تفسير سورة الأنبياء

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿أَضْغَاثُ﴾ أخلاط جمع ضغث وهي الأهاويل التي يراها الإنسان من منامه ﴿قَصَمْنَا﴾ القصْم: كسر الشيء الصلب يقال: قصمتُ ظهره وانقصمت سنُّة إذا انكسرت ﴿يَرْكُضُونَ﴾ الركضُ: العدو بشدَّة والركض ضرب الدابة بالرِّجل حثاً على العدو ﴿خَامِدِينَ﴾ خمدت النار طفئت والخمود الهمود ويراد به الموت تشبيهاً بخمود النار ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ دَمَغَه: أصاب دماغه نحو كَبَده ورَأسَه أصاب كبده ورأسه ﴿يَسْتَحْسِرُونَ﴾ يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب.
التفسِير: ﴿اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورحَى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف
233
الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قريب ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ أي ما يأتيهم شيءٌ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير ﴿إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أي إلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلة عن تدبر معناه ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً ﴿هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ﴿أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض﴾ أي قال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾ أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾ هذا إضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إنه أخلاط منامات ﴿بَلِ افتراه﴾ أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال في التسهيل: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون﴾ أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة ﴿مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم؟ ﴿فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإنجيل هل كان الرسل الذين جاءوهم بشراً أم ملائكة؟ إن كنتم لا تعلمون ذلك ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام﴾ أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون ﴿وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾ أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ﴾ أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين ﴿وَأَهْلَكْنَا المسرفين﴾ أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ اللام للقسم أي والله لقد
234
أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب فيه شرفُكم وعزكُم لأنه بلغتكم ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام؟ ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله ﴿وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين ﴿لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ﴾ أي ارجعوا إلى مساكنكم الطيبة ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء والتوبيخ ﴿قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إنا كنا ظالمين بالإشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدنها ﴿حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدبّر الحكيم ﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾ قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد ﴿لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ﴾ أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة ﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ أي هالك تالف ﴿وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ﴾ أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له؟ ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ﴾ أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون ﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارَ لا يضعفون ولا يسأمون ﴿أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ﴾ لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و ﴿أَمِ﴾ منقطع بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً من الأرض قادرين على إحياء الموتى؟ كلا بل اتخذوا آلهة جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإِله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود
235
آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة؟ ﴿فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيمٍ فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ كرَّر هذا الإنكار اسمتعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم؟ ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون ﴿هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإنجيل ليس فيها ما يقتضي الإشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير في غفلة للتعظيم والتفخيم ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾.
٢ - صيغة المبالغة ﴿السميع العليم﴾.
٣ - الإضراب الترقي ﴿بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ وهذا الاضطراب في وصف القرآن يدل على التردُّد والتحير في تزويرهم للحق الساطع المنيرفقولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني.
٤ - الإنكار التوبيخي ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟
٥ - التشبيه البليغ ﴿حَصِيداً خَامِدِينَ﴾ أي جعلناهم كالزرع المحصود وكالنار الخامدة. ٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ شُبّه الحق بشيء صَلب والباطل تشيء رخو واستعير لفظ القذف والدمغ لغلبة الحق على الباطل بطريق التمثيل فكأنه رمي بجرم صلب على رأس دماغ الباطل فشقّه وفي هذا التعبير مبالغة بديعة في إِزهاق الباطل.
٧ - طباق السلب ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
٨ -
236
التبكيت وإِلقام الحجر للخصم ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ها﴾.
فَائِدَة: سئل كعب عن الملائكة كيف يسبّحون الليل والنهار لا يفترون؟ أما يشغلهم شأن، أما تشغلهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النَّفس، ألست تأكل وتشرب، وتقوم وتجلس، وتجيء وتذهب وأنت تتنفس؟ فكذلك جُعل لهم التسبيح.
237
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى أحوال المشركين وأقام الأدلة والبراهين على وحدانية الله وبطلان تعدد الألهة، ذكر هنا أن دعوة الرسل جميعاً إِنما جاءت لبيان التوحيد ثم ذكر بقية الأدلة على قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب.
اللغَة: ﴿رَتْقاً﴾ الرتق: الضمُّ والالتحام وهو ضد الفتق يقال رتقتُ الشيء فأرتق أي التأم ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج ﴿تَمِيدَ﴾ تتحرك وتضطرب ﴿فِجَاجاً﴾ جمع فجّ وهو المسلك والطريق الواسع ﴿يَسْبَحُونَ﴾ يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ تدهشهم وتحيرهم قال الجوهري: بهته بهتاً أخذه بغتة وقال الفراء: بهَته إذا واجهه بشيء يحيّره ﴿يَكْلَؤُكُم﴾ يحرسكم ويحفظكم والكلاءة: الحراسة والحفظ.
سَبَبُ النّزول: مرَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبيُّ بين عبد مناف!! فغضب أبو سفيان وقال: ما تنكر أن يكون لبني عبد منافٍ نبيٌّ؟ فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أبي جهل وقال له: ما أَراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمَّك الوليد بن المغيرة فنزلت ﴿وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ﴾ أي وما بعثنا قبلك يا محمد رسولاً من الرسل ﴿إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ﴾ أي إلا أوحينا إليه أنه لا ربَّ ولا معبود بحق سوى الله ﴿فاعبدون﴾ أي فاعبدوني وحدي وخصوني بالعبادة ولا تشركوا معي أحداً ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً﴾ أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حيٌّ من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تنزَّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ أي بل هم عبادٌ مبجَّلون اصطفاهم الله فهم مكرمون عنده في منازل عالية، ومقاماتٍ سامية وهم في غاية الطاعة والخضوع ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله شأنهُم شأن العبيد المؤدبين وهم بطاعته وأوامره يعملون لا يخالفون ربهم في أمرٍ من الأوامر ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي علمه تعالى محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ أي لا يشفعون يوم القيامة إلا لمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهم أهل الإيمان كما قال بن عباس: هم أهل شهادة لا إله إلا الله ﴿وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ أي وهم من خوف الله ورهبته خائفون حذرون لأنهم يعرفون عظمة الله قال الحسن: يرتعدون من خشية الله ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ﴾ أي يقل من الملائكة إني إلهٌ ومعبودٌ مع الله ﴿فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ أي فعقوبته جهنم قال المفسرون: هذا على وجه التهديد وعلى سبيل الفرض والتقدير لأن هذا شرط والشرطُ لا يلزم وقوعه والملائكة معصومون ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين﴾ أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي من ظلم وتعدى حدود الله ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة وردٌّ على عبدة الأوثان أي أولم يعلم هؤلاء الجاحدون أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين
238
ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقرَّ الأرض كما هي؟ قال الحسن وقتادة: كانت السماوات والأرض ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء وقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسبباً للحياة فلا يعيش بدونه إنسان ولا حيوان ولا نبات ﴿أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي أفلا يصدّقون بقدرة الله؟ ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أي جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب فلا يستقر لهم عليها قرار ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي وجعلنا في هذه الجبال مسالك وطرقاً واسعة كي يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار قال ابن كثير: جعل في الجبال ثُغراً يسكلون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه فيجعل الله فيها فجوةً ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ أي جعلنا السماء كالسقف للأرض محفوظة من الوقوع والسقوط وقال ابن عباس: حفظت بالنجوم من الشياطين ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ أي والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأدلة والعبر معرضون لا يتفكرون فيما ابدعته يد القدرة من الخلق العجيب والتنظيم الفريد الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المشركين غفلوا عن النظر في السماوات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها، وما فيها من القدرة الباهرة إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعاً قادراً واحداً يستحيل أن يكون له شريك ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر﴾ أي وهو تعالى بقدرته نوَّع الحياة فجعل فيها ليلاً ونهاراً هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أُخرى وبالعكس، وخلق الشمس والقمر آيتين عظيمتين دالتين على وحدانيته ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي كلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد﴾ أي وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك يا محمد البقاء الدائم والخلود في الدنيا ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ أي فهل إذا متَّ يا محمد سيخلَّدون بعدك في هذه الحياة؟ لا لن يكون لهم ذلك بل كلٌّ إلى الفناء قال المفسرون: هذا ردٌّ لقول المشركين
﴿شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ [الطور: ٣٠] فأعلم تعالى بأن الأنبياء قبله ماتوا وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا تحفظ دينك وشرعك ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت﴾ أي كل مخلوقٍ إلى الفناء ولا يدوم إلا الحيُّ القيوم ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ أي ونختبركم بالمصائب والنِّعم لنرى الشاكرين من الكافر، والصابر من القانط قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، ولاصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون لنرى كيف صبركم!! ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أي وإلينا مرجعكم فنجازيكم بأعمالكم {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن
239
يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أي إذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشياعه ما يتخذونك إلاّ مهْزُوءاً به يقولون ﴿أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ استفهام فيه إنكار وتعجيب أي هذا الذي يسب آلهتكم ويُسفّه أحلامكم؟ ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ﴾ أي وهم كافرون بالله ومع ذلك يستهزئون برسول الله قال القرطبي: كان المشركون يعيبون من جحد إِلهيةِ أصنامهم وهم جاحدون للإِلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾ أي رُكّب الإنسان على العّجلة فخُلق عجولاً يستعجل كثيراً من الأشياء وإن كانت مضرَّة قال ابن كثير: والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلوا ذلك ولهذا قال ﴿سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ أي سأوريكم انتقامي واقتداري على من عصاني فلا تتعجلوا الأمر قبل أوانه ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي يعدنا به محمد إن كنتم يا معشر المؤمنين صادقين فيما أخبرتمونا به قال تعالى ﴿لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ﴾ أي لو عرف الكافرون فظاعة العذاب حين لا يستطيعون دفع العذاب عن وجوههم وظهورهم لأنه محيط بهم من جميع جهاتهم لما استعجلوا الوعيد قال في البحر: وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف لأنه أبلغ في الوعيد وأهيب وقدَّره الزمخشري بقوله: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكنَّ جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أي لا ناصر لهم من عذاب الله ﴿بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ﴾ أي بل تأتيهم الساعة فجأة فتدهشهم وتحيرهم ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي فلا يقدرون على صرفها عنهم ولا يُمهلون ويُؤخرون لتوبةٍ واعتذار ﴿وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن استهزاء المشركين أي والله لقد اتستهزئ برسلٍ أولي شأن خطير وذوي عدد كثير من قبلك يا محمد ﴿فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي فنزل وحلَّ بالساخرين من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به قال أبو حيان: سلاّه تعالى بأنَّ من تقدَّمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جَنَوْها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين من يحفظكم من بأس الرحمن في أوقاتكم؟ ومن يدفع عنكم عذابه وانتقامه إن أراد إنزاله بكم؟ وهو سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغْترُّوا بما نالهم من نعم الله ﴿بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي بل هؤلاء الظالمون معرضون عن كلام الله ومواعظه لا يتفكرون ولا يعتبرون ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا﴾ أي ألهم آلهة تمنعهم من العذاب غيرنا؟ ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم؟ ﴿وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ﴾ أي وليست هذه الآلهة تستطيع أن تجير نفسها من عذاب الله لأنها في غاية العجز والضغف قال ابن عباس: يُصحبون: يُجارون أي لا يُجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب لجاره ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر﴾ أي
240
متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ﴾ أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها؟ ﴿أَفَهُمُ الغالبون﴾ استفهام بمعنى التقريع والإنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي﴾ أي قل لهم يا محمد إنما أخوفكم واحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ أي ولئن شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً ﴿لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة ﴿فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيءٌ على إساءته ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ أي وإن كان العمل الذي عملته زنة حبةٍ من خردل جئا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر ﴿وكفى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ﴾ أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه ﴿وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ﴾ أي وهم من أهوال يوم القيامة وشدائدها خائفون وجلون ﴿وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمن تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير أنزلناه عليكم بلغتكم ﴿أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْنَا.. رَّسُولٍ﴾.
٢ - الاستفهام الذي معناه التعجب والإِنكار ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا﴾.
٣ - الطباق بين الرتق والفتق في قوله ﴿كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
٤ -
241
التنكير للتعميم ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ﴾.
٥ - الالتفات من المتكلم إلى الغائب ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار﴾ بعد قوله ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المآء﴾ وذلك لتأكيد الاعتناء بالنعم الجليلة التي أنعم بها على العباد.
٦ - الطباق بين الشر والخير ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير﴾.
٧ - المبالغة ﴿خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ﴾ جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من نفس العجل كقول العرب لمن لازم اللعب: هو من لعب وكوصف بعضهم قوماً بقوله «نساؤهم لُعُب ورجالهم طرب».
٨ - الاستعارة ﴿وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء﴾ استعار الصُمَّ للكفار لأنهم كالبهائم التي لا تسمع الدعاء ولا تفقه النداء.
٩ - الكناية ﴿حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ كناية عن العمل ولو كان في غاية القلة والحقارة.
١٠ - السجع اللطيف ﴿يَهْتَدُونَ، يَسْبَحُونَ، يُنصَرُونَ﴾ الخ.
تنبيه: سئل ابن عباس: هل الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم إلى السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
لطيفَة: عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما فقال له: إِذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك - يريد ابن عباس - فذهب إليه فسأله فقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تُمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل الى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر: قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عباس في تفسير القرآن، فالآن علمتُ بأنه قد أُوتي في القرآن علماً.
242
المناسَبَة: لمّا ذكر تعالى الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بذكر قصص الأنبياء، وما نال كثيراً منهم من الابتلاء تسليةً للرسول الأعظم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسّى بهم في الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وتوطين النفس على مجابهة المشركين أعداء الله.
اللغَة: ﴿رُشْدَهُ﴾ هذه إلى وجوه الصلاح ﴿التماثيل﴾ جمع تمثال وهو الصورة والمصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى يقال: مثَّلت الشيء بالشيء أي شبتهته به واسم ذلك الممثَّل تمثال ﴿جُذَاذاً﴾ فتاتاً والجذُّ: الكسر والقطع قال الشاعر: أمْسوا رماداً فلا أصلٌ ولا طرف... ﴿نُكِسُواْ﴾ النَّكْسُ: قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفل ﴿نَافِلَةً﴾ زيادة ومنه النفل لأنه زيادة على افرض الله ويقال لولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد ﴿الكرب﴾ الغم الشديد ﴿نَفَشَتْ﴾ النَّفش: الرعيُ بالليل بلا راع يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار إذا رعت بلا راع.
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - gt; بنوالمهلب جذَّ الله دابرهم
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ أي والله لقد أعطينا إبراهيم هُداه وصلاحه إلى وجوه الخير في الدين والدنيا ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من صغره حيث وفقناه للنظر والاستدلال إلى وحدانية ذي الجلال ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ أي عالمينأنه أهلٌ لما آتيناه من الفضل والنبوة ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ هذا بيانٌ للرشد الذي أُوتيه إِبراهيم من صغرة أي حين قال لأبيه آزر
243
وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وفي قوله ﴿مَا هذه التماثيل﴾ تحقيرٌ لها وتصغيرٌ لشأنها وتجاهل بها مع علمه بتعظيمهم لها ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ أي نعبدها تقليداً لأسلافنا قال ابن كثير: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي لقد كنتم وأسلافكم الذين عبدوا هذه الأصنام في خطأٍ بيّن بعبادتكم إِياها إِذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ﴿قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين﴾ أي هل أنت جادٌّ فيما تقول أم لاعب؟ وهل قولك حقٌّ أم مزاح؟ استعظموا إِنكاره عليهم، واستبعدوا أن يكون ما هم عليه ضلالاً، وجوَّزوا أن ما قاله على سبيل المزاح لا الجد فأضرب عن قولهم وأخبر أنه جادٌّ فيما قال غير لاعب ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ﴾ أي ربكم الجدير بالعبادة هو ربُّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ وأبدعهنَّ لا هذه الأصنام المزعومة ﴿وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين﴾ أي وأنا شاهد للَّهِ بالوحدانية بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي تقطع به الدَّعاوى ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾ أي وأقسمُ بالله لأمكرنَّ بآلهتكم وأحتالنَّ في وصول الضر إليها بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم قال المفسرون: كان لهم عيد يخرجون إليه في كل سنة ويجتمعون فيه فقال آزر لإِبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا! {فخرج معهم إِبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكى رجلي فتركوه ومضوا ثم نادى في آخرهم ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ﴾ فسمعها رجلٌ فحفظها ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً﴾ فسمعها رجلٌ فحفظها أي كسَّر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وحُطاماً ﴿إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ﴾ أي إلا الصنم الكبير فإنه لم يكسره قال مجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلَّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتجّ به عليهم ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه عمن كسَّر الأصنام فيتبين لهم عجزه وتقون الحجة عليهم ﴿قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين﴾ في الكلام محذوفٌ تقديره: فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إل آلهتهم ورأوا ما فُعل بها قالوا على جهة البحث والإِنكار والتشنيع والتوبيخ: إِنَّ من حطَّم هذه الآلهة لشديد الظلم عظيم الجرم لجراءته على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي قال من سمع إِبراهيم يقول ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ سمعنا فتى يذكرهم بالذم ويسبُّهم ويعيبهم يسمى إِبراهيم فلعله هو الذي حطَّم الآلهة} ﴿قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس﴾ أي قال نمرود وأشراف قومه أحضروا إِبراهيم بمرأى من الناس حتى يروه، والغرضُ أن تكون محاكمته على رءوس الأشهاد بحضرة الناس كلهم ليكون عقابه عبرة لمن يعتبر ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ أي لعلهم يحضرون عقابه ويرون ما يصنع به ﴿قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم﴾ أي هل أنتَ الذي حطَّمت هذه الآلهة يا إِبراهيم؟ ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ أي قال إِبراهيم بل حطَّمها الصنم الكبير لأنه غضب أن تعبدوا معه هذه الصغار فكسرها، والغرض بتكيتُهم وإِقامة الحجة عليهم ولهذا قال ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ﴾ أي اسألوا هذه الأصنام من كسرها؟ إن كانوا يقدرون على النطق قال القرطبي: والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا
244
يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله كما قال إِبراهيم لأبيه
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] فقال إِبراهيم ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا﴾ ليقولوا إِنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من نفسه فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ﴿فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ﴾ أي رجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم ﴿فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون﴾ أي أنتم الظالمون في عبادة ما لا ينطق ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ﴾ أي أنقلبوا من الإِذعان إلى المكابرة والطغيان ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ﴾ أي قالوا في لجاجهم وعنادهم: لقد علمتَ يا إِبراهيم أن هذه الأَصنام لا تتكلم ولا تجيب فكيف تأمرنا بسؤالها؟ وهذا إِقرار منهم بعجز الآلهة، وحينئذٍ توجهت لإِبراهيم الحجة عليهم فأخذ يوبخهم ويعنّفهم ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ﴾ أي أتعبدون جمادات لا تضر ولا تنفع؟ ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي قبحاً لكم ونتناً لكم وللأصنام التي عبدتموها من دون الله ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفلا تعقلون قبح صنيعكم؟ ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ﴾ لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب عدلوا إلى البطض والتنكيل فقالوا: احرقوا إِبراهيم بالنار انتقاماً لآلهتكم ونصرةً لها ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أَي إِن كنتم ناصريها حقاً ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ أي ذات بردٍ وسلامة وجاءت العبارةُ هكذا للمبالغة قال المفسرون: لما أرادوا إِحراق إِبراهيم جمعوا له حطباً مدة شهر حتى كانت المرأة تمرض فتنذر إِن عوفيت أن تحمل حطباً لحرق إِبراهيم، ثم جعلوه في حفرة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها لهب عظيم حتى إِن الطائر ليمرُّ من فوقها فيحترق من شدة وهجها وحرها، ثم أوثقوا إِبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار، فجاء إِليه جبريل فال: ألك حاجة؟ قال أمّا إِليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم، ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وقال ابن عباس: لو لم يقل الله ﴿وسلاما﴾ لآذى إِبراهيم بردها ﴿وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً﴾ أي أرادوا تحريقه بالنار ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين﴾ أي أخسر الناس وأخسر من كل خاسر حيث كادوا لنبيّ اللهِ فردَّ الله كيدهم في نحورهم ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي ونجينا إِبراهيم مع ابن أخيه لوط حيث هاجرا من العراق إلى الشام التي بارك الله فيها بالخِصب وكثرة الأَنبياء ووفرة الأنهار والأشجار قال ابن الجوزي: وبركتُها أن الله عزَّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخِصب والأنهار ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ أي أعطينا إِبراهيم - بعدما سأل ربه الولد - إسحاق وأعطيناه كذلك يعقوب نافلةً أي زيادة وفضلاً من غير سؤال قال المفسرون: سأل إِبراهيم ربه ولداً فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة زيادة على ما سأل لأنَّ ولد الولد كالولد ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ أي وكلاً من إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب جعلناه من أهل الخير والصلاح ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ أي جعلناهم قدوةٌ ورؤساء لغيرهم يرشدون الناس إلى الدين بأمر الله {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ
245
فِعْلَ الخيرات} أي أوحينا إِليهم أن يفعلوا الخيرات ليجمعوا بين العلم والعمل ﴿وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة﴾ أي وأمرناهم بطريق الوحي بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وإِنما خصهما بالذكر لأن الصلاة أفضلُ العبادات البدنية، والزكاة أفضلُ العبادات المالية ﴿وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ﴾ أي موحدين مخلصين في العبادة ﴿وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي وأعطينا لوطاً النبوة والعلم والفهم السديد قال ابن كثير: كان لوط قد آمن بإِبراهيم عليه السلام واتَّبعه وهاجر معه كما قال تعالى
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ [العنكبوت: ٢٦] فآتاه الله حُكماً وعلماً وأوحى إِليه وجعله نبياً وبعثه إلى «سدوم» فكذبوه فأهلكهم الله ودمَّر عليهم كما قصّ خبرهم في غير موضع من كتابة العزيز ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث﴾ أي خلَّصناه من أهل قرية سدوم الذين كانواْ يعملون الأعمال الخبيثة كاللواط وقطع السبيل وغير ذلك ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ أي كانوا أشراراً خارجين عن طاعة الله ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصالحين﴾ أي أدخلناه في أهل رحمتنا لأنه من عبادنا الصالحين ﴿وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ﴾ أي واذكر قصة نوح حين دعا على قومه من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين، دعا عليهم بالهلاك حين كذبوه بقوله ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦] ﴿فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي استجبنا دعاءه فأنقذناه ومن معه من المؤمنين - ركاب السفينة - من الطوفان والغرق الذي كان كرباً وغماً شديداً يكاد يأخذ بالأنفاس ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي منعناه من شر قومه المكذبين فنجيناه وأهلكناهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي كانوا منهمكين في الشرّ فأغرقناهم جميعاً ولم نُبْق منهم أحداً ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث﴾ أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم﴾ أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ أي علمنا وألهمنا سليمان الحكم في القضية ﴿وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي وكلاً من داود وسليمان أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة قال المفسرون: تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو الباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع! قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير﴾ أي جعلنا الجبال والطير تسبّح مع داود إذا سبّح قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور فكان إِذا ترنّم بها تقف الطير في الهواء فتجاوبه وتردُّ عليه الجبال تأويباً وإِنما قدَّم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد ﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ أي وكنا قادرين على فعل ذلك ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ أي علمنا داود صنع
246
الدروع بإِلانةِ الحديد له قال قتادة: أول من صنع الدروع داود وكانت صفائح فهو أول من سردها وحلَّقها ﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ﴾ أي لتقيكم في القتال شرٌ الأعداء ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾ استفهامٌ يراد به الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم، ولما ذكر تعالى ما خصَّ به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خصَّ به ابنه سليمان فقال ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً﴾ أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفةً أي شديدة الهبوب ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي تسير بمشيئته وإرادته إلى أرض الشام المباركة بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، وكانت مسكنه ومقر ملكه ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ أي وكنا عالمين بجميع الأمور فما أعطيناه تلك المكانة إِلا لما نعلمه من الحكمة ﴿وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ﴾ أي وسخرنا لسليمان بعض الشياطين يغوصون في الماء ويدخلون أعماق البحار ليستخرجوا له الجواهر واللآلئ ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك﴾ أي ويعملون أعمالاً أخرى سوى الغوص كبناء المدن والقصور الشاهقة والأمور التي يعجز عنها البشر ﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ أي نحفظهم عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من وجوه الفصاحة والبديع ما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ﴾ شبه رجوعهم عن الحق إلى الباطل بانقلاب الشخص حتى يصبح أسفله أعلاه بطريق الاستعارة.
٢ - الطباق بين ﴿يَنفَعُكُمْ.. ويَضُرُّكُمْ﴾.
٣ - المبالغة ﴿كُونِي بَرْداً﴾ أطلق المصدر وأراد اسم الفاع ل أي باردة أو ذات برد.
٤ - عطف الخاص على العام ﴿فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة﴾ لأن الصلاة والزكاة من فعل الخيرات وإِنما خصهما بالذكر تنبيهاً لعلو شأنهما وفضلهما.
٥ - الاحتراس ﴿وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ دفعاً لتوهم انتقاص مقام داود عليه السلام.
٦ - المجاز المرسل ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ﴾ أي في الجنة لأنها مكان تنزل الرحمة فالعلاقة المحلية.
٧ - السجع غير المتكلف ﴿العَابِدِينَ الصابرين، الصالحين﴾ الخ.
تنبيه: وصف تعالى الريح هاهنا بقوله ﴿عَاصِفَةً﴾ ووصفها في مكان آخر بقوله ﴿رُخَآءً﴾ [ص: ٣٦] والعاصفة هي الشديدة، والرخاء هي اللَّينة، ولا تعارض بين الوصفين لأن الريح كانت ليّنة طيبة وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين فتدبر.
247
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى جملةً من الأنبياء «إبراهيم، نوح، لوط، داود، سليمان» وما نال كثيراً منهم من الابتلاء، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاء الله له بأنواع المحن ثم أعقبها بذكر محنة يونس وزكريا وعيسى وكلُّ ذلك بقصد التسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسى بهم.
اللغَة: ﴿ذَا النون﴾ النون: الحوت وذا النون لقب ليونس بن متّى لابتلاع النون له ﴿أَحْصَنَتْ﴾ الإحصان: العفة يقال: رجل محصنٌ وامرأة محصنة أي عفيفة ﴿رَغَباً وَرَهَباً﴾ الرغب: الرجاء، والرهب: الخوف ﴿كُفْرَانَ﴾ الكفر والكفران: الجحود وأصله الستر لأن الكافر يستر
248
نعمة الله ويجحدها ﴿حَدَبٍ﴾ الحدب: ما ارتفع من الأرض مأخوذ من حدبة الظهر قال عنترة:
فما رعِشتْ يداي ولا ازدهاني تواترهم إليَّ من الحِداب
﴿يَنسِلُونَ﴾ يسرعون يقال: نسل الذئب ينسل نسلاناً أي أسرع ﴿حَصَبُ﴾ الحصب: ما توقد به النار كالحطب وغيره ﴿زَفِيرٌ﴾ أنين وتنفس شديد ﴿حَسِيسَهَا﴾ الحسيس: الصوتُ والحسُّ والحركة الذي يُحس به من حركة الأجرام ﴿السجل﴾ الصحيفة لأن بها يُسجل المطلوب.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ شقَّ ذلك على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا واتوا ابن الزَّبعري وأخبروه فقال: لو حضرتُه لرددتُ عليه قالوا: وما كنت تقول له؟ قال أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وهذا عزير تعبده اليهود؛ أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته وأوا أنَّ محمداً قد خصم فأنزل الله ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
التفسِير: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ أي واذكر قصة نبيّ الله أيوب حين دعا ربَّه بتضرع وخشوع ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضر﴾ أي نالني البلاء والكرب والشدة قال المفسرون: كان أيوب نبياً من الروم، وكان له أولاد ومال كثير، فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلَّط البلاء والمرض على جسمه فصبر فمر عليه ملأ من قومه فقالوا: ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم فعند ذلك تضرَّع إلأى الله فكشف عنه ضره ﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ أي أكثرهم رحمة فارحني، ولم يصرّح بالدعاء ولكنه وصف نفسه بالعجز والضعف، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان فيه من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ أي أجبنا دعاءه وتضرعه ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ﴾ أي أزلنا ما أصابه من ضر وبلاء ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي أُحيوا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والمعنى أعطيناه أهله في الدنيا ورزقناه من زوجته مثل ما كان له من الأولاد والأتباع ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ أي من أجل رحمتنا إِيّأه ﴿وذكرى لِلْعَابِدِينَ﴾ أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبوا كما صبر قال القرطبي: أي وتذكيراً للعُبَّاد لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب ومحنته وصبره وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا مثل ما فعل أيوب وهو أفضل أهل زمانه، يُروى أنَّ أيوب مكث في البلاء ثمان عشرة سنة فقالت له امرأته يوماً: لو دعوتَ الله عَزَّ وَجَلَّ فقال لها: كم لبثنا في الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: إني أستحيي من الله أن أدعوه وما مكثت في بلائي المدة التي مكثتها في رخائي ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل﴾ أي واذكر لقومك قصة إسماعيل بن إِبراهيم وإِدريس بن شيث وذا الكفل ﴿كُلٌّ مِّنَ الصابرين﴾ أي كل من هؤلاء الأنبياء من أهل الإِحسان والصبر، جاهدوا في الله
249
وصبروا على ما نالهم من الأذى ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا﴾ أي أدخلناهم بصبرهم وصلاحهم الجنة دار الرحمة والنعيم ﴿إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين﴾ أي لأنهم من أهل الفضل والصلاح ﴿وَذَا النون﴾ أي واذكر لقومك قصة يونس الذي ابتلعه الحوت، والنونُ هو الحوتُ نُسب إِليه لأنه التقمه ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً﴾ أي حين خرج من بلده مغاضباً لقومه إِذ كان يدعوهم إِلى الإِيمان فيكفرون حتى أصابه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله تعالى
﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت﴾ [القلم: ٤٨] ولا يصح قول من قال: مغاضباص لربه قال أبو حيان: وقولُ من قال مغاضباً لربه يجب طرحه إِذ لا يناسب مصب النبوة وقال الرازي: لا يجوز صرف المغاضبة إِلى الله تعالى لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهلث بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكوننبياً، ومغاضبتُه لقومه كانت غضباً لله، وأنفةً لدينه، وبغضاً للكفر وأهله ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي ظنَّ يونس أنْ لن نضيّق عليه بالعقوبة كفوله ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] أي ضُيّق عليه فيه فهو من القدر لا من القُدرة قال الإِمام الفخر: من ظنَّ عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إِلى الأنبياء عليهم السلام! روي أنه دخل ابن عباس على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقتُ فيها فلم أجدْ لي خلاصاً إِلا بك، فقال: وما هي؟ قال: يظنُّ نبيُّ الله يونس أن لن يقدر الله عليه؟ فقال ابن عباس: هذا من القدْر لا من القُدرة ﴿فنادى فِي الظلمات﴾ أي نادى ربه في ظلمة الليل وهو في بطن الحوت قال ابن عباس: جمعت الظلمات لأنها ظلمة الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت ﴿أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ﴾ أي نادى بأن لا إِله إِلا أنت يا رب ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ أي تنزَّهت يا ربّ عن النقص والظلم، وقد كنتُ من الظالمين لنفسي وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشفْ عني المحنة وفي الحديث
«ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إِلا استجيب له» ﴿فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم﴾ أي استجبنا لتضرعه واستغاثته ونجيناه من الضيق والكرب الذي ناله حين التقمه الحوت ﴿وكذلك نُنجِي المؤمنين﴾ أي كما نجينا يونس من تلك المحنة ننجي المؤمنين من الشدائد والأهوال إذا استغاثوا بنا ﴿وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً﴾ أي واذكر يا محمد خبر رسولنا زكريا حين دعا ربه دعاء مخلص منيب قائلاً: ربّ لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث قال ابن عباس: كان سنُّه مائة وسنُّ زوجته تسعاً وتسعين ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين﴾ أي وأنت يا رب خير من يبقى بعد كل من يموت قال الألوسي: وفيه مدحٌ له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، واستمطارٌ لسحائب لطفه عَزَّ وَجَلَّ ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ أي أجبنا دعاءه ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى﴾ أي رزقناه ولداً اسمه يحيى على شيخوخته ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ أي جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقراً وقال ابن عباس: كانت سيئة الخُلُق طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخُلُق ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ أي إِنما استجبنا دعاء من ذُكر من
250
الأنبياء لأنهم كانوا صالحين يجدّون في طاعة الله ويتسابقون في فعل الطاعات وعمل الصالحات ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾ أي طمعاً ورجاءً في رحمتنا وخوفاً وفزعاً من عذابنا ﴿وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ﴾ أي كانوا متذللن خاضعين لله يخافونه في السر والعلن ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ أي واذكر مريم البتول التي أعفت نفسها عن الفاحشة وعن الحلال والحرام كقوله ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٠] قال ابن كثير: ذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه حينى لأن تلك مربوطة بهذه فإِنها إِيجاد ولدٍ من شيخ كبير قد طعن في السن وامرأة عجوز لم تكن تلد في حال شبابها، وهذه أعجب فإِنها إِيجاد ولدٍ من أنثى بلا ذكر ولذلك ذكر قصة مريم بعدها ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ أي أمرنا جبريل فنفخ في فتحة درعها - قميصها - فدخلت النفخة إِلى جوفها فحملت بعيسى، وأضاف الروح إِليه تعلى على جهة التشريف ﴿وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي وجعلنا مريم مع ولدها عيسى علامةً وأعجوبة للخلق تدل عدرتنا الباهرة ليعتبر بها الناس ﴿إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي دينكم وملتكم التي يجب ان تكونوا عليها أيها الناس ملةٌ واحدة غير مختلفة وهي ملة الإِسلام، والأنبياء كلهم جاءوا برسالة التوحيد قال ابن عباس: معناه دينكم دينٌ واحد ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون﴾ أي وأنا إِلهكم لا برَّ سواي فأفردوني بالعبادة ﴿وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي اختلفوا في الدين وأصبحوا فيه شيعاً وأحزاباً فمن موحّد، ومن يهودي، ونصراني ومجوسّي ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ أي رجوعهم إِلينا وحسابهم علينا قال الرازي: معنى الآية جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قِطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه تمثيلاً لاختلافهم في الدين وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي من يعمل شيئاً من الطاعات وأعمال البرّ والخير بشرط الإِيمان ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ أي لا بُطلان لثواب عمله ولا يضيع شيء من جزائه ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ أي نكتب عمله في صحيفته والمراد أمر الملائكة بكتابة أعمال الخلق ﴿وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ قال ابن عباس: أي ممتنعٌ على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك إِلى الدنيا مرة ثانية وفي رواية عنه ﴿أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يتوبون قال ابن كثير: والأول أظهر وقال في البحر: المعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا إِهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إِلى الإِيمان إِلى أن تقوم الساعة فحينئذٍ يرجعون ﴿حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ أي حتى إذا فتح سدُّ يأجوج ومأجوج ﴿وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ﴾ أي وهم لكثرتهم من كل مرتفع من الأرض ومن كل أكمة وناحية يسرعون لالنزول والمرادُ أن يأجوج ومأجوج لكثرتهم يخرجون من كل طريق للفساد في الأرض ﴿واقترب الوعد الحق﴾ أي اقترب وقت القيامة قال المفسرون: جعل الله خروج يأجوج ومأجوج علماً على قرب الساعة قال ابن مسعود: الساعةُ من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل التمتّم لا يدري أهلُها متى تفْجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراًً ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ﴾ الضمير للقصة والشأن أي فإِذا شأن الكافرين أنَّ أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم لا تكاد تطرف
251
من الحيرة وشدة الفزع ﴿ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا﴾ أي ويقولون يا ويلنا أي يا حسرتنا وهلاكنا قد كنا في غفلةٍ تامة عن هذا المصير المشئوم واليوم الرهيب ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أضربوا عن القول السابق وأخبروا بالحقيقة المؤلمة والمعنى لم نكن ف غفلةٍ حيث ذكَّرتنا الرسلُ ونبَّهتنا الآيات بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الإِيمان ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي إِنكم أيها المشركون وما تعبدونه من الأوثان والأصنام ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أي حطب جهنم ووقودها قال أبو حيان: الحَصب ما يحصب به أي يُرمى بهْ في نار جهنم، وقبل أن يُرمى به لا يُطلق عليه حصبٌ إِلا مجازاً ﴿أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أي أنتم داخلوها مع الأصنام، وإِنما جمع الله الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمّهم وحسرتهم برؤيتهم الآلهة التي عبدوها معهم في عذاب الجحيم ﴿لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا﴾ أي لو كانت هذه الأصنام التي عبدتموها آلهةً ما دخلوا جهنم ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي العابدون والمعبدون كلهم في جهنم مخلَّدون ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ أي لهؤلاء الكفرة في النار زفير وهو صوت النَّفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو يشبه أنين المحزون والمكلوم ﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي لا يسمعون في جهنم شيئاً لنهم يُحشرون صُماً كما قال تعالى
﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً﴾ [الإسراء: ٩٧] قال القرطبي: وسماعُ الأشياء فيها روح وأُنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار وقال ابن مسعود: إِذا بقي من يُخلَّد في نار جهنم جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنه يُعذُب في النار غيره ثم تلا الآية ﴿إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى﴾ أي سبقت لهم السعادة ﴿أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ أي هم عن النار معبدون لا يصلون حرَّها ولا يذوقون عذابها قال ابن عباس: أولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرّاً أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثياً ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ أي لا يسمعون حسَّ النار ولا حركة لهبها وصوتها ﴿وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ أي وهم في الجنة دائمون، لهم فيها تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ أي لا تصيبهم أهوال يوم القيامة والبعث لأنهم في مأمنٍ منها ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة﴾ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم قائلين ﴿هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أي هذا يوم الكرامة والنعيم الذي وعدكم الله به فأبشروا بالهناء والسرور ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ أي اذكر يوم نطوي السماء طياص مثل طيّ الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى «على» ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ أي نحشرهم حفاةً عُراةً غُرْلاً على الصورة التي بدأنا خلقهم فيها وفي الحديث «إنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غُرلاً ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ألا وإِنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام..» الحديث ﴿وَعْداً عَلَيْنَآ﴾ أي وعداً مؤكداً لا يُخلف ولا يبدّل لازم علينا إِنجازه والوفاء به ﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ أي قادرين على ما نشاء، وهو تأكيد لوقوع البعث ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور﴾ أي سجلنا وسطرنا في الزبور المنزل على داود {مِن بَعْدِ
252
الذكر} أي من بعد ما سطرنا في اللوح المحفوظ أزلاً ﴿أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون﴾ أي أن الجنة يرثها المؤمنون الصالحون قال ابن كثير: أحبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال القرطبي: أحسن ما قيل فيها أنه يراد به أرض الجنة لأن الأرض في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم وهو قول ابن عباس ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض﴾
[الزمر: ٧٤] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال مجاهد: الزبور: الكتب المنزلة، والذكرُ أمُّ الكتاب عند الله ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ أي إِنَّ في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لكفايةً لقوم خاضعين متذللين لله جل وعلا، المؤثرين لطاعة الله على طاعة الشيطان ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي وما أرسلناك يا محمد إلا رحمة للخلق أجمعين وفي الحديث «إنما أنا رحمةٌ مهداة» فمن قَبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ﴿قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أوحى إِليَّ ربي أنَّ إِلهكم المستحق للعبادة إِله واحد أحد فرد صمد ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ استفهام ومعناه الأمر أي فأسلموا له وانقادوا لحكمه وأمره ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام ﴿فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ﴾ أي فقل لهم أعلمتكم بالحق على استواءٍ في الإِعلام لم أخصَّ أحداً دون أحد ﴿وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ أي وما أدري متى يكون ذلك العذاب؟ ولا متى يكون أجل الساعة؟ فهو واقع لا محالة ولكنْ لا علم لي بقربه ولا ببعده ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ أي اللَّهُ هو العلام الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السرَّ وأخفى، وسيجازي كلاً بعمله ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ﴾ أي وما أدري لعل هذا الإِمهال وتأخير عقوبتكم امتحانٌ لكم لنرى كيف صنيعكم ﴿وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ أي ولعلَّ هذا التأخير لتستمتعوا إِلى زمنٍ معين ثم يأيكم عذاب الله الأليم ﴿قَالَ رَبِّ احكم بالحق﴾ أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وافصل بيننا بالحق ﴿وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ أي أستعين بالله على الصبر على تصفونه من الكفر والتكذيب. ختم السورة الكريمة بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتفويض الأمر إِليه وتوقع الفرج من عنده، فهو نعم الناصر ونعم المعين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التعرض للرحمة بطريق التلطف ﴿وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ ولم يقل: ارحمني.
253
٢ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْحَمُ الراحمين﴾.
٣ - الجناس الناقص ﴿الصابرين.. الصالحين﴾.
٤ - الطباق بين ﴿رَغَباً.. وَرَهَباً﴾ وبين ﴿بَدَأْنَآ.. ونُّعِيدُهُ﴾ وبين ﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ﴾.
٥ - التشريف ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ أضاف الروح إِليه تعالى على جهة التشريف كقوله ﴿نَاقَةَ الله﴾.
٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ مثَّل اختلافهم في الدين وتفرقهم فيه إِلى شيع وأحزاب بالجماعة تتوزع الشيء لهذا نصيب، وهذا من لطيف الاستعارة.
٧ - الإِيجاز بالحذف ﴿ياويلنا﴾ أي ويقولون يا ويلنا، ومثلُه قوله ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ﴾ أي تقول لهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
٨ - التشبيه المرسل المفصل ﴿نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ أي طياً مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها.
٩ - الاستفهام الذي يراد به الأمر ﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي أسلموا.
١٠ - السجع ﴿فاعبدون، كَاتِبُونَ، رَاجِعُونَ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
254
Icon