تفسير سورة الرعد

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الرعد
فيها خمس آيات

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ﴾ تَمَدُّحٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْبَاطِنِ الَّذِي يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَأَهْلُ الطِّبِّ يَقُولُونَ : إذَا ظَهَرَ النَّفْخُ فِي ثَدْيِ الْحَامِلِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَالْحَمْلُ أُنْثَى، وَإِذَا كَانَ الثِّقَلُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ، وَإِنْ وَجَدَتْ الثِّقَلَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَالْوَلَدُ أُنْثَى ؛ فَإِنْ قَطَعُوا بِذَلِكَ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ قَالُوا : إنَّهَا تَجْرِبَةٌ وَجَدْنَاهَا تُرِكُوا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي التَّمَدُّحِ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ يَجُوزُ انْكِسَارُهَا وَالْعِلْمُ لَا يَجُوزُ تَبَدُّلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ﴾
وَقَدْ تَبَايَنَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا، أَظْهَرُهَا تِسْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ من تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ :﴿ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّانِي : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ : مَا تُسْقِطُ، وَمَا تَزْدَادُ، يَعْنِي عَلَيْهِ إلَى التِّسْعَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّالِثُ : إذَا حَاضَتْ الْحَامِلُ نَقَصَ الْوَلَدُ فَذَلِكَ غَيْضُهُ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ ثَمَّ فَتِلْكَ عَلَى النُّقْصَانِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
الرَّابِعُ : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فَتِلْكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَا تَزْدَادُ فَتِلْكَ لِعَامَيْنِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ. الْخَامِسُ : مَا تَزْدَادُ لِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ.
السَّادِسُ : مَا تَزْدَادُ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
السَّابِعُ : قَالَ مَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ : إلَى خَمْسِ سِنِينَ.
الثَّامِنُ : إلَى سِتِّ سِنِينَ، وَسَبْعِ سِنِينَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
التَّاسِعُ : لَا حَدَّ لَهُ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ، وَأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَقَلَ بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ من الْمَالِكِيِّينَ أَنَّ أكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ قَطُّ إلَّا هَالِكِيٌّ : وَهُمْ الطَّبَائِعِيُّونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَبِّرَ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ تَأْخُذُهُ شَهْرًا شَهْرًا، وَيَكُونُ الشَّهْرُ الرَّابِعُ مِنْهَا لِلشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ يَتَحَرَّكُ وَيَضْطَرِبُ، وَإِذَا كَمُلَ التَّدَاوُلُ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْهُرِ بَيْنَ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ عَادَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ إلَى زُحَلَ فَيُبْقِلُهُ بِبَرْدِهِ. فَيَا لَيْتَنِي تَمَكَّنْت من مُنَاظَرَتِهِمْ أَوْ مُقَاتَلَتِهِمْ. مَا بَالُ الْمَرْجِعِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّوْرِ يَكُونُ إلَى زُحَلَ دُونَ غَيْرِهِ ؟ اللَّهُ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ التَّدْبِيرِ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ يَعُودَ إلَى جَمِيعِهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؟ مَا هَذَا التَّحَكُّمُ بِالظُّنُونِ الْبَاطِلَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ ؟ فَمَنْ نَصِيرِي من هَذَا الِاعْتِقَادِ، وَعَذِيرِي من الْمِسْكَيْنِ الَّذِي تَصَوَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِضَيَاعِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْعَالَمِ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْغَارِبَةِ مَطْلَعًا، الْعَازِبَةِ مَقْطَعًا !
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ تَمَاسُكَ الْحَيْضِ عَلَامَةٌ عَلَى شَغْلِ الرَّحِمِ، وَاسْتِرْسَالَهُ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْبَرَاءَةِ لَوْ اجْتَمَعَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ : وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي الدَّمِ وَالْحَيْضِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ، وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا من ذَلِكَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ من وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّمَ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ من حَيْثُ الظَّاهِرِ لَا من حَيْثُ الْقَطْعِ ؛ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ بَرَاءَةٌ لِلرَّحِمِ قَطْعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ. الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ. فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَيْضٍ وَازْدِيَادٍ وَسَيَلَانٍ وَتَوَقُّفٍ، وَإِذَا سَالَ الدَّمُ عَلَى عَادَتِهِ بِصِفَتِهِ مَا الَّذِي يَمْنَعُ من حُكْمِهِ ؟ وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إذَا وُجِدَ الْفِعْلُ فِي الْآدَمِيِّ مَعَ خَلْقِ الْإِرَادَةِ فِيهِ كَانَ طَوْعًا، وَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ كَانَ كَرْهًا، وَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَقْوَالٍ، جُمْهُورُهَا أَرْبَعَةٌ :
الْأَوَّلُ : الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ خَوْفَ السَّيْفِ ؛ فَالْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ آمَنَ طَوْعًا من غَيْرِ لَعْثَمَةٍ.
وَالثَّانِي : الْكَافِرُ يَسْجُدُ لِلَّهِ، إذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ﴾ يُرِيدُ عَنْهُ وَعَبَدْتُمْ غَيْرَهُ.
الثَّالِثُ : قَالَ الصُّوفِيَّةُ : الْمُخْلِصُ يَسْجُدُ لِلَّهِ مَحَبَّةً، وَغَيْرُهُ يَسْجُدُ لِابْتِغَاءِ عِوَضٍ، أَوْ لِكَشْفِ مِحْنَةٍ، فَهُوَ يَسْجُدُ كَرْهًا.
الرَّابِعُ : الْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاجِدٌ، إلَّا أَنَّهُ مَنْ سَجَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ طَوْعٌ، وَمَنْ سَجَدَ بِحَالِهِ فَهُوَ كَرْهٌ ؛ إذْ الْأَحْوَالُ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ ذِي الْحَالِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا مَنْ سَجَدَ لِدَفْعِ شَرٍّ فَذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، هُوَ الَّذِي أَمَرَنَا بِالطَّاعَةِ، وَوَعَدَنَا بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا، وَنَهَانَا عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَأَوْعَدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَهَذَا حَالُ التَّكْلِيفِ، فَلَا يَتَكَلَّفُ فِيهَا تَعْلِيلًا إلَّا نَاقِصُ الْفِطْرَةِ قَاصِرُ الْعِلْمِ ؛ وَغَرَضُ الصُّوفِيَّةِ سَاقِطٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَمَا عَبَدَ اللَّهَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا وَلِيٌّ مُكَمَّلٌ إلَّا طَلَبَ النَّجَاةَ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَوْلُ فِي الْوَفَاءِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَعْدِيدِ عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ، مُسْتَمِرَّةُ الْمَدَدِ وَ الْأَمَدِ. أَعْظَمُهَا عَهْدًا، وَأَوْكَدُهَا عَقْدًا مَا كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ.
الثَّانِي : مَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّالِثُ : مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهَا أَلْزَمَتْ عُهُودًا، وَرَبَطَتْ عُقُودًا، وَوَظَّفَتْ تَكْلِيفًا، وَذَلِكَ يَتَعَدَّدُ بِعَدَدِ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْعِرْفَانِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنَّك إلَّا تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
وَمِنْهَا الِانْكِفَافُ عَنْ الْعِصْيَانِ، وَأَقَلُّهُ دَرَجَةً اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَلَا تَسْأَلَ سِوَاهُ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ من كِبَارِ الْعُبَّادِ، سَمِعَ أَنَّ نَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفْعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ : رَبِّ، إنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّك إذْ رَأَوْهُ، وَأَنَا أُعَاهِدُك أَلَّا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ : فَخَرَجَ حَاجًّا من الشَّامِ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَبينَما هُوَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ بِاللَّيْلِ إذْ بَقِيَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِعُذْرٍ، ثُمَّ اتَّبَعَهُمْ، فَبينَما هُوَ يَمْشِي إلَيْهِمْ إذْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي قَعْرِهِ قَالَ : أَسْتَغِيثُ ؛ لَعَلَّ أَحَدًا يَسْمَعُنِي فَيُخْرِجُنِي، ثُمَّ قَالَ : إنَّ الَّذِي عَاهَدْته يَرَانِي وَيَسْمَعُنِي، وَاَللَّهِ لَا تَكَلَّمْت بِحَرْفٍ لِبَشَرٍ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا إذْ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِئْرِ نَفَرٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَلَى حَاشِيَةِ الطَّرِيقِ قَالُوا : إنَّهُ لَيَنْبَغِي سَدُّ هَذِهِ الْبِئْرِ، ثُمَّ قَطَعُوا خَشَبًا، وَنَصَبُوهَا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ وَغَطَّوْهَا بِالتُّرَابِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو حَمْزَةَ قَالَ : هَذِهِ مَهْلَكَةٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِمْ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : أَلَيْسَ الَّذِي عَاهَدْت يَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ، فَسَكَتَ وَتَوَكَّلَ، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، فَإِذَا بِالتُّرَابِ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَالْخَشَبُ يُرْفَعُ عَنْهُ، وَسَمِعَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : هَاتِ يَدَك. قَالَ : فَأَعْطَيْته يَدِي، فَأَقَلَّنِي فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ إلَى فَمِ الْبِئْرِ، فَخَرَجْت وَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ سَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ : كَيْفَ رَأَيْت ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ ؟ وَأَنْشَدَ :
نَهَانِي حَيَائِي مِنْك أَنْ أَكْتُمَ الْهَوَى وأغْنَيْتنِي بِالْعِلْمِ مِنْك عَنْ الْكَشْفِ
تَلَطَّفْت فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي إلَى غَائِبِي وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ
تَرَاءَيْت لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَمَا تُخَبِّرُنِي بِالْغَيْبِ أَنَّك فِي كَفِّي
أَرَانِي وَبِي من هَيْبَتِي لَك وَحْشَةٌ فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْك وَبِالْعَطْفِ
وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي الْحُبِّ حَتْفُهُ*** وَذَا عَجَبٍ كَوْنُ الْحَيَاةِ مَعَ الْحَتْفِ
فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ؛ فَبِهِ فَاقْتَدُوا تَهْتَدُوا.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي من تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي الْأُكُلِ يَعْنِي بِهِ الْمَأْكُولَ لَا الْفِعْلَ. وَصَفَ اللَّهُ طَعَامَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَمْنُوعٍ، وَطَعَامُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ وَيُمْنَعُ فَيَمْتَنِعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ نُوحٍ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ :" لَيْسَ فِي الدُّنْيَا من ثِمَارٍ مَا يُشْبِهُ ثِمَارَ الْجَنَّةِ إلَّا الْمَوْزُ " لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :
﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَوْزَ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي : وَكَذَلِكَ رُمَّانُ بَغْدَادَ، شَاهَدْت الْمُحَوَّلَ قَرْيَةً من قُرَى نَهْرِ عِيسَى وَفِي شَجَرِ الرُّمَّانِ حَبُّ الْعَامَيْنِ يَجْتَمِعُ تَقْطَعُ مِنْهُ مَتَى شِئْت صَيْفًا وَشِتَاءً، وَقَيْظًا وَخَرِيفًا، إلَّا أَنَّ الْحَبَّةَ الَّتِي بَقِيَتْ فِي الشَّجَرَةِ عَامًا لَا تَفْلِقُهَا إلَّا بِالْقَدُومِ من شِدَّةِ الْقِشْرِ، فَإِذَا انْفَلَقَتْ ظَهَرَ تَحْتَهُ حَبُّ الرُّمَّانِ أَجْمَلَ مَا كَانَ وَأَيْنَعَهُ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنِّي الْحَقَّ فِي الدَّعْوَى وَالصِّدْقَ فِي التَّبْلِيغُ فَسَيَنْصُرُنِي، فَلَا جَرَمَ صَدَّقَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَنَصَرَهُ بِالدَّلَالَاتِ، وَأَكْرَمَهُ بِالظُّهُورِ فِي الْعَوَاقِبِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ :﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ ؟
قِيلَ : هُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ : وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ يَشْهَدُ لِي بِصِدْقِي ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ :﴿ قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ﴾، فَلَوْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ لَكَانَ تَكْرَارًا مَحْضًا خَارِجًا عَنْ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَجَزَالَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ فِي :
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ : اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ آمَنَ من الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الثَّانِي : أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُرِئَ : وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ بِخَفْضِ الْمِيمِ من " من " وَرَفْعِ الْعَيْنِ من " عُلِمَ ". وَقُرِئَ بِخَفْضِ الْمِيمِ من " من " وَبَاقِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
الرَّابِعُ : الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَدَبُّرِ مَا مَضَى :
أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا من الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ يَامِينَ. وَمِنْ النَّصَارَى، كَسَلْمَانَ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَعَوَّلَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّهُ عِنْدَهُ أَعْلَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي ذِكْرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ أَوْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا ). وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدِينَةُ عِلْمٍ وَأَبْوَابُهَا أَصْحَابُهَا ؛ وَمِنْهُمْ الْبَابُ الْمُنْفَسِحُ، وَمِنْهُمْ الْمُتَوَسِّطُ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ فِي الْعُلُومِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فَصَدَقَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ الْكِتَابَ، وَيُدْرِك وَجْهَ إعْجَازِهِ ؛ يَشْهَدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَعَوَّلَ عَلَى حَدِيثٍ خَرَّجَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ قَتْلُ عُثْمَانَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : مَا جَاءَ بِك ؟ قَالَ : جِئْت فِي نَصْرِك. قَالَ : اُخْرُجْ إلَى النَّاسِ، فَاطْرُدْهُمْ عَنِّي، فَإِنَّك خَارِجًا خَيْرٌ لِي مِنْك دَاخِلًا. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إلَى النَّاسِ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، وَنَزَلَتْ فِي آيَاتٌ من الْقُرْآنِ فَنَزَلَتْ فِي :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ من بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا، وَنَزَلَتْ فِي :﴿ قُلْ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾. إنَّ لِلَّهِ سَيْفًا مَغْمُودًا عَنْكُمْ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ جَاوَرَتْكُمْ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللَّهَ اللَّهَ فِي هَذَا الرَّجُلِ أَنْ تَقْتُلُوهُ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَتُطْرَدَنَّ جِيرَانُكُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَلَيُسَلَّنَّ سَيْفُ اللَّهِ الْمَغْمُودُ عَنْكُمْ، فَلَا يُغْمَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالُوا : اُقْتُلُوا الْيَهُودِيَّ، وَاقْتُلُوا عُثْمَانَ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْزِلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ سَبَبًا، وَتَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لَفْظًا ؛ وَيُعَضِّدُهُ من النِّظَامِ أَنَّ قَوْلَهُ : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي بِهِ قُرَيْشًا ؛ فَاَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ من الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ إلَى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالْكِتَابِ أَقْرَبُ من عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا قَوْلُ الْمُتَجَادِلِينَ : كَفَى بِفُلَانٍ بَيْنَنَا شَهِيدًا فَيَرْضَيَانِ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَيَزِيدُ هَذَا عَلَيْهِ ظُهُورُ هَذَا الْحَقِّ يَقِينًا، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ نَصْرًا مُبِينًا، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَعْرِفُهُ حَقًّا، وَيَشْهَدُ بِهِ تَصْدِيقًا وَصِدْقًا. وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
Icon