تفسير سورة الأحزاب

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الأحزاب
( أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نزلت سورة الأحزاب بالمدينة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع وقال الداني هذا متفق عليه وأخرج عبد الرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها قلت : ثلاثا وسبعين آية فقال : أقط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فرفع فيما رفع وأراد رضي الله تعالى عنه بذلك النسخ وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن وهو ظاهر في الضياع من القرآن ومقتضى ما سمعت أنه موضوع والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن أما موضوع أو مؤول ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين وإتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي أتق الله ﴾

سورة الأحزاب
أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نزلت سورة الأحزاب بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع، وقال الداني هذا متفق عليه، وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والطيالسي، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي والحاكم وصححه، والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كائن (١) تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية فقال: اقطع (٢) لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع وأراد رضي الله تعالى عنه بذلك النسخ، وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن (٣) فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف.
وأخرج أبو عبيد في الفضائل، وابن الانباري، وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن، وهو ظاهر في الضياع من القرآن، ومقتضى ما سمعت أنه موضوع، والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إما موضوع أو مؤول، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدأت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزّ وجلّ حيث قال سبحانه وتعالى:
(١) أي كم اهـ منه.
(٢) أي احسب اهـ منه.
(٣) الداجن وكذا الراجن بالراء ما يألف البيوت ويأنس من شاة وغيرها اهـ منه. [.....]
140
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه جلّ وعلا بوصفه عليه الصلاة والسلام دون اسمه تعظيما له وتفخيما، قال في الكشاف إنه تعالى جعل نداءه من بين الأنبياء عليهم السلام بالوصف كرامة له عليه الصلاة والسلام وتشريفا وربأ بمحله وتنويها بفضله، وأوقع اسمه في الأخبار في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:
٢٩] وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران: ١٤٤] لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره تعالى بنحو ما ذكره في النداء كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ [الفرقان: ٣٠] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: ٦] إلى غير ذلك.
وتعقبه في الكشف بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ظاهر أما في قوله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ فلا، على أن قوله تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد: ٢] ينقض ما بناه، نعم النداء يناسب التعظيم وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم السلام في كتبهم أيضا على نحو منه، وحكي في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس، والأشبه أنه لما قل ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلم باسمه دلّ على أنه أعظم شأنا
141
صلوات الله تعالى وسلامه وعليهم أجمعين، وفيه نظر.
واختار الطيبي طيب الله تعالى ثراه أن النداء المذكور هنا للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي كقوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] وظاهر سياق ما بعد أن المعنى بالأمر بالتقوى هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لا أمته كما قيل في نظائره والمقصود الدوام والثبات عليها، وقيل: الازدياد منها فإن لها بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهدين بالكفر وَالْمُنافِقِينَ المضمرين لذلك فيما يريدون من الباطل أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم (١) وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فنزلت، وذكر الثعلبي والواحدي بغير إسناد أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور (٢) السلمي قدموا عليه عليه الصلاة والسلام في زمان الموادعة التي كانت بينه صلّى الله تعالى عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت، وقيل: نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا: لتعلم قريش منزلتنا منك ولا يبعد أن يكون المراد بالنهي الثبات على عدم الإطاعة، وذكره بعد الأمر بالتقوى المراد منه الثبات عليها على ما قيل من قبيل التخصيص بعد التعميم لاقتضاء المقام الاهتمام به، وقيل: من قبيل التأكيد، وقيل: متعلق كل من التقوى والإطاعة مغاير للآخر على ما روى الواحدي، والثعلبي، والمعنى اتق الله تعالى في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك من رفض ذكر آلهتهم وقولك: إنها تشفع وتنفع وكأنه إنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى في نقض العهد لما أن المؤمنين قد هموا بما يقتضيه بخلاف الإطاعة المنهي عنها فإنها مما لم يهم بما يقتضيها أحد أصلا فكان الاهتمام بالأمر أتم من الاهتمام بذلك النهي إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مبالغا في العلم والحكمة فيعلم الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلّا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلّا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلّا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهي مؤكد لوجوب الامتثال بها.
وقيل: المعنى أن الله كان عليما بمن يتقي فيجازيه بما يليق به حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء فالجملة تسلية له صلّى الله تعالى عليه وسلم، وليس بشيء، وقوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ عطف على ما تقدم من قبيل عطف العام على الخاص أي اتبع في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله تعالى الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين، والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قيل: الخطاب للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والجمع للتعظيم، وقال أبو البقاء: إنما جاء بالجمع لأنه عنى بقوله تعالى: اتَّبِعْ ما يُوحى إلخ اتبع أنت وأصحابك وقيل:
للغائبين من الكفرة المنافقين وبطريق الالتفات ولا يخفى بعده. نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب، وأيا ما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه فكأنه قيل على الأول: إن الله تعالى يعلم بما تعمل فيرشدك إلى ما فيه
(١) وفي رواية ويزوجه شيبة بنته اهـ منه.
(٢) اسمه عمرو بن أبي سفيان اهـ منه.
142
الصلاح فلا بد من اتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما، وعلى الثاني أن الله تعالى خبير بما يعمل الكفرة والمنافقون من الكيد والمكر فيأمرك سبحانه بما يدفعه فلا بد من اتباع ما يوحيه جلّ وعلا إليك، وعلى الثالث أن الله تعالى خبير بما تعمل ويعمل الكفرة والمنافقون فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك ويطلعك على كيدهم ومكرهم ويأمرك جلّ شأنه بما يدفع ذلك ويرده فلا بد من اتباع وحيه تعالى والعمل بموجبه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة على أن الضمير للكفرة والمنافقين.
وجوز كونه عاما فلا تغفل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه عزّ وجلّ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل الأمور، والإظهار في مقام الإضمار للتعظيم ولتستقل الجملة استقلال المثل.
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قام النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فنزلت، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا: إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فنزلت، وقال مقاتل في تفسيره، وإسماعيل بن أبي زياد الشامي، وغيرهما: نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون: له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة، وأبو معمر هذا اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد، وقيل: ابن أسد مكبرا وسماه ابن دريد عبد الله ابن وهب، وقيل: إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة (١) بن جمح الجمحي وهو المعني بقوله:
وكيف ثوائي البيت وقد تقدم في تفسيره سورة لقمان، والمعول على ما في الإصابة، وحكي أنه كان يقول: (٢) إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمرّ بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلّا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم.
وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت، والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية، وقوله سبحانه: فِي جَوْفِهِ للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد له من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلّا نفوذ الأجسام، والتجارب الطبية أيضا شاهدة بذلك، وحيث إن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أولا ثم بسائر الأعضاء بواسطته.
(١) في البحر حارثة بدل حذافة اهـ منه.
(٢) وأسلم بعد وعده ابن حجر في الصحابة وكذا جميل الجمحي اهـ منه.
143
وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلا للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلاميين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي، على أن للفلسفي أيضا له فيه مقالا، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روي عن الحسن إطلاقا للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره، وللبحث فيه مجال فليراجع، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضا، وحيث إن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالا على نفي جعل النفسين فتدبر.
وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية من اجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها، والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال: قوي ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب، ويقال: ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت عليّ كظهر أمي نظير لي إذ قال لبيك وأفف إذا قال أف، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا والمراد منه هنا المعنى الأخير، وكان ذلك طلاقا منهم.
وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله: كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده، قال ابن الهمام: لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقال الأزهري ما معناه: خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذ غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي، والمعنى أنت محرمة علي لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل: خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها حراما عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وقيل: كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شابه بها، وليس بذاك وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأييد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا، وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير، وخص باسم الظهار تغليبا للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة وتمام الكلام فيه في كتب الفروع، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله.
وقرأ قالون، وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق «اللاء» بالهمز من غير ياء، وورش بياء مختلسة الكسرة، والبزي، وأبو عمرو «اللاي» ياء ساكنة بدلا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم «تظاهرون» بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين.
وقرأ ابن عامر «تظّاهرون» بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلّا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء..
144
وقرأ الحسن «تظهّرون» بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية «تظهرون» بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر، وقرأ هارون عن أبي عمرو «تظهرون» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء، وفي مصحف أبي «تتظهرون» بتاءين ومعنى الكل واحد.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية أيضا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام النبوة عليه، وقد تبنى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطاب عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة مولاه سالما إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى: وَما جَعَلَ إلخ، نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
و «أدعياء» جمع دعي وهو الذي يدعى ابنا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلى كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجميع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء، وقل: إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقا، وفيه نظر.
ذلِكُمْ قيل: إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والادعاء، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرتين، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرة قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الثابت المحقق في نفس الأمر وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ وجلّ.
وقرأ قتادة على ما في البحر «يهدي» بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال، وفي الكشاف أنه قرأ «وهو الذي يهدي السبيل» ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم وخصوهم بهم،
أخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل
، وكان من أمره رضي الله تعالى عنه على ما
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيىء فأصيب في نهب من طيىء فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدا يباع فيها فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا فإن أعجبك فخذيه وإلّا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة والسلام ظرفه فاستوهبه (١) منها فقالت: أهبه لك فإن أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليها عليه الصلاة والسلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك قال: فشب عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمرّ بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة قال: من أنفسهم؟ قال: لا قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له: أعرابي أنت أم عجمي؟ قال: عربي قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود قال: ويحك ابن
(١) يروى أنه كان ابن ثمان حين وهب اهـ منه.
145
أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال طيىء قال: ما اسم أمك؟
قال: سعدي فالتزمه وقال: ابن حارثة ودعا أباه فقال: يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فإنك ابن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيكم خيرا من ذلك قالوا: وما هو؟ قال أخيره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء وإن اختارني فكفوا عنه فقال: جزاك الله تعالى خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة والسلام: فهم من قد عرفتهم فإن اخترتهم فاذهب معهم وإن اخترتني فأنا من تعلم قال له زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حرصه عليه قال: اشهدوا أنه حر وأنه ابني يرثني وأرثه
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه عليه الصلاة والسلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة، وفي بعض الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل للأمر والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ في الصدق فاندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذكر الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه عزّ وجلّ.
وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه، والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلا على سبيل التهكم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أي تعرفوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي وأولياؤكم فيه فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين، وبهذا المعنى قيل لسالم بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل، وقيل: مَوالِيكُمْ أي بنو أعمامكم، وقيل:
معتقوكم ومحرروكم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط.
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن ما في محل الجر عطفا على ما من فِيما أَخْطَأْتُمْ وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه، ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبد الله يقول ذلك ولا أخيه: إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع. وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وأن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو ولكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الابتداء وخبره جملة مقدرة، ونسبة التعمد إلى القلوب على حد النسبة في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: ٢٣٨] وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد، وقيل: كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد، والمعنى لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
146
وجوز أن يراد بقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم
لحديث عائشة (١) رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد»
وحديث ابن عباس (٢) قال: قال عليه الصلاة والسلام وضع عن أمتي الخطأ والنسيان «وما أكرهوا عليه»
ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده، والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الاعتراض التذييلي تأكيدا لامتثال ما ندبوا إليه مع ادماج حكم مقصود في نفسه، وجعلها بعضهم عطفا مؤولا بجملة طلبية على معنى ادعوهم لآباؤهم هو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين فتأثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة، وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة يا ابني وكثيرا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالإخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، والأولى أن يقال في تعليل النهي: سدا لباب التشبيه بالكفرة بالكلية، وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره يا ابني حكاه لي من أرتضيه عن فتاوى ابن حجر الكبرى، وحكم التبني بقوله: هو ابني إن كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره، وعند الشافعي لا عبرة بالتبني فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب، وتحقيق ذلك في موضعه، ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال يا أخي وأن يقال يا مولاي في أن كلا منهما مباح مطلقا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يا مولاي لخبر في ذلك، وقيل: لما أن فيه تعظيمه وهو حرام، ومقتضاه أن قول يا أخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضا، فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر، وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرا وكونه أنثى لكن لم نقف على وقوع التبني للإناث في الجاهلية والله تعالى أعلم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر للعامد إذا تاب رَحِيماً ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطئ، ويعلم من الآية أنه لا يجوز انتساب الشخص إلى غير أبيه، وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما
أخرج الشيخان، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضا «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا»
وأخرجا أيضا «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر».
وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كفر من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف»
إلى غير ذلك من الأخبار، هذا ومناسبة قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ إلخ لما قبله أنه شروع في ذكر شيء من الوحي الذي أمر صلّى الله عليه وسلم في اتباعه كذا قيل، وقيل: إنه تعالى لما أمر
(١) أخرجه ابن مردويه اهـ منه.
(٢) أخرجه ابن ماجة اهـ منه.
147
بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما لله تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلّا بصرف القلب عن جهة الله تعالى إلى غيره جلّ وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي الله تعالى حق تقاته، وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: ٤٨] حيث جيء به للرد عليهم، والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فإما أن يؤمن وإما أن يكفر، وقيل:
هو متصل- بلا تطع واتبع- والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر الطغيان فكني عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبان في جوف واحد لا يجمع اعتقادان متضادان في قلب واحد، وقيل: هو متصل بقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا من حيث إنه مشعر بوحدته عزّ وجلّ فكأنه قيل: وتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان، وقيل: إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم، وذكر أن قوله تعالى: ما جَعَلَ إلخ ضرب مثلا للظهار والتبني أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتنبي، ابنا، وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلا فيما لا حقيقة له وارتضى ذلك غير واحد، وقال الطيبي: إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد، وجعل سبحانه قوله جلّ وعلا: ذلِكُمْ فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له، وثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية شاهد أصدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقا فإدخاله في قرن مسألة التبني استطرادا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول.
وانتصر الخفاجي للجماعة فقال: لو كان مثلا للتبني فقط لم يفصل منه، وكون القلبين لرجل وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر، وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضا فما ادعاه غير وارد عليهم لا سيما مع مخالفته لما روي عنهم انتهى، ويد الله تعالى مع الجماعة، وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى هاهنا فقال: إن الاستهلال بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ دال على أن الخطاب مشتمل على التنبيه على أمر معتنى بشأنه لائح فيه معنى التهيج والإلهاب، ومن ثم عطف عليه وَلا تُطِعِ كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك واتبع ناصرك، ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين والالتجاء إلى حريم جلال الله تعالى ليكفيه شرورهم، ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه، وعلل قوله تعالى وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً تتميما للارتداع أي اتق الله فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه، وعلل قوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تتميما أيضا أي اتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة لأن الله تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافىء كلا ما يستحقه وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى:
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا وتوكيدا على منوال فلان ينطبق بالحق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه، وفصل قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ
148
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
على سبيل استئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم، وقوله تعالى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ إلخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلا عن أن يطاع، ثم وصل تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إلخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في وَلا تُطِعِ واتَّبِعْ وفصل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وقوله تعالى: النَّبِيُّ إلخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم انتهى فتأمل ولا تغفل النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي أحق وأقرب إليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما امارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس،
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا (١) فليأتني فأنا مولاه»
ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] لأن إفادة الآية المدعي على الظاهر ظاهرة أيضا، وإذا كان صلّى الله تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليه أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وسبب نزول الآية على ما قيل ما
روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم: يستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت
، ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفا وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وارثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات، وفرع على هذا القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء، وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لها يا أمه: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد، وابن المنذر والبيهقي في سننه عنها، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضا.
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم، والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلّى الله تعالى عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها، وروى ذلك ابن أبي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة، وقيل: لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا وصحح أمام الحرمين، والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها فقالت له: ولم هذا؟ وما ضرب
(١) أي عيالا ضياعا اهـ منه.
149
على حجاب ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها، وذكر في المواهب أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج منهن الدنيا للأزواج طريقين، أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل، واختار هذا الإمام والغزالي، وحكى القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: لأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فوض إلى علي كرم الله تعالى وجهه أن يبقي من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام وقد طلق رضي الله تعالى عنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبد الله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي الله تعالى عنهم فرأيت ما نصه:
روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد الله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يا مولانا وابن مولانا روي لنا أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال: إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن امتنعت وإلّا طلقتك فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين،
ثم
قال: وروى الطبرسي أيضا في الاحتجاج عن الباقر أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم الله تعالى وجهه: والله ما أراني إلّا مطلقها فأنشد الله تعالى رجلا سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول: يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا
فشهدوا بذلك الحديث، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق اهـ ما قاله البحراني عامله الله تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده، وأخرج الفريابي، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: كان في الحرف الأول «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم» وفي مصحف أبي رضي الله تعالى عنه كما روى عبد الرزاق، وابن المنذر، وغيرهما «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وإطلاق الأب عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما أن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبي أب لأمته، ومن هنا قيل في قول لوط هؤلاء بناتي أنه أراد المؤمنات ووجهه ما ذكر، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين.
ويعلم مما روي عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم على أحد من أممهم وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات لا ما يقابلهم بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه
150
وقضاه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ صلة لأولى فمدخول مِنْ هو المفضل عليه وهي ابتدائية مثلها في قولك:
زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بيانا لأولو الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، والأول هو الظاهر، وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية، وقيل: بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلّا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى، ورفع بَعْضُهُمْ يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء وفِي كِتابِ متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى أَوْلى ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من أُولُوا للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذا، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل: القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلّا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث، وأما استثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل: لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث، ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء واقتصر عليه أبو البقاء، ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه.
وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن مِنْ فيما تقدم للابتداء لا للبيان، وأخرج ابن جرير، وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وأخرج ابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم. عن محمد بن الحنفية أنه قال: نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، وأخرجوا عن قتادة أنه قال: الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية، وحكي في البحر عن جماعة منهم الحسن، وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية. وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. وعدّي تَفْعَلُوا بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل: إلّا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفا كانَ ذلِكَ أي ما ذكر في الآيتين أعني ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ والنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث فِي الْكِتابِ أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة مَسْطُوراً أي مثبتا بالإسطار وعن قتادة أنه قال في بعض القراءات: كان ذلك عند الله مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل.
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ مقدر بأذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى، وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا، وجوز أن يكون ذلك عطفا على خبر كان وهو بعيد وإن كان قريبا، ولما كان ما سبق متضمنا أحكاما شرعها الله تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت اتبعه سبحانه بما فيه حث على البليغ فقال عزّ وجلّ: وَإِذْ إلخ واذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت استخراج
151
البشر من صلب آدم عليه السلام كالذر، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضا واتباع بعضهم بعضا، وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ الله تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضا والإعلان بأن محمدا رسول الله وإعلان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن لا نبي بعده وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع.
واشتهر أنهم هم أولو العزم من الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام، وتقديم نبيا صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق،
فقد أخرج ابن أبي عاصم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعا بدىء بي الخلق وكنت آخرهم في البعث
وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث
، وكذا في الاستنباء
فقد جاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد
، ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالأصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير، وقال ابن المنير: السر في تقديمه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم، وفيه بحث وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهد عهد عظيم الشأن أو وثيقا قويا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه، والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: ٥٨] أثر قوله سبحانه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [هود:
٥٨] وفي ذلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عزّ وجلّ: وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ميثاقا غليظا مثلا، وقال سبحانه ما في النظم الكريم، وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى فيكون بعد ما أخذ الله سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات، وقوله عزّ وجلّ: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قيل متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل الله تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل: متعلق بأخذنا، وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانا قصديا كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة، والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سألوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الله تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم، وسؤالهم عليهم السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: ١٠٩] أو المراد بهم المصدقون بالنبيين، والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال: هل صدقتم؟ وقيل: يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه الله تعالى؟ وجه إرادة ذلك أن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق، وقيل: المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم.
152
وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً قيل عطف على فعل مضمر متعلقا فيما قيل: وقيل: على مقدر دلّ عليه لِيَسْئَلَ كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين إلخ، وقيل: على أَخَذْنا وهو عطف معنوي كأنه قيل: أكد الله تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين إلخ.
وقيل: على (يسئل) بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف وقيل: على مقدر وفي الكلام الاحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابا عظيما ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابا أليما فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر، وقيل: إن الجملة حال من ضمير (يسئل) بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أقلها تكلفا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وقال مالك: سنة أربع.
والنعمة إن كانت مصدرا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلّا فهو متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة عليكم، وقوله تعالى: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم، وقيل: منصوب بأذكر على أنه بدل اشتمال من نِعْمَةَ والمراد بالجنود الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير رؤساؤهم حيي ابن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفا في آخر، وقيل: زهاء اثني عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقا قريبا من المدينة محيطا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن وبحم النفاق كما قص الله تعالى، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلّا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا ضيقا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار. ونوفل بن عبد العزى، وقيل: وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام.
وذكر ابن إسحاق أن عليا كرم الله تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، ثم أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
عطف على جاءَتْكُمْ مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتي أن شاء الله تعالى بقيتها في آخر القصة.
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا على ما قيل ألفا، روي أن الله تعالى بعث عليهم صبا باردة في ليلة باردة فاخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة
153
في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد صلّى الله عليه وسلم فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا، وقال حذيفة رضي الله تعالى وقد ذهب ليأتي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بخبر القوم. خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والربح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة والسلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا متعممين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم.
وقرأ الحسن «وجنودا» بفتح الجيم، وقرأ أبو عمرو في رواية، وأبو بكر في رواية أيضا «لم يروها» بياء الغيبة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق وترتيب مبادئ الحرب أعلاه لكلمة الله تعالى، وقيل: من التجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عزّ وجلّ.
وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضا عليها حرصا على إبطال حقكم، وقيل: من الكفر والمعاصي بَصِيراً ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، والجملة اعتراض مقرّر لما قبله إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إِذْ جاءَتْكُمْ بدل كل من كل، وقيل: هو متعلق بتعملون أو ببصيرا مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من جهة المشرق والإضافة إليهم لأدنى ملابسة، والجائي من ذلك بنو غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، وبنو قريظة، وبنو النضير وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب، والجائي من ذلك قريش ومن شايعهم من الأحابيش، وبني كنانة، وأهل تهامة، وقيل: الجائي من فوق بنو قريظة، ومن أسفل قريش، وأسد، وغطفان، وسليم، وقيل: غير ذلك.
ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل: إذ جاؤوكم محيطين بكم كقوله تعالى: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: ٥٥] وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة.
وقال الفراء: أي حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوها وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي خافت خوفا شديدا وفزعت فزعا عظيما لأنها تحركت عن موضعها وتوجهت إلى الحناجر لتخرج.
أخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال في الآية: إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة، وقيل: القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فلا يقدر المرء أن يتنفس ويموت خوفا، وقيل: إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد وإذا انتفخت ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثم قيل للجبان: انتفخ سحره، وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب قتادة.
أخرج عنه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أنه قال في الآية: أي شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت،
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم اللهم استر عورتنا وآمن روعاتنا قال: فضرب الله تعالى وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله تعالى بالريح
، والخطاب في قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا لمن يظهر الإيمان على الإطلاق، والظنون جمع الظن وهو مصدر شامل للقليل والكثير، وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه، وقد جاء كذلك في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان:
154
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويعرب عن ذلك ما سيحكى عنهم من قولهم هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية، أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم، وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكي عنهم في قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الآية، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد والله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله، وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا واختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن الله سبحانه سينصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم استيلاء عليهم أولا، وتارة أنه عزّ وجلّ سينصر الكفار عليه فيستولون على المدينة ثم ينصرهم عليهم بعد، وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية، أو بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك. ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي ولم يمكن البشر دفعها ومثلها عفو، أو يقال: ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا وظنه بعد النيل وظن الامتحان وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار، وأيا ما كان فالجملة معطوفة على زاغَتِ وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، وكتب الظُّنُونَا وكذا أمثاله من المنصوب المعرف بأل كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره، فحذفها أبو عمرو وقفا ووصلا، وابن كثير، والكسائي وحفص يحذفونها وصلا خاصة ويثبتها باقي السبعة في الحالين، واختار أبو عبيد، والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف ولا توصل فتحذف أو تثبت لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لا في اضطرار ولا في غيره، أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها ومن ذلك قوله: أقلّي اللوم عاذل والعتابا (١) والفواصل في الكلام كالمصاريع، وقال أبو علي: إن رؤوس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع هُنالِكَ ظرف مكان ويستعمل للزمان وقيل: إنه مجاز وهو أنسب هنا، وأيا ما كان فهو ظرف لما بعده لا لتظنون كما قيل أي في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان المدحض ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبرهم الله تعالى، والكلام من باب التمثيل، والمراد عاملهم سبحانه وتعالى معاملة المختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل، وابتلاؤهم على ما روي عن الضحاك بالجوع، وعلى ما روي عن مجاهد بشدة الحصار، على ما قيل بالصبر على الإيمان.
وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي اضطربوا اضطرابا شديدا من شدة الفزع وكثرة الأعداء، وعن الضحاك «أنهم زلزلوا عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلّا موضع الخندق» وقيل: أي حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو «زلزلوا» بكسر الزاي قاله ابن خالويه، وقال الزمخشري: وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا وكأنه عنى إشمامها الكسر ووجه الكسر انه اتباع حركة الزاي الأولى لحركة الثانية ولم يعتد بالساكن كما لم يعتد به من قال منتن بكسر الميم اتباعا لحركة التاء وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزلا» بفتح الزاي، ومصدر فعلل
(١) في رواية اهـ منه.
155
من المضاعف يجوز فيه الفتح والكسر نحو قلقل قلقالا، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل، فإن كان من غير المضاعف فما سمع منه على فعلال مكسور الفاء نحو سرهفه سرهافا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ عطف على إِذْ زاغَتِ وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته.
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل: هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم، وقيل: قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام، وجوز أن يكون المراد بهم المنافقون أنفسهم والعطف لتغاير الوصف كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام.
ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر وإعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً أي وعد غرور، وقيل: أي قولا باطلا وفي البحر أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به
روي أن الصحابة بينما يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة بيضاء مدورة شديدة جدا لا تدخل فيها المعاول فشكوا إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان رضي الله تعالى عنه فضربها ضربة دعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر عليه الصلاة والسلام وكبّر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون فسأل عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهر عليها فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقال رجل من الأنصار يدعى معتب بن قشير وكان منافقا: أيعدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلّا قتل هذا والله الغرور فأنزل الله تعالى في هذا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
إلخ.
وفي رواية قال المنافقون حين سمعوا ذلك ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى قوله سبحانه إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ووجه الجمع على القول بأن القائل واحد أن الباقين راضون بذلك قابلوه منه، والظاهر أن نسبة الوعد إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة من المنافقين الذين لا يعتقدون اتصافه صلّى الله تعالى عليه وسلم بالرسالة ولا أن الوعد وعد الله تعالى شأنه كانت من باب المماشاة أو الاستهزاء وإن كانت قد وقعت من غيرهم فهي بالتبعية لهم.
ويجوز أن يكون وقوع ما ذكر في الحكاية لا في كلامهم ويستأنس له بما وقع في بعض الآثار وبعضهم بحث عن إطلاق الرسول عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال أنه في الحكاية لا في كلامهم كما يشهد بذلك ما روي عن معتب أو هو تقية لا استهزاء لأنه لا يصح بالنسبة لغير المنافقين فتأمل ولا تغفل وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ قال السدي:
هم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، وقال مقاتل: هم بنو سلمة، وقال أوس بن رومان هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير مِنْهُمْ للمنافقين أو للجميع يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المنورة، وقال أبو عبيدة اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها، وقيل: اسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك
أخرج أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلّى الله
156
تعالى عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هي طابة هي طابة هي طابة
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر الله تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة
، وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروهة كراهة تنزيهية، وذكر في وجه ذلك أن هذا الاسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعبير.
وقال الراغب: التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة، ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة انتهى، وقيل: يثرب اسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضا، ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذراء والمرحومة والقاصمة ويندّد انتهى، وكأن القائلين اختاروا يثرب من بين الأسماء مخالفة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة والسلام لهذا الاسم من بينها، ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة هاهنا.
وقال أبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، والحسن، وقتادة، والنخعي، وعبد الله بن مسلم، وطلحة وأكثر السبعة «لا مقام» بفتح الميم وهو يحتمل أيضا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم، والمعنى على نحو ما تقدم فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد، قيل:
ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالتهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقيل: المعنى لا مقام لكم في دين محمد صلّى الله عليه وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة والسلام، أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام فيها لارتفاع العداوة حينئذ.
وقيل: يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة والسلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا: لا مُقامَ لَكُمْ على معنى لا مقام لكم مع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة والسلام أو فارجعوا عن الإسلام واتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلا إن بقيتم على ما أنتم عليه فارجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة والسلام إلى آخره، والأول أظهر وأنسب بما بعده، وبعض هذه الأوجه بعيد جدا كما لا يخفى.
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ عطف على قالَتْ وصيغة المضارع لما مرّ من استحضار الصورة، والمستأذن على ما روي عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله بنو حارثة بن الحارث، قيل: أرسلوا أوس بن قيظي أحدهم للاستئذان، وقال السدي: جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس، وقيل: المستأذن بنو حارثة، وبنو سلمة استأذنوه عليه الصلاة والسلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين يا أهل يثرب.
وقوله تعالى: يَقُولُونَ بدل من يَسْتَأْذِنُ أو حال من فاعله أو استئناف مبني على السؤال عن كيفية الاستئذان إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي، وقال الراغب: أي متخرقة ممكنة لمن أرادها، وقال الكلبي: أي خالية من الرجال ضائعة، وقال قتادة: قاصية يخشى عليها العدو وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصادر، وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد ابن عباس، وأبو
157
يعمر، وقتادة، وأبو رجاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو طالوت، وابن مقسم، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير من عورت الدار إذا اختلت، قال ابن جني: صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها الفا فيقال عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول، وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملا على أعور المشدد، ورجح كونها مصدرا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالتهم بحرف التحقيق، لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل (١) قوله تعالى:
وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريدون بالاستئذان إِلَّا فِراراً أي هربا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة، قيل: فرار من الدين وَلَوْ دُخِلَتْ أي البيوت كما هو الظاهر عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء القائلين، وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعارة والفساد بيوتهم وهم فيها مِنْ أَقْطارِها جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثُمَّ سُئِلُوا أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة الْفِتْنَةَ أي القتال كما قال الضحاك لَآتَوْها أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة والمطلوب اتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم وابتاعهم بمنزلة بذل ما سألوه وإعطائه، وقرأ نافع، وابن كثير «لأتوها» بالقصر أي لفعلوها وَما تَلَبَّثُوا بِها أي بالفتنة، والباء للتعدية أي ما لبثوها وما أخروها إِلَّا يَسِيراً أي إلا تلبثا يسيرا أو إلّا زمانا يسيرا وهو مقدار ما يأخذون فيه سلاحهم على ما قيل، وقيل: مقدار ما يجيبون السؤال فيه، وكلاهما عندي من باب التمثيل، والمراد أنهم لو سألهم غيرك القتال وهم في أشد حال وأعظم بلبال لأسرعوا جدا فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن. والحاصل أن طلبهم الأذن في الرجوع ليس لاختلال بيوتهم بل لنفاقهم وكراهتهم نصرتك، وقال ابن عطية: المعنى ولو دخلت المدينة من أقطارها واشتد الحرب الحقيقي ثم سألوا الفتنة والحرب لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم لطاروا إليها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلّا يسيرا قيل قدر ما يأخذون سلاحهم انتهى، فضمير دُخِلَتْ عنده عائد على المدينة وباء بِها للظرفية كما هو ظاهر كلامه، وجوز أن تكون سببية والمعنى على تقدير مضاف أي ولم يتلبثوا بسبب حفظها، وقيل: يجوز أن تكون للملابسة أيضا، والضمير على كل تقدير للبيوت وفيه تفكيك الضمائر.
وعن الحسن، ومجاهد، وقتادة الْفِتْنَةَ الشرك، وفي معناه ما قيل: هي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر، وجعل بعضهم ضميري دُخِلَتْ بِها للمدينة وزعم أن المعنى ولو دخلت المدينة عليهم من جميع جوانبها ثم سألوا الرجوع إلى إظهار الكفر والشرك لفعلوا وما لبثوا بالمدينة بعد إظهار كفرهم إلّا يسيرا فإن الله تعالى يهلكهم أو يخرجهم بالمؤمنين، وقيل: ضمير دُخِلَتْ للبيوت أو للمدينة وضمير بِها للفتنة بمعنى الشرك والباء للتعدية، والمعنى ولو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأشركوا وما أخروه إلّا يسيرا، وقريب منه قول قتادة أي لو دخلت عليهم ثم
(١) قوله ما قيل إلخ كذا بخطه ولعل لفظة في ساقطة من قلمه.
158
سألوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحسبوا به إلّا يسيرا، وجوز أن تكون الباء لغير ذلك، وقيل: فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة، والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى. وقرأ الحسن «سولوا» بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا: وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان، وقال أبو حيان: ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بابدال الهمزة واوا لضم ما قبلها. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو، والأعمش «سيلوا» بكسر السين من غير همز نحو قيل، وقرأ مجاهد «سويلوا» واو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين. وقيل: هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه صلّى الله عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم، وقيل: أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالا لنقاتلن و (عاهد) أجرى مجرى اليمين لذلك تلقى بقوله تعالى: لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولي الأدبار وتولية الإدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع، وقيل: أي كان عند الله تعالى مسؤولا عن الوفاء به أو مسؤولا مقتضى حتى يوفى به.
159
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا.
وهذا من باب فرض المحال ولم يقل: ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند الله تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلّا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل، وقال بعض الأجلة: المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضى فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جري العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار، وقوله تعالى: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلّا متاعا قليلا، وفيه ما فيه فتأمل.
وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية وجواب الشرط لأن محذوف لدلالة ما قبله عليه وإِذاً تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الإعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلّا بالإهمال. وقرىء بالإعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء: ٧٦] وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ وقرىء «لا يمتعون» بياء الغيبة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عزّ وجلّ وقدره جلّ جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلّا من السوء لما في العصمة من معنى المنع، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله:
ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا
فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة، وقرينة التقدير ما في
160
يَعْصِمُكُمْ من معنى المنع، واختير الأول لسلامته عن حذف حملة بلا ضرورة.
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَلا نَصِيراً يدفع الضرر عنهم، والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر اهـ وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل: لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا، قال ابن السائب: الآية في عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنّا ننتظركم، وقال قتادة: هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ما محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: انصرف رجل من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذا فقال له: أنت هاهنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين الرماح والسيوف فقال: هلم إلى فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال: كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلّى الله تعالى عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية.
وقيل: هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا، وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود وقَدْ للتحقيق أو للتقليل وهو باعتبار المتعلق، ومِنْكُمْ بيان للمعوقين لا صلته كما أشير إليه، والمراد بالإخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول، والكفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم على القول الأخير، والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب، وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم، وجواز كونها نزلت في جماعة من الإخوان في النسب مجرد احتمال وإن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الأخوة في النسب ولا ضير، والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله، وهَلُمَّ عند أهل الحجاز يسوى فيه بين الواحد والجماعة، وأما عند تميم فيقال: هلم يا رجل وهلموا يا رجال، وهو عند بعض الأئمة صوت سمي به الفعل، واشتهر أنه يكون متعديا كهلم شهداءكم بمعنى أحضروا أو قربوا ولازما كهلم إلينا بناء على تفسيره بأقبلو إلينا وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله، وجوز كونه لازما وهذا تفسير لحاصل المعنى، وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا وإنما هو مركب اختلف في أصل تركيبه فقيل: مركب من ها التي للتنبيه والمم بمعنى أقصد وأقيل وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة إِلَّا قَلِيلًا أي إتيانا أو زمانا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلّا أن لا يجدوا بدا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم، ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلّا بأسا قليلا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلّا في القليل، وإتيان البأس على هذه الأوجه على
161
ظاهره، ويجوز أن يكون كناية عن القتال، والمعنى ولا يقاتلون إلّا قتالا قليلا كقوله تعالى ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه، وأيا ما كان فالجملة حال من الْقائِلِينَ وقيل: يجوز أيضا أن تكون عطف بيان على قَدْ يَعْلَمُ وهو كما ترى، وقيل: هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقامونهم إلّا قليلا، وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال أن الآية في اليهود.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل:
بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصرو كشافه أيضا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرا، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله وتعالى بعد: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى.
قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينا وإلّا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وأَشِحَّةً جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا، ونصبه عند الزجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل يَأْتُونَ على معنى تركوا الإتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير هَلُمَّ إِلَيْنا أو من ضمير يعوقون مضمرا، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من الْمُعَوِّقِينَ أو من القائلين، وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالا من الْمُعَوِّقِينَ لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ صفة لمصدر يَنْظُرُونَ أو حال من فاعله أو لمصدر تَدُورُ أو حال من أَعْيُنُهُمْ أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي آذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، وقال يزيد بن رومان:
بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين.
162
وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب المسلاق
وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك
جاء قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق»
قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: إن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم ان المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبي عبلة «صلقوكم» بالصاد.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذي ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب أَشِحَّةً على الحال من فاعل سَلَقُوكُمْ أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم أَشِحَّةً والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مرّ بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مرّ مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتكم إلخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك.
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لَمْ يُؤْمِنُوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عزّ وجلّ صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: لَمْ يُؤْمِنُوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضا
قوله عليه الصلاة والسلام: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.
163
وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هينا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضا عليه، وقيل:
أي هينا سهلا عليه عزّ وجلّ، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عزّ وجلّ هينا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم الله الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنهم لم يرحلوا، وقيل: المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك، وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلّا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا لدلالته ظاهرا على أنهم خارجون عن معسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحثون إخوانهم على اللحاق بهم، وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر، وكذا من قوله سبحانه وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ على ما هو الظاهر أيضا إذ يبعد حمله على اتحاد المكان ولو في الخندق وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو وحاصلون مع الأعراب وهم وأهل العمود، وقرأ عبد الله، وابن عباس، وابن يعمر، وطلحة «بدى» جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقياسه فعلة كقاض وقضاة وفي رواية أخرى عن ابن عباس «بدوا» فعلا ماضيا، وفي رواية صاحب الاقليد «بدى» بوزن عدى يَسْئَلُونَ أي كل قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا، واختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال، والجملة في موضع الحال من فاعل بادون، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو، وعاصما، والأعمش قرؤوا «يسلون» بغير همز نحر قوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٢١١] ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقتادة والجحدري، والحسن، ويعقوب بخلاف عنهما «يسألون» بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضا أي يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب أي يسألونهم كما تقول: رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدا وتباصرته وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ او لَوْ كانُوا فِيكُمْ في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داخل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة وخوفا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي: هو قليل من حيث هو رياء ولو كان الله تعالى كان كثيرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى: عَنْ أَنْبائِكُمْ وقوله سبحانه: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ.
والإسوة بكسرة الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة، وقال الراغب: الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي اسم كان ولَكُمْ الخبر وفِي رَسُولِ اللَّهِ متعلق بما تعلق به لَكُمْ أو في موضع من أُسْوَةٌ لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف، وجوز أن يكون في رسول الله الخبر ولكم تبيين أي أعني لكم أي والله لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة بمعنى المقتدى على معنى هو صلّى الله تعالى عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به، وفي الكلام صنعة التجريد وهو
164
أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف نحو لقيت منه أسدا وهو كما يكون بمعنى من يكون بمعنى في كقوله:
أراقت بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وكقوله: في البيضة عشرون منّا حديدا أي هي نفسها هذا القدر من الحديد، والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة، أخرج ابن ماجة، وابن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال: قلت لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال يا ابن أخي صحبت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال: هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن ينهي عن الحبرة فقال رجل: أليس قد رأيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر: بلى قال الرجل ألم يقل الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فترك ذلك عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الشيخان، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم عن ابن عمر أنه سأل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فطاف بالبيت وصلّى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج الشيخان، وغيرهما عن ابن عباس قال: إذ حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إلى غير ذلك من الأخبار، وتمام الكلام في كتب الأصول.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل الله تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعليه يكون قد وضع الْيَوْمَ الْآخِرَ بمعنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق اسم المحل على الحال، والكلام نحو قولك: أرجو زيدا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك: أرجو زيدا كرمه على البدلية:
وقال صاحب الفرائد، يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة الله أو رضا الله وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضافان مقدران، وعن مقاتل أي يخشى الله تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه، والرجاء عليه بمعنى الخوف، ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات، وقدر بعضهم المضاف إلى الاسم الجليل لفظ أيام مرادا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث واشتهر في هذا حتى صار بمنزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العطف من عطف الخاص على العام، والظاهر أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، وجوز أن يكون الكلام عليه كقولك: أرجو زيدا وكرمه، وأن يكون الرجاء فيه بمعنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب، وأن يكون بمعنى الخوف والأمل معا بناء على جواز استعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر، وعندي أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم، وفسر بعضهم الْيَوْمَ الْآخِرَ بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و (من) على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في لَكُمْ وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي، وإبدال الاسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين، والأخفش، ويدل عليه قوله:
165
ومنع ذلك جمهور البصريين: ومن هنا قال صاحب التقريب، هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل، ولا يتسنى إلّا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت، ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم، وقال أبو البقاء:
يجوز أن يكون لمن متعلقا بحسنة أو بمحذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة، وقيل: يجوز أن يكون صفة لأسوة، وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه، وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح، وقد صرح بمنع ذلك الإمام الواحدي، ولا يخفى أن المسألة خلافية فلا تغفل.
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عزّ وجلّ تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي أن ذكر الله تعالى المعتبر شرعا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله ونحو ذلك وما لا يكون بمفرد لا يعد شرعا ذكرا نحو الله أو قادر أو سميع أو بصير إذ لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلاما، والناس عن هذا غافلون، وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان الله ولا إله إلّا الله إذا كان غافلا عن المعنى غير ملاحظ ومستحضرا إياه لا يثاب إجماعا، والناس أيضا عن هذا غافلون فإنا لله وإنا إليه راجعون وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشؤون واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم قالُوا هذا إشارة عند بعض المحققين إلى ما شاهدوه من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر الذي هو ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة، وعند الأكثر إشارة إلى الخطب والبلاء، وما موصولة عائدها محذوف وهو المفعول الثاني لوعد أي الذي وعدناه الله، وجوز أن تكون مصدرية أي هذا وعد الله تعالى ورسوله إيانا وأرادوا بذلك ما تضمنه قوله تعالى في سورة [البقرة: ٢١٤] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ كما أخرج ذلك ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه جماعة عن قتادة أيضا ونزلت آية البقرة قبل الواقعة بحول على ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن الحبر رضي الله تعالى عنه.
وفي البحر عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا
أي في آخر تسع ليال أو عشر أي من وقت الإخبار أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك فمرادهم بذلك ما وعد بهذا الخبر. وتعقبه ابن حجر بأنه لم يوجد في كتب الحديث، وقرىء بإمالة الراء «رأى»
نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها، وروى إمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفا على جملة هذا ما وَعَدَنَا إلخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى، وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه.
وأيا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره، وجوز أن يكون المعنى وصدق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في النصرة والثواب كما صدق الله تعالى ورسوله في البلاء، والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو أضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير واحد والأولى تركه أو قيل وصدق وهو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل، وحديث الجمع قد مرّ ما فيه وَما زادَهُمْ أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى:
166
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من رَأَ يعكر عليه التذكير، وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك، وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة.
وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع العائد على الأحزاب إِلَّا إِيماناً بالله تعالى وبمواعيده عزّ وجلّ وَتَسْلِيماً لأوامره جلّ شأنه وأقداره سبحانه، واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ومن أنكر قال: إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة رِجالٌ أي رجال صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والمقاتلة للأعداء، وقيل: من الطاعات مطلقا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وسبب النزول ظاهر في الأول.
أخرج الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وجماعة عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وكانوا يرون أنها نزلت فيه وأصحابه.
وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، وعن الكلبي، ومقاتل أن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة والمعول عليه عندي ما قدمته، ومعنى صَدَقُوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق، ومحل ما عاهَدُوا النصب أما على نزع الخافض وهو في وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكرة على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا الله فيما عاهدوه، وإما على أنه هو المفعول الصريح.
وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الاستعارة المكنية وجعله مصدوقا تخييل وعلى الإسناد المجازي فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره. وقال أبو حيان: النذر بالشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به قال الشاعر:
بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
وقال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم التزم القيام به، وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار استعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح، وأما على أن قضاء النحب مستعار له.
وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل التزام أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام
167
عليه وهو الأنسب بمقام المدح، وجعله استعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للاستعارة.
وإذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية انتهى، وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف.
والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به، فقد أخرج ابن أبي عاصم، والترمذي وحسنه، وابن جرير، الطبراني، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: إن قال هذا ممن قضى نحبه، وأخرج ابن منده، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا طلحة أنت ممن قضى نحبه، وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه.
وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: طلحة ممن قضى نحبه
، وكأن عليا كرم الله وجهه عنى مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة: ذاك امرؤ نزل فيه آية من كتاب الله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وقد أخرج ذلك عنه كرم الله تعالى وجهه أبو الشيخ، وابن عساكر وكان رضي الله تعالى عنه قد ثبت يوم أحد حتى أصيبت يده، وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم وفى بعهده وأدّى نذره وَمِنْهُمْ أي وبعضهم مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده، ومن حمل ما عاهدوا الله تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال: المعنى منهم من وفى بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح، واستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد، وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه، ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسما من الذين صدقوا أي وفوا، وأجيب بأن المراد بالمصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما اقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم: لئن أرانا الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن، واتصاف الخبر بالصدق، وكذا المخبر به لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنجو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلا، وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم أن أراهم الله تعالى مشهدا مع رسوله عليه الصلاة والسلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عزّ وجلّ إلى قسمين قسم أدّى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتا يؤديه فيه، ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلّا إذا مات وقد أراه الله تعالى ذلك ولم يؤد، ومن أخبر الله تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال. نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفي، وقيل: المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولا إشكال في التقسيم حينئذ، وقيل: الصدق بالمعنى المشهور بين الجمهور إلّا أن المراد بصدقوا يصدقون، وعبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، وكلا القولين كما ترى، وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: قَضى نَحْبَهُ فقال: أجله الذي قدر له
168
فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد استشهد كأنس بن النضر، ومعصب بن عمير، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد، وأوجبوا ذلك فيما
أخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وابن المنذر، وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله مثله.
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت فينا رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية وإنا والله المنتظر
، وفي وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة، وقيل: إلى الموت مطلقا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عزّ وجلّ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عطف على صَدَقُوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، أما الذين قضوا فظاهر، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم، وجوز أن يكون ضمير بَدَّلُوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه بِصِدْقِهِمْ أي بسبب صدقهم، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق، ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إِنْ شاءَ أي تعذيبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزّ وجلّ كذا قيل: وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى. واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: ١٤٥] وقد أخبر عزّ وجلّ أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن الله جلّ جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جلّ شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل: إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جلّ وعلا لم يشأ، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب، وكأنه سبحانه
169
لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل: وَيُعَذِّبَ وقال بعض الأجلة: إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل: أو يقبل توبتهم إن تابوا، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس، وأيا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى أن شاء عذبهم بإبقائه منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان. وقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق، وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجار واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله تعالى لِيُعَذِّبَ ليديم على النفاق قوله سبحانه: إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وحرف أَوْ انتهى، وأراد بذلك حل الإشكال، وكأن ما ذكره يؤول إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتباك، قال في البحر: وهذا من الإيجاز الحسن، وقال السدي: المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفقة دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم، وقيل لذلك أيضا: إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها، وحكي هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور، وقد يقال: المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: ١٢] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه:
بِصِدْقِهِمْ تصريحا بما يفهم من السياق، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية: ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية، قيل: ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه: أَوْ يَتُوبَ إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل، والظاهر أن اللام في لِيَجْزِيَ للتعليل، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدّل المنافقون فقوله: لِيَجْزِيَ ويُعَذِّبَ متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل، وقيل: إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه.
وقيل: لا يبعد جعل لِيَجْزِيَ إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل: ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره، وبضدها تتبين الأشياء، وقيل:
تعليل لصدقوا وحكي ذلك عن الزجاج، وقيل: لما يفهم من قوله تعالى: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً وقيل: لما
170
يستفاد من قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ كأنه قيل: ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية، واختاره الطيبي قائلا: إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمعرض به، واختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكي من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: ٨] كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله إلخ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة.
وقوله سبحانه: وَرَدَّ اللَّهُ إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: ٩] وهو معطوف على (أرسلنا) وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت به العقول والأفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام، وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الَّذِينَ كَفَرُوا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفا على فاعلي المقدر قبل: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى لِيَجْزِيَ كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد، والظاهر أنه عنى المشركين واليهود الذين تحزبوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان، وأصحابه، ولعله الأولى، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من محل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم بِغَيْظِهِمْ حال من الموصول لا من ضمير كَفَرُوا والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب، وقوله تعالى: لَمْ يَنالُوا خَيْراً حال من ذاك أيضا أو من ضمير بِغَيْظِهِمْ أي غير ظافرين بخير أصلا، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم، وجوز أن يكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي وقاهم سبحانه ذلك، وكَفَى هذه تتعدى لاثنين، وقيل: هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد.
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليه السلام، وقيل: بقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبد ود.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
ولا يكاد يصح ذلك، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: ٩] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي
171
بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة.
وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشا هزموا بقوة الله تعالى وعزته عزّ وجلّ وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلّا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن إسحاق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصي منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله.
وروي عن ابن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يؤمئذ ابنه حسل أيضا فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب هذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك وعبد الله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة، وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله، قال ابن إسحاق: ولم يستشهد إلّا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث كل ما يريد جل شأنه عَزِيزاً غالبا على كل شيء وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب المردودة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة عند الجمهور، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثوار والظباء ولشوكة الديك التي في رجله كالقرن الصغير، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي:
نظرت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وتطلق على الأصول أيضا قال: أبو عبيدة إن العرب تقول جذ الله تعالى صئصئه أي أصله.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بحيث أسلموا فيهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء. وفي البحر أن قذف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم، وقدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل: وفريقا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون: أو نحو ذلك، وقيل: قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل: غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسروا وقرأ ابن عامر والكسائي «الرّعب» بضم العين وقرأ أبو حيوة «تأسرون» بضم السين، وقرأ اليماني «يأسرون» بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار إنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما
في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتى جبريل عليه السلام معتجرا بعمامة إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: عفا الله تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلّا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل
172
بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلّا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مرّ بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلّى الله عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلّا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام.
وحاصرهم صلّى الله تعالى عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال: فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال: فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام استنزلهم فتواثب الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول
173
الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطؤوا له بوسادة من آدم وكان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا: إنما أراد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون: قد
عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله تعالى عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد: عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم قال: وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم.
نعم قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء فكبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها أرسالا وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأتي بحيي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية (١) قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه
فقال فيه جبل بن جدال التغلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه استوهب من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه منّ عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم هو لك فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال: شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد؟ فأتى ثابت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله امرأته وولده قال: هم لك فأتاه فقال
(١) قال ابن هشام تفاحية ضرب من الوشي اهـ منه.
174
قد وهب لي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ما له قال: هو لك فأتاه فقال: قد أعطاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت: ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا غزال بن شموال؟ قال: قتل قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال: قتلوا قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقني بالقوم فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي الله تعالى عنه قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في جهنم خالدين فيها مخلدين، واستوهبت سلمى بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة والسلام لها فاستحيته. وقتل منه كل من أنبت من الذكور، وأما النساء فلم يقتل منهم إلا امرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته. اخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: والله ان هذه الامرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت: أنا والله قلت لها: ويلك ما لك؟ قالت: اقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: فو الله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل، ثم إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم، وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرسا وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر ابن إسحاق، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فابتاع بها لهم خيلا وسلاحا وكان عليه الصلاة والسلام قد اصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه صلّى الله عليه وسلم حتى توفي، وقد كان عليه الصلاة والسلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخف علي وعليك فتركها صلّى الله عليه وسلم وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لنعلا ابن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها
، وكان الفتح على ما في البحر في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافا لمن قال: ان كلا منهما في سنة، ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد رضي الله تعالى عنه جرحه فمات شهيدا، وقد استبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه واهتزّ له العرش، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
واستشهد يوم بني قريظة على ما
روي عن ابن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحارث بن الخزرج خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو وطرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، وذكروا ان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: إن له لأجر شهيدين
، ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول الله عليه الصلاة
175
والسلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم واليه دفنوا موتاهم في الإسلام، وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير، وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ عطف على قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلَ إلخ، والمراد بأرضهم مزارعهم، وتقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع.
وفي قوله عزّ وجلّ: أَوْرَثَكُمْ إشعار بأنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد الفسخ أو الإقالة وَدِيارَهُمْ أي حصونهم وَأَمْوالَهُمْ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي اشتملت عليها أرضهم وديارهم.
أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعدا رضي الله تعالى عنه حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه: أتؤثر المهاجرين بالأعقار علينا؟ فقال: إنكم ذو أعقار وإن المهاجرين لا أعقار لهم، وأمضى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حكمه.
وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال: رضينا بما صنع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء، قالت: لما غنم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بني النضير جعل الحديث، ومن طريق المسور بن رفاعة قال: فقال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث اهـ، وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره هاهنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة، وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء الله تعالى وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر فتحت بعد بني قريظة، وقال قتادة: كان يتحدث أنها مكة، وقال الحسن: هي أرض الروم وفارس، وقيل: اليمن، وقال عكرمة: هي ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة واختاره في البحر، وقال عروة: لا أحسبها إلا كل أرض فتحها الله تعالى على المسلمين أو هو عزّ وجلّ فاتحها إلى يوم القيامة، والظاهر أن العطف على أَرْضَهُمْ واستشكل بأن الإرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازا بالنسبة الى هذا المعطوف. وأجيب بأنه يراد بأورثكم أورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقق فيما وقع من الإرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كإرث ما لم يكن مفتوحا وقت نزول الآية. وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مرادا به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور، واستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازا.
وقيل: الدليل ما بعد من قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ إلخ، ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى. ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم، وعليه لا يتوهم إشكال في العطف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لم تطوها» بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ الفا على حد قوله:
إن السباع لتهدى في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي
176
زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني، وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد هاهنا ما سمعت، وقال الراغب: قال بعضهم إن أصله من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك: افعل كذا غير صاغر تشريفا للمقول له، وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطكن متعة الطلاق، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة، وعن الزهري متعتان أحدهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره، وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض، وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر معشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف، وتمام الكلام في الفروع، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى: وَأُسَرِّحْكُنَّ وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط ويكون فَتَعالَيْنَ اعتراضا بين الشرط وجزائه، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقرأ حميد الخراز «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمتعكن» بالتخفيف من أمتع، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن سَراحاً أي طلاقا جَمِيلًا أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء. وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر، وهو نظير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] من وجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا: وجوز أن يكون في محلة بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل: إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء، ولا يخفى بعده وسبب نزوله الآية على ما قيل: إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة.
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فدخلا والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر: لأكلمن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لعله يضحك فقال: يا رسول الله لو أردت ابنة زيد يعني امرأته رضي الله تعالى عنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدأ ناجذه وقال: هن حولي سألنني النفقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت: ما هو؟ فتلا عليها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل
177
أختار الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امرأة منهن عما اخبرتني إلا أخبرتها
وفي خبر رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة، والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رئي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن الله عزّ وجلّ ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخرة شكرهن الله جلّ شأنه على ذلك إذ قال سبحانه: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب: ٥٢] فقصره الله تعالى عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم خير نساءه فاخترن جميعا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها
فكانت بعد تقول: أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول: أنا الشقية.
وأخرج أيضا عن ابن جناح قال: اخترنه جميعا غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت. وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير غير الحميرية وهي العامرية، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة، وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهرا تسعة وعشرين يوما. وفي البحر أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله بنات كسرى، وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لإمر الله تعالى والشفقة على خلقه عزّ وجلّ فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ٢] إلخ ثم أرشده سبحانه الى ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ لأن سبب النزول ما سمعت.
وقال الإمام: إن التقديم إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الالتفات، وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضا، ومعنى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كنتن تردن رسول الله وإنما ذكر الله عزّ وجلّ للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ أي هيأ ويسّر لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بمقابلة إحسانهن أَجْراً لا تحصى كثرته عَظِيماً لا تستقصى عظمته، و (من) للتبيين لأن كلهن كن محسنات.
وقيل: ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات لله ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم واختيار الجميع لم يعلم وقت النزول، وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد، وجواب إِنْ في الظاهر ما قرن بالفاء
178
إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الاستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع، وقيل: الجواب محذوف نحو تثبن أو تنلن خيرا وما ذكر دليله، وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه، قيل: وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل.
هذا واختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار او لا فذهب الحسن، وقتادة وأكثر أهل العلم (١) على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن انفسهن كان ذلك طلاقا، وكذا اختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته اختاري فتقول اخترت نفسي أو اختاري نفسك فتقول اخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة، وعن عمر، وابن عباس، وابن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، وبه أخذ الشافعي، وأحمد.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة
، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود، وأيضا عن عمر رضي الله تعالى عنهما، وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة، فإن اختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلا وعليه فقهاء الأمصار.
وذكر الطبرسي أن المروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اختصاص التخيير بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة والسلام فلا يصح له ذلك. واختلف في مدة ملك الزوجة الاختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل: تملكه ما دامت في المجلس وروي هذا عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.
وبه قال جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، وسفيان، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وقيل:
تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري، وقتادة، وأبي عبيدة، وابن نصر وحكاه صاحب المغني عن علي كرم الله تعالى وجهه.
وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم الله تعالى وجهه قائل بالاقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وتمام الكلام في هذه المسألة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أبي أقول: كون ما في الآية هو المسألة المذكور في الفروع التي وقع الاختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى، وتأويل الخفاجي استدلال من استدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الأفهام.
هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل. الأولى أن التخيير منه صلّى الله تعالى عليه وسلم قولا كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة، وأما معنى فكذلك على القول بأن الأمر للوجوب.
الثانية أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظرا إلى منصب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة والسلام غير جائز. الثالثة أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة والسلام وإلا لا يكون التخيير ممكنا من التمتع بزينة الدنيا. الرابعة أن الظاهر أن من
(١) ومنهم ابن الهمام اهـ منه.
179
اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم يحرم على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم نظرا إلى منصبه الشريف طلاقها والله تعالى أعلم.
يا نِساءَ النَّبِيِّ تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة اليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل مَنْ يَأْتِ بالياء التحتية حملا على لفظ مَنْ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، والجحدري، وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملا على معناها مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة مُبَيِّنَةٍ ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل: كل ما يقترف من الكبائر، وأخرج البيهقي في السنن عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ذلك وطلبهن ما يشق عليه الصلاة والسلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم صلّى الله عليه وسلم لأجله.
ومنع في البحر أن يراد بها الزنا قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم معصوم من ارتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال: وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته، ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به، وجعل الشرطية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزما فإن الأنبياء صان الله تعالى زوجاتهم عن ذلك، وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسألة في سورة النور وسيأتي إن شاء الله تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضا يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ يوم القيامة على ما روي عن مقاتل أو فيه، وفي الدنيا على ما روي عن قتادة ضِعْفَيْنِ أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوما مثلا مكثن هن لو أتين بمثل ما أتى يومين. وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان، وقال أبو عمرو، وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن، وليس بذاك، وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بما لا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة الى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم،
وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه قال له رجل: إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله تعالى في أزواج النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها
، وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو عمرو «يضعف» بالياء التحتية مبنيا للمفعول بلا ألف والجحدري، وابن كثير، وابن عامر «نضعف» بالنون مبنيا للفاعل بلا ألف أيضا وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة عن أبي عمرو «نضاعف» بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة «يضاعف» بالياء والألف والبناء للفاعل، وقرأ «العذاب» بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ للفاعل وَكانَ ذلِكَ أي تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي سهلا لا يمنعه جلّ شأنه عنه كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم بل هو سبب له.
تم بحمد الله الجزء الحادي والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني والعشرون وأوله وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ.
180
الجزء الثاني العاشر
181
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي ومن تخشع وتخضع لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار، وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لرسول الله وَتَعْمَلْ صالِحاً لله تعالى، وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم يجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عزّ وجلّ، وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح
183
الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر، وقيل: المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح: العبادات التي يكلفن بها بعد.
وقيل: القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: ٢٣٨] والمراد به هاهنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة، وقيل غير ذلك. نُؤْتِها أَجْرَها الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما مَرَّتَيْنِ فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين.
أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين: أنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه، وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عزّ وجلّ مما منّ به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياته صلّى الله عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وقال بعض الأجلة: إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي صلّى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة، وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك لطاعة، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم، وقال بعض المدققين: أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سببا ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلّى الله عليه وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل.
وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى، ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا ابن عامر «ومن تقنت» بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في «يؤتها» ضمير اسم الله تعالى، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ «ومن تقنت» بالتاء من فوق حملا على المعنى «ويعمل» بالياء من تحت حملا على اللفظ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا
184
للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام:
١٣٩] انتهى فتذكر وَأَعْتَدْنا لَها في الجنة زيادة على أجرها المضاعف رِزْقاً كَرِيماً عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة.
وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي إن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله، وهو كما ترى يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي إن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول الله وأمومة المؤمنين- فأحد- باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بدّ من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه، وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: ١٥٢] لمكان بَيْنَ المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلّى الله عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ.
وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام، واعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلّى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك.
وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، نعم أورد على ما في الكشاف أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو. وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا انقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر تحكم، وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحد الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بدّ فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية، وإن قصد به العدد ونصف الإثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو اهـ، ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال: إن ما ذكره الزمخشري من قوله: ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر
185
النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا.
وذكر أن ما في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: ٢٨٥] يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
وقال الراغب: أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا متفرقين، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح، ولا يصح إثباتهما، فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٧] وفي الإثبات على ثلاثة أوجه، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين، واستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي [يوسف: ٤١] وقولهم يوم الأحد، واستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه، أما أصله- أعني وحد- فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
انتهى.
وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير.
ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر، وتفضيل كل واحدة من نسائه صلّى الله عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦] وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالبا لفضل كل منها.
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلم، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى:
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ والاتقاء بمعناه الشرعي أيضا، وفي البحر أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، وفيه أن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحا لغة، وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر: ٢٤] إلا أنه لا يتأتى هاهنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية، كقوله سبحانه: بِوَجْهِهِ وقول النابغة باليد وما استدل به أمره سهل، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرطا جوابه فلا تخضعن، وفسر إِنِ اتَّقَيْتُنَّ بإن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بدّ من
186
تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فإما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب، فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، وقد قرر ذلك في الكشف، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات، وحاصله لا تلنّ الكلام ولا ترققنه، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد.
روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى. وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث، وهو كما ترى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وزنا، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
والمراد نية أو شهوة فجور وزنا، وعن قتادة تفسيره بالنفاق، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق، ونصب (يطمع) في جواب النهي وقرأ أبان ابن عثمان وابن هرمز «فيطمع» بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل: فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض، وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال: وقد روي ذلك عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ «فيطمع» بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول. والَّذِي مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد، وقال الكلبي: أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض، وقال الضحّاك: عنيفا، وقيل أي قولا أذن لكم فيه، وقيل: ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من قر يقر من باب علم أصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للإستغناء عنها بتحرك القاف. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجها آخر قال: قار يقار إذا اجتمع ومنه القارة لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى واجمعن أنفسكن في البيوت.
وقرأ الأكثر وَقَرْنَ بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا سكن وثبت، وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قر يقر المضاعف من باب ضرب وأصله اقررن حذفت الراء الأولى وألقيت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للاستغناء عنها. وقال مكي وأبو علي: أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لسكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف وهذا غاية في التمحل، وفي البحر ان قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة والزجاج وغيرهما، وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قرت عينه تقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي.
وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف الوصل وكسر الراء الأولى والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء.
أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن
187
المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها»
وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام: «من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى»
وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المرضى، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها. وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات إنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور الله تعالى ضريحه في التحفة الاثني عشرية، وذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام بنى كل حجرة لمن سكن فيها من الأزواج وكانت كل واحدة منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المالك في ملكه بحضوره صلّى الله عليه وسلم، وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتا لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتا وسلمه إليها، فيكون البيت ملكا لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ملكا لها غير الإضافة في بُيُوتِكُنَّ الداخل فيه حجرتها استئذان عمر رضي الله تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة، وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرّم الله تعالى وجهه، واستئذان الحسن رضي الله تعالى عنه منها لذلك أيضا الثابت عند أهل السنّة والشيعة، كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال
لحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
لاستأذن رضي الله تعالى عنه من الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنوّرة والمتصرف في بيت المال، ولو كانت للورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلّى الله عليه وسلم يورث كغيره لزم الاستئذان من سائر الأزواج أيضا لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الاستئذان أيضا من عصبته عليه الصلاة والسلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي الله تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها.
والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي الله تعالى عنها فاستأذنها لذلك لا يقوم لهم حجة، ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها، منها أن عائشة رضي الله تعالى عنها أذنت للحسن رضي الله تعالى عنه حين استأذنها في الدفن في الحجرة المباركة، ثم ندمت بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الطاهرة وادعت الميراث.
وأنشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول:
تجملت تبلغت وإن عشت تفيلت لك التسع من الثمن فكيف الكل ملكت
وركاكة هذا الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي الله تعالى عنه، وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي الله تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعي الميراث وهي وأبوها رضي الله تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
هذا، ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات باعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها، واستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الاعتبار. والاستئذان يجوز أن يكون لانتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم من جهة الخليفة ولي بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن
188
بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال، ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الاعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في غير ما أثر، بل سيأتي إن شاء الله تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة والسلام وذلك في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: ٥٣] الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى التبرج على ما روي عن مجاهد وقتادة وابن أبي نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج، وعن مقاتل أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وقال المبرد: أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، قال الليث: ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر، وقال أبو عبيدة: أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة للرجال، وأصله على ما في البحر من البرج وهو سعة العين وحسنها، ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل: هو البرج بمعنى القصر، ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها، وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين، ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن لا يفسر به، وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى، وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهلية، وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس الجاهلية ما بين نوح وإدريس عليهما السّلام وكانت ألف سنة، قال: وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال، وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل ورجاله على العكس فاتخذ أهل السهل عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتبرج النساء للرجال والرجال لهن، وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن، وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجتمع بين زوج وعشيق.
وأخرج ابن جرير عن الحكم بن عيينة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السّلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى. وروي مثله عن عكرمة، وقال الكلبي هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما السّلام، وقال مقاتل: كانت زمن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق، وروي عنه أيضا أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه السّلام والثانية زمن محمد صلّى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وقال أبو العالية: كانت الأولى زمن داود وسليمان عليهما السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان.
وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف، وقيل: ما بين موسى وعيسى عليهما السّلام، وقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال الزجاج: وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا، وإنما قيل الْأُولى لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وروي عن ابن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر.
189
وقال ابن عطية: الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك.
وفي حديث أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلا أمه أعجمية فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية
، وفسرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم، وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا: إن الله تعالى أمر نساء النبي صلّى الله عليه وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر الله تعالى ونهيه عزّ وجلّ. وأجيب بأن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقا وإلا لما أخرجهن صلّى الله عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخص لهن لزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار، وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا سودة بنت زمعة، وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش. وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأمير كرّم الله تعالى وجهه وغيره،
وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لهن بعد نزول الآية: «أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن»
فعلم أن المراد الأمر بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس، وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الابتذال، وعائشة رضي الله تعالى عنها، إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضا أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وانحياز قتلته إلى علي كرّم الله تعالى وجهه حزنت حزنا شديدا واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم، وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان بن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح، وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح عندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي الله تعالى عنه وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم: أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرّم الله تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فارتضوا ذلك واستحسنوه فاختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعا لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي الله تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة احترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن قبولا عنده وبنت خليفته الأول رضي الله تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان معها ابن أختها عبد الله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد.
190
فبلغ الأمير كرّم الله تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمرا كان مفعولا فخرج كرّم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين، وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال: يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع: أخبراني بوجه الصلاح قالا: إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا: أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرّم الله تعالى وجهه طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرّم الله تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك
القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي لله تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقاة المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما
في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرّم الله تعالى وجهه بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا.
فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها، بل أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الأمير كرّم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك،
فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم، وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها:
حفظت أربعين ألف حديث ومن الذكر آية تنساها
191
نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء
أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يوما لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب»
وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنّة بزيادة «فإياك أن تكوني يا حميراء»
ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة: ما اسم هذا الماء؟ فقال: يقولون له حوأب فقالت أرجعوني وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأبا فمضت لشأنها بسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر، فكأنها رضي الله تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيرا منها وذنبا بالنسبة إلى مقامها فبكت له. ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي الله تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلا فقد فجره تشبهه بيهودي يدعى نعثلا حتى إذا قتل وبايع الناس عليا قالت: ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت: قد والله قلت وقال الناس فأنشد:
فمنك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنه قد فجر
كذب لا أصل له وهو من مفتريات ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء، ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي الله تعالى عنها ما خرجت وسارت إلى البصرة إلا لبغض علي كرّم الله تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله، ومن ذلك ما
رواه الديلمي أنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حبّ عليّ عبادة»
وقالت بعد وقوع ما وقع: والله لم يكن بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها.
وقد أكرمها علي كرّم الله تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في احترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيزة كريمة، وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت، وما
روي عن الأحنف بن قيس من أن عليّا كرّم الله تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن ارجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها: والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه
وإن قيل: إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر، هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: ثبت أنه قيل لسودة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على اجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على اجتهادهن، نعم
أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع: «هذه ثم لزوم الحصر»
قال: فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: هذه إلخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفا وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولا ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك. وأجيب بأن الخبر ليس نصا في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير
192
أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وقال لهما: إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكبهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعا سكوتيا على الجواز فكأن زينب وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك، وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك، ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقا بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبي صلّى الله عليه وسلم مرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها وبقي مريضا فيه حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور استقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفي صلّى الله عليه وسلم فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حبا لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو هو وحبهن له حبهن. ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع والله تعالى أعلم.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه.
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازا، وقال السدي: الإثم وقال الزجاج:
الفسق وقال ابن زيد: الشيطان، وقال الحسن: الشرك، وقيل: الشك، وقيل: البخل والطمع، وقيل: الأهواء والبدع، وقيل: إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف، وأل فيه للجنس أو للاستغراق، والمراد بالتطهير قيل التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم، وجوز أن يراد به الصون، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا فيما أمر ونهى جل شأنه. واختلف في لام لِيُذْهِبَ فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل: يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم، وقيل: للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة الله تعالى للإذهاب على حد ما قيل في- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- فلا مفعول للفعل، وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى، وهذا الذي ذكروه جار في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: ٢٦] أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: ٧١] وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل مكان
ونصب أَهْلَ على النداء، وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني، وأن يكون على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل، وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله: نحن بنات طارق نمشي على النمارق.
وأل في البيت للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي صلّى الله عليه وسلم والظاهر أن المراد به بيت الطين
193
والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل، وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه صلّى الله عليه وسلم المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد، أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة، وقال عكرمة من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلّى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير أيضا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ نزل في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخرج ابن سعد عن عروة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال: يعني أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: ٥٣] دفعا لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث أن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى، وأورد ضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ رعاية للفظ الأهل والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطابا لسارة: امرأة الخليل عليهما السّلام أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: ٧٣] ومنه على ما قيل قوله سبحانه: قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً خطابا من موسى عليه السّلام لامرأته ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم، وقيل: المراد هو صلّى الله عليه وسلم ونساؤه المطهرات رضي الله تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن. وقيل: المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق.
فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى:
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: ٢٧]. وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: ٤١] فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى (١) : وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: ٩، ١٠] فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل إلا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب»

فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبي، واختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم آله صلّى الله عليه وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم والمطلب، وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلّى الله عليه وسلم مطلقا وأسرة الرجل على ما في القاموس رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت
(١) قوله: وأصحاب المشأمة إلخ كذا بخطه وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول اهـ.
194
متعارفا في إله عليه الصلاة والسلام،
وصح عز زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له: من أهل بيته نساؤه صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: لا ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلّى الله عليه وسلم
، وفي آخر أخرجه هو أيضا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه
قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس
، وقال بعض الشيعة: أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام، أما عمومه على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضا وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثلاث مرات.
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه صلّى الله عليه وسلم من يدي وقال: إنك على خير
وفي أخرى رواها ابن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت؟ فقال صلّى الله عليه وسلم إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم
وفي آخرها
رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة وأنا معهم: يا نبي الله قال: أنت على مكانك وإنك على خير
وأخبار إدخاله صلّى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء،
وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم هؤلاء أهل بيتي
ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلّى الله عليه وسلم، وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضا: وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث السكاء وقال أيضا: إن كون البيوت جمعا في بُيُوتِكُنَّ وإفراد البيت في أَهْلَ الْبَيْتِ يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي صلّى الله عليه وسلم اهـ، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وقال بعض المحققين: المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد اختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقربة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وأولاد
195
الأعمام على هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر،
وكالحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال: يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثا
. وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه
وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت، فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟
فقال: بلى إن شاء الله تعالى
وفي بعض آخر أيضا أنها قالت له صلّى الله عليه وسلم؟ ألست من أهلك قال: بلى وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم
، وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه صلّى الله عليه وسلم الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع وما جلل صلّى الله عليه وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم، وما أجاب به أم سلمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلا بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي الله تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة والسلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها وسباقها ذلك، وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلّى الله عليه وسلم بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة شبيبة ولا نسبية في أهل البيت توسعا وتشبيها كسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حيث
قال عليه الصلاة والسلام «سلمان منا أهل البيت»
وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟ فقال: عليه الصلاة والسلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى ما أرجو
، والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن ابن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلا كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره والجرح مقدم على التعديل وما روي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفي كون أزواجه صلّى الله عليه وسلم أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما
في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا لا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب لله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا- فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده- قال: ومن هم قال هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» الحديث
فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلّى الله عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي الله تعالى عنه كون النساء من أهل البيت.
196
وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت
بقوله: ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها
يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقا فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته نساؤه إلخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلا ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلّى الله عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ، وأنت تعلم أن ظاهر ما
صح من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين- وفي رواية- ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»
يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في الصحاح نسله ورهطه الأدنون، وأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحدا معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني. وفي النهاية أن عترة النبي صلّى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي الله تعالى عنهم، وقيل:
عترته الأقربون والأبعدون منهم اهـ. والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكي ابن عبد البرّ الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»
إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له، ولعل الاقتصار على من ذكر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلّى الله عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول، وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متعسف.
وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنّة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحمة الله عزّ وجلّ ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والأفراد فقد سمعت ما يتعلق به، والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ للتغليب، وذكر أن في عَنْكُمُ عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط.
واعتذر المشهدي عن وقوع جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ [النور: ٥٤] ثم قال سبحانه بعد تمام الآية:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [النور: ٥٦] فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع
197
بعد أَقِيمُوا الصَّلاةَ إلخ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على أطيعوا وهو كما ترى.
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة، وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى. ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز، ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام: خسن وخسين دختران مغاوية وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠] ثم إن الشيعة استدلوا بالآية بعد قولهم: بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل لِيُذْهِبَ مفعولا به ل يُرِيدُ وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلّى الله عليه وسلم منها، وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر: إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل، وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي الله تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضا على أصول أهل السنّة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عزّ وجلّ مطلقا وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيرا وأيضا لو كانت مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: ٦] بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فإن وقوع هذا الإتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان اهـ. وقرر الطبرسي وجه الاستدلال بها على العصمة بأن إِنَّما لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل: إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها، والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة المجردة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني، وقد علم أن من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم اهـ. وهو كما ترى، على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمير كرّم الله تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ففي نهج البلاغة أنه كرّم الله تعالى وجهه قال لأصحابه: لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فعلي إلا أن يلقي الله تعالى في نفسي ما هو أملك به مني.
وفيه أيضا
كان كرّم الله تعالى وجهه يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي
، وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل، وفسر بعض أهل السنّة الإرادة هاهنا بالمحبة قالوا:
لأنه لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظا من كل ذنب والمشاهد خلافه، والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الاثني عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا، والمدح جاء من جهة الاعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة الله تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
198
وقد يستدل على كون الإرادة هاهنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل
بأنه صلّى الله عليه وسلم قال حين أدخل عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»
فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو الادعاء بحصول واجب الحصول.
واستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما أدخلهم صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة والسلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث، والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلّى الله عليه وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه صلّى الله عليه وسلم في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعلي كرّم الله تعالى وجهه مع ماله من القرابة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام فلم يفارقه وعامله كولده صغيرا أو صاهره وآخاه كبيرا، والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل، والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنّة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به «ليريد» محذوفا ويجعل لِيُذْهِبَ و «يطهر» في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم لأنه عزّ وجلّ يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتوه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقا. فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مبادئه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم الله تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى.
وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة، والآية متضمنة الوعد منه عزّ وجلّ لأهل بيت نبيه صلّى الله عليه وسلم بأنهم أن ينتهوا عما ينهي عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن ويحليهم أجلّ تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك.
ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالا من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن أخلاقا وأزكى نفسا وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الأنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافا للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله إلى أنه قد يكون من غيرهم، ورأيت
199
في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره ما حاصله أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا الأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اهـ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأنى لي به.
والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلا وأوفرهم فضلا وأن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الأصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت: كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه صلّى الله عليه وسلم كما نابت عنه الأنبياء قبله فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصرا من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب والأولياء نواب عنه ومستمدون منه، وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قدس سره وغمرنا بره قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنيا من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي الله تعالى عنه:
أفلت شموس الأولين وشمسنا أبدا على فلك العلا لا تغرب
لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويومىء إليه استمرار ظهور أمره وانتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن استفاض على الوجه المعروف عند أهله منه وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر، هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة، ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلّى الله عليه وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل الله عزّ وجلّ فلا مانع من أن يوفق أحدا لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير، وقيل: أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ هي السنّة على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلّى الله عليه وسلم، وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان في المصحف بدل الْحِكْمَةِ السنّة حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار، وقال جمع: المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه: يُتْلى أي اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع، وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه، وقيل: هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط إِنَّما يُرِيدُ إلخ في البين والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في
200
كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول، وقيل: إن ذلك لرعاية الحكمة بناء على أن المراد بها السنة فإنها لم تنزل نزول القرآن وتعقب بأنها لم تتل أيضا تلاوته، وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تتلى» بتاء التأنيث إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته، وقيل:
يعمل الحكمة حيث أنزل كتابه جامعا بين الوصفين، وجوز بعضهم أن يكون اللطيف ناظرا للآيات لدقة إعجازها والخبير للحكمة لمناسبتها للخبرة.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله تعالى أو المفوضين أمرهم لله عزّ وجلّ من الذكور والإناث وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين.
وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعات القائمين بها وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في أقوالهم التي يجب الصدق فيها، وقيل في القول والعمل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال أي في إيمانهم وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على المكاره وعلى العبادات وعن المعاصي وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.
وقيل: الذين لا يعرفون من عن أيمانهم وشمائلهم إذا كانوا في الصلاة وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما يحسن التصدق به من فرض وغيره وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المشروع فرضا كان أو نفلا، وعن عكرمة الاقتصار على صوم رمضان، وقيل: من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يرضى به الله تعالى.
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بالألسنة والقلوب ومدار الكثرة العرف عند جمع، وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات»
وقيل: المراد بذكر الله تعالى ذكر آلائه سبحانه ونعمه وروي ذلك عن عكرمة ومآل هذا إلى الشكر وهو خلاف الظاهر.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب كسبهم ما ذكر من الصفات مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بالأعمال الصالحة كما ورد وَأَجْراً عَظِيماً على ما عملوا من الطاعات، والآية وعد للأزواج المطهرات وغيرهن ممن اتصفت بهذه الصفات،
أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعني منه صلّى الله عليه وسلم ذات يوم إلا نداءه على المنبر وهو يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية
، وضمير ما لنا للنساء على العموم ففي رواية أخرى رواها النسائي وجماعة عنها أيضا أنها قالت: قلت للنبي عليه الصلاة والسلام ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟
فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية.
وفي بعض الآثار ما يدل على أن القائل غيرها،
أخرج الترمذي وحسنه والطبراني وعبد بن حميد وآخرون عن أم
201
عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
إلخ.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الآية
، وفي رواية أخرى عنه أنه قال لما ذكر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم قال النساء: لو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله تعالى الآية.
ولا مانع أن يكون كل ذلك، وعطف الإناث على الذكور كالمسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين ضروري لأن تغاير الذوات المشتركة في الحكم يستلزم العطف ما لم يقصد السرد على طريق التعديد، وعطف الزوجين أعني مجموع كل مذكر ومؤنث كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات غير لازم وإنما ارتكب هاهنا للدلالة على أن مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة.
وذكر الفروج متعلقا للحفظ لكونها مركب الشهوة الغالبة وذكر الاسم الجليل متعلقا للذكر لأنه الاسم الأعظم المشعر بجميع الصفات الجليلة، وحذف متعلق كل من الحافظات والذاكرات لدلالة ما تقدم عليه، وجعل الذكر آخر الصفات لعمومه وشرفه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: ٤٥] وتذكير الضمير في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ لتغليب الذكور على الإناث وإلا فالظاهر لهم ولهن، ولله تعالى در التنزيل أشار في أول الآية وآخرها إلى أفضلية الذكور على الإناث وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى لتعظيم أمره بالإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة من الله تعالى بحيث تعد أوامره أوامر الله عزّ وجلّ أو للإشعار بأن ما يفعله صلّى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمره لأنه لا ينطق عن الهوى فالنظم إما من قبيل فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: ٤١] أو من قبيل وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه عليه الصلاة والسلام واختيارهم تلوا لاختياره.
والخيرة مصدر من تخير كالطيرة مصدر من تطير، ولم يجىء على ما قيل مصدر بهذه الزنة غيرهما، وقيل: هي صفة مشبهة وفسرت بالمتخير، ومِنْ أَمْرِهِمْ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا منها، وجمع الضمير في لَهُمْ رعاية للمعنى لوقوع مؤمن ومؤمنة في سياق النفي والنكرة الواقعة في سياقه تعم، وكان من حقه على ما في الكشاف توحيده كما تقول: ما جاءني من امرأة ولا رجل إلا كان من شأنه كذا: وتعقبه أبو حيان بأن هذا عطف بالواو والتوحيد في العطف بأو نحو من جاءك من شريف أو وضيع أكرمه فلا يجوز إفراد الضمير في ذاك إلا بتأويل الحذف. وجمعه في أَمْرِهِمْ مع أنه للرسول صلّى الله عليه وسلم أوله ولله عزّ وجلّ للتعظيم على ما قيل.
وقال بعض الأجلة: لم يظهر عندي امتناع أن يكون عائدا على ما عاد عليه الأول على أن يكون المعنى ناشئة من أمرهم أي دواعيهم السائقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم أو يكون المعنى الاختيار في شيء من أمرهم أي أمورهم التي يعنونها. ويرجح عوده على ما ذكر بعدم التفكيك ورد بأن ذاك قليل الجدوى ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم أو واقعة في أمورهم وهو بين مستغن عن البيان بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه عليه الصلاة والسلام أو متجاوزين عن أمره لتأكيده وتقريره للنفي وهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول، والحق أنه لا مانع من ذلك على أن يكون المعنى ما كان للمؤمنين أن يكون لهم اختيار في شيء من أمورهم إذا قضى الله ورسوله لهم أمرا، ولا نسلم أن ما عد مانعا مانع فتدبر.
202
ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة واتفاقهم أقوى من تأثير الواحد، ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه إفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين والحسن والأعمش والسلمي أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي، وقرىء كما ذكر عيسى بن سليمان «الخيرة» بسكون الياء وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً أي بين الانحراف عن سنن الصواب، والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق، والآية على ما
روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلّى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وأخيها عبد الله خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال: إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت: يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل.
وفي رواية أنها قالت: أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها بعد الله على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهما مهرا وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت (١) هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزوجنا عبده وَإِذْ تَقُولُ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قولك لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالتبني ومزيد القرب وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام: لبيان منافاة حاله لما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء والاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه، وجوز أن يكون بيانا لحكمة إخفائه صلّى الله عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن كان في نعمائه يتقلب
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي زينب بنت جحش وذلك
أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يوما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زينب قد اشتد علي لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
في أمرها ولا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها واشتداد لسانها عليك. وتعدية أَمْسِكْ بعلى لتضمينه معنى الحبس.
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عطف على تَقُولُ وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفي أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه، والمراد بالموصول على ما
أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن
(١) قوله فحطت هي وأخوها إلخ كذا بخطه ولعلها فخطئت إلخ وحرر اهـ. [.....]
203
علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وَتَخْشَى النَّاسَ تخاف من اعتراضهم وقيل: أي تستحي من قولهم: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه، والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال. وقوله: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في موضع الحال لا غير، والمعنى والله تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك وأذن لك فيه، والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة والسلام ذلك مع أَمْسِكْ مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلّى الله عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى.
وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله تعالى عنه.
وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخفي إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة والسلام قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وهو يحب طلاقها، والعتاب عليه على ظهار ما ينافي الإضمار، وقد رد ذلك القاضي عياض في الشفاء وقال: لا تسترب في تنزيه النبي صلّى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخر ما قال.
وذكر بعضهم أن إرادته صلّى الله عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، وليس هناك حسد منه عليه الصلاة والسلام وحاشاه له عليها فلا محذور، والأسلم ما ذكرناه عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه والجمهور، وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنه ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه:
زَوَّجْناكَها فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول.
منه ما
أخرجه ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان أنه صلّى الله عليه وسلم جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وانصرف راجعا يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء يد فأخبرته بما كان فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: بلغني يا رسول الله إنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك زوجك واتق الله فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ففارقها
وفي تفسير علي بن إبراهيم أنه صلّى الله عليه وسلم أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها فلما نظر إليها قال: سبحان خالق النور تبارك الله أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته الخبر فقال لها: لعلك وقعت في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص الله تعالى
إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، وفي شرح المواقف أن هذه القصة مما يجب صيانة النبي صلّى الله عليه وسلم عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الابتلاء لهما، والظاهر أن الله تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبنى أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلّى الله عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه، وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: إن القصة شبيهة بقصة داود عليه السّلام لا سيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جاريا بينهم من غير حرج فيه انتهى، وأبعد بعضهم فزعم أن وَتُخْفِي إلخ خطاب كسابقه من الله عزّ وجلّ أو من النبي صلّى الله عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبي صلّى الله عليه وسلم
204
يود أن تكون من نسائه، هذا وفي قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله: هون عليك ودع عنك نهبا صيح في حجراته، وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ولا يجوز أن يكونا حرفين لامتناع فكر فيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك، والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية علي وعن فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي طلقها كما روي عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك، ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة، وقال أبو عبيدة: هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع:
ودعنا قبل أن نودعه... لما قضى من شبابنا وطرا
ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للاحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الاحتيال وإن لم تكن حاجة، وقال المبرد: هو الشهوة والمحبة يقال: ما قضيت من لقائك وطرا أي ما استمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما... قضى وطرا منها جميل بن معمر
وعن ابن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع، والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها، وفي البحر نقلا عن بعضهم أنه رضي الله تعالى عنه أنه لم يتمكن من الاستمتاع بها، وروى أبو عصمة نوح بن أبي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت ما كنت أمتنع منه غير أن الله عزّ وجلّ منعني منه، وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع.
قيل: ولا يخفى أنه على هذا يحسن جدا جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل، وفي الكلام تقدير أي فلما قضى زيد منها وطرا وانقضت عدتها، وقيل: إن قضاء الوطر يشعر بانقضاء العدة لأن القضاة الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل: فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقها وانقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها زَوَّجْناكَها أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد أصالة أو وكالة، فقد صح من حديث البخاري والترمذي أنها رضي الله تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال كانت تقول للنبي عليه الصلاة والسلام: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك الله إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السّلام، ولعلها أرادت سفارته عليه السّلام بين الله تعالى وبين رسوله صلّى الله عليه وسلم وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة والسلام وبينها كان زيدا
أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن.
ومن حديث أخرجه الطبراني والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق ابن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة فقال: الله تعالى المزوج وجبريل الشاهد
، ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك، وقيل: المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها.
وقرأ علي وابناه ريحانتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين وابنه محمد بن الحنفية وجعفر الصادق رضي الله
205
تعالى عنهم أجمعين «زوجتكها» بتاء الضمير للمتكلم وحده
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي ضيق وقيل إثم، وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلّامة ابن الهمام من الحنفية فِي أَزْواجِ أي في حق تزوج أزواج أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي إذا طلقهن الأدعياء وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة، واستدل بهذا على أن ما ثبت له صلّى الله عليه وسلم من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بدليل، وتمام الكلام في المسألة مذكور في الأصول، والمراد بالحكم هاهنا على ما سمعت أولا مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن مَفْعُولًا مكونا لا محالة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي الله تعالى عنها ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون له حرج فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي قسم له صلّى الله عليه وسلم وقدر من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به، وقال قتادة: أي فيما أحل له، وقال الحسن:
فيما خصه به من صحة النكاح بلا صداق، وقال الضحّاك: من الزيادة على الأربع سُنَّةَ اللَّهِ أي سن الله تعالى ذلك سنّة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج، وذهب الزمخشري إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر كقولهم: تربا وجندلا أي رغما وهوانا وخيبة، وكأنه لم تثبت عنده مصدريته، وقيل:
منصوب بتقدير الزم ونحوه.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء كأنه قيل: فعليه سنّة الله. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضا تقدير فعليه سنّة الله بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغرى غائب وقولهم عليه رجلا ليسنى مؤول وهو مع ذلك نادر. واعترض بأن قوله: لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع، وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه هاهنا كما لا يخفى، ثم قيل: إن ظاهر كلام ابن عطية يشعر بأن النصب بتقدير الزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه اهـ فتدبر.
فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلك من الأنبياء عليه الصلاة والسلام حيث لم يحرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود عليه السّلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السّلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السّلام ألف امرأة، والظاهر أنه عنى بالمرأة ما يقابل السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله. يروى أن اليهود قاتلهم الله تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلّى الله عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: سُنَّةَ اللَّهِ الآية.
وقيل: إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداود عليه السّلام من تزوجه امرأة أوريا. وأخرج ذلك ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج، واسم تلك الامرأة عنده اليسية وهذا مما لا يلتفت إليه، والقصة عند المحققين لا أصل لها وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه بمقدور نحو وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد، والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها، والمعنى الأول أظهر، والقضاء والقدر يستعمل كل منهما بمعنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق. وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر الله تعالى
206
المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل بموجبه لازم مقضي في نفسه أو هو كالمقضي في لزوم اتباعه، ولا يخفى تكلفه، وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله القضاء ما يكون مقصودا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه: زَوَّجْناكَها ذيله بأمرا مفعولا لكونه مقصودا أصليا وخيرا مقضيا ولما قال جل شأنه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا إشارة إلى قصة داود عليه السّلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال سبحانه: قَدَراً مَقْدُوراً لكون الافتتان شرا غير مقصود أصلي من خلق المكلف، وفيه ما فيه، والجملة اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيق الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح.
وقرأ عبد الله بلغوا فعلا ماضيا، وقرأ أبي «رسالة» على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى بمنزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها وَيَخْشَوْنَهُ أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث إن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك، وهذا كالتأكيد لما تقدم من التصريح في قوله سبحانه: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الكبار والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير، واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السّلام مطلقا، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه كما قاله ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وإن أهل السنّة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكي عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا، وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب.
ومذهب أهل السنّة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة.
وقسموا العدو إلى قسمين: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنّة والشيعة، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين: أما الأول فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين حقيقة أو حكما وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان
207
إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف فأرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا، وأما الثاني فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية. وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض.
وقال جمع: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن.
وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة: الحق أن الهجرة هاهنا قد تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته، وقال: إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها اهـ، وفيه بحث، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك. بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل: إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عزّ وجلّ عن موسى عليه السّلام بأنه قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا [طه: ٤٥] وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى فما وجه الجمع؟ قلت: أجيب بأن الخشية أخص من الخوف.
قال الراغب: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته، وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكي عن موسى عليه السّلام، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادىء الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السّلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن، وقيل: إن موسى عليه السّلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف لله عزّ وجلّ، والمراد بما نفي عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى الله تعالى هداك.
208
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ رد لمنشأ خشيته صلّى الله عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وهو قولهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلّى الله عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد، وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: ٧] وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: ١٢] ونحو
قوله عليه الصلاة والسلام: «فلأولى رجل ذكر»
والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف، وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النساء: ٩٨] فإن الرجال فيه للبالغين، وفيه بحث، نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ، وأيا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم، وإن أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا.
والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقة الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة، ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا له مطلقا، أما كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه، ومثله كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع، وأما كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا على شرائط، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة، وتعميم نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة الأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا كلام في انتفاء الأوليين وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول: تزوج محمد عليه الصلاة والسلام زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقة عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه أصلا.
ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم، ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة
209
والسلام ليعلم نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم، ويؤتي بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلّى الله عليه وسلم بتزوجه مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلّى الله عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة، وأن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بابن محمد صلّى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: ٥] فدعوه حينئذ بابن حارثة، ووجه انحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر، وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت، وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس مضافا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلّى الله عليه وسلم باعتباره، ومن خص الرجال بالبالغين قال: لا ينتقض العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرا ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من الهجرة من الهجرة وفيها تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب، ومن ولد له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها، وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا يوم النزول بل بعده وهو كما ترى، وكما استشكل النفي بما ذكر استشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أبا لهما حقيقة شرعية، ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار الولادة لدخول علي كرّم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه، وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب، أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا، وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر، وقيل: ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد
له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى عنهم ولا جواب.
وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان والله تعالى أعلم. واستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال: ونص الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلّى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها، وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه: ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي صلّى الله عليه وسلم أبا المؤمنين قال الله تعالى:
210
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦] وفي بعض القراءات «وهو أب لهم»
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي كرّم الله تعالى وجهه: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة»
وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي»
اهـ فلا تغفل، وعلى جواز الإطلاق قالوا: إن قوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلّى الله عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلّى الله عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه عليه الصلاة والسلام فإن كل رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلّى الله عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضا إنه لما نفيت أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم مع اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل: إن لوطا عليه السّلام عني بقوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: ٧٨] المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلّى الله عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر، وأما قوله سبحانه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلّى الله عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم السّلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه، وقيل: إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل، وقيل: إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ من أنه صلّى الله عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي الله تعالى عنهما، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال: كان إبراهيم- يعني ابن النبي صلّى الله عليه وسلم- قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السّلام، وجاء نحوه في روايات أخر.
أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: مات صغيرا ولو قضى بعد محمد صلّى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه.
وأخرج ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «إن له مرضعا في الجنة ولو عاش لكان صديقا نبيا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي»
وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على
211
عظيم، ومثله ابن عبد البرّ فقد قال في التمهيد: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السّلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه السّلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الأخبار عن مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه ابن النبي صلّى الله عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وحينئذ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا منع ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش.
وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السّلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السّلام ونبينا صلّى الله عليه وسلم أكرمهم عليه وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السّلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلّى الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤوا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السّلام ونبينا عليه الصلاة والسّلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.
فإن قيل: إنه عوض صلّى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرّم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه
قوله صلّى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»
قلنا: فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسّلام أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلا بدّ من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسّلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلّى الله عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهي تنافي خاتميته اهـ، وفيه أن الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقي حكمه صلّى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريم لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: ٦٧] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكا بالمعنى الأول اهـ فليتأمل.
ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية: إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم
212
في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السّلام، ثم نقل عن السبكي كلاما في
حديث «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسّلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيا ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره اهـ وفيه بحث.
وخبر أنه عليه الصلاة والسّلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي»
في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله، والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد: «خاتم» فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك وقرأ الجمهور «وخاتم» بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضا، وفي حرف ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسّلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسّلام بها في هذه النشأة.
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السّلام آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلّى الله عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السّلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابق لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا فلا يكون إليه عليه السّلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسّلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنّة وهو عليه السّلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في
قوله صلّى الله عليه وسلم (١) :«إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية»
فنزوله عليه السّلام غاية لا قرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد، وقوله: إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنه بحال لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلّى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسّلام ولذا لم يتقدم لأمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السّلام فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السّلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكما، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السّلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في البحور الزاخرة وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرا في الكتاب والسنّة فبعيد وإن كان عليه
(١) حديث صحيح وفي الصحيحين ما هو بمعناه اهـ منه.
213
السّلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنّة على الوجه المعروف.
نعم لا يبعد أن يكون عليه السّلام قد علم في السماء بعضا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنّة في بعض آخر، وقيل: إنه عليه السّلام يأخذ الأحكام من نبينا صلّى الله عليه وسلم شفاها بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام، وأيد
بحديث أبي يعلى «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه».
وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسّلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء:
قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فأرتج عليّ فرأيت عليا كرّم الله تعالى وجهه قائما بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد أرتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت: لم لا تكملها سبعا قال: أدبا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت إذن الله أن ترفع، وقال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله عليه الصلاة والسّلام يقظة ومناما فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلّى الله عليه وسلم يقظة ومناما ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدا.
وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي» وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة.
وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل: المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به لي حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بدّ أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري: هذا الحديث يدل على أن من يراه صلّى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسّلام أو هذا كان في حياته وهل
214
ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنّته عليه الصلاة والسّلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلّى الله عليه وسلم فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلّى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى المراد منه، ثم أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى صلّى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلّى الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال: بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسّلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال اهـ، وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السّلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارا كثيرة تشهد له.
منها ما
أخرجه ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا»
ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح، ومنها ما
ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروى أكثر من يومين.
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلّى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسّلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السّلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسّلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلّى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ
215
صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسّلام في زمان واحد في أقطار متباعدة.
ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:
كالشمس في كبد السماء وضوءها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسّلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلّى الله عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلّى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسّلام، وآخر مظان تحققها وقت الموت.
ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه، وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ، ثم إن الخبر المذكور فيما مر مذكور
في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي»
فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسّلام قال: فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت، وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو
كقوله صلّى الله عليه وسلم في خبر آخر: «فقد رآني»
وفي آخر أيضا «فقد رأى الحق»
والمعنى أن رؤياه صحيحة، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السّلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به، والخبر السابق الذي
أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه
وقال فيه ابن حبان: هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له.
وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث
والحديث بتمامه عند الطبراني «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره»
وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا، وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين، والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السّلام، وقد ألف البيهقي جزءا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار.
ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه بما له من الشواهد درجة الحسن، والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير، وحياة نبينا صلّى الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السّلام،
وخبر «ما من مسلم يسلم على إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السّلام»
محمول على إثبات
216
إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السّلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم، وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم،
وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا إن موسى نقل يوسف من قبره بمصر
، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسّلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلّى الله عليه وسلم ظهل لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسّلام عنه، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلّى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول صلّى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه، وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلّى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسّلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن معنى أن أقول: كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول: إنهم إنما رأوا النبي صلّى الله عليه وسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا: رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول: إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السّلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلّى الله عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنّته صلّى الله عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.
وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى
217
مرآته عليه الصلاة والسّلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون.
فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب.
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السّلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة والسّلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه وهو من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار.
أخرج ابن عدي عن أنس «بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه قالوا: نعم قال: ذلك عيسى ابن مريم سلم عليّ»
وفي رواية ابن عساكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا: يا رسول الله صافحت شيئا ولا نراه قال: ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه»
ومن هنا عد عليه السّلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل:
إنه عليه السّلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عزّ وجلّ وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة، وقد دل قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ على انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه، ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة، ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد- كما قال اللقاني- عن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السّلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عزّ وجلّ يحبه كحبه لأخيه فيه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال: قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب عليّ فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقص عليه فقال: ذاك جبريل عليه السّلام
، والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه، وكفي دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: ٣٠] الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس: إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى، وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه- المنقذ من الضلال- أثناء الكلام على مدح أولئك السادة: ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل: ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للانسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة، وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة اهـ.
218
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال: إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب، والظاهر من كلامهم أن الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنّة مانع كبير عن ذلك، ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى اكتويت فترك ثم تركت المكي فعاد، ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنّة كاذب لا ينبغي أن يصغي إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه ملكا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنّة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة، فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم عليّ- وفي رواية الحاكم في المستدرك- اعلم يا مطرف أنه كان يسلم على الملائكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال: فلما برأ كلمه قال: اعلم يا مطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم عليّ حتى أموت، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين، وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الأطهار وهم رضي الله تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار.
فقد روي أن سديرا الصير في سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه فقال: جعلت فداك إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت حتى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك؟ قال: لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج الله تعالى وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه، حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار
وقد ظهر في هذا العصر (١) عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول، وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم نصره الله تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في الدارين ضيما وضيرا. وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السّلام بعد نزوله، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمي فقال نعم يوحي إليه عليه السّلام وحي حقيقي كما
في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وفي رواية صحيحة «فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السّلام إذ هو السفير بين الله تعالى وأنبيائه»
لا يعرف ذلك لغيره، وخبر لا وحي بعدي باطل، وما اشتهر أن جبريل عليه السّلام لا ينزل إلا الأرض بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم فهو لا أصل له، ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السّلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله تعالى وهو على طهارة اهـ، ولعل من نفي الوحي عنه عليه السّلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه فتأمل. وكونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب
(١) سنة ١٢٦١ اهـ منه.
219
وصدعت به السنّة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر.
ومن السنة ما
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن جابر مرفوعا نحو هذا،
وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم، وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنّة والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة، ونصب رَسُولَ على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا، وجوز أن يكون النصب بالعطف على أَبا أَحَدٍ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولكنّ» بالتشديد فنصب «رسول» على أنه اسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلّى الله عليه وسلم، وقال الزمخشري: تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجيا عظيم المشافر
أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة بتخفيف «لكن» ورفع «رسول» - و «خاتم» أي ولكن هو رسول الله إلخ كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السفاف فيهم ولكن مدرة الحرب العوالي
أي ولكن أنا مدرة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ أعم من أن يكون موجودا أو معدوما عَلِيماً فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو جل وعلا أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس ذِكْراً كَثِيراً يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد، وعن ابن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه، وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وقيل: إن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به، وعن مقاتل هو أن يقال:
سبحان الله والحمد الله ولا إله إلّا الله والله أكبر على كل حال، وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا
وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرا وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرسا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه
كذا رأيته في مدونه فلا تغفل، وقال بعضهم: مرجع الكثرة العرف.
وَسَبِّحُوهُ ونزهوه سبحانه عما لا يليق به بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لأنافه فضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة بينها، وقيل: كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول
220
وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلا صلاة العشاء، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه قال: أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روي عن الحبر وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزا من غير ضرورة، وقد يقال: إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلا بالصلاة فيه فتأمل وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا أي الصلاة في جمع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية، ولا يخفى بعده هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين وَمَلائِكَتُهُ عطف على الضمير في يُصَلِّي لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل لا على هُوَ والصلاة في المشهور- وروي ذلك عن ابن عباس- من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء، ويجوز على رأي من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولا الرحمة وثانيا الاستغفار، ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد بالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو إما الاعتناء ربما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود، ولا ريب في أن استغفار الملائكة عليهم السّلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم، وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث، ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة. واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه، وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة: ١٥٧] للعطف الظاهر في المغايرة، وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة، وقيل: إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكما في معنيين وهو كما ترى، ومثله كون مَلائِكَتُهُ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الّذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيدك علما بأمر الصلاة، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر قال: لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: ٥٦] قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، وقال الطبرسي: من الجهل بالله تعالى إلى معرفته عزّ وجلّ فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه شيء بالنور، وقال ابن زيد: أي من الضلالة إلى الهدى، وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان، وقيل: من النار إلى الجنة حكاه الماوردي، وقيل: من القبور إلى البحث حكاه أبو حيان وليس بشيء، واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عزّ وجلّ وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى النور وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
221
اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيما على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة، وقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور، والتحية أن يقال: حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء، ويقال حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة أم لدينا أو لآخرة.
وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ وسَلامٌ مرادا به لفظه خبره، والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ. روي أن الله تعالى يقول: سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون: بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا وورد أن الله تعالى يقول: السلام عليكم مرحبا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري، وقيل: تحييهم الملائكة عليهم السّلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
وقيل: تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة، وقيل عند الموت.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام
، قيل: فعلى هذا الهاء في يَلْقَوْنَهُ كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الآخر جميعا. ولقاء الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عزّ وجلّ ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت.
وقال الراغب: ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عزّ وجلّ، وقال الطبرسي: هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى، وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل. وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ولكنه كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: ٧٨] أي للحكم الّذي جرى بينهم.
وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام، وقول المحيي في ذلك اليوم سلام إخبار لا دعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر، وأحرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهم يوم يلقونه إكراما لهم وتعظيما.
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي وهيأ عزّ وجلّ لهم ثوابا حسنا، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم، وقيل: هي بعد الدخول والتحية فالكلام لبيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الّذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما عليهم، وهو
222
حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمرا ممتدا لاعتبار التحمل والأداء في الشهادة، والإرسال بذلك الاعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للاداء وإن اعتبر الامتداد.
وقيل: بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة، ولك أن لا تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة، ثم أن تحمل الشهادة على من عاصره صلّى الله عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر، وأما تحملها على من بعده بأعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده بأعيانهم،
روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه صلّى الله عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
. نعم قد يقال: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين، وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلّى الله عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل، وقيل: يجمع بابه عليه الصلاة والسلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسي فقال: أصيحابي، ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقيل: يعرض ما عدا الكفر وهون كما ترى، وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه صلّى الله عليه وسلم حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله، ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد أطلعه صلّى الله عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة والسلام شاهد. قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه:
در نظر بودش مقامات العباد زان سبب نامش خدا شاهد نهاد
فتأمل ولا تغفل، وقيل: المراد شاهدا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد، وقيل: المراد شاهدا بأن لا إله إلا الله وَمُبَشِّراً تبشر الطائعين بالجنة وَنَذِيراً تنذر الكافرين والعاصين بالنار، ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل: مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا مع أن ظاهر عطفه على مُبَشِّراً يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عزّ وجلّ، ولعل هذا هو مراد ابن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ أي بتسهيله وتيسيره تعالى، وأطلق الإذن على التسهيل مجازا لما أنه من أسبابه لا سيما الإذن من الله عزّ وجلّ ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه: إنا أرسلناك داعيا أنه صلّى الله عليه وسلم مأذون له في الدعوة، ومما ذكر يعلم أن بِإِذْنِهِ من متعلقات داعيا، وقيدت الدعوة بذلك إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الإعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وإدخال للأعناق في قلادة غير معهودة، وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيل منتزع من عدا أمور أو مفرق، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته.
وقال الزجاج: هو معطوف على شاهدا بتقدير مضاف أي ذا سراج منير، وقال الفراء: إن شئت كان نصبا على معنى وتاليا سراجا منيرا، وعليهما السراج المنير القرآن، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل أن يعطف على كاف
223
أَرْسَلْناكَ على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلدا سيفا ورمحا، وقيل: إنه على تقدير تاليا سراجا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليا سراجا كقوله تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: ٢] على أنه الجامع بين الأمرين على نحو: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الأنبياء: ٤٨] أي أرسلنا بإرسالك تاليا.
وجوز أن يراد وجعلناك تاليا، وقيل: يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراج. وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف، والحق أن كل ما قيل كذلك.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة، وقيل: هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهدا ومبشرا ونذيرا إلخ وبشر المؤمنين منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي عطاء جزيلا وهو كما روي عن الحسن وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: ٢٢] وقيل: المعنى فضلا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان.
أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال لما نزل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟
فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي عليه بنظمها في سلكها وتصوير بصورتها، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث إنه صلّى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل.
وَدَعْ أَذاهُمْ أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل، وقال أبو حيان: الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهى صلّى الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبي والأول أولى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وتذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه عزّ وجلّ يكفيهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي ولما وصف صلّى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحا وهو لأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عزّ وجلّ وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد وبشر المؤمنين ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك.
وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه: نظير هذه الآية ما
روى البخاري: والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في التوراة قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلقا، وروى الدارمي نحوه عن عبد الله بن
224
سلام
فقوله: حرز للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ فإن دعوته صلّى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى: بتيسيره وتسهيله فلذلك آمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزا لهم، وقوله: سميتك المتوكل إلخ مقابل لقوله: وَسِراجاً مُنِيراً فعلم أن قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مناسب لقوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلا على الله تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب لقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح وكونه منيرا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال: ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: ٨] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزّ وجلّ وقوله، سبحانه: وَسِراجاً مُنِيراً هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى اهـ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمزاده.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها عود إلى ذكر النساء، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكا لفظيا، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل: بقلبه وقيل هو مشترك بينهما اشتراكا معنويا وهو من أفراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما في قوله:
ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها
ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن الكوفيين، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد، وإن اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده، واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث: فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه.
واختار الزمخشري الثالث فقال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان والتغشي والإتيان، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسى فيه المعنى اللغوي، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣] بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب، وتمام الكلام في موضعه، والمس في الأصل معروف وكني به هنا عن الجماع، والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فاتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى فعل، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج
225
ما أشعر به قوله تعالى: فَما لَكُمْ واعترض بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا لا تسقط لو أسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضا ولذا
قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرىء مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره»
وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في إبطالها باتفاقهما على عدم الوطء.
وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها صرف حقهم يجوز أن يقال: إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار الرؤية، ثم أن في الاستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملا كما لا يخفى، وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح الكتابيات، وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق له دخل في إيجاب العدة لاحتمال الملاقاة والجماع سرا كما أن له دخلا في النسب، ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحا لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٦] غير محبوب كالنكاح من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الّذي به تكثر الأمة ولهذا
ورد كما أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ورواه البيهقي مرسلا
بدون ابن عمر بل قال العلامة ابن الهمام: الأصح حظره وكراهته إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على ذلك، ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق، والفعل لا عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلا ومن المبيح عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم.
وأما ما
روي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه فقال: أحب الغناء فقد قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
[النساء: ١٣٠] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة، وظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفى فيها وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعا وهي عندنا إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في وجوب العدة فتجب فيه العدة احتياطا لتوهم الشغل نظرا إلى التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي الشهير بابن عابدين بقوله:
وخلوته كالوطء في غير عشرة مطالبة بالوطء إحصان تحليل
وفيء وارث رجعة فقد عنة وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل
وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبة قضاء وديانة. وفي الفتح قال العتابي: تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهرا أو حقيقة فقيل: لو تزوجت وهي متيقنة بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء
226
اهـ، ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في حواشي البيضاوي وقال: ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول.
وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا بأنه لا يعول عليه ونحن لم نر هذا التصريح فليتتبع، ثم لا يخفى أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقا صريحا في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال: إنا لا نقول به كما يتوهم فلا بدّ لإثبات وجوب العدة في ذلك من دليل، ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقا لاسم المسبب على السبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة، واعترض بأنه لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته منه، وأيضا يلزم عليه أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس عدم وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة. وأجيب عن هذا بأن وجوب العدة في ذلك بالإجماع، وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به ووجوبها بالخلوة لاحتمال وقوعه فيها لا لذاتها، وقيل: إن المس لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده في غير خلوة مع أنه لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كنى به عن معنى آخر من لوازم الاتصال فهو الجماع وما في معناه من الخلوة الصحيحة، وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهره لا يوجب إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها شهرة الكناية بذلك ونحوه عن الجماع، وإطلاقه عليه إما من إطلاق اسم السبب على المسبب أو من إطلاق اسم المطلق على أخص بخصوصه وهو الأوجه على ما ذكره العلامة ابن الهمام، وبالجملة القول بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين وحق مبين فتأمل.
وفي البحر لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داود وقال عطاء وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داود ليس عليها عدة لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة للثاني ولها نصف المهر، وقال الحسن: وعطاء وعكرمة وابن شهاب ومالك والشافعي وعثمان البتي وزفر: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وأبو يوسف: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائة اهـ، وفيه أيضا الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعنى بطلاق من لم يعقد عليها قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: هو ليس بشيء فقيل له: إن ابن مسعود كان يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال: أخطأ في هذا وتلا الآية وفي بعض الروايات أنه قال: رحم الله تعالى أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن» ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.
وفي الدر المنثور عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لا طلاق قبل نكاح، والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليق وشرطه الملك أو الإضافة إليه فإذا قال: إن نكحت امرأة فهي طالق أو إن نكحتك فأنت طالق وكل امرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في المعينة
227
باسم ونسب كما إذا قال: فلانة بنت فلان التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال: هذه المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال: فلانة بنت فلان أو هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر.
وقرىء «تماسوهن» بضم التاء وألف بعد الميم، وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة «تعتدونها» بتخفيف الدال ونقلها عن ابن كثير بن خالويه وأبو الفضل الرازي في اللوامح عنه وعن أهل مكة، وقال ابن عطية: روى ابن أبي بزة عن ابن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال من العدوان كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن، والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة اهـ، وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره، وخرج ذلك على أن تَعْتَدُّونَها من الاعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: ٣١] والمراد تعتدون فيها كقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير، وقال أبو حيان: إن الاعتداء يتعدى بعلى فالمراد تعتدون عليهن فيها، ونظيره في حذف على قوله:
تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
فإنه أراد لقضي عليّ، وجوز أن يكون ذلك على إبدال أحد الدالين بالتاء، وقيل عليه: إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفا، وقرأ الحسن بإسكان العين كغيره وتشديد الدال جمعا بين الساكنين فَمَتِّعُوهُنَّ أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم، وهذا على ما في البدائع أدنى ما تكسى به المرأة وتتستر عند الخروج.
ويفهم من كلام فخر الإسلام والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل بلدة فيما تكسى به المرأة عند الخروج، والمفتى به الأشبه بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط، وتجب لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها الخمسة. وفي البدائع لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول، فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن في النكاح وروي هذا عن ابن عباس، وأما المفروض لها فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير.
وأما المتعة فهي على ما في المبسوط والمحيط وغيرهما من المعتبرات مستحبة، وعلى ما في بعض نسخ القدوري ومشى عليه صاحب الدرر غير مستحبة أيضا والأرجح أنها مستحبة، وفي قول الشافعي القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض، وجوز أن تبقى الآية على ظاهرها ويكون المراد ذكر حكم المطلقة قبل المس سواء فرض لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقا فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ويكون الأمر للوجوب أيضا أو يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب والندب.
وادعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة بآية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
228
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
[البقرة: ٢٣٧] قال: فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها، وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع.
وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض
، وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا، وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب، وأما دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها، والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وقيل: فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن وَسَرِّحُوهُنَّ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكم إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج سَراحاً جَمِيلًا مشتملا على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن، وقال الجبائي: هو الطلاق السني، وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن كما قال مجاهد، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجله كما يفهم من معنى آتَيْتَ ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلّى الله عليه وسلم فإن في التعجيل براءة الذمة
229
وطيب النفس ولذا كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقال الإمام: من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلّى الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اهـ وفيه بحث لا يخفى، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر.
واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية، وقال بعضهم: إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر. وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزأ منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر، ولا يقال: إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء. واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلّى الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء، وقد يقال: إنه يستشكل بسرية له صلّى الله عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء أمرها وما جرى ليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده، ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلّى الله عليه وسلم.
ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلّى الله عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنّة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية لأنها أهديت له صلّى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلّى الله عليه وسلم في قوله سبحانه:
230
وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فهن أفضل من غيرهن، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان، قال أبو حيان: يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان، ولو قلت: خرجنا معا اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن، وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا. وقولا آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما
أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانىء فاختة بنت أبي طالب قالت: «خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله سبحانه: هاجَرْنَ مَعَكَ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء»
وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، لا يقال: إنه
أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال: أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر: لا نسلم أنه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل. وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلّى الله عليه وسلم كان أولا ثم نسخ، وعن قتادة أن معنى هاجَرْنَ مَعَكَ أسلمن معك، قيل: وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلّى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد بن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره
أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال: إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلّى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: إن أحببت أن أعتقتك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت فقالت: يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت
. وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها، وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال: وهذا الحديث أثبت عندنا: وروي عنها أنها قالت: لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي عزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلّى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه فقلت: إني اختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب علي الحجاب، ولم يذكر ابن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحكي لحوقها بأهلها عن الزهري وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. وذكر ابن كمال في
231
تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية. والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية
وقد قال له صلّى الله عليه وسلم: اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية: خذ غيرها
وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها،
وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير: قالت؟ وما هو يا رسول الله؟ قال:
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: قد فعلت، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلّى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم
، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلّى الله عليه وسلم حين الملك من حيث إنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب، وقد سمعت الكلام فيهما آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلّى الله عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال.
واللاتي نكحهن ودخل بهن صلّى الله عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلّى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلّى الله عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلّى الله عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحارث عمها، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحارث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي، وعزة تزوجها أوفى بن أمية، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال إنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضا أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحارث ومن بناته
232
أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضا زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحارث وذكروا أيضا له صلّى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: ٣٧] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه وأم طلحة بنتا كريز بن ربيعة، ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحارث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما، نعم
ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذه،
وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي صلّى الله عليه وسلم.
أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما
، والوقاصي ضعيف.
وقال: في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في المواهب ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها: لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم، وقيل: هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح، وقال بعضهم فيه: خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد الله هذا أخا سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال، وثانيهما الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال،
فقد روي أنه كان أحد المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم فقصد جبريل عليه السّلام إهلاكه فقال صلّى الله عليه وسلم: يا جبريل خالي فقال: دعه عنك
، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضا اسم الخالة.
أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلا قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال: من هذه يا عائشة قالت: هذه إحدى خالاتك فقال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة.
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا نحوه
، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقا فاحفظ ذاك والله تعالى يتولى هداك، وإياك أن تظن الأمر فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزءا فيه سماه الهمة في أفراد العم وجمع العمة.
قال الخفاجي: وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا، ولا يأبى ذلك قوله تعالى في سورة: بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: ٦١] لأنه
233
على الأصل، ثم قال: وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلّى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة اهـ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الاطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء.
وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقا بالفضل على أقرانه: يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: ٧٤] والأب لا يكون إلا واحدا فكان الافراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال.
وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله: إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عما وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل: عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل: خالك وخالاتك ليوافق ما قبل، وأنا أقول: الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ونحن قد تتبعنا كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله:
جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح
وقوله:
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى بصاحبه يوما دما فهو آكله
وقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله:
يا بنت عما لا تلومي واهجعي فليس يخلو عنك يوما مضجعي
إلى ما لا يحصى كثرة، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره، فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب، والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتي به، نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عزّ وجلّ عليه عذابه الشديد، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخئولة في حق الشخص المدلى بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤولته، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد، ويقوي هذا الاعتبار هنالك
234
إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات. ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به إذا أشكلت الأمور، ويمكن أن يقال في الحكمة هاهنا خاصة: إنه لما كان المفرد أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في النظم الجليل.
وأيضا في الانتقال من الإفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخئولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى أَحْلَلْنا إنشاء لاحلال الناجز ولا الاخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك، ولما فيه من البحث قال بعضهم: إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط. وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر.
وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام «أن وهبت» بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل: أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية، وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية، وجوز أن يكون المصدر بدلا من امْرَأَةً وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إذ وهبت» وإذ ظرف لما مضى وقيل: هي مثلها في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: ٣٩] إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلّى الله عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة، وقال ابن كمال: الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى: يَسْتَنْكِحَها يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال: إرادة طلب النكاح كناية عن القبول.
وقيل: استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا: إذا اجتمع
235
شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال، ومن هنا قال الفقهاء: لو قال: إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية.
واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرّ فإن الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال: فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب، أحدهما أنه إنما يقع بمجموع أمرين، أحدهما حصول كل من الشرطين، والآخر كون الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب، وذكر أن هذا مذهب الجمهور. وثانيها أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا عن غيره بعد. وثالثها أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين. الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بدّ من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط، والثاني مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال.
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم هاهنا فتأمل.
وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحارث الهلالية، وفي المواهب يقال: إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين: وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية، قال في الصفوة: والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وفي الدر المنثور عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها، وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلّى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى توفيت رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: التي وهبت نفسها
236
للنبي صلّى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلّى الله عليه وسلم وقال بعضهم:
يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله: من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير امْرَأَةً فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول.
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلّى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا، وما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة، وإيراده صلّى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلّى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل، وبذلك يعلم أن قول عائشة: ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين:
أغار إذا آنست في الحي أنة حذارا وخوفا أن تكون لحبه
ونصب خالِصَةً على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله، وفاعله في المصادر على ما قال الزمخشري غير حريز كالعافية والكاذبة، وادعى أبو حيان عزتها، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا، وقال الزجاج: هو حال من امْرَأَةً لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة.
وقال أبو البقاء: هو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين.
واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك: إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصافي التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا وسلبا، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلّى الله عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بدّ في الإحلال لهم من مهر المثل.
وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في الفتح: قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال: والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها، وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من
237
المهر وغيره. وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلّى الله عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلّى الله عليه وسلم انتهى، وجوز بعضهم كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، وبعض آخر كونه قيدا لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود، واختاره الزمخشري، وأيا ما كان فقوله تعالى:
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اعتراض بين المتعلق والمتعلق، والأول على جميع الأوجه قوله سبحانه: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالِصَةً وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلا من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلّى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلّى الله عليه وسلم.
وقال ابن عطية: إن لِكَيْلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عزّ وجلّ فلا اعتراض على هذا، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره رَحِيماً أي وافر الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي هذا عن قتادة.
وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال بعضهم: الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي رواية عن الحسن أن ضمير مِنْهُنَّ لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء.
وقال: كان صلّى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبي ما يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال: كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية أرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر «ترجىء» بالهمزة وهو عند الزجاج
238
أجود والمعنى واحد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق، ومن شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكَ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة، وقيل من موصولة معطوفة على مَنْ تَشاءُ الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الأرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلّى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق، والمقصود من الآية بيان أن له صلّى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي المرجأة، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلّى الله عليه وسلم إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الأرجاء والإيواء في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه وَمَنِ ابْتَغَيْتَ إلخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد، وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه: فَلا جُناحَ عَلَيْكَ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن: معنى- ومن ابتغيت- إلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر، وكأنه جعل من للبدل كالتي في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: ٣٨] ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد، وثانيهما أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في الدر المنثور.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم أن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزنّ ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلّى الله عليه وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن.
وقال بعض الأجلة: كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به هاهنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج، وقرأ ابن محيصن «تقر» من أقر وفاعله ضميره صلّى الله عليه وسلم «أعينهنّ» بالنصب على المفعولية.
وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل وكُلُّهُنَّ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يَرْضَيْنَ.
وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ «كلهن» بالنصب تأكيدا لضميره في «آتيتهن» قال ابن جني: وهذه القراءة راجعة
239
إلى معنى قراءة العامة «كلّهنّ» بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصلاح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل انتهى، وقال الطيبي في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب له صلّى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب.
والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلّى الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلّى الله عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب، وحينئذ فأما أن يقول: إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير، وربما يقال على الأول: إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك هاهنا إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون، وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلّى الله عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلّى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السّلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع.
وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفي حَلِيماً مبالغا في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها، هذا وفي البحر اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم
240
يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله أرجأ منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه.
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقيل لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف، وقرأ البصريان بالتاء الفوقية، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما، وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء مِنْ بَعْدُ قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه اخترنه فأنزل الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا أي من بعد اختيارهن الله تعالى ورسوله.
وقال الإمام: هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن.
وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام.
وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال: لما خيرن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم، وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلّى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى، ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال، وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا، وكأن قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلّى الله عليه وسلم بواحدة من الضرائر.
وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمي الله تعالى لك في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية فلا يحل له صلّى الله عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ما شاء، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله سبحانه: خالِصَةً لَكَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة
241
وغيرهم عن زياد قال: قلت لأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام متن أما يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قلت: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة، وعلى هذا القول قال الطيبي: يكون قوله سبحانه: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي القول المذكور يأباه قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل، وقيل وَلا أَنْ تَبَدَّلَ من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل واحد منهما عن امرأته لآخر، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط، وما
روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة: من هذه الحميراء؟ فقال: عائشة فقال عيينة: يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا
فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي الله تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض: وقوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال، وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضي.
وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها، وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية، وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج، وممن أعجبه صلّى الله عليه وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي الله تعالى عنه، وفي قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له صلّى الله عليه وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم الله تعالى وجهه وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها
242
قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى: تُرْجِي إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلّى الله عليه وسلم الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه: تُؤْوِي ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي: وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم: إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد أنه قال: في قوله تعالى:
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنهما، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله تعالى أعلم، وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه.
وقال ابن عطية: إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلّى الله عليه وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به صلّى الله عليه وسلم وهو عند نسائه، والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية
والنهي للتحريم، وقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ بتقدير باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن.
وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا
243
بسبب الإذن، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة.
وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف.
وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: ٣٧] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب، وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغني.
وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى: ما كانَ إلخ، وقوله سبحانه:
إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول البيت فإن كل إذن ليس بدعوة، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ وهو مما لا بأس به، وقوله تعالى:
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج، وقال مكي: إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل: لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين، والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة، والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على جعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من ضمير تَدْخُلُوا لأمكن أن يقال: إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال ابن مالك في التسهيل: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد
244
درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما، والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين من اسمين نظير قوله:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني، وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال: كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك، وقوله: إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى، وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد.
تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول: العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل: ضرب عمرا، وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والأناة في إعراب غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وفيها يقول الصلاح الصفدي:
يا طالب النحو في زمان... أطول ظلا من القناة
وما تحلى منه بعقد... عليك بالحلم والأناة
إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل: لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال: ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى، ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران: ١٩] أي إلا اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء صادق على شيئين، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله: وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح، إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على
245
الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره، وجوز أن يكون غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من المجرور في لَكُمْ ولم يذكره الزمخشري، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يُؤْذَنَ وأن يكون حالا من مفعوله اهـ.
ولعله أبعد نظرا مما في الكشف، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له، ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه» بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك، وقرأ الأعمش «إناءة» بمدة بعد النون وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى الطعام الدعوة إليه فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا، والفاء للتعقيب بلا مهلة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل، والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء، وتقدم لك القول بجواز كون إِلى طَعامٍ قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ والأمر عليه ظاهر.
وقال العلامة ابن كمال: الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول، نعم يكون وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى إِلى طَعامٍ فيندفع وهم اعتبار مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية ومُسْتَأْنِسِينَ مجرور معطوف على ناظِرِينَ ولا زائدة، يجوز أن يكون منصوبا معطوفا على غَيْرَ كقوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٧] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إِنَّ ذلِكُمْ أي اللبث الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور، والأول أقوى ملاءمة للسياق والسباق كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلّى الله عليه وسلم وعلى أهله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى:
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لاذواتهم ليتوارد النفي
246
والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك، ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة، وجوز أن يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل، واعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الكشف فإن قلت:
الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى، قلت: أريد أنه لا بدّ من ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا، وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بدّ مما ذكر.
وقال العلامة ابن كمال: إن قوله تعالى: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق والله لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء والثاني للتعليل، وقال: إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه.
وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع، وفي الكشاف قرىء «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين، هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس.
وعن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن الله عزّ وجلّ لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبي صلّى الله عليه وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة والسلام أي وإذا طلبتم منهن مَتاعاً أي شيئا يتمتح به من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَ
فاطلبوا منهن ذلك مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلم: احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله
247
تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة، وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا: لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإيذائها بذلك.
وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه، ورسوله الله صلّى الله عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزّ وجلّ.
وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام (١) وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فنزلت
، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، ونزل الحجاب على ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة.
وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلِكُمْ الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب، وقيل: هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وقال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
وَما كانَ لَكُمْ أي وما صح وما استقام لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به كاللبث والاستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلّى الله عليه وسلم إذ في الرسالة من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون الإيذاء ما فيها وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى. ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة.
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح، وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة
(١)
وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت تأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسيا في قعب فمر عمر فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت أصبعه أصبع عائشة فقال: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب
اهـ منه.
248
والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلّى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب.
وقيل: لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي توفي عنهن.
وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان، أحدهما طرد الخلاف، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلّى الله عليه وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك، ومن هنا اختلف القائلون بانحصار طلاقه صلّى الله عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم: تحل له عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل، وقال آخرون، لا تحل له أبدا، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلّى الله عليه وسلم بعد وطئها.
وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة.
وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ونكاح أزواجه من بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد كانَ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه عزّ وجلّ عَظِيماً أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى.
ولذلك بالغ عزّ وجلّ في الوعيد حيث قال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ.
وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ، وفي تعميم شَيْءٍ في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلّى الله عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد، وسبب نزول الآية على ما قيل: إنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلّى الله عليه وسلم لنتزوجن نساءه، وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة
249
عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله تعالى وحج ماشيا من كلمته.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أن طلحة بن عبيد الله قال: لو قبض النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجت عائشة فنزلت وَما كانَ لَكُمْ الآية.
قال ابن عطية: كون القائل طلحة رضي الله تعالى عنه لا يصح وهو الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه خبر ابن عباس مما يدل على الندم العظيم، وفي بعض الروايات أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلّى الله عليه وسلم يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت، ولعمري إن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من المبشرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورأيت لبعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب اشتباه الاسم فلا إشكال.
250
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ استئناف لبيان من لا يجب عليهن الاحتجاب عنه،
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو نحن يا رسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت
، والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن إلخ، وروي ذلك عن قتادة، وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه عن عكرمة قال: بلغ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عائشة رضي الله تعالى عنها احتجبت من الحسن رضي الله تعالى عنه فقال: إن رؤيته لها لحل، ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة لما أنهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات، وقال الشعبي لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها لأبنائهما وليسوا من المحارم، وقد أخرج نحو ذلك ابن جرير وابن المنذر عن علي كرّم الله تعالى وجهه، وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لابنه، وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن أمهات محارم، ولا أرى صحة الرواية عن علي كرّم الله تعالى وجهه وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات على ما روي عن ابن عباس وابن زيد ومجاهد، والإضافة إليهن باعتبار أنهن على دينهن فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات، وفي البحر دخل في نسائهن الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات لهن والقائمات بخدمتهن.
وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهره من العبيد والإماء، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي، وقال الخفاجي: مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر استثنى المكاتب قال أبو حيان: إنه صلّى الله عليه وسلم أمر بضرب الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن عنه، وفي البحر في الكلام حذف والتقدير اقتصرن على هذا واتقين الله تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره، وفي نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها، هذا واختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي عياض، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.
ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي الله تعالى عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها انتهى، وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر فقال: ليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن فقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص اهـ، وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن، وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد
251
الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه، وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث إنها جملة فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا، وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر، وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟ وعبر بالنبي دون اسمه صلّى الله عليه وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم السّلام إشعارا بما اختص به صلّى الله عليه وسلم من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر، وأكد ذلك الإشعار بأل التي للغلبة إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلم المعروف الحقيق بهذا الوصف، وقال بعض الأجلة: إن ذاك للإشعار بعلة الحكم، ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبد السلام فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه الصلاة والسلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق لا يتسارع إلى الاعتراض عليه، وإضافة الملائكة للاستغراق.
وقيل: مَلائِكَتَهُ ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلّى الله عليه وسلم بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم، ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلّى الله عليه وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين، وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.
واختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم السلام على نبيه صلّى الله عليه وسلم على أقوال فقيل: هي منه عزّ وجلّ ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان، وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين الشهود، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به، وهي من الملائكة الدعاء له عليه الصلاة والسلام على ما رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وقيل: هي منه تعالى رحمته عزّ وجلّ، ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم ونقل عن أبي العالية أيضا، وعن الضحّاك وجرى عليه المبرد وابن الأعرابي والإمام الماوردي وقال: إن ذلك أظهر الوجوه.
واعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: ٤٣] والجواب هو الجواب، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم سألوا كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد.
وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك الخصوص، وهي من الملائكة كما سمعت أولا، ويلزم على هذا وذلك استعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية، والقائلون بأحد القولين الذين لا يجوزون الاستعمال المذكور اختلفوا في التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم: في الآية حذف والأصل إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ، وقال آخر: تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد، وقال صدر الشريعة ويجوز أن يكون المعنى واحدا حقيقيا وهو الدعاء والمعنى والله تعالى أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالاستغفار، وفيه دغدغة لا تخفى، وقال جمع من المحققين:
يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من المعاني فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيره
252
صلّى الله عليه وسلم وصلاح أمره وإظهار شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والانعطاف المعنوي.
وقال بعض الأجلة: إن معنى الصلاة يختلف باعتبار حال المصلي والمصلّى له والمصلّى عليه، والأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك وهو الاعتناء بالمصلّى عليه أو إرادة وصول الخير، وقال آخر: الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم السّلام الاستغفار وإلى الآدميين الدعاء.
وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من اعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم السّلام ما يلزم. وأجيب بأنا لا نسلم الاستحالة إلا إذا كان العطف في الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات الأجسام المستحيلة عليه سبحانه، ونحن من وراء المنع فكثير مما في الشاهد شيء وهو في الله تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة.
وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا قليل، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا الكتاب، وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلّى الله عليه وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته، وإذا انسحبت عليه عليه الصلاة والسّلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما يليق به، وجمع الله سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي
قوله عليه الصلاة والسّلام لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله»
لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم السّلام لا يتوهم منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»
وقال بعضهم: لا بأس بذلك مطلقا، وذم الخطيب لأنه وقف على يعصهما وسكت سكتة واستدل بخبر لأبي داود، وقيل يقبح إذا كان في جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة والسّلام وفيه بحث. وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو «وملائكته» بالرفع فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على محل إن واسمها، والفراء يشترط في العطف على ذلك خفاء إعراب اسم إن كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: ٦٩] وكما في قول الشاعر:
ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وهل خفاء الإعراب شامل للاسم المقصور والمضاف للياء أو خاص بالمبني فيه خلاف، وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة يُصَلُّونَ خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن الله يصلي وملائكته يصلون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك. وظاهر سوق الآية أنه لإيجاب اقتدائنا به تعالى فيناسب اتحاد المعنى مع اتحاد اللفظ، وقراءة ابن مسعود صلوا عليه كما صلّى عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير صلوا عليه بقولوا: اللهم صلّ على النبي أو نحوه.
ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة والسّلام من الله عزّ وجلّ لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه عليه الصلاة والسّلام.
وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير للفظ صلوا، وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر.
أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
253
وابن ماجه وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أما السّلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال: «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»

وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله هذا السّلام عليك قد علمنا فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم».
وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك. قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسّلام كما قد علمتم»
وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد»
إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات المذكورة فيها مقالا، والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي وقيل: إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدى والحامل لهم على السؤال على هذا أن السّلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة والسّلام كالسلام بل علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول: إنهم لما سمعوا الأمر بالصلاة بعد سماع أن الله عزّ وجلّ وملائكته عليهم السّلام يصلون عليه صلّى الله عليه وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزّ وجلّ ومن ملائكته عليه عليه الصلاة والسّلام نوع من تعظيم لائق بشأن ذلك النبي الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب وسيد ذوي الألباب صلّى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يستغرقان الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة والسّلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رؤوف رحيم
فقال صلّى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صلّ محمد»
إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة، وفيه إيماء إلى أنكم عاجزون عن التعظيم اللائق بي فاطلبوه من الله عزّ وجلّ لي.
ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلّى الله عليه وسلم عزّ وجلّ آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار بالعجز عن التعظيم اللائق، وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك. ويقرب في الجملة مما ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما أمرنا الله تعالى بالصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم لم نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد الله تعالى فيه فأحلنا ذلك إلى الله عزّ وجلّ فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم بما يليق به وبما أردته له صلّى الله عليه وسلم انتهى، ولعل ما ذكرناه ألطف منه، ومقتضى ظاهر إرشاده صلّى الله عليه وسلم إياهم إلى طلب الصلاة عليه من الله تعالى شأنه أنه لا يحصل امتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزّ وجلّ ويكفي اللهم صل على محمد لأنه الذي اتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية، وكأن خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة، ولذا قال بعض من أوجبها في الصلاة وستعلمه إن شاء الله تعالى: إنه كما يكفي اللهم صلّ على محمد، ولا يتعين اللفظ الوارد
254
خلافا لبعضهم يكفي صلّى الله على محمد على الأصح بخلاف الصلاة على رسول الله فإنه لا يجزي اتفاقا لأنه ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى فليس في معنى الوارد. وفي تحفة ابن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما يظهر، وقال النيسابوري: لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة والسّلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو الله تعالى، وتسمية العبد مصليا عليه مجاز عن سؤاله الصلاة من الله تعالى عليه صلّى الله عليه وسلم فتأمله.
وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر. وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها بأنه مما أمرنا به من تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم لم توجد من الله عزّ وجلّ بعد وإلا لما طلبنا حصولها له عليه صلاة الله تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى أفهامهم منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب الذي أمرنا به انتهى، ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال: إن ذلك لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي صلّى الله عليه وسلم كذا وفعل صلّى الله عليه وسلم كذا فأحبوا أن لا يكثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع احتمال تشوش ذهن السامع وبطء فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر.
والظاهر أنه لا يحصل الامتثال بأللهم عظم محمدا التعظيم اللائق ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصلّ وصلّى فإنا لم نسمع أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه صلّى الله عليه وسلم وذلك في غاية الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي وقولوا والسّلام عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة، وفي معنى السّلام عليك ثلاثة أوجه، أحدها السلامة من النقائص والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السّلام مصدرا بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السّلام من الثناء عدي بعلى لا لاعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى عليك السّلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه، ثانيها السّلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتولّ له وكفيل به ويكون السّلام هنا اسم الله تعالى، ومعناه على ما اختاره ابن فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا، وقيل: إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن اسم الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك.
وقيل: الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ، وثالثها الانقياد عليك على أن السّلام من المسالمة وعدم المخالفة، والمراد الدعاء بأن يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة والسّلام ولشريعته وتعديته بعلى قيل: لما فيه من الإقبال فإن من انقاد لشخص وأذعن له فقد أقبل عليه، والأرجح عندي هو الوجه الأول، وقيل: معنى سَلِّمُوا تَسْلِيماً انقادوا لأوامره صلّى الله عليه وسلم انقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون، والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم واستشكل ذلك فيما إذا قال الله تعالى السّلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عزّ وجلّ لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة والسّلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات، وإن كان من ذاته عزّ وجلّ لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير ذاته ضرورة، وهذا منشأ قول بعضهم: إن في السّلام منه تعالى إشكالا له شأن فينبغي الاعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك سره.
255
وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق بين الطلب والإرادة، والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال سبحانه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: ٥٣] وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات: ٤٠] والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسام الطلب وأنواعه، وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الاعتباري ومثله يكفي في هذا المقام، ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على النبي على ما قيل، وقيل: معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له، وقيل: اللهم سلمه من النقائص والآفات.
وقال بعض المعاصرين: إن السلام عليك ونحوه من الله عزّ وجلّ لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ العقود واختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر، وقد يكون السلام منه عزّ وجلّ على أنبيائه عليهم السّلام نحو قوله سبحانه: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: ٧٩]. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: ١٠٩] سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات: ١٢٠] تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم بحيث يدعى لهم ويثنى عليهم، ونصب تَسْلِيماً على أنه مصدر مؤكد، وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه.
وإلى هذا يؤول قول ابن القيم التأكيد فيهما (١) وإن اختلف جهته فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه صلّى الله عليه وسلم ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف على الأمر موافقة لله تعالى وملائكته في ذلك، وبهذا استغنى عن تأكيد «يصلي» بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا، وأيضا هي مقدمة عليه لفظا والتقديم يفيد الاهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره، وقيل: إن في الكلام الاحتباك والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى الله تعالى وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين التحية والانقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا، ولم يضف لله سبحانه والملائكة لئلا يتوهم إنه في الله تعالى والملائكة بمعنى الانقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة، وقيل الصلاة من الله سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى الملائكة استلزام لوجود السلام بهذا المعنى، وأما الصلاة منا فهي وأن استلزمت التحية أيضا إلا أنا مخاطبون بالانقياد وهي لا تستلزمه فاحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا، ثم قيل: وهذا أولى مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣، ٢٤] ولا يرد هذان على هذا اهـ، وفيه بحث.
(١) مبتدأ وخبر اهـ منه.
256
وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن السلام عليه عليه الصلاة والسلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلم والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد، وربما يقال على بعد في ذلك: إنه يمكن أن يكون سلام الله تعالى وملائكته عليه عليه الصلاة والسلام معلوما للمؤمنين قبل نزول الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن يسلموا عليه صلّى الله عليه وسلم كان أيضا معلوما لهم ككيفية السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا عند نزول الآية: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة الله تعالى وملائكته عليه صلّى الله عليه وسلم في الآية مجردة عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الاعتناء بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحلا، والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه، ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي المفسر:
لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة، وتفصيل الكلام في أمرها بعد إلغاء القول بندبها أن العلماء اختلفوا فيها فقيل: واجبة مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما، وقيل: واجبة في التشهد مطلقا، وقيل: واجبة في مطلق الصلاة، وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الافتتاح بها.
وقيل: يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكي ذلك عن القاضي أبي بكر بن بكير، وقيل: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلّى الله عليه وسلم مرارا، وقيل: تجب في كل دعاء، وقيل: تجب كلما ذكر عليه الصلاة والسلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي، وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والشيخ أبو حامد الإسفرايني. وجمع من المالكية منهم الطرطوشي وابن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو عند الأكثر من علامات الوجوب. واعترض هذا القول كثيرون بأنه مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقارئ المار بذكره والمتلفظ بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، وبأن الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به، وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال: يا رسول الله صلى الله عليك، وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة ديدنا.
ويمكن التقصي عن جميع ذلك، أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأني به، وأما الثاني فممنوع بل يمكن التفرغ لعبادات أخر، وأما الثالث فللقائلين بالوجوب التزامه وليس فيه حرج، وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في حقه تعالى أيضا، وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من الصحابة أنهم لما قالوا: يا رسول الله قالوا: صلى الله عليك، وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان سنده ولم يبينوه، ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن ذلك فرض عين على كل
257
فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية، واختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره صلّى الله عليه وسلم في المجلس الواحد، وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح وقال صاحب المجتبى: يتكرر وفي تكرر ذكر الله تعالى لا يتكرر، وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق ما أمكن. والقول بأنها أيضا حق الله تعالى لأمره بها سبحانه ناشئ من عدم فهم المراد بحقه تعالى، وقيل: إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا هو مذهب الشافعي الذي صح عنه، ونقل الأسنوي أن له قولا آخر إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار، فمن الصحابة ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال: يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه، وأبو مسعود البدري وابن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فإن نسيت من ذلك شيئا فاسجد سجدتين بعد السلام، ومن التابعين الشعبي فقد صح عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال: وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثني عليه ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته.
وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته أو قال: لا تجزىء صلاته، والإمام أبو جعفر محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي، وصوبه الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ ابن حجر: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب، ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية الوجوب هي الأخيرة فإنه قال: كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم واجبة وإسحاق بن راهويه فقد قال في آخر الروايتين عنه: إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئه وهو قول عند المالكية اختاره ابن العربي منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر صلّى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب، وأما دليله رضي الله تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم. وقد استدل له أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل في الانتصار له والرد على من شنع عليه كابن جرير وابن المنذر والخطابي والطحاوي وغيرهم، وأنا أرى التشنيع على مثل هذا الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا، والكلام في السلام كالكلام في الصلاة.
وقد صرح ابن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه عنه. وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم ما علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه لأنه لا يختار صلّى الله عليه وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ومن هنا قال النووي في الروضة: لو حلف ليصلين على النبي صلّى الله عليه وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية، ووجهه السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك، ونقل الرافعي عن المروزي أنه يبر بأللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما سها عنه الغافلون، وقال القاضي حسين: طريق البر اللهم صلّ على محمد كما هو أهله ومستحقه، واختار البارزي أن الأفضل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك، وقال الكمال بن الهمام: كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة، واختار ابن حجر الهيثمي غير ذلك، ونقل ابن عرفة عن ابن عبد السلام أنه لا بدّ في السلام عليه صلّى الله عليه وسلم أن يزيد تسليما كأن يقول: اللهم
258
صل على محمد وسلم تسليما أو صلى الله تعالى عليه وسلم تسليما، وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل، ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم أن كيفية الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم لا يوقف فيها مع المنصوص وأن من رزقه الله تعالى بيانا فأبان عن المعاني بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال شرفه صلّى الله عليه وسلم وعظيم حرمته فله ذلك، واحتج له بما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا صليتم على النبي صلّى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا: فعلمنا؟ قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وفي قوله سبحانه:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً رمز خفي فيما أرى إلى مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام حيث أتى به كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فإني أظن أنه نفيس، واستدل النووي رحمة الله تعالى بالآية على كراهة أفراد الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على ذلك بعضهم، واعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل الصلاة في التشهد. ورد بأن الإفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه لأنه لم يقع منه عليه الصلاة والسلام قصدا كيف والآية ناصة عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلّى الله عليه وسلم لذلك وهو كما ترى، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي المخصوص.
ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة ميرك وهذا الخلاف في حق نبينا صلّى الله عليه وسلم وأما غيره من الأنبياء عليهم السّلام فلا خلاف في عدم كراهة الافراد لأحد من العلماء ومن ادعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا انتهى.
وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الافراد لفظا وأما الافراد خطا كما وقع في الأم فلا كراهة فيه، وعندي أن الاستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم عشيا مثلا فقد امتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب: ٤٢] إلى غير ذلك من الأوامر المتعاطفة، نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن العدول عنه ما ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم لا يكاد يعرض إلا للأذهان السقيمة كما لا يخفى، وفي دخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال بعضهم بالدخول، وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم في صلاته وذكر أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله صلّى الله عليه وسلم حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها «إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج ابنته زينب قبل إسلامه «وإن زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم سألتني» الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره واحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا اهـ.
وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى هنا
259
ظاهرة في اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه صلّى الله عليه وسلم، ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في اختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الاختصاص، وأنت تعلم أن للأصوليين في دخوله صلّى الله عليه وسلم في نحو هذه الصيغة أقوالا، عدمه مطلقا وهو شاذ، ودخوله مطلقا وهو الأصح على ما قال جمع، والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل يا أيها الذين آمنوا، وأنا أعول على الدخول إلا إذا أوجدت قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أولا، وهاهنا السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر، وعبر بالذين آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل: إشارة إلى أن الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم من أجلّ الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة له فلم يؤت بلفظ يشمله، ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها حيث أجمع عليها، ومن ثم استثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم الفاسدة ونحوها.
ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع اقتضاء السياق له، وفي نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على امتثال الأمر ما لا يخفى، والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها.
وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: كان في ليلة الإسراء، وأنت تعلم أن الآية مدنية، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو بكر: ما أنزل الله عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وحكمة تغاير أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل، والصلاة منا على الأنبياء ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة،
فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي «إذا صليتم علي المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسول من المرسلين»
وفي لفظ «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين»
وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل.
وأخرج عبد الرزاق والقاضي إسماعيل وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله تعالى بعثهم كما بعثني»
وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا يخفى. وأما ما حكي عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلّى الله عليه وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم، والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن الله تعالى سماهم رسلا. وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السّلام فقد اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم واستدل له بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وبما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
وقوله عليه الصلاة والسلام وقد رفع يديه: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة»
وصحح ابن حبان خبر «إن امرأة قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل»
وفي خبر مسلم «أن الملائكة تقول لروح المؤمن:
صلى الله عليك وعلى جسدك»

وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلّى الله عليه وسلم. وقيل لا تجوز مطلقا. وقيل لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص كالآل أو ألحق به كالأصحاب. واختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع. وفي تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى على غيرهم إثم وكره وهو الصحيح.
وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك استقلالا. ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى وقال اللقاني: قال القاضي عياض الذي
260
ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: ١٠٠] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: ١٠] وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى. ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم فلا تغفل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز بسند حسن أو صحيح أنه كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.
وصح عن ابن عباس أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا على النبي صلّى الله عليه وسلم.
وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلّى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار، وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة. واستدل المانعون بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال لغيرهم استقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزّ وجلّ وإن كان عليه الصلاة والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا لله تعالى فلا يشارك فيه غيره. وأجابوا عما مر بأنه صدر من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. ومن ثم قال أبو اليمن ابن عساكر له صلّى الله عليه وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره بما هو له لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل على الخصوصية. وحمل البيهقي القول بالمنع على ما إذا جعل ذلك تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا، واختار بعض الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلى الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرّم الله تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة والسلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة والسلام على علي وعمر رضي الله تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال: وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وأنت تعلم اتفاقها بغير ما ذكر. والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعلم في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء عليهم السّلام فلا يقال علي عليه السّلام بل يقال رضي الله تعالى عنه. وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال السّلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه انتهى. وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر.
وفي الدر المنضود السّلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر أو تحية لحي غائب، وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف الصلاة، وهو فرق بالمدعي فلا يقبل، ولا شاهد في السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا استقلالا.
وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه السّلام الذي يعم الحي والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو كتابه في الغائب، وأما السّلام الذي يقصد به الدعاء منا بالتسليم من الله تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو حضور فهذا هو الذي اختص به صلّى الله عليه وسلم عن الأمة فلا يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقى السبكي في شفاء الغرام، وحينئذ فقد
261
أشبه قولنا عليه السّلام قولنا عليه الصلاة من حيث أن المراد عليه السّلام من الله تعالى، ففيه إشعار بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه الله تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السّلام هو الذي ادعى الحليمي كون الصلاة بمعناه انتهى.
واختلف في جواز الدعاء له صلّى الله عليه وسلم بالرحمة فذهب ابن عبد البرّ إلى منع ذلك، ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة، منها وهو أصحها حديث التشهد السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ومنها قول الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا وتقريره صلّى الله عليه وسلم لذلك،
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك رحمة من عندك اللهم أرجو رحمتك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث»
وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه صلّى الله عليه وسلم ورحم وكرم، نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه لفظ الصلاة أو السّلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور، قال القرطبي: وهو الصحيح، وجزم بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه الرحمة فقال: لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: ٦٣] والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم.
نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة والسّلام له الجواز ولو بدون انضمام صلاة أو سلام.
قال ابن حجر الهيتمي: وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم على العموم الذي اقتضته الآية ثم قال:
وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أو خلاف الأولى، وذكر زين الدين في بحره أنهم اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه الله تعالى، وأنا أقول: الذي ينبغي أن لا يقال ذلك ابتداء.
وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار: وينبغي أن لا يجوز غفر الله تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص، وهو الذي أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد يكون بزيادة درجات كما يشير إليه استغفاره عليه الصلاة والسّلام في اليوم والليلة مائة مرة. وكذا الدعاء بها للميت الصغير في صلاة الجنازة، ومثل ذلك فيما يظهر عفا الله تعالى عنه وإن وقع في القرآن فإن الله تعالى له أن يخاطب عبده بما شاء، وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم السّلام كحكم الترحم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن اختلف في نبوته كلقمان يقل فيه رضي الله تعالى عنه أو صلّى الله تعالى على الأنبياء وعليه وسلم، هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام بذكرها جدا فلتطلب من مظانها والله تعالى ولي التوفيق وبيده سبحانه أزمة التحقيق.
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى:
هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه، وقيل تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه، وقيل في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم هو قولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة والسّلام، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي، والحق هو العموم فيهما، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسّلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عزّ وجلّ لتعظيمه صلّى الله عليه وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع الله تعالى.
262
وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء، وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسّلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم وأبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها، وذلك في الآخرة ظاهر، وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً يصيبهم في الآخرة خاصة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل، وتقييده بقوله تعالى: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جنايه يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوما لأبي: يا أبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ والله إني لأعاقبهم وأضربهم فقال: إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى: الَّذِينَ مبتدأ وقوله سبحانه فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الإثم، وقيل احتمل بهتانا أي كذبا فظيعا إذا كان الإيذاء بالقول وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بينا خبره، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا كرّم الله تعالى وجهه ويسمعونه ما لا خير فيه.
وأخرج ابن جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم في أخذ صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها، وعن الضحّاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزيّ واللباس، والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يلقى الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بماذا أصابنا هذا فيقال: بأذاكم المسلمين، وأخرج غير واحد عن قتادة قال:
إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية».
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزّ وجلّ:
قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ روي عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء بالزيّ والتستر
263
ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن، والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير: المقنعة، وقيل: الملحفة، وقيل: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تتستر به من كساء أو غيره، وأنشدوا:
تجلببت من سواد الليل جلبابا وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.
ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك.
وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه.
واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وقال السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وقال ابن عباس وقتادة: تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه، وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان.
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج ابن أبي شيبة عن قلابة قال: كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول: القناع للحرائر لكيلا يؤذين، وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأى عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال: ألقي القناع لا تتشبهي بالحرائر، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رأها مقنعة: يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ وقال أبو حيان: نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة
264
مطلقا وإلا فيحرم، وقال القهستاني: منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل، ويُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: ٣١] وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلّى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسّلام ذلِكَ أي ما ذكر من الإدناء والتستر أَدْنى أي أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذاءهم. ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء.
وقال أبو حيان: أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء، وأيا ما كان فقد قال السبكي في طبقاته: إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر، وقيل: يغفر ما سلف منهن من التفريط. وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى رَحِيماً كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله، وقيل: رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقيل: رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية، وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها، والتغاير بينه المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال: سألت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال: هم أصحاب الفواحش، وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضا، وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا، وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم.
وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد:
هو الملك القرم وابن الهمام
265
فكأنه قيل: لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه، وقال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلّى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فِيها أي في المدينة إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم.
وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد، ونصب قَلِيلًا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء، ولا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل لا يُجاوِرُونَكَ والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى: أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي حصروا وظفر بهم، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه أُخِذُوا أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي قتلوا أبلغ قتل. وقرىء «قتلوا» بالتخفيف فيكون تَقْتِيلًا مصدرا على غير الصدر. واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة، ثانيها الجواز مطلقا، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط.
وجوز على تقدير كون قَلِيلًا حالا أن يكون مَلْعُونِينَ بدلا منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال: والصحيح أن مَلْعُونِينَ صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون قَلِيلًا مستثنى من الواو في لا يُجاوِرُونَكَ والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم اهـ، وهو كما ترى.
وقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك.
وَلَنْ تَجِدَ أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا لِسُنَّةِ اللَّهِ لعادته عزّ وجلّ المستمرة تَبْدِيلًا لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم، وفي تفسير الفخر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به.
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها: كان النفاق على ثلاثة أوجه: نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين يكابرون النساء لَنُغْرِيَنَّكَ
266
بِهِمْ
يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى: مَلْعُونِينَ ثم فصلت الآية أَيْنَما ثُقِفُوا يعملون هذا العمل مكابرة النساء أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ثم قال السدي: هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنّة الله في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنّة الله تبديلا فمن كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر انتهى، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم.
وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل. وحكي ذلك عن الجبائي، وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: ٧٣، التحريم: ٩] وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي، وقيل: إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة، وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه.
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيامها ووقوعها، كان المشركون يسألونه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود امتحانا لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أو لا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع سبحانه عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له صلّى الله عليه وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب، وما استفهام في موضع الرفع بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها، والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا.
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي لعلها توجد وتتحقق في وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير، وتَكُونُ تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان قَرِيباً الخبر واعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا قريبا، وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث إن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت.
وقال أبو حيان: يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قَرِيباً فذكر، ولا يخفى بعده، وقيل إن قريبا لكونه فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وقد تقدم ما في ذلك، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة وَأَعَدَّ هيأ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا متوليا لأمرهم يحفظهم وَلا نَصِيراً ناصرا يخلصهم منها يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظرف لعدم الوجدان، وقيل لخالدين، وقيل لنصير، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف
267
وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب، ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي. «تقلب» بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على الأصل، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب «وجوههم» على المفعولية.
وقرأ عيسى الكوفة «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير السعير اتساعا ونصب الوجوه يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل: فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل: يقولون متحسرين على ما فاتهم يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير وُجُوهُهُمْ أو من نفسها.
وجوز أن يكون هو الناصب ليوم وَقالُوا عطف على يَقُولُونَ والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه.
رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا وَكُبَراءَنا أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران، والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.
وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب التشفي، وقيل: باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله. وألفي قولها كذبا ومينا.
والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم، وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات، وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة، ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور، وقيل: اسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على شذوذ فعلة في جميع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي جعلونا ضالين عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل، والألف للإطلاق كما في وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على إضلالهم لنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي شديدا عظيما فإن الكبر يستعار للعظمة مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف: ٥] ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا، وقرأ الأكثر «كثيرا» بالثاء المثلثة أي كثير العدد، وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل نزلت فيما كانت من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلّى الله عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي من قولهم أو الذي قالوه وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السّلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل مجازا عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السّلام.
268
وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرىء من قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بدّ من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السّلام عيب في بدنه.
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن موسى عليه السّلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده أما برص وأما أدرة وأما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السّلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السّلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا
. وقيل: إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السّلام من قتل هارون،
أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: صعد موسى وهارون عليهما السّلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السّلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم
وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت قلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء قلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه
، وقيل: ما نسبوه إليه عليه السّلام من الزنا وحاشاه، روي أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السّلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول، وقيل: ما نسبوا إليه من السحر والجنون، وقيل: ما حكي عنهم في القرآن من قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤] لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: ٦١] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥] إلى غيرك ذلك ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزّ وجلّ، وفي معناه قول قطرب: كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد: كان مقبولا، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل: وجاهته عليه السّلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا»
من العبودة «لله» بلام الجر فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة القراءة بالشواذ كلام.
قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان «عبدا لله» على قراءة ابن مسعود
269
ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة: وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلّى الله عليه وسلم وَقُولُوا في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سد يسد بكسر السين سدادا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته، والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسّلام، وعن مقاتل.
وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة والسّلام وزيد وزينب، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله، وقيل: هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل: ما فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بالقبول والإثابة عليها على ما روي عن ابن عباس ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعلم وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.
قال في الكشاف وهذه الآية يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السّلام لأن وصفه بوجاهته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي هذا الجنس نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: ٦] وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق: ٦] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها
270
مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم السّلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه، وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى:
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير وبقوله سبحانه وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض لأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا، وقد يقال: مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزّ وجلّ بها وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل: الصلاة
فقد روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال: إنه دخل عليّ وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها
، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة
فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة»
وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وقيل: هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى،
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة»
271
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات إلخ.
وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عزّ وجلّ خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج قال: بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال: إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال، ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل، وقيل: لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا.
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السّلام، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السّلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر
وقيل: بدونه.
قال ابن الجوزي: لما خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السّلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال:
للسماوات احملي هذه فأبت وقالت: إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه: للأرض احمليها فقالت: لا طاقة بها لي وقال تعالى للجبال: احمليها فقالت: لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السّلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها
، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السّلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السّلام.
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السّلام عرضها عليه فقال: يا رب وما هي؟ قال سبحانه: هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال: فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر
، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السّلام وأنه بعد أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل
272
المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عزّ وجلّ بنص إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران: ٣٣] بمزيد الظلم والجهل، وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم الملائكة عليهم السّلام قول بارد، وحمله على معنى كان ظلوما لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل لا يزيل البعد، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلي ونفسه ذلك كما قيل:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
إلا على القول بإرادة الجنس، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أخرجتك الودائع
فيكون الإباء امتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون: إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض:
هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال: عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيالة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل: حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عزّ وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا.
وقوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا» تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده، وقوله سبحانه: «ليعذب» تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة: إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها
273
وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلوما جهولا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا اختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عزّ وجلّ قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا في موضع التعليل للحمل.
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى:
لِيُعَذِّبَ إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل، وقيل: لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه، وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا» وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم.
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم.
ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهيى يتعلقان به عليه الصلاة والسّلام، وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عزّ وجلّ حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما.
وقيل: إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو
274
محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول «وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم» فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل: الولد سر أبيه، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: ٩٥، يونس: ٣١، الروم: ١٩] فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه عليه الصلاة والسّلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا إن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال: هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً لأنه عليه الصلاة والسّلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عزّ وجلّ كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ أي رجال كاملون، وقول بعضهم: أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الأناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسّلام تكون سببا للأجر العظيم يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عزّ وجلّ وعن رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسّلام.
275
ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية فلنذكر بعضا من ذلك فنقول: قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص:
إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى.
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفي، وقال آخر: هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل.
276
Icon