تفسير سورة سورة الزمر من كتاب تفسير السمعاني
المعروف بـتفسير السمعاني
.
لمؤلفه
أبو المظفر السمعاني
.
المتوفي سنة 489 هـ
سورة الزمر ويقال : سورة الغرف، وهي مكية إلا قوله تعالى :( الله نزل أحسن الحديث ) وإلا قوله تعالى :( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) وعن وهب بن منبه أنه قال : من أحب أن يعرف قضاء الله تعالى بين خلقه، فليقرأ سورة الغرف.
ﰡ
قَوْله تَعَالَى: ﴿تَنْزِيل الْكتاب﴾ الْآيَة. مَعْنَاهُ: هَذَا تَنْزِيل الْكتاب، وَيُقَال: تَنْزِيل الْكتاب، مُبْتَدأ، وَخَبره " من الله "، وَقَوله: ﴿الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْعَزِيز فِي ملكه، الْحَكِيم فِي أمره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِمَا حق إنزاله لما حكمت بذلك فِي كتب الْمُتَقَدِّمين، وَيُقَال: بِالْحَقِّ أَي: بحقي عَلَيْك وعَلى جَمِيع خلقي.
وَقَوله ﴿فاعبد الله مخلصا لَهُ الدّين﴾ الْإِخْلَاص هُوَ التَّوْحِيد، وَيُقَال: الْإِخْلَاص هُوَ تصفية النِّيَّة فِي طَاعَة الله تَعَالَى.
وَقَوله:
﴿أَلا لله الدّين الْخَالِص﴾ أَي: الدّين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شرك هُوَ لله أَي: وَاقع بِرِضَاهُ، وَأما الدّين الَّذِي فِيهِ شرك فَلَيْسَ لله، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا؛ لِأَنَّهُ قد يُوجد دين وَلَا تَوْحِيد وَلَا إخلاص مِنْهُ، وَيُقَال:
﴿أَلا لله الدّين الْخَلَاص﴾ يَعْنِي: هُوَ يَنْبَغِي أَن يوحد، وَلَا يُشْرك بِهِ سواهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لغيره، وَعَن قَتَادَة قَالَ: أَلا لله الدّين الْخَالِص: هُوَ قَول الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء﴾ أَي: من دون الله أَوْلِيَاء
﴿ [مَا] نعبدهم﴾ قَرَأَ ابْن عَبَّاس [وَابْن] مَسْعُود وَمُجاهد قَالُوا:
﴿مَا نعبدهم﴾، وَفِي
457
﴿عبدهم إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى إِن الله يحكم بَينهم فِي مَا هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِن إِن الله لَا يهدي من هُوَ كَاذِب كفار (٣) لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لأصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ الله الْوَاحِد القهار (٤) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى أَلا هُوَ﴾ حرف أبي بن كَعْب:
﴿مَا نعبدكم﴾، وَالْمعْنَى على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة أَي: قَالُوا مَا نعبدهم، أَو يَقُولُونَ: مَا نعبدهم أَي: مَا نعْبد الْمَلَائِكَة
﴿إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى﴾ أَي: الْقرْبَة.
وَمعنى الْآيَة: انهم يشفعون لنا عِنْد الله.
وَقَوله:
﴿إِن الله يحكم بَينهم فِيمَا هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن الله لَا يهدي من هُوَ كَاذِب كفار﴾ أَي: كَاذِب على الله، كفار بنعم الله تَعَالَى.
458
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى﴾ أَي لاختار ﴿مِمَّا يخلق﴾ ثمَّ نزه نَفسه، فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ يَعْنِي: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفعل، وَلَا يَلِيق بِطَهَارَتِهِ.
وَقَوله: ﴿هُوَ الله الْوَاحِد القهار﴾ أَي: الْوَاحِد فِي ذَاته، القهار لِعِبَادِهِ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿خَلقكُم من نفس وَاحِدَة﴾ أَي: آدم، وَقَوله:
﴿وَخلق مِنْهَا زَوجهَا﴾ أَي: حَوَّاء، وَقد بَينا أَنه خلقهَا من ضلع من أضلاعه.
وَقَوله:
﴿وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج﴾ أَي: وَخلق لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى:
﴿يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم﴾ أَي: خلقنَا، وَمثل قَوْله:
﴿وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد﴾ أَي:
458
﴿الْعَزِيز الْغفار (٥) خَلقكُم من نفس وَاحِدَة ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق فِي ظلمات ثَلَاث ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تصرفون (٦) إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا﴾ خلقنَا، وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى خلق الْأَنْعَام فِي سَمَاء الدُّنْيَا [ثمَّ]. أنزلهَا إِلَى الأَرْض، وَهِي ثَمَانِيَة أَزوَاج: جمل وناقة، وثور وبقرة، وكبش ونعجة، وتيس وعنز.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الله تَعَالَى أنزل على آدم المعلاة والمطرقة والكلبتين، وَكَانَ على جبل، فَرَأى قَضِيبًا ثَابتا من حَدِيد؛ فَأَخذه وَضرب بِهِ الْأَشْجَار، وَكَانَت يابسة، فتكسرت يَعْنِي: الْأَشْجَار ثمَّ أورى نَارا من الْحَدِيد وَالْحجر، وأوقد بالأشجار على الْحَدِيد حَتَّى ذاب، ثمَّ ضرب مِنْهُ مدية، ثمَّ بعد ذَلِك اتخذ مِنْهُ تنورا، وَهُوَ التَّنور الخابزة، وَذَلِكَ أول مَا اتَّخذهُ آدم.
وَقَوله:
﴿يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق﴾ أَي: نطفا ثمَّ علقا ثمَّ مضغا ثمَّ عظاما.
وَقَوله:
﴿فِي ظلمات ثَلَاث﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: ظلمَة الْبَطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة. وَعَن بَعضهم: ظلمَة الصلب، وظلمة الرَّحِم، وظلمة الْبَطن، وَهَذَا لِأَن الْوَلَد يخلق حِين يخلق فِي الرَّحِم، ثمَّ يرْتَفع إِلَى الْبَطن.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تصرفون﴾ أَي: عَن الْحق،
459
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ الْكفْر.
وَالْآخر: أَنه لَا يرضى لجَمِيع عباده الْكفْر، وعَلى هَذَا القَوْل فرق بَين الْإِرَادَة وَبَين الرِّضَا، فَقَالَ: إِن الْمعاصِي بِإِرَادَة الله تَعَالَى وَلَيْسَت بِرِضَاهُ ومحبته، وَقد نقل هَذَا
459
﴿يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَإِن تشكروا يرضه لكم وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (٧) وَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ دَعَا ربه منيبا إِلَيْهِ ثمَّ إِذا خوله نعْمَة مِنْهُ نسي مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل وَجعل لله﴾ عَن قَتَادَة، وكلا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمل.
وَالثَّانِي هُوَ الأولى وَالْأَقْرَب بِمذهب السّلف.
وَقَوله:
﴿وَإِن تشكروا يرضه لكم﴾ أَي: يخْتَار الشُّكْر لكم، وَقَوله:
﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ أَي: لَا يحمل على أحد ذَنْب أذنبه غَيره، وَقَوله:
﴿ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾.
460
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ﴾ أَي: بلَاء وَشدَّة
﴿دَعَا ربه منيبا إِلَيْهِ﴾ رَاجعا إِلَيْهِ، وَقَوله:
﴿ثمَّ إِذا خوله﴾ أَي: أعطَاهُ، قَالَ الشَّاعِر:
(أعْطى فَلم يبخل وَلم يبخل | كوم الذرى من خول المخول) |
وَقَوله:
﴿نعْمَة مِنْهُ﴾ أَي: عَطِيَّة مِنْهُ، وَقَوله:
﴿نسي مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل﴾ أَي: نسي دعاءه الَّذِي كَانَ يَدْعُو من قبل، وَيُقَال: نسي الله الَّذِي كَانَ يَدعُوهُ من قبل.
وَقَوله:
﴿وَجعل لله أندادا﴾ أَي: وصف الله بِالْأَنْدَادِ والأشباه، وَقَوله:
﴿ليضل عَن سَبيله﴾ أَي: عَن سَبِيل الْحق.
وَقَوله:
﴿قل تمتّع بكفرك قَلِيلا إِنَّك من أَصْحَاب النَّار﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة بن عبد الله المَخْزُومِي، وَقيل: فِي كل كَافِر.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَمن هُوَ قَانِت﴾ وَقُرِئَ: " أَمن هُوَ قَانِت " أَي: مُطِيع، وَقيل: قَائِم، وَقَوله:
﴿آنَاء اللَّيْل﴾ أَي: سَاعَات اللَّيْل، وَقَوله:
﴿سَاجِدا وَقَائِمًا﴾ أَي: سَاجِدا على وَجهه، قَائِما على رجلَيْهِ كمن لَيْسَ حَاله هَذَا، وَهُوَ مَا ذكرنَا من قبل، وَقيل: أَهَذا أفضل أَو هَذَا؟ وَأما الْقِرَاءَة بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهِ قَولَانِ:
460
﴿أندادا ليضل عَن سَبيله قل تمتّع بكفرك قَلِيلا إِنَّك من أَصْحَاب النَّار (٨) أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب (٩) قل يَا عباد الَّذين آمنُوا اتَّقوا﴾أَحدهمَا أَمن هُوَ قَانِت كمن لَيْسَ بقانت، وَالْقَوْل الآخر: مَعْنَاهُ: يَا من هُوَ قَانِت عل النداء، قَالَ الشَّاعِر:
(أبني لبينى لَسْتُم بيد | إِلَّا يدا لَيست لَهَا عضد) |
أَي: يَا بني لبيني، وَاخْتلف القَوْل فِي أَن الْآيَة فِيمَن نزلت، فَعَن ابْن عمر. أَنَّهَا نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان، وَعَن الضَّحَّاك: أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَحكى الْكَلْبِيّ: أَنَّهَا نزلت فِي ابْن مَسْعُود وعمار وسلمان، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَبُو ذَر وصهيب مَعَهم.
وَقَوله:
﴿يحذر الْآخِرَة﴾ أَي: يخَاف الْآخِرَة (ويرجو رَحْمَة ربه) أَي: يطْمع فِي رَحْمَة ربه.
وَقَوله:
﴿قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ﴾ بِمَعْنى: لَا يستوون، وَيُقَال: الَّذين يعلمُونَ هم الْمُؤْمِنُونَ، وَالَّذين لَا يعلمُونَ هم الْكفَّار، وَيُقَال: الَّذين يعلمُونَ الْعلمَاء، وَالَّذين لَا يعلمُونَ الْجُهَّال.
وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقرأنه قَالَ: الَّذين يعلمُونَ محبونا وشيعتنا، وَالَّذين لَا يعلمُونَ أعداؤنا، وَقَوله:
﴿إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب﴾ أَي: أولو الْعُقُول.
461
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل يَا عباد الَّذين آمنُوا اتَّقوا ربكُم﴾ أَي: احْذَرُوا ربكُم وخافوه.
وَقَوله:
﴿للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ أَحْسنُوا أَي: آمنُوا، وَيُقَال: أَحْسنُوا بِطَاعَة الله، وَقَوله:
﴿فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ أَي: الصِّحَّة والعافية، وَقيل: الرزق الْوَاسِع، وَيُقَال: الْعَيْش فِي طَاعَة الله.
461
﴿ربكُم للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَأَرْض الله وَاسِعَة إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب (١٠) قل إِنِّي أمرت أَن أعبد الله مخلصا لَهُ الدّين (١١) وَأمرت لِأَن أكون أول الْمُسلمين (١٢) قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (١٣) قل﴾
وَقَوله:
﴿وَأَرْض الله وَاسِعَة﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: من أَمر بِالْمَعَاصِي فليهرب، وَفِي الْآيَة أَمر بِالْهِجْرَةِ عَن الْبَلَد الَّذِي تظهر فِيهِ الْمعاصِي إِلَى بلد لَا تظهر فِيهِ الْمعاصِي، وَيُقَال فِيهِ: أَرض الله وَاسِعَة أَي: الْمَدِينَة، فَأمر بالمهاجرة من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَيُقَال: نزلت الْآيَة فِي جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، حَيْثُ هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْحَبَشَة.
وَقَوله:
﴿إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ﴾ أَي: الغربة وَالْخُرُوج من الوطن فِرَارًا بدينهم
﴿أجرهم بِغَيْر حِسَاب﴾ أَي: بِغَيْر تَقْدِير، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " لما أنزل الله تَعَالَى:
﴿من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا﴾ رب زد أمتِي، فَأنْزل الله تَعَالَى:
﴿مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل﴾ ثمَّ قَالَ: زد أمتِي؛ فَأنْزل الله تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب﴾.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كل مُطِيع يُكَال كَيْلا ويوزن وزنا إِلَّا الصَّابِرُونَ؛ فَإِنَّهُم يحثى لَهُم حثيا.
462
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي أمرت أَن أعبد الله مخلصا لَهُ الدّين﴾ أَي: مخلصا لَهُ التَّوْحِيد، وإخلاص التَّوْحِيد: أَن لَا تشرك بِهِ غَيره.
وَقَوله:
﴿وَأمرت لِأَن أكون أول الْمُسلمين﴾ أَي: أول الْمُسلمين من قُرَيْش، قَوْله
462
﴿الله أعبد مخلصا لَهُ ديني (١٤) فاعبدوا مَا شِئْتُم من دونه قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين (١٥) لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل ذَلِك يخوف الله بِهِ عباده يَا عباد فاتقون (١٦) وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوها وأنابوا إِلَى الله لَهُم الْبُشْرَى فبشر عباد (١٧) الَّذين﴾
463
تَعَالَى ﴿قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم﴾ أَي: عصيت رَبِّي بالشرك. وَقيل بالشرك وَغَيره، وَيجوز أَن يكون الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد بِهِ الْأمة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني﴾ أَي: توحيدي،
وَقَوله: ﴿فاعبدوا مَا شِئْتُم من دونه﴾ هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد.
وَقَوله: ﴿قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى خسران الأهلين؟
قُلْنَا: الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه مَا من أحد إِلَّا وباسمه أهل فِي الْجنَّة، فَإِذا كفر وَأدْخل النَّار خسر أَهله على معنى أَنه يُعْطي الَّذِي كَانَ باسمه غَيره.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن خسران النَّفس بإدخاله النَّار، وخسران الْأَهْل بِأَن يفرق بَينه وَبَين أَهله.
وَقَوله: ﴿أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين﴾ أَي: الْبَين،
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار﴾ والظلل: جمع الظلة، والظلة: الْجَبَل، وَالْمرَاد من قَوْله: " ظلل " كَثْرَة الْعَذَاب، وَقَوله: ﴿وَمن تَحْتهم ظلل﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿ذَلِك يخوف الله بِهِ عباده﴾ أَي: يُحَذرهُمْ.
وَقَوله: ﴿يَا عباد فاتقون﴾ أَي: فاحذروا عَذَابي.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوها﴾ أَي: الشَّيْطَان، وَيُقَال: الطاغوت اسْم أعجمي، وَقيل: اسْم عَرَبِيّ مُشْتَقّ من الطغيان.
وَقَوله:
﴿وأنابوا إِلَى الله﴾ أَي: رجعُوا إِلَى الله.
463
﴿يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب (١٨) أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب أفأنت تنقذ من فِي النَّار (١٩) لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وعد الله لَا يخلف الله﴾
وَقَوله:
﴿لَهُم الْبُشْرَى﴾ أَي: الْبشَارَة بِالْجنَّةِ، وَقَوله:
﴿فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه﴾.
فِي الْآيَة أقاويل:
أَحدهَا: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: الْقُرْآن، فيتبعون أحْسنه، وَالْأَحْسَن هُوَ الْعَفو، والانتصار على الظَّالِم مَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَالْعَفو مَذْكُور، وَالْعَفو أحسن الْأَمريْنِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: يَسْتَمِعُون الْقُرْآن وَغير الْقُرْآن.
وَقَوله:
﴿فيتبعون أحْسنه﴾ أَي: الْقُرْآن، وَقَالَ بَعضهم: يَسْتَمِعُون الرُّخص والعزائم، فيتبعون أحْسنهَا أَي: العزائم.
وَالْقَوْل الرَّابِع: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: الْكَلَام، فيتبعون أحْسنه أَي: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَوله:
﴿أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله﴾ أَي: أرشدهم الله إِلَى الْحق.
وَقَوله:
﴿وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب﴾ أَي: أولُوا الْعُقُول.
464
( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ).
في الآية أقاويل :
أحدها : يستمعون القول أي : القرآن، فيتبعون أحسنه، والأحسن هو العفو، والانتصار على الظالم مذكور في القرآن، والعفو مذكور، والعفو أحسن الأمرين.
والقول الثاني : يستمعون القول أي : يستمعون القرآن وغير القرآن.
وقوله :( فيتبعون أحسنه ) أي : القرآن، وقال بعضهم : يستمعون الرخص والعزائم، فيتبعون أحسنها أي : العزائم.
والقول الرابع : يستمعون القول أي : الكلام، فيتبعون أحسنه أي : قول لا إله إلا الله، وقوله :( أولئك الذين هداهم الله ) أي : أرشدهم الله إلى الحق.
وقوله :( وأولئك هم أولوا الألباب ) أي : أولوا العقول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب﴾ كلمة الْعَذَاب: قَوْله تَعَالَى: ﴿لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ﴾ وَيُقَال: كلمة الْعَذَاب: قَوْله " هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي ".
وَقَوله: ﴿أفأنت تنقذ من فِي النَّار﴾ أَي: لَا تنفذه،
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وعد الله لَا يخلف الله الميعاد﴾ أَي: ميعاده.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فسلكه ينابيع فِي الأَرْض﴾ أَي:
464
﴿الميعاد (٢٠) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فسلكه ينابيع فِي الأَرْض ثمَّ يخرج بِهِ زرعا مُخْتَلفا ألوانه ثمَّ يهيج فتراه مصفرا ثمَّ يَجعله حطاما إِن فِي ذَلِك لذكرى لأولي الْأَلْبَاب (٢١) أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه فويل للقاسية قُلُوبهم﴾ أجراه أَنهَارًا فِي الأَرْض.
وَقَوله:
﴿ثمَّ يخرج بِهِ زرعا مُخْتَلفا ألوانه﴾ أَي: أصفر وأحمر وأخضر.
وَقَوله:
﴿ثمَّ يهيج﴾ أَي: ييبس، يُقَال: هاج النَّبَات إِذا يبس.
وَقَوله:
﴿فتراه مصفرا﴾ أَي: ترى النَّبَات مصفرا، وَقَوله:
﴿ثمَّ يجعلهه حطاما﴾ أَي: فتاتا، وَقَوله:
﴿إِن فِي ذَلِك لذكرى لأولي الْأَلْبَاب﴾ ظَاهر الْمَعْنى، والذكرى هِيَ: التَّذْكِرَة.
465
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه﴾ أَي: وسع الله صَدره لِلْإِسْلَامِ.
وَقَوله:
﴿فَهُوَ على نور من ربه﴾ فِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل النُّور فِي قلب الْمُؤمن انْشَرَحَ وأنفسح، قيل يَا رَسُول الله، وَهل لذَلِك من عَلامَة؟ قَالَ: نعم؛ التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والإنابة إِلَى دَار الخلود، والاستعداد للْمَوْت قبل حُلُول الْمَوْت ".
وَقَوله:
﴿فَهُوَ على نور من ربه﴾ يحْتَمل أَن يكون النُّور قبل أَن يسلم، وَيحْتَمل أَن يكون بعد الْإِسْلَام، ثَمَرَة إِسْلَامه، وَأما شرح الصَّدْر: هُوَ التوطئة لِلْإِسْلَامِ والتمهيد لَهُ.
وَقَوله:
﴿فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله﴾ أَي: الَّذين لَا يذكرُونَ الله، وكل من ترك ذكر الله فقد قسا قلبه، قَوْله:
﴿أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين﴾ أَي: بَين.
465
﴿من ذكر الله أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين (٢٢) الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله ذَلِك هدى﴾
466
قَوْله تَعَالَى:
﴿الله نزل أحسن الحَدِيث﴾ أَي: الْقُرْآن، وَسَماهُ حَدِيثا؛ لِأَنَّهُ حَدِيث إنزاله، وَقيل: " الله نزل أحسن الحَدِيث " أَي: أحسن الْكَلَام.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " فضل كَلَام الله على كَلَام خلقه كفضله على خلقه ".
وَقَوله:
﴿كتابا متشابها﴾ أَي: يشبه بعضه بَعْضًا فِي الصدْق وَصِحَّة الْمَعْنى، وَيُقَال: متشابها أَي: الْآيَة بعد الْآيَة، وَالسورَة بعد السُّورَة.
وَقَوله:
﴿مثاني﴾ أَي: ثنى فِيهِ ذكر الْوَعْد والوعيد، وَذكر الْأَمر وَالنَّهْي، وَيُقَال: مثاني أَي: الْآيَة بعد الْآيَة، وَالسورَة بعد السُّورَة.
وَقَوله:
﴿تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم﴾ أَي: قُلُوب الَّذين يَخْشونَ رَبهم؛ فكنى بالجلود عَن الْقُلُوب، وَيُقَال: معنى الْجُلُود هِيَ نفس الْجُلُود، وَفِي بعض الْآثَار: " من أَخَذته قشعريرة من خوف الله تَعَالَى تحاتت عَنهُ خطاياه كَمَا يتحايت ورق الشّجر ".
وَقَوله:
﴿ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله﴾ أَي: بِذكر الله، وَحَقِيقَة
466
﴿الله يهدي بِهِ من يَشَاء وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (٢٣) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون (٢٤) كذب الَّذين من قبلهم فَأَتَاهُم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فأذاقهم الله الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (٢٦) وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل لَعَلَّهُم يتذكرون (٢٧) قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (٢٨) ضرب الله﴾ الْمَعْنى: أَن قُلُوبهم تقشعر عِنْد الْخَوْف، وتلين عِنْد الرَّجَاء.
وَقَوله:
﴿ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء﴾ أَي: من يَشَاء من عباده، وَقَوله:
﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد﴾ أَي: من مرشد.
467
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه سحب فِي النَّار سحبا على وَجهه.
وَالْقَوْل الآخر: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب؛ لِأَن يَد الْكَافِر تكون مغلولة، فيتقي بِوَجْهِهِ الْعَذَاب، كَمَا يَتَّقِي الرجل بِيَدِهِ.
وَقَوله: ﴿وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿كذب الَّذين من قبلهم﴾ أَي: بالقيامة، وَقَوله: ﴿فَأَتَاهُم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأذاقهم الله الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: الْعَذَاب الَّذِي يخزيهم، وَقَوله: ﴿ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: عَذَاب الْآخِرَة وَهُوَ عَذَاب النَّار أكبر من كل عَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل﴾ أَي: شبه وَمِثَال، وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يتذكرون﴾ أَي: يتذكرون مَا فِيهِ من الْأَمْثَال.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج﴾ أَي: أنزلنَا قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج أَي: غير ذِي لبس، قَالَ مُجَاهِد: وَيُقَال: غير مُخْتَلف؛ لِأَن بعضه يصدق الْبَعْض، وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: غير ذِي عوج أَي: غير مَخْلُوق، وَحكى سُفْيَان بن
467
﴿مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٢٩) إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون (٣٠) ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم﴾ عُيَيْنَة عَن سبعين من التَّابِعين: أَن الْقُرْآن لَيْسَ بخالق وَلَا مَخْلُوق، وَهَذَا اللَّفْظ أَيْضا مَنْقُول عَن عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين، وَقَوله:
﴿لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾ أَي: يَتَّقُونَ الله.
468
قَوْله تَعَالَى: ﴿ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون﴾ أَي: متعاسرون، وَقَوله: ﴿ورجلا سلما لرجل﴾ أَي: سلما خَالِصا لرجل، وَهَذَا ضرب مثل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر؛ فَإِن الْكَافِر يعبد أصناما كَثِيرَة، وَالْمُؤمن لَا يعبد إِلَّا الله وَحده.
وَقَوله: ﴿هَل يستويان مثلا﴾ أَي: شبها، وَقَوله: ﴿الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ مَعْنَاهُ: الْحَمد لي على مَا بَينته من الْحق، وَقَوله: ﴿بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ أَي: الْكفَّار.
قَوْله تَعَالَى:
﴿إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون﴾ أَي: سَتَمُوتُ، وَالْمَيِّت وَالْمَيِّت وَاحِد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا؛ فَقَالَ: الْمَيِّت: هُوَ الَّذِي مَاتَ حَقِيقَة، وَالْمَيِّت هُوَ الَّذِي سيموت؛ قَالَ الشَّاعِر:
(لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت | إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) |
وَفَائِدَة الْآيَة أَن الله تَعَالَى بَين أَن مُحَمَّدًا يَمُوت لما علم من اخْتِلَاف أَصْحَابه فِي مَوته.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ لرَسُول الله حِين نزلت هَذِه الْآيَة:
﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون﴾ :" يَا رَسُول الله، أيكرر علينا مَا كَانَ بَيْننَا من خَواص الذُّنُوب؟ قَالَ رَسُول الله: نعم،
468
﴿تختصمون (٣١) فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون (٣٣) ﴾ فَقَالَ الزبير: إِن الْأَمر إِذا لشديد ".
وَعَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة:
﴿ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون﴾ لم ندر مَا هَذِه الْخُصُومَة حَتَّى وَقع بَين أَصْحَاب رَسُول الله مَا وَقع؛ فَعرفنَا أَنَّهَا هِيَ.
469
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله﴾ قَالَ مُجَاهِد وقتاة: كذبهمْ على الله: زعم الْيَهُود أَن عُزَيْرًا ابْن الله، وَزعم النَّصَارَى أَن الْمَسِيح ابْن الله.
وَقَالَ بَعضهم: كذبهمْ على الله: تَكْذِيب أَنْبيَاء الله، وَقَالَ السّديّ: هُوَ الشّرك، وَزعم قُرَيْش أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله.
وَقَوله: ﴿وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ أَي: بِالْقُرْآنِ إِذْ جَاءَهُ، وَيُقَال: بالرسول إِذْ جَاءَهُ. وَقَوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ﴾ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ﴾ أظهر الْأَقَاوِيل: أَن معنى قَوْله:
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ﴾ مُحَمَّد
﴿وَصدق بِهِ﴾ هم الْمُؤْمِنُونَ. وَفِي قِرَاءَة عبد الله ابْن مَسْعُود: " وَالَّذين جَاءُوا بِالصّدقِ وَصَدقُوا بِهِ " وَمعنى قَوْله:
﴿وَالَّذين جَاءُوا بِالصّدقِ﴾ هم الْمُؤْمِنُونَ
﴿وَصَدقُوا بِهِ﴾ أَي: صدقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَجَاءُوا بِالصّدقِ فِي الْآخِرَة، وَأول مُجَاهِد الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة على هَذَا.
قَالَ أهل اللُّغَة: وَقد يذكر الَّذين وَالَّذِي بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
469
﴿لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (٣٤) ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي﴾(وَإِن الَّذِي جاثت بفلح دِمَاؤُهُمْ | هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد) |
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَصدق بِهِ هُوَ مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد وَصدق بِهِ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَه عَوْف بن عبد الله وَغَيره.
وَالْقَوْل الرَّابِع: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد، وَصدق بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - حَكَاهُ لَيْث عَن مُجَاهِد وَقَوله:
﴿أُولَئِكَ هم المتقون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
470
قَوْله تَعَالَى:
﴿لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم﴾ أَي: مَا يختارون.
هَذِه الْآيَة تدل على النَّائِم قد خرجت الرّوح من جسده، وَنحن نعلم قطعا أَن الرّوح فِي جسده، أَلا ترى أَنه يتنفس وَيرى الرُّؤْيَا، وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا مَعَ قيام الرّوح؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن النَّفس على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: النَّفس المميزة الَّتِي تكون لَهَا إِدْرَاك الْأَشْيَاء.
وَالْآخر: هِيَ النَّفس الَّتِي بهَا الْحَيَاة، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: " كَمَا تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون ".
وَيُقَال: للْإنْسَان نفس وروح، فَعِنْدَ النّوم تخرج النَّفس وَتبقى الرّوح، وَهَذَا القَوْل قريب من القَوْل الأول.
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: تخرج الرّوح عِنْد النّوم وَيبقى شعاعه فِي الْجَسَد؛ فبذلك ترى الرُّؤْيَا، وَإِذا نبه من النّوم عَادَتْ الرّوح إِلَى جسده بأسرع من اللحظة، وَالله أعلم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول عِنْد النّوم: " اللَّهُمَّ إِنَّك تتوفاها؛ فَإِن
470
﴿عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ (٣٥) أَلَيْسَ الله بكاف عَبده ويخوفونك بالذين من دونه وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (٣٦) وَمن يهد الله فَمَا لَهُ من مضل أَلَيْسَ الله بعزيز ذِي انتقام (٣٧) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل أَفَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله إِن أرادني الله بضر هَل هن كاشفات ضره أَو أرادني برحمة هَل هن ممسكات رَحمته قل حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون (٣٨) قل يَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ (٣٩) من يَأْتِيهِ عذاي يجْزِيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم (٤٠) إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب للنَّاس بِالْحَقِّ فَمن اهْتَدَى فلنفسه وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (٤١) الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (٤٢) أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل أَو لَو﴾ أَمْسَكتهَا فَاغْفِر لَهَا وارحمها، وَإِن أرسلتها فاحفظها بِمَا تحفظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحين ".
471
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون﴾ أَي: لعبرا لقوم يتفكرون فِي آيَاتنَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء﴾ أَي: أصناما تشفع لَهُم، وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار والتوبيخ.
وَقَوله: ﴿قل أَو لَو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ﴾ أَي: طلبُوا الشَّفَاعَة مِمَّن لَا يملك شَيْئا وَلَا يعقل،
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا﴾ مَعْنَاهُ: أَنه لَا يشفع أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ، فالشفاعة من عِنْده؛ لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَقَوله:
﴿لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ للنَّبِي: لله خلق السَّمَوَات وَمَا فِيهِنَّ،
471
﴿كَانُوا لَا يمكلكون شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ (٤٣) قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (٤٤) وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون (٤٥) قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) ﴾ وَخلق الأَرْض وَمَا فِيهِنَّ، وَخلق مَا بَينهم مِمَّا يعلم وَمِمَّا لَا يعلم.
472
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت﴾ أَي: نفرت وانقبضت، وَقَوله: ﴿قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة﴾ أَي: الْكفَّار.
وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله كَانَ إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله نفروا جَمِيعًا (عَن) قَوْله.
وَقَوله: ﴿وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون﴾ أَي: يفرحون، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت حِين ألْقى الشَّيْطَان على لِسَان النَّبِي من ذكر الْأَصْنَام بالشفاعة، وَهُوَ قَوْله: تِلْكَ الغرانيق العلى على مَا ذكرنَا، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِذا هم يستبشرون﴾ لأَنهم لما سمعُوا ذَلِك اسْتَبْشَرُوا وفرحوا، وَقَالُوا للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، مَا كُنَّا نُرِيد مِنْك إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَلا تعيب آلِهَتنَا، وَلَا تذكرها إِلَّا بِالْخَيرِ، وَإِلَّا فَنحْن نعلم أَن الله خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض
﴿عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة﴾ أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة.
وَقَوله:
﴿أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَي: من أَمر دينهم، وَعَن بَعضهم قَالَ: صَحِبت الرّبيع بن خثيم كَذَا كَذَا سنة، فَلم أسمع مِنْهُ كلَاما إِلَّا ذكر الله تَعَالَى، فَلَمَّا قتل الْحُسَيْن - رَضِي الله عَنهُ - قُلْنَا: الْآن يتَكَلَّم بِشَيْء؛ فَأخْبر بذلك؛ فَلَمَّا سمع قَرَأَ هَذِه الْآيَة:
﴿قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة﴾ الْآيَة.
472
﴿وَلَو أَن للَّذين ظلمُوا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ من سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون (٤٧) وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (٤٨) فَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ دَعَانَا ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم بل هِيَ فتْنَة وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٤٩) قد قَالَهَا الَّذين﴾
473
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن للَّذين ظلمُوا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، وَقد ثَبت عَن النَّبِي: " أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة للْكَافِرِ: أَرَأَيْت لَو كَانَ لَك ملْء الأَرْض ذَهَبا، أَكنت مفتديا بهَا؟ فَيَقُول: نعم. فَيَقُول الله تَعَالَى: سَأَلتك أَهْون من ذَلِك وَأَنت فِي صلب أَبِيك أَن لَا تشرك بِي شَيْئا؛ فأبيت إِلَّا أَن تشرك بِي ".
وَقَوله: ﴿من سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة﴾ أَي: من الْعَذَاب الْقَبِيح والشديد يَوْم الْقِيَامَة، وَقَوله: ﴿وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون﴾ أَي: ظهر لَهُم من الله مَا لم يأملوه، وَلم يكن فِي حسابهم وظنهم، وروى أَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر جزع عِنْد الْمَوْت؛ فَسئلَ عَن ذَلِك؛ فَقَالَ: أخْشَى أَن يَبْدُو لي من الله مَا لم أحتسب.
وَقَوله: ﴿وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا﴾ أَي: ظهر لَهُم مساوئ أَعْمَالهم. وَقَوله: ﴿وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ أَي: نزل بهم جَزَاء مَا كَانُوا بِهِ يسخرون.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ﴾ أَي: شدَّة وبلية، وَقَوله:
﴿دَعَانَا﴾ أَي: طلب منا كشفه، وَقَوله:
﴿ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا﴾ أَي: أعطيناه نعْمَة منا.
وَقَوله:
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم﴾ أَي: أَعْطيته على علم أَي: لعلمي وجهدي، وَيُقَال: أَعْطيته على علم الله مِنْهُ - جلّ جَلَاله - أَنِّي أهل لما أعطانيه، وَيُقَال: على شرف مني وكرامة لي.
وَقَوله:
﴿بل هِيَ فتْنَة﴾ أَي: اختبار وبلية، وَقَوله:
﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ أَن مَا نعطي من النِّعْمَة اختبار وبلية.
473
﴿من قبلهم فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كسبوا وَالَّذين ظلمُوا من هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سيئات مَا كسبوا وَمَا هم بمعجزين (٥١) أَو لم يعلمُوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (٥٢) قل يَا عبَادي﴾
474
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد قَالَهَا الَّذين من قبلهم﴾ أَي: قَالَ هَذِه الْكَلِمَة الَّذين من قبلهم، وَفِي التَّفْسِير: أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ قَارون، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي.
وَقَوله: ﴿فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا يَكْسِبُونَ﴾ أَي: لم يغن عَنْهُم مَا اكتسبوا شَيْئا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كسبوا وَالَّذين ظلمُوا من هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سيئات مَا كسبوا﴾ أَي: يُصِيب الْكفَّار من هَذِه الْأمة من الْبلَاء والعقوبة مَا أصَاب الْأُمَم الْمَاضِيَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا هم بمعجزين﴾ أَي: بفائتين وَلَا سابقين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يعلمُوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر﴾ يبسط أَي: يُوسع، وَيقدر أَي: يقلل.
وَفِي بعض الْأَخْبَار ((أَن الله يُخَيّر لعَبْدِهِ، فَإِن كَانَ الْخيرَة لَهُ فِي التَّوَسُّع وسع عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ الْخيرَة لَهُ فِي التضيق ضيق عَلَيْهِ)) (١).
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ﴾ أَي: يصدقون.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم﴾ يُقَال: نزلت الْآيَة فِي
474
﴿الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ﴾ وَحشِي مولي مطعم بن عدي، وَيُقَال: نزلت فِي قوم من رُؤَسَاء الْكفَّار أَسْلمُوا يَوْم فتح مَكَّة مثل: سُهَيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَغَيرهم.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا يَقُول: من أشرك بِاللَّه أَو زنا أَو قتل نفسا فقد هلك، وَنحن قد فعلنَا هَذَا كُله؛ فَكيف يكون حَالنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وروى أَن وحشيا لما أسلم كَانَ النَّبِي لَا يُطيق أَن يرَاهُ؛ فَظن وَحشِي أَن إِسْلَامه لم يقبل؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وروى ثَوْبَان عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا يسرني بِهَذِهِ الْآيَة الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا "
وَعَن زيد بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة أوسع آيَة فِي الْقُرْآن.
وَعَن عبيد بن عُمَيْر: أَن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ قَالَ: يَا رب، إِنَّك سلطت إِبْلِيس عَليّ وعَلى وَلَدي، وَإِنِّي لَا أُطِيقهُ إِلَّا بك.
فَقَالَ: يَا آدم، إِنَّه لَا يُولد لَك ولد إِلَّا وكلت بِهِ من يحفظه، فَقَالَ: يَا رب، زِدْنِي فَقَالَ: بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح على ولدك لَا يغلق حَتَّى تقوم السَّاعَة.
قَالَ: يَا رب، زِدْنِي، قَالَ: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا والسيئة بِمِثْلِهَا.
قَالَ: يَا رب، زِدْنِي، قَالَ:
﴿قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله﴾ الْآيَة.
475
﴿الغفور الرَّحِيم (٥٣) وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ (٥٤) وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة﴾
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَا تأيسوا من رَحْمَة الله "، وَهُوَ معنى قَوْله:
﴿لَا تقنطوا﴾.
وَقَوله:
﴿إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى، قَالَ أهل التَّفْسِير: يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِن شَاءَ.
وروى انه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ قَالَ رجل: " يَا رَسُول الله، وَمن أشرك؟ فَسكت النَّبِي، ثمَّ قَالَ: وَمن أشرك؟ قَالَ: إِلَّا من أشرك ".
وروى أَن عبد الله بن مَسْعُود مر بقاص يقص، ويشدد على الْقَوْم فَقَالَ: أَيهَا الرجل، لَا تفعل كَذَلِك، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: " قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم " الْآيَة.
وروى شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد. " أَن النَّبِي قَرَأَ: " قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي " ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
476
قَوْله تَعَالَى ﴿وأنيبوا إِلَى ربكُم﴾ مَعْنَاهُ: وَارْجِعُوا إِلَى ربكُم، وَقَوله: ﴿وَأَسْلمُوا لَهُ﴾ أَي: وَأَخْلصُوا لَهُ، وَيُقَال: واستسلموا لَهُ، وَقَوله: ﴿من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ﴾ أَي: لَا تمْنَعُونَ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم﴾ قد بَينا معنى الْأَحْسَن فِيمَا سبق، وَيُقَال:
﴿وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم﴾ أَي: الْحسن الَّذِي أنزل إِلَيْكُم من ربكُم.
476
(وَأَنْتُم لَا تشعرون (٥٥) أَن تَقول نفس يَا حسرتي على مَا فرطت فِي جنب الله وَإِن كنت لمن الساخرين (٥٦) أَو تَقول لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَو تَقول حِين ترى الْعَذَاب لَو أَن لي كرة فَأَكُون من الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت وَكنت من الْكَافرين (٥٩) وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على)
وَقَوله:
﴿من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة
﴿وَأَنْتُم لَا تشعرون﴾ أَي: لَا تعلمُونَ.
477
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَن تَقول﴾ مَعْنَاهُ: وَاتبعُوا طَاعَة الله حذرا وحذارا من أَن تَقول ﴿نفس يَا حسرتا﴾ أَي: يَا ندامتا، وَيُقَال: معنى قَوْله: ﴿يَا حسرتا﴾ أَي: يَا [أيتها] الْحَسْرَة هَذَا وقتك.
وَقَوله: ﴿على مَا فرطت فِي جنب الله﴾ أَي: ضيعت فِي ذَات الله.
وَقَالَ مُجَاهِد: فِي أَمر الله، وَقَالَ الْحسن: فِي طَاعَة الله، وَقيل: فِي ذكر الله، وَقَالَ بَعضهم: على مَا فرطت فِي الْجَانِب الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رضى الله تَعَالَى، وَقيل: " فِي جنب الله " أَي: فِي قرب الله وجواره، حَكَاهُ النقاش وَغَيره.
وَقَوله: ﴿وَإِن كنت لمن الساخرين﴾ أَي: من الْمُسْتَهْزِئِينَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو تَقول لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ﴾ مَعْنَاهُ: على الْوَجْه الَّذِي بَينا من الحذار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو تَقول حِين ترى الْعَذَاب لَو أَن لي كرة﴾ أَي: رَجْعَة.
وَقَوله: ﴿فَأَكُون من الْمُحْسِنِينَ﴾ أَي: الْمُحْسِنِينَ فِي طَاعَة الله.
قَوْله تَعَالَى:
﴿بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت﴾ أَي: تكبرت، وَقَوله:
﴿وَكنت من الْكَافرين﴾ أَي: الجاحدين لنعمي.
وَقَوله:
﴿بلَى﴾ فِي الِابْتِدَاء تَقْدِير تحسراتهم وتأسفهم ونداماتهم على مَا سبق.
477
{الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين (٦٠) وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازتهم لَا يمسهم السوء وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٦١) الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل (٦٢) لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله أُولَئِكَ هم الخاسرون (٦٣)
478
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على وُجُوههم مسودة﴾ وَمعنى كذبُوا على الله أَي: زَعَمُوا أَن الله اتخذ ولدا أَو شَرِيكا، وَيُقَال: هُوَ عَام فِي كل كذب على الله.
وَقَوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين﴾ هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير،
قَوْله تَعَالَى: ﴿وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازاتهم﴾ أَي بالطرق الَّتِي تؤديهم إِلَى الْفَوْز والنجاة.
وَقَوله: ﴿لَا يمسهم السوء وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل﴾ أَي: حَافظ، وَيُقَال مُدبر الْأُمُور على مَشِيئَته.
قَوْله تَعَالَى:
﴿لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: عِنْده خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيُقَال: مَفَاتِيح الخزائن، وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ فِي تَفْسِير المقاليد: " سُبْحَانَ الله، وَالله أكبر، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْحَمْد لله، وَأَسْتَغْفِر الله، وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم ".
478
﴿قل أفغير الله تأمروني أعبد أَيهَا الجاهلون (٦٤) وَلَقَد أُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك ولتكونن من الخاسرين (٦٥) بل الله فاعبد وَكن من الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قدرُوا الله حق قدره وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَوَات﴾فَهَذَا تَفْسِير المقاليد، وأنشدوا فِي الإقليد:
(لم يؤده الديك بِصَوْت يعريك | وَلم تعالج غلقا بإقليد) |
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله أُولَئِكَ هم الخاسرون﴾ أَي: خسروا الثَّوَاب وَحل بهم الْعقَاب.
479
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أفغير الله تأمروني أعبد أَيهَا الجاهلون﴾ روى أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: اسْتَلم بعض آلِهَتنَا وَنحن نؤمن بك، وروى انهم قَالُوا: نعْبد إلهك سنة، وَتعبد آلِهَتنَا سنة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله: ﴿أَيهَا الجاهلون﴾ أَي: الجاهلون بِاللَّه وسلطانه وَقدرته وعظمته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك﴾ يُقَال: هَذَا خطاب للرسول، وَالْمرَاد مِنْهُ غَيره، وَيجوز أَن يكون تأديبا للرسول، وتخويفا لَهُ ليتمسك بِمَا عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ولتكونن من الخاسرين﴾ أَي: الَّذين خسروا جَمِيع مَا يأملون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل الله فاعبد وَكن من الشَّاكِرِينَ﴾ خطاب للرسول.
وَقَوله: ﴿وَكن من الشَّاكِرِينَ﴾ أَي: الشَّاكِرِينَ لنعمي.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا قدرُوا الله حق قدره﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا عظموا الله حق عَظمته، وَيُقَال: مَا وصفوا الله حق صفته.
وَقَوله:
﴿وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة﴾ وَقد ثَبت بِرِوَايَة عبد الله بن مَسْعُود: أَن يَهُودِيّا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يضع الله السَّمَوَات على
479
﴿مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (٦٧) وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي﴾ إِصْبَع، وَالْأَرضين على إِصْبَع، وَالْجِبَال على إِصْبَع، وَجَمِيع الْخَلَائق على إِصْبَع؛ فَضَحِك النَّبِي، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا قدرُوا الله حق قدره﴾ وَفِي رِوَايَة: " فَضَحِك النَّبِي تَعَجبا وَتَصْدِيقًا لَهُ " وَالْخَبَر على الْوَجْه فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَفِي رِوَايَة [ابْن عمر] عَن النَّبِي: " إِن الله يقبض الأَرْض ويطوي السَّمَوَات بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض؟ قَالَ ابْن عمر: وَجعل النَّبِي يَتَحَرَّك على منبره؛ حَتَّى قُلْنَا: يكَاد يسْقط ". وَفِي رِوَايَة: " جعل الْمِنْبَر يَتَحَرَّك هَكَذَا وَهَكَذَا ".
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " أَن النَّبِي قَرَأَ:
﴿وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ﴾ قَالَت عَائِشَة: فَأَيْنَ يكون النَّاس؟ قَالَ: على الصِّرَاط ". وروى أَنه قَالَ: " على جسر جَهَنَّم ".
وَيُقَال: إِن قَبضته وَيَمِينه لَا بِوَصْف، قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من هَذَا فتفسيره قِرَاءَته، حَكَاهُ النقاش وَغَيره. وَقيل: قَبضته قدرته، وَالْأول أولى بِمَا بَينا من قبل.
وَقَوله:
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ نزه نَفسه عَمَّا وَصفه بِهِ الْمُشْركُونَ.
480
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَنفخ فِي الصُّور﴾ روى عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يُشَاهد يَوْم الْقِيَامَة يَعْنِي: بِقَلْبِه فليقرأ آخر سُورَة الزمر.
480
﴿السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ (٦٨) وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا وَوضع الْكتاب وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء وَقضي بَينهم﴾
وَأما الصُّور وَقد بَينا انه قرن ينْفخ فِيهِ، رَوَاهُ عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَيفَ أنعم، والتقم صَاحب [الْقرن]، وحنى جَبهته وأصغى سَمعه ينظر حَتَّى يُؤمر فينفخ ".
وَقَوله:
﴿فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله﴾ فِي قَوْله:
﴿إِلَّا من شَاءَ الله﴾ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنهم الشُّهَدَاء، وَالْآخر: أَنهم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت.
وَفِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ وَغَيره: لَا يبْقى إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بعد مَا ينْفخ فِي الصُّور، ثمَّ إِن الله تَعَالَى يقبض روح مِيكَائِيل، ويقبضه ملك الْمَوْت، ثمَّ روح إسْرَافيل، ثمَّ روح ملك الْمَوْت، ثمَّ يكون آخِرهم موتا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فيسقطون، وَيكون فضل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِم كفضل الْجَبَل على الظراب.
وَقَوله:
﴿ثمَّ ينْفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ﴾ أَي: ينظرُونَ مَاذَا يُؤمر فِي حَقهم، وَقد ثَبت عَن النَّبِي، بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن يَهُودِيّا قَالَ فِي سوق الْمَدِينَة: لَا وَالَّذِي اصْطفى مُوسَى على الْبشر؛ فَرفع رجل من الْأَنْصَار يَده وصك وَجهه، وَقَالَ: كذبت، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى يبْعَث الْخلق فَأَكُون أول من يرفع رَأسه، فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش؛ فَلَا أَدْرِي أبْعث قبلي أَو هُوَ مِمَّن اسْتثْنى الله تَعَالَى؟ ثمَّ قَالَ: من قَالَ أَنا خير من مُوسَى فقد كذب ".
481
قَوْله تَعَالَى:
﴿وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا﴾ أَي: بِنور خَالِقهَا ومالكها، وَعَن الْحسن: بِعدْل رَبهَا، وَيُقَال: يخلق الله نورا؛ فتشرق بِهِ أَرض الْقِيَامَة.
481
﴿بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (٦٩) ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا حَتَّى إِذا جاءوها فتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم﴾
وَقَوله:
﴿وَوضع الْكتاب﴾ المُرَاد من الْكتاب: كتاب الْأَعْمَال. وَعَن عَطاء بن السَّائِب أَنه قَالَ: إِن أول من يُحَاسب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ أَمِين الله على جَمِيع وحيه، وروى أَن أول من يُحَاسب الْأَنْبِيَاء، وَثَبت فِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا يقْضِي الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْخلق هُوَ الدِّمَاء ".
وَقَوله:
﴿وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء﴾ أَي: الَّذين يشْهدُونَ للأنبياء التَّبْلِيغ، وعَلى الْأُمَم بالتكذيب، وَقد بَينا هَذَا من قبل.
وَقَوله:
﴿وَقضى بَينهم بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ، وَقَوله:
﴿وهم لَا يظْلمُونَ﴾ أَي: لَا يُزَاد فِي سيئاتهم، وَلَا ينقص من حسناتهم.
482
قَوْله تَعَالَى: ﴿ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أَي: يصنعون، وَقد روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَأْمر من يُنَادي يَوْم الْقِيَامَة: يَا أهل الْجنَّة، إِن لكم أَن تحيوا فَلَا تَمُوتُوا، وَأَن تصحوا فَلَا تسقموا، وَأَن تشبوا فَلَا تهرموا، وَأَن تنعموا فَلَا تبأسوا؛ ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ ".
قَوْله تَعَالَى:
﴿وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا﴾ أَي: أَفْوَاجًا زمرة بعد زمرة، وَقَوله:
﴿حَتَّى إِذا جاءوها فتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا﴾ أَي: يخوفونكم.
وَقَوله:
﴿قَالُوا بلَى وَلَكِن حقت كلمة الْعَذَاب﴾ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {لأملأن جَهَنَّم
482
﴿يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بلَى وَلَكِن حقت كلمة الْعَذَاب على الْكَافرين (٧١) قيل ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين (٧٢) وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين (٧٣) وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر﴾ من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) وَقَوله:
﴿على الْكَافرين﴾ وَمعنى حقت: وَجَبت.
483
قَوْله تَعَالَى: ﴿قيل ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين﴾ أَي: منزل المتكبرين عَن الْإِيمَان بِاللَّه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا﴾.
وَاعْلَم أَن عِنْد الْكُوفِيّين هَذِه الْوَاو محذوفة فِي الْمَعْنى، وَعند الْبَصرِيين لَيست بمحذوفة، وَالتَّقْدِير على قَول الْبَصرِيين: حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا دخلوها.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ لَهُم خزنتها سَلام عَلَيْكُم طبتم﴾ أَي: نعمتم، وَيُقَال: صححتم للجنة، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: يكون [على] بَاب الْجنَّة عينان، يغْتَسل الْمُؤمن من أَحدهمَا؛ فَيظْهر ظَاهره، وَيشْرب من الْأُخْرَى؛ فَيظْهر بَاطِنه، ثمَّ يدْخلهُ الله الْجنَّة، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿طبتم فادخلوها خَالِدين﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده﴾ أَي: وفى لنا بوعده وأتمه، وَقَوله: ﴿وأورثنا الأَرْض﴾ أَي: أَرض الْجنَّة ﴿نتبوأ مِنْهَا﴾ أَي: ننزل مِنْهَا ﴿حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين﴾ بالطاعات.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش﴾ أَي: محدقين محيطين
483
﴿العاملين (٧٤) وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش يسبحون بِحَمْد رَبهم وَقضي بَينهم بِالْحَقِّ وَقيل الْحَمد لله رب الْعَالمين (٧٥) ﴾ بِهِ، وَقَوله:
﴿يسبحون بِحَمْد رَبهم﴾ أَي: بِأَمْر رَبهم، وَقيل: يسبحون حامدين لرَبهم، وَيُقَال: إِن هَذَا التَّسْبِيح تَسْبِيح تلذذ لَا تعبد.
وَقَوله:
﴿وَقضى بَينهم بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ.
وَقَوله:
﴿وَقيل الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾ يَعْنِي: وَقَالَ أهل الْجنَّة: الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَقد ذكر فِي مَوضِع آخر:
﴿وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾ وَقد بَينا هَذَا من قبل.
484
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿حم (١) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم (٢) غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد﴾
تَفْسِير سُورَة الْمُؤمن
وَيُقَال: سُورَة الطول، وَهِي مَكِّيَّة
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا وَقعت فِي آل حميم وَقعت فِي روضات أتأنق فِيهِنَّ، وَتسَمى الحواميم ديابيج الْقُرْآن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن مثل الحواميم فِي الْقُرْآن مثل الحبرات فِي الثِّيَاب ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " من قَامَ بالحواميم فِي لَيْلَة غفر الله لَهُ ".
5