسهم بالمعاصي. قوله: (لمن عصاه) أي ودام على ذلك، فرحمة الله في الدنيا غلبت غضبه لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وأما في الآخرة فقد انفردت رحمته للمؤمنين خاصة. قوله: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ ﴾ أي تعنتاً. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن لولا للتحضيض. قوله: (كالعصا واليد) أي وغير ذلك مما اقترحوا، قال تعالى حكاية عنهم:﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠].
الآية. قوله: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي اليك، لأنهم معاندون كفار، ليس قصدهم بذلك الإيمان، بل التعنت في الكفر. قوله: ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ الجملة مستأنفة، وهاد بإثبات الياء وحذفها في الوقت، وبحذفها في الوصل لا غير، ثلاث قراءات سبعية، وأما في الرسم فهي محذوفة. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ ﴾ أي لأنه الخالق المصور، فلا تخفى عليه خافية، ويعلم عرفانية متعدية لواحد، وما اسم موصول مفعوله والعائد محذوف. قوله: (وغير ذلك) أي من أوصاف الحمل، من كونه أبيض أو أسود، قصيراً أو طويلاً، سعيداً أو شقياً، قوياً أو ضعيفاً. قوله: (تنقص) ﴿ ٱلأَرْحَامُ ﴾ (من مدة الحمل) أي المعتادة وهي تسعة أشهر، فهو يعلم الحمل الناقص عن تلك المدة، وقوله: ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ أي وما تزيد، فهو يعلم الناقص عن تلك المدة والزائد عليها، لا يخفى عليه شيء من أوقات الحمل ولا من أحواله، وقيل النقصان السقط، والزيادة زيادتها على تسعة أشهر، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد يولد لهذه المدة ويعيش. قوله: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ هذا أعم مما قبله، فالشيء يشمل الحمل وغيره، من أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، فقد دبر سبحانه وتعالى العالم بأسره على طبق، ما تعلقت به قدرته وإرادته، ولا يعجزه شيء، ولا يشغله شأن عن شأن قال تعالى:﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[لقمان: ٢٨] فينبغي للإنسان أن لا يدبر لنفسه شيئاً، ولا يشتغل بشيء تكفل به غيره، بل يعتمد على من يدبر الأمور، ويفوض له أحواله، ويترك الأوهام التي حجبت القلوب عن مطالعة الغيوب. قوله: (بقدر وحدّ لا يتجاوزه) أي لا يتخلف شيء عن الحد الذي قدره الله له، من سعادة وشقاوة ورزق وغير ذلك.
قوله: (ما غاب وما شاهد) أي ما غاب عنا وما شوهد لنا، وإلا فكل شيء بالنسبة له مشاهد، فلا فرق بين ما في أعلى السماوات وما في تخوم الأرضين. قوله: ﴿ ٱلْكَبِيرُ ﴾ الذي يصغر كل شيء عنده ذكره، وليس المراد به كبر الجثة، إذ هو مستحيل عليه تعالى، فالمراد الكبير المتصف بكل كمال أزلاً وأبداً. قوله: ﴿ ٱلْمُتَعَالِ ﴾ أي المنزه عن كل نقص. قوله: (بياء ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان في الوصل والوقف، وأما في الرسم فالياء محذوفة لا غير. قوله: ﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ ﴾ إلخ.
﴿ سَوَآءٌ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ مبتدأ مؤخر، ولم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر، وهو لا يثنى ولا يجمع، و ﴿ مِّنْكُمْ ﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿ سَوَآءٌ ﴾ لأنه بمعنى مستو. قوله: (في علمه تعالى) أي فهو يعلم الجميع على حد سواء، لا يتفاوت من جهر على من أسر. قوله: ﴿ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ ﴾ أي في نفسه فلم يسمعه غيره. قوله: ﴿ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ أي سمعه غيره، والمعنى سواء ما اضمرته القلوب، وما نطقت به الألسنة. قوله: ﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ ﴾ أي وسواء من استخفى في ظلام الليل، ومن هو ظاهر في النهار، لأنه الخالق لليل وظلمته، والنهار ونوره، وما تفعله العبيد فيهما من خير وشر، وهذه الآية من تدبرها وعمل بمقتضاها أورثته الإخلاص في أعماله، فيستوي عنده إسرار العبادة وإظهارها، ليلاً أو نهاراً والمراقبة، لأنه إذا علم أن هذه الأشياء مستوية عنده، ولا يخفى عليه شيء منها، فلا يستطيع أن يقدم على ما نهى عنه، ولا ظاهراً ولا باطناً. قوله: (في سربه) بفتح السين وسكون الراء، يقال سرب في الأرض سروباً ذهب فيه ذهاباً؛ والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر، وليس مراداً هنا، بل المراد الطريق الظاهرة، وهي بفتح السين وسكون الراء.
قوله: (للإنسان) أي مؤمن أو كافر، وهذا من مزيد التكرمة للنوع الإنساني، وإلا فهو الحافظ لكل شيء. قوله: (ملائكة) قيل: خمسة بالليل وخمسة بالنهار، واحد على اليمين يكتب الحسنات، وواحد على الشمال يكتب السيئات، وواحد موكل بناصيته، فإذا تواضع رفعه، وإذا تكبر وضعه، وواحد موكل بعينيه يحفظهما من الأذى، وواحد موكل بفمه يمنع عنه الهوام، والصحيح أنهم عشرة بالليل وعشرة بالنهار، كما في شرح الجوهرة نقلاً عن حديث البخاري، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا من قبل، فيسألهم الله ويقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون، ولا يفارقون الشخص أبداً إلى الممات، فإذا مات فقد فرغ حفظهم له، وهم واحد على يمينه، وآخر على شماله، وآخر أمامه، وآخر آخذ بناصيته، فإن تواضع رفعه، وإن تكبر خفضه، وهؤلاء العشرة غير رقيب وعتيد، كاتبي الحسنات والسيئات على المعتمد، وحكمة إجابة الملائكة بقولهم: تركناهم وهم يصلون، ولم يذكروا الكافر والتارك للصلاة، أن العمل الصالح يرفع لأهل السماء، فيتشرف بنو آدم على العموم، وتنزل عليهم الرحمة، وتكثر أرزاقهم، لأن الرحمة تعم الطائع والعاصي، فأخبار الملائكة بطاعة بني آدم على العموم لاستجلاب الرحمة لهم من عالم الغيب. قوله: ﴿ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ﴾ اختلف المفسرون في من، فقيل بمعنى الباء والمحفوظ منه محذوف، والتقدير يحفظونه بأمر الله من الحوادث، وقيل إن من على حقيقتها، والمحفوظ منه مذكور بقوله: ﴿ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ﴾ أي يحفظونه من الجن والحوادث وغير ذلك، إذا علمت ذلك، فالمفسر قد أفاد القول الأول. قوله: (من الحالة الجميلة) أي وهي الطاعة، والمعنى أنها جرت عادة الله، أنه لا يقطع نعمة عن قوم، إلا إذا بدلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة وبمعنى هذه الآية قوله تعالى:﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[الأنفال: ٥٣].
وقوله عليه الصلاة والسلام:" إذا رأيت قسوة في قلبك، وحرماناً في رزقك، ووهناً في بدنك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك "فالنعم تأتي من الله بلا سبب، وسلبها يكون بسبب المعاصي. قوله: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا ﴾ إذا شرطية وجوابها قوله: ﴿ فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ والعامل فيها محذوف لدلالة الجواب عليه، تقديره لم يرد أو واقع، والمعنى متى سبق في علم الله نزول بلاء بقوم، فلا يقدر على دفعه أحد من الملائكة ولا من غيرهم، إذا علمت ذلك تعلم جهل من يقول: لو كانت الأولياء موجودين، لما نزل علينا بلاء. قوله: ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ أي ناصر يدفعه، قال تعالى:﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ ﴾[النجم: ٢٦] فلا دافع لما قضاه، ولا راد لما قدره.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ ﴾ لما أخبر سبحانه وتعالى بقوله:﴿ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾[الرعد: ١١] رتب عليه قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ ﴾ إلخ، إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى منه الرحمة والعقاب. قوله: ﴿ ٱلْبَرْقَ ﴾ هو لمعان يظهر من خلال السحاب، وقيل لمعان المطراق الذي يزجر به السحاب. قوله: ﴿ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ منصوبان على الحال من الكاف في يريكم، وليس مفعولاً لأجله، لعدم اتحاد الفاعل، فإن فاعل الإرادة الله، وفاعل الخوف والطمع العبيد، وبعضهم جعله مفعولاً لأجله، بتأويل يريكم بيجعلكم رائين فتخافون وتطمعون. قوله: (للمسافرين) لا مفهوم له بل المقيمون الذين يضرهم المطر، كمن يجفف الثمار والحبوب، وكذلك قوله: ﴿ وَطَمَعاً ﴾ (للمقيم) إلخ، لا مفهوم له أيضاً، بل المسافر المحتاج للمطر للشرب مثلاً، كذلك فالبرق تارة يكون خيراً، وتارة يكون شراً للمسافرين والمقيمين، فينبغي للإنسان أن يكون دائماً خائفاً راجياً، لأن الله تعالى قد يأتي بالخبر فيما ظاهره شر، ويأتي بالشر فيما ظاهره خير. قوله: ﴿ وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ﴾ هو ثمر شجرة في الجنة، يخلقه الله وينزل فيه الماء من السماء، فالسحاب من الجنة، وماؤه من الجنة، تهب الريح من تحت ساق العرش، فتخرج الحامل والمحمول من الجنة، وهذا مذهب أهل السنة، وقالت المعتزلة: إن السحاب له خراطيم كالإبل، فينزل فيشرب من البحر المالح ويرتفع في الجو، فتنسفه الرياح فيحلو، فينزله الله على من أراد من خلقه. قوله: (هو ملك موكل بالسحاب) إلخ، هذه هو المشهور بين المفسرين، وعليه فما نسمعه هو صوت تسبيح الملك الموكل بالسحاب، فإذا سمعته الملائكة، ضجت معه بالتسبيح، فعندها ينزل المطر، وقيل هو صوت الآلة التي يضرب بها السحاب.
قوله: (أي يقول سبحان الله وبحمده) أي تنزيهاً له عن النقائص، واتصافاً له بالكمالات. قوله: (ملتبساً) أشار بذلك إلى أن الباء للملابسة. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ قيل المراد بهم أعوان ملك السحاب، وقيل المراد جميع الملائكة. قوله: ﴿ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ أي هيبته وجلاله. قوله: (وهي نار) إلخ، وقيل هي الصوت الشديد النازل من الجو، ثم يكون فيه نار. قوله: (تخرج من السحاب) أي فإذا نزلت من السماء، فربما تغوص في البحر فتقتل الحيتان. قوله: (نزل في رجل) أي من طواغيت العرب، وقد اختصرها المفسر، وحاصلها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه نفراً من أصحابه، يدعونه إلى الله تعالى ورسوله، فقال لهم: أخبرونا، من رب محمد الذي يدعوني إليه؟ فهل هو من ذهب أو فضة أم حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم كلامه، فانصرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا أكفر قلباً ولا أجرأ على الله تعالى من هذا الرجل، فقال: ارجعوا إليه فرجعوا، فبينما هم عنده يدعونه وينازعونه، ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس عنده، فرجعوا ليخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فبادرهم وقال لهم: احترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمت؟ قال: قد أوحي إلي ﴿ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ ﴾.
قوله: (بقحف رأسه) بكسر القاف، عظم الرأس الذي فوق الدماغ. قوله: ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ ﴾ بكسر الميم من المماحلة وهي المكايدة، وقيل من المحل وهو القوة والأخذ وهو الأولى، ولذا مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ ﴾ أي شرعها وأمر بها. قوله: (وهي لا إله إلا الله) أي مع عديلتها وهي محمد رسول الله، فهي كلمة الحق جعلت مفتاحاً للإسلام، فلا يقبل من أحد إلا بالإقرار بها. قوله: (بالياء والتاء) أما الياء فمتواترة، وأما التاء فشاذة، وكان المناسب للمفسر التنبيه عليها. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم ﴾ أي لا يجيبونهم. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (استجابة) أشار بذلك إلى أن الكلام على تقديره مصدر مضاف إلى المفعول، والمعنى أن الأصنام التي يعبدها الكفار، لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، فلا تجيب عابديها بشيء أصلاً، وقد ضرب الله مثلاً لعدم إجابتها لهم بقوله: ﴿ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ﴾ إلخ، والمعنى أن من بسط كفيه للماء ليدخل في فيه لا يجيبه الماء، لعدم إشعاره ببسط كفيه وعطشه وعدم قدرته على ذلك، فكذلك من يدعو الأصنام لتدفع عنه كربة أو توليه نعمة، لا تجيبه بشيء لعدم قدرتها على ذلك لنفسها فضلاً عن غيرها. قوله: ﴿ وَمَا هُوَ ﴾ أي الماء. قوله: (عبادتهم الأصنام أو حقيقة) إلخ، هذان قولان في تفسير الدعاء، والأقرب الأول بدليل قوله أولاً ﴿ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴾.
قوله: (ضياع) إنما كان دعاؤهم ضائعاً، لأنه طلب ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأما دعاؤهم لله فليس بضائع، بل يستجيب لهم إن شاء، فإن كان بأمور الدنيا فظاهر، وإن كان بالجنة فيهديهم للإيمان، هذا هو الذي يجب المصير إليه؛ ويؤيده قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾[الأنفال: ٣٣]﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[الأنفال: ٣٣] فإنها في مشركي مكة، وجملة ﴿ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ نتيجة ما قبلها.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ أي وهم الملائكة، ولا يكون إلا طوعاً، وقوله: ﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي من الإنس والجن. وقوله: ﴿ طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ حالان من الفاعل أي طائعين ومكرهين، والكره في المنافقين كما قال المفسر، وأما باقي الكفار فلم يكن منهم سجود، وهذا إن حمل السجود على حقيقته، وهو وضع الجبهة على الأرض بالفعل، وإن أريد من السجود الأمر به، بقيت على عمومها، فيندرج تحتها الإنس والجن والملك، ويصح حمله على معناه المجازي، وهو الخضوع والإنقياد، والمعنى والله خضع وانقاد وذل من في السموات والأرض جميعاً، وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً ﴾[مريم: ٩٣] وعلى هذا فالمراد بمن في السموات والأرض، السماوات والأرض ومن فيهن، وغلب العاقل لشرفه، ولأنه المكلف بالسجود الحقيقي واللغوي، فالعارف بربه، المسلم لأحكامه، ولو غير عاقل، بدليل﴿ قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾[فصلت: ١١]، خضع طوعاً إجلالاً لهيبة الله وجلاله، والجاهل خضع كرهاً، بمعنى جرت المقادير عليه رغماً على أنفه. قوله: ﴿ وَظِلالُهُم ﴾ معطوف على من مسلط عليه يسجد، كما قدره المفسر، ومعنى سجود الظل: سجوده حقيقة تبعاً لصاحبه إن أريد بالسجود حقيقته، وخضوعه وانقياده إن أريد به المعنى المجازي، وسجود الظلال كلها طوعاً، لخلوها عن النفس التي تحمل الإنسان على عدم الرضا، ففي الحقيقة الكاره إنما هو النفس التي حواها الجسم، وأما الجسم والظلم فخضوعهما طوعاً، ولذا قيل: إن الكافر إذا سجد للصنم، سجد ظله لله. قوله: (البكر) جمع بكرة وهي من أول النهار. قوله: ﴿ وَٱلآصَالِ ﴾ جميع أصيل وهو من بعد العصر إلى الغروب، فالمراد جميع الأوقات إن أريد بالسجود الخضوع والإنقياد، وأوقات الصلوات إن أريد بالسجود حقيقته.
قوله: ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ هذا مرتب على ما قبله. قوله: (لا جواب غيره) أي لتعينه عليهم لاعترافهم به، وإنما يتركون هذا الجواب عناداً. قوله: ﴿ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ ﴾ إلخ، المعنى: أبعد إقراركم بأنه رب السموات والأرض واعترافكم به، يليق بكم، أن تتخذوا من دونه من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟ قوله: (تركتم مالكها) أي وهو الله. قوله: (استفهام توبيخ) أي للثاني، وأما الأول فهو للتقرير. قوله: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾ هذا ترق في الرد عليهم. قوله: (الكافر والمؤمن) أي فالمراد بالأعمى أعمى القلب، والبصير بصيره. قوله: (الكفر) أي وعبر بالظلمات جمعاً لتعدد أنواعه، بخلاف الإيمان فهو متحد، فلذا عبر عنه بالنور مفرداً، سمى الكفر ظلمات، لأنه موصل لدار الظلمات وهي النار، وسمى الإيمان بالنور، لأنه موصل لدار النور وهي الجنة. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وبمعنى هذه الآية قوله تعالى:﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾[النور: ٣٥] الآية، وقوله تعالى:﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾[النور: ٤٠].
قوله: ﴿ أَمْ جَعَلُواْ ﴾ أي بل أجعلوا، فأم منقطعة تفسر ببل والهمزة. قوله: ﴿ شُرَكَآءَ ﴾ أي الأصنام. قوله: ﴿ خَلَقُواْ ﴾ أي الأصنام، وقوله: ﴿ كَخَلْقِهِ ﴾ أي الله، والمعنى هل لهذه الأصنام خلق كخلق الله؟ فاشتبه بخلقه فاستحقت العبادة لذلك، وهو إنكار عليهم، أي لم يخلقوا أصلاً، بل ولا يستطيعون دفع ما ينزل بهم، فيكف العاجز يعبد؟ قوله: (أي ليس الأمر كذلك) أي لم يخلقوا كخلق الله حتى يشتبه بخلق الله، بل الكفار يعلمون بالضرورة، أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ولا خلق ولا أثر أصلاً، وإذا كان كذلك، فجعلهم إياها شركاء لله في الألوهية محض جهل وعناد. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾ أي المنفرد بالإيجاد والإعدام، القاهر لعباده، المختار في أفعاله فلا يسأل عمل يفعل. قوله: (ثم ضرب مثلاً) أي بينه، والمراد بالمثل الجنس، لأن المذكور للحق مثلاً وللباطل كذلك. قوله: ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ﴾ أي أنهار جمع واد، وهو الموضع الذي يسيل فيه المال بكثرة، وحينئذ فهو مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه، والأصل فسال الماء في الأودية. قوله: ﴿ بِقَدَرِهَا ﴾ بفتح الدال باتفاق السبعة، وقرىء شذوذاً بسكونها. قوله: (بمقدار ملئها) أي ما يملأ كل واحد بحسبه، صغراً وكبراً. قوله: ﴿ زَبَداً ﴾ الزبد ما يظهر على وجه الماء من الرغوة، أو على وجه القدر عند غليانه، وقد تم المثل الأول. قوله: ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ﴾ الجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ زَبَدٌ ﴾ مثله مبتدأ مؤخر. قوله: (بالتاء والياء) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ فِي ٱلنَّارِ ﴾ متعلق بتوقدون، وقوله: ﴿ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ ﴾ علة لتوقدون. قوله: (كالأواني) أي والمسكوك الذي ينتفع به الناس في معايشهم. قوله: ﴿ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ﴾ أي في كونه يصعد ويعلو على أصله. قوله: (الكير) هو منفاخ الحداد، وأما الكور فهور الموضع الذي توقد فيه النار كالكانون. قوله: (المذكور) أي من الأمور الأربعة التي للحق والباطل. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ ﴾ لف ونشر مشوش. قوله: (مرمياً به) أي يرميه الماء إلى الساحل، ويرميه الكير فلا ينتفع به. قوله: (والحق ثابت) أي ماكث، كما أن الماء والجوهر ثابتان، وإنما يرمى بزبدهما، والمعنى أن مثل الباطل، كمثل الرغوة التي تعلو على وجه الماء، وخبث الجوهر الذي يصعد على وجهه عند نفخ النار عليه، ومثل الحق، كمثل الماء الصافي والجوهر الصافي، كما أن الرغوة في كل لا قرار لها ولا ينتفع بها بل ترمى، كذلك الباطل يضمحل ولا يبقى، والحق ثابت ينتفع به، كالجوهر والماء الصافيين، وفي هذه الآية بشرى للأمة المحمدية، بأنها ثابتة على الحق، لا يضرهم من خالفهم في العقائد، بل وإن علا وارتفع لا بد من اضمحلاله وزواله. قوله: ﴿ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ ﴾ أي لإرشاد عبيده باللطف والرفق، فإن من جملة ما جاء به القرآن الأمثال.
قوله: ﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ ﴾ خبر مقدم، وقوله: ﴿ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ مبتدأ مؤخر. قوله: (الجنة) أي وزيادة بدليل الآية الأخرى﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾[يونس: ٢٦].
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ أخبر عنه بثلاثة أمور: الأول: قوله: ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ﴾.
الثاني قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ ﴾ الخ. الثالث: قوله: ﴿ وَمَأْوَاهُمْ ﴾ إلخ. والمعنى: أن الكفار يتمنون أن لو كان لهم قدر ما في الأرض جميعاً مرتين، ويفتدون به العذاب النازل بهم يوم القيامة. قوله: ﴿ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ ﴾ أي السيىء، فهو من إضافة الصفة للموصوف، والمراد أنهم يناقشون الحساب، ويسألون عن النقير والقطمير، ولذا ورد في الحديث:" من نوقش الحساب هلك ". قوله: ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ أي منزلهم المعد لهم. قوله: ﴿ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ هو ما يمهد أي يفرش، وقدر هي إشارة إلى أن المخصوص بالذم محذوف. قوله: (ونزل في حمزة وأبي جهل) أي بسبب نزول هذه الآيات، مدح حمزة بالصفات الجميلة، والوعد عليها بالخير، وذم أبي جهل بالصفات القبيحة، والوعيد عليها بالشر، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآيات الوعد لحمزة، ومن كان على قدمه وخلقه إلى يوم القيامة، وآيات الوعيد لأبي جهل، ومن كان على قدمه وخلقه إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أيستوي المؤمن والكافر فمن يعلم؟ إلخ. قوله: (لا) أشاربذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (أصحاب العقول) أي السليمة الكاملة. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ ﴾ بدل من من، وحاصل ما ذكره من الصفات لهم ثمانية، أولها قوله: ﴿ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾، وآخرها قوله:﴿ وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ ﴾[الرعد: ٢٢].
قوله: (المأخوذ عليهم وهم في عالم الذر) أي بالتوحيد وهو قول الله لهم﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾[الأعراف: ١٧٢].
قوله: (أو كل عهد) أي كل ميثاق أخذ عليهم، كان للخالق أو للمخلوق، ولو كان كافراً فيجب الوفاء بالعهد، ولا تجوز الخيانة، ولما كانت الأوصاف الآتية لازمة للموفي بالعهد، قدم عليها وجعل ما بعهد تفصيلاً له، وحينئذ فالمراد بالوفاء بالعهد، امتثال المأمورات على حساب الطاقة واجتناب المنهيات. قوله: ﴿ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ ﴾ تأكيد لما قبله ولازم له، لأن الوفي بالعهد غير ناقض للميثاق، فالعهد هو الميثاق، وقيل الميثاق هو التزام المخلوق بالوفاء لأمر الخالق، والعهد هو أمر الله. قوله: (بترك الإيمان) راجع للأول، وقوله: (أو الفرائض) راجع للثاني في تفسير العهد. قوله: (من الإيمان) بيان لما، والمعنى أنهم يأتون بالإيمان بشروطه وأركانه وآدابه.
قوله: (والرحم) أي القرابة، لما في الحديث:" يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "وقال عليه الصلاة والسلام" الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله "وصلة الرحم تكون ببذل المعروف والإنفاق بحسب الاستطاعة. قوله: (وغير ذلك) أي كالتوادد للناس، وعيادة المريض، وغير ذلك، لما في الحديث:" التوادد مع الناس نصف العقل "، وفي الحديث:" وخالق الناس بخلق حسن، والتوادد بإعطاء من حرمك، ووصل من قطعك، والعفو عمن ظلمك "قوله: ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي يهابونه إجلالاً وتعظيماً، فلا يخشون غيره، ولا يلتفتون لما سواه. قوله: ﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ أي يخافون الحساب السيىء المؤدي لدخول النار. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ ﴾ إلخ، أشار المفسر إلى أن مراتب الصبر ثلاثة: أعلاها الصبر عن المعصية، وهو عدم فعلها رأساً. ويليها الصبر على الطاعات، أي دوام فعلها على حسب الطاقة. ويليها الصبر على البلاء. وأعلى الجميع الصبر عن الشهوات، لأنه مرتبة الأولياء والصديقين. قوله: ﴿ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ أي طلباً لمرضاته. قوله: (لا غيره من أعراض الدنيا) أي كالصبر ليقال: ما أكمل صبره وأشد قوته، أو لئلا يعاب على الجزع، أو لئلا تشمت به الأعداء، وغير ذلك من الأمور التي تكون لغير وجه الله، وفضل الصبر لوجه الله عظيم جداً. قال تعالى:﴿ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ ﴾[البقرة: ١٥٥] الآية، وورد" إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فتقول: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قال: نعم، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله، وصبرناهما على البلايا والمحن في الدنيا، فتقول لهم الملائكة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار ". قوله: ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي فرضاً أو نفلاً، بالإتين بها بشروطها وأركانها وآدابها. قوله: ﴿ وَأَنْفَقُواْ ﴾ (في الطاعة) أي انفاقاً واجباً كالزكاة والنفقات الواجبة، أو مندوباً كالتطوعات. قوله: ﴿ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ أي لم يعلم به أحد أم علم، فالمدار على الإخلاص في النفقة، سر بها أو أعلن. قوله: (كالجهل بالحلم) أي فيدفع السفه والتعدي بالحلم وعدم المؤاخذة. قوله: (والأذى بالصبر) أي فلا يكافئون الشر بالشر بل يدفعون الشر بالخير والصبر. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ لَهُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر المبتدأ الأول، وهي مستأنفة لبيان جزاء من ذكر. قوله: (أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة) أشار بذلك إلى أن النعت محذوف، والإضافة على معنى في، فالعقبى المحمودة في الجنة.
قوله: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ قدر المفسر (هي) إشارة إلى أن ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والمراد بجنات عدن، الجنة بجميع دورها، لا خصوص الدار المسماة بذلك. قوله: (هم) ﴿ وَمَنْ ﴾ إلخ، قدر الضمير للإيضاح، وإلا فالفضل حاصل بالضمير المنصوب. قوله: ﴿ مِنْ آبَائِهِمْ ﴾ أي أصولهم وإن علواً ذكوراً وإناثاً. قوله: ﴿ وَأَزْوَاجِهِمْ ﴾ أي اللاتي متن في عصمتهم. قوله: ﴿ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي فروعهم وإن سفلوا. قوله: (وإن لم يعملوا) أي الآباء والأزواج والذريات. قوله: (تكرمة لهم) أي لأن الله جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة، لم تكن في ذلك كرامة للمطيع، إذ كل من كان صالحاً في عمله، فله الدرجات العلية استقلالاً. قوله: (أو القصور) جمع قصر، وهو كما ورد خيمة من درة مجوفة، طولها فرسخ وعرضها فرسخ، لها ألف باب، مصارعها من ذهب، يدخلون عليهم من كل باب بالتحف والهدايا، يقولون: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾.
قوله: (أول دخولهم للتهنئة) هذا التفسير لم يره لغير، بل في كلام غيره ما يدل على خلاف ذلك، قال مقاتل: إن الملائكة يدخلون في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات، معهم الهدايا والتحف من الله تعالى، يقولون: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾.
قوله: (يقولون) قدره إشارة إلى أن قوله تعالى: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ في محل نصب مقول لقول محذوف. قوله: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ أي سلمكم الله من آفات الدنيا، فهو دعاء لهم وتحية. قوله: ﴿ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمحذوف، قدره المفسر بقوله: (هذا الثواب) إلخ. قوله: (بصبركم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية، تسبك مع ما بعدها بمصدر. قوله: ﴿ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾ المراد بالدار قيل الدنيا، وقيل الآخرة. قوله: (عقباكم) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالمدح محذوف. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ جرت عادة الله في كتابه أنه إذا ذكر أوصاف أهل السعادة، أتبعه بذكر أوصاف أهل الشقاوة، وهذه أوصاف أبي جهل ومن حذا حذوه إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ أي من بعد الاعتراف والقبول. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي من هذه صفاته. قوله: (وهي جهنم) تفسير للعاقبة السيئة.
قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ ﴾ إلخ، هذا جواب عن شبهة الكفار حيث قالوا: لو كان الله غضبان علينا كما زعمتم أيها المؤمنون، لما بسط لنا الأرزاق ونعمنا في الدنيا، فرد الله عليهم شبهتهم بذلك، والمعنى أن بسط الرزق في الدنيا ليس تابعاً للإيمان، بل ذلك بتقدير الله في الأزل لمن يشاء، فقط يبسط الرزق للكافر استدراجاً. ويضيقه على المؤمن امتحاناً. قوله: (يوسعه) ﴿ لِمَنْ يَشَآءُ ﴾ أي مؤمن أو كافر. وقوله: (يضيقه لمن يشاء) أي مؤمن أو كافر. قوله: ﴿ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ هذا بيان لقبح أحوالهم فهو مستأنف. قوله: (فرح بطر) أي لا فرح سرور وشكر لنعم الله. قوله: ﴿ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ أي منسوبة للآخرة، والمعنى وما الحياة الدنيا منسوبة في جنب الحياة الآخرة إلا متاع. قوله: (يتمتع به ويذهب) أي فلا بقاء لها، قال تعالى:﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾[آل عمران: ١٩٦-١٩٧].
قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن لولا تحضيضية. قوله: ﴿ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ أي غير ما جاء به من نبع الماء وتسبيح الحصى وغير ذلك. قوله: (فلا تغني الآيات عنه شيئاً) أي فمجيئها لا يفيدهم شيئاً، إذ ما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر، فما قالوه في حق ما جاء به من كونه سحراً أو كهانة، يقولونه في حق ما لم يأت به على فرض إتيانه به، قال تعالى:﴿ وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾[يونس: ١٠١].
قوله: ﴿ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ ﴾ أي يوصله لمرضاته ولما يحبه. قوله: (ويبدل من من) أي بدل كل، ويصح جعله مبتدأ خبره الموصول الثاني، وما بينهما اعتراض. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالتصديق الباطني الناشىء عن إذعان وقبول. قوله: ﴿ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ ﴾ هذه علامة المؤمن الكامل، والطمأنينة بذكر الله، هي ثقة القلب بالله، والاشتغال به عمن سواه، ثم اعلم أن هذه الآية تفيد أن ذكر الله تطمئن به القلوب، وآية الأنفال تفيد أن ذكر الله يحصل به الوجل والخوف، فمقتضى ذلك أنه بين الآيتين تناف، وأجيب: بأن الطمأنينة هنا معناها السكون إلى الله والوثوق به، فينشأ عن ذلك، عدم خوف غيره، وعدم الرجاء في غيره، فلا ينافي حصول الخوف من الله والوجل منه، وهذا معنى آية الأنفال، وحينئذ فصار الغير عندها هباء منثوراً ليس معداً لدفع ضر، ولا لجلب نفع، وبمعنى الآيتين قوله تعالى:﴿ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾[الزمر: ٢٣] فتحصل أن المؤمن الكامل، هو المطمئن بالله الواثق به، الخائف من هيبته وجلاله، فلا يشاهد غيره، لا في جلب نفع ولا دفع ضر، لأن الله هو المالك المتصرف في الأمور، خيرها وشرها، فحيث شاهد المؤمن وحدانية الله في الوجود، أعرض عما سواه واكتفى به، فلا يعرج على غيره أصلاً، وهذا أتم مما ذكره المفسر، حيث دفع الشافي بأن معنى الطمأنينة، سكون القلب بذكر الوعد، والبشارات والوجل بذكر الوعيد والنذارات. قوله: ﴿ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي الكاملة في الإيمان.
قوله: ﴿ طُوبَىٰ ﴾ أصله طيبى، وقعت الياء ساكنة بعد ضمة، قلبت واواً، والمعنى عيشة طيبة لهم، وقد فسرت في آية أخرى بقوله تعالى:﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾[الحاقة: ٢١-٢٣].
قوله: (أو شجرة في الجنة) أي وأصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل دار وغرفة في الجنة، منها غصن لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منها إلا السواد، ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان: الكافور والسلسبيل، كل ورقة منها تظل أمة، ثياب أهل الجنة تخرج منها أكمامها، فتنبت الحلل والحلي، ويخرج منها الخيل المسرجة الملجمة، والإبل برحالها وأزمتها، وما ذكره المفسر في تفسير طوبى قولان من أقوال كثيرة، وقيل إنه دعاء من الله لهم، والتقدير طيب عيشكم، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ أي ولهم حسن مرجع ومنقلب في الآخرة وهي الجنة. قوله: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي فلا تحزن على عدم إيمان قومك، فإننا أرسلنا الأنبياء إلى قومهم فكفروا ولم يطيعوا، فليس من كذبك بأول مكذب. قوله: ﴿ فِيۤ أُمَّةٍ ﴾ أي إلى أمة. قوله: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ ﴾ أي سبقت ومضت. قوله: ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ الجملة حالية. قوله: (لما أمروا بالسجود له) أي كما ذكره في سورة الفرقان بقوله تعالى:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾[الفرقان: ٦٠] وهذا القول منهم على سبيل العناد، ويسمى عند أرباب المعاني تجاهل العارف، فإن الرحمن هو المنعم على عباده، وهم يشاهدون نعمه عليهم، ومع ذلك قالوا: (وما الرحمن) وهذا كقول فرعون﴿ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء: ٢٣].
قوله: ﴿ هُوَ رَبِّي ﴾ أي الرحمن الذي أنكرتموه هو خالقي. قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فوضت أموري إليه. قوله: ﴿ مَتَابِ ﴾ أي توبتي ومرجعي.
قوله: (ونزل لما قالوا) أي كفار مكة منهم: أبو جهل وعبد الله بن أمية، جلسوا خلف الكعبة، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، وقيل: إنه مر بهم وهم جلوس، فدعاهم إلى الله، فقال عبد الله بن أمية: إن سرك أن نتبعك، فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تفسح، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها أنهاراً وعيوناً، لنغرس الأشجار ونزرع ونتخذ البساتين، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود، حيث سخر له الجبال تسير معه، أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا، كما سخرت لسليمان الريح كما زعمت، فلست أهون على ربك سليمان، وأحي لنا جدك قصياً، فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه؛ فنزلت هذه الآية. قوله: ﴿ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ ﴾ أي من خشية الله عند قراءته، فجعلت أنهاراً وعيوناً، قوله: (لما آمنوا) جواب لو، والمعنى لو فعل الله ما ذكر وأجابهم، لم يحصل منهم إيمان، لأن الله على علم عدم هداهم. قوله: ﴿ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً ﴾ أي القدرة على كل شيء، وهو إضراب عما تضمنته الجملة الشرطية من معنى النفي، والمعنى بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه، إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنهم لا يؤمنون. قوله: (وإن أوتوا ما اقترحوه) أي اعطوا ما طلبوه. قوله: (لما أراد الصحابة) إلخ، أي فقالوا: يا رسول الله إنك مجاب الدعوة، فاطلب لهم ما اقترحوا، عسى أن يؤمنوا. قوله: (يعلم) يطلق اليأس على العلم في لغة هوازن ونخع لتضمنه معناه، فإن الآيس من الشيء عالم بأنه لا يكون. قوله: ﴿ أَن ﴾ (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن، وجملة ﴿ لَّوْ يَشَآءُ ﴾ إلخ، خبر أن. قوله: ﴿ لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً ﴾ أي ولكن لم يفعل ذلك لعدم تعلق مشيئته باهتدائهم. إن قلت: لم لم يجب الله نبيه بعين ما طلبوا، كما أجاب صالحاً في الناقة، وعيسى في المائدة، مع علمه بأنهم لا يؤمنون؟ أجيب: بأنه جرت عادة الله في عباده الكفار، أنهم متى طلبوا شيئاً من المعجزات، وعاهدوا نبيهم على الإيمان عند مجيئها ولم يؤمنوا، أنه يهلكهم ويقطع دابرهم عن آخرهم، وقد أراد الله إبقاء هذه الأمة المحمدية، وعدم استئصالها بالهلاك، إكراماً لنبيها، فلم تحصل الإجابة بعين ما طلبوا رحمة بهم وإكراماً لنبيهم. قوله: ﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ إخبار من الله لنبيه بالنصر المرتب على صبره، وقوله: (تصيبهم) خبر يزال. قوله: (بصنعهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية تسبك ما بعدها بمصدر، والباء سببية أي بسبب صنعهم. قوله: ﴿ قَارِعَةٌ ﴾ التنوين للتنكير، إشارة إلى أنها ليست مخصوصة بشيء معين، بل هي عامة في كل ما يهلكهم. قوله: (تقرعهم) أي تهلكهم. قوله: ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً ﴾ معطوف على قارعة، والمعنى تصيبهم بما صنعوا قارعة، أو حلولك قريباً من دارهم، والعطف يقتضي المغايرة فالمراد بالقارعة غير حلوله، وإن كان من أعظم القوارع، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، والمعنى اصبر فإنك منصور ومؤيد، وهم مخذولون، فإن الدواهي مسلطة عليهم. قوله: ﴿ قَرِيباً ﴾ أي مكاناً قريباً وهو الحديبية. قوله: (بالنصر عليهم) أي بفتح مكة. قوله: (وقد حل بالحديبية) أي مرتين: الأولى سنة ست حين أراد العمرة وبعث عثمان، وقد صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن البيت، فصالح الكفار النبي على ان يمكنوه من الدخول في السنة السابعة، فدخلها واعتمر، والثانية سنة ثمان، حين أراد فتح مكة، فإنه حل بها هو وجيشه، وأمرهم أن يتفرقوا ويوقد كل شخص ناراً على حدة إرهاباً للعدو، ففي صبيحتها حصل الفتح العظيم ودخلوا مكة.
قوله: ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هذا تنزل من الله سبحانه وتعالى، حيث عامل عباده معاملة ملك عدل في رعيته، حيث أمرهم بطاعته المرة بعد المرة وأغدق عليهم النعم، وكلما عصوه سترهم وأمدهم بالعطايا، فلما تكرر منهم العصيان وعدم الخوف أخذهم بالعقاب، فهل هذا ظلم منه أو عدل؟ وجواب الاستفهام أنه عدل لو كان صادراً من سلطان في رعيته، فكيف من الخالق الذي يستحيل عليه الظلم عقلاً؟ قوله: (فكذلك أفعل بمن استهزأ بك) أي لا على العموم إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعميتم وسويتم بين الله وبين خلقه فمن هو قائم إلخ، والمعنى أفمن كان حافظاً للنفوس ورازقها وعالماً بها، كمن ليس بقائم، بل هو عاجز عن القيام بنفسه فضلاً عن غيره؟ قوله: (لا) هذا هو جواب الإستفهام. قوله: (دل على هذا) أي على الجواب المحذوف، وهذا نظير قوله تعالى:﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾[الزمر: ٢٢] أي كمن قسا قلبه، يدل عليه قوله﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾[الزمر: ٢٢]، ونظيره قوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾[النحل: ١٧] ولكنه صرح فيها بالمقابل. قوله: ﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي صفوهم، وانظروا هل بتلك الأوصاف تستحق العبادة؟ قوله: (من هم) أي بينوا حقيقتهم من أي جنس ومن أي نوع. قوله: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ﴾ إلخ، أم منقطعة، فلذا فسرها ببل والهمزة، والمعنى أتخبرون الله بشريك لا يعلمه في الأرض لعدم وجوده، إذ لو وجد لعلمه، وخص بالأرض لكون آلهتهم التي جعلوها شركاء كائنين فيها. قوله: ﴿ أَم بِظَاهِرٍ ﴾ أم هنا للإضراب الإبطالي، ولذا فسرها ببل فقط، والمعنى أن تسميتهم شركاء، ظن باطل فاسد لا يعتبر، وإنما هو اسم من غير مسمى. قوله: ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ إضراب عن محاججتهم كأنه قال: لا تلتفت لهم ولا تعتبر بهم، فإنهم لا فائدة فيهم، لأنهم زين لهم ما هم عليه من المكر والكفر. قوله: ﴿ وَصُدُّواْ ﴾ بضم الصاد وفتحه قراءتان سبعيتان، والمعنى منعوا عن طريق الهدى، أو منعوا الناس عنه. فائدة: قال الطيبي: في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان، أولها: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (كمن ليس كذلك) احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما. ثانيهما: ﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ من وضع الظاهر موضع الضمير، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد، لا يشاركه أحد في اسمه. ثالثها: قوله: ﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي عينوا أسماءهم، فقولوا فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجوداً فسمه، لأن المراد بالاسم العلم. رابعها: قوله: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾ احتجاج من باب نفي الشيء بنفي لازمه، وهو المعلوم وهو كناية. خامسها: قوله: ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ احتجاج من باب الاستدراج، والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكر، المعنى أتقولون بأفواهكم من غير رؤية، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه. وسادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها، كان الاحتجاج المذكور منادياً على نفسه بالإعجاز، وأنه ليس من كلام البشر، اهـ.
قوله: ﴿ وَمَا لَهُم ﴾ خبر مقدم، و ﴿ وَاقٍ ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق به، أي ليس لهم مانع من عذاب الله إذا جاءهم. قوله: ﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ مبتدأ و ﴿ ٱلَّتِي ﴾ صفته، و ﴿ وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ صلة الموصول والخبر محذوف، والتقدير كائن فيما نقص عليك كما قال المفسر. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ أي من تحت قصورها وغرفتها. قوله: ﴿ ٱلأَنْهَارُ ﴾ فسرت في آية أخرى في قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾[محمد: ١٥] إلخ. قوله: ﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ ﴾ أي كل شيء يؤكل يتجدد غيره، فلا تنقطع أنواع مأكولاتها، فليست كثمار الدنيا تنقطع في بعض الأحيان. قوله: ﴿ وِظِلُّهَا ﴾ (دائم) المراد بالظل فيها عدم الشمس، فلا ينافي أنها نور، نورها حاصل من نور العرش لأنه سقفها، ومع ذلك فأنوار أهلها تغلب على ضوء العرش. قوله: ﴿ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ أي مآلهم ومنتهاهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ (الشرك) تقدم أن هذا أدنى مراتب التقوى. قوله: ﴿ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ ﴾ أي مآلهم ومنتهاهم.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي التوراة والإنجيل، فأل في الكتاب للجنس. قوله: (من مؤمني اليهود) أي ومؤمني النصارى، كأهل نجران والحبشة واليمن، فإنهم كانوا إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول، فاضت أعينهم دموعاً، كما تقدم في المائدة. قوله: (لموافقته ما عندهم) أي في التوراة والإنجيل. قوله: ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ أي فكانوا إذا سمعوا شيئاً يوافق هواهم سلموه وأقروا به، وإذا خالف هواهم أنكروه، فمثل القصص لا ينكرونها، ومثل الدعاء إلى التوحيد ينكرونه. قوله: (كذكر الرحمن) أي بالنسبة إلى مشركي العرب؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب لهم كتاب الصلح يوم الحديبية قال فيه: بسم الله الرحمن، قالوا: وما نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلة الكذاب، لقول بعضهم مادحاً له: سميت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً   وأنت غير الورى لا زلت رحماناوقد هداه بعض الصحابة بقوله: سميت بالخبث يا ابن الأخبثين أباً   وأنت شر الورى لا زلت شيطاناقوله: ﴿ أَعْبُدَ ٱللَّهَ ﴾ أي أوحده. قوله: ﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ أي إلى عبادته وشريعته. قوله: (مرجعي) أي في الآخرة. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ مثل إنزال الكتب السابقة. قوله: ﴿ حُكْماً عَرَبِيّاً ﴾ حالان من الضمير في أنزلناه، والمعنى أنزلناه حاكماً بين الناس بلغة العرب، وأسند الحكم له لأنه ترجمان عن الله، فطاعته طاعة الله. قوله: (فيما يدعونك إليه من ملتهم) أي كقولهم له اعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، وكالصلاة إلى بيت المقدس بعد ما حولت عنه. قوله: (فرضاً) أي على سبيل الفرض والتقدير، والمقصود تحذير من يجوز عليه اتباع الهمى، لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك، وكان المقصود غيره. قوله: ﴿ وَلاَ وَاقٍ ﴾ أصله واقي، استثقلت الكسرة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الياء لالتقائهما. قوله: (لما عيروه بكثرة النساء) أي حيث قالوا: لو كان مرسلاً حقاً، لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فرد الله تعالى عليهم مقالتهم بقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ إلخ، فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية، وكان لأبيه داود مائة امرأة، ومع ذلك فلم يقدح في نبوتهما، فكيف يجعلون ذلك قادحاً في نبوتك، واعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال النبوة، فالشبهة الأولى قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وسيأتي ذكره في الفرقان. الثانية قولهم: رسول الله إلى الخلق، لا بد وأن يكون من جنس الملائكة، كما قالوا﴿ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾[الأنعام: ٨]، وقالوا:﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ ﴾[الحجر: ٧]، وستأتي أيضاً. الثالثة قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنساء،. فأجاب الله بقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ ﴾ الآية. الرابعة قولهم: لو كان رسولاً من عند الله، لكان أي شيء طلبناه من المعجزات أتى به. فأجاب تعالى بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ الآية. الخامسة قولهم: لو كان رسولاً ما أوعدنا به من نزول العذاب. فأجاب الله تعالى بقوله: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ أي لكل حادث وقت معين، لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. السادسة قولهم: لو كان صادقاً، ما نسخ الأحكام التي هي ثابتة في التوراة والإنجيل، وما نسخ بعض الأحكام التي جاء بها. فأجاب الله تعالى عنه بقوله:﴿ يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾[الرعد: ٣٩].
قوله: ﴿ وَذُرِّيَّةً ﴾ أي وقد كان لرسول الله سبعة أولاد ثلاثة ذكور وأربع إناث، وترتيبهم في الولادة هكذا: القاسم فزينب فرقية ففاطمة فأم كلثوم فعبد الله فإبراهيم، وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية، وكلهم ماتوا في حياته إلا فاطمة فماتت بعده بستة أشهر. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ ﴾ إلخ، أي لم يجعل الله للرسول الإتيان بآية مما اقترحه قومه إلا بإرادته تعالى. قوله: (مربوبون) أي مقهورون مغلبون. قوله: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ رداً لاستعجالهم العذاب، فإنه كان يخوفهم بذلك، فاستعجلوه عناداً.
قوله: (مكتوب فيه) أي في ذلك الكتاب وهو اللوح المحفوظ. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وهو ما كتبه في الأزل) أي قدره بمعنى تعلق به علمه وإرادته، وما مشى عليه المفسر، من أن الصحف واللوح المحفوظ، يقع فيها التغيير والتبديل، والمراد بأم الكتاب، علم الله المتعلق بالأشياء أزلاً، هو أحد تفسيرين: إن قلت: يرد على هذا ما ورد أن الله لما خلق اللوح والقلم، وأمر بكتابة ما كان وما يكون وما هو كائن، قال رفعت الأقلام وجفت الصحف. أجيب: بأن المراد رفعت الأقلام عما هو مطابق لعلم الله والتفسير الآخر: أن المحو والإثبات، يقعان في صحف الملائكة فقط، والمراد بقوله: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾ اللوح المحفوظ، وهو لا يقبل التغيير ولا التبديل، والحاصل: أن ما في علم الله، لا يقبل التغيير جزماً، وما في الصحف يقبل التغيير جزماً، والخلاف في اللوح المحفوظ، والآية محتملة، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله: ﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ إن شرطية مدغمة في ما الزائدة كما قال المفسر، و ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره نحن، والكاف مفعول أول، و ﴿ بَعْضَ ٱلَّذِي ﴾ مفعول ثان، والمفعول الثالث محذوف، قدره المفسر بقوله: (في حياتك). قوله: (أي فذاك) مبتدأ خبره محذوف تقديره شاف صدرك من أعدائك. قوله: ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ معطوف على ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ فهو شرط أيضاً، وجوابه محذوف، والتقدير فلا لوم عليك، وقوله: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ﴾ دليل للمحذوف. قوله: (فنجازيهم) أي على أعمالهم خيرها وشرها، وقد جمع الله لنبيه بين تعذيبهم على يده في الدنيا.
ومجازاة الله لهم في الآخرة قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أينكرون ما وعدناهم به من العذاب ولم يروا، إلخ. قوله: (نقصد أرضهم) أي أرض أهل مكة، فالمقصود نصر للنبي بزوال نعمة الكفار وملكه إياهم، قال تعالى:﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾[الأحزاب: ٢٧] الآية، فالمراد بنقص أطراف الأرض ملك كبرائها وخذلانهم، وما ذكره المفسر هو أحد قولين، والآخر أن المراد بالأرض جميعها، لا خصوص أرض الكفار، وبنقص أطرافها موت العلماء والأشراف والكبراء والصلحاء، وحينئذ فوجه مناسبة هذا لما قبله، كأن الله يقول: ألم ينظروا إلى التغيرات الحاصلة في الدنيا، من الخراب بعد العمارة، والموت بعد الحياة، والذل بعد العز؟ فإذا كان هذا مشاهداً لهم، فما المانع من أن الله يصير الكفار أذلاء بعد عزهم، ومقهورين بعد قدرتهم. قوله: ﴿ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ أي لا مغير ولا ناقص له. قوله: ﴿ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ أي فيحاسبهم في زمن يسير. قوله: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً ﴾ أي لأنه الخالق لهم، العالم بأحوالهم، فهو يوصل إليهم العذاب من جهة لا يعلمون بها. قوله: (فيعد لها) أي يهيىء ويحضر. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾ أي لأنه الخالق للمعجزات على يدي. قوله: ﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ ﴾ معطوف على لفظ الجلالة، والمعنى أن الله ومن عنده علم الكتاب، فيهم الكفاية في الشهادة بيني وبينكم، وأل في الكتاب للجنس، فيشمل التوراة والإنجيل والفرقان، فقوله: (من مؤمني اليهود والنصارى) أي مطلقاً فهو قوله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[الأنفال: ٦٤].
Icon