تفسير سورة آل عمران

تفسير الراغب
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير الراغب الأصفهاني المعروف بـتفسير الراغب .
لمؤلفه الراغب الأصفهاني . المتوفي سنة 502 هـ

سورة آل عمران
قوله عز وجل: (الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ).
ْالأصل في حروف التهجي السكون، وكان حكم الميم
حكم غيره لكن حُرِّك لالتقاء الساكنين، وفُتح استثقالاً للكسرة
فيه من أجل الياء قبله، ومن قال: إنما فُتِحَ لأنه أُلقِيَ عليه
حركة الهمزة فخطأ؟ لأن هذه الهمزة تسقط في الدَّرْج إلا في
قولهم: يا ألله، والهمزة التي تُلقى حركتها على ما قبلها هي
401
الثابتة في الوصل والوقف، نحو: مَنَ ابوك؟ إذا قلت: منْ
أَبوك؟.
وَرُوِيَ عن عاصم وغيره سكونُ الميم وقطعُ الألف.
وليس ذلك بصحيح عند النحويين، لكون الألف فيه للوصل.
وأما موضع إعراب (الم) فمبتدأ وخبره مضمر، أو خبر مبتدؤه
402
مضمر، ودلَّ على المحذوف منه قوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)
فصار كقوله: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ) وقال بعضهم: (الم)
مبتدأ وخبره (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)، ونسب تعالى التنزيل إلى
الحروف، تنبيهاً أنه منها، وأن عجزَكُمْ عن الإِتيان بمثله دلالة
لكم أنه كلام الله دون كلام الخلق.
وقد تقدَّم أن أهل اللغة قالوا:
الكتاب سُمِّيَ لكتب الحروف بعضها إلى بعض، أي ضمُّها.
وقيل: سُمِّيَ المعنى الثابت كتابً تشبيهاً بالمكتوب، وعلى هذا قوله
تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ).
403
ويقال: لكل مُوجَب كتاب.
ورُوي أنه نزل ذلك في وفد نجران الذين أتوا النبي - ﷺ -، فخاصموا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال النبي - ﷺ -: "ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يموت، وأن
الله لا يخفى عليه شيء، وقد كان عيسى يخفى عليه أشياء، وأن
عيسى صُوِّر في الرحم كيف شاء الله؟ " - نبههم بذلك أنه لا يصحّ
أن يكون عيسى مع كونه بهذه الصفات إلهاً - فأنزل الله تعالى
الآية.
404
فقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ليس بدعوى يحتاج فيها إلى
دلالة من خارج، بل هو في نفسه دلالة لازمة وحجة واضحة.
فإن معنى قوله: (اللَّهُ) أي هو الذي يحق له العبادة، أي الذي
تَأْلَهُ الأشياء إليه، وكان الكفار يقولون: الأشياء ثلاثة: عابد
غير معبود، ومعبود عابد، ومعبود غير عابد؟ وهو الله تعالى.
فبيّن تعالى بهذا أن المستحق للعبادة على الإِطلاق هو الذي
لا إله إلا هو، وأكَّد ذلك بقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، والحي في صفات الله
معناه الذي لا يجوز عليه الموتُ، وبه حياة كل حي، وإذا استُعْمِل
في غيره فعلى معنى قبول الحياة منه تعالى.
والقيوم: هو القائم بحفظ كل شيء، والمعطي له ما به قوامه، وهو المعنى المذكور
405
في قوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
وقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
والحقُ أبلغُ من الصدق،. لأن كل صدق حق، وليس كل حق
صدقًا، ويتناول الأحكام والواجبات من حقوق الله وحقوق
الناس. والصدق من أخبار الأمم السالفة والآنفة، والحق الذي هو
الجدُّ. والتوراة عند الكوفيين تَفْعَلَة وليس في كلام العرب تَفْعَلَة
بوجه، وإنما هو تَفْعُلَة نحو تَتْفُلَة وتفعِلة نحو تكرِمة.
406
وقيل: أَصله تَفْعِلَة، فعدل عن الكسرة إلى الفتحة.
وعند البصريين هي فَوْعَلَة نحو: حَوْقَلَة، وصَوْمَعَة. فأبدل
من الواو تاء، كما أبدل في تَوْصِيَةٍ وتَيْقُورٍ من الوقار.
والإِنجيل: إِفْعِيل من النجل، والنجل مستعمل في الأصل
وفي الولد.
407
إن قيل: لِمَ قال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ)؟
قيل: قد يقال: (نزّل) و (أنزل) بمعنى. لكن خصَّ الكتاب
بالتنزيل لأمرين:
أحدهما: أن هذا الكتاب لما كان حكمُهُ مؤبدًا، والتنزيل بناء المبالغة
خُص به تنبيهًا على هذا المعنى، وليس ذلك حكم الكتابين قبل.
والثاني: أن هذا الكتاب أُنزل شيئًا فشيئًا، والكتابين أُنزل كل
واحد منهما جملة.
وقوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني الكتب المتقدمة، وخُصَّ التوراة والإِنجيل بالذكر، وإن كانا قد دخلا في عموم ما بين يديه تشريفًا لهما.
و (مُصَدِّقًا) حال للمُنَزِّل أو للمنزَّل.
408
ْوقوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) أي أنزل في كتبه ما يُفرِّق به بين
الحق والباطل في الاعتقادات، والخيرِ والشر في الأفعال، نحو
قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ): وكل كتاب لئه فرقان.
وقيل: الفرقان مخصوص به القرآن خاصة، وتَخصيصه بالذكر بعدما
تقدَّم تنبية على إثبات المعنيين له، كقوله تعالى: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
إن قيل: كيف يكون القرآنُ مُصدِّقَا لما بين يديه، وهو ناسخ
409
لعامة أحكامه؟
قيل: تصديقهُ إياه تحقيقهُ أنه من جهة الله، ومطابقته إياه في
كونه داعيًا إلى التوحيد وفعل الخير ونحو ذلك، وإلى أنواع
العبادات دون قدرها وهيكلها وكيف إيقاعها.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥).
لم يعنِ بآيات الله كتابه فقط، بل كل آية دالة عليه: عقلية
كانت أم سمعية، ففي كل شيء له عبرة، ونبَّه أنه لا يتهيأ
لأحد منعه من عذاب من أراد.
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
410
الصورة من صَيرته أي أحلته، وهي هيئة معقولة أو محسوسة.
والصبغة نحوها، إلا أن أكثر ما يستعمل في المحسوسة.
إن قيل: كيف قال في موضع: (وَصَوَّرَكُمْ) على لفظ الماضي.
وقال هاهنا بلفظ الاستقبال؟
قيل: أما أولاً فلا اعتبار بالأزمنة في أفعاله تعالى، وإنما استعمال الألفاظ فيه الدالة على الأزمنة
بحسب اللغات، وأيضاً فقوله: صوَّركم إنما هو على سبيل
التقدير، وأن فعله تعالى في حكم ما قد فرغ منه، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، وقوله: يصور على حسب ما يظهر لنا حالاً، فحالا،
411
إن قيل: لِمَ قال: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)
ولم يقل: ْ هو عالم بكل شيء؟
قيل: لأن الوصف بأنه "لا يخفى عليه شيء" أبلغ من قوله "يعلم "
في الأصل، وإن كان استعمال اللفظتين فيه يفيدان معنىً واحدًا.
وتخصيص الأرض والسماء لكون ذكرهما أهول بالإِضافة إلينا، وفيه دلالة على كل شيء، وإنما كرر قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) لأنه لما ذكر ما تقدم
دليلًا على كون عيسى مخلوقًا، وكونه تعالى خالقًا نبّه بقوله:
(لَاَ إلَهَ إلَأ هُوَ) أن لا معبود سواه، وأنه العزيز في نقمته.
الحكيم في أمره، لا حاجة به إلى ولد، ولا حكمة تقتضي ذلك.
قوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧).
412
الزيغ: الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، ومنه زاغ البصرُ.
وزاغت الشمسُ عن كبد السماء، وزاغ قلبُه، وزاغ وزال ومال.
تتقاربُ، لكن زاغ لا تُقال إلا فيما كان عن حقٍّ إلى باطلٍ.
والتأويل: آخر الشيء ومآله، وقد تقدم الفرق بينه وبين التفسير.
والمحكم قد وُصف به القرآن على وجهين:
ْأحدهما: عام في جميعه، نحو (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) ويعني بذلك المتقن.
نحو: بناء محكم، وعقد محكم.
والثاني: ما وُصِفَ به بعض الكتاب المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) وهو ما لا يصعب على العالم معرفته لفظًا أو معنىً،
413
وقيل: ما لا يحتاج العالم في معرفته إلى تكلُف نظر، وعكسُهُ
المتشابه، والكلامُ في أحوال المحكم والمتشابه - مشكلٌ.
ولابُد من إيراد جملةٍ ينكشف بها ذلك، فيُقال وبالله التوفيق:
الكلام من جهة الإِحكام والتشابه على ضربين:
أحدهما: ما يرجع إلى ذات المحكم والمتشابه في نفسه.
والثاني: ما يرجع إلى أمر ما يعرض لهما.
فالأول على أربعة أضرب:
أحدها: محُكم من جهة اللفظ والمعنى، نحو قوله تعالى:
(تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
414
الثاني: مشابه من جهتيهما، نحو قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)
والثالث: متشابه في اللفظ مُحكم في المعنى، نحو قوله:
(وَجَاءَ رَبُّكَ)
415
والرابع متشابه في المعنى مُحكم في اللفظ، نحو:
الساعة، والملائكة.
وقد تجعل هذه الأقسام ثلاثة: أحدها: محكم على الإِطلاق.
ومتشابه على الإِطلاق، ومحكم من وجه.
والمتشابه ضربان:
أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر: من جهة المعنى.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان:
أحدهما: يرجع إلى مفردات الألفاظ.
وذلك إما من جهة غرابة اللفظ، نحو (الأبّ) ونحو (يَزِفُّون)،
416
وإما من تَشَارُكِ في اللفظ: كاليد والعين والوجه.
الثاني: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
أحدها: اختصار الكلام نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ).
والثاني: تطويله نحو (كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
والثالث: إغلاق نظمه، نحو: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا).
والمتشابه من جهة المعنى ضربان:
أحدها: د قة المعنى، كأوصاف الباري تعالى، وأوصاف
417
القيامة.
والثاني: ترك الترتيب، نحو قوله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا).
418
وما يرجع إلى اللفظ والمعنى معا، فأقسامه بحسب تركيب بعض
وجوه اللفظ مع بعض وجوه المعنى، نحو: غرابة اللفظ مع دقة
المعنى، وذلك ستة أقسام، وأما المتشابه من جهة ما يعرض للفظ
فخمسة أقسام: أحدها: من جهة الكمية: كالعموم والخصوص.
والثاني: من طريق الكيفية: كالوجوب والندب، والثالث:
من جهة الزمان: كالناسخ والمنسوخ، والرابع: من جهة
المكان: كالمواضع، والأمور التي نزلت فيها، نحو قوله:
(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا).
وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، فإنه يحتاج في معرفة ذلك
419
إلى معرفة عادتهم في الجاهلية.
والخامس: من جهة الإِضافة.
وهي الشروط التي بها يصح الفعلُ أو يفسدُ: كشروط العبادات
والأنكحة، وهذه الجملة من المحكم والمتشابه إذ تُصُوِّرَتْ
عُلم أن جميع ما يذكره المفسرون لا يخرج منها، نحو قول من
قال: المتشابه نحو (الم) وما أشبهه، وقول مجاهد:
المحكم ما فيه الحلال والحرام، والمتشابه ما سواه.
وقول
420
قتادة: المحكمُ الناسخُ الذي يُعملُ به، والمتشابه: المنسوخُ.
وقول الأصم: المحكمِات ما حججهُ ظاهر، والمتشابه ما
حججهُ غامضه.
وقول غيرهم: المحكم ما أُجْمع على تأويله،
421
والمتشابه ما اختلف فيه، فكلُّ هذه الأقوال مثالاتٌ لبعض
ما انطوت عليه هذه الجملة. ثم جميع ما ذكرنا من المتشابه على
ثلاثة أضرب: ضرب لا مرية فيه أنْ لا سبيل إلى المراد بتأويله.
وهو بعض ما تَعْرضُ فيه الشبهة من جهة المعنى كمجيء الساعة.
وحقيقة ذاته.
وضرب لا خلاف أن للإِنسان سبيلًا إلى معرفته، وذلك ما كان اشتباهه من جهة ما يعرض له من عموم وخصوص
ووجوب وندب وغير ذلك مما تقدم ذكره، وكذا ما تعرض فيه
الشبهة من جهة غرابة اللفظ، وما هو مترددٌ بين الأمرين، يجوز
أن يُختَص بمعرفته بعض الراسخين في العلم نحو علي
422
وابن عباس وغيرهما مما قال النبي - ﷺ -: "اللهم فقِّهه في
الدين وعلِّمه التأويل".
وهذه الجملة إذا تُصُوِّرت
423
عُلِم أن من رأى الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ)
واستأنف ما بعده فلنظره إلى الضرب الأول من المتشابه، ومن
وصل ذلك وجعل قوله: (الرَّاسِخُونَ) عالين به، فلنظره إلى الضرب
الثاني، والأظهر من الآية القول الأول، وما قال بعضهم:
إنه لو جاز أن يخاطبنا ثم لا يُعرفنا مراده، لجاز أن يخاطبنا بكلام
الزنج والروم، فالجواب عنه: أن كلام الروم والزنج لا يُعْلَمُ
424
منه المراد مجملَا، ولا مفصلَا، والمتشابه يُعلم منه مراده مجملَا
وإن لم نعلمه مفصلًا، لأن كل آية قد فسرها المفسرون على أوجه.
فمعلوم أن المراد لا يخرج منه، ثم تعيين مراد الله تعالى منها غير
فمعلوم، وهذا ظاهر.
على أنه لم يكن يمتنع أن يكلفنا تعالى
425
تلاوة أحرف لا نعرف معناها، فيثيبنا على تلاوتها، كما يُكلِّفنا
أفعالاً لا نعرف وجه الحكمة فيها، ليثيبنا عليها، فالتلاوة
فعل يختصُّ باللسان، ومن جعل قوله: (وَالرَّاسِخُونَ) معطوفًا
جعل قوله: (يَقُولُونَ) في موضع الحال للمعطوف دون المعطوف
عليه، كما في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) حال
للمعطوف دون المعطوف عليه.
إن قيل: لِمَ خص الراسخين بأنهم يقولون آمنا به؟
قيل: لأن معرفة ما للإِنسان سبيل إلى معرفته مما لا سبيل له إلى معرفته هو
من علوم الراسخين، لأن الحكماء هم الذين يُميّزون بين ما
يمكن علمه وما لا يمكن أن يُعلم، وما الذي يُدرك إن طُلب
426
والذي لا يُدرك، وعلى أي غاية يجب أن يقف طالب العلم، وأي
مكان يتجاوزه، وهذا أشرف منزلة للحكماء، ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها: "من رسوخ علمهم الإِيمان بمحكمه
ومتشابهه وإن لم يعلموا تأويله "
إن قيل: ما فائدة الإِتيان بالمتشابه فِى القرآن؟
قيل: فوائد جمة، منها: أن يبين تشريف
العلماء بتميُّزهم عن غيرهم، ومنها: رياضة العقول في تعرفها.
ومنها: استحقاق الثواب بتعبِ الفكر فيه، ومنها: إظهارُ شرف
427
الفكر، ليعلم أنه لم يجعل الإِنسان عبثًا، ومنها: حث من أخبر
الله عنهم أنهم قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) على أن
يتدبره، لأنهم إذا سمعوا ما في ظاهره التنافي تأملوه طلبًا لردّه.
فيصير ذلك سببًا أن يعرفوه لمعرفتهم بإعجازهم ولزوم الحجة به.
ومنها: أن يصير سببًا لاعتراف الإِنسان بعجزه ومعرفة نقصه.
ومنها: أن يصير الناسُ تبعًا للأنبياء وأُولي الأمر الذين حثّ
على اتباعهم لقو له: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)
فذمٌ لهم بأنهم لزيغهم "يتحرّون طلب الفتنة، وقدّم
428
ذكر الفتنة تنبيها أن قصدهم إلى إيقاع الفتنة قبل طلب تأويله.
وهذا القصد باتفاق أهل العقول كلها مذموم.
فإن قيل: هب أن اتباع طلب الفتنة مذموم.
فكيف ذُمّوا بابتغاء تأويله؟
قيل: طلب التأويل من نفس المتشابه مذموم.
إذ لا سبيل إلى تبينه منه، وإنما طلب الحق يجب أن يكون
بردة إلى المحكم إلى الرسولِ وإلى أولي الأمر.
حسب ما نبه عليه تعالى بقوله: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) الآية.
وكل له حالتان:
أحدهما: أن يكون تابعًا على طريق التأكيد، فلا يحذف منه ضمير
ما أُكِّد به، نحو: مررت بالقوم كلهم.
والثاني: أن تجعلَه مُخبرًا عنه، فيصح الحذف منه إيجازًا، نحو: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا)، وفي
429
قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) على هذا.
والتذكُر هاهنا: هو الاتعاظ، ولم يجعل ذلك إلا لصفو
الخلائق، لما تقدم أن معرفة ما يصح أن يُطلب ويُعلم مما لا يصحُّ
فيه ذْلك أشرف منزلة في العلم.
قوله عز وجل: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
الوهاب: قيل معناه: لا تزغ قلوبنا عن الثواب في الآخرة.
وقيل: لا تنسبها إلى الزيغ، ولا تحكم عليها بذلك.
وقيل: لا تفعل بنا من الإِكرام ما يؤدي إلى الزيغ.
فكأن الإِزاغة إعطاء الخيرات الدنيوية المثبطة عن الخيرات الأخروية
المشار إليه بقوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)
ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: "من وسع
430
عليه دنياه ولم يعلم أنه مُكر به، فهو مخدوع عن عقله ".
وقيل معناه: لا تكلفنا أمرًا شاقا: كقتل النفس، والخروج من الديار
المذكورين في قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ).
وقيل: معناه لا تمنعنا التوفيق، فجعل منع التوفيق إزاغة للقلوب من حيث
إنه يؤدي إليها، إشارة إلى ما قيل: أقطع ما يكون المجتهد إذا
431
خذله التوفيق، وإياه قصد الشاعر بقوله:
إذا لم يكن عون من الله للفتى... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ونحو قوله: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ما روي أن النبي - ﷺ - كان يقول: "يا مقلب القلوب ثبَّت قلبي على دينك"
فقالت له عائشة: وهل تُقلّب القلوب؟
فقال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ".
والهبة: تمليك الشيء غيره من غير ثمن.
432
ولدُنْ: فيه لغات، قيل: لَدُنْ، ولُدُن بضمتين، ولَدَن بفتحتين، ولَدْن
بالسكون مع فتح اللام وضمه، وقيل: بكسر النون، وقيل: لدُ
بحذف النون، ولدى، ونبه تعالى بقوله: (هَبْ لَنَا) أن من
حق العبد أن لا يلفت له إلى شيء من العمل وطلب العوض به.
بل يرجو رجاء المفاليس الطالبين للتفضل والهبة لا العوض،
433
وإنما قال: (مِنْ لَدُنْكَ) لأنه لما كانت الهبة ضربين:
هبة عن عوض، وهبة لا عن عوض.
نبَّه بقوله: (لَدُنْكَ) أن هذه الهبة اعترافٌ أن بتفضله
يُدرك ما يُدرك في الدنيا والآخرة، نحو قوله:
(وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
قوله عز وجل: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)
إن قيل: كيف قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ) وقد وقع فيه ريب الملحدة
والمغلطة حتى حكى الله تعالى في إبطالهم إياه ما حكى؟
قيل: قد تقدّم في مبتدأ سورة
434
البقرة الفرق بين الريب والإِرابة (١)، وأن الذي وقع منهم الإِرابة لا
الريب، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يصح أن يكون
استئنافًا، من الله، وأن يكون من جملة قولهم، والحكاية
عنهم، والفائدة في العدول عن الخطاب إلى الخبر، وتخصيص
لفظ "الله " بذلك تنبيا أن الذي اختُصِصْنا بعبادته هذا فعله.
ولم يُرد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) في جمعنا فقط، بل في
كل وعْدٍ، فإن ذلك كالعلة لما قدمه، كأنه قيل: الله لا يُخلفُ
(١) ذكر الرإغب خمسة أجوبة لذلك التساؤل عند تفسيره لقوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ) في سورة البقرة: الأول: أن ذلك نفي على معنى النهي، نحو
قوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
والثاني: أنه يقال: رابني كذا إذا تحققت منه الريبة. وأرابني: أوهمني الريبة. والثالث: أن يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيها إلى أن الريب يرتفع عنه عند التدبر والتأمل.
والرابع: أنه لا ريب فيه في كونه مؤلفا من حروف التهجي، وقد عجزتم عن معارضته.
والخامس: لا ريب فيه للمتقين.
435
الميعاد، وقد وعدنا أن يجمعنا ليوم لا ريب فيه، فإذًا هو جامعنا
لا محالة.
إن قيل: لِمَ قال: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ)، ولم يقل (في)؟
قيل: لأنه أراد بقوله جامع الناس: حافظُهم ومحصيهم لذلك اليوم.
كما قال: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)، وكقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
بيّن أن أعراض الدنيا وإن كانت نافعة بعض الأمور الدنيا.
فليست مغنية عن الكافرين يوم القيامة، كقوله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)
فإن قيل: فهل يغني عن المسلم حتى خصَّ الكافرينْ في هذا المكان؟
قيل: بلى، لأنه إذا تحرى في ذلك أحكامه كان أحد معاونه في
وصوله، ولذلك قال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
وقوله: (عَنهُم) لاقتضاء
الكلام معنى الدفع، كأنَّه قال: لن يُغني ذلك دافعًا عنهم.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) كقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ).
قوله عز وجل: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١)
الدأب: العادة التي عليها يدوم صاحبها، وهو أخص من العادة، ومنه
أدأب في سيره، ولذلك قال الفراء: الدأب لزوم الحال التي فيها.
437
وقال ابن عباس: هو الصنع، لأن الدأب يقتضي الصنع.
وقال أبو علي الجبَّائي: الدأب طول الكون في الشيء كافة.
ككون آل فرعون في النار. والذنب والجرم واحد، لكن الجرم
يقال اعتباراً بالاكتساب، تشبيها باجترام الثمرة، والذنب
يقال اعتبارًا بما يستحق به في آخره، مأخوذ من الذنَب، وعلى
هذا قيل له: التبعة، وبنحوه سُميت العقوبة عقوبة.
وقيل: سُمي الذنب اعتبارًا بذَنَوب الإِنسان منه، أي نصيبه.
438
إن قيل: بِمَ يتعلق قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)؟
قيل في ذلك: الوجه الأول: أن يتعلق بقو له: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ):
كحال متقدمي آل فرعون.
الثاني: بقولهْ: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ)
الثالث: بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وتقديره: إن
دأب الذين كفروا كدأب آل فرعون، وتكون (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ)
حالاً للذين.
والرابع: أن يجعل قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) غير داخل
في صلة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فتتعلق به كأنَّه كذّب آل فرعون
والذين من قبلهم.
الخامس: أن يتصل بمحذوف تقديره: دأبهم
في كفرهم، واستحقاق عذابهم كدأب آل فرعون.
قوله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)
قال ابن عباس وقتادة وابن إسحاق:
439
لما قتل من قتل يوم بدر جمع النبي - ﷺ - اليهود، فدعاهم إلى الإِسلام، وحذرهم مثل ما نزل بقريش، فأبوا، وقالوا: لسنا
كقريش الأغمار إن حاربتنا لتعرفن حالنا، فأنزل الله عز وجل الآية.
فقوله: (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يصح أن يكون يعني
440
الفريقين: اليهود والمشركين، كقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ففسر الذين كفروا في الآيتين بهما جميعًا.
وقُرئ (ستُغلبون) و (سيغلبون)، أما بالياء فنحو (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) وقوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)
وأما بالتاء، فنحو (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)، وقيل: عنى بالذين كفروا
441
اليهود. وقوله: ستُغلبون، للمشركين، فعلى هذا لا يكون
إلا بالياء.
ْإن قيل: كيف أطلق هذا الحكم وقد كان منهم من آمن؟
قيل: إن الحشر إلى النار متعلّق بوجود الكفر منهم، وإذا ارتفع الكفر
ارتفع به الحكم.
وقوله: (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) يجوز أن يكون من جملة
ما أُمِرَ به أن يقال لهم، ويجوز أن يكون استئنافَ كلام منه تعالى.
قوله عز وجل: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)
442
العبرة: ما يُعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الحسِّ إلى العقل.
وأصله من عبور النهر، ومنه: العِبارة؛ لأنها جُعلت كالمعبر.
لتأدية المعنى من نفس القائل إلى نفس السامع، وخُص التعبير
بتفسير الرؤيا، وباعتبار المَرْأونَ بالشبح، وجعل العَبرْة للدمعة
السائلة، وأصله فَعْله مِن عبر.
وقوله: (فِئَةٌ) يجوز رفعه على الاستئناف على تقدير: منهم فئة.
والجر على البدلِ، والنصب على الحال، ونحوه مما يجوز فيه الأوجه الثلاثة قول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
443
وإنما يجوز البدل فيما إذا كان بدل بقدر المبدَل منه، فأما إذا
نقص فليس إلا الاستئناف، نحو مررت بثلاثة: صريع وجريحٌ.
والآية معطوفة على ما تقدم تقديره: وقل لهم قد كان لهم آية.
وقُرئ (ترونهم) بالتاء على أن يكون خطابًا لليهود، أي
ترون المشركين مثلي المسلمين في العدد، ويرون بالياء أي يرون
المسلمون الكافرين مثليهم.
إن قيل: ما وجه ذلك وقد كانوا
444
ثلاثة أمثالهم، فقد رُوي أن المشركين كانوا تسعمائة وخمسين إلى
ألف، والمسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشرة؟
قيل في ذلك أقوال:
أحدها: ما قاله الفرّاء: وهو أن يقول الرجل لغيره:
احتاج إلى مثلك، أي احتاج إليك وإلى آخر، وعلى هذا احتاج
إلى مثليك يكون محتاجاً إلى ثلاثة، فكأنه قيل: يرونهم
ثلاثة أمثالهم، وهذا لا يساعده اللفظ، لأنه لو كان كما يقول
لقال: يرونهم ومثليهم.
والثاني: ما قاله ابن عباس: إن الله عز وجل أرى المسلمين أن المشركين هم ستمائة وكسر.
445
وكان قد أخبر أن المائة من المسلمين - تغلب المائتين، فأراهم
المشركين على قدر ما أعلمهم، ليقوي قلوبهم، وأرى المشركين
أن المسلمين أقل من ذلك.
ومع ذلك ألقى في قلوبهم الرعب،
446
فكانوا يرون عددًا قليلًا ورعبًا كثيرًا، وعلى هذا قال، تعالى:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).
والثالث: أنهم يرونهم مثليهم في الجلادة، أي يرى
كل واحد منهم أنه أجلد من الآخر بمثلين، وذلك كقولك:
رأيت فلانًا مثلي فلان، فتكون المماثلة راجعة إلى الجلادة، لا
إلى العدد، وعلى هذا قد حمل قوله عز وجل: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) أي في القوة والعُدد، لا في الكثرة والعَدد.
(ويُري) هاهنا مُتَعَدٍّ إلى مفعول واحد بدلالة تعليقه بالعين.
وقوله: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) أي يُكثر تأييده، يقال:
إدتُه، أَئِيده، أيْدًا، نحو: بعتهُ. أبيعه، بيعًا، وآيدتُه علىْ
التكثير، لكن أيّدت أكثر استعمالاً.
ونصر الله على وجهين: أحدهما بالحجة. والثاني بالغلبة،
447
وقوله (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) فإنه يعني به البصائر لا الجارحة
المذكورة في قوله عز وجل: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ)
ويعني أن في ذلك اعتبارًا للذين هم بخلاف من وصفهم بقوله:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)...
قوله عز وجل: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤).
القنطرة من المال مقدار تُعبر به الحياةُ تشبيهًا بالقنطرة.
وذلك غير محدود القدر في نفسِه، وإنما هو بحسب الإِضافةِ
كالغِنَى، فربَّ إنسان يستغنى بالقليل وآخر لِا يستغنى بالكثير،
448
ولما قلنا اختلفوا في حده فقيل: هي أربعون أوقية، وقال
الحسن: ألف ومائتا دينار، وقيل: مِلْءُ مَسْكِ ثورٍ ذهبا،
449
وعلى ذلك عن ابن عباس، وبعضهم: حدّه يتغير كاختلافهم في حدِّ الغِنَى.
كقولهم: درا هم مدرهمة، ودنانير مُدَنرة، (وَالْخَيْلِ) في
450
الأصل للأفراس والفرسان، وإن كان يستعمل في كل واحد
مفردا، نحو: "يا خيل الله اركبي "، وذلك للفرسان، وقول
النبي - ﷺ -: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق "، فكأنه سُمي بذلك لما فيه من الخيلاء، فقد قيل: لا يركب أحدٌ فرسًا إلا
451
رأى في نفسه خُيَلاءَ، وأصل ذلك من خلتُ، وهو ظن يَقْرب
من الكذبِ، ومنه الخيال. والأخيل: الشَقِراقُ، لكونه
متلونًا يخال في كل وقت أن له لونًا آخر، ولذلك قيل:
كأبي براقِش كل لَوْ... نٍ لونه يتخيلُ
و (الْمُسَوَّمَةِ) المرسلة في الرعي، وقيل: المُعلَّمة في
452
الحرب، يقال: سمي بالقصر وسيمياء بالمدّ، قال تعالى:
(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، قال الشاعر:
........................ له سيمياء لا تَشُقُّ على البصرِ
وقال مجاهد: المسومة: المطهمة.
453
كأنه جعل التضمير لها تسويمًا، كما جُعل (سنّاً) و (صنعًا)
في قولهم: (مسنونة) و (مصنوعة).
والنعم أصل الإِبل.
فإذا قيل: الأنعام. فقد يتناول الأزواج الثمانية.
والشهوة تُقال تارة للقوة المشتهية، نحو فلان خامد الشهوة.
وتارة لانبعاث تلك القوة، وتارة للطعام المشتهى.
فيقال هذا شهوتي، واختُلف في هذا الحب مَنِ الذي زيّنه؟
مع أنه لا خلاف أنّ الله عز وجل خالقُ القوةِ المشتهية.
وخالقُ المشتهى.
فقال بعضهم: الله عزّ وجل زينه.
وذلك لنظره إلى القوة المشتهية أو المشتهى.
ولقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وإليه ذهب عمر
454
فإنه روي أنه لما سمع هذه الآية قال: ربنا إنك زينت هذه
وبيّنت أن ما بعدها خير منها، فاجعل لعمر وآل عمر الذي هو
خير منها، وقال بعضهم: زيّنها الشيطان، وإلى هذا ذهب
الحسن، فيقول: كيف زينها الله وهو يذمها؟
ومنهم من قال: زيّن الله منها ما يحسن تناوله، وزين الشيطان ما يقبح، فإن الله عز وجل خلق الإِنسان وقوته المشتهية ومشتهياته وأُمر أن
455
يتناول منها على الوجه الذي يجب قدر ما يجب في الوقت الذي
يجب، ويجعل ذلك ذريعة إلى التوصل به إلى الآخرة، وقيّض له
شيطانًا يغرُّه فحذّره منه، فمن راعى أمره وتناول ما أُبيح له فإنه
قد لا يتعدى إلى ما زينه الشيطان، وقد تقدّم الكلام في بعض
ذلك في قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
قوله عز وجل: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)
منتهى المنبأ قيل هو قوله: (مِنْ ذَلِكُمْ) وقيل هو (عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وقيل: هو آخر الآية، وهذه الأقوال على قراءة من رفع (جنّات).
فأما من جرّها، فلاشك أن ذلك داخل في جملة الاستفهام، لأنه
456
بدل من قوله (بِخَيْرٍ).
وقال بعضهم: يجوز أن تكون جنات
نصبًا بدلاً من موضع بخير، كقولك: مررت برجلٍ زيدًا.
وقوله: (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) قد تقدم، وقد نبَّه بهذه الآية على
نعمه الثلاثة، الأول: وهي الأدون، وذلك عروض الدنيا.
والثاني: الأوسط: وهو الجنة ونعيمها، والثالث: الأعلى، وهو
رضوان الله المشار إليه بقوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
وقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ)، وقوله: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
457
أي بهممهم وإرادتهم، فهو يجازيهم بحسب ما يستحقونه.
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦).
(الَّذِينَ) جرّ صفة للعباد، أو رفع على تقدير: هم الذين.
أو نصب على المدح، وقوله: (يَقُولُونَ) ليس يعني أن ذلك
منهم بالقول فقط، بل باعتقادهم وفعلهم.
458
إن قيل: ما فائدة: (اغفر لنا ذنوبنا)؟
قيل: أما على مذهب الوعيديين فسؤال ما هو من حكمه أن يفعل ما هو بالمؤمنين
سئل أو لم يسأل، وقيل: هو فعل ما يقتضي الغفران والوقاية
459
من النار، وهو الإِقلاع، وإن كان متعلقًا بالقول.
وقيل: هو مسألةُ لطفٍ، لا يفعله الله بالعبد إلا إذا سأله.
قوله عز وجل: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)
قد تقدَم وصفُ الصَّبر ومنازله، وأن كل منزل هو أعلى فثوابه أعلى.
وأن أرفعه صَبرُ العارف الذي هو الرضى والتسليم.
والصادقون: هم الذين صدقوا في الاعتقاد والقول والعمل، وذلك غاية الإِيمان، والقانت:
460
الدائم العبادة في السرِّ والجهر، والمنفقون: عُني به: في الفرائض
والنوافل، ومن المال والبدن، والمستغفرون: طالبو الغفران
بإتيانهم بالطاعات، وتخصيصُ الأسحار لكون العبادة فيها أشق
والقلوب أحضر وأرق.
وروى جعفر بن محمد: أنّ من صلى من الليل، ثم استغفر في آخره سبعين مرة، كُتب من المستغفرين
461
بالأسحار، وروي أن ابن عمر كان يصئي فإذا أسحر قعد
يستغفر، وقال زيد بن أسلم: المستغفرين بالأسحار هم
الذين يشهدون الصبح في جماعة، وذلك داخل في عموم الآية،
462
فإن شاهد الصبح في جماعة يستحق الصبح.
قال عز وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
الشاهد بالشيء يقتضي حضوره بعلمه، والإِنباء عنه، والحكم بما عليه.
ولهذا تُفسَّر الشهادة تارة بالحضور، وتارة بالعلم.
وتارة بالإِعلام، وتارة بالحكم.
إن قيل: ما وجه قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) وقوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ)، وشهادة المدعي بما يدعيه لا تقتضي زيادة على دعواه.
مع أن هذه الشهادة
463
إن كانت للجاحدين فغير مقبولة، وإن كانت للمؤمنين به ففضلة؟
وهل يكفي النبي - ﷺ - إذا طولب بالدلالة أن يقول: الله شاهد لي بذلك؟
قيل: الشاهد العالم بالشيء، المبين لغيره، وأصدق شاهد
من يعلم المشهود عند الدلالة المنبئة عن صدقه، وعن كون الأمر
على ما شهد به، والبارئ عز وجل لما جعل في كل شيء تنبُّؤاً عن
وحدانيته صار له في كل شيء لسان يشهد أنه واحد، وهذا ظاهر،
464
وبين بقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) أنهم قد عرفوا ذلك
وينبئون عنه، فإن الأدلة التي يذكرها العلماء، وتأتي بها الملائكة
والأنبياء شهادة منهم، فحثهم الله تعالى بهذا القول على التأمل.
ليعرفوا صحة ما شهدوه، وكذا الآية كأنه أقال، لنبيِّه:
لا تستوحش من تكذيب الكافرين لك، فقد أْبدى الله عز وجل
من الآيات ما ينبئ أنه تعالى شاهد لك بصدق دعواك.
وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) أي هو تعالى مراعٍ للعدالة بكل حال، وذلك
حال مؤكدة.
465
فإن قيل: ما وجه تكرير (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) في الآية؟
قيل: لما كان منتهى إدراك الإِنسان للبارئ تعالى أن يعرف الموجودات.
فيعلم أنه ليس إياها ولا مشبَّهًا بشيء منها، صار صفات التنزيه
له أشرف من صفات التمجيد له، إذ كان عامة صفات التمجيد
في ألفاظها مشاركة، يصح وصف العباد بها، ولأجل ذلك
عظم ما ورد من صفاته على لفظ النفي، نحو: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)
466
قيل في سورة الإِخلاص: "إنها تعدل ثلث القرآن "، لكونها تنزيهًا محضًا، فإن لفظي: الأحد والصمد وإن كانا على صورة الإِثبات - فنفي للتثنية والتشبيه)، ثم أبلغ ما يوصف به من التنزيه: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فتكريره هاهنا
لأمرين: أحدهما: لكون الثاني قطعًا للحكم، كقولك: أشهد
أن زيدا خارج وهو خارج.
والثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق.
467
قوله عز وجل: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩)
قد تقدَّم وجوه الدين، وأن للإِسلام ثلاث منازل:
الأول: الاعتراف الذي يحقنُ الدمَ.
والثاني: أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ صحيح ووفاء بالفعل.
والثالث: أن يكون مع ذلك استسلام فيما يجري عليه من
468
قضاءِ ألله، وهو المسؤول بقوله عز وجل: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)
وغاية الإِنسان في ذلك أن يكون كإبراهيم حين قيل له: أسلم.
(قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بيَّن تعالى أن حقيقة طاعة الإِنسان
بحسب ما يكون منه من الاستسلام في المنازل الثلاث، وقد
قُرِئ (أَنَّ الدِّينَ) بالفتح، فيصح أن يكون بدلاً من الأول.
واستغني عن الضمير الراجع إلى الله لإِعادة ذكره، ويجوز أن
يتعلَّق بفعل مضمر دلّ عليه الأول، ومن قرأ (شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ)
469
فشهد يعمل في قوله (إِنَّ الدِّينَ) وإنه كالعلة.
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) والكلام فيه قد تقدم.
قوله عز وجل: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠).
470
الوجه: العضو المعروف، وعبّر به عن الجملة.
وقيل: هو القصد، نحو وجهي إلى فلان.
والذين أوتوا الكتاب: قيل هو عام فيمن نزل إليهم الكتاب.
والأمِّيُّون مَنْ سواهم من اليهود ومن النصارى ومن العرب.
إن قيل: كيف يصحُّ
471
الاقتصار في المحاجّة على أن يقول: تقبل ما أقوله أم تردّه، فإن
رددتَه أعرضت عنك؟
قيل: المحاجّة ضربان: ضرب للاستهداء
وضربٌ للعناد.
ولما كان الله قد بيَّن لهم الأدلة، وبين أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
قال حينئذٍ: إن عاندوك فعرفهم مخالفتك لهم.
وهذا كما يقال لمن أوضحت له الحجة:
إن قبلتَ وإلا أعرضنا عنك.
وقال بعضعهم: إنما نبَّه بهذه الآية على الحجةِ اللازمة لهم.
ووجه ذلك أنه قال: قل لهم: إني توجهت إلى الله بعبادة.
فهل تُنكرون كونه معبودًا، فإنه لا يمكنهم إنكار
ذلك إذ كان وجوب عبادته والتوحّد له محمودًا عند الكلِّ، وإنما
اختلاَفهم في غيره، فبَيِّنْ أنهم إن أسلموا للحجة فقد اهتدوا، فإن
472
حجتَك لازمة - وليس لهم ما يدعونه حجة، وفي ذلك اهتداؤهم.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أبوا أن ينقادوا للحجة فليس عليك إلا البلاغ.
كقولك: ليس عليك هداهم ونحوه، وقدَّم الذين أوتوا
الكتاب، لأن الحجة تلزمهم من وجهين:
من الوجه الذي يلزم الأميين، ومن وجه أنهم يدَّعون الإِيمانَ بإبراهيم وغيره.
وعلى هذا قال إبراهيم: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)
473
وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): أي عارف بمقاصدهم.
وقوله: (وَمنِ اَتبَعَنِ) معطوف على التاء أي، (أَسْلَمْتُ).
ولم يحتج إلى تأكيد الضمير، كما أُكد في قولهم: خرجت أنا وزيد.
للفصل القائم مقام التأكيد، وحذف الياء من قوله.
(اَتبَعَنِ) لدلالة الكسْرِ عليه.
474
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)
هذا تعريض ببني إسرائيل، وذاك لأن أبا عبيدة بن الجراح قال:
قلت: يا رسول الله، من أشد الناس عذابًا يوم القيامة؟
قال: "من قتل نبيٍّا أو رجلًا أمر بمعروف ونهى عن منكر"، ثم قرأ الآية، وقال: "يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا في ساعة من صدر النهار، فقام مائة واثنا عشر رجلًا من عُبَّادهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقُتِلُوا جميعهم آخر النهار".
475
إن قيل: لِمَ أعيد يقتلون ولم يقل: ويقتلون النبيين ويقتلون الذين
يأمرون؟ فقل: لأمرين:
أحدهما تفظيعًا لشانهم.
والثاني: أنه يجوز أن يكون أحد القتلين تفويت الروح والآخر الإِهانة وإماتة
الذكرِ، وذلك كثير في كلامهم.
إن قيل: لِمَ قال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، وقتلهم لا يكون بحق على وجه حتى يحتاج إلى تقييده بذلك؟
قيل: قوله (بِغَيْرِ حَقٍّ) ليس يتعلق بقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ)، بل هو من صفة الذين يكفرون، كأنه قال: هم يقتلون، وهم غير محقين، ووصفهم بذلك من أنهم
476
غير محقين في جميع أحوالهم، وتخصيص أنها للاستقبال في
قوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) كتخصيصه في قوله: (تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ)، قد تقدَّم الكلام فيه.
وكذلك قد تقدم تخصيصُ لفظ البشارة في العذاب.
مع كونه موضوعَا لما يسر.
477
فإن قيل: ما فائدة قوله (مِنَ النَّاسِ)؟
قيل: عنى بذلك وجود الفضيلة المختصة بالإنسان في النبيين، والآمرين
بالقسط، وذلك نحو قولهم: فلان هو إنسان، وعلى ذلك
قول الشاعر:
إذ الناسُ ناس والزمان يَعِزُّ به.
478
قوله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)
الحبوط: فساد العمل، وأصله من الحَبطِ، أي فساد بطون الماشية من مأكل الربيع، ولذلك قال عليَه الصلاة والسلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل
حَبَطاً أو يُلمُّ".
يعني بقوله (أُولَئِكَ): هم الذين يكفرون ويقتلون.
479
بطلت في الدنيا والآخرة أعمالهم، أما في الدنيا فلأنهم لم يحصِّلوا
منها محمدةَ، وأما في الآخرة فلم يحصِّلوا منها مثوبة، وذلك، نحو
قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
إن قيل: لم قال: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ولو قال: ما لهم
من ناصر كان ذلك عامًّا لكونه نكرة منفية؟
قيل: لما كان القصد بهذه الآيات تثبيت الوحدانية ونفي الكثرات، نبّه بلفظ الجمع على أن ناصر الناس واحد، فكأنه قال: ما للناس ناصرون، بل لهم
ناصر واحدٌ، فيجب أن يُطلب مرضاته ويُتحرى مرسوماته.
وذلك نحو قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) و (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ)، وما أشبه ذلك من الآيات.
480
قوله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
الحكم: القضية التي تردع المبطل، ومنه حَكَمَةُ اللجام.
والآية تتناول أليهود والنصارى وإن كانت واردةً في اليهود.
قال ابن عباس: إن رسول الله - ﷺ - رأى جماعةً من اليهود فدعاهم، فقالوا: على أي ملةِ أنت يا محمد؟
قال: "على ملّة إبراهيم" فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا.
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كان ذلك
في سبب اليهوديين اللذين رجمهما النبي - ﷺ -، وقالت اليهود: إن ذلك ليس في التوراة، فأكذبهم النبي - ﷺ -، ودعا بالتوراة، فقرأ منها آيةَ الرجم، وقيل: كان في سبب نبوته وتكذيبهم
481
إياه، وقوله: (الَّذِينَ أُوتُوا) وإن كان لفظه عافًا فمعناه
خاص، لأنه ليس كلهم فعلوا ذلك، ألا ترى إلى قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).
إن قيل: لِمَ قال: (مِنَ الْكِتَابِ)، ثم قال: (كِتَابِ اللَّهِ).
وهل الأول هو الثاني أم غيره؟
قيل: قد قال بعضهم: الأول والثاني
482
واحد، وهما التوراة، لقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)
الآية، وذكرها باللفظين تعظيمًا لها، وقيل: عنى بالأول
التوراة، وبالثاني القرآن وغيره من كتبه، تنبيهًا أن كل كتاب
يقضي بصحة ما هو فيه.
وقيل: عنى بالذين أوتوا الكتاب: الذين أعطوا حظا من المعرفة
بكتاب الله، أي كتاب كان من كتبه.
إن قيل: هل بين التولي
483
والإِعراض فرق؟
وهل المعرضون هم المتولون أم غيرهم؟
قيل: تولّي الشيء أن تليه، فإذا عُدي بعن صار لترك ذلك.
والإِعراض في الأصل أن تجعل عِرضك إليه، أي جانبك.
ومنه قيل: أعرض لك الصيد فارمه فيجوز أن يعني بالتوليّ
تولّي فريق من الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، وبالإِعراض
جماعتهم، ويجوز أن يكون التولّي والإِعراض جميعًا
للفريق، فيكون معنى التولي عنه ترك موالاته.
والإِعراض يكون بالبدن، وذلك لئلا يحتج عليهم إذا حضروا
فيلزمهم حجة.
وعلى ذلك قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).
484
قوله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
قد تقدَّم الكلام فيما حُكِيَ عن أهل الكتاب بقولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)
والذي غزهم ما حُكى عنهم من قوله عز وجل: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) والغرُّ: الأثر الظاهر من
485
الشيء، ومنه الغُرَّة، والغرار حد السيف اعتبارًا بالأثر، ولهذا
سُمى أثره السيف، وغرُّ الثوبِ أثرُ كسره، يقال: اطوِ على
غَرة، واستعير للخديعة، فقيل: غزه واغتره كقولهم: طواه إذا
خدعه، وسُمِّيَ الدنيا والشيطان غرورًا، لكونهما غارين للإنسان.
والغِرُّ المغرور، والغُرَر الخطر المتقدم، كأنه الذي به يُغتر، وأِما غرَّ
الطائرُ الفرخَ فاستعارة من الصوت الذي يكون منه عند زقِّه.
والغرغرة: ترديد الصوت من الحلق، فجعل لفظه مرددًا على
486
سبيل الحكاية، كحكاية كثير من الأصوات.
والفُري: قطع الأديم، واستعير للكذب، استعارة الخلق
والاختلاق له.
إن قيل: هل علموا أنهم كاذبون فيما يقولون؟
قيل: إما أنهم علموا واغتروا برئاستهم وأعراضهم الدنيوية، أو تمكنوا من
علمه فلم يتحروه اغترارَا بما هم بصدده، وعلى كلا الوجهين
يستحقون الذم.
قوله عؤ وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
ما سُئل عنه بكيف محذوف، كأنَّه قيل: كيف حالهم أو قولهم وافتراؤهم.
فحُذف لدلالة الكلام عليه، كحذفه في قوله
487
(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)
ومعناه: كيف حالهم إذا جوزوا بفعلهم، ولم يُظلموا في بخس
ما استوجبوا من ثواب، أو زيادة ما استحقوا من عقاب.
ودلّ بالآية أن الكفار لا تغفر ذنوبهم، وعلي ذلك (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) الآية.
وقد تقدم معنى قوله: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) في سورة البقرة.
وقوله عز وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
اللهم: تقديره عند سيبويه يا الله،
488
والميمان بدل من ياء، ولا يستعمل ذلك إلا في هذه اللفظة فقط.
وعند الفرَّاء تقديره: يا الله امنا بخير، فجعلا بمنزلة لفظ
واحد، وحذف الهمزة منه، كقولهم: هلّم، وأصله: هل أم،
489
وقال البصريون: لو كان كما ذكر الفرّاء لاستغنى به عن جواب
الشرط. إذا قيل: يا الله امنا بخير. لكون ذلك مكررًا.
والنزع: جذب الشيء من الشيء، وفصله عنه، ومنه المنازعة.
وسُمى الشوق نَزَّاعَا ونزوعًا لما تُصور في ذلك أن المحبوب ينزع
قلب المحب منه، والنزع ضربان: نزع إلى الشيء وهو الاشتياق.
ونزع عنه، وهو الكفُّ، وقيل للغريب: نزيع، لكونه منزوعًا
عن مسقط رأسه، أو لكونه نازعًا إليه، أي مشتاقًا، وقيل لمن
يشبه أعمامه وأخواله: نزيع لنزع الشبه منهم، أو لكونه منزوعًا
بالشبه عنهم، وسمي السهم مِنْزَعًا.
والنَّزْعَةُ: الموضع من رأس الأقرع، لكون شعره نزيعًا عنه.
وقد تقدَّم الكلام في المُلك،
490
والمِلك وأن المُلكَ كالنوع للملِكِ، فإن كل مِلْك مُلْك ما.
وليس كل مُلْك مِلْكا، وقد عظَّم الله أمره، وقرن بالكتاب والنبوة
ذكره، ففال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا).
وقال: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا)
وقيل: الدين أسٌّ والمُلك حارس، لكون أحدهما غير مستغن عن الآخر من وجه، وقد يسمى المتسلط ملِكًا وإن كان على ضرب من المجاز، وعلى هذا
قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، فسماه ملكًاً مع كونه غاصبًا.
491
واختُلفَ: هل يؤتى الملك الفاسق والكافر؟
فمنهم من قال: لا يُؤتاهما.
وإليه ذهب البلخي والجبائي، وذلك لنظرهم
إلى الملُك الأول، ولاعتبار قوله (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
ومنهم من قال: يُؤتاهما ذلك، وذلك لنظرهم إلى الثاني الذي هو
التسلُط، وكون ذلك أحد الأغراض الدنيوية، ولهذا قال
492
ربُّنا: (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا)، والأظهر
في الآية أنه يعني الملكَ، الحقيقى لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)
فأضافه إلى نفسه تعظيمًا له
والملك المطلق هو الملك الإِلهي، الذي لا جور فيه بوجه، ولذلك قرنه
بالعزِّ والذُلِّ، وإخراج الحي من الميت، والميت من الحي، وإيلاج
الليل في النهار، والنهار في الليل، وإعطاء الرزق، ونبه بقوله:
(مَالِكَ الْمُلْكِ) أن الملك في الحقيقة له وما لغيره عارية مستردة.
ولم يعن بالملك هاهنا سياسةْ العامة فقط، بل ملك الإِنسان
على قواه وهواه، فقد قيل: لا يصلح لسياسة الناس من لا يصلح
493
لسياسة نفسه. وقيل لبعضهم: من الملك؟ فقال: من ملك هواه
فقهره، وقوله: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) أي تُعزه بإعطائه الملك.
(وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) باسترجاعه منه أو حرمانه إياه.
وقيل: تُعزُ من تشاء بأن تصونه عن تمكينه من الملك في الدنيا.
وتذل من تشاء بإعطائه ذلك، وهذا التفسير على النظر إلى ما قال عليه
الصلاة والسلام: "ستحرصون على الإِمارة، ثم تكون حسرة
وندامة إلى يوم القيامة"
وما قال أبو بكر رضي الله عنه:
494
"إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، إن الرجل إذا ملك
زهَّده الله فيما في يده، ورغَبه فيما في يد غيره، ونقصه شطر أجله
وأُشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخَط
الكثير، فإذا وجبت نفسه حاسبه الله فأشدَّ حسابه وأقلّ غفره "
وقال بعض المفسرين: أمر نبيه في هذه الآية أن يدعوه، بأن يُحول
عِزَّ فارس إلى العرب، وخضص الملك بالنبوة، فقال معناه:
تؤتي النبوة من تشاء وتصرفها عمن تشاء.
وقيل قوله: (تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)
495
ليس براجع إلى المُلك، وإنما معناه:
من يشاء بطاعته، ويُذِلّ من يشاء بمعصيته، والأظهر أن يكون
ذلك عامًّا في كل عز وذل دنيويا كان أو أخرويا.
إن قيل: كيف قال: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والخير والشر بيده؟
فقيل في ذلك أجوبة:
الأول: أراد الخير والشر، لكن الآية لما كانت في الحمد
والشكر لا للحكم ذكر الخير، إذ هو المشكور عليه، وعلى ذلك -
496
قوله (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، وفيه تعليمنا كيف نمدح
أبناء جنسنا بأن نذكرأشرف خصالهم.
والثاني: أنه نصّ على المعظّم ليُفهم منه الضد الآخر.
كقوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)، وكقول الشاعر:
فما أدري إذا يممتُ وجهاً... أريدُ الخير أيُّهما يليني
والثالث: أنه أراد بالخير: الخير والشر، وسمَّاهما خيراً، لأنه
ليس في العالم شرٌّ خالص، كما أن فيه خيرا خالصاً، وذاك أن ما
هو شر بكذا هو خير لكذا، فالخير والشر يصدق عليهما الوصف
بالخير من هذه الجهة، ولا يصدق عليهما الوصف بالشر، فلو
قال بيده الشُر، لم يدخل فيه الخير.
ووصْفه بالقدرة على كل
497
شيء في آخر الآية تنبيه على أنه أراد الأمرين، فإن سعة القدرة
تقتضيهما.
قوله عز وجل: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧).
الولوج: الدخول في مضيقِ، فهو أخص من الدخول.
يقال: تَوْلَجُ الظبي، والوَلَجَة: بناء بين يدي فناء القوم، كالمدخل
إليه. واستعير الوليجة لبطانة الرجل كالدَّخيل وإيلاج
498
الليل في النهار والنهار في الليل، يتناول تعاقبَ أحدهما الآخر.
والزيادةَ من كل واحد منهما في الآخر، وقد فُسِّر بهما.
وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)
يتناول خروج الإنسان من النطفة، نحو: (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)، وهذا هو
499
الذي قال الضَحاك والسدي وابن زيد: الدّجاجة من
500
البيض، والبيض من الدجاج..
وقال الحسن: عنى إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وقال بعضهم: يتناول ذلك كل شيء من الأركان.
إذا استحال إلى غيره.
ولهذا قال السدي: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة.
والأظهر في قوله: الحي منَ الميت. تصور اثنين.
وقد قيل: عنى بذلك شيئاً واحداً تتغير به الحال.
فيكون ميتا ثم يحيا، وحيّاً فيموتْ، كقولك: جاء من فلان أسد.
وليس الأسد إلا هو، وقد تقدم الكلام في قوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ).
501
قوله عز وجل: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨).
قد عظم الله موالاة الكافرين وموادتهم والركون إليهم في آيات
كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)
وقال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وقال: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ).
وقال: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)
وأمرنا بالإِعراض عنهم.
فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)
وقال عليه الصلاة والسلام:
502
"لاتراءى ناراهما " وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك "
إن قيل: ما وجه جواز مواصلتهم والاستعانة بهم واتخاذهم
عبيداً، وذلك ضرب من الموالاة، فالجواب منْ أوجهٍ:
الأول: أن هذه الآيات تقتضي المنع أمن، موالاتهم، إلا ما
خُصّ، وفُسِحَ لنا فيه.
503
والثاني: أن الموالاة المطلقة هي أن تواليهم في جميع الأمور.
فأما في شيء دون شيء فليس ذلك بموالاة.
الثالث: أن يكون ذلك مخصوصا في الموالاة الدينية.
الرابع: أن الموالاة على ضربين: موالاة الأرفع للأوضع، وذلك
504
باستخدامه إياه ورعايته والحماية عليه، وموالاة الأوضع للأرفع
وذلك بالخدمة. والذي نهُي عنه المسلم جزماً هو أن يوالي الكافر
موالاة الأوضع للأرفع بالخدمة له والاستعانة به استعانة الذليل
بالعزيز، لا أن يستعين به استعانة العزيز بالذليل والمخدوم
بالخادم، فذلك مرخَص فيه، وذاك لما قال النبي - ﷺ -: "الإِسلام يعلو ولا يُعلى" ومن هذا رُخص أن ننكح منهم دون أن ينكحوا
505
فينا، وأن نملك أرقاءهم ولا يملكوا أرقاءنا، وأن نرثهم
في قول من يرى ذلك، ولا يرثونا بوجه، ثم قد يكره لمن لم
506
يَقِرّ في الإِسلام المصاهرة إليهم، والاستعانة في المهن بهم
تفادياً أن يُغروه، وذلك ما قال عليه الصلاة "والسلام لحذيفة
لما تزوج بمشركة: "دعها فإنها لا تحصنك"، بل
507
لذلك قال: "مثل الجليس الصالح كمثل الداريِّ إن لا يحذك
من عطره تَعَلَّقَك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل القَيْن إن
لا يحرقك بشرره يؤذك بدخانه "، وقال بعض الحكماء:
508
"إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري ".
وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)
إياس من الموالاة التي أثبتها بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)
ونحوه، وقوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فرخصه في إظهار
الموالاة باللسان دون القلب، حيث يحصل تقية، كقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)
ولاحرج في مداراة الكافر حيث يُخاف شّره، أو يُرجى صلاحه، فقد روي عن النبي - ﷺ -
509
أنه استأذن عليه بعض الناس، فقال: "بئس أخو العشيرة
هو"، فلما دخل أكرمه، وسألته عائشة بعد خروجه، فقال: "إن شر
الناس من يُكرم اتقاء لسانه".
واختلف هل يجوز الإفصاح بالحق في حال التَقية؟
فأجاز ذلك بعضهم استدلالاً بما روى الحسن: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - ﷺ -
510
فقال لأحدهما: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم.
فخلَّاه، ثم دعا الآخر، فقال له ذلك، فأبى أن يقوله فقتله، فقيل
ذلك للنبي - ﷺ -، فقال: "أما المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة، فهنيئاً له.
وأما الآخر فأخذ برخصة الله، فلا تبعة عليه "
وجملة الأمر أن الإِفصاح عند التَقية إيفاءً بالحق، مستحسن حيث كان فيه نفع ديني، فأما إذا لم يكن في ذلك نفع ديني بوجه، فالعدول إلى كلمة الكفر على وجه التعريض أولى،
511
إن قيل: ما تعلق هذه الآية بما قبلها؟
قيل: لما عرفنا أنه مالك الكل والقادر عليه نهانا عن موالاة من يعاديه.
وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) فالحذر: الاحتراز من السطوة.
وذلك على ضربين: أحدهما: حذر الإنسان إياه برؤية ذنوبه.
وإليه قصد بقو له: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ)، والثاني: حذره برؤية
تقصيره في طاعته، وإياه قصد بهذه الآية، وعلى هذا ذكر التقوى.
فقال في موضع: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ).
وفي موضع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
قال الحسن: من رحمته أن
512
حذرهم نفسه، ولتحذيره إياهم قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
فإنه حذّرنا، بخلاف ما بفعل الماكر، وإلى مقتضى معناه أشار العرب
بقول: أعذر من أنذر، وفائدة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ) في
هذا المكان أنه لما ذكر قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) بيَّن أنكم وإن
اتقيتموهم فاحذروا الله، فإنه يحذركم أن توالوهم بقلوبكم.
قوله عز وجل: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
الأصل في الصّدر: الجارحة، فاستعير لصدر المجلس والكتاب
والكلام، وصدره إذا أصاب صدره، أو قصد نحو ظهره، وكتفه.
وإذا عُدِّي بعن اقتضى الانصراف عنه، والصدر يقال للمصدر
اللفظي ولموضع الصّدر، ولزمانه، والصِّدار الصُّدْرَة يُغطى
513
بها الصّدر على بناء الدِّثار واللباس، ويقال له الصّدْرَة، ولا
نهى تعالى عن موالاة الكفار - وذلك يكون بالقلب قبل أن يكون
بالجوارح - حذرهم أن يوالوهم بقلوبهم، فيكونوا كمن وصفهم
بقوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)، وكمن وصفهم بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ) الآية، بين أنه لا يخفى عليه ذلك، بل لا يخفى عليه ما في السموات والأرض، وهو قادر عليهم، وإذا كان قادراً وعالماً بالسرائر فحق أن يُحْذَرَ.
إن قيل: لِمَ قدَّم الإِخفاء على الإِبداء، ومن البادي يُتَوَصَّل
إلى الخافي، وقضيّة المتمدح أن يقول فلان لا يفوتني: مشى أو
عدى ولا يكاد يُقال: عدى أو مشى؟ قيل: لما كان العلم يظهر في
النفس، ثم يبرز بالقول أو بالكتاب صار الخافي سبباً للبادي،
514
فنبه بذلك أنه يعلم الشيء منا قبل أن نُظهره، وأنه يستوي عنده
السر والجهرُ، وعلى هذا قال: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)، وقال: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، فقدم الشر في هذا الموضع.
وقال في موضع: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) فقدم الإبداء تنبيها أنهما عنده سواء.
قوله عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠).
تقديره: يحذركم نفسَه يومَ تجد، أو اذكر يومَ تجد،
515
أو الله على كل شيء قدير يوم تجد.
وقوله: (مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) مفعول تجد، (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف عليه، كأنه قيل: وما عملت من سوء محضراً، وتوفىّ: في موضع
الحال، وقيل: و (مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) استئناف، إما جزاء
و (تَوَدُّ) جوابه، وعلى هذا لو قرى (تَوَدُّ) بالفتح أو بالكسر
لجاز، وإما أن يكون بمعنى الذي متضمنا لمعنى الشرط،
516
وإن لم يكن في تقدير الجزم، نحو: الذي يأتينى له درهم.
والأولى أن يكون معطوفا كما تقدَّم، ووجودُ الأنفس ما
عملت: تصوره لها من حيث لا يخفى عليها، ونحوه مما دل على
ذلك قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)
فاستنساخه وإحصاؤه: إذكارهم به حتى يعلموه، فإن من صفة
517
علم الإِنسان أن تحصل صورة المعلوم في قلبه وثبوت الصورة في
، القلب أوكد كتابة، ويجوز أن يكون معنى (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ).
أي جزاء ما عملت من خير وشر.
إن قيل: ما فائدة حذف الجزاء في هذا المكان ونحوه من قوله: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)، وقوله: (ذُوقُوا مَا كنُتُم تَكْسبُونَ).
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)؟
قيل: لما أراد أن ينبِّه أن الإِنسان لا يُبخس حظه فيما يفعل من خير، ولا يُزاد عليه في جزاء ما يفعل من شر، ذكر نفس الفعل دون الجزاء؛ تنبيهاً له أن فعله مستوفى بالجزاء، حتى كأنه هو، كقولك: زيد هو أبوه بعينه.
إذا أريد المبالغة في التشبيه به، وإعادة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، توكيد
واستظهار عليهم.
فإن قيل: وكيف علَّقه بالرأفةِ؟
518
قيل: تنبيها لأمن المحبوب من حبيبه، ولهذا قال النبي عليه
الصلاة والسلام مخبراً عن الله: "لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به.
وبصره الذي يبصر به " الخبر.
519
قوله عز وجل: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)
هذا إلزام "كالأول، لكنه أعم، لأن طاعته أعمّ من اتباعه، إذ قد يكون الإنسان مطيعا لغيره، ثم لا يكون متبعا له في أفعاله، وذكر ها هنا الرسول تنبيها أن كل من كان رسولاً من جهة فطاعته واجبة، ثم قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، أي من تولى فقد خرج عن التحبب إليه، ومن لم يتحبب إليه بطاعته فهو لا يحبه بإثابته، والكافر غير متحبب إليه بتولِّيه عنه، فمحال أن يحبه، فصار تقديره: إنكم إذا كفرتم بالإعراض عنه وعن
رسوله، فإنه لا يحبكم. وفي ذلك إبطال دعواهم، حيث قالوا:
(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وقوله: (لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) تنبيه
أنه ينقطع عنهم توفيقه، وبانقطاع توفيقه عنهم يضلون ويعمهون.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣).
قد تقدَّم الكلام في معنى الاصطفاء، وأن ذلك منه تعالى
521
على وجهين: أحدهما: على سبيل الثواب بحسب الاستحقاق.
والثاني: على سبيل التفضيل والابتداء بالترشيح، الذي يؤدي إلى
العمل المرضي، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك على سبيل الاجتباء، وهو أن تفيض العناية الإِلهية عليه، فيجعله على نهاية الكمال بلا اجتهاد منه، ويجعله سببا لتخريج غيره.
وذلك للأنبياء ومن داناهم من الأولياء.
الثاني: على سبيل الاهتداء، وهو أن يوفّقه برسله ليتبلَّغ درجة. فدرجة على سبيل
522
الاكتساب، حتى يقرب من هؤلاء لتحمل المشاق، وذلك للحكماء
ومن داناهم من المؤمنين، ويقال فيهما الاصطفاء، ولوجود
هذين الطريقين، قال تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) وقول الفرَّاء: اصطفاؤهم اختيار دينهم.
وقول الزَّجَّاج والجبائي: اختيارهم للنبوة.
وقول البلخي: هو تفضيلهم على غيرهم بما أولاهم من الأمور الجليلة.
كل ذلك
523
داخل في الاصطفاء، وقد تقدم الكلام في الآلِ وأنه أخصُّ من
الأهل، فإن الآل يتناول الأخِصَّاء الذين يَجْرُون من الإنسان
مجرى ذاته، ولهذا يقال لذات الإِنسان ولخصائص عشيرته: الآل.
ولم يتناول آل محمد الكافرين من ذويه، وعنى بالمذكورين
524
في هذه الآية جُملة مَنْ فضلهم في قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية، فذكر اثني عشر نبيًّا، وسنذكر إذا انتهينا إليه تخصيصهم بالذكر، وكيف رُتبوا هذا الترتيب، ومخالفة ذكرهم في الترتيب لأزمنتهم.
إن قيل: كيف تعلُق هذه الآية بما قبلها؟
قيل: تعلُقها بها من وجهين.
أحدهما: أنه لما أمرهم تعالى باتباع نبينا وهم
يُقرُّون بوجوب اتباع الذين ذكرهم، بيّن أن جماعتهم في كونهم
متساوين في النبوة سواء، وأن الذي دلَّ على وجوب اتباع
أهؤلاء يدلُّ على وجوب اتباع، سائرهم.
والثاني: أنه نبَّه أن اصطفاءه تعالى لهؤلاء لَكونهم مطيعين له، مستحقين لمحبته
بذلك.
قوله عز وجل: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
الذرية: قيل: من ذرأ الله الخلق فترك همزه نحو روية وبرية ونبى
525
وخابية وملك من روأ وأنبأْ وخبأ ومَلأك، وقيل: بل هو من
ذَرْو الريح، وأصله ذُرُّويَة، وقيل: هي فُعْلِيَّة من الذر نحو قمرية.
ويُقال: ذرية للواحد والجمع، ويقال للأصل والنسل، قال تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ) أي إياهم، ويُقال للنساء:
الذراري، قال عليه الصلاة والسلام: "حجوا بالذراري، ولا تأكلوا مالها وتذروا أرباقها في أعناقها " أي بالنساء،
526
فأما الصبيان فلا أرباق في أعناقها؛ إذ لا حج عليهم.
قوله: (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعني في الموالاة الدينية، لقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقوله لنوح: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ردًّا عليه لما قال في الكناية عن هذا العدو.
والضعة: الخساسة، في مقابلة الرفعة، ولذلك استعير
صعود الجبل وبلوغ السماء ونحو ذلك للرفعة، والوقوع في
الثرى ونحوه للضعة.
527
والرجيم: المرجوم، وأصل الرجم: الرمي بالرجام أي
الحجارة، وقيل ذلك للنجم المنقض، لقوله: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) وقيل للظن والكلام المقرِّع: رجم، ومنه (رَجْمًا بِالْغَيْبِ).
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي وضعت حملها، وأنثها على
المعنى، وقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لكون الأنثى ناقصة
العقل والدين، ولهذا قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ولأنه
528
روي أنه لم يكن يستصلح للتحرير من قبل إلا الذكور.
وبين بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أن إخبارها بذلك لم
يكن على سبيل الإِعلام، بل على معنى أن الله أعلم بمآلها، وحقيقة
أحوالها، وذلك يحتمل أن يكون من قولها، وأن يكون من قوله
529
تعالى، وإذا قرئ (بما وَضَعتُ) فإخبار عن قولها على سبيل
التوجُّع، إذ لم يكن ما في بطنها على ما أحبّت، وفائدة قوله:
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) قيل: هو أن هذا الاسم في لغتهم اقتضى
معنى التحرير، وتضرَّعت امرأة عمران إلى الله تعالى أن يحفظها
وذريتها من الشيطان، الذي قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لكون
الأنثى أطوع له، وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان ينال منه طَعْنةً، ولها يستهلُّ الصبي إلا ما
كان من مريم وابنها، فإنها لما وضعتها قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
530
فضُرب دونها حجاب".
ونبه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إنك تسمع نذري، وتعلم
حالي ونيتي، فتقبل مني ما قلت.
قوله في وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)
القبالة: الكفالة، فقوله: (تَقَبَّلَهَا) قيل: تكفَّل تربيتها،
531
وقيل: رضيها، ولفظ التقبّل يقتضيهما.
قال الحسن: قبوله إياها أنه صانها عن كل أذى وقبول مصدر قبل، نحو:
وضوء وطهور، ولما كان تقبّل وقبل يتقاربان جمع بين التقبّل
والقبول، تنبيها أنه جمع من الأمرين التقبُّل الذي يقتضي الرضا
والإِثابة، وقيل: القبول من قولهم: فلان عليه قبول.
إذا أحبّه من رآه.
وقوله: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) أي ربّاها تربية حسنة.
وتقدير الكلام: أنبتها فنبتت نباتاً، وروي أن أمّها لما وضعتها
532
لفّتها في خرقة وبعثت بها إلى مسجد بيت المقدس فقال:
زكريَّا: أنا أحق بها، لأن خالتها تحتي، وقالت الأحبار: لو
تركت لأحقّ الناس بها لتُرِكت لأمها التي وضعتها، فاختصموا
فيها فتقارعوا، فقرعهم زكريا.
واختلف الرزق، فقيل: إنه كان يوجد عندها طعام الشتاء في الصيف، وطعام الصيف في الشتاء، من غير أن كان يدخل إليها آدمي.
وقال الجبّائي: يجوز أن كان
533
رزقاً يأتيها به غير زكريا من حيث لا يعلمه، ولو كان الأمر
على ما ذكر لما أعاد الله ذكره تعجباً من أمرها.
وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يدل على أنه ليس كما ذكر.
وقال بعضهم: كان ذلك فيضاً من الله يأتيها من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً، وهذا أعجب من إتيانها الطعام في غير أنه، لمن عرف
فضيلة العلم، واللفظ محتمل، ثم بين تعالى أن ذلك ليس
534
بعجيب، فرزق الله للعباد على وجوه تقصر عنها معرفة الناس.
قوله عز وجل: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨)
هنالك: يقع على الزمان والمكان، وإن كان المكان أملك له، يقال: هنا، وهناك، وهنالك، كقولك: ذا، وذاك، وذلك، ولما رأى زكريا من أحوال مريم تلك العجائب، وكان به حاجة إلى الولد مع كبر سنه ووهن من
عظامه، سأله أن يهب له ذرية طيبة، أي صالحة، واستعمال الطيب
في الصالح: كاستعمال الخبيث في ضده، في نحو قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح وقوله:
535
(مِنْ لَدُنْكَ) أي من نعمك وفضلك الإِلهي، وذاك أن إيجاد الأشياء
وإن كانت كلها بقدرته وفضله فعلى ضربين: إبداع، وهو الذي لم
يجعل لغوه إليه سبيلا، لا للملائكة ولا للناس، وفِعْل جَعَلَ
للروحانيّ أو الجسمانيّ إليه سبيلًا، فبين بقوله: (مِنْ لَدُنْكَ) أنه
يسأل ما يتفرَّد بإيجاده.
وقوله: (مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي مجيب
لمن دعاك على الشرائط التي بها تُدعى، وقد تقدَّم الكلام في
شرائط الدعاء في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
536
قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
المحراب: قيل: سُمّي بذلك لأنه موقع محاربة
الشيطان والهوى، وقيل: لكون الإِنسان حريباً من أشغال
الدنيا.
وقيل: الأصل فيه أنه موضع حريبة الرجل أي ماله، وذلك أنه
كان اسماً لصدر المجلس، ثم لمَّا اتُّخذت المساجد سمي به
منها ذلك الموضع، وقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: هي
كلمةُ الإِيمان، وهو قول قتادة، وقال أبو عبيدة: كتاب الله
537
وقال غيرهما: عنى به عيسى، وتسمية عيسِى بالكلمة
قيل: لكونه موجدًا بكن، المذكور في قوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقيل: سُمّي بذلك لكلامه في صغره، والسيد
538
السايس لسواد الناس، أي معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد.
ولا يقال: سيد الثوب، وقيل: سيداً أي عالما وتقيًّا وحليمًا.
وذلك من شروط السيادة، فمن لم يوجد فيه ذلك فسيادته زور.
وقال بعض الصوفية: قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)
539
تنبيه أنه قل ما يأتي الإِنسان توفيق وفيض إلهي إلا بالالتجاء إليه.
والحَصُور: يُقال تارة في معنى الفعول.
وتارة في معنى الفاعل، فيجوز أن يكون هو الذي حصر نفسه.
ويجوز أن يقال حصره علمه وعقله.
وقد روي أنه كان ممنوعا من قبل الله تعالى عن النساء.
وأنه كان معه مثل هدب الملاءة،
540
والأول أشبه باستحقاق المدح.
وقرئ: (نادته)، و (ناداه)، نحو (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ) و (يَعْرُجُ).
وروي أن عبد الله
541
ذكَّر الملائكة في كل القرآن.
وقال أبو عبيدة: وذلك خلاف الكفار، حيث أنثوا الملائكة، وقالوا: بنات الله. وليس تأنيث العرب الملائكة، وتعيير الله إياهم لتأنيث اللفظ، إنما ذلك لجعلهم إياها له بنات، إن قيل: ما معنى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)،
542
وذلك يقتضي جواز نبي ليس بصالح؟!
قيل: قوله: (مِنَ الصَّالِحِينَ) متعلق بمضمر، أي وهو من الصالحين.
وذلك مما أكد به قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ).
ومعناه من أولاد الصالحين.
قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠)
الغلام يجوز أن يكون أصلا في بابه، وعنه أخذ الاغتلام، لكون المغتلم شبيها به في المعنى المخصوص، ويجوز أن يجعل الغيلم - وهو منبع الماء - من
ذلك، وسُمّي الغلام لكونه ذا رونق، ولذلك يُقال: فلان عليه
ماء الشباب، والعقر: أصل البنية للدار والإِنسان، وعقرته
543
أي أصبت عُقره، أي أصل بنيته، وذلك يقتضي معنى القتل، ثم
سمي الجرح - أي جرح كان - عقراً، وسُمي الخمر عُقاراً لكونها
كالعاقر للإِنسان.
وجُعل بناؤه بناء الإِرواء كالخُمار والكُباد
والمعاقرة: المشاربة، كأنَّه يطلب كل واحد منهما عَقْر صاحبه بإسكاره. وامرأة عاقر كأنها تعقر النسل، لإِفسادها ماء الفحل.
وجعل العُقْر اسما للدية، وكنى به عن بذل البضع.
وقال ها هنا: (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وفي موضع آخر: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، وذاك أنك إذا بلغتَ الكبر فقد بلغك الكبرُ،
544
نحو أدركني الجهدُ وأدركتُ الجهدَ، ولا يقال: أدركني المكان.
لأن حقيقة إدراك المكان من الإِنسان دون المكان، وإدراك الجهد
والكبر مجاز في الطرفين، فصار انتساب كل واحد منهما إلى
545
الآخر سواء، وقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ليس بإنكار لقدرة
الله، بل لما كانت عادته تعالى في إيجاد الأولاد أن لا يكونوا من
الهَرِم والعاقِر، أراد التعرف أن ذلك هل يحصل وهما باقيان على
حالتيهما، أو يكون بإعادة الشباب إليهما، أو يكون ذلك من
امرأة أخرى أو يحصل ذلك على سبيل لم تجر به العادة؟
وقال بعضهم: إنما قال أنى يكونُ لي ذلك؟ استعظاماً لنعمة الله.
كقولك: من لي بكذا؟ ومن أين لي كذا؟
وقال بعضهم: قال ذلك لأنه لما سمع نداء المَلك
قدّر أن ذلك وسوسة من الشيطان، واستبعد بعضهم ذلك.
وقال: إن الأنبياء لا يشتبه عليهم ما يكون من قِبَل الملائكة
بما يكون من قِبَل الشيطان)،
546
وقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ) على الجواب الأول: أي أنه يهب لك
الولد وأنت بحالتك، وعلى الثاني: أن نعمته في خلق ذلك
كنعمته في غيره، وعلى الثالث: إن تعجّبت من ذلك فتعجب من
سائر أفعاله المبدعة، فإن خلقه لذلك كخلقه لما يشاء.
قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)
العشي: من لدن غروب الشمس إلى انقضاء صَدْر الليل.
وخصّ العشاء بالطعام المتناول فيه، وتعشى تناول
العشاء وعَشى صار في عشاً لظلمةِ عينه، وآية في وزنها
547
ثلاثة أقوال: الأول: أنها فَعلة، وحق مثله أن يُجعل لامه معتلًّا
نحو: حياة ونواة، ونظيرها راية، والثاني: فِعلة إلا أنها قلبت
كراهية التضعيف، نحو طائي في طَيْئي، والثالث: فاعلة، وأصلها
آيية فخَففت وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها أيية، ولو كانت
فاعلة لقيل: أويّة، والرمز: الإِشارة بالشفة.
والغمز بالعين والحاجب.
والإِبكار: مصدر أبكر، يُقال: أبكر وبكَر وبكَر
وابتكر، والبُكرة من وقت طلوع الفجر إلى ضحوة النهار.
وقوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً) قيل: طلب علامة لوقت الحمل.
فجعل تعالى أن لا يمكنه مكالمة الناس إلا إيماءً مع تمكنه من ذكر
الله، وقيل: بل سأله أن يبين له قربة يجعلها شكراً لما خوَّله،
548
فأمره أن يجعل شكره الاشتغال بالعبادة، وترك مكالمة الناس إلا
رمزًا ثلاثة أيام، وهو المذكور في قوله: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).
وفي هذا دليل أن في ذكر اليوم أو الليلة غنىً عن ذكر الآخر عند
الإِطلاق، وإذا أُريد الخلاف بمن حينئذ نحو (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ)، وعلى هذا الآية عبارة عن الفريضة، فإن زكريا سأل
549
أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً له، وتسبيحه: قيل هو
الصلاة، وسميت الصلاة سُبحة.
وقوله: (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) قيل: عنى في هذه الأيام الثلاث.
ولم يعنِ التسبيح في طرفي النهار فقط، بل إنما أراد إدامة العبادة في هذه
الأيام.
وقرئ (أَلَّا تُكَلِّمَ) بالرفع والنصب، نحو:
550
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بالرفع والنصب.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢)
تكرير الاصطفاء قيل لمعنيين: الأول فرَّغها لعبادته وأغناها عن الكسب، والثاني أن جعلها أمًّا لعيسى وآية له، وقيل الأول الاصطفاء الذي هو
551
الاجتباء. والثاني الاصطفاء الذي هو على سبيل الهداية، وقد
تقدم ذكرهما آنفاً.
وتطهيرها قيل: من الحيض.
وقيل: من نجاسة الكفر، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).
وقول الملائكة لها قيل: كان بالإِلهام، فإنه ما أوحى الله إلى
552
امرأة وحي النبوة، فلذلك قال:
553
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)
وقيل: بل قد أوحي إليهن ولكن لم يبعثن رسلا.
وقال الجئائي: إنما يجوز أن يكون أوحي إليها معجزة
لزكريا أو توطئة لنبوة المسيح، وقوله هذا إيماءً لمذهبهم أن
554
المعجزات والوحي لا تصح إلا في أزمنة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وذلك دفع منه لكرامة الأولياء، وقوله: (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، قيل: هو على العموم، وقيل: عنى اللاتي في زمانها.
555
قوله عز وجل: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
القنوت: إدامة الطاعة صلاة كانت أو غيرها من
العبادات، ولهذا قال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)
فجعل من جملة القنوت، وتقديم السجود على الركوع.
قيل: لكونه كذلك في شريعتهم، وقيل: تنبيهًا أن الواو لا تقتضي
الترتيب، وقيل: عنى بالسجود الصلاة، لقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
وعنى بالركوع الشكر، لقوله تعالى في قصة داود:
(وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) أي شاكرًا، وهذا تخصيص للركوع بحال
مقترنة به، وقيل: نبّه بقوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني
مع العابدين والمصلين، وخصها بفضل إيجابٍ اقتضاه قوله.:
(اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي)
إن قيل: كيف أخر هذا الذكر لمريم عن ذكر قصتها؟
قيل: لما ذكر آيتها قرن بها آية زكريا وعبادته، ثم أتبعها بعبادة مريم متمما لقصتها؛ لئلا يحتاج إلى قطع قصة زكريا، فيكون قد قرن ذكر الآية بالآية والعبادة بالعبادة.
قوله عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
557
قد تقدَّم أنواع الوحي، وأن أصله الإِشارة، ويقال
للكتابةْ: وحي، إذ هي إشارة ما، وقد يكون الوحي بالإِلهام
كما يكون بضرب من الكلام، وعلى ذلك قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)
وقد يقال ذلك للوساوس نحو قوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)
وكثيراً ما يشبه الوساوس بالإِلهام، فلا يُميز بينهما إلا أولو العقول
الراجحة.
والقلم: القص من الصلب كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قِلْم، كقولهم للمنقوضِ: نِقْض،
558
وخُص ذلك بما يكتب به وبالقَدَح، وأكد بقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)
أن هذا مما أبلغت من الغيب، لقوله عز وجل في قصة موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا)
وقوله: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)
ومقارعتهم عليها:
قال قتادة: كانوا من حرصهم على كفالتها يتقارعون عليها لفضلها.
وقيل: لتدافعهم إشفاقا من أزمة كانوا فيها.
559
قوله عز وجل: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
تسمية عيسى بالكلمة لقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ولفظة كن وإن كانت للأمر فموضوعة للابداع، وذاك أن
فعل الله ضربان: عادي وإبداعي
فالعادي ويسميه قوم الطبعي: هو الذي أجرى الله تعالى به العادة أن يكون في زمان ومكان، ومن أصل، وعلى وجه مخصوص وشيئا بعد شيء.
كخلقة الولد من النطفة والزرع من البذر.
والإبداعي: ما يوجده
560
دفعة من غير حاجة إلى زمان ولا من أصل كخلق آدم بل كخلق
العالم. وعبّر عن ذلك بكن إذ كان أسرع مفعول فيما بيننا ما كان
قولاً وأعم الألفاظ معنى الكونِ مع وجازة لفظ، وعلى ذلك قال:
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
وقال الأصمّ: سُمّي عيسى كلمة، لأنه تعالى خلق كلمة، فجعل منها عيسى، كما خلق آدم من تراب، وسائر الناس من نطفة، وهذا كما
ترى، وقال الجاحظ: وصفه بذلك من حيث إنه تقدم
الإِخبار به وبشارته في الكتب المتقدمة، وهذا كما سَمَّى وعده
561
كلمة بقوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)
وقيل سُمي كلمة؛ لكونه متكلماً في المهد، وخُص بذلك لفظ الكلمة للمبالغة: كوصف الفاعل بالمصدر.
وقال النظَّام: جعل ذلك لقباً له لا لمعنى أشار إليه.
وسُمي مسيحًا، لأنه مُسِحَ بالبركة.
562
وقيل: لأنه ماسحاً للأرض لسياحته فيها، وقيل: لأنه مُسِحَ
بالجمال، وعنى بذلك الجمال النفسي والبدني جميعاً، من
الأخلاق الجميلة والفضائل الكثيرة، نحو قول النبي - ﷺ - في جرير "عليه مِسحة مَلَك ".
وقيل: لأنه كان ممسوحاً بالدّهن
563
لمّا وُلد" وقيل: سُمي به لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص
لهما، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كأنه سُمّي به لأنه كان
يمسح الأكمه والأبرص فيبرأ.
والجاه مقلوب عن الوجه،
564
لكن الوجه يقال في الحظوة وفي العضو، والجاه لا يقال إلا في
الحظوة، ووجاهته: ما خُصّ به من أوصافه المعلومة.
والقرب من الله تعالى في الدنيا: التخصيص بالصفات التي هي
من صفاته تعالى كالكرم والعفو والمغفرة، وفي الآخرة أن
يصير في جواره، وقد تقدم ذلك.
قوله عز وجل: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
تكليمه النّاس في المهد: ما أنبا عنه تعالى بقوله: ْ
565
(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) الآية، وذلك من الأفعال الإلهية، حيث جعل لطفلٍ عقلًا وعلما وكلاماً.
وقوله: (وَكَهْلًا) قيل: معناه كلامه في حال طفولته وكهولته سواء.
وقيل: يكلمهم طفلاً، وبعد نزوله من السماء كهلًا، لأنه رفع قبل أن اكتهل.
وقيل: يكلم الناس في المهد بكلام الكهول عقلًا.
وقوله: (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي هومن جملة المذكورين في قوله: (وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
وموضع: (وَيُكَلِّمُ)، نصب، كقول الشا عر:
566
يقصر يمشي ويطول باركا
أي ماشياً.
قوله عز وجل: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
القضاء: الفصل، وذلك إما بالتدبير، وإما بالقول، وإما بالفعل.
فالأول لا يصح على الله عز وجل إلا بمعنى الحكم إذ كان
التدبير: التفكر في الشيء وارتياد الصلاح فيه، وذلك لمن كان
ناقص العلم، فقوله: قضى، ها هنا إما للقول، وإما للفعل.
أولهما جميعا، ومعنى قوله: (كُنْ) أي يبدعه على ما تقدم،
567
وقال الأصم: عادة الله جارية فيما أخبر عن كونه، أن يقول في
وقت ما يحدثه كن كخلقه لآدم كما قال للملائكة (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا)
قال له: كن. لما أراد إحداثه تنبيهاً لهم، وكذلك لمّا
أخبر أنه سيبعث نبياً خلقه من غير ذكر، قال له: كن لما أراد
إحداثه، وذلك ليعرف الملائكة انتهاء الأجل ونزوله.
وقال أبو الهذيل إن ذلك قوله يقوله عند كل مكوّن.
وحكي عنه أنه يجري مجرى الإِرادة،
568
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
فقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب منها لما ذكره لها من أمره
بها، وكيف لا تتعجب وأمرها أبدع من أمر زكريا، فأجابها
بقوله: (كَذَلِكِ)، فمن وقف عليه جعل ما بعده كالتفسير
له، ومن وصل: فمعناه أن الله كذا قضى أو كذا يفعل.
إن قيل: لم قال ها هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي قصة زكريا: (يَفعَلُ مَا يَشَاءُ)؟ قيل: لما كان الخلق أخص من الفعل خصه، بما هو إبداع.
وذكر الفعل فيما هو أقرب إلى المعتاد في إيجاده.
569
قوله عز وجل: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
الهيئة: الحالة المحسوسة التي تحدث للشيء، والهيء: الحسن
الهيئة، ومنها أخذ المهايأة فيما يتراضى به على وجه التخمين.
والنفخ: جعل الريح في الشيء ومنه النفخة، وعنه استعير نفخة
الصور، والنفخة للورم تشبيهاً بما ينفخ فيه، والنُّفَّاخَة للحجاةِ.
والادخار: افتعال من الذَّخر وهو إعداد الشيء لنائبةٍ قال
570
الفرّاء: قُرئ (تَدْخرون) خفيفة، وقال بعض العرب:
(تذخرون) فعوقب بين الذال والدال نحو تدَّكر وتذَّكر.
والأكمه: الذي وُلد أعمى.
وقول الحسن: الأكمه الأعمى صحيح، وكل كَمَه عمى، وإن لم يكن كل عمى كمهاً.
وقول مجاهد: الأكمه الذي لا يبصر بالليل دون النهار، فليس بشيء،
571
وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) يجوز أن يعني بحال طفوليته إن
قيلَ: كيف ذكر الكتاب، ثم عطف عليه التوراة والإِنجيل، وهما
من جملة الكتاب؟
قيل: قالوا: عنى بالكتاب القراءة والكتابة، وعُلِّم تعليماً إلاهيًّا في حال الطفولية، وقيل: عنى بالكتاب كتب الله المنزلة وخصص التوراة والإِنجيل كتخصيص ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تفضيلًا لهم، وقد تقدّم الفرق
572
بين الكتاب والحكمة، وقرئ و (يُعَلّمه) عطفا على قوله:
(كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ)، وبالنون عطفا على قوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ)، وقوله: (وَرَسُولًا) عطف على قوله: (وَجِيهًا) وقيل تقديره: ويجعله رسولا
573
إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها، وما قبلها حكاية حكى
الله عن نفسه، وهو: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ)، وهذه حكاية حكاها
عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ)
قيل: تقديره: وبعث رسولاً يقول: إني قد جئتكم، ودل على إضمار
القول ذكر الر سول وترك ذكر مريم، وابتدأ بإرسال عيسى، وما
قال له، وذكر معجزاته.
إن قيل: لِمَ ذكر في الخلق وفي إحياء الموتى (بِإِذْنِ اللَّهِ).
ولم يذكر في غيرهما؟
قيل: لكون هذين الفعلين إلاهيين، لم يجعل للمخلوقين إليهما سبيلًا.
بخلاف النفخ والمداواة والإِخبار ببعض الغيب، فقد جعل للإِنسان كثيرا من
المداواة، وجعل لهم شيئاً من الإِخبار بالغيب كالفِراسة
574
والإِلهام ولم يجعل لهم الخلق ولا إحياء الموتى، فنبَّه بقوله:
(بِإِذْنِ اللَّهِ) أن ذلك فعل في الحقيقة صادر منه تعالى، وإن
كان يظهر من غيره كالفِراسة والمداواة، وإن كانا قد يحصلان من
سائر البشر، فذلك قد يكون باعتماد على تجربة واعتبار أمر.
ولا يكون في كل وقت وعلى كل حال، ولا في دفعة واحدة.
وما كان يفعله عيسى كان بخلاف فعل البشر، فلهذا كان معجزة،
575
ْوقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنّ المؤمن هو الذي يتفكر في
ذلك، فتحصل له الآية.
وقُرىء (إني) على الاستئناف، ويكون تفسيراً للآية.
كما أن قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تفسير للوعد.
وإذا قرىء (أني) بالفتح، فعلى تقدير الجرّ بدلاً من آية
أو على قَدرِ الرفع خبر ابتداء مضمر، كأنَّه قال: الآية
576
أني قد جئتكم.
قوله عز وجل: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
فقوله: ومضدقاً معطوف على ما دلّ عليه
قوله: (بآية من ربكم أني قد جئتكم) مستصحباً آية، ومصدقاً.
كقولك: جئتك بما تحُب ومكرماً لك، وليس بمعطوف على
(وجيهاً) ولا (رسولاً)، لقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) أني أحقق ما أتيت
به من التوراة، فيكون ذلك معدوداً من جملة معجزاته.
وقال قتادة والربيع
577
وابن جريج؟ كان المحرَّم عليهم في شريعة موسى لحوم الإِبل
والأشياء من الطير والحيتان، فاحلَّها عيسى لهم.
وقال أبو عبيدة: عنى ببعض الذي حُرِّم الكل، واحتج بقوله:
578
. أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وقال الزجّاج: هذا فاسد، لأن البعض لا يكون، بمعنى الكل.
وعنى لبيد ببعض النفوس نفسه خاصة فعرّض.
ولأن عيسى حلّل بعض المحرمات، وهو الذي كانوا حرّموا على أنفسهم،
579
وقوله: (وَلِأُحِلَّ) معطوف على موضع (وَمُصَدِّقًا) لأن تقديره:
لأصدِّق وَلِأُحِلَّ، كقولك: جئتك معتذرا ولأطيِّب قلبك.
وعلى ذلك تقدير قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ف ي قراءة عبد الثه (آيات) في
الموضعين، وإنما لم يقل: من ربي أو ربنا. لأن ذلك أخص من المخاطبين.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) قيل: وحِّدوا الله.
وتقواه أخص من توحيده، إذ هي مبنيّة عليه.
ودعاؤه إلى طاعته دعاء
580
فيما دعاهم إليه من تقوى الله.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
لما وصف عيسى نفسه بأفعال إلهية، وأتى على ما ذكر.
وكان قد قال: (وَأَطِيعُونِ) خطر له ما فعلته جماعة من
النصارى، وهو اتخاذهم إياه معبودهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)
ولم يقل: ربنا، ليكون أبعد من التأويل فيما ادعوه.
وأمر بأن يُعبَد الله وحده، وقال: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) تنبيها
أن العدول عن ذلك ليس بالمستقيم.
قوله عز وجل: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
الإحساس: الوجود بالحاسة، وحسّه: قتله، كأنَّه أصاب حسه نحو قلبه وبطنه، وقال الفرَّاء: يقال
حسَسْت، وحسِسْت، وحسِيت وأحسْتُ، فأما حَسَسْته
581
فأصبتُه بحاستي نحو: عِنتهْ ويديتُه أي أصبتُه بهما.
فأما حسِسْت، فنحو علمت وفهمت، وأمّا حسيت فبقلب إحدى
السينين ياء، وأما أَحَسْتُ فبحذف، إحداهما نحو: ظَلْتُ في
ظَلِلْتُ، وكلا اللغتين تحريا للتخفيف، وإنما قال: (فَلَمَّا أَحَسَّ) دون عَلِمَ تنبيهًا أنه ظهر منهم الكفر ظهوراً بادياً لذي الحاسة فضلًا لذي العقل.
وقوله: (إِلَى اللَّهِ) أي
582
متوجها إلى الله، وقيلِ: مع الله نحو الذود إلى الذود إبل.
وقيل: لئه، نحو (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) والوجه هو الأول.
والأنصار جمع نصير - نحو: أشهاد في جمع شهيد، والحواريون
قيل: سُموا لبياض ثيابهم، عن ابن جبير، وقال بعضهم:
583
عنى ببياض ثيابهم نقاء نفوسهم، نحو (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ).
وقولهم: فلان طاهر الثوب، وفي ضده: دنس الثوب.
وقيل: كانوا قصّارين يبيعون الثياب.
وقال بعضهم: عنى أنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس.
وقول النبي - ﷺ -: "الزبير ابن عمتي
وحواري " تشبيها بهم، وقول أبي عبيدة: الحواريون صفوة
584
الأنبياء فنظر منه إلى حواري عيسى عليه السلام، وإلى قول
النبي - ﷺ -، وقد تقدَّم القول في الإيمان والإسلام، وعنى بالإِسلام ها هنا الاستسلام لله عز وجل، كقول إبراهيم:
(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
قوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣).
585
الاتّباع: الاقتداء بالمتبَع، وهو أخصُّ من الإِجابة، إذ قد
يكون مجيباً من لا يكون تابعاً، وإنما قال: (ربنا) ولم يقل:
رب العباد؛ لأن الموضع موضع اعتراف وشكر، لا الإِخبار عما
عليه الشيء في نفسه، فلذلك خص (ربنا)، وقد تقدم أن الشاهد
هو المخبر عن الشيء مشاهدة: إما حسًّا أو عقلًا، وأنه استعير
للشهادة في الأحكام، والشاهدون ها هنا هم الذين على طريقة
من قال فيهم: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
ونبه بقوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أنهم منهم،
586
وقوله: (ربنا) متصل بالحكاية عنهم.
وأخبرنا تعالى بذلك لنقتدي بهم في متابعة
النبي - ﷺ - والتضرُّع إلى الله في طلب الثواب كما طلبوه.
قوله عز وجل. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤)
المكر في الأصل: حيلة يُجلب بها الإنسان إلى مفسدة.
وحيلة قد تقال فيما يُجلب به إلى مصلحة، وقد يُقال في ذلك المكر
والخديعة اعتباراً بظاهر الفعل دون المقصد، والحكيم قد يفعل
ما صورته صورة المكر، ولكن قصده المصلحة لا المفسدة، وعلى
هذا سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد:
587
ويقبح من سواك الشيء عندي... وتَفْعَلُه فيحسن منك ذاكا
فإذن مكر الله قد يكون تارة فعلًا يُقصد به مصلحة، ويكون تارة
جزاء المكر، ويكون تارة بأن لا يقبِّح مكرهم في عينهم، وذاك
بانقطاع التوفيق عنهم وتزيين ذلك في أعينهم، حتى كأنه زيَّنه في
أعينهم ومكر بهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم.
فإذا أعطاهم واستعملوه على غير ما يحب، فكأنه مكر بهم،
588
واستدرجهم من حيث لا يعلمون.
ولأجله قال: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
وهذا من المعنى الذي اقتضى الذي قال تعالى:
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
وقال اِلكلبي: مكرهم كان تدبيرهم في قتل عيسى (وَمَكَرَ اللَّهُ) أنه ألقى شبه عيسى
589
على رجل كان يقال له يهوذا عهد لقتل عيسى، فدخل بيتا فظن
أن عيسى عليه الصلاة السلام فيه فتبعه القوم فصلبوه.
وقال الأصمّ: مكره بهم أن سلَّط عليهم فارس، فقتلوهم، وسبوا
ذراريهم، لقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا).
قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
إن قيل: كيف قال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)؟ قيل: جملة الأمر أن ليس في
590
ذلك منافاة، إذ ليس كل متوفى يكون مقتولا.
وقد قال الفرَّاء: معناه: ورافعك إليَّ ومتوفيك، فقدَّم وأخرَّ.
وقال الربيع: توفَّاه، ووفاته النوم.
وقال غيرهما: آخذك وافياً لم ينقص منك شيء.
وقال الحسن: وفاة الرفع، لا وفاة الموت.
591
وقال ابن عباس ووهب: وفاة موت، فإنه أماته ثم أحياه فرفعه.
وقال بعضهم: معنى متوفيك آخذك عن هواك، ورافعك إليَّ عن
شهوتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا، وإنما هو رفعة المحل "،
592
وإن كان قد رُفع إلى السماء، وعلى هذا قوله تعالى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم.
وقيل: تخليصه من قتلهم، لأن ذلك طهرة منه.
وقوله: (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فوقهم بالبرهان والحجة.
وقال ابن زيد: عنى أنه جعل النصارى فوق اليهود في العِزة.
فقد جعل لهم مملكة ولم يجعلها لليهود.
وقيل: عنى بقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ):
593
من اتبع نبينا عليه الصلاة والسلام منهم، فإن من لم يتبعه بعد
بعثته فهو في الحقيقة غير تابع لعيسى، وقيل: معنى قوله:
594
فوقهم: أي يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات آمنون.
والذين كفروا في أسفل السافلين!
وحينئذ تتعلق (إلى) بما تقدم، وقد تقدّم الكلام في الرجوع إلى الله.
قوله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)
تعذيب الله الكفار
والأشرار في الدنيا ضربان: ضرب عرفوه عذابا كالأمراض
والخسف والمسخ وتسليط المؤمنين عليهم.
وضرب حسبوه نعمة وهو في الحقيقة نقمة.
وذلك كتمكينهم من مال وجاه وسائر أعراض الدنيا، التي حظهم منها الهموم والغموم، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا).
قوله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
الإيمان: فعل ما يقتضي الأمن من عذاب الله.
والصَّلاح: فعل ما يقتضي الصلح بينه وبين الله عز وجل.
والتوفية: إعطاؤه ما لا ينقص عما يقابلبه،
596
والإِيفاء الزيادة عليه، إن قيل: كان من حق المقابلة أنه لما عاقب
ذكر الكافرين بقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أن يذكر ها هنا ما
ينافيه فيقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). ونحو ذلك من الكلام لا قوله:
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
قيل: إن قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) من صفة الذين كفروا.
ونبّه بالصفتين جميعا، أعنى هذه وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) على كون المؤمنين منصورين ومحبوبين.
وقد دل على ذلك من فحوى الكلام في هذه الآية وغيرها من
الآيات، وفي قوله: (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تنبيه أنه لا يظلم خلقه.
فمن لا يحب شيئاً لا يتعاطاه مع استغنائه عنه.
إن قيل: ما وجه إعادة ذكر عذاب الكافرين وثواب المؤمن العاقل الصالح في هذا المكان؟
قيل: إن ذلك مقترن بمخاطبته عيسى، وهو قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)
وتقديره: الذين كفروا بك، آمنوا بك. لكن حُذِف ذلك اختصار.
597
قوله عز وجل: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
التلاوة والتنزيل والقص متقارب، لكن يقال:
التلاوة اعتباراً بمساوقة بعض الكلام بعضاً بالولاء، والإِنزال
اعتباراً بإخبار الأعلى الأدون، والأرفع للأوضع.
والقَصُّ اعتباراً باقتطاع الخبر على ما هو به، وقصَّ أثره.
والحكيم: المحكم، إشارة إلى قوله: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ).
ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه ناطق بالحكمة وفاعل لها، لا لاقتضائه إياها.
وقوله: (ذلك): مبتدأ، و (نتلوه): خبره، وقيل: ذلك تقديره:
الذي، و (نتلوه): صلته، والخبر قوله (من الآيات)
وتلاوته: إنزاله، ويجوز أن تُجعل تلاوة جبريل والنبي - ﷺ - وأوليائه تلاوة لمّا كان بأمره، فأفعال أوليائه قد تنسب إليه، كقوله
عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا).
وقوله في موضع آخر: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ).
قوله عزِ وجل: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
لما ذكر تعالى مكان عيسى من الفضيلة، وما آتاه من المنزلة.
كَذَّبَ النصارى فيما ادعوه من بنوته،
599
وبيّن كيفية خلقه من غير ذكر.
إن قيل: كيف يكون عيسى مثل آدم وآدم لم يضمّه رحِم؟
قيل: إن ذلك تكذيب للنصارى فيما ادعوه.
وذلك أن أهل نجران قالوا: ما رأينا ابناً بلا أب؟
فأنزل الله ذلك تبيينا: أن ليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم.
إذ هو لم يُخْلق من ذكر ولا أنثى وعلى نحوه دلّ قوله:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).
إن قيل: لِمَ قال: (عِنْدَ اللَّهِ). أهو يشبهه عند الله دون غيره؟
قيل: عنى بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ). في حكمه، وأن ذلك لا يشق عليه كما
لم يشق عليه أن خلق آدم من غير أبوين.
إن قيل: ما معنى قوله:
600
(كُنْ) بعد أن خلقه من تراب؟
قيل: معناه كن إنسانا حيّا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرًا جسدًا ملقى لا روح فيه.
على ما رُوي في الخبر، ثم جُعل فيه الروح، وجعل كن عبارة
601
عن إيجاد الصورة التي بها صار الإِنسان إنسانا، وعلى هذا
قال: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
فالمقول له الجسد، وقد تقدم الكلام في كن.
إن قيل: لِمَ قال: (فيكون) ولم يقل فكان؟
قيل: يكون عبارة عن حال كونه، وحكاية الحال هكذا يُخرجُ نحو قولهم: فلان قال أمس كذا فيُفعل به كذا.
إن قيل: لِمَ رُفِعَ يكون ولم يُنصب على جواب الأمر؟
قيل: جواب الأمر يجب أن يكون غيره، نحو: ائتني
602
فأكرمك، وتقديره: ائتني فإنك إن تأتني أكرمك، ولو جُعل
فيكون جواباً لكان، تقديره كن، فإنك إن تكن تكن، وهذا لا
يصح؛ لأن معنى الجواب معنى الشرط، وإذا رُفِعَ فتقديره: فهو يكون.
قوله عز وجل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
الامتراء: استخراج الرأي للشك العارض، ويُجعل عبارة عن
الشك، وإنما قال: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل ممترياً.
ليكون فيه ذم من شك في عيسى.
وقوله (الْحَقُّ) خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره (مِنْ رَبِّكَ).
ونبّه أن الحق في
ذلك، بل في الأمور كلها ما يكون مصدره من الله تعالى.
وقوله: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وإن كان خطابا للنبي - ﷺ - فالمقصد به عام.
قوله عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١)
أصل البهل: ترك الشيء غير مراعى، من قولهم بهلْتُ الناقة: تركتها
بلا صرار.
واللعن: الطرد، وقد يستعمل البهل بمعنى
604
اللعن، وقد تقدّم أن لعن الله قد يكون بمنع التوفيق عن
الكافر وتركه وشؤمه، وهذا نهاية الخذلان.
وتَعَالَ: قال أهل اللغة أصله أن يدعو إلى - مكان رفيع.
ثم جُعِلَ عامًّا في الدعاء إلى كل مكان.
والأولى أنه دعاء الإِنسان إلا ما فيه علو منزلة:
إما على الحقيقة، وإما على سبيل الفضول، كقولهم:
هلّم إلى السعادة.
وقوله: (حاجّك فيه) أي في كون عيسى عند الله كآدم.
وقيل في قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
605
وكلا القولين واحد في التحقيق، لأن كليهما في
أمر عيسى، والآية نزلت في نصارى نجران، إذ عارضوا النبي
- ﷺ - في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام.
ويقال: لما نزلت أخذ النبي - ﷺ - بيد الحسن والحسين
606
وعلي وفاطمة. ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا.
وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارًا.
فلم يبق نصراني ولا نصرانية.
وقال بعضهم: وفي هذا إشارة إلى
607
ظهور بطلان الدعاوى الكاذبة عند أهل الحقائق.
قوله عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
أي أن ما قصّ الله عليكم من أمر عيسى هو الحق، وأن المستحق لعبادته هو الله، لا إله غيره، وأن لا عزّة ولا عزّ ولا حُكم ولا حِكمة إلا له تعالى في الحقيقة، فهو الذي لا تلحقه ذِلّة ولا تعتريه جهالة، وكل من حصل له شيء
من العزّ والحكم فمنه مستفاد.
والقصص: كل خبر مقتطع
608
على وجهته من قولهم: قصصت أثره، وقصصتُ الظفر.
وهو اسم للمقصوص: كالقبض والنقص، للمقبوض والمنقوص.
وظاهر قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) أبلغ من قولنا:
وما إله، لاستغراقه، ولا يصح جرّ لفظ الله على البدل من إله، لأن من
هذه لا تدخل إلا على كل نكرة غير موجبة، فإذن لا يكون إلا
رفعاَ رداً على موضع (مِنْ إِلَهٍ)، وأعاد ذكر الله ظاهراً على
609
طريق التعظيم، وخص (الْعَزِيزُ) تنبيهاً أنه تعالى مستغن عن
التكثر بالولد على ما تقدم، وفيه تنبيه أنه أظهر عزته عما ينسب
إليه من الولد بما قدمه من الحجة، وأنه حكيم لا يفعل ما ينافي
حكمته، واتخاذ الولد مما ينافي حكمته.
قوله عز وجل: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
أي إن أعرضوا عن الإِصغاء إلى الحق والتزامه، وعن الإِجابة إلى
المباهلة، فإن حالهم في كونهم مفسدين ظاهرة، وعقوبتهم
واجبة، فهو تعالى معاقبهم.
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قال محمد بن جعفر والحسن والسدّي: عنى بأهل الكتاب هاهنا
610
نصارى نجران، وقال قتادة والربيع: عنىِ يهود المدينة.
وقيل: عنى الفريقين، لقوله في ذمهما: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)
611
و (سَوَاءٍ) وسوى: وسط، ويعني به العدل.
وقول الربيع وأبي العالية (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)
هي لا إله إلا الله، فصحيح، لأن أبلغ العدالة التوحيد، وهي
612
الكلمة التي يجب أن يتساوى الناس فيها، وفي أن يكونوا
عابدين غير معبودين، بخلاف ما ادعته النصارى، ونبه بقوله:
لا نشرك أن قولهم يقتضى الشرك، وإن كانوا منكرين أنهم
مشركون، وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ) خفض بدل من كلمةِ، أو رفع
على أنه خبر ابتداء مضمر، كأنه قيل: وهي ألا نعبد، ولو
رُفع سواء، نحو قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) جاز
613
وكذلك يجوز رفع (أَلَّا نَعْبُدَ) على معنى: أنه لا نعبد.
وقال بعض الصوفية: نبهّنا الله تعالى بهذه الآية على طريق
التعبد، وأن لا نقصد بسرنا سواه عند عبادته، ولا نفزع في شيء
من الحاجات إلى غيره، فنكون كمن وصفه النبي - ﷺ - "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ".
إن قيل: فأي حجة في قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا) قيل: إنه تعالى أدبنا بأن المعاند متى لزمته الحجة وبانت له المحجة فليس إلا التقضي منه وترك
614
محجته وملاحاته.
إن قيل: كيف قال: (وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكلاهما أفاد ما أفاد قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ)؟
قيل: ليس كذلك، فإن الشرك بالله قد يكون في غير العبادة.
ألا ترى أن النبي - ﷺ - قال:
615
"الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء".
من ذلك قول القائل: لولا الديك لأتانا اللص.
وقال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).
فقد شرط من دون الله
616
وهنا هو الكفر، فأما المملوك إذا اتخذ صاحبه ربًّا لا أنه معبود
فليس بمنهي عنه.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥)
قال ابن عباس والحسن والسدي: اجتمع أحبار اليهود ونصارى
نجران عند رسول الله - ﷺ - فتنازعوا في إبراهيم.
فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديَّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيَّا، - فأبطل الله دعواهما، وبيّن أن ذلك محال، لأن المتقدم لا يكون
617
منسوباً إلى المتأخّر ومقتدياً به.
إن قيل: فإن اليهود والنصارى لم يدّعوا أكثر من أن شريعتنا مساوية لشريعة إبراهيم، وهذا قد ادعاه المسلمون، فإن أمكننا أن نلزمهم. ذلك أمكنهم أن يعارضوا بمثله؟
قيل: إنّا لم ندّع أن إبراهيم منسوب في الشريعة إلى محمد
- ﷺ - كما ادعوه، وإنما قلنا كان حنيفا مسلما، والحنيف المستقيم والمائل إلى الحق، والمسلم المطيع والمستسلم للحق، وهذا
من الأسماء التي يتخصص بها كل ذي حق، ولهذا قال:
618
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، واليهود منسوب إلى يهودا.
والنصارى إلى ناصرة، وهما نسبتان حصلتا بعد إبراهيم.
فكذبوا في نسبته إليهما، ثم المسلمون موافقون لإِبراهيم في كثير
من الأحكام: كحج البيت، والختان، والمضمضة وغير ذلك.
وهم يخالفونه في أكثر ذلك، وأيضا فقد ورد في القرآن أن شريعتنا
619
موافقة لشريعته فيما حكى، وهذا ظاهر، ونبّه بقوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
أن ما يقولونه ويفعلونه بخلاف مقتضى العقل.
وأن العقل يزجر عن اتباع دعوى بلا حجة.
قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)
ها للتنبيه عمّا يضلّ عنه الإِنسان أو يغفل، تقول ها أنا ذا. تنبيهاً
لمن غفل عنك.
فإن قيل: فهب أن الإِنسان يغفل عن غيره، فكيف يغفل عن نفسمه، حتى يقال: ها أنتم؟
قيل: فليس حقيقة (هَا أَنْتُمْ) تنبيه المخاطب على وجود ذاته، وإنما هو تنبيه على أحواله التي غفل عنها، فالإِنسان قد يغفل عن كثير من معايبه
لشغفه بنفسه، فيحتاج أن ينبّه عليه، ولهذا لا يقتصر علي قوله:
(هَا أَنْتُمْ) حتى يُضم إليه حالة ما، مما غفلواْ عنه، وفي الآية تنبيه
على حالة غفلوا عنها، وهي أنهم حاجوا فيما لا علم لهم به.
ولم ترد به التوراة والإنجيل، فيقول: هب أنكم تحتجون فيما ورد به كتب
الله المتقدمة فلِمَ تحتجون فيما ليس كذلك؟ ونبَّه أن المحاجة
إعلام الحجة، ومن لا يعرفها فكيف يُعَرّفُها؟
وفي قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
استدعاء لأن يسمعوا، كقولك لمن أخبرته بشيء لا يعلمه:
اسمع فإني أعلم ما لا تعلم، و (هَؤُلَاءِ)
هاهنا جار مجرى الذين و (حَاجَجْتُمْ) صلته.
وقيل: بل هو تابع لأنتم جار مجرى عطف البيان، و (حَاجَجْتُمْ) هو
الخبر، والمعنى لا يتغير باختلاف التقديرين.
قوله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
أنكر الله عليهم محاجتهم في
إبراهيم، واستجهلهم فيما ادعوه، وأنه كان على إحدى الملتين
اليهودية والنصرانية، وبتّ الحكم على كونه حنيفاً مسلماً على ما
تقدم، ثم بيّن أنه لم يكن من المشركين؛ تنبيها أن اليهود
والنصارى فيما ابتدعوه وادعوه مشركون..
قوله عز وجل (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
قد تقدم معنى الولاية والاتباع، وأنه تارة يكون بالسنن
وتارة يكون بالاعتقاد.
وهذا الثاني هو المراد، ومعنى الآية أن أصدق الناس موالاة لإِبراهيم
من تبعه في اعتقاده وأفعاله، وهذا النبي والذين آمنوا هم المتبعون
له، فإذن هم أحق به، فعلى قوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)
622
مبتدأ محذوف الخبر، وقيل: عنى بقوله الذين اتبعوه:
المتبعون له في زمانه، وقوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ) معطوف عليه.
إن قيل: لِمَ أفرد ذكر النبي - ﷺ - عن المؤمنين؟
قيل: لأنه هو المقصود بالولاية، والمؤمنون غير الذين آمنوا وهم تابعوه، ويجوز أن يُجعل المؤمنون عاماً، ويكون إفراد النبي - ﷺ - تعظيما له كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة، وقدم ذكره تشريفا له، كقوله:
623
(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ) فقدم ذكرهما، وإن كانا
من جملة النبيين، وإنما قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل: وليهم.
تنبيها أن موالاة الله تعالى تُستحق بالإِيمان، وأنها ليست بمقصورة
على من تقدم ذكرهم، بل ذلك لكل مؤمن في كل وقت.
والولي هاهنا يُحتَمَلُ على وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الفاعل.
ولما ذكر حال إبراهيم ومشاحّة الناس في الانتساب إليه نبّه
بقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أنّ إبراهيم استحق منزلته.
والثاني: أن يكون بمعنى الموالىَ، أي المؤمنون هم الذين يوالون الله.
فأما الكفار فيوالون الشيطان، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).
624
قوله عز وجل: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩)
الطائفة: جمع طائف وهو الذي يطوف، وذلك اعتبارا بطوافهم بالبيت وغيره من متعبدْاتهم، ولطوافهم في أسفارهم، ثم سُمي كل جمع طائفة.
طافوا أو لم يطوفوا، كتسميتهم بالرفقة، ترافقوا أو لم يترافقوا.
والإِضلال: فعل ما يحصل عنده الضلال، ويقال ذلك له لقَصْدِ
الفاعل ذلك أولاً، لأنه يقال مفازة مضلة، كما يقال: أضلني
فضللت، ويقال: أضله، سواء فعل ذلك بِدعًا أو بغيره، كما
يقال: أضله الشيطان، قال تعالى حكاية عنه:
625
(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)
لكن الإضلال متى كان معه الضلال لا يصح أن يُنفى، فيقال:
ما أضل المؤمن، ويقال تارة الشيطان، وإذا لم يكن معه الضلال صح النفي فيه والإثبات جميعا، ويقال تارة: الشيطان أضلّ المؤمن ولم يضل.
والود ضرب من المحبة، ويستعمل في معنى التمني، فمتى
قُصدَ به التمني استُعمل معه: أن، وتارة: لو، يقول: وددت
626
لو خرجت، ولا يجوز إدخال لو فيه إذا أُريد معه المحبة.
وإذا كان بمعنى المحبة يتعلق بالأزمنة الثلاثة، وإذا كان للتمني
فليس إلا للاستقبال. بيَّن تعالى أن طائفة من اليهود والنصارى
يتمنون أن يفعلوا ما يؤدي المسلمين إلى ضلالهم وهلاكهم، وكل
ما يفعلونه يؤديهم إلى هلاك أنفسهم، ثم بيَّن أنهم لا يشعرون
627
أنهم يضلون أنفسهم، وإنما قال: (لَا يَشْعُرُونَ) مبالغة في
ذمهم، وأنهم افتقدوا المنفعة بحواسهم، كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقول من قال: الآية تدل على أن المعارف مكتسبة
بقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ)، فبعيد عن تصور الفرق بين قولهم:
يشعر ويعلم، ورُوي في سبب نزول هذه الآية: أن قوما من
اليهود دعوا عمار بن ياسر
628
وحذيفة بن اليمان إلى اليهودية.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة: إما ببصر.
أو ببصيرة، ثم يُعبر بها عن المعرفة القتضية لصحة ما يدعي، وإن
كان المدعى عليه منكرا بلسانه كقولك لخصمك: أنت تشهد أن
الأمر بخلاف ما تذكره.
فقوله: (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)
منهم من خص، فقال: عنى بذلك الآيات المنزلة على محمد - ﷺ -
629
ومنهم من قال: عنى الآيات التي تدل من الكتابين على صحة
نبوة محمد - ﷺ -
(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) يعني شهادة بالقلب دون اللسان، أو عنى ما يكون من شهادتهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ).
وقيل: معناه: وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب: لم تلبسون الحق بالباطل، تنبيها أنهم يفعلون ذلك حماية على رياستهم وعصبية لملّتهم، لا جهلًا بالحق، بل هم يعلمون.
630
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١).
لبس الحق بالبطل على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُحرِّف الحق، فيُجعل في صورة الباطل.
والثاني: أن يُزين الباطل، فيُجعل في صورة الحق.
الثالث: أن لا يُميّز أحدهما عن الآخر مع الإمكان.
وقد فُسّرت الآية على الأوجه الثلاثة.
قال الحسن وابن زيد: هو تحريف التوراة والإنجيل،
631
وقال بعضهم: هو الكفر بمحمد - ﷺ - مع المعرفة بصدقه، وقيل: هو ما ذكره تعالى من بعدُ في قول بعضهم لبعض (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ).
وأما كتمانهم الحق فما كتموه من صفات النبي - ﷺ - التي دَلّ عليها إشارات التوراة والإِنجيل، وقد نهى النبي - ﷺ - عن كتمان العلم بقوله:
632
"من سُئل عن علم فكتمه... " الخبر، وعنى بالآية كتمانه مع
وجوب إظهاره:
فأما صيانة الحكمة عمن لا يستحقها؛ إما لقصوره عن الوقوف عليها، أو خوفاً أن يجعلها ذريعة إلى فساد، فذلك واجب.
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون الحق
633
الذي تكتمونه، والتلبيس الذي تاتونه.
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقال فيما قبله:
(وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)؟
قيل: الذي نفى عنهم ما ادعوه من كون إبراهيم يهوديّا أو نصرانيا.
وليس ذلك في كتابهم.
وما أثبت لهم هاهنا وقفوا عليه من كتابهم من أمر النبي - ﷺ - فجحدوه، وهذا غاية الذم، إذ جحدوا ما علموا، وادعوا ما جهلوا.
634
قوله عز وجل: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
الوجه: أصله الجارحة، ولما كان هو أول ما يستقبلك، وأشرف
ما في البدن، تارة يُستعملُ في أشرف الشيء، فيقال: هذا وجه
كذا، وتارة في مبدئه، نحو: وجه النهار.
وقوله: (آمِنُوا) أي أظهروا الإِيمان، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي آمنوا بمحمد - ﷺ -.
والطائفة التي قالت ذلك قال قتادة والربيع: هم اليهود بعضهم لبعض،
635
وقال الحسن: يهود خيبر، قالوا: ليهود المدينة فخصص.
ومعنى الآية قيل: إن النبي - ﷺ - صلى صلاة الفجر إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك في آخر النهار، فقال: آمنوا بصلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس، واكفروا بصلاتهم في آخر النهار إلى الكعبة، لعلهم يتركون إذا رأوا التواءكم عليهم، وعبَّر عما فعله المسلمون بالإِنزال إليهم.
لا أنهم أقروا بأن ذلك منزل، ولكن على حسب ما قاله المسلمون
واعتقدوه.
وقيل: ليس القصد في الحقيقة إلى صدر النهار وآخره.
بل لما عجزوا عن صرف المؤمنين عن موافقة النبي - ﷺ - مكاشفة، قالوا: إذاً مروهم بأن يساعدوهم مرة ويخالفوهم مرّة؛ ليحتالوا
على صرفهم عن اتباعه بذلك، فحذّر الله المؤمنين منهم
636
ليحترزوا. ومنهم من حمل وجه النهار وآخره على مجاز
آخر، فقال: معناه آمنوا في الظاهر، واكفروا به في الحقيقة.
وذلك هو المُعبر عنه بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وقيل: فيه وجه رابع، وهو أن علماء اليهود وكانوا قد حدّثوا
قبل بعثة النبي - ﷺ - بأخبار له وُجِدَت على ما أَخبروا به، ثم لما رأوا رياستهم تبطل به ندموا، فقال بعضهم لبعض: قد أخبرنا اليهود
بما أخبرنا، فإن كذبّناه دفعة اتهمونا، ولكن نؤمن ببعض، ونكفر
637
ببعض، أي نوهمهم أولا أنا نظنّه صادقا ثم يكذبونه، فهذا
معنى (آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).
ولإِظهارهم الإيمان طورًا والكفر طورًا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) الآية.
قوله تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
في قوله (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)
قولان: أحدهما: أن يتصل بقو له: (وَلَا تُؤمنُو).
638
والثاني: أن يتصل بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) فإذا جعلته متصلًا بقوله:
(وَلَا تُؤْمِنُوا) فتقديره: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد، لكن حُذف
الجار لكثرة حذفه مع أن.
إن قيل: كيف يصح أن يكون (تُؤْمِنُوا) مفعوله (أَنْ يُؤْتَى) وقد عُدي إلى قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) و (ءَامَنَ) لا يصح أن يُعدى إلى مفعولين بغير حرف
العطف؟
639
قيل: إنّ اللّام تتعلق به، لا على حدّ المفعول به، وتقدير
الكلام: لا تُقرُّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع.
وقول من قال: اللام زائدة نحو (رَدِفَ لَكُم) فبعيد، لأن
آمن هنا لا يتعدى إلا بالجار.
وفي قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) على هذا
640
قولان: أحدهما: لا تُقِرُّوا أن أحداً عرف محمّدًا كما قد عرفتموه.
والثاني: أن خُصّ أحدٌ من العلوم والكراما) بمثل ما خُصصتم.
وقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) أي أو أن يجعل الله للمسلمين حُجةً يحاجونكم
بها عند الله، فأكذبهم الله تعالى في الأمرين جميعاً وردّ عليهم.
أما في الأول فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) تنبيهاً أن ذلك
يعطيه من يشاء، نحو (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
أمّا في الثاني، وهو قوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).
فقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) اعتراضٌ بين بعض الجملة وبعضها.
تسديدا لها وجواباً لهم، وكذلك قوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ)
641
جواب لهم.
والاعتراضُ بين المتصلين من الجملة بما فيه تحقيق
لمقتضاها، أو رد لها من بلاغاتِ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ) فقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) فصل بين اسم إن وخبره، لتحقيق مقتضى الكلام.
والثاني: وهو أن يجعل أن متصلًا بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)، ويكون كلام اليهود قد انقطع عند قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).
642
وفيه أوجه، الأول: ما قاله الكسائي والفرّاء
وهو: أنَّ أنْ هاهنا تقتضي معنى لا، كما تقتضيه في قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه: البيان بيان الله، وقد بين أن لا يُخَصُّ أحدٌ من الأمم بمثل ماخُصِصْتم به أيها المؤمنون،
643
إذ دين الإِسلام أكمل الأديان، ومصون عن الإِفراط والتفريط.
وقد تقدم أن شريعة الله قبل نبينا عليه الصلاة والسلام كانت في
حكم النشوء والتكميل، وبه عليه الصلاة والسلام كَمُلت.
ولهذا قال. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
ويقوي أن معنى (أَنْ يُؤْتَى) لا يؤتى قول الحسن: إن معناه: فلن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون.
قال المبرد: لا يكون أن في كلامهم مقتضيا لـ "لا"، وإنما تقدير
644
ذلك: كراهة أن يؤتى أحد، وجعل المعنى بهما تقدم، وهذا
التقدير بعيد، لأجل أن أحداً هذا يختص بالنفي وما في معناه.
وعلى تقديره، ويكون مستعملًا في الإِيجاب. على أن بعض
النحويين ذكروا أن أحداً هاهنا هو المستعمل في الإثبات في نحو
قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) تقديره عند الفرّاء: حتى يحاجّوكم أو إلي أن يحاجّوكم، وذلك على سبيل التبعيد.
وعلى قول الكسائي: معطوف على قوله (أن يؤتى)
على تقدير أو أن يحاجوكم.
وحُكي أنه في قراءة عبد الله: (أن)،
645
وذكر بعضهم أن قوله: (أَنْ يُؤْتَى) متعلق بفعل مضمر، وتقدير
الكلام: قل إن الهدى هدى الله، فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم، أو أن يحاجّوكم، فإن الله عنده الفضل يؤتيه من يشاء.
فهذه ثلاثة أوجه في قوله: (أَنْ يُؤْتَى) إذا لم يُجعل متعلقا بما
تقدم، وذكر بعض المفسرين أن قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا) كله
خطاب الله المؤمنين، لا حكاية عن الكفار، وذَكَر في تفسيره
646
أوجهًا: الأول: أن يكون تقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
أن يؤتى. ويكون ذلك تبيينا أن هذه الشريعة أكمل الشرائع على
ما تقدم.
والثاتي: أن يكون ذلك حثًّا على موالاة المؤمنين، ونهيا
عن مخالطة الكافرين، نحو: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو
نحوها من الآيات.
والثالث: أن يكون فيه مع المعنى المتقدم
حثَّ على أن لا يصاحب المؤمن من لا تكون طريقتُه طريقتَه.
فيُشغل عما هو بصدده، وقال بعض الصوفية: لا تفشو أسرار
647
الحق إلى غير أهله، ولا تُصدقوا بظهور كرامة على غير المحافظين
على ظاهر الشريعة، إبطالا لمن يدعي الوصول إليه بلا مشقة
يتحملها وعبادة يتكلفها، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيه
على سعة غناه وجوده وعلمه بما يأتيه ويدعه، فلا يتهم فيما
يفعله ويذره.
قوله عز وجل: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
الاختصاص: انفراد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة.
والفضل في الإِعطاء: الزيادة على المستحق الذي هو العدل،
648
وهو المعبر عنه با لإحسان في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)
ولأنه من تمام قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيها أنه
إذا كان واسعا وعالما، فسعته تقتضي أن يوسع على عباده.
وعلمه يقتضي أن لا يحرم رحمته مستحقها، وفضله يقتضي أن
يتجاوز تحري العدالة إلى تحري الإفضال، وهو أن يفضل على
غير مستحقيه، وإلا لم يكن فضل عظيم.
وقول الحسن ومجاهد والربيع: إن الرحمة هاهنا النبوة.
وقول ابن جريج: هي
649
القرآن صحيحان. لأن كليهما داخلان في الرحمة، ولا شك
أن من أعطيهما فقد خُصَّ برحمة منه، وكذلك قول من قال:
عنى بالرحمة الحسنى المذكورة في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقول من قال: عنى به الوقوف على حقائق كلامه، الذي خص به خواص عباده الموصوفين بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)، فكل ذلك داخل في عموم رحمته.
650
إن قيل: ما فائدة ترك التبيين في نحو قوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وإبهام القول فيه؟
قيل: الفائدة في ذلك أن يبقى رجاء الراجي وخوف الخائف الممدح بهما في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، وليقطع بذلك ملاحظات
المجاهدات، وليبين أن الإِنسان وإن بذل غاية الجهد في العبادة.
فرحمته هي التي تنقذه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يدخل الجنة أحد بعمله "، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
"ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".
651
قوله عز وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
يقال: دُمْتَ تدوم ودِمت تَدَامُ.
وقال بعضهم: مِت ودِمت، وكل يقول: تدوم وتموت،
652
وقوله (قائماً) قال قتادة: (قائماً) بالتقاضي والمطالبة.
وقال السدي: بالاجتماع معه، وقال غيرهما: القائم بالشيء:
المواظب على الشيء، المجتهد في حفظه، نحو قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ)
وذلك يدخل فيه ما تقدم من الأقوال، وقد تقدم
الكلام في القنطار، ولما ذكر الله تَبَجحَ اليهود بأنهم أوتوا ما لم
653
يُؤت أحد، أكذبهم الله فذكر خيانتهم، لكن فضَلهم لِمَا كان من
جملتهم من له أمانة، وقال قائل: عنى بالذين يؤدون الأمانة
المسلمين منهم، مثل عبد الله بن سلام وأشكاله، ورد عليه
بعض الناس، وقال: إن الآية نزلت بعد إسلام عبد الله، وهذا
الرادّ يتصور أن أهل لا يُطلق على من أسلموا، وليس الأمر كذلك.
بل حقيقة أهل الكتاب يتناول من لا يُنكر صدقاً ولا يجحد حقًّا.
ولا يتناول من بقي بعد بعثة النبي - ﷺ - على دينه ولم يتبعه إلا مجازا، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
654
أي يخونون، ويقولون: لنا إصابة أموال العرب لشركهم، وإلى هذا
ذهب ابن عباس فقد قال له رجل: ، إنا نمر بأهل الكتاب
فنأكل من طعامهم، ونذبح لهم الدجاج، فقال: وتقولون كما
قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، لا يجوز إلا بطيب
النفس).
قال الحسن وابن جريج: كانت اليهود عاملوا العرب.
فلمّا أسلموا امتنعوا من ردِّ أموالهم، وقالوا: لا يحق لكم بعد
أن دخلتم في الإِسلام، وقيل معناه: ليس علينا سبيل لكوننا
أبناء الله وأحباءه، ومن عدانا عبيدٌ لنا، ومالهم مالنا فلا حرج
655
علينا في تناوله، وهذه أقوال متقاربة، وكانوا قد زعموا أن
ذلك دين شرعه الله لهم، فأكذبهم بقوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، وذكر أنهم يعلمون أن الأمر بخلاف ما يقولون تعظيما لكذبهم.
قوله عز وجل: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
عهده: يصِحُّ أن يُقدَّر مضافًا إلى الفاعل، وأن يكون مضافًا إلى
المفعول، فالإِنسان مدعو إلى الوفاء بهما، وقيل: وفي لغة
656
نجد، وأوفى لغة الحجاز، وقيل: هما كمحمد وأحمد.
و (بَكَ) قيل: هو إضراب عن الأول، أي بلى عليهم سبيل، فيكون
وقفا، وقيل: فيه مع الإِضراب عن الأول اعتماد على الثاني.
نحو أن يُقال: قدم فلان. فتقول بلى طلب كذا فلا يوقف عليه.
657
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاتَّقَى) بعد قوله: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ)؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: أي يجُعلُ التقوى عامًّا، وإذا جعلت
التقوى خاصَّا فلأنها هي المقصودة.
إن قيل لِمَ: (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، ولم يقل: يحبهم؟
قيل: تنبيهًا أن محبته إياهم لأجل التقوى، فإنك إذا
قلت: جاءني يزيد الظريف فأكرمته، لم يقتضِ صريح اللفظ أن
إكرامك إياه لظرفه، وفي الآية تنبيه على قياسٍ نتيجتُه أن الله تعالى لا
يحبُّ اليهود بوجهٍ، وبيانه أن الله يحب المتقين، ومن لا يوف بعهده
أفليس بِمُتَّقٍ، واليهود غير موفين، فإذن لا يحبُّهم الله.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
عهد الله متضمن
لكلِّ عهد عَهِد إليهم بما ركبَّه تعالى في عقولهم، وما عهد إليهم على
لسان أنبيائهم، ولما أخذه الإِنسان على نفسه من أمرٍ التزمه بنذرٍ، أو
يمين، أو حلف، أو عقد مما لا يلزمه من جهة الشرع بغير التزام،
658
وقد تقدمُ في قوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أنه لم يعن
به القلة المعتبرة بإضافة بعض الأثمانِ إلى بعض، بل ذلك باعتبار
منافع الدنيا بمنافع الآخرة، فذم الله تعالى من توصَّل إلى نفع
عاجل بإضاعة عهد الله، ولكون الوفاء سبباً لعامة الصلاح.
والغدر سبباً لعامة الفساد، عظم الله أمرهما، وأعاد في عدة مواضع
ذكرهما، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).
وقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) وقال:
659
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
وقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ).
وكدْلك عظم أمر الإيمان لذلك، فقال: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فاجرة؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان "، وبيَّن تعالى أن من تحرَّى غدراً آثر به الحياة
660
الدنيا فذلك بانه لا خلاق له في الآخرة، أي لا معرفة له بها، ولا
نصيب له فيها، تنبيها على ما قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) فمكالمة الله للعبد قسمان:
مكالمته إياه في الآخرة، وذلك على أضرب:
الأول: مكالمته إياه من غير واسطة، وذلك كحال
موسى عليه الصلاة والسلام، حيث وصفه بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
والثاني: مكالمته إياه بواسطة بشرية، وذلك لمن وصفهم بقوله:
(فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ).
والناس في سماع كلام الله تعالى على أضرب:
الأول: من يسمع كلامه ويعقل معناه ويعمل بمقتضاه.
وهم الذين ذكرهم بقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ).
والثاني: من يسمعه أو يعقله ولا يعمل به، وهم
661
الذين ذكرهم بقوله: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ). والثالث: من يسمعه ولا يعقله ولا يعمل به، الذين ذكرهم بقوله:
(يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا).
وأكثر المفسرين حملوا قوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ)
على الآخرة، فقال بعضهم: عنى أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم.
وأما ما يسوؤهم فبلى، فقد قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال بعضهم: لا يكلم الكفار بوجه.
وإنما يسائلهم بلسان الملائكة،
662
وقال بعض المفسرين: يتناول ذلك في الدنيا والآخرة، فإنه
تعالى يُكلم أولياءه في الدنيا لانتفاعهم بما يسمعونه من كتابه
وسائر آياته وآثار صنائعه، ومن لم ينتفعوا بعظاته لم يحصل منه
لهم مكالمة، ولهذا قال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)
وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فنظر الله إلى العبد يكون في الدنيا
بإفاضة النعمة، وفي الآخرة بالإِثابة،
663
ولما كانت نعمة الله الدنيوية عامة للمسلم والكافر، أو نعمته
الأخروية محرمة على الكافر، قال: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
فخص، وأما التزكيةُ فقد تكون في الدنيا بتوفيقه وإرشاده إلى
ما يزداد به العبد بصيرة وفي الآخررة بالإِثابة، وكل ذلك ممنوع من
الكافر، ثم قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، تنبيها أن ثمرة منع
هذه الأشياء إيجاب العذاب لهم، أو تنبيها أنهم مع منعه إيّاهم
هذه النعم، يجعل لهم زيادة في العذاب الأليم.
قوله عز وجل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
664
الليّ: من لويت يده، وعنهم لويت الغريم ليًّا ولياناً، فَتَلْتُه
عن حقه بمطلة، ولي الألسنة: قيل تحريف اللسان عمّا في القلب.
وهو الكذب، وقيل: هو التنطُع والتجمُّل بالكلام لتشبيهه بغيره.
وقيل: ليهم بألسنتهم: تحريفهم بالتأويل الباطل، وكما ذم
تعالى بعضهم بقلة الوفاء بعهد الله ذم بعضهم بالكذب على الله
تعالى، الذي هو أفظع كذب وأشنعه، وعنى بالكتاب الأول ما
كتبوه بأيديهم المعني بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وبالكتاب الثاني التوراة، ونفى
أن يكون ذلك من الكتاب الذي هو المنزل (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
أي من حكمه وإنزاله، إن قيل: ما فائدة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) بعد قوله: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أفاد أنهم يشبهون ويروون ذلك.
وهذا تعريض منهم، وقوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تصريح منهم بالكذب، فوصفهم بأنهم يكذبون
665
تعريضا وتصريحا، أو تلاوة وتأويلًا، وفي هذا دلالة أن إيهام
الكذب قبيح، كما أن التصريح به قبيح، وأيضاً فإن الشيء قد يقال
هو من عند الله ولا يكون من الكتاب، فإن كل صواب وحكمة
فمن عند الله، وإن لم يكن منزلاً في كتاب، وعلى ذلك قال النبي
- ﷺ -: "إذا أتاكم عني حديث يدل على هدى ويكف عن ردى فاقبلوه، قلته أو لم أقله، فإني قلته".
وفائدة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
666
بعد الذي تقدم ذكره تنبيا أن كلا الأمرين منهم كذب؛
لي الألسنة، وقولهم: هو من عند الله، وإعلام أن ليس كذبهم
مخصوصًا بهذين فقط، بل هم كَذَبة كقولك: فلان تقول على كذا
وهو كاذب، ثم قال: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تشنيعا عليهم، وأنهم غير
معذورين بوجه إذ قد يعذر الإِنسان في بعض ما يظنه، ومن كذب
عامدَا إليه وعالما به وهو يقصد به استجلاب نفع دنيوي فهو
مستحقّ للذمّ.
قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
667
البشر يستوي فيه الواحد والجمع لكونه كالخلق.
والرباني: قيل: هو منسوب إلى الربَّان، وهو المتخصصُ بالعلم الذي يربُّه باستفادته وإفادته، وفعلان أكثر ما يجيء عن فَعِل للمبالغة نحو نعسان.
وقال الزجاج: الرباني منسوب إلى الربِّ، لكن زِيد فيه ألف ونون
للمبالغة في النسبة، كما زيد في: لحياني وجماني قال مؤرج:
هو لفظة في الأصل سريانية وأخلِق بذلك فقل ما يوجد في
668
كلامهم القديم، وإلى ما قدمنا من معناه
قال الحسن: معناه: كونوا علماء فقهاء.
وقال ابن جبير: حكماء فقهاء.
وقال ابن زيد: مدبِّري أمر الناس في الولاية بالإِصلاح.
وقال الزجاج: معلمي الناس وهذا كله ألفاظ مختلفة عن
669
معنى واحد، بيَّن تعالى أنه لن يصطفي علام الغيوب لرسالته
من يعلم من حاله أنه يكذب، وأن يأمر الناس أن يعبدوه.
وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وإنما قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) فذكر باللام لأن قولك: فلان
ليس له أن يفعل كذلك. أبلغ من قولك: هو لا يفعل؛ لأن في
قولك ليس له أنه ممنوع منه، إما منعا من خارج كالقهر، وإما من
داخل من جهة العقل والتزام الشرع، وقد نبّه تعالى بذلك أن
الأنبياء ممنوعون عن ذلك من جهة العقل المسدّد، والحظر
الوارد عليهم من قبله تعالى، لا منعا من جهة عدم التمكن.
وعلى ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)
وأما قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فإنه لما أراد تعالى المبالغة في
670
النفي أخرج الكلام هذا المخرج، تنبيهًا أن الحكمة تمنع من
ذلك، وإن كان منزها عن أن يوصف بمنعِ على وجه.
وقال الجبّائي: ليس قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) على سبيل التحريم.
لأن هذا محرّم على جميع الخلق، قال: ولو كان ذلك تحريماَ لم يكن
تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى
على إنسان قولا، فقال: فلان لا يحلُّ له كذا. لا يكون مكذّبا
لدعواه، قال: وإنما أراد الله بهذا القول تكذيبهم، وما قاله
فيه قصور نظر، فإن النصارى أقرُّوا بأن المسيح لم يكن يدعي ما لم
يكن له أن يدعي، فإذا أقروا بذلك، وبيّن تعالى أن ليس له ولا
لأحد من البشر أن يقول ذلك، كان فيه إلزام واضح، وكأنه قيل:
قد ثبت أن المسيح لم يكن يدعي ما ليس له دعواه، وثبت أنه كان
بشرا بما تقدم في هذه السورة وغيرها، ولم يكن لأحد يؤتيه الله
الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله.
وإن المسيح قد أوتي الكتاب والنبوة، فإذن محال أن يدعو أحدا إلى
671
عبادته، وقوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) بالرفع على الاستئناف
وبالنصب على العطف، أي لا يجتمع الأمران: إثبات النبوة.
وقوله: (كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، يعني: ولكن يقولوا: كونوا ربانيين، حكماء أولياء لله.
فقد قيل: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله في الأرض ولي.
وقيل: كونوا متخصصين بالله تخصصا تُنسبون إليه، وتوصفون
بعامة أوصافه نحو الجواد والودود والرحيم.
وقيل: كونوا من المتخصصين بالله الذين وُصِفوا بقوله:
"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به " الخبر.
672
وقيل: كوثوا متخصصين بالله غر ملتفتين إلى الوسائط
كأبي بكر لما قال حين موت النبي - ﷺ -، واضطربت أسرار عامة الناس: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".
وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.. ) الآية، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ) أي بكونكم عالمين أو معلّمين على حسب القراءتين في تعلمون وتُعلِّمون، ولا تحتاج لفظة ما هاهنا إلى ضمير، كما هو في
قوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، لكونه في
673
تقدير أن، ومعنى (تَعْلَمُون الكتابَ) أي تعرفونه كقوله:
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ).
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).
وإذا قرئ (تُعَلِّمُونَ) فمعناه تعلمون الناس الكتاب، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) مما يصح أن يوصف به العلم والمعلم، ومعنى (بِمَا كُنْتُمْ) أي كونوا معلمي
674
الخير بما علمتم، أوكونوا حكماء علماء عاملين بما علمتم.
فإن الحكيم في الحقيقة من عمل بما علم، وكان محكماً لعمله
إحكامه لعلمه.
وإذا قرئ (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ) فمعناه كونوا
عاملين بما تعلِّمون غيركم إشارة إلى فحوى قوله:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).
قوله عز وجل: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ) قرئ مرفوعاً على الاستئناف، ومنصوبا على رده إلى قوله: (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ).
وفي قراءة عبد الله: "ولن يأمركم".
وقوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
675
أي بعد أن كنتم على دين إبراهيم، أو بعد أن تبعتم النبي فيما
دعاكم إليه، وهذا كلام يقتضي قياسا بيانه: النبي لا يأمر المسلمين
بالكفر، وهذه مقدمة دل عليها قوله: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ).
لأن هذا الإنكار يقتضي أبلغ نفي والأمر باتخاذ النبيين والملائكة
أربابا أمرٌ با لكفر، فإذن لا يكون ذلك من الأنبياء.
676
قوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) إذا قرئ بالفتح فلفظة ما تحتمل وجهين.
أحدهما: أن تكون موصولاً وتقديره: ما أتيتكموه، كقوله: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي بعثه الله، والراجع إليه من قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) أحد شيئين: إما محذوف، أي جاءكم
رسول به، وإما لأن قوله: (لِمَا مَعَكُمْ) هو في المعنى: الكتاب
677
فاستغنى به عن الضمير، كقولك: الذي أتاني لا أضرب عمرا.
إذا كان عمرو هو الذي أتاه، وهذا أجازه الأخفش، وعليه
حمل قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
أي لا يضيع أجرهم، وجاز ذلك لما كان من يتقي ويصبر هم المحسنون. والوجه الثاني: أن تكون ما للجزاء وتكون مفعولا من (آتَيْتُكُمْ)، و (جَاءَكُمْ) في موضع الجزم معطوف عليه، واللام الداخلة على (ما) هي الموطئة للقسم،
678
والتي في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) للقسم كاللامين في قوله تعالى:
(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي)، وعلى هذا حمل سيبويه
الآية، وقال: وسألته - يعني الخليل - عن قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ)
فقال ما هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على
إنْ حين قلت: لئن فعلت لأفعلن. وعنى بقوله: إن ما بمنزلة
الذي، أنه اسم لا حرف، كما هو حرف في قوله: (لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما لم يجعله
كالذي لعدم الضمير الراجع إليه في قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)
679
فإن قيل: فمن جعل ما موصولاً في قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) وجب أن يكون ابتداء، فما خبره؟
قيل: خبره (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، والضمير في (بِهِ) هو راجع
إلى ما، وفي قو له. (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى الر سول، ولا يجوز أن يرجع
في قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلى الرسول أيضاً، لأنه يبقى المبتدأ بلا
عائد إليه، فأما من جعل (ما) جرًّا فلا يحتاج إلا ضمير، لأنه حينئذٍ
مفعول، والمفعول لا يحتاج إلى ضمير يرجع إليه، وأما من قرأ
"لمِا أتيتكم" بالكسر فمعناه: أخذ الله الميثاق منهم لأجل الذي
آتيتكم، وما لا تكون هاهنا إلا موصولة، والكلام في رجوع
الضمير إليه قد تقدم وقُرى "لمّا آتيتكم" أي أخذ الله ميثاق
680
النبيين حين آتيتكم الكتاب، ثم جاءكم رسول، ولما ذُكر حكى
لفظ الميثاق المأخوذ عليهم أي، قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى قوله: (مِنَ الشَّاهِدِينَ).
واختلف فيمن أخذ عليه الميثاق، فقال بعضهم: أخذ من الذين منهم الأنبياء، وتقدير الكلام أخذ الله ميثاق أمم النبيين.
ورُوي أن الربيع قرأ "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب.
وقال: هكذا أنزل وأخطأ الكاتب، ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)،
681
وحُكي أنه هكذا في قراءة ابن مسعود، وقال بعضهم: أخذ
ميثاق النبيين أن يُبشر المتقدم بالمتأخر، ويُصدق المتأخرُ
682
المتقدم، وأن يخبروا كلهم بكون محمد خاتم النبيين.
قال السدي: ما بُعث نبي من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه لتؤمنن بمحمد
إن خرج وهو حي، وفي هذا تنبيه أن كل زمان بالشريعة التي
خصه الله بها أولى، ولهذا قال النبي - ﷺ -:
"لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتباعي ".
والصحيح أن العهد مأخوذ من الفريقين من الرسل والمرسل إليهم، لكن خص الأنبياء بالذكر لكونهم الرؤوس وكون الأمة تبعًا لهم، وكذلك خص النبي في كثير من المخاطبة التي تشاركه فيها أمته نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ)،
683
ولأنه إذا أخذ الميثاق على الأنبياء فقد أخذ على أممهم لمشاركتهم
أنبياءهم في عامة ما شرع لهم، وأما كيفية أخذ هذا العهد، فقد
قيل: كان ذلك بقول وأمرٍ من الله للأنبياء بأن يخبروا قومهم
بذلك، وقد قيل: إن ذلك بما ضمنه عقولهم أن الحق حيث ما وجد
يجب أن يتبع، ولما أخبر الله تعالى في الآية المتقدمة أن ليس لأحد
ما ادعاه من قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ)
ذكر هاهنا أنه تعالى لم يخلِ الأنبياء مع كونهم مأمونين
على الغيب من أخذ ميثاقهم بمظاهرة البعض البعض.
وقوله: (فَاشْهَدُوا) قيل معناه اعلموا، فإن الشهادة وقت التحمل هو
العلم، ووقت الإِقامة هو الإِخبار، وقوله: (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
على حد ما تقدم في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ).
684
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢)
لما كان الفسق هو الخروج عن أمر الله وطاعته، وكان بين أدنى
منزلة وبين أقصاها بون بعيد صار له منازل كثيرة، فيطلق تارة
على الذنب الصغير، نحو قوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)، وتارة على الكفر والشرك، نحو
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا)، وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)، وعلى هذا استعمال الفاسقين هاهنا).
ودخول الفاء في قوله فاولئك لتضمن (مَن) معنى الشرط.
قوله عز وجل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
حمل (أَسْلَمَ) على الاستسلام وعلى الاعتقاد والإِقرار باللسان،
685
والتزام الأحكام، وقيل في ذلك أقوال:
الأول: له أسلم من في السموات طوعاً، وهو أن علمهم بوحدانية الله وصفاته ضرورة لا استدلال، وعامّة أهل الأرض كرهاً بمعنى أن الحجة
أكرهتهم وألجأتهم كقولك: الدلالة أكرهتني على القول بهذه
المسائل، وليس هذا من الكره المذموم.
الثاني: أسلم المؤمنون له طوعاً، والكافرون كرها، إذ لم يقدروا على أن يمتنعوا عليه مما يريده بهم، ويقضيه عليهم.
الثالث: عن قتادة: أسلم المؤمنون له طوعاً في حال الصحة والأمن، والكافرون كرهاً عند الموت،
686
حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا).
الرابع: عنى بالكره من قوتل، وأُلجى إلى أن يؤمن.
الخامس: عن أبي العالية ومجاهد أن كلَّا أقرَّ بخلقه إياهم، وإن أشركوا
معه، لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
السادس: عن ابن عباس: أسلموا باحوالهم الناطقة جميهم.
وذلك في الذرْء الأول)، حين قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)
687
وقيل: معنى ذلك دلائلهم التي فطروا عليها، التي هي العقل
والتمييز المقتضيان لإِسلامهم طوعا أو كرها، وإلى هذا أشار
بقوله: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
السابع: عن بعض الصوفية أن من أسلم طوعا هو من طالع المثيب والمعاقب دون الثواب والعقاب، فأسلم رغبة ورهبة، ونحو هذه الآية
قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)
وفي هذه الآية حجة بينة أن طاعة الله هي التي يجب أن تكون المبتغى والمطلوب،
688
لأن كل ما سواه مما يتقرب إليه، فقد أسلم لله طوعاً أو كرهاً.
قوله عز وجل: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
قد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة إلا أنه
يقال: كيف قال هاهنا: (قُل) وهناك: (قُولُوَا)، وذكر هاهنا
(عَلَيْنَا) وثَمَّ (إِلينَا)، وذكر هناك (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ).
وترك ما أوتى هاهنا؟
والجواب: أن (قل) هاهنا خطاب للنبي - ﷺ - بأن يعتقد ذلك ويبلّغ قومه، وهناك خطاب للأمة أن يعتقدوا
وليس يأمرهم أن يبلغوا، وإنما قال هاهنا (عَلى) لأن ذلك لما
كان خطاباً للنبي - ﷺ - وكان واصلًا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية، كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به، وهناك لما كان
خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بوساطة النبي - ﷺ - كان لفظ إلى المختص بالإِيصال أولى، ويجوز أن يقال: أُنزل عليه إنما يحُمل
689
على ما أُمر المنزَّلُ عليه أن يبلّغ غيره، وأُنزل إليه على ما خُصّ به
في نفسه، وإليه نهاية الإِنزال وعلى ذلك قال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فخُصّ بإلى هاهنا لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيانُ المنزل، وهذا كلام أي الأولى، لا في الوجوب، وأما إعادة لفظ (ما أوتي) هناك فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً، ومن حُكْم خطاب العامة البسط دون الإِيجاز
بسط اللفظ، ولما كان الخطاب هاهنا خاضًا للنبي - ﷺ - على ما قدمنا اكتفى فيه بالإِيجاز.
وإن قيل: إذا كان ذلك أمراً للنبي - ﷺ - أن
يقوله، فكيف قال: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)؟
قيل: إنما ذكر ذلك تنبيهاً أن أمته غير منفردين عنه في هذا الاعتقاد، وغير مكروه لهم أن يبلّغوا ذلك تبليغ النبي - ﷺ -
فكيف فسح لهم التبجح بذلك مع كون التبجح مذموماً؟
قيل: التبجح هو إظهار الإِنسان
690
ما يتطلب به رفعةَ عند الناس، وليس هذا من ذلك، بل هو
إظهار التحمد المندوب إليه بقوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
وإظهار مباينة الكفار بالاعترافِ بالإِسلام، وقصد أن الاستسلام
في الإِيمان بهم هو في الحقيقة لله تعالى لا لغيره.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)
في الآية قولان: أحدهما: أن الأسلام هاهنا الاستسلام إلى الله.
وتفويض الأمر إليه، وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان
ومن كل أمة وفي كل شريعة، وقدْ
تقدم أن الدين في اللغة الطاعة وفي التعارف: وضع إلهي
ينساق به الناس إلى النعيم الدائم، فبيّن تعالى أن من تحرى
طاعة وانسياقاً إلى النعيم من غير الاستسلام له على ما يأمره به.
ويصرفه فيه فلن يقبل منه دنيء من أعماله، وهو في الآخرة من
الذين خسروا أنفسهم.
والثاني: أن المراد بالإِسلام شريعة محمد عليه الصلاة والمسلام، فبيّن أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من غير متابعته في شريعته فغير مقبول منه، وهذا الوجه داخل في الأول، فمعلوم أن من الاستسلام الانقياد لأوامر من
صحّت نبوته وظهر صدقه.
قوله عز وجل: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
692
هذه الآية واللتان بعدها، قيل: نزلت في رجل ارتد.
ثم أرسل إلى قومه: اسالوا النبي - ﷺ - هل لي من توبة؟ فأنزل
الله تعالى ذلك، فعاد إلى الإِسلام وحسن إسلامه.
وقيل: نزلت في اليهود، الذين اعترفوا بنبوة محمد - ﷺ - قبل بعثته، ثم أنكروه بعدها، فعلى هذا قوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) أي
693
جحدوا بعد معرفتهم، لا أنهم ارتدوا بعد دخولهم في الإِسلام.
وقد تقدّم أن الهداية من الله على أضرب: الهداية التي عمَّ
بها كل مكلّف، وهو إعطاؤه العقل المميّز بين الخير والشر وبين
الصدق والكذب، وهي المعني بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
والثاني: "زيادة الهدى التي تأتي بقدر استعمال الأول العنيّ بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)
694
والثالث: التزكية لأعمالهم أو توفيقه في أحوالهم.
وهو المعني بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، والرابع: إدخال الجنّة المعني بقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦)
والله تعالى لا يؤتي هؤلاء شيئا من ذلك).
أما الثاني والثالث والرابع فلأنهم لا يستحقونه إذ لم يهتدوا بالأول.
وأما الأول فلأنهم قد أتاهم ما أمكنهم الاهتداء به.
ومن أُوتي من الهداية ما فيه من الكفاية فلم يهتد به،
695
٢٢٧١ ب
فالزيادة لا تغني ما لم تكن على سبيل القهر المنافي للتكليف.
ولذلك قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) الآية.
ثم قال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تنبيهاً أن الهداية من الله.
والظلم من العبد، يتنافيان ولا يجتمعان.
فإن الظلم ترك الاهتداء، ومن يهُدى ويترك الاهتداء عناداً
لا سبيل إلى هدايته إلا قهراً.
وعلى هذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨).
إن قيل: كيف نفى عن الكافر الهداية في هذه المواضع.
وأثبت له في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)؟
قيل: المتْبت لهم هاهنا هو العقل والتمييز دون الأخرى، التي لا
تحصل إلا بعد الاهتداء بهذا، وهذه تارة تُثبت للكافر إذا
696
أريد أنه مطبوع عليها ومعرض لاستعماله إياها، وتارة تُنفى
عنه، بمعنى أنه لم يستعملها، ولم يحصل قبوله على ما يحب.
فكأنه في حكم ما لم يعط.
وقوله: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فهو على لفظ الاستقبال.
ومعناه لا يفعل به ذلك ثانياً، إذ قد أتاه ما فيه الكفاية.
ولفظ (كيف) وإن كان استفهام، فالقصد به
697
النفي هاهنا، وعلى هذا قول الشاعر:
....................... ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم
فأدخل الباء في خبر هل لما أراد معنى ليس، إن قيل: على ماذا
عطف قوله: (وَشَهِدُوا) فإن ظاهره من حيث المعنى أنه معطوف
على قوله (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، لا يصح عطف الفعل على الاسم.
ولا يصح أن يكون معطوفا على قوله: (يَهْدِي اللَّهُ)، لأنه لم
يرد كيف يهدي الله قوماً هكذا وكيف شهدوا أن الرسول حق؟
قيل: في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون تقديره بعد إيمانهم
وإن شهدوا، فيكون أن مقدرا، كما هو في قول الشاعر:
698
للبس عباءة وتقرّ عيني...
إلا أن إضمار أن في البيت أظهر لانتصاب تقر.
والثاني: أن يكون (وَشَهِدُوا) في موضع الحال.
أي وقد شهدوا، نحو قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)
وقول الشا عر:
تقول وصكَّت نحرها بيمينها.......................
وقوله: (أَنَ ألرَسُولَ حق) أي أنه سيبعث، وأنه منتظر.
699
قوله عز وجل: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)
قد تقدّم الكلام في ذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)
إلا أنه بتَّ الحكم، ثَمَّ قال: (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ)
لِمَا كان ذلك حكماً على قوم ماتوا على الكفر، وقال هاهنا:
(جَزَاؤُهُمْ) لما كان حكماً على قوم باقين يرجى صلاحهم تنبيهاً
على تضمُّن معنى الشرط، لأن ذلك لهم إن ماتوا على الكفر.
قوله عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
إن قيل: " لِمَ اقتصر هاهنا على التوبة والإِصلاح.
وقال في البقرة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أن
700
يُعَفِّي المذنب ما تقدّم من ذنبه بما يُوفَّى عليه من أفعاله الخير، وكان من
ذنب الأحبار الذين ذكرهم في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)، أن قالوا للناس: ليس في التوراة ما يدل على نبوة محمد.
فصار من تمام توبتهم أن يبينوا للناس ما كتموه، ولما لم يكن في الموضعين
ها هنا ذلك اقتصر في توبتهم على الإِصلاح.
وإنما أتبع التوبة في
701
عامة المو اضع الإِصلاح، فإن التوبة راجعة في الأصل إلى الاعتقاد
والإِصلاح إلى الأعمال. وكلاهما مرادان، وعلى ذلك اتباع
عمل الصالحات بعد الإِيمان في كل موضع ذُكِرَا معا.
إن قيل: لِمَ قال ها هنا: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال ثمَّ: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) و؟ قيل: كل واحدة من الصفتين؛ أعني اَلتَوَّاب
702
والغفور يتضمَّن الأخرى، لكن التوّاب أخصّ والغفور
أعم، فذكر حيث ما ذكر أعظم الذنبينْ الضلال والإِضلال
التوّاب، وحيث ما ذكر أصغرهما - وهو الضلال دون الإِضلال -
ذكر الغفور.
إن قيل: لِمَ قال ههنا: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ولم يقل ثّمَّ؟
قيل: لما وصف ههنا قوما كان منهم إيمان متقدّم.
ثم حصل منهم كفر بعد إيمانهم، قال: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ليبيّن أن
الإِيمان المتقدم لا ينفعهم إذ قد أحبطوه وأبطلوه، وأن الذي
يُعتدُّ به هو ما يفعلونه من بعد،
703
ولما لم يكن ثم كفر بعد إيمان متقدم استغنى عن ذكر (بَعْدِ ذَلِكَ).
704
ودخول الفاء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ) لتضمُّن الكلام معنى
الجزاء، كأنه قيل: إن تابوا وأصلحوا يُغْفرْ لهم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
705
قيل: معناه لن تُقبَل توبتهم بعد الموت.
وقيل: عند الموت والمعاينة، نحو (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)
وقيل: توبتهبم المتقدمة فإن تلك أحبطها الكفر المتعقب.
وقيل: نزل في قوم ارتدوا.
سورة آل عمر ان، الآية: ٩٠.
وهذا مووي عن مجاهد انظر: زاد المسير (١ ٤١٩)، والبحر المحيط
(٢ ٥٤٢). وقد رذَ الطبري ذلك قاثلَا: "أنكرنا ذلك، لأن التوبة من
العبد غير كاثنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة). جامع البيان
(٦ ٥٨٣).
وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، وهو مووى عن مجاهد أيضا، انظر:
جامع البيان (٦ ٥٧٨، ٥٧٩)، والوسيط (١ ١ ٤٦)، ومعالم التنزيل
(٢ ٦٥)، ز زاد المسير (١ ٤١٩)، والبحر المحيط (٢ ٥٤٢)، وتفسير
القرآن العظيم لابن كثير (١ ٣٥٩)، وقد ردَّ ابن جرير الطبري هذا
القول أيضا مبئنا أنه لا خلاف في أن ك) افراَ لو أسلم قبل خروج نفسه
بطرفة عين، أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وساثر
الأحكام مما يدل على صحة إسلامه. جامع البيان (٦ ٥٨٣).
سورة النساء، الآية: ١٨.
وهذا مروي عن عكرمة وابن جريج انظر: جامع البيان (٦ ٥٨٠.
٥٨١) والبحر المحيط (٢ ٥٤٢). قال الطبري:. "وأما قول من زعم أن
معنى ذلك: التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن الله عز وجل=
٧٠٦
706
وقالوا: إنا إذا رجعنا قبل توبتنا. وظنوا أن ذلك منهم توبة.
فبيّن تعالى أن هذه النية غير مقبولة، وأنها ضلالة.
وقيل: معناه: لا تكون منهم توبة مقبولة، كقول الشاعر:
على لاحبٍ لا يُهْتَدَى بمناره...
أي لا يكون فيه منار فيهتدى به، وهذا إخبار عن علمه
707
تعالى بحالهم، وقيل: إن توبتهم غير مقبولة في حالِ ما هم
ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان، فالواو في قوله:
(وَأُؤلَئكَ) على هذا واو الحال.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١).
الفدية: بذل شيء احتراساً من أذى، ومنه فداء الأسير.
وقولهم: فديتك. وإدخال الواو في قوله: (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)
708
لعموم المعنى، ومعناه لا يقبل منهم ذلك وإن أخرجه على
وجه القُرْبة في الدنيا، إذ كان لا يتقبّل الله إلا من المتقين.
ويجوز أن يعني ذلك في الآخرة، ومعناه: لو ملك ذلك فأخرجه
لم يكن ينفعه، وليست الواو بزائدة كما ظن بعضهم، لأنه
709
حينئذ يسقط معنى عموم الحالين، وملء الأرض - قيل: هو
مقدار ما يملأ الأرض، وقيل: معناه كل ما يتعامل به في
الأرض من الذهب، وذلك حسم لطمع من مات على كفره في رحمته.
وقيل: وهذه الآية والتي قبلها كالآيتين في سورة النساء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.. + إلى آخر الآيتين.
قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
710
البر: التوسع في فعل الخير، وقد تقدم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ)
إن البر ينسب إلى العبد تارة، وذلك إذا أطاع الله.
وإلى الله تارة إذا أنعم على العبد.
وقد حُمِلَ ههنا على الأمرين، فقيل: البر من الله الثواب.
وقيل: الجنة، وقيل: الطاعة، ومن الناس من اعتبر ذلك
في المال فقط، فالإنسان محبٌّ للمال بالطبع، ولهذا قال تعالى:
711
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، ثم منهم من قال: هذا خطاب
للأغنياء، ولذلك قال الحسن: عنى الزكاة الواجبة وما فرض في
الأموال خاصة، ومنهم من قال: خطاب للكل، وحثٌّ لهم على ما قدروا عليه من الإِنفاق، وكمن مَدَحَ يقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس، فقال: هذا مما أحبَّه الله، وقد جعلته في سبيل الله، فحمل
712
عليه رسول الله - ﷺ - أسامة، ومنهم من اعتبر ذلك في متاع الحياة الدنيا كله، فقال: لن تنالوا البرَّ إلا بالإنفاق، وبذل الجاه
والبدن والنفس، قال: وذلك حثٌّ على جميع المحامد، فإن
من تشجَّع وبذل المهجة في طاعة الله فقد أنفق ما أحب،
713
ولذلك قيل:
...................... الجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال بعضهم: أحب الأشياء إليك روحك، فأنفقها في الوصول
إلى البّر.
وقيل: برُّ الله لعبده اطلاعه على دقائق حكمته وحقائق
المعقولات، ولا يكون ذلك إلا بترك ما تميل إليه النفوس من
المحسوسات من المطعم والمنكح والملبس.
وقيل: أعظم البر مجاورة البارّ وقربه، وذلك بإنفاق ما لنا في الدنيا.
وقوله:
714
(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي مجازيكم، ولدلالة ذلك على المجازاة
جُعِلَ جواباً للشرط.
قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣)
كان اليهود أنكروا تحليل النبي - ﷺ - لحوم الإِبل، وقالوا: إنها كانت محرّمة على إبراهيم على ما نطقت به التوراة، فكذبهم تعالى، وذكر أنها كانت محلّلة عليه وعلى أولاده إلى أن حرَّمها إسرائيل على نفسه، وهو يعقوب، - وأمرهم بإحضار التوراة، فامتنعوا، ولم يجسروا على ذلك،
715
لصدق ما أخبر تعالى به، وسبب تحريمه ذلك - قيل: إنما كان
مرضا أورثه لحم الإِبل فتركه، وحرّمه على نفسه تحريم المريض
طعاما لا يوافقه، لا تحريم شرع.
وقال ابن عباس والحسن: أصابه عرق النَّسا، فنذر أن يترك إن عافاه الله أشهى طعام إليه تقربًا إلى الله تعالى، وتحريم اليهود ذلك كان اقتداء منهم به،
716
وقيل: إنه لما حرَّم على نفسه حرّم الله عليهم، ولذلك قال:
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) في الآية حجة
عليهم على هذا في جواز النسخ، لأنه حرَّم عليهم ما كان مباحا
في شريعة إبراهيم.
إن قيل: كيف حرَّم هو على نفسه ما كان
717
مباحا فأقره الله عليه، وحرّم النبي - ﷺ - جاريته فعاتبه ومنعه؟
قيل: إن إسرائيل إما أنه حرَّم على نفسه لحم الإِبل، لأنه لم يكن يوافقه.
وكان واجباً عليه تركه.
فإن الله تعالى جعل الطعام ليتوصل به إلى صلاح البدن.
وما يؤدي إلى فساده فواجب علينا تركه؟ وإما أنه حرَّم ذلك تقربا إلى الله كما يُحرم الصائم الطعام، وكما يُحرم المعتكف على نفسه بعض التصرفات، ولم يكن تحريم النبي - ﷺ - علي أحد هذين الوجهين، بل لما ذكره تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، ولأن في تحريم النبي - ﷺ - تضييع حق متعلق به للغير، وهو حق الجارية. وليس ذلك في فعل إسرائيل، وأيضاً فإن
718
إسرائيل لما حرَّم أشهى الطعام إليه قصد بذلك قمع الشهوة، وبنحو
ذلك يهذب الحكيم نفسه، والنبي - ﷺ - في تحريم جاريته تبع هوى غيره، وهو مرضاة أزواجه، وذلك مكروه، فلم يقرَّ عليه،
719
ذكر بعض الصوفية أن في ذلك تفضيلًا للنبي - ﷺ - من وجهين.
720
أحدهما: أنه لما حرَّم إسرائيل على نفسه ما أحبه أمضاه، وحرم
النبي - ﷺ - على نفسه فعافاه.
والثاني: أن بني إسرائيل ما كانوا يلتزمونه مما لم يكن قربة في الشريعة يلزمهم الوفاء به تشديدا عليهم، وعلى ذلك دل قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)
وقال - ﷺ -: "شددوا على أنفسهم فشدد الله
عليهم "، ورُفِعَ عن هذه الأمة ذلك فضيلة للنبي - ﷺ -. إن قيل: ما وجه اتصال هذه الآيات بعضها ببعض، لأنه ذكر أولا:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) الآيتين ثم ذكر: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ثم عقبها بتحريم إسرائيل الطعام، وذم اليهود؟
721
قيل: لما ذكر في الآيتين المتقدمتين ذم اليهود وغيرهم من الكفار.
وبين أن انفافهم مع كفرهم غير مقبول منهم، وصل ذلك بقوله:
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ)، لئلا يقرر أن الانفاق غير مغنٍ على جميع
الوجوه، فقال: وأنتم أيها المؤمنون إذا أنفقتم فإنما نقبل منكم
على هذا الشرط، ثم رجع إلى ذم اليهود وتعديد ما ارتكبوه.
فصار قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) بين الآيتين من الاعتراض
المسمى في كتب البلاغة الالتفات.
قوله تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
الافتراء والاختلاق: افتعال للكذب الذي لا أصل له، من افتراء الأديم واختلاقه.
والكذب ضربان:
اختراع قصة لا أصل لها وزيادة، أو تغيير فيما له أصل.
والأول أعظمهما، والمُفترى عليه ضربان: رفيع ووضيع.
فالمفتري على الرفيع أعظم ذنبا، ثم المفتري له ضربان: عارف بالفرية.
وجاهل بها، فالمفتري العارف بالفرية أوقحهما وجهاً، فبين الله
تعالى بالآية أنهم اختلقوا الكذب على الله تعالى، الذي يعلم السر
وأخفى، وفعلوا ذلك بعد أن أطلع الله الناس على كذبهم، وبين
أن متخذي ذلك في نهاية الظلم، وعلى ذلك في غير موضع:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
معنى قوله: قل اعتقد وأخبر أن ذلك من قول الله
تعالى، وهو صادق. وحقيقة قوله: (صَدَقَ اللَّهُ) إقرار بأن الله
قد أخبر، فإنه إذا ثبت كونه من خبره ثبت. كونه صدقا، ونبّه أن
ما أخبر من قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا) وسائر ما تقدّم
صدق، وأنه ملة إبراهيم، وأوجب عليهم اتباعه في تحنّفه أي
في استقامته، وفي قوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بهم.
كأنه قيل: أنتم مشركون في اتخاذ بعضكم بعضاً أرباباً، وإبراهيم لم
يكن مشركاً، فإذن ليس دينكم دين إبراهيم، وكما نفى في
قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) أنه منهم نفى في هذه
الآية كونه مشركا.
قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
724
قيل: بكة هي المسجد، ومكة الحرم، وقيل: بكة هي البيت.
وقيل: هي بطن الحرم وقال مجاهد: هما واحد
725
كقوله سَبَّد رأسه وسَمَّدَه، أي حلقه، وضرب لازم ولازب.
وأصل بكة من التَّباك أي التزاحم، وذلك اعتبارا بازدحامهم
لقصده، والطواف به، وقيل: لبَكهِ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا
726
فيه، ومكة من أمتَك الفصيل ما في الضرع، كأنَّه يجمع أهل
الآفاق ويؤلفهم، ولذلك سميت أم الزحم.
والبركة: ثبوت. الخير في الشيء ثبوت الماء في البِرْكة.
وسميت البركة لثبوت الماء، وأصل الكلمة البرك، وبرك البعير ألقى بركه وبُركاءُ
727
القتال ملازمته، وتبارك الله تخصُّص بلزوم فعل الخيرات.
واختُلِف في بناء البيت، فقال مجاهد وقتادة: هو أول بيت بُني
في الأرض،
728
وقال عليّ: أول بيت وُضِع للعبادة، وهذا الاختلاف لاختلاف
التقديرين في الآية، لأنه على الثاني: إن أول بيت وضع للناس
مباركاً وهدى للعالمين للذي ببكة، ثم اختلفوا في معنى
(أَوَّلَ). فمنهم من اعتبر ذلك بالشرف والمنزلة، فكأنه قيل:
أشرف بيت، وعلى ذلك قال مجاهد: هو كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). ومنهم من اعتبر أوليته بالزمان.
قال: أول
729
بيت بعد الطوفان، وهو الذي قال: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ). ومنهم من قال: أول موضع اتخذته الملائكة قبلة
730
في الأرض، وروى في ذلك أخبارا، وهذا لا يقتضيه الظاهر.
لأنه قال: (وُضِعَ للِنَّاسِ)، فخُص بالناس، وعلى هذا اعتبروا
(الْعَتِيقِ) في قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ونبّه بقوله:
مباركاً، أن فيه ثبوت الخير والهداية، وأبهم هاهنا، ثم فسره بما
بعده، واختلفوا في المقام، والأمن، فمنهم من حمل المقام على
المحسوس)، وقال: إنه أثر قدم إبراهيم على الحجر الصلد.
731
ومنهم من حمله على الأحكام، وقال: هو موضع الطواف
والسعي وسائر أركان الحج، ولهذا قال: (آيَاتٌ)، ثم فسره
بمقام وإن كان لفظه مفردا، ومفهم من قال: الآيات هي
المعاني المضَمنة فيه التي يستدل بها العارف، والمقام ما تخصَّص
به إبراهيم من الخُلَّة التي اكتسبها ببذل النفس والمال والولد.
فعلى هذا قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) من العقوبة، وقال
732
بعض الصالحين: كنت أطوف فخطر لي قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)
ترى من أي شيء يأمن؟ فسمعت هاتفاً يقول: من النار.
وقيل (كَانَ آمِنًا) من بلايا الدنيا وأعراضها التي
تصيب من قال فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
ومنهم من حمل: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) على الحكم.
ثم اختلفوا. فمنهم من جعله خبراً، وقال: معناه أن من
دخله كان آمناً، وذلك كان في الجاهلية، لأنه لم يكن يُتعرض
733
لجانٍ يلتجئ إلى الحرم بوجه حتى يخرج، وقال الحسن
والأصمّ: من دخله يأمن الاصطلام، ومنهم من حمل ذلك
على التعبد، أي في حكم الله، وإن كان في نفسه وجلًا، كقولك:
هذا مباح، وهذا محظور، فعلى هذا من جعل الضمير في قوله:
(وَمَنْ دَخَلَهُ) للبيت قال: لا يتعرض له بوجه إلى أن يخرج، ومن جعله
للحرم فمنهم من قال: من قَتَل في غير الحرم ثم دخله لم يقتصّ منه
إلى أن يخرج، لكن لا يبايع ولا يواكل حتى يضطر إلى الخروج.
وقال الحسن: يقتص من الكل، وهذا كان حكماً في الجاهلية.
ولم يختلفوا أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته، وعلى
734
قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يحمل قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)، وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)،
735
وقوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، وقُرئ (آيَةٍ بَيِّنَةٍ).
وكأن قارئه نظر إلى لفظ ما أُبدل منه، وهو مقام إبراهيم، فلما كان
مفرداً جعل الآية مفردة، والصحيح ما عليه الكافة، فالمقام
736
مصدر، ويتناول الواحد والجمع، فإذا اعتبر بالمحسوس فهي
المناسك، وإذا اعتبر بالمعقول فأفعال إبراهيم المتقدم ذكرها.
قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
السبيل: إمكان الوصول إليه، كقوله تعالى: (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) والاستطاعة: استدعاء الطاعة، كان النفس بالقدرة تستدير طاعة الشيء لها، والقدرة والطاقة، والاستطاعة والجهد والوسع متقاربة، وقد
737
تقدم ذلك، وقولهم: لا يستطيع كذا. تارة يقال لنفي القدرة.
وتارة لنفي الخفة، فإن قوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي
يستثقلونه، لا لأنهم لا يقدرون عليه، وتمام استطاعة العبادة
738
ثلاث: الأول: استطاعة نفسية، وهي المعرفة بها، أو التمكن
من معرفتها.
والثاني: استطاعة بدنية، وهي أن يكون صحيح البدن قادراً على إقامتها. والثالث: استطاعة من خارج، وهي وجود الآلة التي بها يتمكن من فعلها، ومتى اجتمعت الثلاثة فقد حصل تمام الاستطاعة.
وإلا فالاستطاعة معدومة أو قاصرة.
وقول النبي - ﷺ -: "الاستطاْعة: الزاد والراحلة"
739
متناولة للخارجة دون البدنية والنفسيّة، وخصّها - ﷺ - بالذكر لما كان معلوماً عندهم أن بافتقاد الأوليين لا يُكلَّف.
وكأن القوم قد شكوا أن الفقير الذي تبعد مسافته، ولا يتمكن من زاد وراحلة هل يلزمه الحج؟ فراجعوه، فبيّن - ﷺ - لهم ذلك، ولم تتناول الآية العبد، لأنه لا ملك له في قول جُل الفقهاء، وفي قول بعضهم سيده أولى بما في يده، وله أن يمنعه باتفاق، وكذا المرأة إذا لم يكن
لها محرم، هذا قول الفقهاء، فأما الصوفية فقد قالوا: الزاد
740
التقوى، لقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
والراحلة صحةُ البدن، وقد عبر عن البدن بذلك في قوله: "إن
المنبّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
وقال بعضهم: فيه مع إرادة هذا المعنى تنبيه على معنى أبلغ من ذلك البيت جنة المأوى،
741
لقوله: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ولما لم يكن للإِنسان
سبيل إلى ذلك إلا بحسن، عبادته صار ذلك حقّا على الناس.
ولذلك أكَّد لفظه، وخصّه بما لم يخص به شيئاً من العبادات.
فقال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ).
وقال بعض الصوفية: في الحج إشارات اقتضت تأكيد لفظ الأمر به.
وذاك أن في العقد به إشارة إلى معاقدة الولاء المعني بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وبالتلبية إلى الإِجابة له فيما دعا إليه، وبالتجرد إلى التجرد من
الدنيا، وأنه عاد كما خرج من بطن أمه، وبالوقوف إلى الوقوف
ببابه، وبالسعي إلى السعي إليه، وبالطواف إلى محلِّ القربة
منه، قال: ولذلك حقّ على المسلم أن يتغير حاله بعد حجه
عما كان عليه قبل، ولهذا قال - ﷺ -: " من حج فلم يفسق ولم يرفث كان كيوم ولدته أمه "، يعني لم يفسق ولم يرفث بعد رجوعه من
742
الحج، ولم يعن في الحج، فإن ذلك مدلول عليه بقوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ).
وقوله: (وَمَن كفَرَ) قال ابن عباس: من كفر بوجوب الحج عليه، وعلى هذا ما ورد أن رجلًا سأل النبي - ﷺ - عن ذلك فقال: "مَنْ إن حج لم يَرجُ ثوابه، وإن جلس لم يخف عقابه "
وأما من تركه ممن يري وجوبه لم يكن كافرا
743
وإن كان عاصيا، وقيل: الكفر كفران: كفر تام، وهو إنكار
الوحدانية، أو ما يجري مجراه، وكفر ناقص، وهو الإِخلال
ببعض العبادات، التي هي أركان الدين: كالصلاة والزكاة والحج.
ولهذا قال - ﷺ -: "من ترك الصلاة فقد كفر"،
744
وقال - ﷺ -: "من مات وعليه حج الإِسلام فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا".
وإنما قال: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) تنبيهاً أن قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ليس لحاجة به، وإنما ذلك
745
لحاجتهم ونفعهم، إذ هو تعالى الغني المطلق، وغيره وإن استغنى عن شيء
ما فغير غني عنه تعالى في شيء من الأحوال، وهو القائم على كل شيء.
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨)
الذي اقتضى مخاطبتهم بهذا إنكارهم نبوة محمد، ووجوب الحج، والآيات المقتضية لذلك من الكتب المتقدمة ومن القرآن، وبين بقوله: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) أنكم تسترون ما لا يستتر، إذ هو لا يخفى عليه خافية.
إن قيل: لم قال في موضع: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وهاهنا قال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)؟
قيل: الأول استدعاء إلى الحق فجعل خطابهم منه استلانة للقول، ليكونوا أقرب إلى انقيادهم، وهاهنا لمّا قصد إلى الغض منهم ذكر (قُلْ) تنبيهاً
أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه تعالى، وإن كان كلا
746
الخطابين موصلًا على لسان النبي - ﷺ -.
إن قيل: لِمَ صار أهل الكتاب يطلق في القرآن تارة على سبيل الذم، وتارة على سبيل المدح، ولا نجري قولنا: أهل القرآن وأهل السنة هذا المجرى؟ قيل: الكتاب لما كان قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)، وقد يُراد به ما أنزل الله تعالى، فيكون على سبيل الذّم لأهل الكتاب، وقد يُراد به ما أنزله الله، ويكون على سبيل التهكم، نحو قوله:
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فعلى هذا لو قيل: أهل القرآن
وأهل السنة على سبيل الذم والتهكم لجاز، وقوله: (لِمَ) وإن كان أصله
استفهاماً فالقصد به هاهنا الإِنكار والتنبيه؛ أن لا جواب لهم ولا عذر.
747
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩).
يقال: بغيته كذا أي طلبته له، وأبغيته أعنته على بُغَائه، نحو لمسته كذا
وألمسته، وحملته كذا وأحملته، والعِوج ما يدرك بالفكر من الاعوجاج.
والعَوج ما يدرك بالطَّرف، وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).
يعني الظلم وما يجري مجراه مما يكون في الدنيا،
748
ومعناه لا تصُدّوا المؤمنين طالبين لطريقهم الإِعوجاج.
وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) الشهادة تارة بالعقل نحو (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
أي عارف بعقله، وتارة بالعقد، نحو قوله: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وتارة بإقامة ذلك، وقد فُسّر الآية
750
بثلاثتها؛ فقد قيل: وأنتم عقلاء تعرفون ذلك بعقولكم.
قيل: وأنتم قد أخذ عليكم العهد بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ)
قيل: وأنتم شهدتم نبوته قبل بعثته، وكل ذلك مراد فلا تنافي بينها.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)
قال السديّ: نزلت في قوم من اليهود، سعوا بين أوس وخزرج بالفساد، وذكّروهم من الأحقاد والأوتار)، فأنزل الله تعالى ذلك، وتلاه عليهم النبي - ﷺ - فأحجموا عما هَمّوا
751
به، والطاعة: بذل الانقياد والإِجابة نحوها، غير أن الإِجابة قد
تكون بالقول مرة وبالفعل مرة، ومتى كانت بالفعل فهي موافقة الداعي
دون الانقياد، ولهذا يقال: أجاب الله عبده، ولا يقال أطاعه، وإنما
خص فريقاً منهم لئلا يدخل فيه من قال فيهم:. (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)، وعنى بالإِيمان هاهنا الخوض فيه
دون استكماله المعني بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، فإن من بلغ هذه المنزلة فمحال أن يُردّ على عقبه، ولهذا
قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق.
752
قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
العصم والعصب يتقاربان، لكن العصم أبلغ، فإن معه الشدّ إمساكا، والأعصم: الوعل المعتصم بالجبل، والعِصَام على بناء الزمام والسِّخَاب، وجمعه عُصُم، واعتصمت به واعتصمته نحو تعلقت به وتعلقته،
753
والعصمة من الله على ثلاثة أضرب: عامة لكل مكلف، وهي ما
يفيض له من العقل، وهدايته بالأمر والنهي والوعد والوعيد.
والثانية: لمن اهتدى بالأولى، وهي التي يرغب كل مؤمن أن
يجعل الله له منها حظًّا. وإياها قصد بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
والثالثة: للأنبياء وكيفيتها مختلف فيها.
والاعتصام، والتفويض، والتوكل، والإِسلام - أي الاستسلام -
مترتب بعضها على بعض، فالاعتصام قبل التفويض.
والتفويض قبل التوكل، لأن معنى فوضت أمري إلى فلان، أي
جعلت له الفوض فيه، ومعنى توكلت عليه: اعتزلت، وجعلته
المعتمد، وأما الإِسلام فغايته ما كان من إبراهيم عليه السلام.
حيث قال: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولكون الاعتصام
أول منزلة من هذه المنازل.
قال بعض الصوفية: الاعتصام
754
للمحجوبين (١)، فأما أهل الحقائق فهم في القبضة (٢)، واستبعد
(١) المحجوبون: عند الصوفية هم من احتجبوا عن قرب الله بسبب من
الأسباب. وعند غلاتهم: المحجوبون هم العامة. انظر: مدارج السالكين
(١ ٢٨٢)، والمعجم الصوفي ص (٧٤).
(٢) لم يبين الراغب رحمه الله قائل ذلك، ويبدو أنه أحد غلاة الصوفية، لأن كلامه مخالف لقوله تعالى في هذه الآية: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فالله تعالى أثبت له الهداية، وذاك جعله مع المحجوبين.
غير أن مصادر التصوف التي بين يدي ليس فيها شيء من تنقص تلك المنزلة، فهذا ابن عربي يفول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) بالانقطاع عما سواه والتمسك بالتوحيد الحقيقي (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم، هو طريق الحق تعالى، كما قال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ثفسير ابن عربي (١/ ١٢٢).
وقال القشيري: إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأما من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه في البداية توجب اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية. لطائف الإِشارات (١/ ٢٧٧، ٢٧٨).
أما الهروي فقد قسم منزلة الاعتصام إلى ثلاث مراتب:
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر، استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين والأنصاف.
واعتصام الخاصة: بالانقطاع، وهو صون الإِرادة قبضا، وإسبال الخلُق بسطا، ورفض العلائق عزما، وهو التمسك بالعروة الوثقى.
واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدا، بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا، مدارج السالكين (١ ٤٩٨ - ٥٥١). فكلام الهروي هنا يدل على
تعظيم جميع مراتب الاعتصام لمان كان بعضها أفضل من بعض بخلاف كلام من ذكره الراغب، فإنه غض من شأن تلك المنزلة وجعلها للعوام المحجوبين الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل الحقائق.
755
الله تحولهم مع ظهوو الآيات التي هي المعجزات العقلية، وكون الرسول
الشاهد فيما بينهم الذي يظهر من العجزات المحسوسة.
وقيل: معنى قوله: (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي دلائله لا ذاته، فعلى هذا خطاب لمن في زمانه، ولمن بعده.
وقوله: (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي الطريق المسئول
أن يهدينا إليه في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
والمدعو إليه بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ).
والمأمور به في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
756
التقوى: أن تجعل بينك وبين المعاصي ما يصير واقياً
لك عن تعاطيها، فتصير واقيا لك في الآخرة عن العذاب.
وقال بعض الناس: التقوى من ثلاثة أوجه: تقوى من غرور
الدنيا، والتقوى من النفس، والتقوى من الله.
وكل واحد منها على ثلاث منازل:
أما التقوى من الدنيا فأن تتقي محرماتها، ثم شبهاتها.
ثم الزهد في مباحاتها.
وأما التقوى من النفس فأن تتقي أولاً عقوبته.
ثم استدراجه نحو: أن يملي للعبد ويوسع عليه فيغتر به.
ثم حجابَه، نحو: أن يسأله العبد
757
فتتباطأ إجابته فيعيرّ ذلك قلبه، فمن استكمل هذه المنازل فقد اتقى الله حق.
تقاته، وحرر ذلك بعض الصوفية على وجه آخر.
وقال: التقوى على ثلاث منازل: تقوى العقوبة بالصبر عن المعاصي.
وإياه قصد بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
وتقواه بشكر آلائه، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص لفظ الرب المنبئ عن تربيته إياه ونعمته عليه، وتقواه برؤية وحدانيته من غير تلفّت ثواب أو عقاب، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: ولهذا حيث ما ذكر (اتَّقُوا اللَّهَ) خص المؤمنين بالمخاطبة، وحيثما ذكر (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص الناس الذي هو أعم اللفظتين.
وتقسيم التقوى على ئلاث منازل هو على حسب الظالم
758
والمقتصد والسابق، وقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) حثٌّ أن يبلغ
الإِنسان في ذلك مبلغ السابقين، قال عبد الله والحسن وقتادة: هو
أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
759
وقال قتادة والربيع: الآية منسوخة بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
وقال غيرهما: بل معناهما واحد، فإن حق التقوى
هو التقوى على حسب الاستطاعة، واستدل بما روى
760
معاذ قال: أردفني رسول الله - ﷺ -، وقال: "هل تدري حق الله على العباد؟
" قلت: الله أعلم ورسوله، فقال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً".
ثم قرأ: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)،
761
ومن قال: هذا منسوخ تصور من قوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) غاية الجهد من
العبد، وإن (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هو قدر العفو، فصار مقتضى ما استطعتم
أخف من مقتضى حق تقاته، واستقبح أبو علي الجبّائي قول من
قال: الآية منسوخة، وقال: هذا جهل، لأنه لا يجوز أن يبيح الله
للناس أن يفعلوا بعض المعاصي وهذا تصور له وقع من قلة التثبت.
فقد عُلِمَ أن فعل ما حظر الله في الشرع معصية ما دام الحظر قائماً.
كتحريم الأكل والجماع بعد النوم في الصوم، ثم لما زال الحظر زال
كونه معصية. فكذا تقوى الله بغاية ما بلغه الجهد لا يُمنَع أن
762
تُوجَبَ في وقت، فيكون تركها معصية، ثم يقتصر من الناس علي
مقدار الوسع، فلا يكون ترك الجهد معصية.
وقوله: (وَلَا تَمُوتُنَّ) حث على الاستسلام قبل الموت.
وإن كان لفظه نهياً عن الموت كقولهم: لا أرينك هاهنا.
إن قيل: هل بين قولك: لا تموتن إلا مسلما، وقولك: إلا وأنت مسلم فرق؟
قيل: قولك مسلماً يقتضي ظاهره أن يكون الإِسلام مقترنا به الموت، لا متقدمًا
763
عليه ولا متأخراً عنه، وقولك: وأنت مسلم الأظهر منه أن
يكون ذلك حاصلًا من قبل، ومستصحباً في تلك الحال.
قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣).
حبل الله: هو الذريعة المتوصل بها إليه من القرآن والنبي
والعقل والعلم، والاعتصام ضربان: اعتصام بالله بلا واسطة
بشرية، وذلك للأنبياء، واعتصام بواسطة بشرية، وهو بمنزلة
غيرهم من الناس، ثم منهم من يتوصل إليه بواسطة واحدة من
764
الوسائط، كالصحابة والأولياء والحكماء، الذين لم يأخذوا
الدين بالتقليد، ومنهم من يحتاج مع ذلك إلى من يعتمده في
كثير من دينه، وإلى هذا أشار النبي - ﷺ - بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
إن قيل: لِمَ قال أولاً: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)، ثم قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)
وجعل بين الكلمتين و (اتَّقُوا اللَّهَ)؟
قيل: لما كان القصد في
765
عبادة الله إلى الاعتصام به ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى عقبه
بقوله: و (اتَّقُوا اللَّهَ)، ولما كان حقيقة التقوى فعل الطاعات.
ولا سبيل للإِنسان إلى معرفة ذلك إلا بحبل الله: أي كتابه ورسله
أمر أن يعتصموا بحبله ليتوصلوا إلى تقواه، ومن تقواه إلى
الاعتصام به، ومن توصل إلى الاعتصام، ثم إلى التوكل، ثم إلى
الإِسلام استغنى حينئذ عن الوسائط، الذين هم حبل الله، ويصير
766
ممن قال - ﷺ - فيه حكاية عن الله: "فإذا أحببته كنت سمعه "، الخبر.
767
وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا) حث على الألفة والاجتماع، الذي هو
نظام الايمان واستقامة أمور العالم، وقد فضل المحبة والألفة على
الإِنصاف والعدالة، لأنه يحُتاج إلى الإِنصاف حيث تفقد المحبة.
ولصدق محبة الأب للابن صار مؤتمنا على ماله، والألفة أحد ما شرف الله
به الشريعة سيما شريعة الإِسلام، ولهذا قال: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وقال - ﷺ -: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً"،
768
وقال: "من شذَّ شذَّ في النار".
ولطلب الألفة شُرع الاجتماعات في المساجد والجمع والجماعات والأعياد.
وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي على ما يؤدِّيكم إلى
النار، وهو خطاب عام للمسلمين كافة، وإن كان قد جعله
بعضهم خاصًّا للأوس والخزرج على ما تقدم ذكره، وبعضهم
769
جعله للعرب، وأنهم كانوا في شدة وعُري وجوع وتقاتُل
بينهم، فأزال الله تعالى عنهم ذلك بالإِسلام، وقد تقدم الكلام
في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
المعروف: ما يستحسنه العقل ويرد به الشرع.
والمنكر: ما يستقبحه العقل
770
ويحظره الشرع، وعلى ذلك يقال للسخاء المعروف في نحو
قول الشاعر:
ولم أرَ كالمعروف أمّا مذاقه... فحلو وأمّا وجهه فجميل
ويقال لهما: الحق والباطل، والحسنى والسوءى، والصلاح
والفساد، والجميل والقبيح، وإنما اختلفت العبارات في ذلك
بحسب اختلاف العبارات.
واختُلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل ذلك واجب على كل إنسان أو على بعضهم دون بعض، فمنهم من جعله واجباً على العموم، وقال: إن مِنْ في
771
قوله (مِنْكُمْ) للتبيين، كما في قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)
وقال: لأن حق الناس كلهم أن يكونوا خلفاء الله
في أرضه، وسُوَّاساً لبعض خلائقه، لكن السياسات ثلاث:
سياسة الإِنسان نفسَه، وسياسته أهلَه وما يخصه، وسياسته بلده
وصُقْعه، فسياسة البلد والصُّقع من وجهٍ إلى الأئمة، وهو أخذهم
الناس بالقهر، ومن وجه إلى الحكماء والعلماء. - فقهائهم ووعظتهم -
وهو أخذهم بالوعظ، وكل ذلك فرض على الكفاية.
وأما سياسةُ الإِنسان نفسه فواجب على كل مكلف على التضييق.
وكذا سياسة الأهل واجبة على من يملكه، ومنهم من جعل ذلك فرضاً على
772
الكفاية، واستدل عليه من الآية بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، وذلك يقتضي التبعيض، واعتبر ذلك في سياسة
773
الإِنسان لغيره دون سياسته نفسه، وأجرى ذلك مجرى الجهاد
وطلب العلم، وهذا أقرب على اعتبار الفقهاء، والأول أعم على
اعتبار الحكماء، والذي تستحق به العقوبة هو ترك ما يلزم من
حق غيرهم، وإياه قصد بقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلى قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)، وخصّ تركهم النهي عن المنكر دون الأمر بالمعروف، فإنه أعظم الأمرين إثماً، وأوكدهما وجوباً، ففعل المعروف ليس بواجب على كل أحد، وترك المنكر واجب على كل حال.
ثم إنكار المنكر ثلاثة أضرب:
إنكار باليد، وإنكار باللسان، وإنكار بالقلب.
على حسب ما رُوِي عن النبي - ﷺ -:
"من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان "،
774
فقيل: إن الأول للسلاطين، والثاني للعلماء، والثالث للعوام.
فإن قيل: كيف حثَّ هاهنا على الأمر بالمعروف،
775
وقال في غيره: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)؟
قيل في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قولان: أحدهما:
إن ذلك حثٌّ على أن يغيّر الإِنسان على نفسه قبل أن ينكره على
غيره، وهو خطاب للعامة.
والثاني: ما قال أبو ثعلبة الخشني، وقد سئل عن هذه الآية فقال:
سألت عنها خبيراً، لقد سألت رسول الله - ﷺ - فقال: " ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر،
776
فإذا رأيت شحًّا مطاعاً، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام ".
وجعل تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم المفلحون، لأن
من تولى إصلاح نفسه، ثم صلاح غيره بغاية وسعه، فقد زكى
نفسه، وزكى غيره، وقد قال تعالى فيمن يهذب نفسه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، وقد تقدم أن الفلاح الحقيقي هو البقاء الأبدي والنعيم السرمدي.
777
قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
التفرّق على ثلاثة أضرب:
تفرّق بالأبدان، وتفرّق بالأقو ال والأفعال، وتفرّق بالاعتقادات.
وكذلك الاختلاف؛ إلا أن الأظهر في الاختلاف أن
يكون بالأقوال والأفعال والاعتقادات، وفي التفرق أن يكون
بالأبدان، وذكر تعالى اللفظين، ليبين أن أهل الكتاب تجادلوا
بكل ذلك، وعلى هذا قال ابن عباس والربيع: تفرّقوا واختلفوا
في أحكام مبتدعة وأهواء متبعة بعد أن كانوا إخواناً، وإن من
كان قبلهم هلكوا بالمراء والخصومات، ثم ذكر ما لهم من عظيم
778
العذاب في الآخرة بالنار الدائمة، وفي الدنيا بمحنها ونُوبها.
ونبه بقوله: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أن سبب استحقاقهم
العذاب افتراقهم واختلافهم، تنبيهاً أنكم إن فعلتم فعلهمْ
استحققتم العذاب استحقاقهم.
إن قيل: كيف قال النبي - ﷺ -:
"الاختلاف في أمتي رحمة" مع ما ذكر من ذم الاختلاف؟
779
قيل: الاختلاف ضربان: اختلاف في الأصول الجارية من الطرق
مجرى طريق الشرق من طريق الغرب، وذلك هو المذموم، فإن
ما عدا الجهة المأمور بسلوكها مؤد إلى الباطل. وإلى هذا يوجه
قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
والثاني: اختلاف في الفروع الجارية من الطرق مجرى بنيات طريق إلى مقصد واحد يسلكها، كل على حسب اجتهاده، ومقصد جميعهم واحد، فإن إباحة الله سلوك كل واحد من تلك الطرق فسحة لهم ورحمة، وإياه قصد بقوله:
780
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
ابيضاض الوجه عبارة عن المسرة، واسودادها عن الغم.
وعلى ذلك (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)، ثم قال: (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ).
781
وعلى ذلك قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ).
وهذا الابيضاض والاسوداد أبلغ من المحسوسين.
وقال بعض المتكلمين: يحمل ذلك على المحسوس.
لكونه حقيقة فيه، وهذا خطأ، وذلك لأنه لم يعلم
أن ذلك حقيقة فيهما جميعاً، فليس الاسوداد والابيضاض
أكثر من كيفية عارضة في الوجه، قلّ ذلك أم كثر،
782
ومعلوم أن من ناله غمّ شديد يعرض لوجهه - لتبرّمه وتكدره -
اسوداد في وجهه، وليس قلّة السواد والبياض مما يخرج اللفظ
عن الحقيقة، ثم حمل الآية على هذا أولى، لأن ذلك حاصل لأهل
القيامة باتفاق، سواء كانوا في الدنيا سودانا أو بيضانا، وعلى
ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).
وأما كفرهم بعد إيمانهم فقد قال الحسن: بعد إظهارهم الإِيمان بالنفاق)، وقال قتادة: كفروا بالارتداد بعد
783
الإسلام، وقيل: بعد الإِقرار الذي اقتضاه قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
وقيل: كفروا بالنبي - ﷺ - بعد أن أقرّوا به قبل
بعثته، وعموم اللفظ يقتضي كل ذلك، ولا تنافي بينها.
وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟، وحذف القول
من نحو ذلك كثير نحو: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ).
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)
784
أي يقولون، ولما حذف الفعل حذف معه الفاء
الذي يكون جواب أما، ويوم ظرف لقوله عظيم، ولا يكون
عند البصريين ظرفاً لقوله عذاب، لأن الاسم إذا وُصِف لا يعمل
عندهم.
إن قيل: لِمَ كرر لفظة (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)؟
قيل: قال بعض النحويين: إن ذلك للتأكيد.
وتمكين المعنى في النفس، وقيل: (قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) تمام
الكلام، و (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تنبيهاً أن ذلك لهم مؤبدا،
785
وقيل: قوله: (هُمْ فِيهَا) راجع إلى مقتضى قوله: (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهو المسرة، تنبيها أن تلك المسرة دائمة لا كمسرّات الدنيا التي تنقطع.
وإن بقيت أسبابها. فأحوال الدنيا وإن كانت سارة متبرم منها بدوامها.
ولهذا قيل: لَلعافية تمُل أكثر مما يُملُّ البلاء.
إن قيل: المقابلة في الاثنين غير صحيحة، فإن التقابل الصحيح أن يكون المذكور في الثانية عكس المذكور في الأولى، وليس قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) عكسا لقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)؟
قيل: مراعاة التقابُل على ضربين: تقابل اللفظ، وتقابل المعنى.
وهو أفضلهما عند أصحاب المعاني.
فالتقابل حاصل من حيث المعنى، وعدل عن لفظ الخبر في قوله:
(أَكَفَرْتُمْ) وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) إشارة إلى ما يقال لهم،
786
ونبّه أنهم يُقابلون مع العقوبة بالتبكيت، وقد قيل: التبكيت
أعظم العقوبتين، وأن يقال لهم: (ذوقوا)، وذلك دلالة على مبالغة
الغضب عليهم.
إن قيل: كان الوجه أن يقال: ألستم قد كفرتم؟
فلفظ الاستفهام في القرآن محمول على الإِنكار، والإِنكار متى تجرد
عن حرف النفي يكون للنفي نحو قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وإذا
كان للإِثبات قرن به حرف النفي؟
قيل: الألف في الأصل للاستخبار، والاستخبار أعمّ من الاستفهام.
وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والمستخبر قد يقصد إلى أخذ إقرار المستخبر أو إلى إلجائه إلى الإِقرار بما ينكره، وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) استخبار على هذا الوجه، وتقريع لهم، وعلى ذلك
787
قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ).
قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨)
قال الفراء: معناه هذه آيات الله، وقد تقدم الكلام في
قوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)، وآيات الله يصح أن تكون
الكتاب، وأن تكون جميع الآيات المسموعة والمعقولة مما يظهره الله.
ويكون معنى (نَتْلُوهَا) نُبينُها بوجوه التبينات،
قوله: (بِالْحَقِّ) أي الحق يقارنه، أو هو الحق، وفي قوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا) تنبيه على اعتبار ما تقدم ذكره لما اقتضى عدله في معاقبة الكفار.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
قد تقدم تفسير ذلك، ونبه بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على شيئين: أحدهما: إبطال قول من زعم أن الأشياء تبقى عناصرها فلا تفنى.
والثاني: على أنه يصحُّ أن يتوهم ارتفاع الأمور كلها مع بقائه تعالى.
وأنه لا ينكر عدمها انتهاءً، كما لا يُنكر ذلك ابتداءً.
إن قيل: وما وجه إيراد هذا القول
في هذا الموضع؟
قيل: إنه لما بيّن تعالى ما اقتضى عدالته وعقبه
بذكر التبرؤ من ظلمهم بيّن بهذا القول استغناءه عن الظلم، وأن
الظلم يتحرّاه من يروم ما لغيره، ومحال أن يُعتقدَ في مالكِ الكلِّ
ومن منه البدءُ وإليه العودُ الظلمُ.
قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)
إن قيل: لمَ قالْ: (كُنْتُمْ) ولم يقل: أنتم؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول:
كنتم فيما قضيت وقدرت وبنيت عليه الشرائع خير أمة بشريطة
أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله)،
790
فقد تقدم إن هذه الشريعة أكمل الشرائع، ولهذا قال - ﷺ -:
"أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى".
والثاني: أن الإِشارة بذلك إلى من آمن بالنبي - ﷺ - في ابتداء الإِسلام، وإلى هذا ذهب عمر، وقال: هذا لأولنا، ولو شاء الله لجعله لآخرنا أيضاً.
فقال: أنتم، فكنا كلنا أخيارا.
ويؤكّد ذلك ما روي
791
عن عبد الله قال: جمعنا رسول الله، ونحن أربعون رجلا، فقال:
"إنكم منصورون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليأمر
بالمعروف ولينه عن المنكر".
الثالث: أن ما تشارك فيه الأحوال الثلاث: الماضي والحال والمستقبل.
لا فرق بين أن تقول: كنت كذا أو أنت كذا، لأن القصد ليس إلى تخصيص الزمان، بل إلى ذكر ثبوت ذلك الشيء، وأيًّا من ذلك ذكرت، فإنه لا يقتضي من حيث اللفظ نفي الآخر، وإذا كان كذلك كان أولى الألفاظ بمثله: كان، لأنه يقتضي الحصول، ولا يقتضي تغيير ذلك الشيء من حيث
اللفظ، وإذا أورد تعالى جل أوصافه على ذلك، نحو (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وقيل: (كُنْتُمْ) في اللوح
792
المحفوظ، وهذا كالأول.
إن قيل: لأي شيء وصفهم بأنهم خير أمة.
وقد علم أن أشرار الناس في هذه الأمة أكثر من
الأخيار، وأن كثيراً من الأمم المتقدمة كانوا حْيراً من كثير هذه الأمة؟
قيل: ليس الاعتبار بأشخاص الناس، وإنما الاعتبار بما
صارت الأمة به أمة، والشريعة به شريعة، وقد تقدم أن هذه
الشريعة أفضل الشرائع إذا اعتبرت بها، على أنه قد قيد
فقال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، أي أنتم خير أمة على هذه
الشريطة لأن قوله: (تَأْمُرُونَ) في موضع الحال.
793
قال ابن عباس ومجاهد وأبو هريرة: كونهم خيرا هو أنه لم
يؤمر نبي قبله بالقتال، وقهر الناس على الدخول فيما فيه
صلاحهم إلا هذه الأمة، فإن الله يقودهم بالسلاسل من
الكفر إلى الإِيمان، وقال غيرهم: لم يكن في أمة من الآمرين
794
بالمعروف، والناهين عن المنكر أكثر مما في هذه الأمة.
إن قيل: لم أخَّر الإِيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
795
قيل: الإِيمان هاهنا ليس هو الإِقرار بالله فقط، بل هو الوفاء
بشروطه والقيام بشرائعه، الذي هو تمام الإِيمان وكماله
على ما ذكرناه فيما تقدم، وقال: (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)
فقابل به المؤمنين، لأن الفسق أعم من الكفر، فبيّن أن
المؤمنين المخلصين قليل جدًّا، وأن أكثرهم فاسق: إما كافر.
وإما منافق.
قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)
قال ابن عباس والحسن: عنى بالأذى الكلام المؤذي.
وجعل بعضهم الآية مخصوصة
796
في بني قريظة، قال: ووحد المخبر على ما أخبر به تعالى، وجعلها
بعضهم عامة، وقال: إن كان ما ينال المؤمنين من الكفار كلاما
كان أو قتالاً فهو أذى عارض (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، كما
قال في غير موضع.
وقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) لم يجزمه، لأنه إذا جُعِلَ جواباً اقتضى أن النصرة عنهم ممنوعة في حال المقابلة فقط،
797
وإذا رُفِعَ اقتضى أنهم ممنوعون عنها في كل حال.
وقال بعض النحويين: رفع ذلك ليكون كماخر سائر الآيات المتقدمة.
وهذا القول هو بحسب مراعاة اللفظ دون المعنى.
قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
قيل: هي مخصوصة في بني قريظة على ما تقدم.
وقيل: هو أمر وإن كان لفظه خبراً، فأمر بتذليل أهل
الكتاب، وأخذ الجزية منهم على ما ذكره الفقهاء وبينوه.
وقيل: هو خبر عام عن جميعهم.
فإن قيل: كيف يصحُّ ذلك
798
مع أنه قد يُرى من أهل الكتاب من لا يكون في مذلة ولا فقر.
قيل: المذلّة هي التي تلزمهم ليس يجب أن تُعتبر في الأشخاص.
ولا في الأعراض الدنيوية من الجاه والمال، بل يجب أن يُعتبر ذلك
بالأحوال الشرعية، والعز والذل الحقيقيين، اللذين يقتضيهما الدين.
وإياه قصد بقوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقد قيل: كل عز مصيره إلى ذل فهو ذل، وما يتصوره بعض الناس عزًّا من غرور الدنيا فهو المذلة عند التحقيق.
وكذلك المسكنة ليست قلة المال، وإنما هي الحرص، وفقر النفس.
ولهذا روي عن النبي - ﷺ - أنه قال:
"الغنى غنى النفس "
799
وقيل لحكيم: هل لفلان غنى؟
فقال: أما الغنى فلا أدري، إلا أن له مالا كثيراَ.
وقال الشاعر:
... قد يكثر المال والإِنسانُ مفتقر.
وقيل: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم، كقوله تعالى:
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)، وهذا في الحقيقة يرجع إلى الأول، فالدعاء من الله واجب.
إن قيل: لم قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)
فأعاد ذكر الحبل، وفصل؟
قيل: لأن الكافر يحتاج إلى حبلين أي عهدين، عهد من الله.
وهو أن يكون من أهل كتاب أنزله الله، وإلا لم يكن مقرًّا على دينه بالذمة، ثم يحتاج إلى حبل من الناس،
800
أي أمان وعهد يبذلونه على ما بيّنه الفقهاء.
والناس هاهنا خاص للمسلمين، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)
أي استحقوا عقابا منه، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي نالهم ذلك بكفرهم.
وقوله من بعد: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) قيل: هو بدل من الأول.
فإن كفرهم ليس هو إلا عصيانهم، واعتداؤهم.
وقيل: بل جعل الكفر علّةً لما نالهم من الذِّلة والمسكنة.
وجعل عصيانهم علة لكفرهم، وذلك أن الذنوب الصغائر
إذا استمر عليها الإنسان أفضت إلى الكبائر.
والكبائر تفضي إلى الكفر، ولهذا قال
801
تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
وقال - ﷺ -: "الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب ".
وفي قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) تحذير لنا وتنبيه، كأنه قال: اجتنبوا
المعصية، وهي التي أدّت بهم إلى الكفر المقتضي لعظم العقوبة
إن قيل: كيف قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ)، ولا يصح في الإِثبات
أن يقال: اعتصمت إلا بحبل فلان، والاستثناء في الإِثبات لا يكون
إلا من لفظ عام؟
قيل: إن قوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) مقتض لمعنى
802
العموم، كأنَّه قيل: بكل حال، فيصح أن يقال: إلا بحبلٍ.
قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
الأمّة: الجماعة، وقد تقدم.
وجعلها الزجاج هاهنا الاستقامة.
وقال: تقديره: ذوو طريقة مستقيمة، والأول أولى.
لأنه لا يحتاج فيها إلى إضمار.
والقائمة: العادلة،
803
وقال مقاتل: مطيعة، وقال بعضهم: مسلمة، وهذا
كلة واحد، فإن العادل لا يكون عادلا حتى يكون مسلما مطيعا.
والمطيع لا يكون مطيعا حتى يكون مسلما عادلا.
والآناء: جمع إنْي كانحاء في جمع نِحْي، وقيل: هو جمع إِنى نحو مِعًا وأمعاء.
وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً) كلام تام أي لا يستوون.
ثم قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أي منهم أمة قائمة.
وقال بعضهم: تقديره:
804
أي ليسوا سواء هم وأمة قائمة، يعني أمة محمد - ﷺ -، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد.
وقال الفراء: ذكر أمة قائمة، وحذف الأخرى كقول الشاعر:
......................... فما أدري أرشد طلابها
وتقديره: أم غي، وما قاله إنما يصح إذا جعل (أُمَّةٌ) بدلاً
805
من الضمير في (لَيْسُوا)، أو جعل الواو فيه كالواو في أكلوني
البراغيث، ويجعل (أُمَّةٌ) اسم ليس، وتكون المفاضلة
بين أمة قائمة وأمة غير قائمة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)
قيل: عنى به صلاة العتمة، لأنها لم تكن إلا لهذه الأمة.
واستدل بما رُوِيَ أن النبي - ﷺ - أخْر صلاة العشاء
ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرونه.
فقال: "إنه ليس أحد من أهل الأديان يذكر الله في هذه الساعة غيركم ".
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: عنى الصلاة بين
806
العشائين، وقيل: تلاوة القرآن بينهما، والسجود.
قيل: عبارة عن الصلاة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)
كلاهما في موضع الصفة لـ (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).
قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
807
ذكر تعالى حال الأمّة التي تقدم ذكرها، وابتدأ بذكر الإِيمان بالله.
وعنى الإِيمان الذي لا تصحُّ عبادة من دونه.
والمسارعة والمبادرة والعجلة تتقارب، لكن السرعة أعمها
والمبادرة لا تكاد تستعمل إلا في البدن، والعجلة أكثر ما
تستعمل فيما يتحرى عن غير فكر ورويَّة، أو في إمضاء العزيمة
قبل استكمال الروية، ولهذا يقال: "العجلة من الشيطان "،
808
وقال تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)
فإن قيل: لو كانت مذمومة لما قال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
قيل: موسى عليه السلام أورد ذلك على سبيل الاعتذار إبانة أنه قصد فعلا محمودا، وإن تحرى العجلة فيه، ومن قصد فعلا محمودا فقد يعذر في وقوع ما يكره منه، والمسارعة في الخير هي أن يتدرج الإِنسان في ازدياد العرفة بفضله، واختياره والسرور بتعاطيه، وتقديمه على الأمور الدنيوية، وأن لا تؤخره عن أول وقت إمكان فعله وعلى ذلك قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، ومدح تعالى قوماً فقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ).
أي يسابقون بهممهم وأبدانهم، فلذلك كرره، ولمراعاة
المسارعة وكون بعض المسارعين أعلى منزلة من بعض،
809
قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ)، وبين تعالى في آخر الآية أن
فاعل ذلك من الصالحين، والأقرب في مِن أن تكون للتبيين.
وأنهم هم الصالحون، ولذلك قال في الأول (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
قُرئ بالياء ردَّا إلى قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).
وقُرئ بالتاء لإِدخال المخاطبين فيهم وتغليبا للخطاب،
810
وقوله: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) كقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ)
وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)، كل ذلك تنبيه على
أن عمل المحسنين لا يضيع المدلول بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
وقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وأنهم بخلاف الكفار الذين قال فيهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. وقوله: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) الآية.
وقال الجبّائي: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) مجاز في هذا الموضع، لأن
811
وصف الله بانه يشكر مجاز، وقوله ذلك لتصوره الشكر على
وجه واحد، والشكر باعتبار الشاكر والمشكور على ثلاثة أوجه:
شكر الإِنسان لمن فوقه، وذلك بالخدمة والحمد، وشكره لنظيره.
وذلك بالمقابلة، وشكره لمن دونه، وذلك بالإِثابة، ولذلك يمدح
تعالى بأنه شكور، وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)
تنبيهاً أنه يقابله بالشكر الذي هو الثواب، ولعله تصور أن
الشكر لا يكون إلا بالقول، ومن الأدون للأعلى، وذلك فاسد
812
لقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) فجعل الشكر
معمولا، ووصَفَه بأنه شكور وشاكر.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦)
أغناه: إذا جعل له غنى، وأغنى عنه: جعل له غَنَاءً في
الدفع، ولما ذكر في الآية الأولى أن ما يفعله الإِنسان من الخير لن
يُكفَر، بيّن أن ما يعدونه خيراً إنما ينفع بعد الإِيمان، فأما مع
افتقاده فلا نفع، وذكر أجلّ ما هو عندهم خير، وهو الأموال
والأولاد، وأنها لا تغني عنهم، وعلى ذلك ما حكى عن الكفار:
(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم إياها.
قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
الصّر: برد يحرق النبات.
وقال مجاهد: هو النار.
814
وأصله صوت النار، وكأنه حكى به الصرير والصرصرة.
ونحوهما، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان وأهل مكة
815
لإِنفاقهم المال في معاداة النبيّ - ﷺ -، لما بيّن في الآية الأولى أن مالهم لا يغني عنهم، بين أن إنفاق هؤلاء مع كونه غير نافع ضار
لهم، وراجع بالوبال عليهم، فمن المفسرين من قال القصد
إلى تشبيه ما لهم المنفق بالحرث. المحرق، وكفرهم المهلك بريح
ذات صِرٍّ، لكن أخرج التشبيه ملفوفاً لا مكشوفاً، على تحقيق
مطابقة لفظ المشبّه والمشبّه به، وذلك نحو ما تقدم.
ومنهم من قال: القصد في ذلك تشبيه أموالهم في إهلاكها إياهم بريح
ذات صِرٍّ في كونها مهلكة لحرث قوم، ثم اختلفوا في هذه
النفقة، فمنهم من جعلها لما أنفقه هؤلاء وأمثالهم في معاداة
816
المسلمين، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
ومنهم من جعلها لكل ما ينفقه الكافر، أي شيء أنفقه فإن
الكافر معاقب في ذلك كله، كما أن المؤمن مثاب على ما أنفقه على
أي وجه أنفقه، وعلى هذا قال - ﷺ - لسعد:. "إنك لتؤجر في نفقتك كلها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ".
ووجه ذلك أن المؤمن
817
لا يأخذ إلا من حيث على ما يجب وكما يجب، ولا يضع
إلا كذلك، والكافر بخلاف ذلك، ومنهم من قال: (مَا يُنْفِقُونَ)
عبارة عن أعمالهم كلها، لكن خصّ الإِنفاق لكونه أظهر
وأكثر، وإنما خصّ حرث قوم ظلموا أنفسهم من أجل أن
الناس فيما يصيبهم أمن، الجائحة ضربان:
صالح لا يستحق عقوبة، فإذا نالته صار ذلك له أجراً مُدَّخرا.
فكأنه لم يضع ماله، وسيِّئ يستحق عقوبة، فإذا نالته فقد ضاع ماله في الحال وفي المآل، ومنهم من قال: معنى (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي زرعوا
الحرث في غير وقته، تنبيها أن الكفار أساءوا فيما كان ينبغي
لهم أن يفعلوه إساءة هؤلاء الحرّاث في حرثهم من تقديم أو تأخير.
إن قيل: كيف قال: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)، وقد قيل: متى
هبت الريح لم يؤثر الصِرُّ؟
قيل في ذلك أجوبة:
818
الأول: أن كل صر لا ينفك من ريح معه، لكن التي معها الصرُّ ضعيفة بحيث
لا يحُسُّ بحركتها، وإنما تمنع الصرّ إذا تحركت حركة شديدة.
والثاني: أنه تعالى خصَّ ذلك تنبيهاً أن أموالهم بطلت من حيث لم
يحتسبوا: كبطلان حرث هؤلاء من حيث لم يحتسبوا، فإنهم كانوا
آمنين من الصرِّ لوجود الريح.
والثالث: أنه عنى بالصرِّ صوت الريح وشدة عصوفها، وعنى أنها أصابته الريح ففرقته، كقوله: (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)، ونحو هذه الآية في بطلان عمل الكفار قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ).
وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) فإنما عقب به لأنه لما كان أخذ مال الغير وإبطاله قد يتصوره من لا يعرف حقيقة الأمر بصورة الظلم بين أنه لم يظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم، حيث لم يضعوا مال الله حيث أمرهم.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
819
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعمل لمن اختصصته كالشعار والدثار، ويقال: لبست فلاناً إذا اختصصته، وعلى ذلك قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ)
وألوتُ في الحاجة: قصَّرت، وألوت، فلانا ألواً أي أوليته
تقصيراً بحسب الجهد، فقولك جهداً تمييز -
820
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) أي لا يقصروا، آلى أي حلف، هو أفعل من
ذلك، كأنه أزال التقصير ببذل ذلك القول.
فقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي لا يقصرون في إيصال الخبال إليكم.
والخبال: الفساد، الذي يلحق ذات الحيوان.
يقال: في قوائم الفرس خبل وخبال، أي فساد من جهة الاضطراب، وفلان مختبل الرأي، وقول زهير:
هنالك إدْ يستخبلوا المالَ يخبلوا...
821
أي إن طلب المال منهم إفساد شيء من إبلهم فعلوا، والعنت
تحرّي المشقة، يقال: عَنِتَ فلان عنتاً، وأعنتة غيره، وعنّته.
قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
وأكمةُ عنوت: صعبة المسلك، وعنود والمعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة مشقة.
قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن قوماً صافوا جماعة من اليهود، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، والآية تقتضي النهي عن الركون إلى من وما
822
يتحرى بك طريقة فساد: إنساناً كان أو شيطاناً أو قوة من قوى
نفسك تحيد بك عن الحق، كالهوى ونحوه، وقال - ﷺ -: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان.
بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه
عليه ".
ونهى عمر عن الاستعانة بالكفار، واحتج بهذه الآية،
823
وقد تقدم الكلام في أنه على أي وجه لا يصح الاستعانة بهم.
ونبه بالاستدلال بكلامهم على فساد اعتقادهم، وأن ذلك لا يخفى
منهم، كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، وعلى نحوه قال
الشاعر:
ولا حن بالبغضاء والنظرِ الشزر
ثم بيّن أن مالا يبدو منهم أكثر، وأخبر بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ)
أنه أظهر ما يمكنهم الاستدلال به على معاداتهم.
قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩).
824
العضُّ معروف، ومنه رجل عف: شديد الخصومة، كقولهم:.
أزوم، وفلان يازم المأزم ونيّب على كذا، والعضُّ: علف الأمهار
مما له مضغ شديد كالنوى والقت اليابس. والأنامل واحدتها
أُنملة، ولم يأت أفعل مفرداً إلا قولهم: بلغ
825
أشده، وقد كثر ذلك في الجمع، نحو: أكلُب وأفلُس.
ويعبر عن التأسف بقرع السن وعض الأنامل، وذلك لا نشاهد من
حال المتأسف، قال الشاعر:
عضضت أناملي وقرعت سني
أكلت يدي لما جنته تندما
826
والغيظ هو الغضب والغم، فإن الغضب يقال فيما معه القدرة.
على الانتقام، والغمّ فيما ليس معه قدرة الانتقام، والغيظ فيما
ليس معه تمام القدرة على الانتقام، ولذلك يُستعمل في صفات
الله الغضب دون الغيظ، والكتاب كله يعنى الكتب المنزلة.
فوضع موضع الجمع، إما لكونه للجنس كقولك: كَثُرَ الدرهم
في أيدي الناس، أو لكونه في الأصل مصدرا.
ولفظ الإِفراد أولى في هذا الموضع، لأنه يتضمن أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويتضمن أنهم يؤمنون بتفاصيل كل كتاب.
بخلاف من قال فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).
وقوله: (أُولَاءِ) قيل: معناه الذين، وتحبونهم صلته،
827
وقيل: معناه هؤلاء، وفيه وجهان: الأول: أن يكون كقولك
ها أنا ذا، وها أنتم هؤلاء، فيكون هؤلاء خبر الابتداء.
و (تحبونهم) في موضع الحال، وهم راجع إلى ما تقدم ذكره.
والثاني: أن يكون هؤلاء مبتدأ ثانيا، و (تحبونهم) خبره.
والجملة خبر للأول، كقولك: أنت زيد تحبه، ويكون هم راجعاً إلى
هؤلاء. ومحبتهم لهم: إرادة الإِسلام لهم، لأن ثمرة المحبة
النصيحة وإرادة الخير، وبين أنهم لا يحبون ذلك لكم، لأنهم لا
يريدون لكم الإِسلام الذي هو الخير المحض، ثم بيّن أنكم
تؤمنون بكتب الله، وهم لا يؤمنون ببعض الكتاب.
وقوله: (وَإِذَا لَقُوكُمْ) كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا)،
828
وقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وقوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)
وقوله: (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم وإيجاب ذلك لهم، وإن لم يكن إيجاباً
عليهم، وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كقوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقوله: (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) ونحو ذلك.
قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
829
الحسنة: عبارة عن كل ما يستحسنه الإِنسان مما يسّره
من نعمة ينالها في بدنه وماله، وجاهه، والسيئة تضادها.
والمسّ والإصابة يُستعملان في الخير والشر، إلا أن المصيبة
اختُصَّت، بما يسوء، ويقال: ضرّه يضره وضارّه
830
يَضيره، وقُرئ: لا يَضُرُّكُم، والضمة فيه إتباع للضاد.
نحو مدُّ، ويجوز الفتح والكسر كما يجوز في مدّ.
وقال بعض النحويين لا يضركم مرفوع رفعاً صحيحاً، وتقديره: فلا
يضركم، وحذف الفاء كقول الشاعر:
831
من يفعل الحسنات الله يشكرها......................
وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر، والكيد: الاحتيال
للغير بمكر ومقاساة، وعلى سبيل تصور هذا المعنى قيل: فلان
يكيد بنفسه، والمكر مثله إلا أنه أعم، لأنه قد يقال في اجتلاب
المنفعة.
إن قيل: على أي وجه يمنعْ صَبرهم وتقواهم من أن
832
يضيرهم كيدهم، قيل: من أوجه: الأول: من الفيض الإِلهي
والنصرة الموعود بها في نحو قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله: (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
والثاني: أن من عُرف منه الجد أحجم عنه العدو.
كما قال رجل ضئيل أسر رجلًا قويًّا، فسأله أمير المؤمنين:
كيف تمكنت منه؟
فقال: وقع في قلبي أني آخذه ولا أبالي بالقتل، ووقع
في قلبه أنه مأخوذ وخاف القتل، فنصرني عليه خوفه وجرأتي.
والثالث: أن المتذرّي بالصبر والتقوى تتحمل نفسه الشدائد.
فلا يبالى بمكايدة عدوه.
والرابع: أن الثقة بنصر الله أعظم ناصر.
والإِحاطة بالشيء يقال على وجهين:
أحدهما: في الأجسام.
والثاني: في العلم بالشيء والقدرة عليه.
فأما العلم فبأن يعلم حقيقة المحاط به ووجوده وجنسه وأوصافه، والغرض
833
المقصود منه، وعلى ذلك: (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) فصار
قوله: (بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كقوله: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ).
وقو له: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ونحوه.
قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
التبوء: التمكن، يقال بوَّأته مكان كذا، أو لمكان كذا، وقيل: في حرف ابن مسعود:
834
تُبوئ للمؤمنين، وإذ قيل معطوف على قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) آية في غلبتكم - مع قلتكم - الكفار مع كثرتهم.
وآية إذ غدوت ترتاد للمؤمنين مكانا للقتال، فانكشف الحال عما
كان لهم فيه آية، ولما أمرهم بالصبر والتقوى ذكّرهم ما خوّلهم
ببدر حيث صبروا واتقوا، وبأحد حيث كان منهم ما كان.
وذاك أن النبي - ﷺ - شاور أصحابه حيث قصده المشركون: هل يخرج إليهم أو يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، وذلك هو معنى تبَوُّئه للقتال أي موضع المشاورة، ولهذا خص المقاعد دون المقاوم، فقال له
835
عبد الله بن أُبيّ: نقيم بالمدينة، فإن قاتلونا قاتلنا في الأزقة وإلا
رجعوا عنا بالمذلة، وقال أكثرهم: نخرج إليهم، فدخل - ﷺ - ولبس لأمته، وأعاد عبد الله قوله، فقال - ﷺ -: "ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم ينزعها حتى يقاتل "
فخرج النبي، وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع بما يقول مؤمنهم ومنافقهم، عالم بما ينوي كل منهم.
قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
836
الهمّة قد تكون عزماً، وقد تكون حديث
النفس من غير أن يصير عزيمة، والفشل: الضعف الذي يكون من
تحير الإِنسان ظهر أو لم يظهر، وقد يقال لا يظهر من الإِنسان من
الإِحجام فشل أيضا.
والطائفتان، قال المفسرون: هم بنو سلمة وبنو حارثة، لما رجع عبد الله همّا بالرجوع،. ثم لم يفعلا،
837
وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي وليهما في أن عصمهما عن الانصراف، ووليهما في أن جازاهما إذ لم يفعلا ما هما به، ورُوي أنه لما نزل ذلك قالت الطائفتان: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا، وقد أخبر الله أنه ولينا.
ونبّه بقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أن التوكل على الله
هو العاصم، وهو الفرض الأقصى من العباد في الدنيا.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
بدر: اسم ماء
838
كان لرجل يقال له: بدر، فسُمي به، فصار ذلك الحرب
مسمى به، وجعلهم أذلة لا على الحقيقة والمصدوقة، - فمن
نصره الله فغير ذليل، ولكن على اعتبار العامة لقلتهم وقلّة
عِدّتهم، وهذه أيام تابع الله ذكرها وذكّر المسلمين بعظم ما
أولاهم فيها تثبيتاً لقلوبهم، وتذكيراً بنعمه عليهم، وأمرهم
بالتقوى المؤدية إلى شكرهم لها.
839
قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
الكفاية: مقدار ما فيه سد خُلة، والفرق بين الاكتفاء والاستغناء:
أن الاكتفاء ما فيه سد الخُلة وسع أو ضاق، والاستغناء ما فيه
** السعة فهو أعم.
والإِمداد: اتصال الشيء بالشيء، وأصله من مد الحبل
والمد يقال تارة في الماء، ومده ماء آخر، وتارة في السير.
والمدة امتداد الوقت، والمادة زيادة ممتدة، والمداد المُدّ الذي هو
المكيال منه، والفَوْر أصله من فارت القدر والتنور، والفور
840
منهم من تصور منه الوجهة والعجلة، وإليه ذهب ابن عباس
والحسن وجماعة، ومنهم من تصور منه فوران الغضب.
وإليه ذهب مجاهد والضحاك، والتسويم ترك الشيء وسومه،
841
ومنه قيل: أسمت الإِبل وسومته، والتسويم أيضأ إظهار
سيماء في الشيء، وقد فُسر المسومة على الأمرين.
وقُرئ: مسوِّمَة أي معلمة لأنفسها.
وقد روي أنه نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم..........
842
صفر، قال ابن عباس وغيره: عنى بذلك يوم بدر.
قال: ولم تقاتل الملائكة إلا في ذلك اليوم، وقال الحسن: أمدّهم
بخمسة آلاف، لأنه عنى مع الأولين، وقال غيره: بل خمسة
آلاف غير الثلاثة آلاف، وكانوا ثمانية آلاف، وقال بعضهم:
843
إنما أمدهم بألف، لقوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)
ولم يمدهم بخمسة آلاف، بل المسلمون قالوا: إن كرز بن جابر يمدّ المشركين. فأنزل الله ذلك تسكيناً للمسلمين، ثم لم يُمِدّ المشركين.
فلم يمدّ الله المسلمين بهم،
844
ولهذا قال: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ).
قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
الضمير في قوله: (جَعَلَهُ) للإِمداد والوعد، ونبَّه أنه إنما أراد بوعدهم
وإمدادهم الملائكة نعمة عليهم، وهي مسرتهم وسكون
جأشهم، فأما النصر في الحقيقة فليس إلا منه بلا حاجة إلى
استعانة، وفيه حثٌّ أن لا يبالوا بمن تأخّر عن نصرتهم.
وتنبيه أنه يعين تارة بالمدد وتارة بغير المدد، وأنه ناصر كل
منصور أينما كان، وممن كان، إذ هو المسبب لجميعه، والفاعل
الذي لا يستغني فاعل عنه، ثم وصف نفسه بالعزة والحكمة.
تنبيها أن كل عِز منه، وكل حكمة عنه.
قوله تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)
الكبت: الصرع على الوجه والرد.
والخيبة: حرمان البغية. وتخصيص قطع الطرف من حيث
إنّ نقص الأطراف من الشيء موصّل إلى توهينه وإزالته، وعلى
ذلك قال: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا).
وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).
وقيل: عنى بالأطراف
أعيانهم وصناديدهم.
وقوله: (ليقطع) أي نصركم ليقطع، أو وما النصر إلا من عند الله، ليقطع.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨)
هو راجع إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء، وهو نجو
847
قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)
وقال بعضهم: ليس للنبي - ﷺ - أمر وإنما إليه.
ونبّه أنك مأمور لا آمر، ومرتسم لا مُرسِم، قيل: بل أراد النبي - ﷺ - أن يستغفر للمشركين.
وقيل: بل أراد أن يدعو عليهم بالاستئصال لما كسروا رباعيته، فقال الله ذلك.
وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معطوف على قوله: (لِيَقْطَعَ).
وقيل: بل معناه: إلا أن يتوب
848
أو يعذب، تنبيهاً أن أمرك تابع لأمر الله.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
بيّن بهذه الآية تحقيق ما قدّمه بأنه هو المالك للكل، وله المشيئة في غفران من شاء وتعذيب من شاء.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
إن قيل: ما اتصال هذه الآية بما قبلها؟
قيل: إنه لما نهى عن الكفر فيما تقدَّم، وقبَّح صورته.
وحذَّر منه، وبيّن قدرته عليهم حث قال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) نهى هاهنا عن تعاطي أفعال الكفرة، وقد
849
تقدم الكلام في قُبح الربا، وأما أكله أضعافا فقد قال عطاء
ومجاهد هو أنهم كانوا في الجاهلية إذا باعوا أو أقرضوا إلى مدة
ثم تأخر القضاء زادوا على أصل المال لزيابة الأجل
المضروب.
إن قيل: لِمَ قال: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فجمع بين اللفظتين؟
850
قيل: قال بعضهم ذلك للتأكيد.
وقيل مضاعفة من الضَّعْف لا من الضِّعف، ومعناه ما تعدونه ضِعْفا
هو ضَعْف، أي نقص، كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو) وقوله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا).
ومن هذا أخذ بعض المحدثين:
زيادة شيبٍ وهي نقصُ زيادتي... وقوة جسمٍ وهي من قوتي ضعفُ.
851
ثُمَّ حثَّ على تقوى الله، وذكر أن ببلوغها ترجون الفلاح.
واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على فساد بعض ما يدعيه الشافعية
من دلالة الخطاب، فقال: لو كان ذلك صحيحا لكان يجوز أكل
الربا إذا لم يكن أضعافا، وهذا لأن يكون دلالة عليهم أولى.
لأنه لما زهَّدنا في الكثير منه فلأن نزهد في القليل أولى، على أن
القضية بذلك على مقتضى العموم، فمجيء ما ترك دلالة خطابه
في بعض المواضع لا يفسد هذا الأصل، كمجيء لفظ عام ترك
عمومه، وتكرير النهي عن الربا تفظيع لأمره، وتقبيح لشأنه.
852
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
إعداد الشيء تهيئته قبل الحاجة إليه.
وإنما أراد تقديره وإيجاده، فلا حاجة به تعالى إلى الإِعداد.
وأصله من العدّ، وقولك: أعددت كذا لكذا، أي اعتبرت قدره
بقدره.
إن قيل: ما وجه ذكر اتقوا النار بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ)؟
قيل: قد تقدّم أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) يقال باعتبار
ذاته، واتقوا النار باعتبار عقابه، فالأول للأولياء الأصفياء.
ولذلك وصله بالفلاح الذي هو أعلى درجة الثواب.
والثاني للمذنبين، فلذلك وصله بالرحمة، ولما كانت المنزلة
الأولى لا تحصل إلا لمن حصلت له المنزلة الثانية، حثَّ كافة
الناس على الاستعانة بتقوى عقوبته، والطاعة له ولرسوله في ترك
الربا وغيره من المعاصي؛ ليصلوا إلى الرحمة ذريعةً إلى الفلاح.
إن قيل: الفلاح لا يخرج من أن يكون رحمة؟
قيل: صحيح، ولكن الرحمة أعم من الفلاح، فكُلُّ فلاح رحمة، وليس كُلُّ رحمة فلاحاً، ومن قال في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) دلالة أن لا فاسق فيها، فليس باستدلال يوجب الركون إليه، لأن ما يصحُّ أن يشترك فيه أقوامْ إذا
قيل: أُعِدَّ لفلان. فليس فيه أنه لم يُعدّ لغيره.
ثم قد ثبت أن النار دركات، فأكثر ما في ذلك أن النار المعدَّة للكافر ليست للفاسق.
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
إن قيل: ما الفرق بين
854
الطول والعرض؟ وهل هما على تقديرك ووضعك كالصعود
والحدور، أم هما شيئان مختلفان بالذات؟ وذاك أن الطول
والعرض من خواص الجسم، فالطول معتبر بالجانب الذي منه
ينشأ وإليه ينشأ. والعرض بالجانبين الآخرين، وذلكْ متصور في
الحائط والثوب والبيت، وقد يقال ذلك باعتبار الوضع في أشياء
كثيرة، وقد وقع شبهة على من لم يتمهر في المعقولات، ولم
يتجاوز منزل المحسوسات، وقال: إذا كانت الجنة في السماء
الرابعة على ما رُويَ في الخبر فكيف يكون عرضها عرض
السموات؛ فجاء قوم من اليهود إلى الرسول - ﷺ - فقالوا: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟
فأجابهم - ﷺ - فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل "؟،
855
وهذه معارضة تقنع العامة بما فيه المقنع، وتطلع الخاصة على ما
نبه عليه بقوله: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
وقد رُويَ عن ابن عباس: أن لله عوالم، هذا أحدها.
856
وقال أبو مسلم بن بحر: العرض هاهنا من قولهم: عرضت الشيء
بالشيء في البيع، وذلك قائم مقام المساواة.
والمعنى: لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمناً لها، وذلك
857
يفسده قوله في غير هذه الآية: (كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وقال بعضهم: هو من قولهم: فلان في جاه عريض، وفي سعة
ورحب، وقد يقال للكبير عريض، نحو: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ).
والمغفرة أصلها إزالة العقوبة، وإن كان قد يقال لها وللإِعطاء.
ولمّا أمَر تعالى بالاتقاء من النار، والاتقاء منها مقتضٍ
للمغفرة، وذلك منزلة التاركين للذنب، أمره في هذه الآية أن لا
يقتصر على التقوى من النار، التي هي مقتضية للمغفرة، بل
يتجاوز إلى طلب الجنة، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ).
858
قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
السّرّاء والضرّاء إشارة إلى حالي السعة والضيق، كاليسر
والعسر، وإلى حالي السرور والاغتمام، وقد فُسر بهما.
واللفظ يتناولهما، فإن السراء يقابلها الغم، والضراء يقابلها
النفع، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ليدل كل واحد على
مقابله، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة، فمن نظر إلى معنى
السراء قال السرور والغم، ومن نظر إلى معنى الضراء قال النفع
والضر، ولما كان الناس في الإِنفاق أربعة أضرب:
ضرب لا ينفق في حالي السّعة والضيق، وهو اللئيم على الإطلاق.
وضرب ينفق في حالي الضيق دون السعة، كما قال الشاعر:
وكان غنيَّ النفس في حال فقره... فصار فقيراً في الغنى خيفة الفقر
859
وضرب ينفق في السعة دون الضيق، وهو من وجه جبان يخاف
الفقر، ومن وَجه حازم يأخد بالوثيقة في أمور الدنيا، وضرب ينفق في
الحالين، وذلك أحد رجلين: إما متهورَ لا يتفكر في العواقب، ولا
يُبالي من أين يأخذ وأين يضع، وذلك هو الموصوفِ بأنه من إخوان
الشياطين، وإما واثق بكفاية الله ينفق ما يحصل في يده اعتماداً على
خزائن ربه، لكن لا يتناول إلا من حيث ما يجب وكما يجب، ولا يضع
إلا كذلك، وهو الذي يتناول كل آية مُدحَ فيها المنفقون.
وكظم الغيظ: هو الحلم، فقد قيل: الحلم: كظم الغيظ، وهو والعفو
منزلتان شريفتان، ولهذا قال - ﷺ -: "من كظم الغيظ وهو يقدر أن ينفذه خيَّره الله في أي الحور شاء".
860
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، وقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقال - ﷺ -:
"ينادي يوم القيامة مناد: من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس "، ثم تلا هذه الآية.
والفرق بين الحلم والعفو، أن الحلم راجع إلى حال
الإِنسان في نفسه، والعفو إلى ما بينه وبين غيره، وإن كان قلما
ينفك أحدهما عن الآخر، ووجه الآية أن الله حث في الآية الأولى
861
على طلب الجنة المعدة للمتقين، ثم بيَّن حالهم وأفعالهم، فذكر
ما دلّ على جماع مكارم الأخلاق، وهو السخاء في حالي السرّاء
والضراء والحلم والعفو، وذلك أشرف ضربي الشرع، وذاك أن الشرع
ضربان: أحكام ومكارم، ولن يستكمل الإِنسان مكارمه إلا بعد أن
يستكمل أحكامه، فإن تحرِّي أحكام الشرع من باب العدل، وتحرّي
العدالة فرض، ومكارمه من باب الإِحسان، أي التفضل، وتحرِّي
التفضل نفل، ولا تقبل نافلة من أهمل الفرض، ولا يفضل من
ترك العدل، بل لا يصح تعاطي التفضل إلا بعد العدل، فإن العدل
فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف تصح الزيادة
على الشيء الذي هو غير حاصل في ذاته، وبيَّن تعالى أن من تخصص
بمكارم الشرع فهو محسن، والله يحب المحسنين، وإحسان العبد ومحبته
الله إياه هو أن يُرى متخصصاً بعامة أوصاف الله على غاية وسع
862
البشر، فيصدق عليه أن يقال: هو جواد وكريم وحليم، وودود
إلى سائر ما يصح أن يوصف به أولياء الله.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)
الفاحشة: ما تناه قبحه مما يدرك بالبصر أو بالبصيرة، ولكونها
مستعملة فيهما قيل: فلان فاحش الطول. اعتبارا باستقباح
البصر إياه، وقيل للزنى والبخل المتناهي: فاحشة. اعتباراً
باستقباح البصيرة إياهما، ويقال: فلان ظلم نفسه. على ثلاثة أوجه:
863
أحدها: إذا جنى على نفسه جناية لا يتخطاها.
والثاني: إذا ظلم ذويه الذين هم بمنزلة نفسه.
وعلى نحو ذلك قال الشاعر فيمن ظلم ذويه:
وما كنت إلا مثل قاطع كفِّه... بكفٍّ له أخري فأصبح أجذما
وعلى هذا الوجه قد يُقال ذلك فيمن ظلم واحدا من كافة الناس.
إذا كان الناس كنفس واحدة وآحادهم كأعضائها.
والثالث: أن ظلم الإِنسان غيره لما كان وباله راجعاً إليه.
يقال فيمن ظلم غيره:
قد ظلم نفسه، وعامة ما ذكر تعالى: ظلموا أنفسهم.
ذكره مقرونا بنفي ظلمه تعالى إياهم، نحو: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وقد ذكر حيث نهى
عن ظلم الغير تنبيهاً على المعنى المتقدم، نحو قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)
864
والإِصرار: الإِقامة على القبيح. مأخوذ - من الصّرار
والصُّرَّة، كأن المصر على الذنب جعل ذنبه مصروراً على نفسه.
أي معقودا لا يجد سبيلًا إلى حله.
وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في موضع الحال، أي لم يكن منهم إصراراً مع العلم، واشتراط العلم أنه قد يُعذر الإِنسان مع الجهل في ارتكابه بعض المآثم.
كمن تزوج أخته من الرضاعة وهو لا يعلم ذلك، وهذه الآية
مع الأولى مشكلة، يقال: هل قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا) صفة للمتقين
كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أم استئناف حكم؟ ولم أُعيدَ
ذكر الجنة منكّراً مقروناً بوصف آخر؟ ووجه ذلك أن الله تعالى
865
لما أمر الناس بتقواه وتقوى ناره أولاً، وأمرهم بالمسارعة إلى
المنزلتين أولا: إلى طلب المغفرة التي يستحقها المتقي من النار، ثمِ
إلى الجنة العريضة التي يستحقها المتقي من الله، ذكر بقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) حال المتقين لله، المستحقين لتلك الجنة.
وقال: هم الذين تجاوزوا تعاطي أحكام الشرع إلى تعاطي
مكارمه، والذين اقتدوا بالله على غاية جهدهم في اكتساب
صفاته، ثم ذكر حال المستغفرين لوقوع فاحشة منهم أو
ظلم، وبين أن لهم جنات أدون من تلك الجنة، فقال: الذين إذا
أخلوا بشيء من الواجبات ذكروا الله فأقلعوا، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)
866
ولم يستمروا على فعل الشر، ثم قال: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) على سبيل الاعتراض بينه وبين تمام الكلام؟
تنبيها أن الإِنسان لا يجب أن يلتجئ إلا إلى الله، وبين أنه
من فعل ذلك لم يقتصر تعالى معه على ترك الذنب عليه، بل
يجعل له جنات، وجعل هذه الجنات على أوصاف يتصورها
الوهم، ويدرك مثلها الحس، وجعل للفرقة الأولى جنة لا
يتصورها الوهم، ولا يحيط بها الحسّ، فإن جنّة عرضها
السموات والأرض مع كونها في السماء إشارة إلى ما قاله - ﷺ -:
"ما لا عين رأت "، وذلك مما لا يتصوّره الوهم، ولا كانت
الفرقة الأولى عاملت أنفسهم وعباد الله بضرب عامل الله به عباد الله
وهو الجود والحلم والعفو، سماهم هو تعالى بما استحقه، وهو
المحسن، وقابلهم بمقابلةٍ يطلبها هو من العباد أن يقابلوه بها.
وهي المحبة، فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
والفرقة الثانية: عاملت أنفسها وعباد الله بما لا يصح أن يوصف الله به.
بل يوصف به العبد المتدارك لتقصيره، جعلهم من العَمَلة
867
المستحقة للأجر، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة
الأولى فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وهو أعم الأسماء
وأخصها به، تنبيها أنهم يراعونه بالإِلهية، وسمى نفسه
حيث ذكر مقابلة الفرقة الثانية ربهم، تنبيهاً أنهم يراعونه
بالنعمة الواصلة إليهم، التي هي سبب تربيتهم، وعلم أن
منزلة الفرقة الأولى منزلة الشاكرين الموصوفين بقوله:
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، ومنزلة الفرقة الثانية منزلة
الصابرين الموصوفين بقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فذكر في الشاكرين المجازاة الجارية بين الأحباء، وذكر في الصابرين الأجرة كفاءَ ما يجعل للأجراء، وإن كان قد جعلها بلا حساب، وشتّان ما بين الأجير والحبيب، وهذه من المواضع التي لم أر من تحرى مذهب
التحقيق، واشتغل به مع صعوبته، غير أن ابن بحر لما انتهى
إلى قوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ)، قال: إن المغفرة المذكورة
868
هي المذكورة في قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
وكذلك الجنات هي الجنة التي عرضها السموات، وإن ذلك أجرتهم بتلك الأفعال، وهو مع أنه لم يتدبر التفصيل واختلاف المجازين والجزائين وأوصافها لم يتفكر في أن الفكرة إذا أُعيد ذكرها تُعاد معرفة، ، وإلا كان الثاني غير الأول، فلو كانت المغفرة والجنات هي التي تقدم ذكرها لقال المغفرة والجنات.
قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
الخلاء: المكان الذي لا ساتر فيه، من بنية وغيرها، وقد يقال للمكان الذي لا ساكن فيه، وخليته تركته في خلاء، ثم يقال لكل تَرْكٍ: تخلية حتى
قيل: ناقة خلية: مخلاة عن الحلب، وامرأة خلية مخلاة عن
الزوج، وسميت السفينة المتروكة تمر بذاتها خلية، وزمان خالٍ
أي ماض، كأنه خلا عما كان فيه، وأصل السُّنّة من السنيّ أي
869
صب الماء على وجه الأرض، وعلى التشبيه به قيل: سننت
الدرع، ووجه مسنون، والسنّة: الطريقة المجعولة للاقتداء
بها محسوسة كانت أو معقولة، وعُنِي بالسنة هاهنا ما كان من
القرون الأولى، أخيارهم وأشرارهم، وما كان في مقابلتهم
870
منه تعالى ومجازاته إياهم إن خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشرًّا في الدنيا
تارة وفي الآخرة تارة، على ما بينه تعالى بكلامه، وشُوهد من
أحكامه، فنبهنا على اعتبار ما جرى به سننه، وأمرنا بالسير في
الأرض والنظر إليه، ولم يعن بالسير السعي بالأرجل، ولا
بالنظر نظر العين، فذلك غير مغنٍ بانفراده في معرفة سنة الله في
الذين خلوا، وإنما عنى إجالة الخاطر فيها، والنظر بالبصيرة
للمتحرين للحكم، والمنبهين على العبر، وعلى هذا قوله:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقد
871
حمل بعض الصوفية قوله - ﷺ - "سافروا تغنموا" على هذا.
قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
جعل تعالى القرآن بياناً للعامة والخاصة، فلهذا قال للناس لأنه
ما من ذي فكرة استمع إليه إلا حصل منه بيان ما، وجعله هدى
وموعظة للمتقين خاصة، وقد تقدم الكلام في تخصيصه هدى
لهم في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فالفرق بين الهدى والموعظة:
أن الهدى يقال باعتبار معرفة الشريعة وسلوك طرقها إلى ثواب
الله تعالى، والوعظ يقال باعتبار معرفة الثواب والعقاب، إن
قيل: أيراد بذلك أنهم يهتدون ويتعظون، أم انهم يهدون ويعظون؟
قيل: يحتمل الوجهين، ويضحّ حمله عليهما، فهم
في الحقيقة يهتدون به ويتعظون، ويهدون به غيرهم ويعظون.
قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
الوَهن والوهْي يتقاربان، لكن الوهْن ضعف، والوهْي يقال فيه وفي التخرق، فهو أعم.
والحزن: ألم موجع للنفس من فوت مطلوب أو فقد محبوب.
إن قيل: كيف أُمِرَ
873
الإِنسان بأن لا يهن ولا يحزن، وليس ذلك باختياره، بل هو شيء
يعرض له بالاضطرار؟
قيل: النهي في الحقيقة متوجه إلى تعاطي فعل ما يورث ذلك، وإن كان في اللفظ متناولا للحزن والوهن، وذلك أن الحزن يعرض بأن لا يستشعر الإِنسان ما عليه جُبلت الدنيا.
ولا يعرف أن أموالنا وأبداننا عارية مستردَّة، ولا يحتمل صغار
المكاره، فيتوصل بها إلى احتمال ما هو أعظم منها، وعلى هذا
قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
وقوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): قيل: عنى في الاستقبال إشارة إلى
نحو قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فيكون هذا وعداً لهم،
874
وقيل: أراد في الحال فإنهم الأعلون بالحجة ورجاء المعفرة.
إشارة إلى نحو قوله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ومثله: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى).
وسبب نزول ذلك، قيل: هو أن النبي - ﷺ -
أمر بطلب القوم بعد يوم أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهدنا
بالأمس "، فاشتد على المسلمين، وقالوا: فينا جرحى، فأنزل الله
تعالى ذلك، ونبَّه بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن من شرط
875
الإِيمان رفض الوهن والحزن وأنتم مؤمنون، فواجب أن لا تهنوا
ولا تحزنوا سيما والعلو لكم.
قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
الفرق بين المسّ واللمس:
أن اللمس أخص، فإنه بالحاسة، والمس به وبغيره، وهو ههنا
876
عبارة عن الإِصابة والقرح أعم من الجرح، فإن الجرح إصابة
الجارحة في الأصل، والقرح يقال له ولما يحدث من ذاته، نحو
قَرِحَ البعير إذا خرجِ به قَرْحَة، وهي شِبه جرب.
والقرح مصدر ثم يسمى المقروح قرِحا.
والقُرْح الاسم، وقال بعض أهل اللغة: القَرْح: الجراحة.
والقُرْح: ألمها.
والدول والدور يتقاربان، لكن الدور أعم، فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي،
877
وكذلك الجد، ولهذا قيل: "لا ينفع ذا الجدَ منك الجد"
أي الحظوظ الدنيوية غير نافعة في القيامة، ، نحو: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)، وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) قيل ليعرف، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد.
وقيل: إن مفعوله الثاني محذوف ومتى قيل في الله: إنه علم كذا أو لم يعلمه، فليس القصد إلى إثبات علمه أو نفيه.
وإنما القصد إلى إثبات ذلك الشيء أو نفيه، وإذا استعمل في غيره
878
فإنه يقال على الوجهين، وأما الشهداء فقد قيل: هم المذكورون
في قوله (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
وقال الحسن وقتادة: عنى بها المقتولين في الحرب، وسُمُّوا بذلك لقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) الآية،
879
لما جعلهم أحياء عند ربهم سُموا شهداء، وأصل ذلك أن غاية ما
يستحقه الإِنسان في الآخرة القرب من الله، وكونه عنده، ولما
وعد الله القتيل في سبيله بذلك سُمي شهيداً، ونبَّه تعالى بالآية أنه
غير إنصاف لمن ساوى العدو في المغالبة الدنيوية أن يحزن، فكيف
بمن كان غالباً، وبين بقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) أن
من حق العاقل أن لا يبالي بما يفوته مالاً كان أو جاهاً أو قهراً.
فإن الله جعل بِنْيَةَ الدنيا على أن تكون أعراضها دولاً بين أخيارهم
وأشرارهم، وليصبر الأخيار فيما يصيبهم من المحن، ويشكروا
ما ينيلهم من المنح، فيصلوا بذلك إلى ثوابه، وعلى ذلك
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)
إن قيل: هل يصح أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين؟
قيل: يجوز ذلك إذا كانت الدولة من الحظوظ الدنيوية، التي قد يُعطى الكافر منها أكثر مما يُعطى المؤمنون، قال قتادة: ولولا الدولة ما أوذي المؤمنون،
880
لكن قد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليتميز
المطيع من العاصي، وقد حكم تعالى في كل ذلك أن الغلبة
للمؤمنين في الحقيقة بقوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
وفي قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، تنبيه أنه لا ينصر الكافرين
في الحقيقة، وإن تصور بعض الناس ما يعطيهم في بعض
الأحوال نصرة منه، تنبيه أنه لا يظلم، فمحال أنه مع حكمه بأنه
لا يحب الظالمين يفعل فعلهم.
قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)
المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء من
881
خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به.
قال الخليل: التمحيص: التخليص، عن العبث، يقال:
محِّص عنا ذنوبنا، والمحق هو إبطال الشيء حالا فحالا.
882
والقصد بتمحيص المؤمن ما ذكره في قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
وقوله: (وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) وعلى معنى المحص ما ورد من لفظ
الفتنة والابتلاء، والقصد بمعني الآية أن المؤمن والفاسق كسبيكتي
ذهب: إبريز كَلف، وبهرج من خزف إذا فتِنَا خلص
الإِبريز، وانمحق البهرج، فكما أن السبك سبب لاختيار الإِبريز
وإعداده في خاصّ الخزانة، وسبب لاجتواء البهرج وطرحه
بالمبعد، كذا التكليف سبب لاصطفاء المؤمن لكريم جوارِه، وطرد
الكافر إلى حرق ناره، كما قال في المؤمنين. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)، وقال في الكافرين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).
883
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
معنى أم حسبتم: لا تحسبوا، واستعارة الاستفهام للنهي، مبالغة في المعنى،
884
و (أَمْ): على وجهين: معادلة للألف، ولاستئناف استفهام، ويُفسر ببل، ومن النحويين من قال: لا تنفك من أن تكون تابعاً للألف.
إما ملفوظاً به أو مقدراً، وقال: وتقدير الكلام ههنا لما ذكر قوله:
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أعلمتم ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ).
وقد تقدم أن كل موضع نُفي فيه علم الله فإنما هو نفي
لما يتعلق به، ويدل على صحة ذلك قولهم: ما علمت أحداً
885
يخرج إلا زيدٌ، فجاز الرفع في زيد لما كان معناه ما يخرج أحد فيما
علمت إلا زيد، وأما قوله: (وَيعْلَمَ) فمنصوب على الصرف،
886
وقد قُرئ (وَيَعْلَمْ الصَّابِرِينَ) بالجزم، والفرق بين العطف
والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين
مجتمعين كانا أو مفترقين، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين
معاً، ونفيهما معا، على ذلك قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله...
معناه لا تجمع بين الأمرين معاً، ويحتمل أن يكون (وَيَعلَمَ)
887
معطوفاً على قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، وذاك أنه لما ضمن
للصابرين دخول الجنة في غير موضع، بين ههنا أن لا يدخلوها
محكوماً لهم بالصبر، ولما يجاهدوا، إذ كان الصبر لا يثبت إلا
بمجاهدة النفس، ولم يعن بالمجاهدة الجهاد في حرب الكفار
فقط، بل أراد ذلك ومجاهدة الشيطان والنفس المدلول عليها
بقوله - ﷺ - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ونحو هذه الآية قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ).
قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
سبب نزولها أن قوماً لم يحضروا بدراً كانوا يقولون: ليت لنا يوماً مثله، حتى نجاهد.
888
وقيل: سببه أن قوماً سألوا النبي - ﷺ - أن يأذن لهم أن يأتوا المشركين في رحالهم ويقاتلوهم، فقال - ﷺ -:
"لم أؤمر بذلك ".
والموت عبارة عن الحرب، كقول الشاعر:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
وأراد أنكم تمنيتم الحرب فلِمَ تحيّرتم؟ والنظر يكنى به عن
التحيرّ، نحو:
889
والموت خزْيان ينظر
وقيل: وأنتم تنظرون إلى النبي - ﷺ - لكونه بين أظهركم، وذلك تبكيت لهم، وقول النحويين: أراد بالموت سببه، فحذف
المضاف، فقريب، وقول أبي علي الجبائي: إنه لا يجوز أن
890
يتمنّوا قتل المشركين لهم، "فإن قتل المشركين لهم كفر بالله، ولا
يجوز للمؤمن أن يتمنّى الكفر بالله، وإنما تمنّوا الموت الذي هو
فعل الله في الحال، التي يكون فيها أبعد من العاصي، فهذا تحَيُّل
لمراد القوم إنما تمنوا حرباً ليبلوا فيها بلاءً حسناً.
قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
رُوي أنه لما كان يوم أحد نادى منادٍ: قُتِلَ محُمّد، فقال قوم: علام نقاتل وقد قُتِلَ رسول الله؟! فأنزل الله ذلك.
والإِشارة بالمعنى إلى ما قال أبو بكر لما مات النبي - ﷺ - من كان يعبد محمداً فإنه قد مات، ومن كان
يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها القوم إن الله قد نعى إليكم
نبيكم " ثم تلا الآية، ولفظ الاستخبار يتناول: (انْقَلَبْتُمْ).
وقوله: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) تعريض بهم بأنهم يضرون أنفسهم.
إن قيل: كيفْ تعلق قوله: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) بما قبله؟
قيل: إن ذلك قضية حُذِفَ بعضُها، تقديرها: ومن أحسن يجزه الله.
فإنه سيجزي الشاكرين.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥).
892
اللام في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ) على سبيل نسبة الانفعال إلى المنفعل، كقولك: الموت للنفس والنسج للثوب، ولما توهَّم المنافقون أن القتل غير
الموت، وأن الإِنسان سيجد سبيلًا إلى الخلاص منه، ولم يتصوروا
تقدير الله وأن ذلك مقضي لا انفكاك منه، حتى قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، بين تعالى أن الموت شيء مقضي محكوم به، وهذا
معنى (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، فلا تأخير له، ودل على ذلك بآيات الله.
نحو قوله تعالى: (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)
وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)
893
وقوله في هذه السورة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
وعلى ذلك قول الشاعر:
... أن الفرار لا يزيد في الأجل
ولما كان أكثر الأعمال مشتبه الصور، وإنما يتميز الخبيث من
الطيب بالنيات، ولهذا قال - ﷺ -: "الأعمال بالنيَّات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " الخبر.
والمجاهد في سبيل الله ثلاثة:
إما قاصد به الآخرة غير ملتفت إلى الدنيا،
894
وإما قاصد عرضا دنيويًّا مراعيا فيه حكم النّه على ما ورد الأمر في
قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
وإما قاصد عرضاً دنيويَّا غير مراع فيه حكم الله على ما دل عليه قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) فُسِّر على الوجهين:
أحدهما: أن لفظ الثواب ههنا على التوسع، وإنما هو على نحو الحرث في
قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)
ويكون المعنى على نحو ما بينه في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
والثاني: أن الثواب هو الذي يحصُل للإِنسان ولا يلحقه فيه تبعة.
فالمراد به ما ذكره في قوله:
895
(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وقوله - ﷺ -:
"من طلب الدنيا استعفافاً عن المسألة، وسعياً على أهله، بعثه الله ووجهه كالقمر ".
وقو له: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) قد تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦).
كأين: بمعنى كم، وأصله أي دخله الكاف، والنون في
896
آخره هو التنوين، قيل: وإذا وقف يقال كأيْ على قول من قال
مررت بزيدْ، وكأيى على قول من قال بزيدي، وقال بعض
النحويين: يجوز أن يُقال كأيِّن في الوقف، لأنه لمّا تركبا صار التنوين.
كحرفٍ من الكلمة، كقولهم: رعملي ولعمري.
والرِّبيّ: قيل: التقيِّ العالم المنسوب إلى الربّ، وكذلك الرّباني وغُيِّرَ في النسبة كقولهم في أمس إمْسِيٌّ، وفي الجُمَّةِ جُمّانيّ، وقيل الرِّبيّون
الجماعات الكثيرة، ومنه قيل للجماعة رِبَّة، ولما يجمع فيه القِداح
رِباية، والفرق بين الوهن والضعف: أن الوهن إخلال يغير
897
الإِنسان، ويضادّه الشّدة، والضعف أختلال بنقصه ويُضادّه
القوى، والاستكانة: الخشوعُ والتضرعُ للمخافة.
وقيل: قُتِل هو فعل مسند إلى قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)، " و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)، استئناف في موضع الحال، كأنه قُتل ومعه.
وقال الحسن: ما قُتل نبي قط في حرب.
وقال بعضهم ما قال الحسن؛
898
وإن صح فإنّه لا ينفي أنه قُتل في غير حرب.
وقيل: إن قوله: (قُتل) فعل لقوله (ربيون) أي قُتِل جماعة منهم، فلم يهن الباقون منهم، ومن قرأ: (قَاتَلَ) فيحتمل الوجهين.
وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
فقد جعلهم محبوبيه تعظيماً لقدرهم، وإلى معنى المحبة أشار بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).
وقال - ﷺ -: "الصبر خير كله ".
وقال: " الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد".
899
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧)
الفرق بين الدْنب والإسراف من وجهين:
أحدهما: أن الإسراف نجاوز الحد فى فعل ما يجب، والذنبُ عام فيه وفي التقصير، فإذاً كل إسراف ذنب، وليس كل ذنب إسرافاً.
والثاني: أن حقيقة الذنب: التقصير وترك الأمر حتى يفوت، ثم يؤخذ بالذنب. والذنب إذن في الأصل مقابل الإِسراف، وكلاهما مذمومان، أحدهما: من جهة التفريط. والآخر: من جهة الإِفراط.
900
والمحمود هو العدالة، والقصد المنفك منهما، وثباتَ القدم في الأمر
اللزوم، وعلى هذا قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، وكيفيّة
تثبيت الأقدام، قيل بإلطاف من جهته، وقيل بإنزال الملائكة
عليهم، وذلك عام في كل نصرةٍ ينصر الله بها عبده من قوة نفسه.
ومما يعينه من خارج.
وقيل: أشار بذلك إلى سؤال الصيانة عما يحبط ما تقدم من الأعمال.
وهذا السؤال نحو ما رُوي
901
عن النبي - ﷺ -: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ".
والآية هى من جملة الحكاية عن الرِّبيين، وتحقيقٌ لما قال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية، وحثٌّ على الاقتداء بمن
تقدّم في أحوالهم التي وصفوا بها، وهذه الجملة من التضرّع إلى
الله وهو جِماع سؤال الخيرات، فقد سألوا الله العفو عنهم فيما
كان منهم من إفراطٍ وتفريط، والحراسة في أنفسهم ونصرهم
على أعدائهم.
قوله تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨).
ذكر في ثواب الآخرة الحُسن تنبيها أن ثواب الدنيا بالإِضافة إليها غير
مُستحسنٍ لانقطاعه، ونبّه بالآية أنّ من أراد ثوابَ الدنيا
902
لم يحصل له ثواب الآخرة، وأنّ من أراد الآخرة حصلت له الدنيا
والآخرة معا، وعلى هذا قال - ﷺ -: "من كانت همّته للدنيا شتت الله عليه أمره، وجعل فقره بين عَينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتِبَ له، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"
وهذا المعنى الذي اقتضاه الخبر ذكره
903
ابن الرومي في قوله:
وتاجر الأجر لا يزال له... أمران كل متجرٍ تجره
أجر وحمد وإنما قصد الـ... أجر ولكن كلاهما اعتوره
وسئل سفيان بن عيينة: هل يُعطى المسلم ثواب عمله في
الدنيا؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
وقوله في قصة يوسف: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ...) الآية، تْم
904
قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا...) الآية.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩).
هذا هو المعنى المذكور في قوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ)، لكنه لما ذكر هناك باللفظ العام وهو أهل الكتاب الواقع على مؤمنهم وكافرهم خصَّ فريقاً منهم.
فإن قيل: لم غيّر العبارتين؟ ولم كرر ذلك؟
قيل: إنه عرّض في الأول بالنهي، فلما بيّن أحوال المنهيّ عن
طاعتهم، ونبّه على فساد طريقتهم وإرادتهم الشر بالمسلمين أعاد
النهي عن طاعتهم مصرِّحًا، وهذه الطريقة يسلكها الوعظة
المهرة، فنهي الإِنسان عما يهواه إذا لم يعرف قبحه إغراء بفعله،
فحقٌّ للواعظ أن يتوصل أولاً إلى كشف قبحه، وما يعرض فيه
من الفساد، ثم يصرحُ بتحريمه، والنفي عنه.
وقول الحسن: إنه عنى بالذين كفروا: اليهود والنصارى.
وقول السدّي: إنه أراد المشركين أبا سفيان وأصحابه، فكلاهما صحيح.
فاللفظ عام، ومطاوعتهما ترد على الأعقاب وتورث الخسران.
قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
لما تقرر في العقول: أن المولى يَعُزُّ بحسب عِزَّة مواليه.
وتقرر عند المسلمين أن الله هو العزيز في الحقيقة، وأن كل
عزيز فمنه وبه يَعزُّ، وقد كان نهاهم في الآية المتقدمة عن
موالاة الكفار، والدخول تحت طاعتهم بيّن، أن من
كان، الله مولاه فهو غني عنهم فهو خير مولى وناصر.
وهذا المعنى قد نبه تعالى عليه في مواضع بألفاظ كثيرة، نحو (نِعْمَ الْمَوْلَى)، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي لفظة بل تلطف وتنبيه أن من المحال أن يكون من تخصص
بموالاة الله، وعرف أن العزَّ منه أن يعتمد غيره أو يقصد سواه.
قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
الرعب: استرخاء القوى وتقطُعُها من الخوف، ومنه:
907
جارية رعبوبة، ورعبت السنام قطعته، وبهذا النظر
قالوا: تقطَّع نياط قلبه، وانخلع قلبه، وتوزَع خاطره.
والسلطان: الحجة، وقد تقدم.
والمثوى: إطالة الملازمة.
وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا) أي إشراكهم،
908
وقوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بدل من ما الأولى، لكن بمعنى
المصدر، إذ لا ضمير يرجع إليه، والثاني بمعنى الذي، إذ
فيما بعده ضمير، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر.
أو على تقدير: أعني شيئا لم ينزل به سلطانا.
والمعنى لا يختلف، ونبّه أنه لم يجعل لهم حجة فيما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ولقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، ولظهور حكمه، وما شوهد
909
من صدقه. قال - عز وجل -: "نُصرتُ بالرُّعبِ ".
وتصديق ذلك قد شوهد، فقد كان الصناديد يقصدونه عليه السلام لمكاوحته أو الاغتيال عليه، فما كانوا إلا أن يُمكِّنوا أبصارهم منه فيذلوا.
ولمشاهدة الحالة قال فيه الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة... كانت بداهته تُغنيك عن خبر
وهذا أحد دلائل للنبوات التي يعتمدها من عرف الحقائق.
وليس هذا الرعب للنبي - ﷺ - فقط، بل لأحزابه والمقتدين به، حتى نرى من رجح عقله وحسن في قمع الشهوة حاله مهيب.
وجعل جهنم مثوى مذموما بالإِضافة إلى الطباع، واعتبارها
بكراهتها لها،
910
وعلى ذلك قوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢).
الحسُّ: يُقال للإِصابة بالحاسّة نحو عِنْتُه ويَدَيْتُه، أي أصبته بهما.
ويُقال تارة لإِصابة الحاسّ نحو بطنته وظهرته، أي أصبتهما.
ولمّا كان إصابة الحاسّة قد يتولد منه فقد الروح استُعير للقتل،
911
وإذنه هاهنا يصح أن يكون أمره، وأن يكون تسهيله وتوفيقه.
والفشل: ضعف النجيزة، وذلك يكون عن الحرب، وعن
السخاء، بل عن تحمل المضض، وجعل تعالى ميلهم إلى
الغنيمة فشلًا، فإن الحرص والبخل من فشل النجيزة، وسبب
نزول هذه الآية فيما رُوِيَ أن النبي - ﷺ - كان قد وعد المؤمنين بقهر الكفار يوم أحد، ولما صفّ الصفوف جعل أُحُداً خلف ظهره.
واستقبل المدينة، وجعل عَيْنَينَ وهو جبل عن يساره، ورتب
912
عليه رماة خمسين، واستعمل غليهم عبد الله بن جبير، وأوعز
إليهم أن قوموا في مصافكم، فإن رأيتمونا وقد غنمنا فلا تشاركونا.
وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، فلما رأوا الكفار يهزمون.
اختلفوا فبادر بعضٌ إلى المعركة، ونظر خالد بن الوليد إلى
الجبل وكان كمينًا للمشركين، فكَرَّ بالخيل، فقتل من بقي من
الرماة، وانتقضت صفوف المسلمين حتى كان ما كان، فقال
913
قوم: إن الله قد وعدنا نصرنا، فتغيّرت قلوبهم، فبيّن تعالى أنه
قد صدقكم وعده، وأخذتم تقتلونهم إلى أن اعتراكم الفشل.
ووقع بينكم تنازع، فصرفكم عنهم.
وقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) قيل: الغنيمة.
(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي نصرة النبي في ترك
المكان والمبادرة إلى القتال.
914
وقيل: بل عنى بمن يريد الآخرة من أقام حافظاً لما استُحفظ.
وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قيل: صرفهم إنما كان.
بمنع النُّصُرة وترك إنزال الملائكة عليهم والسكينة، وبإخراج
ما في قلوب الذين كفروا من الرعب، فبيّن أن لم يكن صَرفكم
عنهم خذلاناً لكم، بل كان مؤاخذة لميلكم إلى الدنيا وابتلاءً
لكم، كما بينه بقوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)
915
وذكر أنه عفا عما كان منهم من مخالفتهم النبي - ﷺ -.
وإخلالهم بالمركز، قال الحسن: عفا عنهم، إذ لم يستأصلهم.
فقد قتل منهم من قتل، وكسر رباعيّة الرسول - ﷺ -، وقيل: (عَفَا عَنْكُمْ) حيث عاقبكم في عاجل الدنيا، وأفضل
عليكم بذلك لكونه موعظة لكم في معاودة مثله)، ثم بيّن أن
916
الله ذو فضل في عفوه عنكم في انهزأمكم وفي صرفكم عنهم، الذي
صار سببا لتهذيبكم وتمحيصكم، وسبباً لأن تصيروا مجاهدين
في المستقبل، فيعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، فكل
ما هو سبب خير وإن كُره ففضل.
واختُلفَ في جواب (إِذَا) فقال الفرّاء: تقديره تنازعتم.
والواو مقحمة، قال: وذلك يكثر مع إذا نحو (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ) أي: فتحت.
وقوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ) أي ناديناه.
وقال ابن بحر:
ثم صرفكم جواب، وتقديره صرفك، وقال: ودخل (ثُمَّ)
917
في الكلام، لأنه في المعنى مثل: إذا، وكأنه رد لفظ إذا لما طال
الكلام، كقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم قال:
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فأعاد لمَّا لمَّا طال.
فكذلك القول في (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) وهذا القول أستطرفه.
فإني أراه تصور ثُمَّ بمعنى ثَمَّ على التقدير الذي ذكره.
وقال البصريون: جوابه في هذه الأمكنة كلها محذوف.
قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)
إذ: متعلق بقوله: (عَفَا) وبقوله: (ذُو فَضْلٍ).
والإصعاد: الإِبعاد في الأرض، سواء كان
918
في صعودٍ أو حدورٍ، وإن كان أصله من الصعود كقولهم:
تعال في أنْ صار في التعارف، قد يقال لغير معنى العلو.
والصعود: الذهاب في صعود. ولما روى قتادة والربيع: أن
919
من هرب من المؤمنين ذهبوا في الوادي.
وروى الحسن أنهم صعدوا في الجبل.
وقرئ (تُصْعِدُونَ) اعتباراً بالرواية الأولى
و (تَصعَدون) اعتباراً بالرواية الثانية، وإنمّا ذلك باعتبار علوِّ
الإِنسان في أمرٍ تحرَّاه، كقولك: أبعدت في كذا، وارتقيت في
كذا كل مرتقى، فكأنه قيل: إذ تبعدون في استشعار الخوف،
920
الاستمرار على الهزيمة.
وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) تعريض بهم في الهزيمة.
ونحوه تحرّاه حسان، بقوله.
ترك الأحبةَ أن يُقاتل دونهم... ونجا برأس طِمِرَّة وثّاب
921
وقرأ الحسن: (وَلَا تَلْوُونَ) من ولي.
وقال بعضهم: هو خطأ.
ووجهه أن ذلك تبكيت لهم، وأنهم لم يلو ما وُلُو بل أخلّوا.
وقوله: (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)، أي هو بين جماعة
المتأخرين منكم.
وروي أن رسول الله) مم كان يناديهم: "يا عباد الله ارجعوا".
إن قيل: كيف قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)،
922
والإِثابة تُقال في المحبوب دون المكروه؟!
قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك يستعمل في المكروه على أحد وجهين:
إمّا لأن الثواب في الأصل ما يرجع إلى الإِنسان من ثمرة فعله خيراً كان أو شرّاً، ولكن تعورف في الخير، فإذا استعمل في المكروه فعلى اعتبار الأصل.
والثاني: أن ذلك على الاستعارة، وضرب من التهكُّم
في كلامهم، كقوله:
... تحيه بينهم ضرب وجيع
923
وقال بعض المحققين. إنما ذكر لفظ الإثابة هاهنا في الغمّ، لأن
غمّهم وإن كان مكروهاً بالطبع فهو ثواب من الله من وجه، لأنه
كان سبب تهذيب نفوسهم، الذي بيّنه تعالى بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، وكل أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله بحيث
لا يقلقه فوت مطلوب وفقد محبوب فيا له من ثواب، ولهذا
قال حكيم: جماع الزهْادة في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)
فقوله: (غَمَّا) من المفسرين
924
من اعتبر الغمّين بالمسلمين وقال: أحدهما: ما وصل إلى قلوبهم من الفشل.
والثاني: الخوف. وقيل: أحدهما: مخالفتهم للنبي - ﷺ -.
والثاني: فوت الغنيمة.
وقيل: ما سمعوا من قتل النبي - ﷺ -
وقيل: إشراف أبي سفيان عليهم.
والوجه: أن كل
925
ذلك مراد، لأنه ليس يعني بذلك غمّين، بل غموماً كثيرة متتابعة
متوالية كقولهم: لبّيك وقوله: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ)
أي نعمه متوالية، ومنهم من اعتبر أحد الغمين بالمسلمين
926
والآخر بالكافرين. فقال: أنالوكم مثل ما أنلتموهم، تنبيهاً
على معنى قوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)
وقوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي عالم به يخبركم به، تنبيهاً
على ما قال: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
927
قرئ (تغشى) ردًّا على لفظ (أمنة)، و (يَغشى) إلى لفظ (نُعاسًا).
وقُرئ (كُلَّهُ) على الابتداء، و (كُلُّهُ) على التأكيد، وقيل: السبب في
نزولها أن يوم أحد تواعد المشركون بالرجوع، وكان المسلمون
928
متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى على المؤمنين أَمَنَةً فنام بعضهم.
ونفى عن المنافقين الأمنة، فسهروا منزعجين، فمن حمل
النوم على الحقيقة قال: جعل ذلك رأفةً بهم،
929
وتخصيص النعاس تنبيه على صيانتهم من الحالة المذمومة من
الامتلاء من النوم، ومنهم من جعله استعاوة لطمأنينة جأشهم.
وزوال خوفهم، وذلك لما ترى من حال المطمئن، ويوصف
المغموم بالسهر، ومنهم من تجاوز ذلك، وقال: إنّه لمّا ذكر في
الأول قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)
بيّن هاهنا أنه تعالى هذَّب طائفة من المؤمنين، حتى صارت نفوسهم آمنة مطمئنة تحت قضاء الله، وهذه حالة الرضى، فقد قيل: الرضى أن يكون العبد ساكنا تحت قضاء الله، مطمئناً عند كل وارد سَرَّ أم ساء، وهذه الحال ادعاها الشاعر صادقاً أو كاذباً في قوله:
930
فسرَّ ولم ابتهج... وساء ولم أشتكي
وقوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) تنبيه على
خبث أنفسهم، وأنها أمارة بالسوء، وذاك أن المنافق شرير.
والشرير لم تتهذب نفسه وأحواله من الغضب والشهوة والحرص
وسائر الرذائل، وكأن ما معه عدو يؤذيه، ولهذا لا يمكنه أن يخلو
بنفسه، لأنه لا يجد شاغلًا له، وكأنه خُلِّيَ مع أُسود وأساود.
وقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) تنبيه على جهلهم وعدم معرفتهم
بحكمة الله ونعمته في قهر الكفار للمسلمين في بعض الأحوال.
وأنها نعمة. وظنهم غير الحق: ظنُّهم أن النبي - ﷺ - لم يصدقهم، ويأسهم من نصرة الله تعالى.
وقوله: (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ظن
931
الكفار، أن هؤلاء المنافقين بعدُ في حيّز الكفار، وفي قِلَّةِ
معرفتهم الله بحكمة الله تعالى، وأنهم لا يعرفون الخير والنعمة
إلا المال والجاه والغلبة الدنيوية، فإذا فاتهم ذلك ساء ظنهم.
وقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ):
هل لنا طمع الغلبة، تنبيها أنهم استشعروا اليأس الذي يستشعره القوم
الكافرون، فأكذبهم الله تعالى، فقال: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
أي الغلبة الحقيقة له ولأوليائه، فإن حزب الله هم الغالبون.
وقيل: عنى بالأمر الاستئمار، أي لو شُووِرنا لأشرنا بترك هذا
المورد، فقال الله تعالى: (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي هو أعرف بالتدبير.
932
وقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
معناه لولا أنا أكرهنا لما خرجنا، وفصل بين الحكايتين
عنهم، أعني (هَل لنا) وقوله: (يَقُوُلون) بجملتين:
إحداهما: جواب لهم، وهي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ).
والثانية: تنبيه على ما في ضمائرهم، وهي قوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ).
ولمّا فصل بينهما أُعيد في الحكاية عنهم لفظ (يَقُولُونَ) لئلا تشتبه
الحكاية عنهم بما هو إخبار منه تعالى،
933
وقال بعض المعتزلة: عنى بقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
أنه كقوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) وهذا إن كان
كما قاله هذا القائل، فقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) تصديق لهم.
وقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)
تكذيب لهم، وأنه محالٌ - أن لا يُقتلوأ مع أن قتلهم بذلك المكان
جارٍ في قضائه وتقديره، وقد حُمِلَ ذلك على وجهين: إما أنّ من
فدر له القتل لو لم يخرج لأتاه القتل، وهو في مضجعه في داره،
934
والثاني: أنه لو كنتم أيها المؤمنون قعدتم في بيوتكم، ولم تخرجوا
للمحاربة لخرج من قُدِّر له القتل بسبب خفي إلى مضاجعهم في
الحرب أي مصارعهم فيُقتلون، تنبيهًا أن قضاء الله وتقديره
وعلمه لا يتغير، وأنه لا ينفع حذر من قدر، وإلى هذا أشار
الشاعر بقوله:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة... دعته إليها حاجةٌ فيطيرُ
وقال الأصمّ معناه: لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم، ولم
تخرجوا لبرز المسلمون الذين كتب عليهم أي أوجب أن يقاتلوا
محتسبين، ويكون هذا ثناء من الله تعالى على من استُشهد.
إن قيل: ما حقيقة الابتلاء والفصل بينه وبين المحص؟
935
قيل: الابتلاء في الأصل هو الاختبار، الذي يفصل به بين الخير والشر
فهو اسم الفعل مبدأ ونهاية، فمبدؤه الاختبار، ونهايته الفصل بين
الخير والشر إذا استُعمل في الله تعالى، فإنّه يُراد به النهاية دون
المبدأ، الذي هو التوصل إلى الفصل.
وأما التمحيص فإزالة ما قد انفصل من الخير عن الشرّ.
وكان المقصود به ما ذكره الله تعالى في قوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
936
إن قيل: على ماذا عطف قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ)؟ ولمَ كرّر الابتلاء بعد أن ذكره في قوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ؟ ولمَ علّق الأول بالذات كلها، والثاني
بما في الصدور؟ وما الفرق بين قوله: ما في الصدور، وبين قوله:
ما في القلوب، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟
قيل: أما ما عطف الابتلاء فعلى قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا)، وفصل
بينهما بما هو تسديد الكلام وإشباع للمعنى، وهذا جائز، وقد
تقدم الكلام في نحوه، ويجوز أن يتعلق بمضمرٍ دلَّ عليه ما
تقدم من قوله: (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)، وأما تكريره
وتعليق الأول بالذات والثاني بما في الصدور، فإن لله تعالى
تكليفين: الأحكام والمكارم كما تقدم، والأحكام قبل المكارم.
وجُلُها متعلِّق بالضمائر، وعملُ الجوارح فيها قليل، فحيث
937
ما أراد منهم الحكم وهو الثبات في الحرب والجد بالجوارح، علّق
الابتلاء بالجملة، وحيث ما قصد المكارم من إصلاح الضمير.
من نقض الحزن ورفض الذعر ذكر الصدر، وحينما ذكر الإِيمان
المحض ذكر القلب، وكل موضعٍ يذكر الله في القرآن العقل.
والإيمان، فإنه يخصُّ ذكر القلب، وإذا أراد ذلك وسائر
الفضائل والرذائل ذكر الصدور، وهذا إذا اعتُبر بالاستقراء
انكشف، نحو قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
وقوله: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقوله: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم).
وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ).
وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
وقوله: (فِي صُدُورِ النَّاسِ)، ولما كان التمحيص أخصَّ من الابتلاء
كما تقدم خصَّه بالقلب، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها
على بعض، فبإصلاح العمل يُتوصل إلى إصلاح ما في الصدور
938
من الشهوة والغضب، وبهما وبإصلاح ذلك يَتوصل إلى إصلاح ما
في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شك وريب، وذلك
ما يبلغه العبد، وبه يستحق اسم الخلافة لله المذكور في قوله:
(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، ثم قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة.
وخصَّ الصدور دون القلب إذ هي أعم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
939
قال السدّي: هو خاصّ في الذين انهزموا إلى المدينة.
وقال عمر وبه قال الربيع وقتادة: بل في الذين ولوا المشركين أدبارهم.
فيكون عامًّا فيمن أبعد ومن لم يبعد، وبيَّن أن الشيطان استزلهم
بخطيئة كانت منهم.
قال الزجاج: إنما أذكرهم خطايا سلفت لهم.
فكرهوا أن يُقتلوا قبل أن يتوبوا.
وقيل: بل كان منهم خطيئة صارت مسهلة لسبيل الشيطان إليهم.
فإن الإِنسان إذا حصّن ثغره بالعمل الصالح والعلم فقد سدَّ طريق الشيطان على
940
نفسه، ومتى أهمل ثغره سَهَل سبيل عدوه إليه، وجعل له ثلمة
يدخل منها عليه، وذلك بأن يُفسد إرادته، وبيّن أنه تعالى عفا
عنهم، وقيل: ذلك بحلمه عن تعجيل عقوبتهم.
وقيل: بل بالغفران عنهم عاجلاً وآجلاً، وهو الصحيح، لأنه جعل
علة عفوه الأمرين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦).
٤١)
٥١)
ثُلمة: الملْمة با لضم ": فرجة المكسور والمهدوم. القاموس ص (١٤٥٢).
لْصحفت في الأصل إلى (بحمله) والصواب ما أثبته.
ذكره ابن عطية عن ابن جريج. انظر: المحرر الوجيز (٣ ٢٧٤).
واختاره السمرقندي في بحر العلوم (١ ٣١٠).
قال أبو حيان: "ألجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في
الدنيا والاخرة ٠٠. (إ تً أفَهَ غَفور زَصِير) أي غفور الذنوب.
حليم لا يعاجل بالعقوبة، وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن
هؤلاء الذين تولوا يوم أحد... " البحر المحيط (٣ ٩٩) وانظر: جامع
البيان (٧ ٣٢٧)، والمحرر الوجيز (٣ ٢٧٤)، وتفسير القرآن العظيم
لابن كثير (١ ٣٩٥).
سورة آل عمران، الإية: ١٥٦. ونصُّها: (يايخا اَلًذِينَءَامَنُوا لَا تَ) ولؤُا
؟ لَذِينَ كَفَرُوأ وَفَالُوأ لِإخوَنِهِتم اذَاضرًبُرا فِى اَ لازضِى أَؤ كاَلُؤا غُزً ى) ؤكاَلؤُأغَدَنَا
مَا مَالؤُاوَمَاقُتِلُوأ لِ) خحَلَ اَلمَهُ ذَلِكَ حَمتحر لى قُلوُبِهِتم وَاَلئَهُ قُيِءلَيمُميث وَأللَهُ سا
لغمَلُونَ بَصِيُرُ).
٩٤١
941
الذين كفروا عام، وإن كان قد قال السدّي:
عُني به عبد الله بن أُبيّ وأصحابه.
والضرب في الأرض: الإِبعاد في السفر.
وغُزًّى: جمع غازٍ، نحو شُهّد وقُوّل في شاهد وقائل.
وإخوانهم: من سلك طريقهم في الكفر والنفاق،
942
والحسرة: الغمّ على ما فات، وأصلها الإِعياء عن إدراك المطلوب.
وسُمّي الغمُّ بذلك: إذ لا يفيد الإعياء، وعلى هذا قيل:
... إن ليتاً وإن لوًّا عناء
إن قيل: إذا كان الإِخوان هم المقول لهم، فالوجه أن يُقال:
لو كنتم، لأنه يقال: قلت لزيد: لو فعلت كذا، ولا تقول فَعَلَ وأنت
تعنيه، قيل معناه: قال بعضهم لبعض لأجل إخوانهم، أو
يعني قالوا لبعض إخوانهم إذا ضرب بعضهم في الأرض لو كان
الضاربون في الأرض عندنا. وتقدير الكلام: إذا ضربوا في
الأرض فماتوا أو كانوا غُزًّى فقتلوا: لو ظَلُّوا عندنا لما حدث
943
ذلك بهم، وبيّن الله تعالى أن ذلك لا يثمر لهم إلا حسرة في
قلوبهم مع العلم بأن الله هو المحيي والمميت، وعلى نحوه قال
أبو ذؤيب:
يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت... نُشيبة والطرّ أو يكذب قيلُها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت... إليه المنايا عينُها أو رسولها
إن قيل: لِمَ قال: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولو علّق ذلك
بالسماع لكان أليق، لأن ما كان منهم قول مسموع لا فعل مرئي؟
قيل: لما كان قول الكافرين ذلك قصداً منهم إلى عمل يجادلونهم
خص البصر، كقولك لن يقول شيئاً وهو يقصد به فعلا يحاوله:
أنا أرى ما يفعله، إن قيل: إذا للمستقبل، وقد جُعِل ظرفا
لقوله قالوا، ولا يجوز أن يقول: جئتك إذا زرتني، فما وجه ذلك؟
قيل: إذا متى لم يُقصد به وقت معين، كان متضمّناً للشرط.
فيكون الفعل الذي هو في تقدير جوابه بمعنى
944
الاستقبال، وكأنه قيل: إن ضربتم في الأرض، أو كلما ضربتم
قالوا، واللام: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ) لام العاقبة.
قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧).
يقال: مِت ومُت، والضم أقيس، والكسر كثير، والآيتان
945
تضمنتا إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص
946
على القتل في سبيل الله، وبيانه ما أقول: إن قُتلتم في سبيل الله أو
متم فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة تنبيها أنه أوجبهما للثواب.
ولمّا عنى في الثانية الموت المطلق والقتل العارض قدم أبينهما
عندهم إذ لابد منه، فكأنه قيل: إن حصل ما لابد منه بوجه وهو
الموت حتف الأنف، أو ما هو عارض، وعندكم أنه قد يكون
منه خلاص، وهو القتل، فالحشر لا محالة حاصل.
قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩).
947
قال النحولِون (ما) زائدة، وعلى هذا (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ).
وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)، وأفاد التأكيد.
ووجه تأكيده أنه نكرة تدل على إبهام ما عُلِّق به، وإبهامه يقتضي التعجب.
فكأنه بعظيم من رحمته (لِنْتَ لَهُمْ) واللّين عبارة عن حسن الخلق.
وحسن الكلام بالصفو والزلال، حتى قال الشاعر:
948
فتى مثل صفو الماء ليس بباخل.
استعمل في ضده الفظاظة.
وغلظ القلب: عبارة عن قلة الرحمة. وبإزائه رقّة القلب.
والانفضاض: التفرق، وانفضَّ وارفضَّ يتقاربان إلا أن انفضَّ اعتباراً بانكسار بعضهم عن بعض، وارفضَّ اعتبارا برفض بعضهم بعضاً.
والمشاورة: استخراج صائب الرأي عن الغير.
واششقاقه من شور العسل، وشرت الدابة وشورتها،
949
والعزم: ثبات الرأي على الأمر، نحو إجماع الرأي، والتوكل
على الله الثقة به والوقوف حيثما وقف، وبين أدنى منزلة له
نحو ما قاله للأعرابي "اعقله وتوكل" وبين غايته التي هي
كحال إبراهيم عليه السلام بون بعيد.
ونبّه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
على فعمته على النبي - ﷺ - أولا وعلى أمّته ثانيا.
كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وأمره بالعفو عن
تقصيرهم فيما يلزمهم له، وأن يستغفر لهم من ذلك، كقوله:
950
(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
ثم أمره بإجراء نفسه مجرى أحدهم في الرأي الذي هو خاصّ بالإِنسان.
ثم قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وإن قاربتم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على الله، وتقويتك به، كما قال النبي - ﷺ -: "من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
واختُلِفَ في مشاورة النبي لأصحابه على أي وجه، فقال سفيان بن عيينة: ليقتدي به غيره، وقال قتادة: تطييباً لقلوبهم، ويجب أَن نقدّم مقدمة
تبيّن في أي أمر أولا تدخل الاستشارة؟ ثم من استشار غيره فلأي
951
قصدٍ يستشير؟ فيقال: أمّا ما يُستشار فيه فهو الأمور الممكنات
المتعلقة باختيار الفاعل، وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة
المُستشِير برأي المُستشَار، أو لئلا يُلام إذا استبدَّ بالأمر، فيتفق
وقوعه بخلاف المراد، ولهذا قيل: الاستشارة حصنٌ من الندامة.
وأمن من الملامة، وتارةً طلبا لهداية المستشار، إما لأن يتبين له
خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر، وإمّا أن لا يعتقد هو
أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد برأيه فيما ربما يؤذي إلى
فساد: إما لإِكرامه أو تعظيمه، فإذا تقرر هذا فأمور النبي - ﷺ - لا تنفكّ: إما أن تكون شيئاً دينيَّا أو دنيويًّا.
فإن كان دينيا فمعلوم أن النبي - ﷺ - غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر، لما أمدّه الله تعالى به من النور الإِلهي، وما كان يستشيرهم في أصول الشريعة، لكن ربما كان يستشيرهم في شيء من فروعها، التي هي من مسائل الاجتهاد لنا، نحو ما رُوي أن النبي - ﷺ - استشار
952
إصحابه في شعارٍ يرفع للصلاة، ومثل ذلك تشريف لهم أولا.
وتنبيه أن ما سبيله الاجتهاد فحقُّه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة
الصحيحة، لينقدح منها الصواب، وأمّا ما كان من الأمور
الدنيوية كالمساحة والكتابة والحساب، فمعلوم أنه كان مستغنياً
بغيره في كثير منها، بل قد صرّح في ذلك بقصوره (١) فيما رُوي أنه
(١) الأولى مراعاة الأدب مع رسول الله - ﷺ - ومن ثَمَّ كان الأولى عدم استخدام هذه العبارة. والله أعلم.
953
عليه السلام لما ورد المدينة ووجد أهلها يؤبِّرون (١) نخلهم، فقال:
"ما أرى أن ذلك ينفع " فتركوه، فتبين ذلك في نقصِ أثمارهم
فشاوروه فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور
آخرتكم" (٢).
وعلى هذا. ما كان يتعلّق بأمور الحرب المتعلقة
بتهييجها تارة وتسكينها تارة، وبالمنِّ فيها تارة وبالافتداء تارة.
ولذلك لما همَّ بمصالحة عُيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة.
قال بعضهم: أبوحي هذا أم برأي رأيته؟ قال: "برأي رأيته"
فراجعوه وبينوا له موضع الصواب، وترك رأيه لرأيهم.
(١) يؤبرون: يلقّحون: المصباح المنير.
(٢) رواه مسلم في صحيحه، كتاب - الفضائل - باب "وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عنيم في معايش الدنيا" رقم (٢٣٦٣) دون قوله: "وأنا أعلم بأمر آخرتكم " من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.
954
وكذا مراجعة عمر له بما همَ به من كتاب القضية عام الحديبية.
فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية حال الرسول عليه السلام
وغيره فيه سواء، والمشاورة مستحبة له كما هي مستحبة لغيره.
قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
أكثر المفسرين جعلوا نصرة الله للعبد في الحقيقة تقويته بأعظم السلطانين
الذي هو الحجّة القاهرة وأعظم التمكينين الذي هو العاقبة المذكورة
في قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وفي أشرف الدارين
955
حيث لا ينفع مال ولا بنون. فقالوا: معناه: إن حصل لكم النصرة فلا تعتدُّوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غَلَبة، وإن
خذلكم في ذلك فلا تعتدّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا
نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل.
ومنهم من اعتبر ذلك في أمر الدنيا، فقال: معناه: إن نصركم الله في الدنيا بموافقتكم - ﷺ - فلا غالب لكم، وإن لم ينصركم فلا ناصر لكم.
وحَمله على الأول يدخل فيه الثاني، فإن من نُصِر في آخرته فهو في
الدنيا منصور، وإن لم يدرك نصرته إلا بالبصيرة دون البصر، وحمله
على الثاني قد ينفك من نصرة الآخرة.
وقوله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمرهم بالتوكل عليه، كما أمر النبي - ﷺ - في الآية الأولى، وأن يستجلبوا النصرة منه بذلك.
956
قو له تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
الغلول: تناول مال الغير بضرب من المكيدة، وكثر استعماله
في الغنيمة، وسبب نزول ذلك، قال ابن عباس: هو أن فُقِد
قطيفة حمراء يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي - ﷺ - أخذها، وقال الضحاك: هو عتاب لمن استُحفظوا الثنيّة
957
يوم أحد، حيث قال بعضهم: ربما يقول النبي - ﷺ -: "من تناول شيئاً فهو له " فَنَبقى بلا غنيمة، فعلى هذا يكون هذا القول ثناء
عليه - ﷺ -، وقال بعضهم: بل ذلك حثٌّ، للنبي على التعفف، وإن كان معلوماً أنه لا يغُل، كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).
ومن قرأ (يُغَلَّ) فقد قيل: نهي للناس أن ينسبوا ذلك إلى النبي - ﷺ -
958
من قولهم: أغللت فلانا. كقولهم: أكذبته.
وقرأ رجل بحضرة ابن عباس "يُغَل" فقال: بلى ويُقَتل.
فكأنه حمله على الخبر، ولم يرتض قراءته.
وقال الحسن: نَهْي أن يَخُونوه.
فإن قيل: فلم خصّه والخيانة معه ومع غيره مذمومة؟
قيل: قد قال بعض الناس: إن تخصيصه تعظيم له.
فإن الخيانة وإن كانت مستقبحة مع كل أحد.
فمع من يُرشح لهداية الناس أقبح،
959
وقال بعض الناس: إن ذلك في الحقيقة نهي عن الخيانة رأسا في
كل ما أتى به النبيِ - ﷺ - من الأحكام، كقوله: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
وقال بعض الناس: قراءة من قرأ؟ (يَغُلَّ) أولى، لأن كل ما جاء في التنزيل من هذا النحو فمسندٌ إلى الفاعل دون المفعول.
نحو (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ).
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).
وقوله: (وَمَن يَغلُل) تعظيم للغلول، وأنه لا انفكاك له من جزائه، فكأنّ ما قد غلّه يَصحبُه، وعلى هذا ما قال النبي - ﷺ -:
"لا أعرفنُّ رجلًا يأتي بفرسٍ له حَمْحَمة").
وعلى هذا ما قاله - ﷺ -:
"لا أعرفن رجلًا يأتي ببعير قد غلّه له رغاء".
960
، وعلى هذا ما حُكِي عن لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) وقد تقدم الكلام في باقي الآية.
قوله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)
961
قَرِئ: رُضوان، وهما مصدران نحو: كفران وحسبان.
وهو غاية الرضا، و (باء) بكذا رجع به، ومنه البَوَاء في القصاص.
إذا كان فيه مرجوع فيمن قتل.
والسخط: حصول غضب يقتضي عقوبة.
وإذا استعمل في الله فبمعنى إيجابه العقوبة.
962
والغيظ يقاربه، إلا أنه يُقال إذا كان معه تغيّر منكر، ولا يُوصف به
الله، والفرق بين المصير والمرجع: أن الرجوع هو انقلاب
الشيء إلى حال كان عليها، أو ما هو مُقدّر تقديرها.
والمصير: التنفل من حال إلى حال أخرى، فهو أعمُّ من الرجوع.
والقصد بالآية تبعيد ما بين الفريقين كقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ).
قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)
963
قيل: هي صفة لـ (من اتبع رضوان)، وبيّن أنه كما أن من باء بسخطٍ
من الله مأواه جهنم، فمن اتبع رضوانه هم ذوو درجات عند الله
أي ثواب كبير، والصحيح أنه قسّم الناس في الأولى قسمين: فائزاً
برضوانه وبائياً بسخطه، وبيّن في هذه أن القسمين كل واحد بين
البعض والبعض تفاوتا، وذاك أن الناس إذا اعتبروا فمن بين
ملكٍ مقرب، كما قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
وبين أخسّ بهيمة، كما قال: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ).
وما بينهما بحيث لا يمكننا حصره، ولذلك قيل في المثل:
964
الناس أخيافٌ وشتّى في الشيم وكلُهم يجمعهم بيتُ الأدم
ولتفاوت درجاتهم وتفاوت ثوابهم وعقابهم ما روي أن
الجنة درجات والنار دركات، ونبَّه بقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، أنه لا يخفى عليه ما يتحرّاه كل واحد، فإذن
965
يقف كل موقفَه الذي يستحقه.
قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
المِنَّة: استكبار النعمة بالفعل أو بالقول، فأما بالفعل
فحسن، وأما بالقول فما لم يكن فيه وعظٌ ممن له الوعظ
فمستقبح، ولذلك قيل: المنّة تهدم الصنيعة، وقوله:
966
(رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
قيل: عنى من أهل بيتهم ومن العرب.
وقال بعضهم: ليس هذا بسائغ، إذ لم يُخصّ أهل بيته به ولا العرب
خاصة، بل هو مبعوث إلى العالمين، فالوجه في قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
أي من البشر، وذاك أن كل ما أوجده الله في هذا
العالم لا يأخذ نفعه إلا مما بينه وبين المأخوذ منه ملاءمة ما، وذلك
حكم مستمر في كل شيء، فلما كان كذلك جعل الله تعالى الأنبياء
المبعوثين إلى كافة البشر بشراً مثلهم في الخلقة والصورة، وخصّهم
بفضل قوة التمييز والمعرفة، يأخذون من ملائكته وحْيَهُ.
ويولونهم، ولولا كونهم من جنسهم لما قدروا على أخذهم
967
منهم، ولهذا قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، فبيّن
تعالى نعمته عليهم أن رشح لهم من سَهُل تناولهم منه.
وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) لم يعن تلاوة آيات القرآن فقط.
بل عنى بذلك تنبيههم على آيات الله في السموات والأرض.
وفي أنفسهم، ولهذا حَسُنَ عطف قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)
عليه، وقد تقدم الفصل بين الكتاب والحكمة، ومعنى التزكية.
قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
968
دخل ألف الاستفهام على واو العطف ليفيد مع الاستفهام
تعلق ما بعده بما قبله، وكذلك إذا قلت: أوَ كانَ كما تقول؟ إذا
أردت بناء كلامك على كلام المخاطب، وكان المسلمون قتلوا
من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فلمّا كان يوم
أحد، وقُتل جماعة من المسلمين تغيّر قلوب قوم، فخاطبهم الله
بذلك، وعنى أنكم أنكرتم أن نالكم منهم شطر ما نالهم منكم.
وأخذتم تقولون: آَنى نالنا ذلك؟! فأجابهم الله بأن ذلك من عند
أنفسكم، فإن الله وعدكم أن ينصركم بشريطة أن تصبروا وتتقوا،
969
فخالفتم، وقد قيل: مخالفتهم أنهم دُعُوا إلى التحصُّن بالمدينة
فأبوا إلا الخروج، وقيل لاختيارهم الفداء يوم بدر.
وقيل لمخالفة الرماة، والأولى أن يكون عامّاً في جميعها، وهو
970
إشارة إلى ما فضله قبل بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الآية.
إن قيل: ما وجه قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عقب هذه الآية؟
قيل: نبّه بذلك أن لم يصبكم ما أصابكم لوهن في دينكم أو ضعف في قدرة الله، فكأنه قيل: هو من عند أنفسكم، لا من خلل دخل في أمره، فإن الله على كل شيء قدير، ومن كان هذه حاله فهو قادرعلى دفاعهم.
قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)
دخول الفاء في قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) لتضمن الذي معنى
الشرط، كأنَّه قيل: إن أصابتكم مصيبة فإصابتها بإذن الله،
971
وقد أصابتكم، فإذا كان بإذن الله، وأصل الإِذن العلم بالشيء
من أذنت له، أي استمعت إليه فعلمته، ثم يُقال في التعارف
لمن لا يمنع من فعل شيء مع العلم به، والقدرة عليه على منعه.
سواء أمر به أو لم يأمر: فعل كذا بإذنه، فإذا حُمل على العلم
فنحو قوله: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وإذا حُمِلَ
على الأمر فليس يعني أنه أمر الكفار بذلك، وإنما عنى أنه أمر
الملائكة المذكورين في قوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا).
972
إن قيل: وإذا حُمِلَ على الأمر فليس يعني العلم.
فكيف يصح وقد قال بعده: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)؟
قيل: ليعلم المؤمنين أي ليحصل إيمان المؤمنين، وقد تقدم حقيقة ذلك.
ثم بيّن تعالى ما كان من ذنوبهم، فقال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي استعملوا النفاق في أعمالهم.
ولمّا قيل لهم إمّا أن تحاربوا أو تحضروا مكثّرين للسواد دافعين عن
الحوزة، قالوا مجيبين بما حكي عنهم، وقول السدّي: ادفعوا
بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا، وقول غيره: رابطوا
973
بالقيام على الجبل إن لم تقاتلوا، وقول غيرهما: احضروا موضع
الحرب. ليست بأقوال مختلفة في المعنى، كما قدره بعض
النَقَلَة، وإلا ذلك اختلاف عبارات وتعيين أمثلة لمقصد واحد.
وحمل بعض الصوفية ذلك على الجهاد فيَقول: معناه إما أن تبلغوا
منازل الصديقين في مجاهدة وإماتة الشهوات أو ادفعوها عن
974
ارتكاب المحارم، وزُفُوها عن احتقاب الماَثم إلط لم تقدروا على
الأول، ثم عيّرهم بقولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، أي لو
صادفنا من أنفسنا منكرا لارتسمنا ما رسمتم، تنبيهًا أنه خفي عليهم
عيوب أنفسهم، وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) تنبيه على نفاقهم؛ وذاك أن المنافق كأنه بين الكافر والمؤمن، فإنه من حيث ما يُظهر الشهادتين، ويلتزم ظواهر الشريعة بالقول، وظواهر الأعمال محكوم له بالإِيمان، ومن حيث يتحرى في اعتقاده تحري الكفار كافر، وبين أحوال المنافقين تفاوت، بيّن تعالى بهذا القول أنهم في هذا القول بالكفار أشبه منهم بالمسلمين،
975
وأقرب: قيل: هو من القُرب وقيل: من القَرَب من الماءِ.
ثم بيّن تعالى علة قربهم من الكفر، فقال: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، تنبيهاً أن الاعتبار في الإِيمان المستحق به الثواب
بالنيات والضمائر، لا بالأقوال المجردة عن الاعتقاد، ولهذا شهد
للمنافقين في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) بالكذب، فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وحكم لمن تلفظ
بالكفر من غير مطابقة الاعتقاد له بالإِيمان، فقال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، ثم حذّرهم عن اعتقاد غير الحق بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)،
976
كقوله: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).
وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
وهذه الآية كالشرح لما أجمله في الأولى، حيث قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)
هذه الآية من تمام صفة المنافقين عبد الله بن أُبّي وأصحابه.
قالوا: إن قتلى أُحُد لو أطاعونا في التأخُّر عن القتال ولزموا
بيوتهم ما قُتلوا، وإعراب (الَّذِينَ): إما نصب على البدل من
(الذين نافقوا)، أو رفع على خبر الابتداء المضمر، أو بدل من
الضمير في (يَكتمُونَ).
إن قيل: لم أخّر ذكر القعود عن القول
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)
مع كونه مُقدّما في المعنى؟ قيل: إن قوله: (وَقَعَدُوا) في تقدير
الحال، أي قالوا وهم قاعدون، كقولك: ، خرج زيد وقد ركب.
ويكون ركوبه قبل الخروج، وقد أكذبهم الله في ذلك بقو له: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) وكأنه قال: القتل ضرب من
الموت، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري
فادفعوا عنها الموت، وإذ لم يمكنكم ذلك دلّ أنكم مبطلون قي
دعواكم.
قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
978
روي عن ابن عباس والحسن أن النبي - ﷺ - قال:
"لما أُصيب إخوانكم بأحُدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترِدُ أنهار
الجنّة، وتأكل من أثمارها، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش.
فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يُبلِّغُ إخواننا
عنّا: أنّا أحياء في الجنّة، نُرزق، كي لا ينكلوا عن الحرب؟ فقال
تعالى: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل هذه الآية".
فدل ذلك أن الأرواح أحياء تُثاب وتُعاقب قبل أن تُعاد إلى الأجسام يوم القيامة، وعلى هذا قال في صفة آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، ودل عطف قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
979
أن عرضهم على النار قبل يوم القيامة.
وروي: "إنّ أحدَكم إذا مات عُرضَ عليه مقعده بكرة وعشية.
فيقال: هذا مقعدُك حتى تُبعثَ إليه ".
وهذا قول السلف وأصحاب الحقائق، الذين عرفوا حقيقة الروح المعنيّة هاهنا، وكونه جوهرا.
980
له بذاته قوام، وأما متأخرو المعتزلة الذين لم يتجاوزوا منزلي
الِحسّ والوهم، ولم يروا الروح إلا ريحا أو عرضا، فبعضهم
981
قال: يعني أحياء يوم القيامة، ووصفهم بذلك في الحال لقرب
القيامة عند الله، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ)
أي في علم الله، وبعضهم قال: أحياء بالذكر، وبعضهم قال:
أحياء بالإِيمان، وإرادة هذه المعاني بالآية غير ممتنعة، فإن
المؤمنين أحياء بكل ذلك، كما قالوا، ولكنهم مع ذلك أحياء
بالأرواح على ما ورد به الخبر، وزعمهم أن ما ورد من الأخبار
في أرواح الشهداء ليس بصحيح، فإن العقل لا يقتضي ذلك.
فهم إن عنوا العقول الصدئة التي عناها من قال:
982
فلان لم يؤت من العقل إلا مقدار ما يلزم به حجة الله فقد صدقوا، وإن
عنوا العقولَ المجلوة السليمة من درن الهوى المعنيّة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وبقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) فليس كما ظنوا.
ومن زعم أن القول بحياة الأرواح يؤدِّي إلى القول بالرجعة
فوهم فاسد، ولئن كان ذلك يؤدي إلى ما قالوه فإحياء الله مَن
وصفهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الآية.
983
وإحياء عيسى الأموات أكثر تأدية إليه، وأما على طريقة
المتصوفة المذكورة في قوله: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا)
فإنهم قالوا: لما كان الإِنسان مركباً من بدن وروح، والعقل تابع للروح.
والهوى تابع للبدن، وبتوهين أحدهما تقوية الآخر، نبّه تعالى أن
من جاهد نفسه، وقتل هواه في سبيل الله فلا تحسبنّه ميتاً، وعلى
هذا قيل: قتل النفس في الدنيا حياة الآخرة.
إن قيل: لم وصفهم بالفرح، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)؟ قيل: الفرح تجاوز الحد في السرور بالملاذّ، ولما كانت
984
الملاذّ الدنيوية غير متنافس فيها ذمّ الفرحين بها، ولما كانت
الملاذّ الأخروية متنافساً فيها، كما قال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أباح لهم الفرح بها، حتى قال: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا).
وأما استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فتنبيه أنهم يعرفون نعمة
الله بالموت والقتل في سبيله، ويسرون إذا أخبروا بقتل أو موت
إخوانهم بخلاف أبناء الدنيا، وقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) متضمنٌ لذكر كل شيء يكدر الحياة، فإن ما يعرض
في الدنيا: إما خوف لوقوع محذور، أو حزن لفوت محبوب.
والضمير في: (عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون ضميراً للذين لم يلحقوا بهم، وأن
يكون للمستبشرين، وأن يكون لهما.
إن قيل: لم رفع (أَحْيَاءٌ) ونصب (فَرِحِينَ)؟
قيل: لأن (فَرِحِينَ) حال للذين قتلوا، والنصب به أولى، و (أَحْيَاءٌ) استئناف، ولو نصب لكان معناه: بل احسبهم أحياء، ولم يُرد ذلك، وإنما أراد بتّ الحكم بكونهم أحياء.
985
قوله تعالى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
إن قيل: ما الفرق بين النعمة والفضل هاهنا؟
قيل: الإشارة بهما إلى المذكورين في قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، فالنعمة هي الحسنى والفضل هاهنا الزيادة.
إن قيل: لِمَ نكرهما؟
قيل: التنكير في مثله على وجهين:
أحدهما: ليدل على بعض غير معين.
والثاني: قصد إلى إبهام المراد تعظيما لأمره، وتنبيهًا أنه
986
يصعب إدراك شرحه، وكأن التنكير في هذا إشارة إلى نحو ما
قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
إن قيل: ما حقيقة (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)؟
قيل: لما كان من الأعمال التي صورتها في الدنيا صورة العبادات التي يستحق بها الثواب ما هو في الحقيقة غير عبادة يستحق بها الأجر.
وإياها قصد بقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
بيّن هاهنا أن عمل المؤمنين لا يجري مجرى أعمال هؤلاء.
إن قيل: ما الفرق بين الإِفضال والإِحسان؟
قيل: كلاهما اسم الزيادة على فعل العدالة.
وتجاوز ما يجب إلى ما يستحب، لكن الإِحسان يُقال
باعتبار جمال الفعل في نفسه وتحرِّي تحسينه، والإِفضال يقال
باعتبار فعل بفعل أو فاعل، فيقال للزائد على الإجزاء فاضل.
987
فالاستجابة لله وللرسول، وإن جمع بينهما في
الإِيجاب فالواجب بالقصد الأول استجابة الله، لكن لمّا لم تتم
استجابته إلا باستجابة رسوله صار ذلك واجباً، لأن ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب، والاستجابتان مختلفتان، فإن استجابة
الله بتوجيده وعبادته، واستجابة رسوله بتلقي الرسالة عنه وقبول
النصح منه.
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
988
قيل: سبب نزول ذلك أن أبا سِفيان وأصحابه تقدموا إلى نُعيم
ابن مسعود ورضخوا له شيئاً، وقالوا: إذا مررت بمحمدٍ
وأصحابه، فقل: إنا قد أجمعنا على قصدهم بخيلٍ لا قبل لهم بها.
فلما أتاهم، وقال لهم ذلك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
إن قيل: لِمَ: (قال لهم الناس) وإنما قال ذلك رجل واحد؟
قيل: لمّا كان القائل لنُعيم أبا سفيان وأصحابه المعبرّ عنهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سُمي الُمنبّئ عنهم بذلك (النَّاسَ)، تنبيهاً
أن المخوِّفين في الحقيقة هم المخوَّف منهم، والآية وإن نزلت فيهم
989
فالمعنيُّ بها هم ومن جرى مجراهم، ونبّه بما حكى من جوابهم
وفعلهم على نهاية ما يُطلب من إيمان العبد وتوكله لما أظهروا
قولاً وفعلًا، وبيَّن أنهم عادوا بنعمة وفضل في دنياهم وأخراهم
في أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا أنهم لا يَعْرض لهم في
الدنيا ما يُحزن ويُخوّف من سوء، ولكن لا يؤثر فيهم، والمقصود
بهذه النعمة والفضل أعظم مما قال بعض المفسرين من أن المسلمين
لما حضروا بدراً الصغرى، ولم يحضروا للموعد صادفوا بها سوقاً،
990
فاشتروا ما ربحوا فيه، فكان ذلك هو الفضل والنعمة، فإن
أرباح التجارة الدنيوية أدون من أن يكون مقتصراً عليها في مقابلة
المتوكلين على الله، الراضين عن الله تعالى، المرضي عنهم.
وقوله (رِضْوَانَ اللَّهِ) يجوز من حيث تقدير الكلام: أن يكون على معنى،
991
أن رضي الله عنهم، وأن يكون على أن رضوا عن الله، فإن من رضي
عن الله فقد رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وذكر تعالى في الآيات الثلاث ثلاث فرق، بعضهم أخصُّ من
بعض، وذاك أن المؤمنين المستجيبين لله عام، والذين أحسنوا واتقوا
أخصّ، ، فجعل تعالى للمستجيب لله أجرا غير مُعين، وللمحسن
المتقي في ذلك أجراً عظيماً، وهذا شبيه بما تقدم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (وَاللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
إن قيل: إلى ماذا أشار بقوله: (ذَلِكُمُ)؟
قيل: فيه أقوال:
الأول: أنه إشارة إلى من قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)
992
فسمّاه شيطاناً لمشابهته في فعله، والثاني: أنه إشارة إلى الشيطان
المتعارف بين الناس، أي الشيطان الذي عرفتموه هو الذي يُخوّف.
والثالث: إشارة إلى ما دل عليه قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
أي ذلك العارض الذي هو الوهن والحزن شيطان: كقول الشاعر:
ما ليلة الفقير إلا شيطان...
993
وأمّا (أَوْلِيَاءَهُ) فقد قال ابن عباس: معناه: يخوفكم
أولياءه، فعلى هذا حذف المفعول الأول، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) ووقولهم: فلان يعطي الدراهم، فالأولياء على هذا هم المخوف بهم،
994
وقيل: بل أولياؤه هم المخوَّفون، وذاك أن الناس ضربان:
ضرب لا سبيل للشيطان عليه، وهم المعنيون بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وضرب بخلافهم، وهم الذين قال فيهم: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، وقد صرّح تعالى بذلك في قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
إلى قوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).
وحقيقة خوف الله أمتثال أمره، وعلى هذا
995
قال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ثم قال: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، تنبيها أن من فرط الإِيمان التحققُ أن ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا، ومن علم ذلك علم أوامر الله، فاتّبعها في ترك ما يأمر به الشيطان.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
كما نهى تعالى عن الخوف مما يُتوقع من حزب الشيطان، نهى عن
الحزن على ما يفوته منهم، ووصف الكفار بالمسارعة في الكفر.
كما وصف المؤمنين بالمسارعة في الإِيمان، فقال: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وحقيقة المسارعة في ذلك أن يترقى الإِنسان فيما يتحرّاه منزلة فمنزلة، خيرا كان أو شرا، فيتعوَّده فيتقوَّى به
996
على المنزلة الثانية، لأن الشر حاصلٌ بعضه عن بعض، وحاملٌ
بعضه بعضاً، وكذا الخير، وعلى هذا قال أمير المؤمنين: تبدو
نكتة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإِيمان ازداد البياض، فإذا
استكمل الإِيمان ابيض القلب كلّه، وإن النفاق يبدو نكتة سوداء.
كلما ازداد النفاق ازداد السواد، فإذا استكمل النفاق اسودّ
القلب كلّه، وبيّن أن لا يعود إلى الله من مسارعتهم في الكفر
997
مضرة، كقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
إن قيل: كيف جعل العلَّة في قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) أنهم لن يضروا
الله شيئاً، ولم يكن المسلمون يحزنون، لأجل أن خطر لهم أن
هؤلاء يضرُّون الله، إنما كان حزنهم أن يضروهم؟
قيل: معنى ذلك لن يضروا أولياءه، ألا ترى أنه - ﷺ - قال: "إن الله تعالى يقول: من آذي لي وليّا قد آذاني ".
وعلى التتبيه على هذا المعنى قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)
998
يريد إحباط عملهم بما استحقوه من الذنوب.
وقيل: يريد الحكم بحرمان ثوابهم، وأن لا يجعل
لهم ما يستحقه المطيعون، والفرق بين السرعة والعجلة إذا
اعتبرنا بنفس الفعل، هو أن السرعة أن لا يترك الأمر يتأخر عن
وقته، والعجلة فيه أن يقدمه على وقته، وإذا اعتبرنا بقوى النفس
فالعجلة ما يفعل على مقتضى الشهوة، والسرعة تقال فيها وفيما
يُفعل على مقتضى الرأي والفكرة، ولذلك ذم العجلة على
الإِطلاق، وقد حَمِدَ السرعة في مواضع.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
999
قد تقدَّم حقيقة الشرى والبيع إذا استُعملا في الكفر والإِيمان.
وقال كثير من المفسرين: هذه الآية في معنى الأولى، وقد أعيدت
تأكيدا، والصحيح أن الأول ذمٌّ للذين تحرّوا الكفر وتزايدوا
فيه متسارعين، وهذا ذمٌّ لمن حصّل الإِيمان فأفرج عنه، واستبدل
به كفراً، وهم الذين وصفهم بالارتداد على أعقابهم، وذمّ لمن
مُكَن من الإِيمان فرغِب عنه، وآثر الكفر عليه، فصار كالبائع
إيمانه بكفر.
وقوله: (شَيْئًا) في موضع المصدر، أو تقديره
1000
بشيء، فحذف الجارّ ونصبه، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان
عذابا أليماً، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى، حيث وصفه
بالعِظَم، إذ يقال العظيم اعتباراً بغيره مما هو من جنسه، وقد لا
يكون شديد الألم، وأليم يقال لما تناهى في الألم، إذ هو بناء
المبالغة، ويقال: هو أليم، سواء اعتُبر بغيره أو لم يُعتبر.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
1001
الإملاء إطالة المدة، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).
وتملّيت حبيبا، وإملاء الكتاب على أحد القولين، والملوان.
وإذا قرئ بالياء فسهل، واذا قرئ بالتاء فصعب، فالذين كفروا
هو المفعول الأول، ولا يصح أن يجُعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) المفعول
الثاني، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر.
ويجبُ أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى.
و (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولا يصح أن يجعل بدلاً كما جُعِل في
1002
قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).
وفي قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب (خيراً) حتى يصير المفعول الثاني، فيجب أن يكون بالياء
أجود، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي
1003
أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا.
قالوا: والله يتعالى عن هذا القصد، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
1004
فمنهم من قال: الآية على التقديم والتأخير.
وتقديرها: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
بل إملاؤنا خير لهم، ويكون مفعول (وَلَا يَحْسَبَنَّ)
هو (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وعلق أن، وجعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعِلّة لتأخيرهم، تنبيهاً أن ذلك أولاهم ليصير معونة
لاكتسابهم الخير لأنفسهم، وهذا فاسد، لأن إنما يصح أن
يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره، ومنهم من قال:
1005
الكلام على الترتيب، والمفعول هو (أَنَّمَا) وجعل اللام لام
العاقبة، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبييناً لقصد
الفاعل بفعله نحو (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وتارة تبييناً لما أدى إليه الفعل، لا لقصد الفاعل، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (عَذَابٌ مهِين)؟
قيل: لما ذكر هاهنا إملاء الإِنسان في الأعراض الدنيوية.
وذلك قد يكون في الدنيا هواناً وعذاباً
1006
لصاحبه، وهو لفقدان بصيرته يقدر أن الهوان في فقدانه فلا يُفرج
عنه؛ ذكر الهوان الذي هو أعمُّ الألفاظ الثلاثة من (العَظِيم)
و (اَلأَليم) و (ألمُهِينِ) ليعم الدارين، وعلى هذا قال:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
الخبيث: مستعار للعمل السيئ، والطيّب: للعمل الصالح
1007
تشبيهاً للذِكر المسموع بالنشر المشموم، وعلى هذا قال الشاعر:
تبحثت عن أخباره فكأنما... نبشت صدأه بعد ثالثة الدفن
وقال اَخر:
... ثناء مثل ريح الجورب
وعلى هذا حمُل (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ)
أي الأعمال في الخبث والطيب جارية مجرى فاعليها، وقيل: المؤمن
أطيب من عمله، والكافر أخبث، والاجتباء: كالاصطفاء،
1008
وأصله الجمع، فكأن من اجتباه الله ضمَّه إلى نَفْسِه حتى يكون له
بأجمعه، بخلاف من قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)
وإلى ذلك الإِشارة بقوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وتحقيق التمييز من الله لا على سبيل التعرف، بل ليحصِّل الخبيث خبيثاً والطيب طيبا، وذلك حقيقة التكليف، وقد كرر الله تعالى هذا المعنى مع كل فصل، فقال:
1009
(وَلِيَعلَمَ)، (وَليَبتَليَ) و، (وَليمحصَ) و (لِيَمِيزَ).
وقال من بعد: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ)، كل ذلك
تنبيهاً على أن التكليف في الحقيقة هذه الأشياء، وأما الغيب فكل
ما لا تدركه الحواس وبداهة العقول، وهذا على القول
المجمل ثلاثة أضرب: ضربٌ استبد تعالى به ولم يُطلع عليه
أحداً لا الملائكة المقربين، ولا من دونهم، لاستغنائهم عنه.
وضرب قد يُطلِع عليه أصفياء عباده، وهو حقائق العلوم، وذلك
بحسب ما عُرف من حاجتهم إليه ومصلحتهم فيه، وإياه عنى
بقوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وبيّن في الآية أن اطلاع العامة على غيبه وأقضيته
1010
منافٍ للحكمة، وذلك أن جماعة من الكفار سألوا النبى - ﷺ - وقالوا: هل نحن ممن يؤمن؟
ثم قال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تنبيهاً
على التوكل على الله وحُسن الظن بنبيه، والتحقق أنه يفعل بعباده
ما هو أصلح لهم، وأنّ بالإِيمان والتقوى يُستحق الأجر العظيم.
قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
قُرئ بالياء على تقدير: لا يحسبن الباخلون البخل هو خير
1011
لهم، فحذف البخل الذي هو المقعول الأول، لدلالة (يبخَلونَ)
عليه، كقولك: من كذب كان شرًّا له، وإذا قُرئ بالتاء فتقديره
لا تحسبّن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فحذف المضاف
لظهور المعنى، وبيّن بالآيتين أنهم جعلوا أعمارهم وأموالهم
مصروفة إلى ما أورثهم إثما أو عقوبة يوم القيامة، وتطويقهم ما
بخلوا به على طريق التشبيه والتقريب، نحو ما ذكر النبي - ﷺ - "يأتي كنز أحدهم يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق
في حلقه،
1012
فيقول: أنا الزكاة التى منعتني ".
وعلى هذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، ونبّه بقوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على انتقال ما في أيديهم إليه، كما قال:
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، ونبّه أن ما خوَّلهم
لو أنفقوا على ما يجب وكما يجب لاستحقوا ثواباً، فلمّا لم يفعلوا
ذلك انتقل عنهم، وصار عقوبة لهم، وكأنه إلى مقتضى معناه
أشار من أوصى، فقال: اكتبوا هذا ما خلّف فلان يسوءه وبنوه
1013
انتقل عنه نفعه، وخفي عليه وزره، وبيّن أنه عالم ببخلهم، وما
يؤول إليه حالهم، وما يخبرهم به.
قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
لمّا أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال قوم من
اليهود تهكماً على النبي - ﷺ -: إن الله فقير ونحن أغنياء، يستقرض منّا، فأنزل الله تعالى ذلك، ولم يُعَيرِّهم أنهم اعتقدوا فقر الله.
وإنما عيّرهم تجاهلهم وتكذيبهم وصرفهم الكلام إلى غير الوجه المقصود به، وعلى هذا قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا).
1014
ونبّه بقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ) أنهم ارتكبوا
من المعاصي ما هو مثل هذا القول، أو أكثر منه، ولم يقل (بغير
حق): أن في قتل بعض الأنبياء حقًّا، ولكن جعل ذلك حالهم
على العموم، أي هو في كل حال على غير حق، وكَتْبُ ذلك
قيل: هو على الحقيقة، وقيل: هو على طريق المثل، عبارة عن
حفظه، وأنه لا ينسى، واعلم أن الكتابة جعلها الله لنا عوناً
1015
لحفظنا، وذاك أن اللفظ لا يُفهم إلا القريب دون البعيد، وإلا
الشيء بعد الشيء، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال، فربما لا يعيه
السمع، وإذا وعاه فربما لم يتصوره، وإذا تصوَّره فربما أخلّ به
الحفظ فأعانه الله بالكتابة، لتكون تكملة لقوة النطق، وواعية لما
يضيع من الفهم، ومدركة جملةً في حالة واحدة، فعُلِم من ذلك
أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل
أفهامنا، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال: كتب الملأ الأعلى
أعمالنا، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم؛ ولكن
لجبران نقيصة البشر، وليتذكَّر به ما لعله نسي، وليرى صورة
أعماله المتفرِّقة دفعة، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص
القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في
الآخرة؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة، وحينئذ قال: وعلى ذلك وصف
الكتابة بالنطق في قوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ).
وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وعلى هذا سمّى
1016
الوحي كتابا، فقال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ)، ومعلوم أن
المنزل لم يكن وقت الإِنزال مكتوبا، قال: وعلى هذا معنى قوله:
تعالى (كِرَامًا كَاتِبِينَ) أي حافظين، وقال: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ).
قال: وعلى هذا قول الشاعر:
صحائف عندي للعتاب طويتها... ستُنشر يوماً والعتاب يطول
وهذا القول وإن كان له مساغ في مجاز اللغة، فأهل الأثر
على الوجه الأول، والله أعلم بحقائق أحوال القيامة، ومعنى
1017
(وَنَقُولُ ذُوقُوا) أي نُذَوِّقهم ذلك، ونوجب لهم.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
أي نكتب ما قالوا ونعاقبهم عليه جزاء لما ارتكبوه.
إن قيل: لِمَ خصّ اليد، وفيما ذكره عنهم أفعال بغيرها من الجوارح؟
1018
قيل: لما كانت اليد هي الآلة الصانعة المختصة بالإِنسان، فإنه لما
كفى كل واحد من الحيوانات بما احتاج إليه من الأسلحة
والملابس، وسخّره لاستعمالها في الدفع عن نفسه، وخلق
الإِنسان عارياً من كل ذلك، جعل له الرؤية واليد الصانعة.
ليعلم برؤيته، وليعمل بيده فوق ما أعطى الحيوانات، فلما كان
لليد هذه الخصوصية صارت تُخص بإضافة عمل الجملة إليها.
إن قيل: لِمَ خص لفظ ظلَّام الذي هو للتكثير في نفي
الظلم في هذا المكان، ولم يقل على ما قال في قوله: (لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟
قيل: إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يُظن بمن يعذب غيره عذابا
1019
شديداً أنه ظلَّام قبل أن يُفحص عن حال جُرمه، بيّن تعالى
ذنبهم، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلَّام لهم، وإن كان
قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلَّام. تعالى الله عن الظلم.
قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣)
القربان: أصلُه مصدرٌ كالشُكران والكُفران، وفي التعارف
1020
اسم لما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى، وكَثُر استعمالُه في
النسيكة، والعهدُ كالعقد، ولمّا تعورف في الوصية والأمر.
كثُر استعماله مع: إلى، فقيل: عَهِدَ إليه، ولمّا ادعى اليهود
على ما أوقع شبهةً للجهلة، وكان حلُّها يصعب عليهم على
التحقيق، وربّما كان اليهود مع ذلك يشغبون فيه، سلّم
دعواهم كتسليم جدل وناقضهم فيها، وكأنه قيل:
1021
هَبِ الأمر كما قلتم أليس من الحق أن لا تقتلوا من الأنبياء من جاءكم
بالبيّنات وبالذي قلتم، وإذا قتلتموهم ولم تقبلوا قولهم، دلَّ
ذلك أنكم كاذبون في دعواكم؟ أنه عَهِدَ إلينا بذلك، فهذا معنى
قوله: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وهذا أوضح
دلالة وأقربها مأخذاً وأخزاها لهم.
قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
إن قيل: لم قال: (وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ) والزبور هو الكتاب.
لقول الشاعر:
........................ كخطِّ زبور عسيب يمان
1022
قيل: قد قال بعضهم: الزبور هو الكتاب المقصور على الحكمة
العقلية دون الأحكام الشرعيّة، والكتاب في تعارف القرآن
ما يتضمن الأحكام، ولهذا جاء في عامة القرآن كتاب وحكمة.
ففصل يينهما لهذا، واستعمل الكتابة في معنى الإيجاب، فعلى هذا
اشتقاقه من زبرت الشيء أي حكمتُه.
وقيل: الزبور اسم لما أجمل ولم يفصَّل، والكتاب يُقال لما قد فُصِّل.
قيل: واشتقاقه من الزُّبرة أي القطعة من الحديد التي تُرِكت بحالها.
وعلى هذا قال الشاعر:
1023
وما السيفُ إلا زبرة لو تركتها... على الحالة الأولى لما كان يقطع
وقيل: الزبور ها هنا اسم للزاجر من قولهم: زبرته أي زجرته.
قال: وبيّن أنه تعالى أتاهم بالآيات الدالة على الوحدانيّة والنبوة.
وبالمزاجر المعنيّة بقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
وهذا تسلية للنبي - ﷺ - وعتاب له.
فقد رُوِيَ أنه قال: "ما لقي أحد في الله ما لقيت".
فنبّه أن حال الأنبياء قبله كحاله، وحال أقومهم كحال قومه، وليس الشرط في نحو هذا الموضع للشك، كما تصوره بعض المفسرين، فأخذ يتخبط في جوابه، وإنما ذلك
1024
للتحقيق، ومورده كقياس شرطي موجب للحكم، وبيانه
إن كذَّبوك فقد كذبوا من صدَّقك، وقد صدَّقك الرسلُ قبلك.
فإذا كذَّبوك فقد كذَّبوا رسُلًا من قبلك.
قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
الفوز،: إدراك الأمنيّة. والمفازة في قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ) مصدر، ويُقال للمهلكة: مفازة تفاؤلاً، والصحيح أنهم لمّا رأوها تارة سببا للفوز، وتارة سبباً للهلاك سمّوها بالاسمين، وذلك بنظرين مختلفين، وكذا قولهم: هلك، وفاز، إذا مات،
1025
كأنه رُئيَ الموت في بعض الناس هلاكا له، وفي بعضهم فوزا
له، إما لكونه متبلغا بذلك إلى فوز الآخرة ونعيم الأبد.
وإما لخلاصهم من شدَّةِ يَرَى الموتَ في جنبها فوزا.
وكذا النيّة أراها والأمنيّة من أصلِ واحد بنحو هذين النظرين.
وتخصيص الذوق هاهنا من حيث إنه ذكر الباخلين بالمال.
وهو قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ...) الآية.
وأعظم البخل بالمال يكون خشيةً من فقدان الطعام الذي به قوام الأبدان، ولهذا ذكر
1026
ألأكل في عامة المواضع التي ذكر فيها احتجاز المال، نحو (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) فبيّن بالذوق أن الذي يخافونه طعام لابد منه، والغرور: مصدر أو جمع غارّ، كرقود، وقعود، في
جمع راقد وقاعد، والمتاع: التمتع،
1027
فنبّه أن السكون إلى الدنيا والتمتُّع بها غُرور، وأن الكيّس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت، واقتصر على زاد يتبلَّغ به.
قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
قيل: سبب نزولها أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي - ﷺ -
1028
ويحرِّضُ المشركين عليه حتى قتله محمد بن مسلمة.
وقيل: بل هو أن سمع أبو بكر يهوديًّا يقول: ترى إله محمدٍ فقيراً
حتى يستقرض منّا، فلطمه أبو بكر، وجُملة الأمر أنّ جميع
ما يُبتلى به الإِنسان ويُتعبَّد به ثلاثة أشياء: إما متعلّق بالمال.
وإمّا بالنفس، وإمّا بمجاهدة العدو، وأعظم المجاهدة الصبر
1029
على الأذى المسموع من الأعداء، إذ هو سبب الشرور، ولهذا
قال الشاعر:
... وإن الحرب أولها كلام
فبيّن تعالى أنكم إن صبرتم - واتقيتم في هذه الأمور التي تُبلون
بها، فإن ذلك من عزم الأمور.
إن قيل: ما معنى: من عزم الأمور، وما الأمور التي جعل تعالى هذه الأشياء من عزمها؟
قيل: العزم: ثبات الشيء على الشيء، وإمضاؤه، والحزم
يقاربه، إلا أن العزم بالإِمضاء أشبه، إذ هو من العزم،
1030
أي القطع، والحزم بجمع الرأي أشبه، إذ هو من حزمت الحطب
والقصب، أي جمعتُ، ولذلك قيل،: أحزم لو أعزم.
وأما الأمور التي عناها فيجوز أنها الثواب الذي جعل للصابرين
والصالحين والمتقين، وما أشبه ذلك، ويجوز أن تكون الأمور
إشارة إلى ما تقدم، ونبَّه أن بالصبر والتقوى يُتوصَّل إليه.
1031
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)
النبذ: طرح الشيء لقلّة الاعتداد به، وقولهم: جعلت كذا
خلف ظهري أي أهملته.
وقيل: تقدير الآية على ما يقرب من فهم العامة.
وإذ نَبَذَ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق من تبيين ما أوتوه من الكتاب للناس، واشتروا به ثمناً قليلًا، وقد تقدّم الكلام في أخذ الميثاق عليهم، وكيفية ذلك
وفي معاني الثمن القليل.
قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
المفازة من العذاب: هي المنجاة في قول الشاعر:
تحل بمنجاة من اللوم بيتها...
والكلام في تكرير (لَا تَحْسَبَنَّ)، ودخول "الفاء في الأخير
1033
منه صعب، وقد قال الزجاج: لا تحسبن، مكرر لطول القصة.
قال: والعرب تعيده إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها.
إعلاما أنّ الذي جرى متصل بالأول، تقول: لا تظنن زيداً إذا
جاءك وكلمك بكذا فلا تظننّه صادقا.
وقيل: الفاء زائدة.
والوجه في ذلك عندي أن قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) على الخبر وتقدير
الكلام فيه، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار
النار، ويقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)
والمعنى: والله إنك لا تحسبهم حينئذٍ أنهّم بمفازةٍ من العذاب.
أي لهم سبيل إلى الخلاص فلا تحسبنهم الآن، وهذا نهي والأوّل خبر،
1034
وحذف مفعول أحد الفاعلين، وإذا قُرئ بالياء، فكذلك، ويكون
بتقديره: لا تحسبنّ أنفسهم كذلك.
والآية قيل: نزلت في قوم دخلوا على النبي - ﷺ - فنافقوه، فلمّا خرجوا، أثنى عليهم بعض الناس ففرحوا بذلك.
وقيل: نزلت في الذين كتموا أمر النبي - ﷺ - وادعّوا علماً وعبادة أثنى عليهم بها قومهم،
1035
وقيل: نزلت في المنافقين المتخلفين عن الجهاد، المدعين دعاوى يُحبون
أن يُحمدوا عليها، وكيف ما كان. فالآية عامة في النهي عن
الرياء والتشبُّع، والذمّ لمن فعل خيراً ففرح به، وإلحاق الوعيد
بمن أحب أن يُحمد بما لم يفعل.
وقد رُوي أنّ إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها:
إذا أُعجب بنفسه،
1036
واستكثر عمله، وسُرَّ بمدحه بما لم يفعله.
إن قيل: - فكيف قال عليه السلام: "من سرّته حسنته
وساءته سيئته فهو مؤمن "؟
قيل: السرور بذلك محمود، والفرح به مذموم.
وقد تقدَّم الفرق بينهما، وبين بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
مع أنهم لا ينجون، فإنهم يعُذَبون عذاباً أليما.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
أتبع تكذيبهم فيما قالوا: إن الله فقير. وتبكيتهم
فيما فعلوه، وما وعدهم به من العذاب بما أنبأ
عن قدرته عز وجل وسعة ملكه.
وأن لا سبيل لهم إلى النجاة وإلى الخروج
عن ملكه وسلطانه، وهذا هو المعنى
الذي تحرّاه النابغة بقوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي...
لكن على الآية رونق الإِلهية وتعميم الملك والقدرة بلا مثنويّة.
وإضافة الفعل إلى موجد الليل والنهار.
قول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)
1038
نبه تعالى أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى، وأن
جميع هذه الأشياء لا تنفك من ثلاثة أضرب:
إمّا موجود العين، قائم الجوهر، قابل للانتقال
وتبذل الأمكنة بأجزائه: كالسماء والنجوم.
وإمّا قابلٌ للاستحالة والتغير بجملته وأجزائه.
وذلك كالأرض وما عليها، وإما أن يكون مما لا بقاء له بحاله.
بل ينصرم، ويقابله نظيره كالليل والنهار، وقد ذكر ثلاثتها.
ونبه على حدوثها، لأن المتنقل لا ثبات له، والمستحيل لا بقاء له.
وما كان هذا حاله فغير منفك من دلالة الحدث، وما لم يخل من
محدِثٍ فمسخّر له، ومحال أن يكون المسخَّر المُحدَث أزليًّا واجب
الوجود، فإذن لابد له من موجد يوجده، وموجده واجب
الوجود، وذلك هو الباري تعالى، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
1039
ونبّه بقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أن من لم يكن ذا لُبٍّ قلَّ عناؤه في التفكُّر فيها، واللب هو اسم للعقل أزيل عنه الدرن، وذاك أن العقل وإن كان أشرف
مُدرك من الأشياء فهو في الأصل كسيف حديد لم يُطبع ولم يُصقل.
فإذا تُفُقِّد وتُعُهِّد بالحكمة صار كسيف طبع، فأُزيل خبثه، وشُحذ
حَدُّه، وكل موضع يذكر الله تعالى فيه أجلَّ مُدرَكٍ لا يمكن إدراكه
إلا بأجلِّ مُدرِك.
قال بعض الصوفية: هذه المنزلة وإن خُصَّ بها أولوا الألباب فمنزلة الأنبياء والأولياء أشرف منها، لأنهم ينظرون من خالق السموات والأرض إليها، ولهذا قال لنبيه - ﷺ -
1040
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وهذا الذي قاله صحيح.
فإن الإِنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولاً بتدبر
مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته
به، فيصير ما كان دالا مدلولاً، وما كان مدلولاً دالا، وبهذا
النظر قال من سُئل: بِمَ عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل ما
سواه.
1041
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)
الذكر: ذكر باللسان، وذكر بالقلب.
وذكر القلب ذكران: ذكر عن نسيان، وهو إعادة ما انحذف عن الحفظ، وذلك هو التذكر في الحقيقة، وذكر هو إدامة مراعاة ما ثبت في الحفظ.
وقوله: (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) عبارة عن حال الاضطجاع، وعلى
ذلك قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)
فمن حمل الآية على الصلاة، وقال: معناه لا يخلون بها
في شيء من أحوالهم قائمين إذا قدروا، قاعدين إذا عجزوا،
1042
وعلى جنوبهم إذا مرضوا.
وقد رُوي في ذلك أن النبي - ﷺ - قال لسهل بن حنيف: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ".
ثم تلا الآية، ومنهم من جعله أعم من
1043
ذلك، وقال: لا ينفكون من ذكر الله في جميع أحوالهم.
كقولك: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
ومنهم من جعله أعمّ من ذلك أيضا، وقال: معناه لا يتحرُّون بجميع
أفعالهم إلا وجهه، وبيان ذلك أن مباحات أولياء الله كلها
قُرَبٌ يُستحق بها الثواب، وذاك أنهم لا يأكلون ولا ينامون إلا
وقت الضرورة، ومقدار ما يستعينون به على العبادة، وما لا تتم
عبادتهم إلا به فذاك واجب كوجوبها.
وذلك قوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى ما قال - ﷺ -:
1044
"تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله ".
وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)
أي يقولون وليس يعني بذلك القول من دون العلم.
فإن ذلك إقامة شهادة، ومن شهد بشيء وهو على ما
شهد به، لكن لا يعلم كونه كذلك فشهادته مردودة بدلالة
قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ومن عرف حقيقة ذلك وأقام هذه الشهادة فكأنهم شهدوا الله وهو يخلق
1045
السموات، ولهذا قال تعالى في ذم الكفار حيث ثكلوا هذه
الفضيلة، فقال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وفي قوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) تنبيه أنه قصد تعالى بخلق هذه الأشياء قصداً صحيحا.
وذلك ما قاله الحكماء أن القصد بخلق السموات والأرض
إنّما هو الإِنسان، وإنّما خلق النبات والحيوانات قواماً له.
قال: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).
والقصد بخلق الإِنسان أن يستخلفه في الأرض، فيقوم بحق الخلافة.
ويبلغُ بها إلى أعظم السعادة في جواره.
وعلى ذلك قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فلما تحقق المتفكرون ما لأجله خُلقت السموات والأرض، وعرفوا مآلهم سبَّحوه، واستعاذوا به من النار.
1046
قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)
يقال: خَزِي الرجل: إذا لحقه انكسار.
إمّا من نفسه بإفراط، يقال في مصدره الخزاية.
وإمّا من غيره، ويقال في مصدره الخزي.
وعلى هذا هان وذل، متى كان ذلك من نفسه.
يقال له الهُون والذُل، ومتى كان من غيره يُقال له الهوان والذل،
والآية من تمام الحكاية عن المتفكرين في خلق السموات والأرض.
قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣)
الأبرار جمع بر وبارٍّ، نحو جَدّ وأجدادٍ، وصاحبٍ وأصحاب.
وأصله من البرّ أي المكان الواسع، فبرّه خوله برًّا، أي سعْة.
ويُقال للإِنسان إذا أكرم من دونه وأكرمه من فوقه برّه،
1048
كما يقال فيهما: أحبَّ ووالى، والأبرار: هم الموصوفون
بقوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
والمنادي للإِيمان والداعي إليه: قد يكون العقل.
وكتابه المنزَّل، ورسوله المرسل، وآياته الدالة.
وإن كان الأظهر في هذا الموضع أن يكون الرسول.
لقوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)،
1049
وقوله: (أَنْ آمِنُوا) يعني أي آمنوا، أو بأن آمنوا.
إن قيل: فعلى أي وجه قال: (فَآمَنَّا)؟ أعلى طريق الامتنان، أو
الإِعلام. فإن كُلًّا مستشنع إيراده على الله تعالى؟
قيل: بل على طريق الامتثال، وليس هذا إشارة إلى أنهم قالوه نطقاً فقط، بل إلى أنهم حققوه فعلًا.
إن قيل: كيف جعل غُفران الذنوب وتكفير السيئات قبل التوقِّي؟
قيل: لأن تمام غُفران الذنوب وتكفير السيئات أن يوفّق العبد في الدنيا لمرضاته، ويحرسه عن تعاطي السيئات، ليكتسب ما يترشح به
لاستحقاق الثواب.
وقوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) نحو ما حكى عن غيره في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
1050
وفيه تنبيه أنهم لا يكرهون لقاء الله.
وقد قال - ﷺ -: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ".
قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)
إن قيل: ما فائدةُ استنجازِ وعده مع العلم بأنه لا يُخلف؟
1051
قيل: إن وعده تعالى عِبادَه على طريق الجملة، نحو قوله تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
وليس هذا السؤال خوفاً من إخلاف وعده، ولكن سؤالا أن
يرشحه لأن يكون من جملة من دخل في الوعد.
ولهذا قال: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) تنبيهاً أني لست أخشى خُلْفَ وعدك، لكني أخشى أن لا أكون من جملة الموعودين.
وقد قيل ذلك هو على جهة العبادة، وقد تقدم أن ليس القصد التفوُّه بذلك، بل فعل ما يقتضيه.
وقوله: (عَلَى رُسُلِكَ) أي على ألسنتهم، وعلى ما وعدت بإجابتهم.
1052
قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥)
استجاب: أراد إجابتهم، والاستجابة في الحقيقة غير الإِجابة.
وإن كان يفهم منه ذلك، وقول الشاعر:
وداعٍ دعا بعد الهدوءِ من السرى... فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ
1053
فهو أبلغ من قولك: لم يجبه، إذ فيه تنبيه أنه تعالى لا يضيع
عمل من لم يخرج عن الإِيمان بشرك، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
وذَكَر الذكر والأنثى، فقد رُوي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول الله، ما بال
الرجال يُذكرون في الهجرة دون النساء؟
فأنزل الله ذلك،
1054
و (مِن) للتبيين، أو لاستغراق الجنس لتقدُّم النفي.
إن قيل: ما معنى قوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في هذا الموضع؟
قيل: تنبيهاً أن الأنوثية والذكورية لا تقتضي اختلاف الحكم في هذا الباب، وإنما الاعتبار بالأعمال والنيات، فمن قصد فيما يتحراه وجه الله فله
بقدره ثواب، ثم بيّن أنّ للذين هاجروا فضل رتبة، كما قال:
(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً).
ولم يعن بالمهاجرة والإِخراج من الديار ما كان من الكفّار فقط.
بل عناه ومن هاجر الأفعال القبيحة
1055
والأخلاق الكريهة، وقاتل نفسه حتى قهرها.
والظاهر من قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)
أن ذلك حكم الآخرة، وعليه أهل الأثر.
وقال بعض الصوفية: عنى بتكفير سيئاتهم إزالة درنهم عنهم في الدنيا.
قال: وهذا المعنى هو المراد بقوله:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وإدخالهم الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار التمكين من زهرات العلوم والاطلاع على كثير من الغيوب، التي وصفها حارثة في حقيقة الإِيمان.
حيث قال: وكأني بعرش ربي بارزا.
وقال: والأنهار هي أنهار الماء
1056
المذكور في قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً).
قال ابن عباس: قرآنا، ثم قال: (ثَوَابًا فِن عِندِ اَللَّه) تنبيهاً أن هذا ثوابه
عاجلًا في الدنيا.
ثم قال: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
إشارة إلى ما له في الآخرة من الثواب، والله أعلم بما ادعاه هذا
القائل).
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)
1057
بعد قوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) على القول الأول؟
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أنه بيّن بقوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أن ما ذكره ثواب لهم.
ثم أخبر أن هذا الثواب لا يوجد إلا عنده.
فيكون قوله (أحسن، الثواب) إشارة إلى المذكور قبله.
والثاني: أن يكؤن حسن الثواب غير المذكور أولاً، فنبه أنّ ما
ذكرت أولاً هو الذي عرفتكم، وعند الله حسن الثواب، الذي لم
يُعَرِّفْكُموه لعجزكم عن الوقوف عليه إشارة إلى المذكور في
قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)
وفي قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
1058
قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)
أصل الغًرِّ: الطيُّ الذي ينكسر عليه المطوي، فجُعِلَ عبارة
عمن انطوى على اعتقاد يمنع عن رفع بصيرته، ولذلك سُمي
الاعتمّاد طَوِية، ونحو الغرِّ الاستدراج تشبيها بالمدرج، ومن
هذا قال: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)؛ والتقلب في البلاد ليس يعني
المشي فيها، وإنما يعني التوسع في أعراض الدنيا،
1059
والمتاع: ما فيه تمتع ما، والآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن جعل ما يتمتع به في الدنيا وإن كَثُرَ.
قليلًا في جنب ثواب الله تعالى.
فلا يجب أن يُغتر به، إذا اعتُبر بما يحصل
لأربابها في المآل من العذاب.
والثاني: أنه أراد بالقليل قلة الفناء.
وأراد بجهنم: جهنّم الدنيا وجهنّم الآخرة، تنبيهاً أن من حصل
له مال لا ينفك من شُغلٍ لا ينقضى عناؤه، وفقر لا يُدرك
غناؤه، وحزنٍ على فوت محبوب، وخوفٍ على فقد مطلوب.
كأنهم في جهنم من سَلْب ما لهم، وفي جهنم عند مآلهم، كما
قال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وذكر (الْمِهَادُ) على سبيل المثل،
1060
كقوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ).
قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)
ذكره تعالى لـ (لَكِنِ) لكون حكم ما بعده منافياً لما قبله.
وقد ذكر في قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
الوجهان اللذان ذكرا في قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وقيل: عنى به أنهم من طيب عيشهم في القناعة.
ورفضهم فضولات الدنيا في جنّاتٍ صفتها كذلك.
وذلك على التشبيه، وإياه قصد بقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
1061
قال: والذي يدلّ على هذا قوله: (نُزُلًا).
والنزُلُ ما يجُعل للإِنسان في طريقه، ليستعين به على سفره.
وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أو تفسير، كقولك:
هذا لك هبة، وفي قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)،
1062
الوجهان المذكوران في قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
وقيل: عنى بذلك ما قاله - ﷺ -:
"الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ".
تنبيهًا أن المؤمن يتبرم بها شوقا إلى ما أُعِدَّ له.
والكافر يطمئن إليها، ويشتاق إليها عند فراقها مع ما فيها من
الشوائب لما أُعِدَّ له من العذاب.
وقال عبد الله: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها.
ثم تلا هذه الآية في الأبرار.
وتلا قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) في الفجار.
1063
قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩)
الخشوع: كالخضوع، لكن أكثر ما يقال في الخشوع ما اعتُبر
فيه حال القلب، والخضوع فيما اعتُبر فيه حال الجوارح.
وإن كان يُستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر.
فقول الحسن: الخشوع ثبات الخوف في القلب.
وقول غيره: هو ما يظهر من الخضوع الدال على الخوف
من عقاب الله، واحد في الحقيقة،
1064
ولما ذم فيما تقدم كفار أهل الكتاب بيَّن هاهنا: أن من خالفهم
في سوء اعتقادهم وأفعالهم فحكمهم بخلاف حكمهم.
وذكر ما فيه تنبيه على الإِيمان والأعمال الصالحة، وترك تتبُّع دِقَاق
المطامع، وذلك أحكام الشرع.
إن قيل: ما فائدة قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ها هنا؟
قيل: الحساب إشارة إلى الثواب المجعول لهم في مقابلة فعلهم.
وسقاه حساباً لقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
وبيّن بقوله: سريع الحساب أن ذلك لا يتأخر عنهم.
لما كانت النفس مولعة بحب العاجل.
ونبّه على أمرين: أحدهما: ما يجعل لهم في الدنيا المدلول عليه بقوله:
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ).
1065
الثاني: أن المدعُوَّ به في الآخرة سريعٌ وقوعه وإن كان في ظنِّ الكافرين بطيئاً حصوله.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
الصبر أعمُّ من المصابرة، إذ كان يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعل واحد، والمصابرة، يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعلان متقابلان.
والصبر: حبس النفس على ما يحمد،
1066
وعما يُذمُّ، ولهذا قيل: هو اسم لأعم الفضائل.
وله ثلاث منازل:
إمساك الجوارح الظاهرة عن الإِقدام على ما يُكره.
وإمساك اللسان عن إظهار التألُم منه.
وإمساك القوى عن تحرُّكها بالتألُم منه.
وهذه منزلة الصدّيقين.
والمصابرة ضربان:
مصابرة العِدى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية.
ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل.
وهي عظماهما، والمرابطة كذلك على ضربين:
1067
مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابطة النفس البدن، فإنها كمن أُقيم في
ثغر، وفُوِّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مُخل به إلى أن
يُعزَل عنه أو يُستردّ منه، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من
قال: اصبروا في أنفسكم، وصابروا عدوكم، ورابطوا الثغور.
وقول من قال: اصبروا بجوارحكم على الطاعة، وصابروا
بقلوبكم مع الله، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة، وقد نبّه
1068
على - عموم ذلك النبي - ﷺ -، حيث قال:
"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة".
إن قيل: كيف أخّر ذكر التقوى؟
قيل: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى.
وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله، وذلك لا يكون إلا بعد هذه
الأشياء، وكأنه قال: إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا
الفلاح، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة.
فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة، قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتركوا
القبائح له، فبتركها تُدرك هذه الثلاث، ويكون الفلاح عبارة
1069
عن هذه الثلاث، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدم، وعلى
الأول متأخر. والله أعلم.
1070
Icon