تفسير سورة السجدة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي ثلاثون آية، وستمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ ذي الجلال والإكرام ﴿ الرحمان ﴾ بعموم البشارة والنذارة ﴿ الرحيم ﴾ الذي أسكن في قلوب أحبابه الشوق إليه والخضوع بين يديه.

وتقدّم في البقرة وغيرها الكلام على ﴿ ألم ﴾ ومما لم يسبق أنها إشارة إلى أنّ الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته ووحدانية من أرسله، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور فزادت على الطواسين بواحدة إشارة إلى أنّ هذه المعاني في غاية الثبات لا انقطاع لها.
ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء أخبر سبحانه وتعالى عن هذا بأنه من عنده بقوله تعالى :﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي : الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾ لأنّ نافي الشك هو الإعجاز معه لا ينفك عنه فكل ما تقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب حال كونه ﴿ من ربّ العالمين ﴾ أي : الخالق لهم المدبر لمصالحهم فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصوّر في خيال أنه يصل شيء من كتابه تعالى إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، ولا يتخيل أنّ شيئاً منه ليس بقول الله تعالى ثم لا يتخيل أنه من كلامه ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب ؛ لأنّ هذا لا يفعل مع بعض الملوك فكيف بملك الملوك فكيف بمن هو عالم بالسرّ والجهر، محيطٌ علمه بالخفي والجلي.
تنبيه : في تنزيل الكتاب إعرابات مختلفة، وأظهرها ما جرى عليه الجلال المحلي من أنّ تنزيل الكتاب مبتدأ، ولا ريب فيه خبر أوّل ومن رب العالمين خبر ثان.
وقوله تعالى :﴿ أم يقولون ﴾ أي : مع ذلك الذي لا يمتري فيه عاقل ﴿ افتراه ﴾ أي : تعمد كذبه، أم فيه هي المنقطعة والإضراب للانتقال لا للإبطال، وقيل الميم صلة، أي : أتقولون افتراه. وقوله تعالى ﴿ بل هو الحق ﴾ أي : الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله إضراب ثان، ولو قيل بأنه إضراب إبطاليّ لنفس افتراه وحده لكان صواباً، وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب فهو إضراب انتقالي، إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالياً لأنه إبطال لقولهم أي : ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحق. وفي كلام الزمخشري ما يرشد إلى هذا فإنه قال : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريب في ذلك أي : في كونه من رب العالمين. قال ابن عادل : ويشهد لوجاهته أم يقولون افتراه لأنّ قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله بل هو الحق من ربك وما فيه من تقرير أنه من عند الله، وهذا أسلوب صحيح محكم انتهى. وقوله تعالى ﴿ من ربك ﴾ أي : المحسن إليك بإنزاله وإحكامه حال من الحق، والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل أيضاً في
﴿ لتنذر ﴾ ويجوز أن يكون العامل في لتنذر غيره، أي : أنزله لتنذر ﴿ قوماً ﴾ أي : ذوي قوّة وجلد ومنعة ﴿ ما أتاهم من نذير ﴾ أي : رسول في هذه الأزمان القريبة لقول ابن عباس أنّ المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله تعالى ﴿ من قبلك ﴾ ولما ذكر تعالى علة الإنزال أتبعه علة الإنذار بقوله تعالى :﴿ لعلهم يهتدون ﴾ أي : ليكون حالهم في مجاري العادات حال من تُرجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأمّا التوحيد فلا عذر لأحد فيه مع إقامة الله تعالى من حجة العقل ومع ما أتقنه الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من أوضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه :«أبي وأبوك في النار » وغير ذلك من الأدلة الدالة على أنّ من مات قبل دعوته على الشرك فهو في النار، لكن ذكر بعض العلماء أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أحيا له أبويه وأسلما على يديه ولا بدع في ذلك، فإنّ الله تعالى أكرمه بأشياء لا تحصر.
ولما ذكر تعالى : الرسالة وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل قال :﴿ الله ﴾ أي : الحاوي لجميع صفات الكمال وحده ﴿ الذي خلق السماوات ﴾ كلها ﴿ والأرض ﴾ بأسرها ﴿ وما بينهما ﴾ من المنافع العينية والمعنوية ﴿ في ستة أيام ﴾ كما يأتي تفصيله في فصلت إن شاء الله تعالى ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ وهو في اللغة سرير الملك استواء يليق به تعالى لم تعهدوا مثله وهو أنه تعالى أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه لا شريك له ولا نائب فيه ولا وزير كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا امتنعت ممالكهم وتباعدت أطرافها وتناءت أقطارها ﴿ ما لكم من دونه ﴾ لأن كل ما سواه دونه وتحت قهره، ودل على عموم النفي بقوله تعالى :﴿ من ولي ﴾ أي : يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به ﴿ ولا شفيع ﴾ يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذن. ﴿ أفلا تتذكرون ﴾ هذا فتؤمنون.
ولما نفى أن يكون له وزيرٌ أو شريكٌ في الخلق ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء :﴿ يدبر الأمر ﴾ أي : كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لأحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئاً منه إلى أحد من خلقه. قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهاره القدرة، والعرش مظهر التدبير لا مقر لمدبر.
ولما كان المقصود للقرب إنما هو تدبير ما يمكن مشاهدتهم له من العالم قال تعالى مفرداً :﴿ من السماء ﴾ أي : فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في إدبار ما يعمله ﴿ إلى الأرض ﴾ أي : غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم العلوي، والأرض تشمل كل ما سفل فيشمل ذلك العالم السفلي.
تنبيه : ههنا همزتان مكسورتان، فقالون وابن كثير يسهل الأولى كالياء مع المد والقصر، وورش وقنبل يسهل الثانية، ولهما إبدالهما من غير مدٍّ، وأسقط أبو عمرو الأولى مع المد والقصر والباقون بتحقيقهما.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد فكان بذلك مستبعداً ؛ أشار إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ ثم يعرج ﴾ أي : يصعد ﴿ إليه ﴾ أي : بصعود الملك إلى الله تعالى أي : إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى ﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾ ( الصافات : ٩٩ ) ﴿ ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ﴾ ( النساء : ١٠٠ ) ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير إلى السماء كأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم في أسرع من لمح البصر ﴿ في يوم ﴾ أي : من أيام الدنيا ﴿ كان مقداره ﴾ لو كان الصاعد واحداً منكم على ما تعهدون ﴿ ألف سنة مما تعدون ﴾ من سنيكم التي تعهدون، قال البقاعي : والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءا، أو لا يبعد هذا وهو خلق محتاج، فما ظنّك بمن خلق الخلق في ستة أيام ولو شاء لخلقهم في لمحة، وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء انتهى.
فنزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو ما بين السماء والأرض فإن مسافته خمسمائة سنة، فينزل في مسيرة خمسمائة سنة، ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة كأنه تعالى يقول : لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة، والملائكة يقطعونه في يوم واحد، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء، وأما قوله تعالى :﴿ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ ( المعارج : ٤ ) فأراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام، فسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال :«بين السماء والأرض خمسمائة عام ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : سماء أخرى أتدرون كم بينها وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : خمسمائة عام حتى عد سبع سماوات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : العرش ثم قال : أتدرون ما بينه وبين السماء السابعة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام، ثم قال : ما هذه تحتكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض، أتدرون ما تحتها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض أخرى أتدرون كم بينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة سبعمائة عام، حتى عد سبع أرضين ثم قال : وأيمُ الله لو دليتم بحبل لهبط على علم الله وقدرته » وروي :«مَثَلُ السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة ».
وقوله تعالى :﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥٥ ) يدل على أن الكرسي محيط بالكل. وقيل : مقدار ألف سنة وخمسين ألف سنة كلها في القيامة، ومعناه حينئذ : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا في يوم كان مقداره ذلك، وذلك اليوم يتفاوت، فهو على الكافر كخمسين ألف سنة، وعلى المؤمن دون ذلك. بل جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كمثل صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا.
وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ؛ وذلك لأن من نفد أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله :﴿ في يوم كان مقداره ألف سنة ﴾ يعني : يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه ؟ وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله :﴿ مقداره خمسين ألف سنة ﴾ لأن ذلك إذا كان إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة لا يتفاوت، إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى.
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر بيّن أنه تعالى عالم بما كان وما يكون بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الإله الواحد القهار، ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي : ما غاب عن الخلق، ومنه الذي تقدمت مفاتيحه وما حضر وظهر فيدبر أمرهما ﴿ العزيز ﴾ أي : الغالب على أمره ﴿ الرحيم ﴾ على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه تعالى يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً.
ولما ذكر تعالى الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله تعالى :﴿ خلق السماوات والأرض وما بينهما ﴾ ذكر الدليل عليها من الأنفس بقوله تعالى :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه ﴾ قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ ( التين : ٤ )
وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء من قول القائل : فلان يحسن كذا إذا كان يتقنه، وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض، وقيل : معناه أحسن إلى كل خلقه.
وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام فعلاً ماضياً، والجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه، والباقون بسكونها على أنه بدل من كل شيء بدل اشتمال والضمير عائد على كل شيء.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس وكان الإنسان أشرفه خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام بالآفاق. فقال دالاً على البعث :﴿ وبدأ خلق الإنسان ﴾ أي : آدم عليه السلام ﴿ من طين ﴾ قال الرازي : ويمكن أن يقال الطين ماء وتراب مجتمعان، فالآدمي أصله مني، والمني أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين.
﴿ ثم جعل نسله ﴾ أي : ذريته ﴿ من سلالة ﴾ أي : نطفة سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه، ونحوه قولهم للولد : سليل، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من الطين ونسله من سلالة ﴿ من ماء مهين ﴾ أي : ضعيف، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من طين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي ماء مهين وهو نطفة الرجل.
وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله تعالى :﴿ ثم سواه ﴾ قومه بتصوير أعضائه وإبداع المعاني على ما ينبغي ﴿ ونفخ فيه ﴾ أي : آدم ﴿ من روحه ﴾ أي : جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً، وإضافة الروح إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، فيا له من شرف ما أعلاه، ففيه إشعار بأنه خلق عجيب وإن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية، قال البيضاوي : ولأجله أي : ولأجل كون أن له شأناً إلى آخره. روي :«من عرف نفسه فقد عرف ربه ». هذا الحديث لا أصل له، وبتقدير أن له أصلاً ليس معناه ما ذكر بل معناه : من عرف نفسه وتأمل في حقيقتها عرف أن له صانعاً موجداً له، وإليه أشار بقوله تعالى :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ﴾ ( الذاريات : ٢١ ) ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد مخاطباً للذرية بقوله تعالى :﴿ وجعل لكم ﴾ بعد أن كنتم نطفاً أمواتاً ﴿ السمع ﴾ أي : لتدركوا به ما يقال لكم ﴿ والأبصار ﴾ أي : لتدركوا بها الأشياء على ما هي عليه ﴿ والأفئدة ﴾ أي : القلوب المودعة غرائز العقول.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم السمع على البصر والبصر على الأفئدة ؟ أجيب بأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه، فإن قيل : ما الحكمة في ذكره المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ؛ لأن المصدر لا يجمع ؟ أجيب : بأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأُذن ولا اختيار لها فيه، وإن الصوت من أي جانب كان واصل إليه ولا قدرة للأُذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض، وأما البصر فمحله العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محله الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره.
فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له، والعين كالأصل، وقوة الإبصار آلتها، والفؤاد كذلك، وقوة الفهم آلته، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة، ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد، ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويثبتهما.
فإن قيل : لم قدم السمع هنا وقدم القول في قوله تعالى في البقرة ﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ﴾ ( البقرة : ٧ ) أجيب : بأنه تعالى عند الإعطاء ذكر الأدنى ثم ارتقى إلى الأعلى فكأنه قال : أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب، وعند السلب قال : ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها.
ولما لم يبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال تعالى :﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾ أي : تشكرون شكراً قليلاً، فما مزيدة مؤكدة للقلة.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ معطوف على ما سبق منهم فإنهم قالوا : محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجب من كفرهم وكان استبعادهم للبعث الذي هو الثابت الأصل من أعظم كفرهم وهو قولهم ﴿ أئذا ﴾ أي : انبعث إذا ﴿ ضللنا ﴾ أي : غبنا ﴿ في الأرض ﴾ أي : صرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض لا نتميز منه، وأصله من ضل الماء في اللبن إذا أذهب فيه، وقولهم ﴿ أئنا لفي خلق جديد ﴾ أي : يجدد خلقنا استفهام إنكاري زيادة في الاستبعاد.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه، وذكر الوحدانية، وذكر دليلها وهو خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من طين. ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل ؟ أجيب : بأنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلقة الإنسان ابتداء دليل على قدرته على الإعادة، ولهذا استدل تعالى على إنكار الحشر بالخلق الأول ثم يعيده وهو أهون عليه وقوله تعالى :﴿ الذي أنشأها أول مرة ﴾ ( يس : ٧٩ ) وأيضاً ﴿ خلق السماوات والأرض ﴾ كما قال :﴿ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى ﴾ ( يس : ٨٠ ) وقرأ نافع والكسائي ﴿ أئذا ضللنا في الأرض ﴾ أنا الأول : بالاستفهام والثاني : بالخبر، وقرأ ابن عامر الأول بالخبر الثاني بالاستفهام، والباقون بالاستفهام فيهما، ومذهب قالون وأبي عمرو في الاستفهام تسهيل الثانية وإدخال الألف بينها وبين همزة الاستفهام، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وهشام يسهل الثانية ويحققها مع الإدخال، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال. وقوله تعالى ﴿ بل هم بلقاء ربهم كافرون ﴾ أي : جاحدون إضراب عن الأول أي : ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة، حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب، أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله، فإنهم كرهوه فأنكروا المفضي إليه.
ثم بين لهم ما يكون من الموت إلى العذاب بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أفضل الخلق لهم ﴿ يتوفاكم ﴾ أي : يقبض أرواحكم ﴿ ملك الموت الذي وكل بكم ﴾ أي : بقبض أرواحكم وهو عزرائيل عليه السلام والتوفي : استيفاء العدد، معناه : أن يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت، روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحةٍ لليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة، فهو يقبض أنفس الخلق من مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت، وعن معاذ بن جبل أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال : الآن يزار بك عسكر الموت، فيصير ملقىً لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعى الخلل بسببه.
فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده تعالى صرّفه في ذلك فقام به كما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب ؛ لأنه ربما يستدل بعض الحذق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ومدبر الخلائق أجمعين. نسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد، وأن يستعملنا في طاعته ما أحيانا ويفعل ذلك بأهلنا وإحبائنا.
ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره، وعطف عليه قوله تعالى ﴿ ثم إلى ربكم ﴾ أي : الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ﴿ ترجعون ﴾ أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى :﴿ ولو ترى ﴾ أي : تبصر ﴿ إذ المجرمون ﴾ أي : الكافرون ﴿ ناكسوا رؤوسهم ﴾ أي : مطأطؤها خوفاً وخجلاً وحزناً وذلاً ﴿ عند ربهم ﴾ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة ﴿ ربنا ﴾ أي : المحسن إلينا ﴿ أبصرنا ﴾ أي : ما كنا نكذب به ﴿ وسمعنا ﴾ منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه ﴿ فارجعنا ﴾ بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل ﴿ نعمل صالحاً ﴾ فيها ﴿ إنا موقنون ﴾ أي : ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك. فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمراً فظيعاً، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقيق وقوعه نحو ﴿ أتى أمر الله ﴾ ( النحل : ١ ) وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه.
وقوله تعالى :﴿ ولو شئنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ لآتينا كل نفس ﴾ أي : مكلفة لأن الكلام فيها ﴿ هداها ﴾ فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها جواب عن قولهم ﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا ﴾ وذلك أن الله تعالى قال : إني لو أردت منكم الإيمان لهديتكم في الدنيا.
ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت ولا شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا : إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ﴿ ولكن ﴾ لم أشأ ذلك لأنه ﴿ حق القول مني ﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد ؛ لأن الإخلاف إما لعجزٍ أو نسيانٍ أو حاجةٍ ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ولا يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً :﴿ لأملأن جهنم ﴾ أي : التي هي محل إهانتي ﴿ من الجنة ﴾ أي : الجن طائفة إبليس، وكأنه تعالى أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ﴿ والناس أجمعين ﴾ حيث قلت لإبليس :﴿ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾ ( ص : ٨٥ ) فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص بهم عن عذابهم قال لهم الخزنة إذا دخلوا جهنم :﴿ فذوقوا ﴾ العذاب ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ نسيتم لقاء يومكم ﴾ وحققه وبين ذلك بقوله تعالى :﴿ هذا ﴾ أي : بترككم الإيمان به ﴿ إنا نسيناكم ﴾ أي : عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي لكم فتركناكم في العذاب ﴿ وذوقوا عذاب الخلد ﴾ أي : المختص بأنه لا آخر له ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كنتم تعملون ﴾ أي : من الكفر والتكذيب وإنكار البعث.
ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفران ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى :﴿ إنما يؤمن بآياتنا ﴾ أي : الدالة على عظمتنا ﴿ الذين إذا ذكروا بها ﴾ أي : من أي : مذكر كان في أي : وقت كان ﴿ خروا سجداً ﴾ أي : بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعاً ثابتاً دائماً ﴿ وسبحوا ﴾ أي : أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين ﴿ بحمد ربهم ﴾ أي : قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل : صلوا بأمر ربهم.
ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى ﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ أي : عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت الصلاة » وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع.
ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبيناً لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى :﴿ تتجافى ﴾ أي : ترتفع وتنبو ﴿ جنوبهم عن المضاجع ﴾ عبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة :
نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
والمضاجع : جمع المضجع وهو الموضع الذي يضجع عليه يعني الفراش وهم المتهجدون الذين يقيمون الصلاة. قال أنس :«نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم » وعن أنس أيضاً قال :«نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء » قال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
وعنه صلى الله عليه وسلم :«من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة » وعن أنس كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وعنه أيضاً قال :«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقداً قط قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها » فإن هذه الآية نزلت في ذلك، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم » فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقه قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.
وعن مالك بن دينار قال : سألت أنساً عن هذه الآية فقال : كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى العشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وعن ابن أبي حازم قال : هي ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، وعن معاذ ابن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ قال : قيام العبد من الليل، وعن معاذ بن جبل أيضاً قال :«كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ ﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ حتى بلغ ﴿ يعملون ﴾ ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ فقلت : بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال : كف عنك هذا فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ».
وعن كعب قال : إذا حشر الناس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ثم يخرج عنق من نار فيقول : أمرت بثلاثٍ : بمن جَعَلَ مع الله إلهاً آخر، وبكل جبار عنيد، وبكل معتدٍ، لأَنَا أعرف بالرجل من الوالد بولده والمولود بوالده، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون : تحبسونا ما كان لنا أموال وما كنا أمراء، وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة للداء ».
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وما عليه في الرجوع فرجع حتى هريق دمه » وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه فقلت : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً » وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام ».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ربيعة الخرشي قال : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد فيكونون ما شاء الله أن يكونوا، ثم ينادي منادٍ : سيعلم أهل الجمع لمن يكون العز اليوم والكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً فيقومون وفيهم قلة، ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم يعود فينادي المنادي : سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم أكثر من الأولين ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ثم يعود فينادي المنادي : سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم، ليقم الحامدون على كل حال فيقومون وهم أكثر من الأولين، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ تتجافى في جنوبهم عن المضاجع ﴾ يقول : تتجافى لذكر الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى : مبيناً لحالهم ﴿ يدعون ﴾ أي : داعين ﴿ ربهم ﴾ الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى :﴿ خوفاً ﴾ أي : من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء ﴿ وطمعاً ﴾ في رضاه الموجب لثوابه، وقال ابن عباس : خوفاً من النار وطمعاً في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته.
ولما كانت العبادة تقطع غالباً عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى :﴿ ومما رزقناهم ﴾ أي : بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة ﴿ ينفقون ﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتماداً على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم.
ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل :﴿ فلا تعلم نفس ﴾ أي : من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ﴿ ما أُخفي ﴾ أي : خبئ ﴿ لهم ﴾ أي : لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى ﴿ من قرة أعين ﴾ أي : من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى :﴿ جزاء ﴾ أي : أخفاها لهم لجزائهم ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يعملون ﴾ أي : من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتهم ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ﴾ الآية وعن ابن مسعود قال :«إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾.
وعن ابن عمر قال : إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن : يا فلان ابن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول : ومن أنتن ؟ فيقلن : نحن من اللاتي قال الله تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ وعن عامر بن عبد الواحد قال : بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكان سبعين سنة، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا مزيد، فيمكث معها سبعين سنة ويلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه، فتقول : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا التي قال الله تعالى ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾.
وعن سعيد بن جبير قال : يدخلون عليهم على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم، وذلك قوله تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ وعن كعب قال : سأصف لكم منزل رجل من أهل الجنة كان يطلب حلالاً ويأكل حلالاً حتى لقي الله تعالى على ذلك، فإنه يعطى يوم القيامة قصراً من لؤلؤة واحدة ليس فيها صدع ولا وصل، فيها سبعون ألف غرفة، وأسفل الغرف سبعون ألف بيت كل بيت سقفه صفائح الذهب والفضة ليس بموصول، ولولا أن الله تعالى سخر النظر لذهب بصره من نوره غلظ الحائط خمس عشر ميلاً وطوله في السماء سبعون ميلاً، في كل بيت سبعون ألف باب يدخل عليه في كل بيت من كل باب سبعون ألف خادم لا يراهم من في هذا البيت ولا يراهم من في هذا البيت، فإذا خرج من قصره سار في ملكه مثل عمر الدنيا يسير في ملكه عن يمينه وعن يساره ومن ورائه، وأزواجه معه وليس معه ذكر غيره ومن بين يديه ملائكة قد سخروا له وبين أزواجه ستر، وبين يديه ستر ووصاف ووصائف قد أفهموا ما يشتهي وما تشتهي أزواجه، ولا يموت هو ولا أزواجه ولا خدّامه أبداً، نعيمهم يزداد كل يوم من غير أن يبلى الأول، وقرة عين لا تنقطع أبداً، لا يدخل عليه فيه روعة أبداً.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«والذي نفسي بيده لو أن أحد أهل الجنة رجل أضاف آدم فمن دونه فوضع لهم طعاماً وشراباً حتى خرجوا من عنده لا ينقصه ذلك شيئاً مما أعطاه الله » وعن سهل بن سعد قال :«بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى ثم قال : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال :﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ الآيتين قال القرطبي : إنهم أخفوا عملاً وأخفى لهم ثواباً فقدموا على الله فقرت تلك الأعين، وعن أبي اليمان قال : الجنة مائة درجة أولها درجة فضة وأرضها فضة ومساكنها فضة وآنيتها فضة وترابها المسك، والثانية ذهب وأرضها ذهب ومساكنها ذهب وآنيتها ذهب وترابها المسك، والثالثة لؤلؤ وأرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيتها لؤلؤ وترابها المسك وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وتلا هذه الآية ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ الآية.
وعن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال : أي : رب، أي : أهل الجنة أدنى منزلة ؟ فقال : رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل فيقول كيف أدخل وقد نزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول : نعم أي : رب قد رضيت فيقال له : فإن لك هذا وعشرة أمثاله معه فيقول : قد رضيت أي رب فيقال له : فإن لك هذا وما اشتهت نفسك ولذت عينك فقال موسى : أي : رب فأي أهل الجنة أرفع منزلة ؟ قال : إياها أردت وسأحدثك عنهم، إني غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال : ومصداق ذلك في كتاب الله ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾.
ونزل في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه حين تنازعا فقال الوليد بن عقبة لعلي : اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وأنا والله أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأشجع جناناً وأملأ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي اسكت فإنك فاسق.
﴿ أفمن كان مؤمناً ﴾ أي : راسخاً في التصديق بجميع ما أخبرت به الرسل ﴿ كمن كان فاسقاً ﴾ أي : راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان وقال تعالى ﴿ لا يستوون ﴾ ولم يقل تعالى لا يستويان ؛ لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين فلا يستوي جمع من هؤلاء بجميع من أولئك ولا فرد بفرد. قال قتادة : لا يستوون لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
ولما نفى استواءهم أتبعه حال كلٍّ على سبيل التفصيل وبدأ بحال المؤمن بقوله تعالى :﴿ أما الذي آمنوا وعملوا ﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿ الصالحات ﴾ أي : الطاعات ﴿ فلهم جنات المأوى ﴾ أي : التي يأوي إليها المؤمنون فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة، وهي نوع من الجنات قال الله تعالى :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ( ١٣ ) عند سدرة المنتهى ( ١٤ ) عندها جنة المأوى ﴾ ( النجم : ١٣، ١٥ ) سميت بذلك لما روى عن ابن عباس قال : تأوي إليها أرواح الشهداء وقيل هي عن يمين العرش ﴿ نزلاً ﴾ أي : عداداً لهم أول قدومهم قال البقاعي : كما يهيأ للضيف على ما لاح أي : عند قدومه ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يعملون ﴾ من الطاعات فإن أعمالهم من رحمة ربهم، وإذا كانت هذه الجناب نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك هو لعمري ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم :«ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها، فإياك أن تخادع أو يغرنك ملحد.
ثم ثنى بحال الكافر بقوله تعالى :﴿ وأما الذين فسقوا ﴾ أي : خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة ﴿ فمأواهم النار ﴾ أي : التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه ملجؤهم ومنزلهم أي : فالنار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ﴿ كلما أرادوا ﴾ أي : وهم مجتمعون، فكيف إذا أراد بعضهم ﴿ أن يخرجوا منها ﴾ بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون نفوسهم من محيط الأدلة ومن دائرة الطاعات إلى ميدان المعاصي والزلات فيعالجون الخروج، فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ﴿ أعيدوا فيها ﴾ فهو عبارة عن خلودهم فيها ﴿ وقيل لهم ﴾ أي : من أي : قائل وكل بهم ﴿ ذوقوا عذاب النار ﴾ إهانة لهم وزيادة في تغيظهم وقوله تعالى ﴿ الذي كنتم به تكذبون ﴾ صفة لعذاب، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجحيم والحريق.
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى :﴿ ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى ﴾ أي : عذاب الدنيا، قال الحسن : هو مصائب الدنيا وأسقامها وقال عكرمة : الجوع بمكة تسع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب، وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر ﴿ دون العذاب الأكبر ﴾ وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة، فإن قيل : ما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر، والأدنى إنما هو في مقابلة الأقصى والأكبر إنما هو في مقابلة الأصغر.
أجيب : بأنه حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب، والآخر : أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران : أحدهما : أنه بعيد، والآخر : أنه عظيم كبير، لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح للتخويف، فإن العذاب الآجل وإن كان قليلاً فلا يحترز عنه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل.
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد ؛ لما ذكر. فقال في عذاب الدنيا : العذاب الأدنى ليحترز العاقل ولو قال تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان ليحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة : الأكبر لذلك المعنى، ولو قال : من العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه من الكبر ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ إلى الإيمان أي : من بقي منهم بعد بدر، فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال، أجيب بوجهين : أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجي كقوله تعالى ﴿ إنا نسيناكم ﴾ يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً كذلك هنا، والثاني : نذيقنهم العذاب، إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه.
﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ممن ذكر بآيات ربه ﴾ أي : القرآن ﴿ ثم أعرض عنها ﴾ فلم يتفكر فيها، وثم لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكر بها عقلاً كما في بيت الحماسة :
وما يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي : لا يكشف الأمر العظيم إلا رجل كريم موصوف بما ذكر، والغماء بتشديد الميم والمد أي : في مدة اقتحام الحرب، والشاهد في قوله : ثم يزورها، إذ المعنى أنه استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها ﴿ إنا من المجرمين ﴾ أي : الكافرين ﴿ منتقمون ﴾ وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على مجرد العداد في الظالمين فكيف إذا كانوا أظلم الظالمين، والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وأما ظاهراً بإحلال النقم وفي الآخرة بدوام العذاب على ممر الآباد.
ولما قرر الأصول الثلاثة وعاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله تعالى ﴿ لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير ﴾ ( القصص : ٤٦ ) بين أنه ليس بدعا من الرسل بقوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ أي : الجامع للأحكام وهو التوراة فكان قبلك رسل مثلك، وذكر موسى عليه السلام لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من أنزل عليه كتاب من أنبياء بني إسرائيل بعد فترة كثيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام، ولم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوءة موسى عليه السلام فذكر المجمع عليه ﴿ فلا تكن في مريه ﴾ واختلف في الهاء في قوله تعالى ﴿ من لقائه ﴾ على أقوال : أحدها : أنها عائدة على موسى عليه السلام والمصدر مضاف لمفعوله أي : من لقائك موسى ليلة الإسراء.
وامتحن المبرد الزجاج في هذه المسألة فأجاب بما ذكر قال ابن عباس وغيره : المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار والدجال في آيات آراهن الله إياه » وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو يصلي في قبره »، فإن قيل : قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة، فكيف الجمع بين هذين الحديثين.
أجيب : بأنه يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، فلما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريده الله تعالى وهو على كل شيء قدير.
فإن قيل : كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون ؟ أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة.
الجواب الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى ﴿ دعواهم فيها سبحانك اللهم ﴾ ( يونس : ١٠ ) وقال صلى الله عليه وسلم :«يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس » فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم ﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ﴾ ( الأنبياء : ٢٠ ).
غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع. ثانيها : أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي : من لقاء الكتاب لموسى أو المفعول أي : من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما ؛ لأن من لقيك فقد لقيته. قال السدي : المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي : تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. ثالثها : أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي : من لقاء مثل كتاب موسى.
رابعها : أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره. خامسها : عوده على الرجوع المفهوم من قوله ﴿ إلى ربكم ترجعون ﴾ أي : لا تكن في مرية من لقاء الرجوع. سادسها : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي : لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون، ومن آمن به من بني إسرائيل آذاه أيضاً بالمخالفة، فطلبوا أشياء مثل رؤية الله جهرة، وكقولهم ﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا ﴾ ( المائدة : ٢٤ ) وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، واختلف في الضمير أيضاً في قوله تعالى ﴿ وجعلناه ﴾ على قولين : أحدهما : يرجع إلى موسى أي : وجعلنا موسى ﴿ هدى ﴾ أي : هادياً ﴿ لبني إسرائيل ﴾ كما جعلناك هادياً لأمتك. والثاني : أنه يرجع إلى الكتاب أي : وجعلنا كتاب موسى هادياً كما جعلنا كتابك كذلك.
﴿ وجعلنا منهم ﴾ أي : من أنبيائهم وأحبارهم ﴿ أئمة يهدون ﴾ أي : يرفعون البيان ويعملون على حسبه ﴿ بأمرنا ﴾ أي : بما نزلنا فيه من الأوامر، كذلك جعلنا من أمتك صحابة يهدون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة قبل الميم، ولهم أيضاً إبدالها ياء، وحققها الباقون ومد هشام بين الهمزتين بخلاف عنه، وقوله تعالى ﴿ لما صبروا ﴾ قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم أي : بسبب صبرهم على دينهم وعلى البلاء من عدوهم ولأجله، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي : حين صبرهم على ذلك، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله تعالى ﴿ وكانوا بآياتنا ﴾ الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لما لها من العظمة ﴿ يوقنون ﴾ أي : لا يرتابون في شيء منها ولا يعملون فعل الشاك فيها بالإعراض.
ولما أفهم قوله تعالى منهم أنه كان منهم من يضل عن أمر الله قال الله تعالى :﴿ إن ربك ﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ يفصل بينهم ﴾ أي : بين الهادين والمهديين والضالين والمضلين ﴿ يوم القيامة ﴾ بالقضاء الحق ﴿ فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ أي : من أمر الدين لا يخفي عليه شيء منه وأما غير ما اختلفوا فيه، فالحكم فيه لهم أو عليهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد بقوله تعالى :﴿ أولم يهد ﴾ أي : يبين كما رواه البخاري عن ابن عباس ﴿ لهم كم أهلكنا ﴾ أي : كثرة من أهلكنا ﴿ من قبلهم من القرون ﴾ الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها. وقوله تعالى ﴿ يمشون ﴾ حال من ضمير لهم ﴿ في مساكنهم ﴾ أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها كمساكن عاد وثمود وقوم لوط فيعتبروا ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على قدرتنا ﴿ أفلا يسمعون ﴾ سماع تدبر واتعاظ فيتعظوا بها.
﴿ أولم ﴾ أي : أيقولون في إنكار البعث أئذا ضللنا في الأرض ولم ﴿ يروا أنا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ نسوق الماء ﴾ أي : من السماء أو الأرض ﴿ إلى الأرض الجرز ﴾ أي : التي جرز نباتها أي : قطع باليبس والتهشم أو بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبات فيها، وفي البخاري عن ابن عباس أنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز ويدل عليه قوله تعالى ﴿ فنخرج به ﴾ من أعمال الأرض بذلك الماء ﴿ زرعاً ﴾ أي : نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب، وقيل الجرز : اسم موضع باليمن ﴿ تأكل منه أنعامهم ﴾ أي : من حبه وورقه وتبنه وحشيشه ﴿ وأنفسهم ﴾ أي : من الحبوب والأقوات، وقدّم الأنعام لوقوع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم ولأن الزرع غذاء للدواب لابد منه، وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع، ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
فإن قيل : في سورة عيسى قدم ما للإنسان أولاً فما الحكمة ؟ أجيب : بأن السياق فيها لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه ﴾ ( عبس : ٢٤ ) ثم قال :﴿ فأنبتنا فيها حباً ﴾ ( عبس : ٢٧ ) وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام فقدمه، وهذا السياق لمطلق إخراج الزرع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام ولا يصلح للإنسان. ولما كانت هذه الآية مبصرة قال ﴿ أفلا يبصرون ﴾ هذا فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم بخلاف الآية الماضية فإنها كانت مسموعة فقال :﴿ أفلا يسمعون ﴾.
ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى :﴿ ويقولون ﴾ أي : مع هذا البيان الذي ليس معه خفاء ﴿ متى هذا الفتح ﴾ أي : يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل : هو يوم بدر، وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لابد من وقوعه حتى نؤمن إذا رأيناه.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الجهلة ﴿ يوم الفتح ﴾ أي : الذي تستهزئون به وهو يوم القيامة ﴿ لا ينفع الذين كفروا ﴾ أي : غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها، سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف ﴿ إيمانهم ﴾ لأنه ليس إيماناً بالغيب ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ أي : يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منتظر ما، فإن قيل : قد سألوا عن وقت الفتح فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً عن سؤالهم ؟ أجيب : بأنه كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما علم من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا بعد ولا تستهزؤا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدارك العذاب فلم تنظروا.
فإن قيل : فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر، أجيب : بأن المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه حال إدراك الغرق.
وقوله تعالى :﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي : لا تبال بتكذيبهم ﴿ وانتظر ﴾ أي : إنزال العذاب بهم ﴿ إنهم منتظرون ﴾ أي : بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك، كان ذلك قبل الأمر بقتالهم وقيل : انتظر عذابهم بيقينك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ ( الأعراف : ٧٠ ) وعن أبي هريرة قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل في الركعة الأولى، وهل أتى على الإنسان أي : في الركعة الثانية » وعن جابر قال :«كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك، وألم تنزيل، ويقول : هما يفضلان على كل سورة في القرآن بسبعين حسنة ومن قرأهما كتب له سبعون حسنة ورفع له سبعون درجة ».
وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ سورة ألم تنزيل أعطي من الأجر كمن أحيا ليلة القدر » وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عنه صلى الله عليه وسلم :«من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام » قال شيخ شيخنا ابن حجر : لم أجده. والله تعالى أعلم بالصواب.
Icon