تفسير سورة الرعد

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة الرعد
هي مدنية وآيها ثلاث وأربعون
نزلت بعد سورة محمد، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
( ١ ) إنه سبحانه أجمل في السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية في قوله :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾[ يوسف : ١٠٥ ] ثم فصلها هنا أتم تفصيل في مواضع منها :
( ٢ ) إنه أشار في سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله :﴿ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ [ يوسف : ٣٩ ] ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر في سالفتها.
( ٣ ) إنه ذكر في كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين، وفي ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيت لقلبه.
( ٤ ) جاء في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله :﴿ ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ [ يوسف : ١١١ ] وفي أول هذه وهو قوله :﴿ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ [ الرعد : ١ ].

بسم الله الرحمان الرحيم
صفات القرآن :
﴿ آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾[ الرعد : ١ ].
الإيضاح :﴿ آلمر ﴾ قلنا فيما سلف إن هذه الحروف في أوائل السور حروف تنبيه كألا ونحوها وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال :" ألف، لام، ميم، را " ؛ كما قلنا إن كل سورة بدئت بهذه الحروف ففيها انتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه.
﴿ تلك آيات الكتاب ﴾ أي آيات هذه السورة آيات القرآن البالغ حد الكمال المستغنى عن الوصف بين الكتب السماوية، الجدير بأن يختص باسم " الكتاب ".
﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ﴾ أي وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حقّ لا شك فيه، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال فكأنه سبحانه بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم فأثبته للقرآن جميعه، فلا تختص به سورة دون أخرى.
وهذا الأسلوب جار على سنن العرب في تخاطبهم، فقد قالت فاطمة الأنمارية وقد سئلت عن بنيها، أي بنيك أفضل ؟ ( ربيعة، بل عمارة، بل قيس، بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها ) فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين، أجملت القول وأثبتت لهم الفضل جميعا.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ أي ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا في الدنيا والآخرة، وقد سلك المسلمون سبيلها في عصورهم الأولى فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وامتلكوا أكثر المعمور في ذلك الحين وثلّوا عروش كسرى والروم ودانت لهم الرقاب، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق، وأخذ على يد الظالم لإنصاف المظلوم، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم إلى السماكين، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه، وألقوها وراءهم ظهريا فحاق بهم ما كانوا يكسبون، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة، تابعين بعد أن كانوا متبوعين ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الرعد : ١١ ] والآية بمعنى قوله :﴿ وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ].
دلائل الوحدانية والقدرة :
﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ٢ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل والنهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ٣ وفي الأرض قطاع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ [ الرعد : ٢ ٤ ].
تفسير المفردات : العمد : السواري واحدها عمود كأدم وأديم. والتسخير : التذليل والطاعة. والتدبير : التصريف للأمور على وجه الحكمة. والتفصيل : التبيين. والآيات : هي الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر. واليقين : العلم الثابت الذي لا شك فيه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السماوات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء قدير.
الإيضاح : ذكر سبحانه أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته، بعضها سماوي وبعضها أرضي، وذكر من الأولى جملة أمور :
( ١ ) ﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ﴾ أي إنه تعالى خلق السماوات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره، على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها، وقد تقدم هذا بإيضاح في سورة البقرة.
( ٢ ) ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ أي ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير من إحكام وإتقان، وقد سبق تفصيل هذا في سورتي الأعراف ويونس.
( ٣ ) ﴿ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ﴾ أي وذلل الشمس والقمر وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير في منازله لوقت معين، فالشمس تقطع فلكها في سنة، والقمر في شهر لا يختلف جرى كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله ﴿ والشمس تجري لمستقر لها ﴾ [ يس : ٣٨ ] وقوله :﴿ والقمر قدرناه منازل ﴾ [ يس : ٣٩ ] وإيضاح هذا ذكر في سورتي يونس وهود، وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال :
﴿ يدبر الأمر ﴾ أي إنه تعالى يتصرف في ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه ؛ فهو يميت ويحيي، ويوجد ويعدم، ويغني ويفقر، وينزل الوحي على من يشاء من عباده، وفي ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شيء بوضع خاص وصفة معينة لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شيء عن تدبير آخر كما هو شأن المخلوقات في هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضا على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته لا يشبه شيئا من مخلوقاته.
﴿ يفصل الآيات ﴾ أي يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض، فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر مرتبطة في حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه ولا تجد معدلا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهي العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها، واختلال لحركاتها :﴿ إذا السماء انفطرت ١ وإذا الكواكب انتثرت ﴾ [ الانفطار : ١ ٢ ].
وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقي فيها الحب ثم يسقيها ويضع فيها السماد ويوالي سقيها حتى تؤتي أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة باء صاحب الزرع بالخسران فلم يحصل على شيء أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنصب الذي فعله.
ثم أبان سبحانه أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة، جاءا لحكمة اقتضتها وهي الإيقان بالبعث لفضل القضاء ومجازاة كل عامل بما عمل :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله :
﴿ لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾ أي رجاء أن تتحققوا أن من قدر على رفع السماوات بغير عمد ودبر الأمر بإحكام ونظام قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى من القبور لفصل القضاء ثم ثواب كل عامل على ما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فإما سعادة لا شقاء بعدها، وإما نكال وعذاب تتبدل من هوله الجلود ﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها ﴾ [ النساء : ٥٦ ].
وخلاصة هذه العبرة : إنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب في الجو بلا عمد ودبر الأمور بغاية الإحكام والدقة ولم يشغله شأن عن شأن ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح إلى الأجساد ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لا فناء بعدها، وإذا أيقنتم بذلك وليتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان، وأخلصتم العبادة للواحد الديان، وائتمرتم بوعده ووعيده، وصدقتم برسله، وبادرتم إلى اتباع أوامره وتركتم ما نهى عنه، ففزتم بسعادة الدارين.
والمد : البسط. والرواسي : الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل واحدها راسية. والأنهار : واحدها نهر، وهو المجرى الواسع من الماء. زوجين اثنين : أي ذكر وأنثى، والعرب تسمي الاثنين زوجين والواحد من الذكور زوجا لأنثاه، والأنثى زوجا وزوجة لذكرها، يغشي : يغطي.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السماوات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء قدير.
وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته وكمال قدرته أردفها بالأدلة الأرضية فقال :
( ١ ) ﴿ وهو الذي مد الأرض ﴾ أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها، وبما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، ويسيرون في أكنافها يبتغون رزق ربهم منها.
ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هي في رأي العين كذلك، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ولم يبق لديهم فيها ريب.
( ٢ ) ﴿ وجعل فيها رواسي ﴾ أي وأرساها بجبال راسيات شامخات لا تنتقل ولا تتحرك حتى لا تميد وتضطرب.
( ٣ ) ﴿ وأنهارا ﴾ أي وجعل فيها أنهارا جارية لمنافع الإنسان والحيوان، فيسقي الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ويجعلها لنفسه طعاما وفاكهة ويكون منها مادة حياته في طعامه وشرابه وغذائه.
( ٤ ) ﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ﴾ أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى حين تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة كأغلب الأشجار، وقد يكون عضو التذكير في شجرة وعضو التأنيث في شجرة أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن، وإما أن يكون كل منهما في زهرة كالقرع مثلا.
( ٥ ) ﴿ يغشي الليل النهار ﴾ أي يلبس النهار ظلمة الليل، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا، فكأنه وضع عليه لباسا من الظلمة، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار فيصير الجو مضيئا، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال :﴿ ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ﴾[ النمل : ٨٦ ] وقال :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ﴾ [ الروم : ٢٣ ].
وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد رأي العين في كل صباح ومساء وفي كل حين ووقت، ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به وعقل يهتدي به إلى وجه الصواب، وينتقل من النظر في الأسباب إلى مسبباتها فقال :
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ أي إن فيما ذكر من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة لدلائل وحججا لمن يتفكر فيها ويعتبر فيعلم أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فني منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغي أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبي أو غير أولئك ممن سلب النفع والضر، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ﴾ [ الحج : ٧٣ ]. وقد روي " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ".
تفسير المفردات : قطع : أي بقاع. متجاورات : أي متقاربات. جنات : أي بساتين. صنوان : هي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها واحدها صنو، وفي الحديث :" عم الرجل صنو أبيه ". والأكل : بضمتين وبتسكين الثاني، ما يؤكل والمراد به التمر والحب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه في الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السماوات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شيء قدير.
( ٦ ) ﴿ وفي الأرض قطع متجاورات ﴾ أي وفي الأرض بقاع متجاورات متدانيات، يقرب بعضها من بعض، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها، فمن سبخة لا تنبت شيئا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات، ومن صالحة للزرع دون الشجر، إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع، إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك، ومنها الرخوة التي لا تكاد تتماسك وهي تجاور الصلبة التي لا تفتتها المعاول وأدوات التدمير من المفرقعات – الديناميت والقنابل وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره في خلقه.
﴿ وجنات من أعناب ﴾ أي وفيها بساتين من أشجار الكرم.
﴿ وزرع ﴾ أي وفيها زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون غذاء للإنسان والحيوان.
﴿ ونخيل صنوان وغير صنوان ﴾ أي وفيها نخيل صنوان يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوان أي متفرقات مختلفة الأصول.
﴿ يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾ أي يسقى كل ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد لا اختلاف في طبعه، ومع وجود أسباب التشابه نفضّل بمحض القدرة بعضا منها على بعض في الثمرات شكلا وقدرا، ورائحة وطعما، وحلاوة وحموضة.
ثم بين أن مثل هذا لا يفكر إلا من أوتي العقل الذي يفكر في المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات فقال :
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ أي إن فيما فصّل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل، فمن يرى خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك البقاع المتلاصقة، مع أنها تسقى بماء واحد وتتشابه وسائل نموها يجزم حتما بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لا يعجزه شيء، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك، فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار.
إنكار المشركين للبعث والنبوة :
﴿ * وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ٥ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ﴾ [ الرعد : ٥ -٧ ].
تفسير المفردات : العجب : تغير النفس حين رؤية ما يستبعد في مجرى العادة. والأغلال : واحدها غلّ، وهو طوق من الحديد طرفاه في اليدين ويحيط بالعنق.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك، من خلق السماوات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته في خلق جديد كما قال تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ].
الإيضاح :﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد ﴾ أي وإن تعجب من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم :
﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ﴾ أي أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بداءة ذي بدء وتصويرهم في الأرحام وتدبير شؤونهم حالا بعد حال.
وقد تكرر هذا الاستفهام في أحد عشر موضعا في تسع سور من القرآن : في الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنحل، والعنكبوت، والسجدة، والصافات، والواقعة، والنازعات ! وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد.
ثم وصف أولئك المنكرين للبعث فقال :
﴿ أولئك الذين كفروا بربهم ﴾ أي أولئك الذي جحدوا قدرة ربهم وكذبوا رسوله على ما عاينوا من آياته الكبرى التي ترشدهم إلى الإيمان وتهديهم سبيل الرشاد لو كانوا يبصرون هم الذين تمادوا في عنادهم وكفرهم، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له لأن الإله لا يكون عاجزا.
﴿ وأولئك الأغلال في أعناقهم ﴾ أي أولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر في الحق وإتباع طريق الهدى والبعد عن الهوى كما قال :
كيف الرشاد وقد خلفت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقد يكون المعنى : إنهم يوم القيامة عند العرض للحساب توضع الأغلال في أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل، ويؤيده قوله تعالى :﴿ إذ الأغلال والسلاسل يسحبون ٧١ في الحميم ثم في النار يسجرون ﴾ [ غافر : ٧١ ٧٢ ].
﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي أولئك هم الماكثون في النار دار الذل والهوان لا يتحولون عنها ولا يبرحونها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سيء الأعمال وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ [ المطففين : ١٤ ].
وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم في إنكار يوم القيامة ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له جئنا به وطلبوا منه إنزاله، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
تفسير المفردات : والمثلات : بفتح فضم، واحدها مثلة بفتح فضم، كسمرة وهي العقوبة التي تترك في المعاقب أثرا قبيحا كصلم أذن أو جدع أنف أو سمل عين. والغفر : الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، والمراد بالآية هنا الآيات الحسية كقلب عصا موسى حية وناقة صالح.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك، من خلق السماوات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته في خلق جديد كما قال تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ].
الإيضاح :﴿ ويستعجلونك بالسيئة ﴾ أي ويستعجلونك بالعقوبة التي هددوا بها إذا هم أصروا على الكفر استهزاء وتكذيبا كما حكى الله عنهم في قوله :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ] وفي قوله :﴿ وقالوا ربنا عجل قطنا قبل يوم الحساب ﴾ [ ص : ١٦ ] وفي قوله :﴿ سأل سائل بعذاب واقع ﴾ [ المعارج : ١ ].
﴿ قبل الحسنة ﴾ أي قبل الثواب والسلامة من العقوبة، وكان صلى الله عليه وسلم يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وحصول النصر والظفر في الدنيا.
﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾ أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين، فمن أمة مسخت قردة، وأخرى أهلكت بالرجفة، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك.
﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ أي وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده فتارك فضيحته بها يوم القيامة، ولولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ].
﴿ وإن ربك لشديد العقاب ﴾ لمن يجترح السيئات وهو متماد في غوايته سادر في آثامه، وقد يعجل له قسطا منه في الدنيا ويكون جزاء له على ما سولت له نفسه كما يشاهد المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف ومرض مزمن وفقر مدقع وذل وهوان بين الناس، وفي المقامرين من خراب عاجل وإفلاس في المال والذل بعد العز، وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين فيستوفى قطّه هناك نارا تكوى بها الجباه والجنوب، وتبدل الجلود غير الجلود، وقد قرن المغفرة بالعقاب في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ليعتدل الرجاء والخوف كقوله :﴿ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ] وقوله :﴿ نبئ عبادي أني الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩ -٥٠ ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء.
روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وإن ربك لذو مغفرة ﴾ الخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد ".
وبعد أن ذكر طعنهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله بالحشر والمعاد، ثم طعنهم فيه لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال ذكر أنهم طعنوا فيه، لأنه لم يأت لهم بعجزة مبينة كما فعل الرسل من قبله فقال :﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾
تفسير المفردات : والإنذار : التخويف. والهادي : القائد الذي يقود الناس إلى الخير كالأنبياء والحكماء والمجتهدين.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك، من خلق السماوات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته في خلق جديد كما قال تعالى :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ].
الإيضاح :﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ أي ويقول الذين كفروا تعنتا وجحودا : هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، فيجعل لنا الصفا ويزيح عنا الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، وقد طلبوا ذلك ظنا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل في باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون.
وقد رد الله عليهم الشبهة بقوله في آية أخرى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] أي إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوها أهلكناهم بذنوبهم، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم راغبا في إجابة مقترحاتهم حبا في إيمانهم بيّن له وظيفته التي أرسل لأجلها فقال :
﴿ إنما أنت منذر ﴾ أي إن مهمتك التي بعثت لها هي الإنذار من سوء مغبّة ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم ﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، ﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : ٦ ].
﴿ ولكل قوم هاد ﴾ أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير، فطره الله على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد به بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة في كل زمان كي لا يترك الناس سدى. وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
الله عليم بكل شيء :
﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ٨ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ١٠ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ﴾ [ الرعد : ٨ -١١ ].
تفسير المفردات : الغيض : النقصان ؛ يقال غاض الماء وغضته كما قال ﴿ وغيض الماء ﴾ [ هود : ٤٤ ] بمقدار : أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكي عنهم بقوله :﴿ أئذا كنا ترابا أئنا في خلق جديد ﴾ [ الرعد : ٥ ]، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتتها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتناثر في بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجري بها الماء وتدفن في بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم الأجنة في بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى.
الإيضاح :﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى ﴾ من ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، طويل العمر أو قصيره كما قال :﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ [ النجم : ٣٢ ] وقال :﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
﴿ وما تغيض الأرحام وما تزداد ﴾ أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد في الولد، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل في مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر في البطن وهو حي أكثر من ٣٠٥ أيام، وفي مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من ٣٠٨ ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي ٣٥٤ يوما، وهو رأي في مذهب مالك.
﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ أي ولكل شيء ميقات معين لا يعدوه زيادة ولا نقصا ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾[ الأعراف : ٣٤ ].
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ [ القمر : ٤٩ ] وفي الحديث : إن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه رسولا أن ابنا لها في الموت، وأنها تحب أن تحضره، فبعث إليها يقول :" إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ".
تفسير المفردات : والغائب : ما غاب عن الحس. والشاهد : الحاضر المشاهد. الكبير : العظيم الشأن. والمتعالي : المستعلي على كل شيء.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكي عنهم بقوله :﴿ أئذا كنا ترابا أئنا في خلق جديد ﴾ [ الرعد : ٥ ]، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتتها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتناثر في بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجري بها الماء وتدفن في بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم الأجنة في بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى.
الإيضاح :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة، بل ترى بالمنظار المعظم " التليسكوب " ومنها الجراثيم " المكروبات " التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر في كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفي بعد حين كجراثيم الجدري و " الدفتيريا " والحصبة ونحوها، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾، [ المدثر : ٣١ ] وما تشاهدونه وترونه بأعينكم ﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾ [ يونس : ٦١ ].
﴿ الكبير المتعال ﴾ أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات المخلوقين، المستعلي على كل شيء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف في ملكوته.
وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها.
وفي معنى الآية قوله :﴿ سبحان الله عما يصفون ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ].
تفسير المفردات : وأسر الشيء : أخفاه في نفسه. والمستخفي : المبالغ في الاختفاء. والسارب : الظاهر، من قولهم سرب : إذا ذهب في سربه، طريقه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكي عنهم بقوله :﴿ أئذا كنا ترابا أئنا في خلق جديد ﴾ [ الرعد : ٥ ]، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتتها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتناثر في بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجري بها الماء وتدفن في بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم الأجنة في بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى.
ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال :
الإيضاح :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ﴾ أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفظ به، أو جهر به وأظهره، فهو سواء عند الله يسمعه ولا يخفى عليه شيء منه كما قال :﴿ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ﴾ [ طه : ٧ ] وقال :﴿ ويعلم ما تخفون وما تعلنون ﴾ [ النمل : ٢٥ ] قالت عائشة : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جنب البيت وإنه ليخفي عليّ بعض كلامها فأنزل الله :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع يحاوركما إن الله سميع بصير ﴾ [ المجادلة : ١ ].
﴿ ومن هو مستخف بالليل ﴾ أي مختف في عقر داره في ظلام الليل.
﴿ وسارب بالنهار ﴾ أي ظاهر في بياض النهار، فكلاهما عند الله سواء، وروي عن ابن عباس في تفسير ذلك : هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برئ من الإثم.
تفسير المفردات : معقبات : أي ملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته واحدها معقبة، من عقّبه : أي جاء عقبة. من بين يديه : أي قدّامه. ومن خلفه : أي من ورائه. من أمر الله : أي بأمره وإعانته. وال : أي ناصر.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكي عنهم بقوله :﴿ أئذا كنا ترابا أئنا في خلق جديد ﴾ [ الرعد : ٥ ]، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتتها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتناثر في بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجري بها الماء وتدفن في بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم الأجنة في بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى.
الإيضاح :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه ﴾ أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه : حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضار ويراقبون أحواله، كما يتعاقب ملائكة آخرون أعماله من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا، حافظان وكاتبان كما جاء في الحديث الصحيح :" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ".
وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصي عليه أعماله كان حذرا من وقوعه في المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحي منه من البشر، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له في كتاب مدخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه.
وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه، فقد أصبحت المياه والكهرباء في المدن تعد بالآلات – العدادات - فالمياه التي يشربونها، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعد كما يعد الدرهم والدينار، وكذلك هناك آلات تحصي المسافات التي تقطعها السيارات في سيرها، وأخرى تحصي تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.
وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان في ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرون إلا بما يرونه رأي العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل : الدين والعقل في الإسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان.
﴿ يحفظونه من أمر الله ﴾ أي هم يحفظونه بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته حكمته، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها، فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح.
وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندري ما قلمهم وما مدادهم ؟ وكيف كتابتهم ؟ وأين محلهم ؟ وما حكمة ذلك ؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف في الثواب والعقاب عليها، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب.
ولمفسري السلف أقوال في الآية. قال ابن عباس : هم الملائكة تعقب بالليل، تكتب على ابن آدم، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وذلك الحفظ من أمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه. وقال علي : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلّوا بينه وبين القدر اه.
﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد.
روي أن أبا بكر قال : قال صلى الله عليه وسلم :" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] وقد بسطنا هذا فيما سلف في مواضع متعددة، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون في مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه " فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران " واسترسل فيه على المنهج المعروف عنه، وضرب له الأمثلة بما حدث في كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها، وأذل أهلها، وجعلها طعمة للآكلين، ومثلا للآخرين.
وفي حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية، كما قال :﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] وقوله :﴿ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ [ الأنبياء : ١٠٥ ] أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها، ما ظهر منها وما بطن.
﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ﴾ أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا في الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يرد ما قدره لهم.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة، وطلب العقاب قبل الثواب، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له.
والخلاصة : إنه ليس من الحكمة في شيء أن يستعجلوا ذلك.
﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾ أي وما لهم من دون الله سبحانه من يلي أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها.
ولله در الأعرابي الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به كميته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال :
أربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ﴾ [ الحج : ٧٣ ].
نعم الله على عباده :
﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ١٢ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ١٣ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ١٤ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ﴾ [ الرعد : ١٢ -١٥ ].
تفسير المفردات : البرق : ما يرى من النور لامعا خلال السحاب.
المعنى الجملي : بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة – الأنصار من الأوس والخزرج- " ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا في أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : غدّة كغدّة البكر وموت في بيت سلولية، حتى مات. وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾.
الإيضاح :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ﴾ أي إنه سبحانه يسخر البرق فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن في جرينه التمر والزبيب للتجفيف، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقي زرعه، وهكذا حال كل شيء في الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه في أوانه، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه.
﴿ وينشئ السحاب الثقال ﴾ أي ويوجد منشأة جديدة ممتلئة ماء فتكون ثقيلة قريبة من الأرض.
تفسير المفردات : والرعد : هو الصوت المسموع خلال السحاب. وسببهما على ما بيّن في العلوم الطبيعية : أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفي الكهربائية، حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوي شديد، فذلك النور هو البرق. والصوت هو الرعد الذي نشأ من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها. والصواعق : واحدها صاعقة. وسببها أن السحب قد تمتلئ بكهربائية والأرض بكهربائية أخرى والهواء يفصل بينهما، فإذا قاربت السحب وجه الأرض تنقص الشرارة الكهربائية منها فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل. والمجادلة : من الجدل وهو شدة الخصومة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، كأن المجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه. والمحال : أي أفتله المماحلة والمكايدة لأعدائه، يقال محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك، وتمحل إذا تكلف في استعمال الحيلة، في ضلال أي ضياع وخسار.
المعنى الجملي : بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة – الأنصار من الأوس والخزرج- " ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا في أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : غدّة كغدّة البكر وموت في بيت سلولية، حتى مات. وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾.
الإيضاح :﴿ ويسبّح الرعد بحمده ﴾ أي إن في صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه عن الشريك والعجز، كما يدل صوت المسبح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير.
ونحو الآية قوله سبحانه :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
أخرج احمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول :" اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه، ثم يقول للرعد :" سبحان من سبحت له " وللريح :" اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ".
﴿ والملائكة من خيفته ﴾ أي ويسبح الملائكة الكرام من هيبته وجلاله، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد.
﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ﴾ إصابته بها فيهلكه.
﴿ وهم يجادلون في الله ﴾ أي يجادلون في شأنه تعالى، وفيما وصفه به الرسول الكريم، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب.
وفي هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية سلاّه بما ذكر كأنه قال له : إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
﴿ وهو شديد المحال ﴾ أي وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديد البطش والكيد لأعدائه، يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون، وهو القادر على أن ينزل عذابا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه ولا قوة على رده، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقتضيه الحكمة كما صح في الحديث :" إن ربك لا يهمل ولكن يمهل ".
ومثل الآية قوله :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ [ هود : ١٠٢ ] وقوله :﴿ مكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ٥٠ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾ [ النمل : ٥٠ -٥١ ].
قال ابن جرير في تفسير ذلك : والله شديد في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره.
تفسير المفردات : والظلال : واحدها ظل وهو الخيال الذي يظهر للجرم.
المعنى الجملي : بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة – الأنصار من الأوس والخزرج- " ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا في أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : غدّة كغدّة البكر وموت في بيت سلولية، حتى مات. وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾.
الإيضاح :﴿ له دعوة الحق ﴾ أي له تعالى الدعاء والتضرع الواقع حيث ينبغي أن يكون، والمجاب حين وقوعه، أي إن إجابة ذلك له تعالى دون غيره.
وفي هذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم، وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقيل دعوة الحق كلمة التوحيد : أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له، وإنه شرعها وأمر بها.
﴿ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ﴾ أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون ويتضرعون إليهم ويتجاوزون الله لا يجيبونهم بشيء مما يريدونه من نفع أو ضر إلا كما يجيب الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا شعور له ببسط الكفين ولا قبضهما، فكيف يجيب دعاءه، وهكذا أصنامهم لا تحير جوابا.
وخلاصة ذلك : إنه شبه آلهتهم حين استكفوا بهم ما أهمهم، وهم لا يشعرون بشيء فضلا عن أن يجيبوا أحد بماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه هلمّ أقبل إليّ وهو لا يستطيع ردا ولا جوابا.
﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾ أي في ضياع وخسار، فإن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم.
تفسير المفردات : والغدو : واحدها غداة كقني وقناة وهي أول النهار. والآصال : واحدها أصيل : ما بين العصر والمغرب.
المعنى الجملي : بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة – الأنصار من الأوس والخزرج- " ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا في أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : غدّة كغدّة البكر وموت في بيت سلولية، حتى مات. وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾.
ثم بيّن عظيم قدرته تعالى فقال :
﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾ أي وينقاد لعظمته كل شيء، فيخضع له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا في الشدة والرخاء، والكفار كرها في حال الشدة كما جاء في آيات كثيرة كقوله :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] وقوله :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] وقوله :﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
﴿ وظلالهم بالغدو والآصال ﴾ أي وتسجد أيضا ظلال من له منهما بالغدوات والعشايا تبعا لانقياد الأجسام التي تشرق عليها الشمس، ثم يصرفه تعالى بالمد والتقلص، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص فيهما، أو المراد بهما الدوام كما جاء ذلك كثيرا في استعمالاتهم.
إعادة الكلام في الوحدانية :
﴿ قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ﴾ [ الرعد : ١٦ ].
المعنى الجملي : يعد أن بيّن سبحانه أن كل من في السماوات والأرض خاضع لقدرته، منقاد لإرادته بالغدو والآصال، وفي كل وقت وحين، طوعا أو كرها بحسب ما يريد أعاد الكلام مع المشركين ليلزمهم الحجة ويقنعهم بالدليل ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته وشمول قدرته وإرادته وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره.
الإيضاح :﴿ قل من رب السماوات والأرض ﴾ أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين اتخذوا من دونه أولياء : من رب هذه الأجرام العلوية والسفلية التي تبهر العقول بجميل صنعها، وكامل ترتيبها ووضعها ؟
﴿ قل الله ﴾ أي قل لهم : الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك، للإشارة إلى أنه هو وهم سواء في ذلك الجواب الذي لا محيص منه، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
﴿ قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾ أي قل لهم بعد أن ثبت هذا لديكم : فلم تنفع غيرها أو تضر ؟ وإذا لم يكن لها القدرة على شيء من ذلك فعبادتها محض السفه الذي لا يرضاه لنفسه رشيد، يزن أعماله بميزان الحكمة والمصلحة.
وخلاصة ذلك : أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم، تتخذون من دونه أولياء هم غاية في العجز ؟ وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا في الاعتراف بالوحدانية وهو علمكم بذلك سببا في إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ [ الحج : ٧٣ ]. ثم ضرب مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعترفون بأن لا رب غيره ولا معبود سواه، فقال :
﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير ﴾ أي قل لهم مصورا سخيف آرائهم مفنّدا قبيح معتقداتهم : هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل والبصير الذي يهدي الأعمى لسلوك الطريق ؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتبعه، ويعرف الهدى فيسلكه، لا يستوي وإياكم ؟ وأنتم لا تعرفون حقا، ولا تبصرون رشدا.
ثم ضرب مثلا للكفر والإيمان بقوله :
﴿ أم هل تستوي الظلمات والنور ﴾ أي بل هل تستوي الظلمات التي لا ترى فيها الطريق فتسلك، والنور الذي يبصر به الأشياء، ويجلو ضوؤه الظلام لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان، فكذلك الكفر بالله صاحبه منه في حيرة، يضرب أبدا في غمرة لا يهتدي إلى حقيقة ولا يصل إلى صواب، والإيمان بالله صاحبه منه ضياء، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه ويعاقبه على إساءته، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويكلؤه بعنايته في كل وقت وحين، فهو يفوّض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب، وتعقدت في نظره مدلهمّات الحوادث.
﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ﴾ أي بل أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله، خلقا كخلقه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك أم إنما بكم الجهل والبعد عن الصواب، إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل، أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع، من الجهل بحقيقة المعبود، ومن يجب له التذلل والخضوع، والإنابة والزلفى والإخبات إليه، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضره، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال :
﴿ قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ﴾ أي قل مبينا لهم وجه الحق : الله خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شيء، وهو الفرد الذي لا ثاني له، الغالب على كل شيء سواه، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع ؟
﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ١٧ للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ١٨ * أمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾ [ الرعد : ١٧ -١٩ ].
تفسير المفردات : الأودية : واحدها واد، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء والفرجة بين الجبلين وقد يراد به الماء الجاري فيه. بقدرها : أي بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرا وكبرا. واحتمل : أي حمل : والزبد : ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالحبب، وما يعلو القدر عند غليانها. والرابي : العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه. والجفاء : ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه.
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر، ضرب مثلين للحق في ثباته وبقائه، ولباطل في اضمحلاله وفنائه، ثم بين مآل كل السعداء والأشقياء، وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة، وبيّن أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعي تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم، والعقل الراجح، والفكر الثاقب.
الإيضاح :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ﴾ أي أنزل السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها في الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه، وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر.
﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾ أي ومن الذي يطرحه الناس في النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزات كالحديد والنحاس والرصاص زبد راب كما يطفو على الماء في الأودية زبد مثله، ويتخذ من الذهب والفضة حلي، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأواني والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال، وهذا هو المثل الثاني.
﴿ كذلك يضرب الله الحق والباطل ﴾ أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار بل يذهب ويضمحل، فالباطل لا ثبات له ولا دوام أمام الحق.
ثم فصّل هذا بقوله :
﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث في الأرض، فالماء نشربه ونسقي به الأرض فينبت جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان، والذهب والفضة نستعملها في الحلي وصك النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها في متاعنا من الحرث والحصد وفي المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
وخلاصة المثلين : أنه تعالى مثّل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس، على القلوب الخالية منه، المتفاوتة الاستعداد في ملاحظته وحفظه، وفي استذكاره وتلاوته، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية بماء نزل من السماء في أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا في إحياء الأرض وما عليها، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس، وتصل بها إلى السعادة الأبدية، ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن.
ومثّل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام بالزبد الرابي الذي يطفو على الماء، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول.
وقال الزجاج : مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل المنتفع به نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر، لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه.
﴿ كذلك يضرب الله الأمثال ﴾ أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر نضرب لهم الأمثال في كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا بين الناس :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".
وروى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلمّ عن النار فتغلبوني فتقتحمون فيها ".
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر، ضرب مثلين للحق في ثباته وبقائه، ولباطل في اضمحلاله وفنائه، ثم بين مآل كل السعداء والأشقياء، وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة، وبيّن أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعي تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم، والعقل الراجح، والفكر الثاقب.
وبعد أن بيّن سبحانه شأن كل من الحق والباطل في الحال والمآل وأتم البيان، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال :
( أ ) ﴿ للذين استجابوا لربهم الحسنى ﴾ أي للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنصب، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال.
والآية بمعنى قوله :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ [ يونس : ٢٦ ] وقوله :﴿ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ﴾ [ الكهف : ٨٨ ].
﴿ ب ﴾ ﴿ والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾ أي والذين لم يطيعوا الله ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع العذاب منها :
( ١ ) إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما في الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هو ذاته، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه.
وفي هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم في ذلك اليوم، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.
( ٢ ) سوء الحساب، فيناقشون على الجليل والحقير، وفي الحديث :" من نوقش الحساب عذب " ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى الله زلفى فباؤوا بالخسران والهوان والنكال.
( ٣ ) إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا في لذاتهم فحقت عليهم كلمته :﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ [ السجدة : ١٣ ].
ونزل في حمزة رضي الله عنه وأبي جهل كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى :﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ﴾ أي لا يستوي من يعلم أن الذي أنزل عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى، لا يهتدي إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.
قال قتادة : هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله اه.
﴿ إنما يتذكر أولو الألباب ﴾ أي إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها، ويصل إلى لبّها وسرها، إلا ألو العقول السليمة، والأفكار الرجيحة.
الجامع لصفات الخير كتبت له حسنى العقبى :
﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ٢٠ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ٢١ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ٢٢ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آباءهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ٢٣ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾ [ الرعد : ٢٠ -٢٤ ].
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء ولا يقف لدى غاية، بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :﴿ الذين يوفون بعهد الله ﴾ أي الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم في هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه.
قال قتادة : إن ذكر الله ؛ ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا من القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.
﴿ ولا ينقضون الميثاق ﴾ أي الميثاق الذي وثقوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود على الوفاء بها إلى أجل، وفي الحديث :" آية المنافق ثلاث : إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب ".
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء ولا يقف لدى غاية، بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ أي والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، ويحسنون إلى المحاويج وذوي الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ في أجله فليصل رحمه " وإنساء الأجل : تأخيره، وذلك بالبركة له فيه فكأنه قد زاد.
ويدخل في ذلك جميع حقوق عباده، كالإيمان بالكتب والرسل، ووصل قرابة المؤمنين بسبب الإيمان، كالإحسان إليهم، ونصرتهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام، وعيادة المرضى، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقة في السفر إلى غير ذلك.
أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة – ثم تلا. - :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ﴾ ".
﴿ ويخشون ربهم ﴾ الخشية : خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته في قوله :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] والمراد أنهم يخشون ربهم ويخافونه خوف مهابة وإجلال.
﴿ ويخافون سوء الحساب ﴾ أي ويحذرون إياهم الحساب، وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم، فهم لرهبتهم جادون في طاعته، محافظون على إتباع أوامره وترك نواهيه.
تفسير المفردات : يدرؤون : أي يدفعون.
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء ولا يقف لدى غاية، بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ﴾ الصبر : حبس النفس عن نيل ما تحب، أي والذين صبروا على ما تكرهه النفس ويثقل عليها من فعل الطاعات وترك الشهوات، طلبا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا.
﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ أي أدوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله، مع تمام أركانها وهيآتها احتسابا لوجهه.
﴿ وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ﴾ أي وأنفقوا بعض ما رزقناهم سرا فيما بينهم وبين ربهم، وعلانية بحيث يراهم الناس، سواء كان الإنفاق واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء، أم مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب.
﴿ ويدرؤون بالحسنة السيئة ﴾ أي ويدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان فهو كقوله :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] ومن ثم قال ابن عباس : أي يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم.
﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾ أي أولئك الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية في الشرف والكمال هم الذين لهم عقبى الحسنة في الدار الآخرة.
تفسير المفردات : والعدن : الإقامة، يقال عدن بمكان كذا : إذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر.
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء ولا يقف لدى غاية، بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
ثم بيّن هذه العقبى فقال :
﴿ جنات عدن يدخلونها ﴾ أي تلك العقبى هي جنات إقامة، يخلّدون فيها لا يخرجون منها أبدا. ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين فقال :
﴿ ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم ﴾ أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحا لتقر بهم أعينهم، ويزدادوا سرورا برؤيتهم، حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم في الدنيا فيشكرون الله على الخلاص منها.
وفي الآية إيماء إلى أنه في ذلك اليوم لا تجدي الأنساب إذا لم يسعفها العمل الصالح، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم :﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون ٨٨ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ [ الشعراء : ٨٨ -٨٩ ].
وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته قال لفاطمة :" يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ".
ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم فقال :
﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴾ أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهنا للتسليم عليهم، والتهنئة بدخول الجنة، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
تفسير المفردات : والدار : هي دار الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء ولا يقف لدى غاية، بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
الإيضاح :﴿ سلام عليكم بما صبرتم ﴾ أي قائلين لهم : أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم، بما احتملتم من مشاقّ الصبر ومتاعبه والآلام التي لاقيتموها في دار الحياة الدنيا.
﴿ فنعم عقبى الدار ﴾ أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة.
أخرج ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول :" سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "، وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
الإيضاح :﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ [ الرعد : ٢٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أوصاف المتقين وما أعد لهم عنده في دار الكرامة، بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة في مثل هذا ﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩ -٥٠ ].
الإيضاح : وصف سبحانه الأشقياء بصفات هي السبب في خسرانهم :
( ١ ) ﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾ أي والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده بما أقام عليه من الأدلة العقلية كالتوحيد والقدرة والإرادة والإيمان بالأنبياء والوحي ونحوها.
ونقضه إما بألا ينظروا فيه فلا يمكنهم العمل بموجبه، وأما بأن ينظروا فيه ويعلموا ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته.
وقوله :﴿ من بعد ميثاقه ﴾ أي من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته.
( ٢ ) ﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاؤوا بالحق، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وقطعوا الرحم وكانوا حربا على المؤمنين وعونا للكافرين، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين كما جاء في الحديث :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وجاء أيضا :" المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقي الأعضاء بالسهر والحمى ".
( ٣ ) ﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ بظلمهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم بابتزاز أموالهم واغتصابها بلا حق، وتهييج الفتن بين المسلمين وإثارة الحرب عليهم، وإظهار العدوان لهم.
ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسّوا به أنفسهم فقال :
﴿ أولئك لهم اللعنة ﴾ أي أولئك الذين اتصفوا بهذه المخازي وسيء الصفات، لهم بسبب ذلك الطرد من رجمته ورضوانه، والبعد من خيري الدنيا والآخرة.
﴿ ولهم سوء الدار ﴾ أي ولهم سوء العاقبة وهو عذاب جهنم، جزاء وفاقا لما اجترحوه من السيئات، وأتوا به من الشرور والآثام.
يبسط الله الرزق لبعض عباده ويقدر على آخرين لحكمة هو بها عليم :
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ٢٦ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ٢٧ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ﴾[ الرعد : ٢٦ -٢٩ ].
تفسير المفردات : يقدر : يضيق كقوله :﴿ ومن قدر عليه رزقه ﴾ [ الطلاق : ٧ ] أي ضيق، والمراد أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء. متاع : أي متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء. وأناب : أي رجع عن العناد، وأقبل على الحق.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقر بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة بيّن هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيق على المؤمن زيادة في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جنات تجري من تحتها الأنهار.
الإيضاح :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ﴾ أي يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق في جمع المال، وله من الحيلة في الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية.
﴿ ويقدر ﴾ على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة في كسبه، وليس بالحوّل القلب في استنباط أسبابه ووسائله ؛ وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.
ثم ذكر أن مشركي مكة بطروا بغناهم فقال :
﴿ وفرحوا بالحياة الدنيا ﴾ أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق في الحياة الدنيا، وعدوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس.
ثم بيّن لهم خطأهم فقال :
﴿ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ﴾ أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي، فلا حق لهم في البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها، وانتفعوا به من خيراتها، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال.
أخرج الترمذي عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع " وأشار بالسبابة.
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال :" نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال :" ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ".
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقر بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة بيّن هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيق على المؤمن زيادة في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جنات تجري من تحتها الأنهار.
ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب، واكتفوا بالحباب، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات فقال :
﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا، أو تحويل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم :﴿ فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ﴾ [ الأنبياء : ٥ ] وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابرتهم قد ادعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له في هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده.
﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾ أي إنه لا فائدة لكم في نزول الآيات إن لم يرد الله هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيئ لكم من أمره رشدا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزغات الشيطان ووساوسه، لتظفروا بالحسنى في الدارين.
والخلاصة : أن في القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين في الضلالة لا تلوون على شيء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح، لسوء استعدادكم، وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدي ولو جاءته كل آية ؟ كما قال :﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ [ يونس : ١٠١ ] وقال :﴿ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ٩٦ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦ -٩٧ ] وقال :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ﴾ [ الأنعام : ١١١ ].
تفسير المفردات : وتطمئن : أي تسكن وتخشع.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقر بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة بيّن هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيق على المؤمن زيادة في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جنات تجري من تحتها الأنهار.
أما من أقبلوا إلى الله وتأملوا في دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى، وحاصلون على السعادة في الدنيا والآخرة، وهم من أشار إليهم بقوله :
﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ﴾ أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب الله وسكنت حين ذكره، وإذا عرض لهم الشك في وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته في الآيات، وعجائب الكائنات، فرضي به مولى ورضي به نصيرا، ومن ثم قال :
﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ أي ألا بذكر الله وحده تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهي بمعنى قوله في الآية الأخرى :﴿ ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ [ الزمر : ٢٣ ].
فالمؤمنون إذا ذكروا عقاب الله ولم يأمنوا من وقوعهم في المعاصي وجلت قلوبهم كما قال :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ [ الأنفال : ٢ ] وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد وزال منها القلق والوحشة.
وفي الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء، إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها.
تفسير المفردات : وطوبى لهم : أي لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور. والمآب : المرجع والمنقلب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقر بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة بيّن هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيق على المؤمن زيادة في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جنات تجري من تحتها الأنهار.
ثم بيّن سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم فقال :
﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ﴾ أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفرح وقرة العين عند ربهم، وحسن المآب والمرجع.
وفي هذا من الترغيب في طاعته، والتحذير من معصيته، ومن شديد عقابه، ما لا خفاء فيه.
وخلاصة ذلك : أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء في الحديث :" فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل :
﴿ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ٣٠ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ٣١ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ٣٢ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد ٣٣ لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ﴾ [ الرعد : ٣٠ -٣٤ ].
تفسير المفردات :
خلت : مضت. متاب : مرجعي.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبيّن أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ؛ لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة أخشبيها –اسمي الجبلين- هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
الإيضاح :﴿ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك ﴾ أي كما أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلا فكذبوهم، كذلك أرسلناك في هذه الأمة، لتبليغهم رسالة الله إليهم، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم.
وخلاصة ذلك : إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم، فلماذا يقترحون غيره ؟
﴿ وهم يكفرون بالرحمان ﴾ أي وحالهم أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه، ووسعت كل شيء رحمته، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم، ولاسيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ].
وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتا أو أثبتوا له الشركاء.
﴿ قل هو ربي لا إله إلا هو ﴾ أي قل لهم : إن الرحمان الذي كفرتم به هو خالقي ومتولي أمري ومبلغي مراتب الكمال. لا رب غيره ولا معبود سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب في الكتاب : بسم الله الرحمان الرحيم. فقالت قريش : أما الرحمان فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللّهم، فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم، قال :" لا، اكتبوا كما يريدون " ا. ه.
﴿ عليه توكلت ﴾ أي عليه لا على غيره توكلت في جميع أموري، ولاسيما في نصرتي عليكم.
﴿ وإليه متاب ﴾ أي وإليه وحده توبتي، وهو بمعنى قوله :﴿ واستغفر لذنبك ﴾ وفي هذا بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطف سبيل، إذ أمر بها عليه السلام وهو منزّه عن اقتراف الذنوب، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحقّ وأجدر.
تفسير المفردات : قطعت : شققت. ييأس : يعلم وهو لغة هوازن قارعة : رزية تقرع القلوب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبيّن أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ؛ لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة أخشبيها –اسمي الجبلين- هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ﴾ أي ولو ثبت أن كتابا سيرت بتلاوته الجبال وزعزعت من أماكنها كما فعل بالطور لموسى عليه السلام.
﴿ أو قطعت به الأرض ﴾ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاه.
﴿ أو كلم به الموتى ﴾ أي وكلم أحد به الموتى في قبورهم بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد كما وقع لعيسى عليه السلام، لو ثبت هذا الشيء من الكتب لثبت لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله في الأنفس والآفاق، واشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم في الدار الفانية والدار الباقية، ومن قوانين العمران التي تكون خيرا لمتبعيها وفوزا لسالكيها، ويجعل منهم خير أمة أخرجت للناس، وهذا بمعنى قوله :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ﴾ [ الحشر : ٢١ ].
خلاصة ذلك : لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدّوه آية واقترحوا غيره.
ولا يخفى ما في هذا من تعظيم شأنه الكريم، ووصفهم بسخف العقل، وسوء التدبير والرأي، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغي أن يؤبه لها، ولا يلتفت إليها، لأنها صادرة عن التشهّي والهوى، والتمادي في الضلال والمكابرة والعناد، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح، وتأمل في حقائقها، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار.
ويجوز أن يكون المعنى : لو أن كتابا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به، لفرط عنادهم وغلوهم في مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾[ الأنعام : ١١١ ].
﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾ أي بل مرجع الأمور كلها بيد الله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد فما له من مضل.
وخلاصة ذلك : إن الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك، لعلمه أن قلوبهم لا تلين، ولا يجدي هذا فائدة في إيمانهم.
﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾ أي ألم يعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاء هداية الناس أجمعين لهداهم، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع في العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، ولكنه لم يشأ ذلك.
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " يريد أن كل نبي انقرضت معجزته بموته، وهذا القرآن حجة باقية على وجه الدهر، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء.
﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ﴾ أي ولا يزال الكافرون تصيبهم البلايا والرزايا، من القتل والأسر، والسلب والنهب، تماديهم في الكفر وتكذيبهم لك وإخراجك من بين أظهرهم.
﴿ أو تحل قريبا من دارهم ﴾ أي أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير شررها إليهم.
﴿ حتى يأتي وعد الله ﴾ أي حتى ينجز الله وعده الذي وعدك فيهم، بظهورك عليهم، وفتحك أرضهم، وقهرك إياهم بالسيف.
﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ أي إن الله منجزك ما وعدك من النصر عليهم، لأنه لا يخلف وعده كما قال :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ [ إبراهيم : ٤٧ ].
تفسير المفردات : أمليت : أي أمهلت مدة طويلة في أمن ودعة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبيّن أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ؛ لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة أخشبيها –اسمي الجبلين- هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
ولما كان الكفار يسألون النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه، ويتأذى منه، أنزل الله تسلية له على سفاهة قومه قوله :
﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك ﴾ أي إن يستهزئ بك هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبا لما جئتهم به فاصبر على أذاهم وامض لأمر ربك، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم.
ثم بيّن سبحانه شأنه مع المكذبين فقال :
﴿ فأمليت للذين كفروا ﴾ أي فتركتهم ملاوة أي مدة من الزمان في أمن ودعة كما يملى للبهيمة في المرعى.
﴿ ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ﴾ أي ثم أحللت بهم عذابي ونقمتي حين تمادوا في غيهم وضلالهم، فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم، ألم أذقهم العذاب وأجعلهم عبرة لأولي الألباب ؟
وقد صدق الله وعده، ونصر رسوله على عدوه، فدخل في دين الله من دخل، ومن أبي قتل، ودانت العرب كلها له وانضوت تحت لوائه، وحقت عليهم كلمة ربك، وفي هذا تعجيب مما حل بهم، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى.
تفسير المفردات : قائم : رقيب ومتول للأمور. تنبئونه : تخبرونه. بظاهر من القول : أي بباطل منه لا حقيقة له في الواقع. والسبيل : هو سبيل الحق وطريقه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبيّن أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ؛ لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة أخشبيها –اسمي الجبلين- هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الحجاج عليهم، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، وكيف إنها وصلت إلى حد لا ينبغي لعاقل أن يقبله ولا يرضى به فقال :
﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ أي أفمن هو قائم بحفظ أرزاق الخلق ومتولي أمورهم وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر ولا يعزب عنه شيء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرا، ولا تجلب لهم نفعا.
وخلاصة ذلك : أنه لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على إعراضهم عن تدبّر معانيها – بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها ٍرأي العين- كمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن اتخاذه ربا يرجى نفعه، أو يخشى ضره.
ونحو الآية قوله :﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] وقوله :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ﴾ [ هود : ٦ ] وقوله : وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعلمون بصير }[ الحديد : ٤ ].
﴿ وجعلوا لله شركاء ﴾ عبدوها معه من أصنام وأوثان وأنداد.
ثم عقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ فقال :
﴿ قل سموهم ﴾ أي صفوهم، فهل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة، وقد يكون المعنى، سموهم من هم وما أسماؤهم ؟ فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمّى، فإنما يسمى من ينفع ويضر.
﴿ أم تنبؤونه بما لا يعلم في الأرض ﴾ أي بل أتخبرونه بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها، وفي هذا نفي لوجودها، لأنها لو كانت موجودة لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
﴿ أم بظاهر من القول ﴾ أي بل أتسمونهم شركاء ظنا منكم أنهم ينفعون ويضرون كما تسمونهم آلهة كما قال :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ [ النجم : ٢٣ ].
وخلاصة حجاجه على المشركين : نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على أحقية عبادتها، فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ زاد ذلك إيضاحا فقال : وليتهم إذ أشركوا بربهم الذي لا ينبغي أن يشرك به، أشركوا به من له حقيقة واعتبار ومن ينفع ويضر، لا من لا اسم له فضلا عن المسمى، بل من لا يعرف له وجود في الأرض ولا في السماء، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه، ثم زاد على ذلك فقال : وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل وما هي إلا أصوات جوفاء كثيرة المباني خالية من المعاني.
﴿ بل زين للذين كفروا مكرهم ﴾ أي دع هذا الحجاج وألق به جانبا، فإنه لا فائدة فيه، لأنه زيّن لهم كيدهم، لاستسلامهم للشرك، وتماديهم في الضلال.
﴿ وصدوا عن السبيل ﴾ أي وصرفوا عن سبيل الحق، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.
﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾ أي ومن يخذله الله لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي فلا هادي له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة.
ونحو الآية قوله :﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ [ المائدة : ٤١ ]. وقوله :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ﴾ [ النحل : ٣٧ ].
تفسير المفردات : والواقي : الحافظ.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبيّن أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ؛ لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد بين جبلي مكة أخشبيها –اسمي الجبلين- هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
ثم بيّن عاقبة أمرهم فقال :
﴿ لهم عذاب في الحياة الدنيا ﴾ أي لهم عذاب شاق في هذه الحياة بالقتل والأسر وسائر الآفات التي تصيبهم بها.
﴿ ولعذاب الآخرة أشق ﴾ أي ولتعذيب الله إياهم في الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم في الدنيا وأشق لشدته ودوامه.
ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم فقال :
﴿ وما لهم من الله من واق ﴾ أي وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره.
﴿ * مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ٣٥ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مئاب ٣٦ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواؤهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ٣٧ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب ٣٨ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ﴾ [ الرعد : ٣٥ -٣٩ ].
تفسير المفردات : المثل : الصفة والنعت. والأكل : ما يؤكل. والظل : واحد الظلال والظلول والأظلال.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلم كقولهم : إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب : إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول : فأجيبوا عن ذلك بقوله :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
الإيضاح :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون ﴾ أي فيما نقصه عليك صفة الجنة التي وعد الله المتقين وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له.
﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ سارحة في أرجائها وجوانبها يصرّفونها كيف شاؤوا وأين أرادوا.
﴿ أكلها دائم ﴾ أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب التي لا تنقطع عنهم ولا تبيد.
﴿ وظلها ﴾ كذلك، فليس هناك حر ولا برد، ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى :﴿ لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ﴾[ الإنسان : ١٣ ].
وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث بيّن أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم فقال :
﴿ تلك عقبى الذين اتقوا ﴾ أي هذه الجنة عاقبة من اتّقوا ربهم فأقلعوا عن الكفر والمعاصي واجتراح السيئات، وعنت وجوههم للحي القيوم، وخافوا يوما تشيب من هوله الولدان، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
ثم بيّن عاقبة الكافرين بعدما بيّن عاقبة المتقين فقال :
﴿ وعقبى الكافرين النار ﴾ أي وعاقبة الكافرين بالله النار، بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام.
وفي الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين، وإقفاله بالرّتاج على الكافرين.
تفسير المفردات : والأحزاب : واحدهم حزب. وهو الطائفة المتحزبة : أي المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك. والمآب : المرجع.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلم كقولهم : إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب : إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول : فأجيبوا عن ذلك بقوله :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
ثم بيّن أن أهل الكتاب انقسموا فئتين : فئة فرحت بنزول القرآن، وفرقة أنكرته وكفرت ببعضه فقال :
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ﴾ من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾ [ البقرة : ١٢١ ] وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ أي ومن جماعتهم الذين تحزّبوا وتألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهم، من أنكر بعض القرآن وهو ما لم يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم.
ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب في شأنه صلى الله عليه وسلم، بيّن بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين فقال :
﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ﴾ أي قل لهم صادعا بالحق ولا تكترث بمن ينكره إني أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله وحده ولا أشرك به شيئا سواه، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره وأطبقت عليه الشرائع والكتب كما قال :﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾ [ آل عمران : ٦٤ ].
وذلك ما دلت الدلائل التي في الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له والاعتراف به :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ﴿ إليه أدعو ﴾ أي إلى طاعته وإخلاص العبادة له وحده أدعو الناس.
﴿ وإليه مآب ﴾ أي وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء، ولا خلاف بيننا في هذا، فالعجب لكم أن تنكروا المتفق عليه، وتختلفوا فيما لا محل للخلاف فيه.
وهذه الآية جامعة لشؤون النشأة الأولى والآخرة، فقوله :﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ﴾ توحي إلى ما جاء به التكليف. وقوله :﴿ إليه أدعو ﴾ تشير إلى مهامّ الرسالة، وقوله :﴿ وإليه مآب ﴾ تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة.
تفسير المفردات : والواقي : الحافظ.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلم كقولهم : إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب : إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول : فأجيبوا عن ذلك بقوله :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
ثم بيّن سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلا بلغات أقوامهم فقال :
﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ﴾ أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب، أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره. وسمي القرآن حكما : أي فصلا للأمر على وجه الحق لأن فيه بيان الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه المكلفون ليصلوا إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد جاء بمعنى الآية قوله :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ﴾ [ إبراهيم : ٤ ].
ثم إن أهل مكة دعوه إلى أمور يشاركهم فيها فقال :
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ﴾ أي ولئن اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ابتغاء رضاهم، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم في شيء مما يعتقدونه.
﴿ ما لك من الله من ولي ولا واق ﴾ أي ليس لك من دون الله وليّ ولا ناصر ينصرك، فينقذك منه إن هو أراد عقابك، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك، فاحذر أن تتبع أهواءهم وتنهج نهجهم.
وقد تقدم أن مثل هذا من وادي قولهم :" إياك أعني واسمعي يا جاره " فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيّج.
ونزل لما عابت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة النساء، فقالوا : لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء.
تفسير المفردات : والأجل : الوقت والمدة. والكتاب : الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلم كقولهم : إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب : إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول : فأجيبوا عن ذلك بقوله :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ﴾ أي وكما أرسلناك رسولا بشريا، كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفية التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمهن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين، وناهيك بأم المؤمنين عائشة وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء " ومن ثم كانت أكثر من حدّث عن رسول الله بعد أبي هريرة، وأكثر من حدث عن شمائله وأخلاقه في السر والعلن، ومنها علم المسلمون كثيرا من أحكام دينهم، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا وكانت تحاجهم وتجادلهم، وتلزمهم الحجة ولا يجدون معدلا عن التسليم برأيها.
وروي أن المشركين طعنوا في نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات فنزل قوله :﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾ أي وما كان في وسع رسول من الرسل أن يأتي من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن في الإتيان بها حكما ومصالح لعباده، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر، وغناء لمن تفكر وتدبر، ولكنهم أبوا إلا التمادي في الغواية والضلال كما تقدم من مقال عبد الله بن أبي أمية.
والآيات المقترحة لا تأتي إلا على مقتضى الحكمة في أزمان يعلمها الله، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس، ولا صلاح فيما اقترحوه، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره، وأن يجعل له مهد ينام فيه ؟ كذلك لا حكمة في إنزال الآيات التي اقترحوها، وهذا إيضاح قوله :
﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها، ولا عذاب مما خوّفوا به بحاصل في غير وقته، ولا نبوة بحاصلة في غير الزمان المقدر لها، فموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام جاؤوا في أزمنة رأى الله الصلاح في وجودهم فيما لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم، كلها كتبت في آجال ومدد معينة لا تقديم ولا تأخير.
ونحو الآية قوله :﴿ لكل نبأ مستقر ﴾ [ الأنعام : ٦٧ ].
فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتّبت أعماله، ووضعت عماله في حجر معينة، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة، في أوقات معينة، ولهم مناهج يتبعونها، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل، فالدنيا قد جعل الله لها نظاما على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلق بها علمه، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب وظهر النبات والحيوان وتعاقب الموت والحياة، وظهرت نجوم وفنيت أخرى، ونبت زرع وحصد آخر ومات نبي وقام آخر، وامتد دين وانتشر، وتقلّص دين ونسخ.
وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى، وذلك تابع لما في المنهج الأصلي، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها، كما ينسخ زرع بزرع، وليل بنهار، وقوم بقوم، ودين نبي بآخر في ميقاته المعين في علمه تعالى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
تفسير المفردات : والمحو : ذهاب أثر الكتابة. وأم الكتاب : أصله وهو علم الله تعالى.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين في جنات تجري من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلم كقولهم : إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب : إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول : فأجيبوا عن ذلك بقوله :﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
﴿ يمحوا الله ما يشاء ويثبت ﴾ وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها بل هي داخلة فيما سلف :
( ١ ) قال الحسن : يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.
( ٢ ) وقال عكرمة : يمحو الله القمر ويثبت الشمس.
( ٣ ) وقال الربيع : يقبض الله الأرواح حين النوم، فيميت من يشاء ويمحوه ويرجع من يشاء فيثبته.
( ٤ ) وقال السدي : يمحو الله القمر ويثبت الشمس.
( ٥ ) وقال آخرون : يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ولا يبدله.
( ٦ ) وقال آخر : يمحو الله المحن والمصايب بالدعاء.
﴿ وعنده أم الكتاب ﴾ هو علم الله، وجميع ما يكتب في صحف الملائكة لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه فهو أم لذلك، فكأنه قيل يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء وهو ثابت عنده في علمه الأزلي الذي لا يكون شيء إلا وفق ما فيه.
﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ٤٠ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ٤١ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفر لمن عقبى الدار ٤٢ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب١٠٠٠ ﴾ [ الرعد : ٤٠ -٤٣ ].
المعنى الجملي : سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى وقوع بعض ما توعدوا به ليكون زاجرا لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال، ثم بيّن أن قومه ليسوا ببدع في الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة ؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفي شهادته غني عن شهادة أي شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه في كتبهم.
الإيضاح :﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أن نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ أي إن أريناك أيها الرسول في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر ٢١ لست عليهم بمصيطر ٢٢ إلا من تولى وكفر ٢٣ فيعذبه الله العذاب الأكبر ٢٤ إن إلينا إيابهم ٢٥ ثم إن علينا حسابهم ﴾ [ الغاشية : ٢١ -٢٦ ].
تفسير المفردات : الأطراف : الجوانب. المعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق معقب، لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب.
المعنى الجملي : سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى وقوع بعض ما توعدوا به ليكون زاجرا لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال، ثم بيّن أن قومه ليسوا ببدع في الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة ؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفي شهادته غني عن شهادة أي شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه في كتبهم.
﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ أي أشك أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات، ولم يروا أنا نأتي الأرض فنفتحها لك أرضا بعد أرض، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء، أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله، ونذيرا بما سيحل بهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة لو تدبروا، فما لهم عن التذكرة معرضين ؟
ونحو الآية قوله :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ].
﴿ والله يحكم لا معقب لحكمه ﴾ أي والله يحكم وحكمه النافذ الذي لا يردّ، ولا يستطيع أحد أن يبطله، وقد جرت سنته أن الأرض يستعمرها عباده الصالحون بالعدل فيها والسير على نهج المساواة وترك الظلم. وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال على ما وضع من السنن العامة، وعلى أعدائهم بالإدبار وركود ريحهم لما سلكوه من الظلم والفساد في الأرض.
﴿ وهو سريع الحساب ﴾ فعمّا قريب سيحاسبهم في الآخرة كفاء ما دنسوا به أنفسهم وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم في الدنيا بالقتل والأسر، فلا تستبطئ عقابهم، فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب.
تفسير المفردات : والمكر : إرادة المكروه في خفية، وعقبى الدار : أي العاقبة الحميدة، والأم : أصل الشيء وما يجري مجراه، كأم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة.
المعنى الجملي : سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى وقوع بعض ما توعدوا به ليكون زاجرا لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال، ثم بيّن أن قومه ليسوا ببدع في الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة ؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفي شهادته غني عن شهادة أي شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه في كتبهم.
ثم بيّن أن قومه ليسوا ببدع في الأمم، قد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر فقال :
﴿ وقد مكر الذين من قبلهم ﴾ أي وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كما فعل نمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، ثم دارت الدائرة على الظالمين، وأهلك الله المفسدين.
وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصبير بأن العاقبة له لا محالة.
﴿ فلله المكر جميعا ﴾ أي إن مكر الماكرين لا يضر إلا بإذنه تعالى، ولا يؤثر إلا بتقديره، فيجب ألا يكون الخوف إلا منه تعالى. وفي هذا أمان له صلى الله عليه وسلم من مكرهم. ﴿ يعلم ما تكسب كل نفس ﴾ فيعصم أولياءه ويعاقب الماكرين بهم، ليوفي كل نفس جزاء ما كسبت.
وفي هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين.
ثم أكد هذا التهديد بقوله :
﴿ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ﴾ أي وسيعلم الكفار إذا قدموا إلى ربهم يوم القيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة ويدخلون النار، لمن العاقبة المحمودة إذ ذاك، وإن جهلوا ذلك من قبل ؟
المعنى الجملي : سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى وقوع بعض ما توعدوا به ليكون زاجرا لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال، ثم بيّن أن قومه ليسوا ببدع في الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة ؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفي شهادته غني عن شهادة أي شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه في كتبهم.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقفّ من اليمن فقال له عليه السلام :" هل تجدني في الإنجيل رسولا ؟ " قال لا، فأنزل الله تعالى :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا ﴾ أي ويقول الجاحدون لنبوتك، الكافرون برسالتك، لست رسولا من عند الله أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان، وتصلح حال المجتمع البشري، وتمنع عنه الظلم والفساد.
﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ أي قل حسبي الله شاهدا بتأييد رسالتي، وصدق مقالتي، إذ أنزل عليّ هذا الكتاب الذي أعجز البشر قاطبة أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ وهم من أسلم من أهل الكتابيين التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته في كتابهم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي رضي الله عنهم.
Icon