ﰡ
صفة القرآن ومنزله
أنزل الله تعالى القرآن الكريم تذكيرا للبشرية وتقويما لاعوجاج الناس، وحملا لهم على التزام جادة الاستقامة، والذي أنزل القرآن: هو خالق الأرض والسماء، وهو الرحمن صاحب العرض الأعظم، وله السلطان المطلق على جميع ما في السموات والأرض وما بينهما، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، الإله الواحد الأحد، العالم بالسر والعلن، وبما هو أخفى من السر: وهو حديث القلب والنفس، ومن كان بهذه الصفات، كان جديرا بالناس المخاطبين بكلامه التزام أمره ونهيه، والعمل بدستوره لإسعاد أنفسهم، قال الله تعالى مبينا هذه المعاني في أوائل سورة طه المكية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
«١» «٢» «٣» [طه: ٢٠/ ١- ٨].
اختصت كلمة طه بأقوال تختلف عن بقية حروف المعجم التي بدئ بها بعض من سور القرآن، منها: أن طه اسم من أسماء محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مقبول، لأن ما بعد طه لا يصح أن يكون خبرا عنها (طه) : حروف ط، ها. واختصت أيضا
(٢) ما واراه التراب من الكنوز وغيرها.
(٣) حديث النفس.
وسبب نزول هذه الآية: إنما هو ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتحمله من مشقة الصلاة، حتى كانت قدماه تتورمان، وتحتاجان إلى الترويح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب حتى لا تحتاج إلى الترويح (أي الوقوف على قدم وإراحة الثانية من التعب).
يا طه، لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسّفك عليهم وعلى كفرهم، فإن إيمانهم ليس إليك، بل أنزلناه لتبلّغ وتذكّر، فحسبك التبليغ والتذكير، ولا تلتفت بعدئذ لإعراض المعاندين، ولا ترهق نفسك وتتعبها بحملهم على قبول دعوتك.
وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكّر به من يخاف عذاب الله، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة، وليس عليك جبرهم على الإيمان، كما جاء في آية أخرى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٢/ ٤٨]، وآية لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) [الغاشية: ٨٨/ ٢٢].
وفي هذا إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم على إعراض قومه عن دعوته، وضيق نفسه على تصميمهم على الكفر.
وهذا القرآن المنزل عليك يا محمد: إنما هو تنزيل من خالق الأرض والسموات العلى، والمراد جهة السفل والعلو، الأرض بانخفاضها وكثافتها، والسماوات في ارتفاعها ولطافتها. والمراد بالآية: إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن، ليقدروا القرآن حق قدره.
ومنزل القرآن: هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو الذي استوى على العرش، وهو استواء نؤمن به من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل، وبلا كيف ولا انحصار.
والله تعالى عالم بالجهر والسر، وما أخفى منه مما يخطر بالبال، أو يجري من خواطر القلب وأحاديث النفس، فالله عالم بكل ذلك، وعلمه سواء، لا يختلف فيه السر عن الجهر.
وإن صفات المجد والكمال المتقدمة: هي لله المعبود الحق، الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال، والتقديس والتمجيد.
ومن كانت هذه صفاته، وجب تعظيمه وتقديسه، وإفراده بالعبادة، والطاعة، والتزام أمره ونهيه، لأنه سبحانه لا يريد ولا يفعل إلا الخير والمصلحة لعباده، فما أجدرهم بتقبل وجه المصلحة، والبعد عن المضرة والمفسدة.
مناجاة موسى ربه
اختص كل نبي ببعض المعجزات الخارقة للعادة لتكون دليلا على صدقهم، منها معجزات مادية وأخرى معنوية أدبية، وقد اختص موسى عليه السلام بصفة كونه كليم الله في عالم الدنيا في الوادي المقدس طوى، وهي صفة عظيمة بتقدير الله وإحسانه وإعداده، والله إذا أراد شيئا هيّأ أسبابه، ووطّد أركانه ودعائمه، لذا حقّ أن تذكر هذه الحادثة العظيمة، ليتأمل بها أعداء الأديان، وتبقى أثرا حيا موقظا للإيمان في قلوب المؤمنين ومشاعرهم، وهذا ما نصت عليه آي القرآن الآتية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
«١»
هذا الاستفهام: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) تنبيه النفس إلى ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت إخباره بأمر غريب، فتقول: أعلمت كذا وكذا؟ ثم تبدأ تخبره. فالبدء بالاستفهام لتثبيت الخبر وتقريره في نفس المخاطب. أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وذلك حين رجع موسى إلى مصر بعد زواجه بابنة شعيب عليه السلام ورعيه أغنامه عشر سنوات.
هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة، لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر. فقال موسى لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: امكثوا في مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلي أوفيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب أو جذوة من النار، كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون بها، بسبب وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها.
فلما أتى موسى النار التي آنسها، واقترب منها، نودي من قبل الله تعالى: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن الأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى، (طوى) من أرض سيناء.
(٢) هاديا إلى الطريق.
(٣) المطهّر أو المبارك.
(٤) اسم الوادي.
(٥) أقارب سترها من نفسي.
(٦) فتهلك.
وأدّ يا موسى الصلاة المفروضة المأمور بها كاملة الأركان والشروط، لتذكرني فيها، وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخصّ الصلاة لله بالذكر، لكونها أشرف طاعة، وأفضل عبادة.
أخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».
وملتقى جميع الجهود البشرية والبشر هو يوم القيامة، لذا أعقب الله تعالى إعلان التوحيد وإيجاب الصلاة بالإخبار عن مجيء الساعة، أي القيامة، فذكر أن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير، من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتمي لازم، لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها.
والله أخفى الساعة، أي القيامة، وأخفى أجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة، فكلمة أَكادُ أُخْفِيها أي أقارب، و (أكاد) زائدة لمعنى، أي إن الساعة آتية أخفيها لحكمة تقتضي ذلك.
أشهر معجزتين لموسى عليه السلام
كان موسى عليه السلام من الرسل أولي العزم وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أيد الله موسى لإثبات نبوته أمام قومه بني إسرائيل بمعجزات كثيرة، أهمها انقلاب العصا حية، واليد البيضاء التي تشع
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [طه: ٢٠/ ١٧- ٢٣].
معجزة العصا لموسى عليه السلام: هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل. وبدأ إظهار المعجزة بسؤال الله لموسى سؤال تقرير لأن الله عليم بكل شيء، للتنبيه على كمال قدرة الله، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات، وليتأكد موسى وغيره أن ما بيد موسى عصا حقيقية يعرفها، قال الله له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) ؟ قالَ هِيَ عَصايَ.. أي قال موسى: هي عصاي، ثم ذكر فائدتين لعصاه استمتاعا بمتعة الكلام الإلهي.
وهاتان الفائدتان: أى عصاي أعتمد عليها في حال المشي، وأخبط بها الشجر وأهزه، ليسقط منه الورق، لتأكله الغنم، ولي في هذه العصا مصالح ومنافع أخرى غير ذلك، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم.
قال الله تعالى لموسى: ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى. فألقاها موسى على الأرض، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة، تتحرك بسرعة، وتمشي وتضطرب، وتلتقم الحجارة.
(٢) أخبط بها الشجر لإسقاط الورق.
(٣) حاجات.
(٤) إلى حالتها السابقة. [.....]
(٥) تحت العضد الأيسر.
(٦) من غير داء.
ثم أمر الله تعالى موسى أن يضم يده إلى جناحه، أي إلى جنبه، وهو الجناح استعارة ومجازا. يا موسى اضمم يدك اليمنى إلى جنبك تحت العضد، واجعلها تحت الإبط الأيسر، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع، يضيء بالليل والنهار، كضوء الشمس والقمر، من غير سوء، أي من غير برص ولا أذى ولا شين ولا مثلة، علما بأن جلد موسى كان أسمر، وهذه معجزة أخرى غير العصا.
ثم رد يده بعد وضعها على جنبه، فعادت كما كانت بلونها الأسمر المعتاد، وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد.
كان موسى عليه السلام يكرر أيضا هذه المعجزة، فإذا أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر، قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل.
ثم قال الله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) أي فعلنا هذا بك لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء، في السماوات والأرض، والمخلوقات الموجودات، وقد وصف الله تعالى الآيات بالكبرى، على ما تقدم من قوله، لمناسبة أواخر الآيات: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ومَآرِبُ أُخْرى ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين بأنهما أكبر الآيات، كأنه قال: لنريك الكبرى من آياتنا، فهما معنيان.
والخلاصة: لما أراد الله تبارك وتعالى أن يدرّب موسى على تلقي النبوة وتكاليفها،
بدء بعثة موسى عليه السلام
لكل نبي في بدء بعثته، نبيا أو رسولا، ظروف وأحوال مثيرة، وعجائب مدهشة، تتناسب مع العصر الذي يعيش فيه، وتتميز البعثة النبوية بالتكليف الإلهي الحاسم في تبليغ كل رسول رسالة ربه، ودعوته إلى عبادة الله، فهي صميم الرسالة وجوهر الدعوة، وفي هذه البداية طلب موسى من ربه في الجملة، أربعة أمور: شرح صدره، وتيسير أمره، وحل عقدة لسانه، وجعل أخيه هارون نبيا ووزيرا له، لتقوية أمره وتعاونه معه في أداء مهمته، ومشاركته في ذكر الله وعبادته، وصار مطلوب موسى بالتفصيل ثمانية أمور، أربع منها وسائل، وأربع أخرى هي غايات. قال الله تعالى واصفا هذه المطالب:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٥]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
«١» «٢» «٣» [طه: ٢٠/ ٢٤- ٣٥].
هذه مطالب ثمانية لموسى عليه السلام من ربه، طالب بها لما أمره الله تعالى
(٢) معينا.
(٣) ظهري أو قوتي.
ولما أمر الله موسى بالذهاب لفرعون، وأدرك مشقة التكليف، سأل ربه ثمانية أمور، وختمها ببيان علة سؤال تلك الأشياء.
١- قال موسى: رب اشرح لي صدري، ووسّع مداركي، وأزل عني الضيق فيما بعثتني به، لفهم ما يرد علي من الأمور.
٢- وسهّل علي القيام بما كلفتني به، من تبليغ الرسالة، وقوّني على أداء مهمتي، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري، فلا طاقة لي بما كلفتني به.
٣- واحلل عقدة من لساني، أي وأطلق لساني بالنطق، وأزل ما فيه من العقدة والعي، ليفهموا قولي وكلامي بتبليغ الرسالة. والعقدة التي دعا في حلّها: هي التي اعترته من الجمرة التي جعلها في فمه، حين جرّبه فرعون، وهو صغير، فأخذ الجمرة وترك التمرة، ووضعها على لسانه، فأحدثت فيه لكنة، وزالت العقدة بهذا الدعاء، وأما تعيير فرعون له فبسبب حالته القديمة.
٤- واجعل لي وزيرا عونا ومساعدا لي في بعض أموري، من أهل بيتي هارون أخي، اجعله رسولا، ليتحمل معي أعباء الرسالة ونشر الدين. والوزير: المعين القائم بوزر الأمور، وهو ثقلها. وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام بأربعة أعوام.
٥، ٦- يا رب أحكم بأخي هارون قوتي، واجعله شريكا في أمر الرسالة، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل، ونحقق أفضل الغايات. فكان طلب موسى على
٧، ٨- أدعوك يا رب أن تؤازرني بأخي هارون لكي ننزهك ونسبحك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال، ونذكرك كثيرا وحدك، دون أن نشرك معك غيرك، قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا، حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وقوله وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) نعت لمصدر محذوف، تقديره:
تسبيحا وذكرا كثيرا.
إنك يا رب كنت بنا بصيرا، أي عليما بأحوالنا وأحوال غيرنا، في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وخبيرا ببعثتك لنا إلى عدوك فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، فنمتثل أمرك ولك الحمد على نعمك الجليلة التي لا تعد ولا تحصى.
لقد كانت غاية موسى عليه السلام من مطالبه الثمانية لنعم الله تعالى غاية سامية، وسببا يلزمه ويحمله على كثرة العبادة والاجتهاد في أمر الله تعالى. وهذا مطمح أولياء الله المقربين وصفوته المختارين، إنهم حين يدعون ربهم، لا يرغبون في تحقيق مطامع الدنيا ولذاتها، وإنما يرغبون في زيادة العون على القيام بمرضاة الله والإكثار من عبادته، وشكره على نعمه الكثيرة، فهو أكثر الناس تقديرا لهذه النعم، وأحرص الناس على شكر المنعم المتفضل، وهو الله عز وجل.
نعم الله على موسى عليه السلام قبل النبوة
أجاب الله تعالى دعاء موسى ومطالبه الثمانية في شرح الصدر وتيسير الأمر وحلّ العقدة وغيرها، إما بنحو كامل أو على قدر الحاجة في الأفعال، وذلك منّة من الله عز وجل، ثم قرن الله إليها تذكير موسى بقديم منّته عليه، وهي ثماني نعم أنعم بها
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [طه: ٢٠/ ٣٦- ٤١].
تضمنت الآيات ما امتن الله تعالى به على موسى عليه السلام من إجابة دعائه، وتذكيره بما أنعم الله عليه قبل النبوة، أما إجابة الدعاء فكان كما قال الله تعالى:
قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد الأزر به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والذكر الكثير لله عز وجل.
ثم قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) أي وتالله لقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم ثمان أخرى قبل النبوة وهي:
١- حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تلقي هذا التابوت في البحر، أي نهر النيل، ثم أمر الله النيل بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون، فأخذك فرعون عدو الله، وسيصير عدوك في المستقبل.
٢- وألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك،
(٢) في النهر.
(٣) لتربى بمراقبتي.
(٤) من يضمه إليه.
(٥) تسرّ بلقائك.
(٦) خلّصناك من المحن.
(٧) على وفق الوقت المقدر لإرسالك.
(٨) اخترتك لرسالتي.
٣- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، أي ولتتربى بمرأى مني، وفي ظل رعايتي.
٤- واذكر حين خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان لك مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بأمك، فقبلت ثديها، وكنت لا تقبل ثدي أي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه.
٥- وقتلت نفسا هو القبطي حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله، خوفا من العقوبة، وذلك بالفرار إلى أرض مدين، فنجوت من الحبس والقتل أو التعذيب.
٦- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة، بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.
٧- فأقمت سنين مع أهل مدين، بأرض العرب، على بعد ثماني مراحل من مصر، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير، وعشت راعيا لغنم شعيب مدة عشر سنين، كانت مهر امرأتك.
ثم أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري لأكلمك وأجعلك نبيا، وهذا معنى الآية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى.
٨- واخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين
هذه نعم عظيمة أنعم الله بها على موسى عليه السلام قبل البعثة النبوية، وهي كلها إعداد له لتحمل الرسالة، والقيام بالدعوة إلى توحيد الله، وعبادته، وشكره، وإقرار شرائعه في العالمين.
ذهاب موسى وهارون إلى فرعون
لقد كان تكليف موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى توحيد الله وعبادته تكليفا شاقا صعبا، تكتنفه احتمالات كثيرة كالتعرض للقتل والتعذيب، أو الطرد والتخويف، وقلّ من يجرأ على ذلك إلا إذا كان نبيا رسولا، ذا جرأة وشجاعة منقطعة النظير، فإن فرعون جبار طاغية يدعي الألوهية، وموسى شخص ضعيف لا يملك قوة كبيرة ولا حماية بشرية. ولكن أقسى الصعاب تهون أمام قدرة الله وتدبيره، فتم المراد، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
«١» «٢» «٣» [طه: ٢٠/ ٤٢- ٤٨].
(٢) يعجل علينا بالعقوبة.
(٣) يزداد طغيانا وعتوا.
اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بآياتي ومعجزاتي الدالة على وجودي وقدرتي ووحدانيتي، التي جعلتها لك آية وعلامة على النبوة، وهي الآيات التسع التي أنزلت عليك، ولا تضعفا ولا تفترا أو تبطئا عن ذكر الله، ولا عن تبليغ الرسالة إلى فرعون وملئه. وخاطب موسى وحده بقوله: اذْهَبْ أَنْتَ تشريفا له. وآياتي:
علاماتي التي أعطيتكما من معجزة وآية وحي وأمر ونهي كالتوراة.
اذهبا إلى فرعون، وأبطلا ألوهيته بالحجة والبرهان، لأنه تجاوز الحد في الكفر والتمرد والطغيان، والتجبر والعصيان، وبدأ بفرعون لأنه الحاكم الذي إذا آمن، تبعه الناس.
فقولا له كلاما لينا رقيقا لا خشونة فيه، لعله يتذكر حقيقته أو يخشى ربه، وهذا الأسلوب من اللين واللطف: هو شأن الرسول الداعية الناجح، حتى لا ينفر فرعون وأمثاله من دعوة موسى إلى تمجيد الله وتوحيده، فإن العبارة اللطيفة أجلب للمراد.
فأجاب موسى وهارون بقولهما: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون وبطشه إن دعوناه لتوحيدك وعبادتك، أن يشتط في الغضب ويمعن في عقوبتنا أو يتجاوز الحد في التجبر والطغيان، والأذى والاعتداء، فقوله: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا معناه: أن يحمله حامل على التسرع إلينا بمكروه.
قال الله لموسى وهارون: لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما، فقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وأَسْمَعُ وَأَرى عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين، والمراد أن الله تعالى حث موسى وهارون على التبليغ بجرأة وحكمة.
ثم أمر الله موسى وهارون بدعوة فرعون إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل، ويخرجهم من خدمة القبط، أي أطلق سراحهم، وخلّ عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم ما لا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وإذلالهم.
لقد كانت دعوة موسى وهارون لفرعون كاملة، تضمنت شيئين: الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته، وإرسال بني إسرائيل. والظاهر أن رسالة موسى إلى فرعون ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل: وَالسَّلامُ عَلى على بمعنى اللام، أي السلامة لمن اتبع الهدى.
لقد أتيناك بآية على رسالتنا وهي العصا واليد، والسلامة والتحية والأمن من سخط الله وعذابه على من اتبع هدى ربه، فآمن برسله، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وفي هذا توبيخ لفرعون وقومه، وإشعار بأن فرعون لم يكن مهتديا إلى الصواب.
إننا قد أوحي إلينا من ربنا: أن العذاب الحق الخالص لمن كذب بآيات الله، وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، وذلك كما جاء في آية أخرى: فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) [النازعات: ٧٩/ ٣٧- ٣٩]. وقوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) [الليل:
٩٢/ ١٤- ١٦].
هذه المهام في رسالة موسى وأخيه هارون إلى فرعون وقومه، في غاية الوسطية
حوار موسى وفرعون حول الربوبية
اشتد أوار الحوار بين موسى وفرعون حول إثبات الربوبية لله الخالق، وإبطال ربوبية فرعون المزعومة، فقد سأل فرعون موسى عن حقيقة رب موسى وهارون، فكان جواب موسى ضرورة الانصراف عن البحث في الذات الإلهية إلى التأمل بصفات الله التي تمنع تشريك فرعون في الألوهية بأي وجه كان، حقيقي أو مجازي.
وذلك سلب مطلق لألوهية بشر، وإثبات قاطع حاسم لألوهية الله وربوبيته، والإذعان لخالق الأرض والسماء، قال الله تعالى واصفا بنود هذا الحوار:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [طه: ٢٠/ ٤٩- ٥٥].
يوجد كلام مضمر محذوف قبل هذه الآيات، يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره:
فأتيا فرعون يا موسى وهارون، فقولا له ما أمرتكما به، فلما قالا جميع ما أمرا به، قال لهما فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب فرعون موسى وحده، لتخصيصه
(٢) فما شأن وحال الأمم؟
(٣) كالفراش للصبي.
(٤) طرقا.
(٥) أصنافا.
(٦) مختلفة الصفات.
(٧) لأصحاب العقول.
والمعنى: إذا كنتما رسولي ربكما إلي، فأخبراني: من ربكما الذي أرسلكما؟ ومن هذا الرب الذي بعثك يا موسى؟ فإني لا أعرفه، وما علمت لكم من إله غيري.
أجاب موسى بقوله: ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به، وأوجد الآلة المناسبة لكل منفعة، كاليد للبطش، والرّجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، ثم أرشد الله ووفق إلى طريق الانتفاع بما أعطى، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، إما اختيارا كالإنسان والحيوان، وإما طبعا كالنبات والجماد.
قال فرعون: إذا كان الأمر كذلك، فما بال القرون الأولى، أي فما حال وشأن الأمم الماضية، لم يعبدوا ربك يا موسى، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟! فأجاب موسى قائلا: إن كل أعمالهم محفوظة عند الله، مثبّتة عنده في اللوح المحفوظ، يجازي بها، لا يخطئ الله في علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، فعلم الله محيط بكل شيء.
ثم ذكر موسى ثلاثة أدلة خاصة على وجود الله لا يمكن لفرعون أن يدعيها له وهي: الأول: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي إن ربي هو الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش، تعيشون فيها بيسر وسهولة، وقرارا تستقرون عليها وتنامون على أجزائها.
الثاني: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وجعل الله لكم في الأرض طرقا تسلكونها، وسهّلها لكم لتعيشوا فيها براحة وأمان.
وإذا كانت النباتات خلقها الله للإنسان والحيوان، فكلوا منها أيها البشر، وارعوا أنعامكم فيها، أي هي صالحة أن يؤكل منها وترعى الغنم والمواشي فيها، إن في ذلك المذكور لدلالات وبراهين على وجود الله ووحدانيته لأولي النهى، أي ذوي العقول السليمة، الناهية عن القبائح.
وهذه المنافع للأرض والسماء إنما هي وسائل إلى منافع الآخرة، فكانت الأرض ذات منافع كثيرة، منها خلقناكم، أي من الأرض والتراب مبدؤكم في أصل الخلق حين خلق أباكم آدم من تراب، ومصيركم بعد الموت إلى الأرض، حيث تدفنون فيها وتختلط أشلاؤكم بالتراب، وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور، والغرض من هذه الآية هنا: تنزيه الرب نفسه، وتذكير فرعون بأصله، وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر الإنسان بدنياه وملكه، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال، يسأل فيه عن كل شيء، ويحاسب على أعماله.
اتهام موسى عليه السلام بالسحر
حينما أفلس فرعون في إيراد الحجة والبرهان على مزاعمه الباطلة من التأله وغيره، وكذّب بكل الأدلة، اتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وزمن الاجتماع، والتوجه لهذا المسار من المبارزة يدل على أن
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
«١» «٢» «٣» [طه: ٢٠/ ٥٦- ٥٩].
هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم عن فرعون، والمراد جميع الخلق لإعلامهم بهذه الآيات المنبّه عليها. والمعنى: وتالله لقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، أي إن الله أراه آيات كثيرة: وهي العصا واليد والطمس على القلوب وغير ذلك من الآيات التسع ونحوها من الحجج والبراهين، فعاين فرعون ذلك أو بصره، ولكنه كذّب بها، وأبى الاستجابة للإيمان والحق، كفرا وعنادا وبغيا. وكانت رؤية فرعون لهذه الآيات مستوعبة، يرى الآية كلها كاملة، كأنه قال:
لقد أريناه آياتنا بكمالها، وأضاف الآيات إلى ضمير العظمة الإلهية تشريفا لها، ولكن فرعون أبى إدراكها واستيعابها، وكلمة (أبى) تدل على تكسب فرعون، وهو الذي يتعلق به الثواب والعقاب.
ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية، توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من
(٢) أي وسطا، يتساوى فيه الطرفان بالمجيء إليه.
(٣) يوم الزينة: هو يوم عيد كان لهم.
ثم أعلن فرعون عن معارضته السحر بالسحر، فلنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
فحدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا، ويكون المكان وسطا بيننا وبينك، حتى لا يعذر أحد في التخلف، فقوله تعالى: مَكاناً سُوىً أي مكانا قريبا منا، قربه منكم.
ثم قال موسى عليه السلام: موعد الاجتماع يوم الزينة، أي يوم عيد النيروز الذي يتزين فيه الناس عادة، وفي وقت الضحى، ليكون الاجتماع عاما، في يوم يفرغ فيه الناس من أعمالهم، ويجتمعون جميعا، ويتحدثون بنتيجة المبارزة، فتظهر الدعوة إلى الله، وتعلو كلمة الحق، ويزهق الباطل، وليكون الضوء غالبا، وفي نشاط أول النهار، فلا يشكّوا في المعجزة، ويشاهدوا قدرة الله على ما يشاء، ويتعرفوا على معجزات الأنبياء، ويظهر تفوقها على مزاعم السحرة، وبطلان معارضة السحر لخوارق الأحوال النبوية.
و «الحشر» : الجمع، ومعناه: نحشر الناس لمشاهدة المعارضة، والتهيؤ لقبول الحق حيث كان.
واختيار هذا الموعد من موسى عليه السلام دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة.
روي أن يوم الزينة كان عيدا لأهل مصر، ويوما مشهودا، وصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت.
جمع السحرة في عهد فرعون
كان اغترار فرعون بسلطانه وملكه شديدا، وظن أن كل شيء يكون بتفوق المال والثروة والسلطة، وأنه سيقضي على موسى ودعوته في مهدها، بعمل جماهيري سريع، وتفوق علمي باهر، وأن سحر السحرة سيبطل مساعي موسى، ويظل له المجد والتفوق والسلطان، فبذل أقصى جهده لجمع أمهر السحرة من بلاد مصر، وردّد السحرة ما يقول فرعون: ما هذان الرجلان: موسى وهارون إلا ساحران يريدان إخراج المصريين من بلادهم، فلا بد من إحكام الخطة، والتفنن في الإتيان بأشد ألوان المكر والكيد، وصف القرآن الكريم هذه المحاولة الخائبة من فرعون في جمع السحرة، فقال الله تعالى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [طه: ٢٠/ ٦٠- ٦٤].
(٢) يستأصلكم. [.....]
(٣) أخفوا التناجي.
(٤) بسنتكم الفضلى.
(٥) أحكموا سحركم.
(٦) فاز.
قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلفتم على الله كذبا وزورا، فتزعموا أن ما جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله، أي كذب أي كذبة كان. وهذه مخاطبة محذّر، فإنه ندب السحرة إلى قول الحق إذا رأوه، وألا يأتوا بكذب.
فلما سمع السحرة كلام موسى عليه السلام، تناظروا وتشاوروا فيما بينهم في الأمر، وتناجوا سرا في شأن موسى وأخيه، والنجوى: السر والمسارّة، أي كان كل رجل يناجي من يليه.
وقالت السحرة بعد المشاورة والمداومة: ما موسى وهارون إلا ساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر، بصناعة السحر، كما يريدان التغلب، للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ويذهبا بسيرتكم ومملكتكم والحال التي أنتم عليها ويزيلا طريقتكم المثلى، أي الفاضلة الحسنة.
وأقوالهم هذه مستمدة من آراء فرعون ومزاعمه وإشاعاته، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير من موسى وأخيه: وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف
وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشدّ العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب. وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم، و (أفلح) ظفر ببغيته، و (استعلى) : طلب العلو في أمره، وسعى سعيه.
لقد انهارت كل مساعي الكيد من فرعون وسحرته، وأصيبت بالإحباط وخيبة الأمل، أمام معجزة النبوة معجزة موسى: وهي إلقاء العصا، وانقلابها حية، ثم أكلت جميع الحبال والعصي والأسلاك التي ألقاها السحرة، لأن قدرة الله فوق كل قدرة، وتدبيره فوق كل تدبير، ولأن المعجزة أمر خارق للعادة، فوق الأحداث العادية، لا بتدبير وصنع بشر، وإنما يجريها الله استثناء من قانون العادات، على يد النبي المبعوث بدعوة واضحة لهداية الناس إلى التوحيد والحق والعدل.
المبارزة بين موسى عليه السلام والسحرة
لقد كانت المبارزة والمعارضة بين موسى عليه السلام وسحرة مصر أشهر وأعظم مبارزة في التاريخ القديم، فإنها كانت بين طرفين غير متكافئين: موسى وأخوه هارون في جانب، وسحرة مصر وجمعهم الغفير في جانب آخر، وبدأت المبارزة في ظاهرها ودّية هادئة خيّر السحرة فيها موسى ببدء الإلقاء أو تأخره، فوافق موسى على أن يبدأ
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
«١» «٢» [طه: ٢٠/ ٦٥- ٦٩].
خيّر السحرة موسى عليه السلام في أن يبتدئ بالإلقاء أو يتأخر بعدهم، وكان عددهم بالآلاف، والروايات في تحديد عددهم متفاوتة بين خمسة عشر ألف وتسع مائة ألف، وكان مع كان رجل منهم حبل وعصيّ، قد استعمل فيها السحر.
وهذا التخيير لموسى من السحرة أدب حسن وتواضع جم، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى عليه السلام أدبا بأدب. وقال لهم: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، فإذا ألقى عصاه تبتلع كل ما ألقوه، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
فألقى السحرة ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. وقوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ.. إذا للمفاجاة، كما تقول: خرجت، فإذا زيد. وهي التي تليها الأسماء.
والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين: أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل بحيل السّحر، وبدسّ الأجسام الثقيلة المباعة فيها، وكان تحركها كتحرك من له إرادة كالحيوان.
(٢) تبتلع بسرعة.
وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع أو تتلقف بعد صيرورتها جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وأبهمت العصا ولم تذكر هنا في الآية تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة، فبعد أن ألقاها وصارت ثعبانا، مدّ موسى عليه السلام يده إليها، فرجعت عصا كما كانت. فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، ونظر السحرة وعلموا الحق، ورأوا ضياع وابتلاع الحبال والعصي، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وهو من فعل الإله الخالق، فآمنوا بالله ربا إلها واحدا، رضي الله عنهم.
وكان إيمانهم المفاجئ أخطر من المبارزة نفسها. وبهت فرعون وقومه، وأحسوا بالإفلاس والخسارة وهزيمة المعارضة بين موسى والسحرة، فطاش صوابه، ولجأ إلى تهديد السحرة ووعيدهم، معتمدا على إرهابه وسلطته، ولكنه خاب وفشل مرة أخرى لأن إيمان السحرة زرع في قلوبهم كالجبال الرواسي، وهان عليهم العذاب من أجل مرضاة الله ولقائه وهو عنهم راض.
لقد تغير وجه التاريخ بهذه المبارزة، وبدأ صوت الإيمان يعلو في أرجاء مصر، وبدأ عرش فرعون في اهتزاز واضطراب، والله يؤيد بنصره من يشاء. والواقع أن
إيمان السحرة برب موسى وهارون
حينما ألقى موسى عليه السلام عصاه وانقلبت حية، والتقمت كل ما جاء به السحرة من الحبال والعصي، ثم رجعت إلى حالتها، أيقنوا بنبوة موسى عليه السلام، وأن الأمر ليس سحرا، وإنما الأمر من عند الله تعالى، وهذا كان له تأثير الصاعقة على فرعون وحاشيته، فلجأ إلى تهديد السحرة بتقطيع الأيدي والأرجل والتصليب في جذوع النخل، فما كان منهم إلا أن أعلنوا تحديهم لفرعون، وآثروا عليه السلامة والنجاة، لما رأوا من حجة الله تعالى وآياته البينات، قال الله تعالى واصفا هذا الحدث الجلل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٠ الى ٧٣]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)
«١» [طه: ٢٠/ ٧٠- ٧٣].
في خلال هذه الآية تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول، وهو: فألقى موسى عصاه، فالتقمت كل ما جاء به السحرة، فلما رأوا ذلك أيقنوا بنبوة موسى عليه
وكذلك قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) [طه: ٢٠/ ١٢٩]، فتأخير قوله: وَأَجَلٌ مُسَمًّى إنما هو لتستوي رؤوس الآي. وإنما قالوا:
بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا: (برب العالمين) لأن فرعون ادعى الربوبية وادعى الألوهية، فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون: إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله.
قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده ومكابرته الحق بالباطل: أصدّقتم موسى وقوله واتبعتموه، من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلّمكم الكبير، وأنتم تلامذته، وتواطأتم معه علي وعلى رعيتي، لتظهروه وتروّجوا لدعوته.
فهدّدهم ونفّرهم عن الإيمان بقوله: أقسم أني لأمثّلن بكم، فأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أو على العكس، ولتعلمنّ هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟! وهذا من فرعون تحدّ لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإظهار لما لفرعون من بأس وسلطة.
فازداد السحرة بعد هذا التهديد تمسكا بإيمانهم، وهانت عليهم أنفسهم من أجل رضوان الله، فقالوا: لن نختارك يا فرعون على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحات من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة، كانقلاب العصا ثعبانا، واليد نجما مشعا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، فافعل ما شئت، واصنع ما أنت
إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليغفر لنا خطايانا ويعفو عن سيئاتنا، وعلى ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لمعارضة آيات الله ومعجزات نبيه، والله خير لنا منك جزاء، وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عذابا.
وكان رؤساء السّحرة اثنين وسبعين، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى فرعون إلا أن يعارضوه.
والظاهر أن فرعون نفّذ تهديده للسحرة بالقتل والتصليب، لقول ابن عباس:
أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
التهديد بالجزاء والترغيب بالثواب في كلام السحرة
تابع السحرة الكلام مع فرعون بعد إصرارهم على الإيمان، واستخفافهم بتهديداته وإنذاراته، فحذروه من نقمة الله وعذابه الدائم، ورغّبوه في ثوابه الأبدي الخالد، وهذه صفة أهل الإخلاص والإيمان، فإنهم كما أحبوا الخير لأنفسهم، أحبوا الخير لغيرهم، وإذا هابوا الشر حتى لا يصيبهم السوء، هابوا امتداد شراراته لإصابة الآخرين وهذا الموقف المشرّف، دوّنه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
[طه: ٢٠/ ٧٤- ٧٦].
والمعنى: إن من يلقى الله يوم القيامة، وهو مجرم في حق نفسه وربّه، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة مريحة، ولا يحيا حياة كريمة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا القول: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى مختص بالكافر، فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت، ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده، ويجدّد عذابه، فهو لا يحيا حياة هنيّة، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة، في غمرة، قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم، ولا يجدّد عذابهم. فهذا هو الفرق ما بينهم وبين الكفار. وفي الحديث الصحيح: أنهم أي عصاة المؤمنين يموتون إماتة.
والواقع أنهم يقتربون من الموت، فهذا معنى الإماتة، لأنه لا موت في الآخرة.
هذا هو مصير الكفرة أهل النار. وأما أهل الإيمان والصلاح، فإنهم يلقون ربهم يوم المعاد، قد آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وتطابق قولهم وعملهم مع قرارة ضمائرهم، وأدوا الطاعات، وخافوا ربهم، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
لهم الدرجات العلى وهي القرب من الله تعالى. ومن المعلوم أن الجنة درجات، والنار دركات،
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس».
قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا بالله، وصدقوا المرسلين»
وفي السّنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما».
تلك الدرجات العلى في جنات عدن، أي إقامة دائمة، تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهّر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتّبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير. فليهنأ سحرة فرعون، إنهم آمنوا في جو من الإرهاب، وفي ميادين التعذيب والجلد والتقطيع، وإيمان كهذا له منزلته العظمى، وهو دليل على قوته وثباته، وأنه لا يخامره أي شك أو شبهة، فاستحقوا بذلك الدرجات العلى.
إغراق فرعون وجنوده في البحر
إن أكبر عظة للمتغطرسين المتألهين: ما حدث لفرعون الطاغية الذي ادعى الربوبية والألوهية، فكان مصيره الإغراق هو وجنوده في البحر، وإنجاؤه بجسده، ليراه الناس، ويكون لمن خلفه عبرة وعظة، وكان الإغراق حدثا عجبا، لم يكن بإغراق باخرة، ولا بدحر جيش، وإنما تم استدراجه بطريق يبس أوجده الله لموسى وقومه، فنجوا، فتبعهم فرعون وجنوده فيه، فأطبق عليهم الماء، وهلكوا جميعا. قال الله تعالى مبينا هذا الحادث العجيب:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
«١» «٢»
(٢) جافا.
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [طه: ٢٠/ ٧٧- ٨٢].
لما انقضى أمر السحرة، وغلب موسى وقوي أمره، وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فأقام موسى عليه السلام على وعده، حتى غدر به فرعون، ونكث وعده، وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله تعالى الآيات على فرعون وقومه، وهي الجراد والقمّل وغيرها، وبعد هذا الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر، في الليل ساريا. والسّرى: سير الليل. والآيات تدوّن هذه المسيرة. ومفادها: ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ لهم طريقا في البحر (البحر الأحمر) يابسا، لا ماء فيه ولا طين، وقلنا له: أنت آمن، لا تخاف دركا، أي إدراكا ولحوقا بكم، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، وكان هذا الإنقاذ حينما كان قوم موسى قوما صالحين، لذا عبر عنهم بقوله تعالى: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي.
فتبعهم فرعون وجنوده في الطريق اليابس في أرض البحر بقدرة الله، فغشيهم من البحر ما غشيهم، حيث أطبق عليهم ماء البحر، وتكرار (غشيهم) للتعظيم والتهويل.
وأضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة، حينما سلك
(٢) علاهم.
(٣) مادة حلوة كالعسل.
(٤) الطائر المعروف بالسّماني.
(٥) لا تكفروا بالنعم. [.....]
(٦) فيقع عليكم ويلزمكم.
(٧) هلك.
١- قلنا: يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم فرعون الذي كان يذبّح أبناءكم، ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم حين أغرقت أعداءكم، وأنتم تنظرون إليهم، فإنهم غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما جاء في آية أخرى:
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: ٢/ ٥٠].
٢- وجعلنا لكم ميقاتا وهو جانب جبل الطور الأيمن في سيناء لتكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
٣- ونزلنا تنزيلا عليكم المن والسلوى، وأنتم في التيه. أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر، وأما السلوى: فهو طائر السّماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
وقلنا لكم: تنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال، ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، فينزل بكم غضبي وعقوبتي. ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك. وإني لغفار وستّار لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولمن عمل عملا صالحا أمر به الشرع وحسّنه، ثم اهتدى واستمر في منهجه، واستقام على ذلك الطريق حتى يموت. والمطلوب هو الاستمرار على منهج الحق والاستقامة لأن المهتدي في الحال لا يكفيه للنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل. فقوله تعالى بعد الإيمان
عبادة اليهود العجل
ينحدر مستوى الفكر الإنساني أحيانا، فيؤله الطبيعة المخلوقة العاجزة أحيانا، أو يؤله الحجر والمعدن باتخاذ الأصنام والأوثان، أو يؤله الحيوان، كما فعل موسى السامري الذي اتخذ عجلا من ذهب، وجعله إلها أثناء غيبة موسى في الميقات المحدد لتكليم ربه، وكان موسى عليه السلام قد استخلف أخاه هارون عليه السلام على بني إسرائيل، فرضوا بعبادة العجل، وكانوا قد طلبوا من موسى عليه السلام أن يصنع لهم تمثالا ليعبدوه: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ٧/ ١٣٨]. قال الله تعالى واصفا كيفية اتخاذ العجل إلها لدى نبي إسرائيل:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [طه: ٢٠/ ٨٣- ٨٩].
تعجل موسى عليه السلام الذهاب إلى ميقات ربه حبا في مكالمته وإعطائه
(٢) ابتليناهم.
(٣) حزينا.
(٤) بقدرتنا.
(٥) أثقالا.
(٦) مجسّدا (أحمر من ذهب).
(٧) صوت كصوت البقر.
وهذا الإنكار من الله لعجلة موسى إنكار للعجلة في ذاتها، لما فيها من عدم العناية بصحبه، وهو تعليم للأدب الرفيع في المصاحبة، وحسن المرافقة.
فأجاب موسى قائلا: هم أي النقباء المختارون بالقرب مني، واصلون بعدي، وما تقدمتهم إلا بخطىّ يسيرة، وسارعت إليك ربي لتزداد عني رضا، بمسارعتي إلى الوصول إلى مكان الموعد، امتثالا لأمرك، وشوقا إلى لقائك، أي أن موسى عليه السلام اعتذر عن الخطأ في اجتهاده. قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري، باتخاذهم العجل من ذهب إلها. فعاد موسى عليه السلام إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء أربعين ليلة، شديد الغضب والأسف والحزن.
قال موسى لقومه: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة، من إنزال كتاب التشريع العظيم، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
هل طال عليكم الزمان في انتظار وعد الله ونسيان نعمه، ولم يمض على ذلك من العهد غير أربعين يوما؟ بل أأردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم غضب ونقمة وعقوبة من ربكم؟ فأخلفتم موعدي، إذ وعدتموني أن تقيموا على طاعة الله عز
فأخرج السامري لبني إسرائيل من الحلي الذهب الملقى في النار جسد عجل، لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول، بتصنيعه بطريقة فنية، حيث عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل الأمين، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار، والخوار: صوت البقر.
فقال السامري ومن فتن به لبني إسرائيل: هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم، أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهم أنه إله؟!
عتاب موسى لهارون والسامري على تأليه العجل
اشتد غضب موسى عليه السلام على اتخاذ قومه العجل إلها من دون الله، فعاد بعد مكالمة ربه وتلقيه الألواح إلى قومه، فوبخهم واستهجن فعلهم، وعاتب أخاه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، وهدد موسى السامري بعقاب الله في الدنيا والآخرة، ونبذه من القوم، وألقى موسى عليه السلام العجل في البحر، وأعلن أن الله وحده هو الإله الحق، الذي وسع علمه السماوات والأرض،
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٨]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [طه: ٢٠/ ٩٠- ٩٨].
هذا حوار حادّ بين موسى وهارون عليهما السلام وموسى السامري الذي اخترع عبادة العجل، وكان هارون في أثناء غيبة أخيه موسى، قال لقومه الذين تورطوا في عبادة العجل أول الأمر: إنما هو فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإن ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع، فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه، وأطيعوا أمري فيما ذكرته لكم.
فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون عليه السلام، وندبهم إلى الحق. لن نبرح عابدين لهذا الإله، عاكفين عليه، أي ملازمين له حتى يعود إلينا موسى. والعكوف:
الانحناء على الشيء من شدة ملازمته.
(٢) ما شأنك الخطير.
(٣) علمت بالبصيرة.
(٤) ألقيتها في الحلي المذاب.
(٥) زيّنت. [.....]
(٦) لا تمسّني ولا أمسك.
(٧) ندمرنه.
ثم كلم موسى عليه السلام موسى السامري رأس الفتنة، موبخا ومستنكرا: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال السامري: رأيت جبريل الرسول حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضته من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف بأطراف الأصابع، وكان ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كإله المصريين عبدة الأصنام. وكما زينت لي نفسي السوء، زينت لي وحسّنت هذا الفعل بمحض الهوى.
فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة فقال: اذهب يا سامري، فعقوبتك في الدنيا أن تصير منبوذا، وتذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا مساس بيني وبين أحد. وعقوبتك في الآخرة: أن لك موعدا للعذاب، لا يخلفه الله، بل سينجزه، وهو يوم القيامة.
وأما إلهك المزعوم الذي اتخذته معبودا ولازمت عبادته: لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنبددنّه في البحر، وننسفه نسفا شديدا.
جزاء المعرضين عن القرآن الكريم
القرآن العظيم: هو كتاب حق وهداية، ونور وإسعاد للبشرية، فمن عمل به فاز، ومن أعرض عنه خاب وخسر، وتعرّض لألوان العذاب والعقاب يوم القيامة لأن الله تعالى خالق الخلق ورازق الأمم والأفراد أراد أن ينظم لهم حياتهم، فأنزل القرآن من أجل التنظيم الحياتي والحياة السعيدة، ويكون المعرض عن القرآن مؤثرا الحياة الفوضوية، والأهواء التي لا تؤدي في النهاية إلا إلى الدمار والخراب. قال الله تعالى واصفا جزاء المعرضين عن آي القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [طه: ٢٠/ ٩٩- ١٠٤].
هذه الآيات الشريفة مخاطبة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل في خبر العجل وعبادتهم له، كذلك نقص عليك أخبار الأمم السابقة، كما
(٢) أي سود الألوان زرق العيون والأجساد، وهي غاية في التشويه، لأنهم كلون الرماد.
(٣) يتسارّون.
(٤) أعدلهم وأفضلهم رأيا.
وكل من كذب بالقرآن وأعرض عن اتباعه، فلم يؤمن به، ولا عمل بشرائعه وأحكامه، وابتغى الهدى في غيره، فإن هذا المعرض يتحمل إثما عظيما، ويتعرض لعقوبة ثقيلة يوم القيامة، بسبب إعراضه عن كتاب الله، كما جاء في آية أخرى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: ١١/ ١٧].
والإعراض عن القرآن يشمل كل من بلغه هذا الكتاب، من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم من الوثنيين والماديين، وأصحاب النّحلات والملل، والمذاهب الفاسدة، والعقائد الباطلة.
ويكون أولئك المعرضون عن القرآن خالدين ماكثين على الدوام في الجزاء الأخروي، وهو النار لا محيد لهم عنه، وبئس الحمل الذي حملوه حملهم من الأوزار والأثقال، جزاء إعراضهم.
إن يوم القيامة: هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث التي يحشر الناس بعدها للحساب، وفي هذا اليوم يجمع المجرمون أيضا: وهم المشركون والعصاة، سود الألوان، زرق العيون والأبدان، كلون الرماد، وهذا غاية التشويه والإساءة، علامة على سوء أحوالهم، وإنذارهم بسوء الحساب والعقاب، وما يتعرضون له من الأهوال العظام.
هؤلاء المجرمون المحشورون على أسوأ حال ولون يتخافتون، أي يتسارون فيما
ثم يقول الله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ... أي نحن أعلم بما يتناجون، وبما يقولون في مدة لبثهم أو مكثهم، حين يقول أمثلهم طريقة، أي أعدلهم قولا، وأكملهم رأيا وعقلا، وأعلمهم بالحقيقة: ما لبثتم إلا بمقدار يوم واحد، لأن دار الدنيا كلها، وإن طالت في أنظار الناس، كأنها يوم واحد: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: ٢٢/ ٤٧].
وهذا يدلّنا على أن معايير الزمن ومقاييسه، تتغير عند الله في الآخرة، فليس اليوم أو السنة من أيام وسنين الدنيا شيئا يذكر بالنسبة للآخرة، فهو كالساعة أو اللحظة، وفي هذا رهبة وإثارة خوف وفزع، والحق أن أهوال الآخرة تلجم الألسنة، وتخرس الأفواه، وتشتت الأذهان والأفكار، وتوقع النفوس في الحيرة والقلق والدهشة، فتصير الموازين مختلة، والحسابات مضطربة.
تغير أوضاع الدنيا يوم القيامة
قد يظن بعض الناس من الطبيعيين والماديين أن نظام الكون من الأرض والسماء يدوم على هذه الحال في عالم القيامة، وهذا خطأ بيّن لأن اختلاف الأشياء يستتبع اختلاف الأحوال، فلا نشاهد يوم القيامة عالم السماء الحالي، ولا نظام الأرض
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» »
[طه: ٢٠/ ١٠٥- ١١٢].
روى ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال، يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ.. الآية.
وقيل: إن رجلا من ثقيف سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجبال، ما يكون أمرها يوم القيامة؟. هذه أسئلة غير المؤمنين بالحشر والقيامة حول الجبال والأرض. إن المشركين يسألونك أيها النبي الرسول عن حال الجبال يوم القيامة، هل تبقى أو تزول؟ فقل: يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها، ويدكها دكّا ويجعلها هباء منثورا.
روي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا، فيدكّها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث، فذلك هو النسف.
فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) أي فيترك مواضع الجبال بعد نسفها أرضا ملساء
(٢) أرضا ملساء.
(٣) أرضا مستوية.
(٤) مكانا منخفضا.
(٥) أي انخفاضا وارتفاعا.
(٦) لا يعوج له مدعو.
(٧) صوتا خفيا.
(٨) أي خضعت وانقادت. [.....]
(٩) نقصا من ثوابه.
وحينئذ يوم تتبدل أوضاع الأرض، يتّبع الناس داعي الله إلى المحشر، مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، لا معدل لهم عن دعائه، فلا يقدرون أن يميلوا عنه، أو ينحرفوا عنه، بل يسرعون إليه.
وسكتت الأصوات رهبة وخشية، وإنصاتا، لسماع قول الله تعالى، فلا تسمع إلا همسا، أي صوتا خفيا.
في ذلك اليوم يوم الحشر والجمع لكل البشر، لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي قوله في الشفاعة لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة.
والسبب في تقييد الشفاعة بالإذن والرضا الإلهي أن الله تعالى يعلم جميع أحوال عباده، مما يلقونه يوم القيامة، وما خلفوه أو تركوه من أمور الدنيا، ولا تحيط علوم الخلائق بذات الله تعالى ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
وذلّت الوجوه وخضعت، واستسلمت النفوس والخلائق كلها للإله الأحد الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيّم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو سبحانه قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر، لأن الخضوع بها يبين، وفيها يظهر.
هذا حال الظالمين الجاحدين، وأما المؤمنون الموحدون الذين يعملون الأعمال الصالحة من الفرائض المطلوبة والواجبات المشروعة، وهم يقرنون بعملهم الإيمان الثابت الصحيح بالله ربا، وبالرسل مبلّغين، وبالكتب للبيان، واليوم الآخر
والفرق بين الظلم والهضم: أن الظلم أعم من الهضم، وهما متقاربان في المعنى، ويتداخلان، وهما يشملان ميدان الحسنات والسيئات، أما الحسنات فلا ينقص منها شيء، وأما السيئات فلا تعظم ولا تكثر أكثر مما يجب.
إنزال القرآن عربيا
كانت رسالة الإسلام في أرض العرب، فكان منطقيا أن يكون الرسول عربيا من جنس قومه، وأن يكون الكتاب المنزل عليه عربيا، ليتمكن العرب من فهمه وتبليغه للناس، وأن يفخر العرب إلى يوم القيامة بأن يكون كلام الله ووحيه عربيا، فجدير بالأمة العربية أن تنصاع لهدي القرآن المجيد، الذي كانت ألفاظه وتراكيبه، وتشبيهاته واستعاراته، وحقائقه ومجازاته، من محور العربي بنية وتركيبا، وأن يحملوه لأنحاء العالم مبشرين ومنذرين، وأن يحافظوا عليه دستورا أبديا للحياة، بكل وسيلة لحفظ وجودهم وكيانهم، قال الله تعالى واصفا لغة القرآن:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
«١» «٢» [طه: ٢٠/ ١١٣- ١١٤].
روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل، ولا يحفظه، فأنزل الله عليه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ الآية.
(٢) أن يفرغ ويتم إليك.
والمعنى: كما قدّرنا أحوال الخليقة، وجعلنا أمور الآخرة حقيقة أمام العباد، كذلك حذّرنا هؤلاء أمر القيامة، وأنزلنا القرآن عربيا، وتوعدنا فيه بأنواع من الوعيد، لعلهم- بحسب توقع البشر وترجّيهم- يتقون ويخشون عقابه، فيؤمنون ويتذكرون نعم الله، وما حذّرهم من أليم عقابه، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي أو يكسبهم شرفا، ويبقي عليهم إيمانهم، وذكرا صالحا في الغابرين، فيكون القرآن خيرا للعرب، إنه نزل بلغتهم مبشرا ومحذرا، وكان وسيلة وسببا لرفع شأنهم وإعلاء منزلتهم، على ممر الدهر والتاريخ.
وناسب تعظيم شأن القرآن إبانة ما يلازمه: وهو تعظيم منزل القرآن، وهو الحق سبحانه وتعالى، لذا قال الله بعدئذ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تقدس وتنّزه الله الملك، المتصرف بالأمر والنهي، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير، تعاظم وتنزه عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون، فإنه الملك حقا، الذي بيده الثواب والعقاب والسلطان كله. وحقه وعدله تعالى: ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
والمناسبة واضحة بين هذه الآية وما قبلها، لأنه سبحانه لما أبان صفة سلطانه يوم القيامة، وعظم قدرته، وذلة عبيده وتلطفه بهم، ختم ذلك بهذه الكلمات، بوصف الله أنه صاحب الملك والسلطان، وهو الإله الحق الثابت، الذي لا يزول، ولا ينازعه أو ينافسه أحد في ألوهيته.
[القيامة: ٧٥/ ١٦- ١٩].
وزيادة في إلقاء الطمأنينة على قلب النبي، أوحى الله إليه أنه سيعلّمه علم ما لم يعلم، وأنه ينمي له علومه ومعارفه على الدوام، لذا علّمه بأن يطلب دائما الاستزادة من المعلومات والمعارف، قائلا له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي اطلب واسأل ربّك زيادة العلم،
روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار».
قصة آدم في الجنة
خلق الله تعالى آدم عليه السلام وأسكنه في جنة الخلد، واقتضت إرادة الله وحكمته أن ينزل آدم إلى الأرض، وبدأت القضية في توجيه الأمر الإلهي لآدم ألا يأكل من شجرة معينة امتحانا له في الطاعة وتنفيذ أمر الله، وكرم الله آدم بأن تسجد له الملائكة جميعا، فسجدوا إلا إبليس، فحذر الله تعالى آدم من عداوة الشيطان له ولزوجه، ومحاولة إخراجهما من الجنة، فنسي آدم هذا التحذير، ووسوس له
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢١]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [طه: ٢٠/ ١١٥- ١٢١].
يقسم الله تعالى في هذه الآيات بأنه قد عهد إلى آدم، أي وصّاه بألا يأكل من الشجرة في الجنة (شجرة معينة) فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد الإلهي، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل الأكل عزم وتصميم على ذلك، فإنه على العكس قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، وعند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة.
والمراد بعهد الله: أمره أو نهيه، ويراد به هنا ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها، ولكنه النسيان الذي هو من شأن البشر قد يكون سببا للمعصية، والتذكر وقوة العزم سبب الخير والرشد، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٧/ ٢٠١].
وعلى الرغم من نسيان آدم أمر ربه، ذكّر الله نبيه وطالبه أن يقص الخبر على قومه، وهو أنه تعالى أمر الملائكة كلهم بالسجود سجود انحناء وتحية، لا سجود
(٢) امتنع من السجود تكبرا.
(٣) لا تتعرض لعري.
(٤) لا تبرز للشمس.
(٥) لا يزول.
(٦) أخذا يلصقان.
(٧) خالف النهي سهوا أو متأولا.
(٨) ضل عن مطلوبه.
فقال الله: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض، في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، أو لا يقع منكما طاعة للشيطان في إغوائه، فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وسببا للشقاء، أي التعب من عناء الزرع وغيره.
إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، فلا تجوع ولا تتعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحر ولا تتعرض لأشعة الشمس الحادة، كما يكون لسكان الأرض، ويتبين الفرق بين النعيمين، نعيم الجنة خالد دائم لا عناء فيه، ونعيم الدنيا مؤقت مقرون بأنواع المتاعب والمخاطر.
فوسوس الشيطان لآدم، أي كلمه خفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا وكان ملكا مخلدا، وألا أدلك على ملك دائم، لا يزول ولا يفنى.
فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعهما الله منها، فانكشفت عورتهما، وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما من ورق الجنة كالتين وغيره مما هو كبير الورق، فيجعلانه على سوآتهما: عوراتهما، وعصى آدم ربّه، أي خالف أمر ربه، بالأكل من الشجرة المنهي عن الأكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه.
ومما لا شك فيه أن مخالفة الأمر الواجب من الله أو من غيره معصية، وأن الجزاء حق وعدل على المعصية، لكن معصية آدم من نوع خاص، بترتيب وتدبير وإرادة من الله عز وجل.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن
إن معصية آدم وغوايته، أي بعده عن الرشد، لم تكن بتصميم وعزم، وإنما صدرت منه في حال النسيان للأمر الإلهي، ليترتب على ذلك الإخراج من الجنة، وتوالد البشرية، وعمارة الكون بالناس.
إنزال آدم إلى الدنيا
رحمة الله تعالى بعباده تسبق دائما غضبه، فالإنسان يخطئ ويصيب، بسبب نسيانه وضعفه وتغلب شهواته عليه، ولكن المؤمن العاقل سرعان ما يبادر إلى التوبة والإنابة، والاستقامة والاستغفار من سوء فعله، وتورّطه في مخالفة أمر ربه، والله تعالى بلطفه وكرمه وفضله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهكذا حدث لآدم عليه السلام، عصى ربه نسيانا لا عمدا، ليتم تقدير الله، ولكن كان جزاؤه بالحق والعدل، ثم اجتباه ربه وهداه لصالح الأقوال والأفعال، وأنزله من علياء الجنان إلى قيعان الدنيا ومعكراتها، وهذا ما وصفته الآيات التالية:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٧]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
«١» «٢»
(٢) ضنكا أي معيشة ضيقة ومعاناة.
تضمنت هذه الآيات لآدم عليه السلام أمورا ثلاثة: الرجوع به من حال المعصية إلى حال الندم، وهدايته لصالح الأقوال والأعمال، وإمضاء عقوبته عز وجل في إهباطه من الجنة إلى عالم الدنيا. وفي الدنيا إنذار لآدم وذريته، فحواه أن المستقيم على أمر الله يلقى السعادة، والمعرض عن ذكر الله يتلقى ألوان المعيشة الشديدة المتعبة.
والمعنى: لقد اصطفى الله تعالى آدم عليه السلام وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية (وهي الأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها) وطلب المغفرة من ربه، وأقر بأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من غلطته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل.
ثم قال الله تعالى لآدم وزوجه حواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض، في شأن المعاش وتنافس الدنيا وأطماعها، مما يؤدي إلى وقوع الخصام والاقتتال.
فإن يأتكم أيها البشر مني هدى، بوساطة الأنبياء والرسل، وإنزال الكتب المنذرة والمبشرة، فمن اتبع هدى ربه وآمن به، فإنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكر الله وكفر به، فإن له معيشة ضنكا، أي معيشة نكدة شاقة في المنازل، أو في الحروب ونحوها، ووقت هذه المعيشة في عالم الدنيا قبل يوم القيامة.
والمعنى: أن المعرض عن ذكر الله وهو الكافر، وإن كان متسع الحال والمال، فمعه من ألوان الحرص والقلق والهموم والتعذيب النفسي في أمور الدنيا أو في البرزخ في القبر، ما يصيّر معيشته ضنكا وشدة، فتكون العبرة بسعادة النفس وراحة البال والاطمئنان. ثم نحشره ونبعثه في الآخرة أعمى البصر والبصيرة، تائه الدرب، متخبطا في ألوان العذاب يوم القيامة.
قال المعرض عن ذكر ربه: يا رب، لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، أي لماذا بعثتني أعمى البصر، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟
فأجابه الله تعالى: مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك الآن في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف: ٧/ ٥١] فإن الجزاء من جنس العمل.
وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، وكما وصف الله من أليم الأفعال، نجزي المسرفين المخالفين، ولعذاب الآخرة في النار أشدّ ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلّدون فيه، كما جاء في آية أخرى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
[الرعد: ١٣/ ٣٤].
إن جزاء المسرفين المعتدين الكافرين بالله عز وجل جزاء ثابت في الحياتين الدنيوية والأخروية، وهو حق وعدل لأن الله تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله، وأبان شرائعه ونظمه، ليسير الناس على نهجها، ويلتزموا بها، فإن كذبوا وأعرضوا عن بيان الله، استحقوا العقاب الأليم والجزاء الشديد، وذلك منطق العدل والحكمة والمصلحة.
العبرة من إهلاك بعض الأقوام
في التاريخ القديم والحديث عبر وعظات، وتوجيه للأنظار بأن ما حدث للماضين بسبب تكذيب الرسل والأنبياء، قد يحدث للأقوام الآتية بعدهم، إذا ساروا في
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٢]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [طه: ٢٠/ ١٢٨- ١٣٢].
هذه حملة توبيخ وتقريع لقريش وأمثالهم من مكذّبي رسالة النبي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فإنهم لم يتبين لهم خبر من أهلكهم الله من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في منازلهم التي دمّرت، وصارت خاوية على عروشها، ولم يبق من الطوائف التي كانت قريش تمر على بلادهم إلى الشام وغيره، كعاد وثمود، وأصحاب الأيكة وقوم لوط، أثر ولا عين: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: ٢٧/ ٥٢]. أفلم يهد لهم أو يتبين ما جعل الله لهم من الآيات الواضحات للعظة والعبرة، إن في ذلك لعلامات واضحات لأولي النهي والعقل. والمتأمل بما حدث يتعظ وينزجر، ويبادر إلى تغيير عقيدته الفاسدة، وترك ضلالته الخاسرة، كما جاء في
(٢) أي الأمم الماضية.
(٣) لأولي العقول والبصائر.
(٤) يوم القيامة، معطوف على: كلمة.
(٥) صلّ.
(٦) ساعاته.
(٧) أصنافا من الكفار.
(٨) زينتها.
(٩) لنجعله فتنة لهم.
ولقد أخّر الله العذاب المستحق لمكذبي الرسل، والسبب في تأخير العذاب عنهم هو صدور وعد سابق من الله سبحانه بتأخير عذاب أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الدار الآخرة، ولولا هذا التأخير النافذ، لكان عقاب ذنوبهم لازما لهم، لا يفارقهم بحال. ثم نهى الله نبيه عن الافتتان بمظاهر الدنيا، فلا تنظر أيها النبي إلى ما عند هؤلاء المترفين من ألوان النعيم ومتع الدنيا، من أجل اختبارهم بها، والتعرف على شاكريها، لقد يسر الله لك رزقك في الدنيا، فالله رازقك، وثواب الله وفضله في الآخرة خير من رزقهم وأدوم وأخلد.
ثم آنس الله نبيه، وأمره بالصبر على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من أنك ساحر كذاب، أو مجنون، أو شاعر ونحو ذلك من أباطيلهم ومطاعنهم، لا تأبه بهم، فإن لعذابهم وقتا معينا لا يتقدم، واشتغل بتسبيح ربك، أي تنزيهه وشكره وأداء الصلوات المفروضة قبل طلوع الشمس، أي صلاة الفجر، وقبل غروبها، أي صلاة العصر والظهر، ومن ساعات الليل، أي صلاة العشاء والمغرب وقيام الليل، وفي أطراف النهار، أي صباحا عند الفجر ومساء عند الغروب، وتأكيدا لهاتين الصلاتين الواقعتين طرفي النهار، سبّحه في هذه الأوقات، رجاء أن تنال عند الله تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب، كما جاء في آية أخرى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) [الضحى: ٩٣/ ٥].
وأمر أيها الرسول أهل بيتك لإنقاذهم من العذاب بإقام الصلاة واصبر أنت وهم على فعلها، لا نطلب منك رزقا ترزق نفسك وأهلك بل تفرغ للعبادة والتقوى، فنحن نرزقك ونزرقهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) [الذاريات: ٥١/ ٥٨].
والعاقبة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى والطاعة. فإذا أقمت الصلاة مع أهلك،
أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم:
الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية.
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنّى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك».
طلب المعجزات المادية من المشركين
إذا أفلس الناس في مجال المنطق والبرهان العقلي والدليل الفكري، لجؤوا عادة على سبيل المكابرة والتحدي إلى المطالبة بالمعجزات المادية غير المعقولة، وتمسكوا بالمستحيل من أجل إظهار الضعف وإبطال المبدأ وإخراس كلمة الحق والهداية والرشاد، وهذا ما فعله كبار المشركين من قريش في مكة، تمسكا بعبادة الوثنية، وتحديا للنبوة ورسالة السماء، وإصرارا على أبهة الزعامة والرياسة في أرجاء مكة وأمام العرب قاطبة، وإحراجا لنبي الله الذي هو بشر يؤيده الله بما شاء من المعجزات، وهذا التعنّت والعناد دوّنته آيات من القرآن الكريم لإظهار موقف المكابرين والمعاندين وإبطالا لأقوالهم، وتجميدا لمواقفهم وأفعالهم، قال الله تعالى:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
«١»
هذا لون من أباطيل قريش وأقاويلهم الفارغة، فإنهم كذبوا بالقرآن المعجزة، الخالدة الساطعة، على الرغم من تحديهم به وطلب معارضتهم له، فزعموا أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وطالبوا بمعجزات أخرى، قائلين: هلّا يأتينا محمد بآية بيّنة من ربه، ذات صفة مادية، تدل على صدقه في أنه رسول الله، مثل المعجزات المادية للأنبياء السابقين، كعصا موسى، وناقة صالح، وإحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فردّ الله تعالى عليهم موبخا لهم: ألم تأتهم بيّنة الصحف الأولى يعني التوراة، فإنها أعظم شاهد وأكبر آية لمحمد، تدل على صدقه، حين بشّرت به، وذكرت أوصافه الدالة عليه. ألا وإن أعظم آية أو معجزة تصدّق محمدا صلّى الله عليه وسلّم في نبوته ورسالته، إنما هي القرآن العظيم.
ثم أخبر الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: أنه لو أهلك هذه الأمة الكافرة قبل إرساله إليهم وإنزال القرآن، لقالوا يوم القيامة: يا ربنا هلا كنت أرسلت إلينا رسولا في الدنيا، حتى نتّبع آياتك التي يأتي بها الرسول عادة، من قبل أن نذلّ بالعذاب في الدنيا، ونخزى بدخول النار في الآخرة؟ وهذا دليل واضح على أن التكليف الإلهي والعقاب على التقصير أو المخالفة لا يكون قبل مجيء الشرع من عند الله رب العالمين.
والحق أن هؤلاء المكذبين للرسول في مكة متعنتون معاندون، لا يؤمنون ولو جاءتهم الآيات تتوالى.
فقل لهم أيها النبي: كل واحد منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه الأمر، فانتظروا
(٢) أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
(٣) الطريق المستقيم.
وهذا لون من التوعّد والتوبيخ على خطأ منهج المشركين، وكأنّ هذه الآية قسمت الفريقين: أي ستعلمون هذا من هذا.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحتجّ على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة «١»، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله: ربّ، لم لم تجعل لي عقلا؟ ويقول الصبي نحوه. ويقول الهالك في الفترة: يا ربّ، لم لم ترسل إلي رسولا؟
ولو جاءتني لكنت أطوع خلقك لك، قال: فترفع لهم نار، ويقال لهم: ردوها، قال: فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويكعّ عنها الشقي، فيقول الله تبارك وتعالى: إيايّ عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم؟».
أما الصبي والمغلوب على أمره فهما غير مكلفين، وهما في الجنة بفضل الله ورحمته من غير حساب ولا عمل ولا عقاب إلا من علم الله شقاوته وهو المعترض. وأما صاحب الفترة: فليس ككفار قريش ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في أقطار الأرض، وإنما هم الذين لا علم لهم برسالة أو نبوة صحيحة، فهؤلاء ناجون، فهم الذين لم يصل إليهم أن الله تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين، وهؤلاء قليلون في الدنيا، وأهل الفترة ناجون من العذاب إلا من أخبر رسول الله أنه في النار، وربما يكون اعتراض هؤلاء الأصناف الثلاثة حينما يعلمون أنهم في النار، ثم ينجي الله تعالى من علم أنه سعيد فيما لو جاءه رسول.