تفسير سورة الرعد

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الرَّعْدِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (المر) : قَدْ ذُكِرَ حُكْمُهَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.
(تِلْكَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَ «آيَاتُ الْكِتَابِ» : خَبَرُهُ. وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ (المر). وَ «آيَاتُ» بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ) : فِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَ «الْحَقُّ» : خَبَرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ «مِنْ رَبِّكَ» وَ «الْحَقُّ» خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ كِلَاهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ قُرِئَ الْحَقُّ بِالْجَرِّ، لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرَبِّكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «وَالَّذِي» صِفَةً لِلْكِتَابِ، وَأُدْخِلَتِ الْوَاوُ فِي الصِّفَةِ كَمَا أُدْخِلَتْ فِي التَّائِبِينَ وَالطَّيِّبِينَ.
وَ (الْحَقُّ) : بِالرَّفْعِ عَلَى هَذَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) : الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، تَقْدِيرُهُ: خَالِيَةٌ عَنْ عَمَدٍ.
وَالْعَمَدُ: بِالْفَتْحِ: جَمْعُ عِمَادٍ، أَوْ عَمُودٍ، مِثْلَ: أَدِيمٍ وَأَدَمٍ، وَأَفِيقٍ وَأَفَقٍ، وَإِهَابٍ وَأَهَبٍ، وَلَا خَامِسَ لَهَا.
وَيُقْرَأُ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَرَسُولٍ وَرُسُلٍ.
(تَرَوْنَهَا) : الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ يَعُودُ عَلَى الْعَمَدِ ; فَيَكُونُ «تَرَوْنَهَا» فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى السَّمَاوَاتِ، فَيَكُونُ حَالًا مِنْهَا.
(يُدَبِّرُ)، وَ (يُفَصِّلُ) : يُقْرَآنِ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَمَعْنَاهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُمَا مُسْتَأْنَفَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي سَخَّرَ، وَالثَّانِي حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «يُدَبِّرُ»..
قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِجَعَلَ الثَّانِيَةِ ; وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنِ اثْنَيْنِ، وَهُوَ صِفَةٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَعَلَ الْأُولَى، وَيَكُونُ جَعَلَ الثَّانِي مُسْتَأْنَفًا.
(يُغْشِي اللَّيْلَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهِيَ: رَفَعَ، وَسَخَّرَ، وَيُدَبِّرُ، وَيُفَصِّلُ، وَمَدَّ، وَجَعَلَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ فَاعِلِ الظَّرْفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «قِطَعًا مُتَجَاوِرَاتٍ»، عَلَى تَقْدِيرِ وَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ.
وَ (وَجَنَّاتٌ) كَذَلِكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَ «زَرْعًا» بِالنَّصْبِ وَلَكِنْ رَفَعَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قِطَعٍ ; وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ. وَجَرَّهُ آخَرُونَ عَطْفًا عَلَى «أَعْنَابٍ» وَضَعَّفَ قَوْمٌ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ; لِأَنَّ الزَّرْعَ لَيْسَ مِنَ الْجَنَّاتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ زَرْعٌ، وَلَكِنْ بَيْنَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَنَبَاتُ زَرْعٍ، فَعَطَفَهُ عَلَى الْمَعْنَى.
وَالصِّنْوَانُ: جَمْعُ صِنْوٍ، مِثْلَ قِنْوٍ وَقِنْوَانٍ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَصْنَاءٍ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: كَسْرُ الصَّادِ وَضَمُّهَا وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
(تُسْقَى) الْجُمْهُورُ عَلَى التَّاءِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلْجَمْعِ السَّابِقِ. وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ ; أَيْ يُسْقَى ذَلِكَ.
وَ
(نُفَضِّلُ) : يُقْرَأُ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَبِالْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَ «بَعْضُهَا» بِالرَّفْعِ ; وَهُوَ بَيِّنٌ.
(فِي الْأُكُلِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِنُفَضِّلُ. وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ بَعْضِهَا ; أَيْ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا مَأْكُولًا ; أَوْ وَفِيهِ الْأُكْلُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) : قَوْلُهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَعَجَبٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.
وَقِيلَ: الْعَجَبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُعْجِبِ ; فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ «قَوْلُهُمْ» بِهِ.
(أَئِذَا كُنَّا) : الْكَلَامُ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا فِعْلٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ ; تَقْدِيرُهُ: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا نُبْعَثُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِكُنَّا ; لِأَنَّ «إِذَا» مُضَافَةٌ إِلَيْهِ ; وَلَا بِجَدِيدٍ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ «إِنَّ» لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَسْتَعْجِلُونَكَ ; وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ السَّيِّئَةِ مَقَدَّرَةً.
وَ (الْمَثُلَاتُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَضَمِّ الثَّاءِ، وَاحِدَتُهَا كَذَلِكَ.
يُقْرَأُ بِإِسْكَانِ التَّاءِ ; وَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْجَمْعِ الْمَضْمُومِ فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ الضَّمَّةِ مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاحِدَ خُفِّفَ ثُمَّ جُمِعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقْرَأُ بِضَمَّتَيْنِ، وَبِضَمِّ الْأَوَّلِ وَإِسْكَانِ الثَّانِي، وَضَمُّ الْمِيمِ فِيهِ لُغَةٌ، فَأَمَّا ضَمُّ الثَّاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً فِي الْوَاحِدِ، وَأَنْ يَكُونَ اتْبَاعًا فِي الْجَمْعِ، وَأَمَّا إِسْكَانُهَا فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ.
(عَلَى ظُلْمِهِمْ) : حَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَالْعَامِلُ الْمَغْفِرَةُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ; أَيْ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ نَبِيٌّ هَادٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ ; وَفِي هَذَا فَصْلٌ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ، وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْهُ قَدْرًا صَالِحًا.
قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا تَحْمِلُ) : فِي «مَا» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ بِيَعْلَمُ.
وَالثَّانِي: هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ ; فَتَكُونُ مَنْصُوبَةً بِتَحْمِلُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَمِثْلُهُ: «وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ».
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «عِنْدَهُ» فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِشَيْءٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ صِفَةٍ لِكُلِّ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَحْذُوفٌ ; وَخَبَرُ «كُلُّ» : بِمِقْدَارٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمِقْدَارٍ، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ.
قَالَ تَعَالَى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَالِمُ الْغَيْبِ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَ «الْكَبِيرُ» خَبَرُهُ.
وَالْجَيِّدُ الْوَقْفُ عَلَى «الْمُتَعَالِ» بِغَيْرِ يَاءٍ ; لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْجَيِّدُ إِثْبَاتَهَا.
قَالَ تَعَالَى: ﴿سَوَاء مِنْكُم من أسر القَوْل وَمن جهر بِهِ وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ وسارب بِالنَّهَارِ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) :«مَنْ» مُبْتَدَأٌ، وَ «سَوَاءٌ» خَبَرٌ. فَأَمَّا «مِنْكُمْ» فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «سَوَاءٌ» ; لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَوٍ ; وَمِثْلُهُ: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) [الْحَدِيدُ: ١٠].
وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ «مِنْكُمْ» حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «أَسَرَّ» وَ «جَهَرَ» ; لِوَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُ مَا فِي الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ، أَوِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ. وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى «مِنْكُمْ» وَحَقُّهُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) : وَاحِدَتُهَا مُعَقِّبَةٌ، وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ ; مِثْلَ نَسَّابَةٍ ; أَيْ مَلَكٌ مُعَقِّبٌ.
وَقِيلَ: مُعَقِّبَةٌ: صِفَةٌ لِلْجَمْعِ، ثُمَّ جُمِعَ عَلَى ذَلِكَ.
(مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمُعَقِّبَاتٍ ; وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا ; وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِيهِ ; فَعَلَى هَذَا يَتِمُّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ «يَحْفَظُونَهُ» أَيْ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَحْفَظُونَهُ» صِفَةً لِمُعَقِّبَاتٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الظَّرْفُ.
(مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) : أَيْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَتَكُونُ «مِنْ» عَلَى بَابِهَا. وَقِيلَ: «مِنْ» بِمَعْنَى الْبَاءِ ; أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَنْ.
(وَإِذَا أَرَادَ) : الْعَامِلُ فِي «إِذَا» مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ ; أَيْ لَمْ يُرَدَّ، أَوْ وَقَعَ.
(مِنْ وَالٍ) : يُقْرَأُ بِالْإِمَالَةِ مِنْ أَجْلِ الْكَسْرَةِ، وَلَا مَانِعَ هُنَا.
قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَوْفًا وَطَمَعًا) : مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ.
وَ (السَّحَابَ الثِّقَالَ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) : قِيلَ: هُوَ مَلَكٌ ; فَعَلَى هَذَا قَدْ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ ; وَقِيلَ: الرَّعْدُ صَوْتُهُ ; وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: ذُو الرَّعْدِ، أَوِ الرَّاعِدُ.
وَ (بِحَمْدِهِ) قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَ (الْمِحَالِ) : فِعَالٌ مِنَ الْمَحْلِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، يُقَالُ: مَحَلَ بِهِ، إِذَا غَلَبَهُ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى فَتْحُ الْمِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : فِيهِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَصْنَامِ ; أَيْ وَالْأَصْنَامُ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عِبَادَتِهِمْ «لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ» : وَجَمَعَهُمْ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِيهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ ; أَيْ لَا يُجِيبُونَهُمْ ; أَيْ إِنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُجِيبُهُمْ بِشَيْءٍ.
(إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ) : التَّقْدِيرُ: إِلَّا اسْتِجَابَةً كَاسْتِجَابَةِ بَاسِطٍ كَفَّيْهِ. وَالْمَصْدَرُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ: مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) [فُصِّلَتْ: ٤٩]. وَفَاعِلُ هَذَا الْمَصْدَرِ مُضْمَرٌ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَاءِ ; أَيْ لَا يُجِيبُونَهُمْ إِلَّا كَمَا يُجِيبُ الْمَاءُ بَاسِطَ كَفَّيْهِ إِلَيْهِ، وَالْإِجَابَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) - فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِبَاسِطٍ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمَاءِ ; أَيْ لِيَبْلُغَ الْمَاءُ فَاهُ.
وَ (مَا هُوَ) ; أَيِ الْمَاءُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْبَاسِطِ عَلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ «بَالِغٍ» مُضْمَرًا ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ لَزِمَ إِبْرَازُ الْفَاعِلِ ; فَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ الْمَاءَ ; فَإِنْ جَعَلْتَ الْهَاءَ فِي «بَالِغِهِ» ضَمِيرَ الْمَاءِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ الْبَاسِطِ.
وَالْكَافُ فِي «كَبَاسِطِ» إِنْ جَعَلْتَهَا حَرْفًا كَانَ مِنْهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَمِيرٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طَوْعًا وَكَرْهًا) : مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (ظِلَالُهُمْ) : مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ.
وَ (بِالْغُدُوِّ) : ظَرْفٌ لِيَسْجُدُ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي) :
يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَقَدْ سَبَقَتْ نَظَائِرُهُ.
قَالَ تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْدِيَةٌ) : هُوَ جَمْعُ وَادٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ عَلَى أَفْعِلَةٍ شَاذٌّ، وَلَمْ نَسْمَعْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَرْفِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ فَاعِلًا قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى فَعِيلٍ، وَكَمَا جَاءَ فَعِيلٌ وَأَفْعِلَةٌ كَجَرِيبٍ وَأَجْرِبَةٍ، كَذَلِكَ فَاعِلٌ.
(بِقَدَرِهَا) : صِفَةٌ لِأَوْدِيَةٍ.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ) : بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ.
(عَلَيْهِ فِي النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِيُوقِدُونَ.
وَ (ابْتِغَاءَ) : مَفْعُولٌ لَهُ.
(أَوْ مَتَاعٍ) : مَعْطُوفٌ عَلَى حِلْيَةٍ ; وَ «زَبَدٌ» : مُبْتَدَأٌ، وَ «مِثْلُهُ» : صِفَةٌ لَهُ، وَالْخَبَرُ «مِمَّا يُوقِدُونَ».
وَالْمَعْنَى: وَمِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالنُّحَاسِ مَا فِيهِ زَبَدٌ - وَهُوَ خُبْثُهُ - مِثْلُهُ ; أَيْ مِثْلُ الزَّبَدِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْمَاءِ.
وَ (جُفَاءً) حَالٌ، وَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ. وَقِيلَ: هِيَ أَصْلٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨)).
(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا) : مُسْتَأْنَفٌ. وَهُوَ خَبَرُ «الْحُسْنَى».
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُوفُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي.
قَالَ تَعَالَى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : هُوَ بَدَلٌ مِنْ «عُقْبَى» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَ «يَدْخُلُونَهَا» الْخَبَرُ.
وَ
(وَمَنْ صَلَحَ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، وَسَاغَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤَكَّدْ ; لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ صَارَ فَاصِلًا كَالتَّوْكِيدِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِمَعْنَى مَعَ.
قَالَ تَعَالَى: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَلَامٌ) : أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ.
(بِمَا صَبَرْتُمْ) : لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِسَلَامٍ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بِالْخَبَرِ ; وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِعَلَيْكُمْ، أَوْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ) : التَّقْدِيرُ فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَا لِلْحَيَاةِ وَلَا لِلدُّنْيَا ; لِأَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ فِي الْآخِرَةِ ; وَإِنَّمَا هُوَ حَالٌ ; وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا الْحَيَاةُ الْقَرِيبَةُ كَائِنَةٌ فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِذِكْرِ اللَّهِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ ; أَيِ الطُّمَأْنِينَةَ بِهِ ; أَيِ الطُّمَأْنِينَةَ تَحْصُلُ لَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ ; أَيْ تَطْمَئِنُّ وَفِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) : مُبْتَدَأٌ وَ (طُوبَى لَهُمْ) : مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا ; فَيَكُونُ «طُوبَى» لَهُمْ حَالًا مُقَدَّرَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا آمَنُوا وَعَمِلُوا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «الَّذِينَ» بَدَلًا مِنْ (مَنْ أَنَابَ) [الرَّعْدُ: ٢٧]، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «طُوبَى» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ جَعَلَ.
وَوَاوُهَا مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ ; لِأَنَّهَا مِنَ الطِّيبِ، أُبْدِلَتْ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا.
وَ (حُسْنُ مَآبٍ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «طُوبَى» إِذَا جَعَلْتَهَا مُبْتَدَأً.
وَقُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْإِضَافَةِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى طُوبَى فِي وَجْهِ نَصْبِهَا.
وَيُقْرَأُ شَاذًّا بِفَتْحِ النُّونِ وَرَفْعِ مَآبٍ، وَ «حَسُنَ» عَلَى هَذَا فِعْلٌ نُقِلَتْ ضَمَّةُ سِينِهِ إِلَى الْحَاءِ ; وَهَذَا جَائِزٌ فِي فَعُلَ إِذَا كَانَ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ.
قَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ) : التَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرْنَاكَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا) : جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ ; أَيْ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ ; أَيْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا، عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) : الْوَجْهُ فِي حَذْفِ التَّاءِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي الْفِعْلَيْنِ قَبْلَهُ أَنَّ الْمَوْتَى يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُذَكَّرِ الْحَقِيقِيِّ وَالتَّغْلِيبِ لَهُ ; فَكَانَ حَذْفُ التَّاءِ أَحْسَنَ، وَالْجِبَالُ وَالْأَرْضُ لَيْسَا كَذَلِكَ.
(أَنْ لَوْ يَشَاءُ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَيْأَسْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَفَلَمْ يَتَبَيَّنْ وَيَعْلَمْ؟.
(أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا) : فَاعِلُ «تَحُلُّ» ضَمِيرُ الْقَارِعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْخِطَابِ ; أَيْ أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَرِيبًا مِنْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ ; فَيَكُونُ مَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبًا، عَطْفًا عَلَى تُصِيبُ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَسَبَتْ»، أَيْ وَبِجَعْلِهِمْ شُرَكَاءَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
(وَصُدُّوا) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الصَّادِ ; أَيْ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ، وَبِضَمِّهَا ; أَيْ وَصَدَّهُمُ الشَّيْطَانُ أَوْ شُرَكَاؤُهُمْ ; وَبِكَسْرِهَا ; وَأَصْلُهَا صُدِدُوا بِضَمِّ الْأَوَّلِ، فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الدَّالِ إِلَى الصَّادِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ) : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ ; فَعَلَى هَذَا (تَجْرِي) : حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ فِي «وُعِدَ» أَيْ وُعِدَهَا مُقَدَّرًا جَرَيَانُ أَنْهَارِهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخَبَرُ «تَجْرِي» وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ الْمَثَلَ لَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَشُبْهَتُهُ أَنَّ الْمَثَلَ هُنَا بِمَعْنَى الصِّفَةِ ; فَهُوَ كَقَوْلِكَ: صِفَةُ زَيْدٍ أَنَّهُ طَوِيلٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «تَجْرِي» مُسْتَأْنَفًا.
(أُكُلُهَا دَائِمٌ) : هُوَ مِثْلُ (تَجْرِي) فِي الْوَجْهَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَنْقُصُهَا) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، أَوْ مِنَ الْأَرْضِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) : يُقْرَأُ عَلَى الْإِفْرَادِ وَهُوَ جِنْسٌ، وَعَلَى الْجَمْعِ عَلَى الْأَصْلِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ عِنْدَهُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ ;
Icon