ﰡ
أحدهما : أن العرب إذا أخبرت عن رَجل بفعلين رَدّوا الآخر بِثُمَّ إذا كان هو الآخر في المعْنى. وربّما جَعَلوا ( ثُمَّ ) فيما معناه التقديم وَيَجْعَلون ( ثم ) من خبر المتكلّم. من ذلكَ أن تقول : قد بلغني ما صنعت يَومك هذا، ثمّ ما صَنعت أمس أعجبُ. فهذا نَسَق من خبر المتكلّم. وَتقول : قد أعطيتكَ اليوم شيئاً، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر، فهذا من ذلكَ.
وَالوجه الآخر : أن تجعل خَلْقَه الزوج مردوداً على ( وَاحدة ) كأنه قال : خلقكم من نفسٍ وَحدها، ثمّ جَعَل منها زوجها. ففي ( وَاحدةٍ ) مَعْنى خَلْقها وَاحدة.
قال : أنشدني بعض العرب :
أعددتَه للخَصْم ذى التعدّى | كوّحتَه منك بُدون الجَهْد |
وقوله ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾١٦٦ ا فهذا تهدُّد وليس بَأمر محض. وكذلك قوله :﴿ فتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وَما أشبهه.
أبنى لبُيََنْيَ لستم بيدٍ | إلاّ يدٍ ليسَت لها عَضُد |
أضمر بن ضمرةَ ماذا ذكَرْ | تَ مِن صِرْمة أُخذت بالمُرارِ |
وقد تكون الألِف استفهاما بتأويل أم لأن العرب قد تضع ( أمْ ) في موضع الألِف إذا سَبَقها كلام، قد وصفت منْ ذلك ما يُكتفي به. فيكون المعْنى أمَن هو قانت ( خفيف ) كالأوّل الذي ذُكر بالنسيان والكفر.
ومن قرأها بالتشديد فإنه يريد معنى الألِف. وهو الوجه : أن تجعَل أم إذا كانت مردودة على مَعْنىً قد سَبَق قلتها بأم. وقد قرأ بها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدنيّ. يريدون : أَمْ مَن. والعرب تقول : كان هَذَا حين قلت : أأخوك أم الذئب. تقال هذه الكلمة بعد المغرب إذا رأيت الشخص فلم تَدْر ما هو. ومنه قولك : أَفَتِلك أم وَحْشِيّة، وقولك أذلِك أم جَأْب يطارد أُتُنا.
فإن قال قائل فأين جواب ( أمّن هُوَ ) فقد تبيَّن في الكلام أنه مضمر، وقد جرى معناه في أوّل الكلمة، إذ ذكر الضالّ ثم ذكر المهتدى بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد : أهذا مثل هذا أو أهذا أفضل أم هذا. ومن لم يعْرف مذاهب العرب ويتبيَّن له المعْنى في هذا وشبهِه لم يكتفِ ولم يشتف ؛ ألا ترى قول الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رَسُوله | سواكَ ولكن لم نجد لك مَدْفعَا |
وقوله ﴿ آناء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائما ﴾ نُصِب على قوله : يقنت سَاجداً مرّةً وقائما مَرّةً، أي مطيع في الحالين. ولو رُفع كما رُفعَ القانت كان صَواباً. والقنوت : الطاعة.
يقال : كيفَ اجتمع اسْتفهامان في مَعْنىً واحدٍ ؟ يقال : هذا مما يراد به استفهامٌ واحدٌ ؛ فيسبِق الاستفهام إلى غير موضعه يُردّ الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإِنّما المعنى - والله أعْلم - : أفأنت تُنقذ من حَقّت عَليه كلمة العذاب. ومثله من غير الاستفهام قوله :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاما أَنَّكُمْ مُخْرَجُون ﴾ فردّ ﴿ أنكم ﴾ مَرّتين، والمعْنى - والله أعْلم - : أيعِدكُم أنّكم مخرَجون إذا متّم وكنتم تراباً. ومثله قوله :﴿ لاَ تَحْسَبَنّ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ ﴾ فرَدّ ( تحسبَنّ ) مرّتين ؛ ومعناهما - والله أعْلم - لا تَحسَبنّ الذينَ يفرحُون بما أَتَوْا بمفازة من العَذاب. ومثله كثير في التنزيل وغَيره من كلام العرب.
وقوله ﴿ مَّثَانِيَ ﴾ أي مكرّراً يكرّر فيه ذكر الثواب والعقاب.
وقوله :﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ : تقشعرّ خوفاً من آية العذاب إِذا نزلت ﴿ ثُمَّ تَلِينُ ﴾ عند نزل آية رَحمة.
وقوله ﴿ وَرَجُلاً سَلَما لِّرَجُلٍ ﴾ هو المؤمن الموحِّد. وقد قرأ العوامّ ( سَلَما ) وسَلَمٌ وَسالم متقاربان في المعْنى، وكأنّ ( سلما ) مصدر لقولكَ : سَلِم لهُ سَلَما والعرب تقولُ : رَبِحَ رِبحا ورَبحا، وسَلِمَ سِلما وسَلَما وسلامة. فسالم من صفة الرّجل، وسَلَمَ مصدرٌ لذلك. والله أعلم.
حدّثنا أبو العبّاس قال : حدّثنا محمد، قال : حدثنا الفراء قال : حدَّثني أبو إسْحاق التيميّ -وليسَ بصاحب هُشيم - عن أبى رَوْق عن إبراهيم التيميّ عن ابن عباس أنه قرأ ( ورَجُلاً سَالما ) قال الفراء : وحدثني ابن عُيَيْنَةَ عن عبد الكريم الجزرى عن مجاهد أنه قرأ ( سالما ).
وقوله :﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ ولم يقل مثلَين، لأنهما جميعاً ضُرِبا مثلا واحداً، فجرى المَثَل فيهما بالتوحيد ومثله ﴿ وجَعَلْنا ابنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً ﴾ ولم يقل : آيتين ؛ لأن شأنهما وَاحد. ولو قيل مَثَلين أو آيتين كانَ صَوابَا ؛ لأنهما اثنانِ في اللفظ.
وَالمعنى فيه يتوفى الأنفس حينَ موتها، ويتوفى التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. ويقال : إن توفِّيها نومُها. وهو أحبّ الوجهين إلىَّ لقوله ﴿ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْها الْمَوْتَ ﴾.
ولقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُمْ بالليلِ ﴾ وتقرأ ﴿ قَضَى عَلَيْها الْمَوْتَ ﴾ ﴿ وقُضِى عَليها الموتُ ﴾.
خرجَت ( هي ) بالتأنيث لتأنيث الفتنة. ولو قيل : بل هو فتنة لكان صَوَاباً ؛ كما قَالَ ﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّى ﴾ ومثله كثير في القرآن. وكذلك قوله :﴿ قَدْ قَالَها الذينَ منْ قَبْلِهِم ﴾ أنثت إرادة الكلمة ولو قيل : قد قَاله الذين منْ قبلهم كان صَوَابا. ومثله في الكلام أن تقول : قد فعَلتها وفعَلتَ ذاك : ومثله. قوله :﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلتك التي فعَلْتَ ﴾ يجوز مكانها لو أتى : وفعَلت فِعلكَ.
هي في قراءة عبد الله ( الذنوب جميعاً لمن يشاء ) قال الفراء : وحدّثني أبو إسحاق التَّيميّ عن أبى رَوْق عن إبراهيم التيميّ عن ابن عبَّاس أنه قرأها كما هي في مصحف عبد الله ( يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ) وإنما نزلت في وَحْشيّ قاتل حمزة وذوِيه.
أي افعَلوا وأنيبُوا وافعَلوا ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ﴾ ألاّ يقول أحدكم غداً ﴿ يا حَسْرَتَا ﴾ ومثله قوله :﴿ وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ أي لا تميد.
وقوله :﴿ يا حَسْرَتَا ﴾ : يا ويلتا مضاف إلى المتكلّم يحوّل العرب اليَاء إلا الألف في كلّ كلام كان مَعْناه الاسْتغَاثة، يخرج على لفظ الدعاء. وربّما قيل : يا حَسْرَتِ كما قَالوا : يا لهَفِ على فلانٍ، ويا لهفَا عَلَيْهِ قَال : أنشدني أبو ثَرْوان العُكْليُّ.
تزورونها أَو لا أزور نِسَاءكم | ألهَفِ لأولاد الإماء الحواطب |
وربّما أدخلت العرب الهاء بعدََ الألفِ التي في ﴿ حسرتَا ﴾ فيخفضونها مَرة، ويرفعُونها. قَالَ : أنشدني أبو فَقْعَس، بعضُ بنى أسد :
يا ربِّ يا ربّاهِ إيّاك أسَلْ | عَفراء يا ربّاهِ من قبل الأَجل |
يا مرحباهِ بحمار ناهِيْه | إِذَا أتى قرّبته للسَّانية |
النصب في قوله ﴿ فَأَكُونَ ﴾ جَواب لِلو. وإن شئت جَعلته مردوداً على تأويل أنْ، تُضمرها في الكرَّة، كما تقول : لو أَنَّ لي أن أكُرَّ فأكونَ. ومثله مَّما نُصب على ضمير أنْ قوله :﴿ وَما كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمهُ اللهُ إلاّ وَحيْاً أوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ ﴾ المعْنَى - والله أعلم - ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاّ أن يوحى إليه أو يرسل. ولو رفع ﴿ فيُوحى ﴾ إذا لم يظهر أنْ قبله ولا معه كان صوابا. وقد قرأ به بعض القراء. قال : وأنشدني بعض بنى أسَدٍ :
يَحُلّ أُحَيْدَه ويقال بَعْلٌ | ومثلُ تموُّلٍ منه افتقارُ |
فما يُخطئكِ لا يخطئكِ منه | طَبَانِيَةٌ فيَحْظُلُ أو يَغارُ |
فمالك منها غير ذِكرى وحِسْبة | وتسأل عن ركبانها أينَ يمَّموا |
على أحْوذِيَّيْن استقلت عَشِيَّة | فما هي إلاَّ لمحة فتغيب |
القراء مجتمعون على نصب الكاف وأن المخاطب ذَكَر. قال الفراء وحدثني شيخ عن وِقَاء بن إياسٍ بسنده أنه قرأ ( بَلَى قد جَاءتْكِ آياتي فكذَّبتِ بها واستكبرتِ ) فخفض الكاف والتاء كأنه يخاطب النفس. وهو وجه حسَن ؛ لأنه ذكر النفس فخاطبها أوّلاً، فأجْرى الكَلام الثاني على النفْس في خطابها.
ترفع ﴿ وجوههم ﴾ و ﴿ مسودّة ﴾ لأنَّ الفعل قد وقع على ( الذين ) ثم جاء بعد ( الذين ) اسم له فعل فرفعته بفعله، وكان فيه معنى نصب. وكذلك فالفعل بكل اسم أوقعتَ عليه الظنّ والرأي وما أشبههما فارفع ما يأتي بعده من الأسماء إذا كان معها أفاعيلها بعدها ؛ كقولكَ : رأيت عبد الله أمرُه مستقيم. فإن قدمت الاستقامة نصبتها، ورفعت الاسم ؛ فقلت : رأيت عبدَ الله مستقيما أمرُه، ولو نصبت الثلاثة في المسألة الأولى على التكرير كان جَائزاً، فتقول : رَأيت عبدَ الله أمرَهُ مستقيما. وقالَ عدِىّ ابن زيدٍ.
ذرِيني إن أمركِ لن يطاعَا *** وما ألفيتِني حِلْمي مُضَاعَا
فنصب الحلم والمُضاع على التكرير. ومثله :
ما للجمال مشيِها وئيدا ***...
فخفض الجَمال والمشي على التَّكرير. ولو قرأَ قارئ ﴿ وُجُوهَهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ على هذا لكانَ صَوَاباً.
جَمْع وقد قرأ أهل المدينة ﴿ بِمَفَازَتِهِمْ ﴾ بالتوحيد. وكلّ صَوَاب. تقول في الكلام : قد تَبيَّنَ أمرُ القوم وأُمُورُ القوم، وارتفع الصوت والأصوات ( ومعناه ) واحد قال الله ﴿ إنَّ أنْكَرَ الأصواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ﴾ ولم يقل : أصْواتٌ وكلّ صَوَاب.
تنصب ( الله ) - يعني في الإعراب - بهذا الفعْل الظاهر ؛ لأنه ردّ كلام. وإن شئت نصبته بفعل تُضمره قبله ؛ لأنَّ الأمر والنهي لا يتقدّمهما إلاّ الفعل.
ولكن العرب تقول : زيد فليقم، وزيداً فليقم فمَن رفعه قال : أَرفعه بالفعل الذي بعده ؛ إذا لم يظهر الذي قبله. وقد يُرفع أيضاً بأنْ يُضمر له مثل الذي بَعْده ؛ كأنك قلت : ليَنظر زيد فليقم. ومن نصبه فكأنه قال : انظروا زيداً فليقم.
ترفع القبضة. ولو نصبها ناصب، كما تقول : شهر رمضانَ انسلاخَ شعبَانَ أي هذا في انسلاخ هذا.
وقوله :﴿ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ ترفع السَّموات بمطوياتٌ إذا رفعت المطويات. ومن قال ﴿ مَطْوِيَّاتٍ ﴾ رفع السموات بالباء التي في يمينه، كأنه قال : والسَّموات في يمينه. وينصبُ المطويَّاتِ على الحال أو على القطع. والحال أجود.
قال : كان الكلبيّ يقول : لا أدري ما الصور. وقد ذُكر أنه القَرْن وذكر عن الحسن أو عن قتادة أنه قال : الصور جماعة الصورة.