تفسير سورة الأحقاف

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿حم﴾ الآيات نظم ابتداء هذه السورة كنظم ابتداء سورة الجاثية وقد ذكرنا ما فيه.
٣ - قوله: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: لم نخلقهما باطلا عبثًا لغير شيء، ما خلقناهما إلا للثواب والعقاب (١)، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع [الحجر: ٨٥].
قوله تعالى: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال المفسرون: يعني يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائها وانقضاء أمرها (٢)، ثم ذكر أن الكفار أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق السموات والأرض، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ خوفوا به في القرآن معرضون أي: لم يتعظوا بالقرآن (٣) ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان ما يعبدون من الأوثان بقوله:
٤ - ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ وهي مفسَّرة في سورة فاطر [آية: ٤٠] إلى قوله:
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٥، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: ٤/ ١٠٢.
(٢) انظر: "تفسير الماودي" ٥/ ٢٧١، و"البغوي" ٧/ ٢٥١، و"القرطبي" ١٦/ ١٧٨.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ١، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥١.
159
﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ أي: ائتوني بكتاب من قبل القرآن فيه برهان ما تدعون من عبادة الأصنام ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾، قال أبو عبيدة: أي بقية، ويقال: ناقة ذات أثارة، أي بقية من شحم (١)، ونحو هذا ذكر الفراء (٢)، والزجاج (٣) في معنى الأثارة أنها البقية.
قال ابن قتيبة: أي بقية علم عن الأولين (٤)، وزاد الفراء فقال: ويقال أو شيء مأثور من كتب الأولين، قال: وأثارة على المصدر مثل: السماحة والشجاعة (٥)، وزاد الزجاج فقال: (أثارة) معناها علامة من علم (٦).
وقال المبرد: أثارة ما يؤثر من علم، كقولك: هذا حديث يؤثرُ عن فلان، ومن ثَمَّ سميت الأخبار الآثار، يقال: في الأثر كذا وكذا، قال: وقالوا في الأثارة: الشيء الحسن البهي في العين، يقال للناقة: ذات أثارة، إذا كانت ممتلئة تروق العين، يقال: أثرة وأثارة على فَعَلة وفَعَالة، فهذا ما ذكره علماء اللغة في تفسير هذا الحرف (٧)، وهو ينقسم إلى أقوال ثلاثة:
الأول: البقية، واشتقاقه من: أَثَرْثُ الشيء أُثِيره إِثَارَة، كأنها بقية تستخرج فتثار، وهو قول الحسن (٨).
(١) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٣٨.
(٤) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٤٠٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٠.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٣٨.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) ١٥/ ١١٩، و"الصحاح" (أثر) ٢/ ٥٧٤، و"اللسان" (أثر) ٤/ ٥.
(٨) أخرج ذلك الطبري عن الحسن. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٣/٢، و"تفسير الحسن البصري" ٢/ ٢٨١، و"زاد المسير" ٧/ ٣٦٩.
160
الثاني: من الأثر الذي هو الرواية (١)، ومنه قول الأعشى:
إنَّ الذي فيه تَمَارَيْتُمَا بُيِّنَ للسَّامِع والأَثِرِ (٢)
الثالث: من الأثر بمعنى العلامة (٣)، وعلى [هذا المعاني] (٤) يدور كلام المفسرين، روى عطاء عن ابن عباس؛ قال: يريد أو شيء ترويه عن نبي كان قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وقال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء أن لله شريكًا (٥)، وقال: هذا قول مجاهد وعكرمة والقرظي (٦)، وعلى هذا الأثارة مصدر يقال: أثر ياثر أثراً وأثارة بمعنى روى، وقال في رواية الكلبي: بقية من علم (٧)، وعلى هذا معنى قول قتادة: خاصة من العلم؛ لأن الخاصة من العلم بقية منه بقيت عند خواص العلماء (٨)، ويحتمل قول قتادة وجهًا آخر، وهو أن تكون الأثارة من إيثار والاستيثار يقال: أثرت فلانًا بكذا، إذا خصصته به
(١) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: تفسيره ١٣/ ٣/٢، و"تفسير مجاهد" ص ٦٠٢، و"تفسير الماوردي" ٥/ ٢٧١.
(٢) انظر: "ديوانه" ص ٩٢، و"اللسان" (أثر) ٤/ ٦، و"تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٠٦ ب، و"الدر المصون" ٦/ ١٣٥.
(٣) وهذا قول الزجاج، انظر: "معاني القرآن" ٤/ ٤٣٨، و"زاد المسير" ٧/ ٣٦٩.
(٤) كذا رسمها في الأصل ولعل الصواب (هذه المعاني).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٥، ونسبه في "الوسيط" لعطاء. انظر: ٤/ ١٠٣.
(٦) أخرج الطبري عن مجاهد بلفظ: (أحد يأثر علمًا) ١٣/ ٢/ ٣، وذكر الماوردي عن عكرمة ميراث من علم ٥/ ٢٧١، وذكر الثعلبي قول القرظي بلفظ: الإسناد ١٠/ ١٠٦ ب، وذكره أيضًا القرطبي ١٦/ ١٨٢.
(٧) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٢.
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٣/ ٢، و"الماوردي" ٥/ ٢٧١، و"القرطبي" ١٦/ ١٨٢.
161
واستأثر فلان بكذا، إذا اختص به دون غيره (١)، ومنه قول الأعشى:
استأثَرَ اللهُ بالوَفَاءِ وبـ الحَمْدِ وولَّى الملامَةَ الرَّجُلا (٢)
ويقال لفلان: أثرة بكذا أو أثارة، أي اختصاص، ويؤكد ما قلناه قراءة السلمي والحسن (أو أَثَرةٍ من علم) (٣)، والمعنى على هذا: ائتوني بعلم تنفردون به دوننا، فإنا لا نعلم أن لله شريكًا، وهذا وجه حسن، وروى أبو سلمة (٤) عن ابن عباس والشعبي أيضًا عنه في قوله: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ قال: هو علم الخط (٥)، وهو خط كان تخطه العرب في الأرض.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قد كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه، عَلِمَ عِلْمَه" (٦). والمعنى على هذا: ائتوني بعلم من قبل الخط الذي
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) ١٥/ ١٢٢، و"اللسان" (أثر) ٤/ ٨، و"معاني القرآن" للنحاس ٦/ ٤٤٠.
(٢) انظر: "شرح المعلقات العشر" ص ١٣٧، و"اللسان" (أثر) ٤/ ٨.
(٣) ذكره هذه القراءة الكلبي في "تفسير" ١٠/ ١٠٦ ب، والماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢٧١، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٨٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ٥٥، وهي بفتح الهمزة والثاء.
(٤) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
(٥) أخرج ذلك الحاكم عن أبي سلمة عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. انظر: "المستدرك" التفسير ٢/ ٤٥٤. كما أخرج رواية الشعبي عن ابن عباس وقال: هذه زيادة عن ابن عباس في قوله -عز وجل- غريبة في هذا الحديث، وسكت عنه الذهبي ٢/ ٤٥٤.
(٦) أخرج مسلم في "صحيحه" عن معاوية بن الحكم السلمي في حديث طويل، وفيه قال: قلت: ومنا رجال يخطون قال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك"، انظر: "صحيح مسلم" كتاب المساجد، باب ٧، تحريم الكلام في الصلاة.. ١/ ٣٨١، وفي كتاب السلام، باب ٣٥، تحريم الكهانة وإتيان الكهان =
162
تخطونه في الأرض، وكأنه قيل لهم ذلك لأنهم كانوا يعدونه علمًا لهم وبياناً في الأمور فقيل لهم: ائتوني بعلم من هذه الجهة على ما تدعونه حقًّا إن كنتم صادقين أن لله شريكًا. واشتقاق هذا القول من الأثر بمعنى العلامة، والخط أثر.
٥ - ثم ذكر ضلالة هؤلاء. فقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾ إلى قوله: ﴿مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ قال ابن عباس: لا يثيبه ولا يرزقه إلى يوم القيامة (١). قال مقاتل: أبدًا، يعني: لا يستجيب له أبدًا ما دامت الدنيا، فإذا قامت القيامة كانت الآلهة أعداء لمن عبدها في الدنيا (٢)، وهو قوله:
٦ - ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾، وهذا كقوله: ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: ٨٢] وقد مر. قال ابن عباس: يريد الملائكة وعيسى وعزير وكل ما عبد من دون الله أعداء لمن عبدهم (٣) ﴿وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾؛ لأنهم يقولون: ما دعوناهم إلى عبادتنا وتبرؤوا من عبادتهم كما قال: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣].
٨ - قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ وذلك أن كفار مكة قالوا: ما هذا القرآن إلا شيء ابتدعته من تلقاء نفسك فقال الله: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
= ٢/ ١٧٤٩، كما أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٥/ ٤٤٧، والنسائي في "السنن" كتاب السهو، باب ٢٠، الكلام في الصلاة ٣/ ١٤، وأبو داود في "السنن" كتاب الطب، باب ٢٣، في الخط وزجر الطير ٤/ ٢٢٩.
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٦.
(٣) لم أقف عليه.
163
قال مقاتل: لا تقدروا لحى أن تردوا عني عذابه (١)، وهذا كقوله: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الفتح: ١١] ومثله في التنزيل كثير.
وقال ابن عباس: لا تمنعونني من الله (٢) والمعنى: أنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني عقاب الله، فكيف أفتري على الله لأجلكم وأنا أعلم هذا، وفيه تبعيد لقولهم افتريته، ﴿هُوَ﴾ أي: الله ﴿أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب به، والقول فيه أنه سحر وكهانة، قاله المفسرون (٣)، وكل خوض في الحديث إفاضة كقوله (٤): ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: ٦١] وقد مر.
﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ قال مقاتل: يعني فلا شاهد أفضل من الله بيني وبينكم أن القرآن جاء من الله ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ في تأخير العذاب عنكم حين لا يعجل عليكم بالعقوبة (٥).
وقال ابن عباس: يريد لأوليائه وأهل طاعته (٦).
وقال أبو إسحاق: معنى الغفور الرحيم هاهنا دعاهم إلى التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر العظام بمثل ما أتيتم به من الافتراء على الله (٧)، وعليَّ ثم تاب فالله غفور رحيم له.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٦.
(٢) لم أقف عليه
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٥، و"زاد المسير" ٧/ ٣٧١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٨٤، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٤.
(٤) انظر: اللسان (خوض) ٧/ ١٤٧.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٦، ١٧.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) نص العبارة عند الزجاج: (من افتراء على الله جل وعلا ثم تاب فإن الله غفور رحيم) ٤/ ٤٣٩.
164
٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ قال أبو عبيدة: أي ما كنت أولهم (١)، ونحو هذا قال الفراء (٢)، والزجاج (٣) وقال المبرد: البدع والبديع من كل شيء المبتدأ، والبدعة ما اخترع مما لم تجر به سنة، ورجل درع من قوم أبداع (٤) قال عدي بن زيد:
فَلاَ أنا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي رِجالاً عَرَتْ مِنْ بَعْدِ بُؤْسَى وأسْعُدِ (٥)
وقال الكسائي: رجل بدع وامرأة بدعة، وامرأتان بدعتان، ونساء بدع، بكسر الباء وفتح الدال، وأبداع (٦).
قال المفسرون: ما أنا بأول رسول بعث، قد أرسل قبلي رسل كثيرون (٧).
قال مقاتل: وهذا جواب لقولهم أما وجد الله نبيًّا غيرك (٨).
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ روي عن ابن عباس في
(١) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٣٩.
(٤) انظر: الصحاح (بدع) ٣/ ١١٨٣، و"اللسان" (بدع) ٨/ ٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٠.
(٥) استشهد بهذا البيت الطبري ١٣/ ٢/ ٦، وابن عطية ١٥/ ١٣، والقرطبي ١٦/ ١٨٥، وأبو حيان ٨/ ٥٦، وفي "شعراء النصرانية" ص ٤٦٥، و"المفضليات" ٨٢٩.
(٦) انظر: قول الكسائي في اللسان (بدع) ٨/ ٧.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٦، و"تفسير الماوردي" ٥/ ٢٧٢، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٢، و"تغليق التعليق" ٤/ ٣١١.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٧.
165
هذا قولان قال في رواية عطاء: لما نزلت هذه الآية فرح المشركون واليهود والمنافقون فقالوا كيف نتبع نبيًا لا يدري ما يُفعلُ به ولا بنا، فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ [الفتح: ١ - ٢] الآيات إلى قوله (١) ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٥] فبين الله ما يفعل به وبمن اتبعه من المؤمنين، ونسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف المنافقين والمشركين واليهود، ورحم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وقال قتادة في هذه الآية: نسختها ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ وهذا قول أنس وعكرمة (٢).
وقال في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصَّها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا فيها فرجًا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى نهاجر (٣) إلى الأرض التي رأيت، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ يعني: لا أدري أخرج إلى الموضع الذي أُرِيتهُ في منامي أم لا، ثم قال لهم: إنما هو شيء أريته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلى، يقول: لم يوح إلى ما أخبرتكم، وعلى هذا لا نسخ في الآية، وهذا القول اختيار الفراء (٤) والزجاج (٥).
(١) ذكر الطبري رواية عن ابن عباس نحو هذا المعنى وأخصر منه. انظر: ١٣/ ٧/٢.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٧، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" ص ٣٥٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٨٥.
(٣) انظر: "تفسير أبي الليث السمرقندي" ٣/ ٢٣٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٠ - ٥١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٣٩، وقال مكي: فأما من قال معناه: وما =
166
وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن: في هذه الآية قال: أما في الآخرة فمعاذ الله أن لا يدري ما يفعل به، قد علم أنه في الجنة، ولكنه يخاطب بهذا المشركين، يقول: لا أدري ما يفعل بي في الدنيا، أموت أم أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي (١) ﴿وَلَا بِكُمْ﴾ أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السما أم يخسف بكم أم أيش يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، قال ابن عباس: يريد ما أبلغكم إلا ما بعثني الله به إليكم (٢)، وقال مقاتل: ما أتبع إلا ما يوحى إلى من القرآن، إذا أمرت بأمر فعلته، ولا أبتدع ما لم أومر به (٣).
﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ قال ابن عباس: أنذركم عذاب الله وأبين لكم ما يبعدكم من الله ويقربكم إلى الله (٤).
١٠ - قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ قال صاحب النظم: يقال: إن قوله (أرأيتم) نظم وضع للسؤال والاستفتاء وقيل للتنبيه، فلذلك لا يقتضي مفعولاً كما قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [العلق: ١٣] وقد تقدَّم الكلام في هذا.
وقال أبو علي: الاستفهام الذي يقع موقعَ المفعول الثاني محذوف
= أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من تقلب الأحوال فيها، فالآية عنده محكمة، انظر: "الإيضاح" لمكي ص ٣٥٦.
(١) أخرج ذلك الطبري عن الحسن ورجحه. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٧، وأخرجه أيضًا النحاس عن الحسن، ورجحه. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٦٢٨، ورجحه أيضًا ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص ٤٦٤، ورجحه أيضًا ابن كثير في "تفسيره" ٦/ ٢٧٧.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٧.
(٤) لم أقف عليه.
167
الكلام بالمفعول الأول، وكان التقدير: أتأمنون عقوبة الله أو ألا تخشون انتقامه (١)، ومثله من غير حذف المفعول الثاني قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ﴾ [فصلت: ٥٢]، وقوله. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ﴾ [القصص: ٧١] فالاستفهام في الآيتين هو المفعول الثاني لأرأيتم؛ لأنه بمعنى أخبروني، هذا هو الكلام وليس ما ذكره صاحب النظم بشيء. قوله: ﴿إِنْ كَانَ﴾ يعني القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد عبد الله بن سلام، ونحو هذا روى الكلبي عنه أنه الشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام، وهو قول مجاهد وقتادة ومقاتل والضحاك وابن زيد والحسن (٢)، وبه قال من الصحابة عوف بن مالك الأشجعي وسعد بن أبي وقاص.
ويؤكد ذلك ما روي في حديث مقتل عثمان أن عبد الله أتاه لينصره فخرج إلى الناس وقال: إنه قد نزل في آيات من كتاب الله نزلت فيَّ، وشهد من بني إسرائيل على مثله (٣)، وذكر كلامًا طويلاً.
قوله: ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾ قال ابن عباس: يريد على ما جئتكم به (٤)، قال
(١) انظر: "المسائل الحلبيات" لأبي علي ص ٧٧.
(٢) انظر: أقوال هؤلاء في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ١٠، ١١، و"تفسير الماوردي" ٥/ ٢٧٣، و"تفسير مقاتل" ٤/ ١٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٨٨، و"تنوير المقباس" ص ٥٠٣، و"البحر المحيط" ٨/ ٥٧.
(٣) أخرج ذلك الترمذي في كتاب التفسير باب ٤٧، ومن سورة الأحقاف ٥/ ٣٨١. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(٤) لم أقف عليه.
168
صاحب النظم: ليس لمثل هاهنا معنًى مقصود إليه، هو فصل وصلة (١) كقوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] وتأويله: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي على أنه من عند الله، وقال أبو إسحاق: الأجود أن يكون (على مثله) على مثل شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- (٢).
قوله: (فَآمَنَ) يعني الشاهد وهو ابن سلام ﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الإيمان فلم تؤمنوا، واختلفوا في تقدير جواب قوله: (إن كان من عند الله) فقال صاحب النظم: جوابه محذوف على تقدير: أليس قد ظلمتم (٣) فكان قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ دليلاً على هذا الجواب.
وقال الزجاج: تقديره: فآمن واستكبرتم أتؤمنون (٤)، وقال غيره فآمن واستكبرتم أفما تهلكون (٥)، وقال الحسن: جوابه من أضل منكم (٦)، ووجه تأويل الآية: أخبروني ماذا تقولون إن كان القرآن حقًا من عند الله، وشهد على ذلك عالم بني إسرائيل وآمن به وكفرتم واستكبرتم ألستم تستحقون العقاب، وأنكر قوم منهم الشعبي ومسروق أن يكون الشاهد عبد الله بن سلام، وقالوا: إن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعامين، وآل
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٨٩، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٤.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٠.
(٣) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري ٢/ ١١٥٥، و"زاد المسير" ٧/ ٣٧٤، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٥.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٠.
(٥) ذكر ذلك الماوردي في تفسيره ونسبه لمذكور ٥/ ٢٧٤، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٤، وذكره أبو حيان في البحر المحيط ٨/ ٥٧.
(٦) ذكر ذلك الماوردي في تفسيره ٥/ ٢٧٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٤، وأبو حيان ٨/ ٥٧، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٠٥.
169
﴿حم﴾ نزل بمكة (١)، ثم لم يأت للآية بوجه من التأويل صحيح غير الإنكار، على أن ابن سيرين قد قال في هذه الآية: كانت تنزل الآية فيؤمر أن توضع في سورة كذا، يعني: أن هذه الآية يجوز أن تكون نازلة بالمدينة وأمر أن توضع في سورة مكية (٢).
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد قريظة والنضير (٣)، وقال مقاتل: يعني اليهود (٤)، قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أن هؤلاء المعاندين خاصة لا يؤمنون بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: قد جعل جزاءهم على كفرهم بعد ما تبين لهم الهدى، مَدَّهم في الضلالة (٥).
١١ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يعني من كفر من اليهود للذين آمنوا، يعني ابن سلام وأصحابه،
(١) أخرج ذلك الطبري عن الشعبي ومسروق. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٩، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢٧٣، والبغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٥.
وهذا هو الوجه الذي رجحه ابن جرير الطبري قال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل لأن قوله ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش واحتجاجًا عليهم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر فتوجه هذه الآية أنها نزلت فيهم.. ١٣/ ٢/ ١٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٦/ ٤٤٤، وتفسير الفخر الرازي ٢٨/ ١٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٨٨.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٠.
170
وهذا قول السدي
وقال في رواية الكلبي (١) الذين كفروا أسد (٢) وغطفان (٣) لما أسلم جهينة (٤) ومزينة (٥) قالوا: لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم؛ يعنون جهينة ومزينة وأسلم وغِفَارًا (٦).
وقال مقاتل: الذين كفروا قريش، والذين آمنوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (٧).
(١) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره ١٠/ ١٠٩ ب، والبغوي في تفسيره ٧/ ٢٥٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٥، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٠.
(٢) هو: بنو أسد بن خزيمة: قبيلة عظيمة من العدنانية تنتسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وهي ذات بطون كثيرة منازلهم كانت بلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد وفي مجاورة طي.
انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٤٧، و"معجم قبائل العرب" لكحالة ١/ ٢١.
(٣) هم: بنو غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بطن عظيم متسع كثير الشعوب والأفخاد وقد حاربهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق وهي الأحزاب.
انظر: "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص ٢٤٨، و"معجم قبائل العرب" ٣/ ٨٨٨.
(٤) هم: بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سويد بن أسلم حي عظيم من قضاعة من القحطانية كانت مساكنهم ما بين الينبع ويثرب قاتلوا مع خالد بن الوليد في فتح مكة وقاتلوا في غزوة حنين.
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٤٤٤، و"معجم قبائل العرب" ١/ ٢١٦.
(٥) هم: بنو عمرو بن أد عثمان وأوس، وأمهما مزينة بنت كلب بن وبرة، فنسب ولدها إليها، كانت مساكن مزينة بين المدينة ووادي القرى.
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٠١، و"معجم قبائل العرب" ٣/ ١٠٨٣.
(٦) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٠٩ ب، والماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢٧٤، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٣.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩.
171
وقال الحسن: كانت غفار وأسلم أهل سلة في الجاهلية، أي سرقة، فلما أسلموا قالت قريش: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه (١).
وذكر صاحب النظم في اللام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ وجهين: أحدهما أن تكون اللام بمنزلة الإيماء إليهم، كأنه يقول: وقال الذين كفروا لو كان هذا الذي جاء به محمد خيرًا لما سبقنا هؤلاء إليه، فقام قوله: (للذين آمنوا) مقام هؤلاء بالتفسير لهم مَن هم، والوجه الآخر: أن يكون المعنى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا على المخاطبة كما تقول: قال زيد لعمرو، ثم ترك المخاطبة (٢) ولون الكلام كقوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢] قوله: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ أي: ولما لم يصيبوا الهداية بالقرآن فسينسبونه إلى الكذب وهو قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ أي: أساطير الأولين. ويدل على أن المراد بقوله: (الذين كفروا) اليهود قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ يعني قبل: القرآن ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ يريد التوراة ﴿إِمَامًا﴾ يقتدى به ﴿وَرَحْمَةً﴾ من الله عز وجل للناظر فيه بما يجد من نور الهدى، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى على تقدير: فلم يهتدوا به، ودل على هذا المحذوف قوله في الآية الأولى: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ (٣)، وذلك أن في التوراة بيان بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به فتركوا ذلك، وهذا
(١) لم أقف عليه.
(٢) ذكر السمين الحلبي في "الدر المصون" أن اللام يجوز أن تكون لام العلة أي لأجلهم، وأن تكون للتبليغ. انظر: "الدر المصون" ٦/ ١٣٧.
(٣) ذكر ذلك البغوي في تفسيره / ٢٥٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٦، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩١، والمؤلف في "تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٥.
172
معنى قول مقاتل؛ لأنه قال: ومن قبل هذا القرآن قد كذبوا بالتوراة لقولهم (١) ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ [القصص: ٤٨].
قال أبو إسحاق: (إمامًا) منصوب على الحال ورحمةً عطف عليه (٢)، وتقدير الكلام: وتقدمه كتاب موسى إماماً؛ لأن معنى (ومن قبله) تقدمه وتم الكلام (٣)، ثم قال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ﴾ قال المفسرون: للكتب التي قبله (٤).
قال أبو إسحاق: مصدق لما بين يديه، كما قال: ﴿كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ٣٠] وحذف هاهنا التقدم (٥).
١٢ - قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى﴾ والمعنى: وهذا كتاب مصدق له أي لكتاب موسى، فحذف للعلم به، و ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ منصوب على الحال، المعنى: مصدق لما بين يديه عربيًّا، وذكر (لسانًا) توكيد كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحًا، فتذكر رجلاً توكيدًا، قال وفيه وجه آخر وهو: وهذا كتاب مصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون التقدير مصدق ذا لسان عربي (٦)، وذكر الأخفش هذين القولين أيضًا (٧).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٠.
(٣) انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٦١، و"المكتفى" للداني ص ٥٢١.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩١.
(٥) الذي في "معاني القرآن" للزجاج: (وحذف له هاهنا أعني من قوله: "وهذا كتاب مصدق" لأن قبله ومن قبله كتاب موسى، فالمعنى وهذا كتاب مصدق له، أي مصدق التوراة) ٤/ ٤٤١.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤١.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٩٣.
173
قوله: ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس: أشركوا (١)، وقال مقاتل: يعني مشركي مكة (٢).
وفي قوله (لينذر) قراءتان (٣): التاء: لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] و ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: ٧] ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢] والياء لتقدم ذكر الكتاب، فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ﴿عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾، ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف: ١ - ٢].
وقوله: ﴿وَبُشْرَى﴾، قال إسحاق: الأجود أن يكون (وبشرى) في موضع رفع، المعنى: وهو بشرى للمحسنين. قال: ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: لتنذر الذين ظلموا وتبشر المحسنين بشرى (٤)، وزاد الفراء هذا الوجه بيانًا فقال: النصب على (لتنذر الذين ظلموا) وتبشر، فإذا وضعت في موضعه بشرى أو بشارة، نصبت، ومثله في الكلام: أعوذ بالله منك. وسَقْيًا لفلان، كأنه قال: وسقى الله فلانًا، وجئت لأكرمك وزيارة لك وقضاء لحقك، معناه لأزورك وأقضي حقك، فتنصب الزيارةَ والقضاءَ بفعل مضمر (٥).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩.
(٣) قرأ ابن نافع وابن عامر والبزي بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٧١، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٦٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٢، والكشف والبيان للثعلبي ١٠/ ١١٠ أ.
174
قوله تعالى: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ قال عطاء والكلبي (١) ومقاتل (٢): وبشرى بالجنة للموحدين المؤمنين.
١٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ روى الأسود بن هلال (٣) عن أبي بكر الصديق، في هذه الآية، قال: استقاموا على ما افترض عليهم (٤)، وقال مقاتل: استقاموا على المعرفة فلم يرتدوا عنها (٥). وهذه الآية مفسَّرة في سورة حم السجدة [آية: ٣٠].
١٥ - قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ قد تقدَّم الكلامُ في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت [آية: ٣٠] ولقمان [آية: ١٤].
قوله: ﴿إِحْسَانًا﴾ قال مقاتل: برًّا (٦) وقرئ (إحسانًا) والإحسان خلاف الإساءة، والحسن خلاف القبح، فمن قال (إحسانًا) فحجته قوله في سورة بني إسرائيل: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] لم يختلفوا فيه، وانتصابه على المصدر، وذلك أن معنى قوله (ووصينا الإنسان): أمرناه بالإحسان أي ليأت الإحسان إليهما دون الإساءة، ولا يجوز أن يكون انتصابه بوصينا؛ لأن وصينا قد استوفى مفعوليه أحدهما: الإنسان، والآخر: المتعلق بالباء، ومن قال (حُسْنًا) كان المعنى ليأت في أمرهما أمرًا ذا حسن
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٣.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩.
(٣) هو: الأسود بن هلال المحاربي كوفي قتل في الجماجم سنة نيف وثمانين، وقيل: أدرك الجاهلية وحديثه عن الصحابة في الصحيحين وغيرهما عن معاذ بن جبل. انظر: "أسد الغابة" ١/ ٨٨، و"الإصابة" ١/ ١٠٥.
(٤) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" ١٢/ ٢/ ١٥، وذكره القرطبي في "الجامع" ١٥/ ٣٥٨.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩، ٢٠.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ١٩، ٢٠.
175
أي: ليأت الحسن في شأنهما دون القبح، وحجته ما في العنكبوت ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [آية: ٨] لم يختلف فيه، فأما الباء في قوله: ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾ فإنها تتعلق بوصينا بدلالة قوله: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٥١ - ١٥٣] ويجوز أن تتعلق بالإحسان، يدل على ذلك قوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ [يوسف: ١٠٠] وعلى هذا تعلقها بمضمر يفسره الإحسان؛ لأنه يجوز تقدمها على الموصول، ولكن يضمر ما يتعلق به، ويجعل الإحسان مفسرًا لذلك المضمر، كأنه قيل: ووصينا الإنسان أن يحسن بوالديه، ومثل هذا قول الراجز:
كان جَزَائِي بالعَصا أَنْ أُجْلَدَا (١)
في قول من علق الباء بالجلد، ولم يعلقه بالجزاء (٢) قوله: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾ وقرئ (كَرْهًا) (٣) والكَرْه المصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ، والكُرْه الاسم، كأنه الشيء المكروه، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] فهذا (٤) وقال: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩] فهذا في موضع حال، ولم تقرأ بغير الفتح، فما كان مصدرًا أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن، وما كان اسمًا نحو: ذهب به على كُرهٍ، كان الضم فيه أحسن، وقد قيل إنهما لغتان، فمن ذهب إلى ذلك جعلهما مثل الشَّرْبِ والشُّرْب، والضَّعف والضُّعف، والفَقْر والفُقْر،
(١) الرجز للعجاج. انظر: "المحتسب" ٢/ ٣١٠، و"شرح الأبيات المشكلة الإعراب" لأبي علي ص ١١٩، و"الحجة" ٦/ ١٨٢.
(٢) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٨٢.
(٣) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبو عمرو. انظر: "الحجة" ٦/ ١٨٤.
(٤) فيه زيادة لفظ (بالضم). انظر: "الحجة" ٦/ ١٨٤.
176
ومن غير المصادر الدَّفُّ والدُّف، والشَّهْد والشُّهْد (١).
قال المفسرون: حملته أمه في مشقة ووضعته في مشقة (٢)، وليس يريد ابتداء الحمل؛ لأن ذلك لا يكون مشقة، وقد قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾ [الأعراف: ١٨٩] يريد ابتداء الحمل، فإنها تحمل علقة ومضغة، فإذا ثقلت حينئذ حملته كرهًا، يدل على ما ذكرنا قول ابن عباس في هذه الآية: يريد ثقل عليها يعني الولد في حملها إياه، ووضعته كرها، يريد شدة الطلق (٣).
قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ يريد أن مدة حمله إلى أن فصل من الرضاع كانت هذا القدر، والمعنى: أنهما يقعان في ثلاثين شهرًا من ابتداء الحمل إلى أن يفصل. روى مسلم بن صبيح عن ابن عباس قال: حملته ستة أشهر والفصال حولين، وروى عكرمة عنه قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهرًا، وإذا حملته ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهرًا (٤).
وهذه الآية نازلة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٥)، روى ذلك
(١) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٨٤.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ١٥، و"تفسير الماوردي" ٥/ ٢٧٦، و"تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٨٠.
(٣) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر: ٤/ ١٠٧.
(٤) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٧، وأخرجه ابن كثير في "تفسيره" عن عكرمة عن ابن عباس ٦/ ٢٨١.
(٥) أورد ذلك المؤلف في "أسباب النزول" بدون سند ص ٤٠١، وذكره الثعلبي في تفسيره ١٠/ ١١٠ ب، وكذلك ذكره البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٨.
177
الكلبي وعطاء عن ابن عباس. وهو قول مقاتل (١) واختيار صاحب النظم قال: لأن الله تعالى قد وَقَّتَ الحمل والفصال هاهنا بتوقيت يعلم أنه قد ينقص ويزيد لاختلاف الناس في الولادة، فدل هذا على أنه مقصود به إنسان بعينه كان حمله وفصاله ثلاثين شهرًا، فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر، ويدل على ما ذكرنا قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾، إلى آخر الآية، وقد علمنا أن كثيرًا ممن بلغ هذا المبلغ من المؤمنين وغيرهم لم يكن منه هذا القول، فثبت بذلك أن هذا في إنسان بعينه وهو الصديق رضي الله عنه (٢)، والآية من باب حذف المضاف لأن التقدير: ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرًا.
قال الأزهري المعنى: ومَدَى الحَمْل للمرأة منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد عن رضاعه ثلاثون شهرًا (٣)، والكلام في معنى الفصال قد تقدم في سورة البقرة [آية: ١٢٣].
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ اختلفوا في معنى بلوغ الأشد هاهنا فروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ثمان عشرة سنة، وذلك أن أبا بكر صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في التجارة فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله من الدين فقال له: مَنْ الرجل
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٠.
(٢) وهو الذي ورد في سبب نزول الآية كما سبقت الإشارة إليه، وقد ذكر السيوطي في "الدر" أنه أخرجه ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: "الدر المنثور" ٧/ ٤٤١.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (فصل) ١٢/ ١٩٣.
178
الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبي، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره وحضوره فلما نبىء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة فأسلم وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ أربعين سنة قال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ (١) الآية.
وروى مجالد عن الشعبي قال: الأشد بلوغ الحلم، إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات (٢)، وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين (٣) والأكثرون من أهل التفسير على أنه ثلاث وثلاثون سنة وهو قول مجاهد (٤) ورواه عن ابن عباس، وقول مقاتل وقتادة، واختيار الفراء (٥) والزجاج، قال الزجاج: الأكثر أن يكون ثلاثًا وثلاثين سنة؛ لأن الوقت الذي يكمل فيه الإنسان في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ بضعًا وثلاثين سنة (٦)،
(١) ذكر ذلك المؤلف في "أسباب النزول" ص ٤٠١، وأورده البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٨، وقال رواه عطاء عن ابن عباس، وذكره القرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٤.
(٢) أخرج ذلك الطبري في تفسيره ١٣/ ٢/ ١٦، وذكره الماوردي ونسبه للشعبي ٥/ ٢٧٦.
(٣) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٢٧٧، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٤ عن الحسن.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد وقتادة، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ١٦، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٠، ونص العبارة عنده: فهو في القوة والشدة من ثماني عثرة إلى الأربعين سنة.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٢.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٢.
179
وقال الفراء: الأشبه بالصواب ثلاث وثلاثون؛ لأن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمان عشرة، ألا ترى أنك تقول: أخذت عامة المال أو كله، فيكون أحسن من قولك: أخذت أقل المال أو كله، ومثله قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ [المزمل: ٢٠] فبعض ذا قريب من بعض، فهذا سبيل كلام العرب (١).
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ قال ابن عباس: دعا ربه فقال: اللهم ألهمني (٢) ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ يريد: هديتني وجعلتني مؤمنًا صديقًا، لا أشرك بك شيئًا.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ عن علي أنه قال: هذه الآية في أبي بكر أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من الصحابة المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده (٣).
قال المفسرون: ووالداه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأم الخير بنت صخر بن عمرو (٤).
وقوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ قال ابن عباس: فأجابه الله تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يَدَع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه.
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٢.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٥، و"ابن كثير" ٦/ ٢٨٢ فقد ذكرا المعني من غير نسبة.
(٣) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" عن علي ١٠/ ١١٠ ب، وذكره البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٨، من غير نسبة، ونسبه القرطبي لعلي. انظر: ١٦/ ١٩٤، وكذلك نسبه في "الوسيط" لعلي. انظر: ٤/ ١٠٧.
(٤) ذكر ذلك البغوي في تفسيره ٧/ ٢٥٧، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٤.
180
وقوله: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ قال أبو إسحاق: معناه: اجعل ذريتي صالحين (١).
قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده (٢). وقال مقاتل: يعني واجعل أولادي مؤمنين، فأسلموا أجمعون (٣).
قال المفسرون: ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالده وبنوه وبناته إلا أبو بكر (٤).
قال مقاتل: ثم قال أبو بكر: ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من الشرك ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ يعني المخلصين بالتوحيد (٥). وقال عطاء: إني رجعت إلى كل ما تحب (٦) وأسلمت لك بقلبي ولساني.
١٦ - وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ أي أهل هذا القول: ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ قرئ بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرئ بالنون المفتوحة، وكذلك ﴿وَنَتَجَاوَزُ﴾ وكلاهما في المعني واحد؛ لأن الفعل وإن كان مبنيًّا
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٢.
(٢) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٥٨، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٥، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٠٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٠.
(٤) ذكر ذلك البغوي في تفسيره ٧/ ٢٥٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٧٨، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ١٩٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٠.
(٦) ذكر ذلك الماوردي في هذه الجملة عن ابن عباس بلفظ: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه ٥/ ٢٧٨، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" بنص عبارة المؤلف ولم ينسبه ٧/ ٣٧٨، وكذلك ذكره في "الوسيط" عن عطاء عن ابن عباس. انظر: ٤/ ١٠٨.
181
للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه، فبناؤه للمفعول في العلم بالفاعل كبنائه للفاعل كقوله: ﴿يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] والفعل معلوم أنه لله وإن بني للمفعول كقوله: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٣٥] ووجه قول من قرأ بالنون أنه قدم تقدم قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ فكذلك يُتَقَبَّلُ (١).
وقوله: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ يعني: الأعمال الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن، فالأحسن بمعنى التحسن كقوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ﴾ [الزمر: ٥٥] وقد مر، وقال بعض أهل المعاني: الحسن من الأعمال المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، والأحسن ما يوجب الثواب من خير وطاعة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ قال الحسن: هذا لمن أراد الله كرامته (٣)، وقال عطاء: يريد ما كان في الشرك.
قوله: ﴿فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾ قال مقاتل: (في) بمعنى: مع (٤)، وعلى هذا المعنى أنه يفعل بهم ما يفعل بأصحاب الجنة كما تقول: يعطى زيد مع القوم، ويجوز أن يكون المعنى: ونتجاوز عن سيئاتهم في جملة ما نتجاوز عنهم وهم أصحاب الجنة؛ لأنهم أهل التجاوز عنهم، وكأنه قال: ونتجاوز
(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون، وقرأ الباقون بالياء. انظر: كتاب "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٨٤، و"السبعة" لابن مجاهد ص ٥٩٧، و"الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٧٢، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٦٦٤.
(٢) انظر: "الجامع الأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٦.
(٣) انظر: "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٣٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢١.
182
في جملة من نتجاوز عنهم (١).
وقوله تعالى: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ قال أبو إسحاق: هو مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن قوله (نتقبل) و (نتجاوز) بمعنى الوعد لأن الله قد وعدهم القبول، فوعد الصدق توكيد لذلك (٢).
قال المفسرون: ومعنى (وعد الصدق): هو ما وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (٣)، ومعنى التجاوز في اللغة: ترك الوقوف على الشيء، يقال: جاز عنه وتجاوز، ثم استعمل بمعنى العفو؛ لأنه بمعنى الترك للذنب والمحاسبة عليه (٤)، ووعد الصدق من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله فهو كقوله (٥): ﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥] هذا على مذهب الكوفيين، وعند البصريين يكون التقدير: وعد الكلام الصدق، والكتاب الصدق فحذف الموصوف (٦).
وقوله: ﴿الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾، قال الكلبي: كانوا يوعدون في
(١) قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا التائبون إلى الله المنيبون إليه المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، فيغفر لهم الكثير من الزلل ونتقبل عنهم اليسير من العمل. انظر: "تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٨٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٣.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ١٨، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٦، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٨.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (جوز) ١١/ ١٤٩، و"الصحاح" (جوز) ٣/ ٨٧٠.
(٥) انظر: "وضح البرهان في مشكلات القرآن" ٢/ ٢٩٦.
(٦) انظر: "فتح القدير" للشوكاني ٥/ ١٩.
183
الدنيا على لسان الرسل (١)، وهو قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [التوبة: ٧٢].
١٧ - قوله: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي﴾ ذكر المفسرون في هذه الآية قولين، الأكثرون على أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر (٢)، وهو قول ابن عباس (٣) وأبي العالية والسدي ومقاتل (٤) ومجاهد قالوا: نزلت فيه قبل إسلامه (٥) كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى وهو قول "أف لكما". قال مقاتل: يعني الرديء من القول (٦)، وذكرنا تفسير أُف، والقراءة فيه في سورة بني إسرائيل [آية: ٢٣]، قال المفسرون: دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت فقال: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ أي: من القبر يعني: أبعث بعد الموت ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ يعني الأمم الخالية، فلم أر أحدًا منهم، فأين عبد الله بن جدعان، وأين عثمان بن
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٤، وذكر هذا المعنى الماوردي، ولم ينسبه. انظر: "تفسيره" ٥/ ٢٩، وأيضًا ذكره ابن الجوزي، ولم ينسبه. انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣٧٩.
(٢) أخرج ذلك البخاري في صحيحه. انظر: كتاب التفسير سورة الأحقاف باب "والذي قال لوالديه أف لكما..) ٢/ ٦ / ٤١.
(٣) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ١٩، وانظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٧٩، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٨، و"الجامع" للقرطبي ١٦/ ١٩٧.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٧، و"تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٨٤، و"تفسير مقاتل" ٤/ ٢١.
(٥) وقد ضعف هذا القول ابن كثير في تفسيره ٦/ ٢٨٤، وكذلك ضعفه ابن حجر في الفتح، فقال: قلت: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسناداً وأولى بالقبول. انظر: "فتح الباري" تفسير ٨/ ٥٧٦.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢١.
عمرو (١) وفلان وفلان (٢).
قوله تعالى: ﴿وَهُمَا﴾ يعني والديه ﴿يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾ يدعوان الله بالهدى وأن يقبل بقلبه إلى الإسلام والمعنى: يستغيثان بالله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل الفعل، ويجوز أن يكون الباء حذف لأنه أريد بالاستغاثة الدعاء على ما قال المفسرون يدعوان الله، والاستغاثة بالله دعاء ليغيثك فيما نابك، فلما أريد به الدعاء حذف الجار (٣)؛ لأن الدعاء لا يقتضيه ومثله كثير.
قوله: ﴿وَيْلَكَ﴾ أي: ويقولون له: ويلك ﴿آمِنْ﴾ صدق بالبعث ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث ﴿حَقٌّ فَيَقُولُ﴾ لهما ﴿مَا هَذَا﴾ الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه ﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وقال الحسن وقتادة: هذه الآية مرسلة عامة، وهي نعت عبد كافر عاق لوالديه (٤)، وكانت عائشة رضي الله عنها تنكر أن تكون الآية في عبد الرحمن، وقالت: إنها في فلان بن فلان وسَمَّت رجلاً (٥). وقال أبو إسحاق: من قال إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه يبطله.
١٨ - قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ الآية، فأعلم الله أن
(١) هو: عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة من عدنان جد جاهلي بنوه بطن من مزينة منهم زهير بن أبي سلمى وآخرون صحابة وشعراء محدثون.
انظر: "جمهرة الأنساب" ص ١٩٠، و"الأعلام" ٤/ ٢١٢.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١١١ أ، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٨، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٩.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٨، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١٠٩.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٩، و"الجامع" ١٦/ ١٩٧، فقد نسباه للحسن وقتادة.
(٥) انظر: "فتح الباري" ٨/ ٥٧٦، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٩، و"زاد المسير" ٧/ ٣٨٠، و"الجامع" للقرطبي ١٦/ ١٩٧.
هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وإذا أعلم بذلك فقد أعلم أنهم لا يؤمنون وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين وسرواتهم، أجاب الله فيه دعاء أبيه فأسلم، والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق (١)، وقال صاحب النظم: ذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من بر بوالديه وعمل بوصية الله، ثم ذكر من لم يعمل بالوصية فقال لوالديه: أف لكما بصفة العقوق، حيث لم يطع الله في قوله: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] وعلى هذا القول نزلت في كافر عاق مات على عقوقه وكفره، ثم دخل فيها من كان بهذه الصفة لقوله بعد هذا ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ والذين قالوا الآية في عبد الرحمن قبل إسلامه قالوا: في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾. نزل في الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله هم الذين حق عليهم القول، وليس عبد الرحمن من جملتهم؛ لأنه آمن وحسن إيمانه، ذكر ذلك الكلبي (٢) ومقاتل (٣)، وهذه الآية مفسَّرة في سورة ﴿حم﴾ السجدة [آية: ٢٥].
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ ذكر ابن عباس ومقاتل: أن هذه الآية خاصة في المؤمنين.
قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة (٤).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٣.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٩، فقد ذكر هذا القول ونسبه لابن عباس، وكذلك نسبه في "الوسيط" لابن عباس. انظر: ٤/ ١١٠.
وقال مقاتل: يعني ولكل فضائل بأعمالهم (١)، وذهب بعضهم إلى الإشارة في هذه الآية إلى إسلام عبد الرحمن، فإنه كان مسبوقًا بالإسلام، فبين الله للسابق درجة وللمسبوق درجة، ومذهب ابن زيد أن الآية في الفريقين من المؤمنين والكافرين، فقال: (ولكل) يعني من الفريقين درجات، قال: درج أهل الجنة تذهب علوًّا، ودرج أهل النار تذهب سفالاً (٢).
وقوله: ﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾ يعني: أن الدرجات المتفاوتة كانت لهم من أعمالهم ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ يريد مجازاة أعمالهم وثواب أعمالهم قاله ابن عباس، ومقاتل (٣).
٢٠ - قوله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ قال مقاتل: يعني يكشف الغطاء عنها لهم فينظرون إليها، يعني كفار مكة (٤).
قوله: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ قرئ بالاستفهام والخبر، قال الفراء (٥) والزجاج (٦): العرب توبخ بالألف، وبحذف الألف فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا، وذهبت ففعلت كذا وكذا، والمعنى في القراءتين: يقال لهم هذا فحذف القول، قال أبو علي: وجه الاستفهام أن هذا النحو قد جاء بالاستفهام نحو: ﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٤]، {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢.
(٢) أخرج ذلك الطبري عن ابن زيد. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢ / ٢٠، وانظر تفسير البغوي" ٧/ ٢٥٩، و"تفسير ابن كثير" ٦/ ٢٨٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ١٩٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢. ولم أقف على نسبته لابن عباس.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢. ولم أقف على نسبته لابن عباس.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٤.
(٦) انظر: "معانى القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٤.
إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: ١٠٦] ووجه الخبر أن المراد هاهنا التقرير، فالاستفهام مثل الخبر، ألا ترى أن هذا الاستفهام الذي يراد به التقرير لا يجاب بالفاء كما يجاب بها إذا لم يكن تقريرًا، فكأنهم يوبَّخُون بهذا الذي يخبرون به وُيبَكَّتُون (١)، قال الكلبي: يعني اللذات وما كانوا فيه من المعايش وتمتعهم بها في الحياة الدنيا (٢).
وذكر المفسرون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة أخبارًا في هذه الآية، أنهم كانوا يجتنبون نعيم العيش ولذته بالطيبات في الدنيا (٣)؛ لأن الله تعالى وبخ الكافرين بذلك، وذلك مذهب الصالحين يؤثرون في الدنيا التقشف والزهد رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، ولا عتب على المؤمن في التمتع بما أحل الله له وأباحه من نعيم العيش والتمتع بالطيبات في الدنيا، وإنما وبخ الكافر بذلك؛ لأنه تمتع بها ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبَّخ بتمتعه، وهذا معنى قول مقاتل (٤)، وهو حسن، قوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أي: تتكبرون عن عبادة الله والإيمان به ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ تعصون.
٢١ - قوله تعالى ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: واذكر يا محمد لقومك أهل مكة [وهودًا] (٥) -عليه السلام- (إذ أنذر
(١) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٨٩.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٤، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٠.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٢١، و"زاد المسير" ٧/ ٣٨٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٠٠، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢.
(٥) كذا في الأصل ولعل الصواب (هودًا). وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٢، ولم أقف على نسبته لابن عباس.
188
قومه) حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا، وقوله (بالأحقاف) قال أبوعبيد عن الأصمعي (١): الحقف الرمل المعوج، ومنه قيل للمعوج محقوقف، وقال الفراء: الأحقاف واحدها حقف، وهو المستطيل المشرف (٢).
وقال أبو عبيدة: الأحقاف الرمال، وأنشد:
باتَ إلى أرْطَاةِ حِقْفٍ أحْقَفا (٣)
قال المبرد: الأحقاف واحدها حقف، وهو الكثيب المكتبر غير العظيم وفيه اعوجاج، يقال للشيء: احقوقف، إذا هم بأن تلاقى طرفاه، كما قال العجاج:
سَمَاوَةُ الهِلالِ حتَّى احقَوْقَفَا (٤)
ويقال أيضًا في جميع الحقف حقاف وحقوف، قال امرؤ القيس:
ذِي حِقَافٍ عَقنْقَلِ (٥)
(١) انظر: قول أبي عبيد في "تهذيب اللغة" (حقف) ٤/ ٦٨، وانظر: "العين" للخليل (حقف) ٣/ ٥١.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٤.
(٣) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٣، وقد نسب هذا الرجز للعجاج، ونسبه إليه أيضًا الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٢٣، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٠٣.
(٤) انظر: "الكامل" للمرد ١/ ١٥٠، ١٥٣، و"الكتاب" لسيبويه ١/ ٣٥٩، وانظر: ملحقات "ديوان العجاج" ص ٨٤، و"تهذيب اللغة" (حقف) ٤/ ٦٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٠٣.
(٥) البيت بتمامه:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
الحقاف: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والعقنقل: الرمل المتعقد الداخل بعضه في بعض. انظر: "ديوانه" ص ١١٥، و"شرح المعلقات العشر" ص ٢٨، و"الدر المصون" ٦/ ١٤١.
189
وقال رؤبة:
مثل الأقاحِ اهْتَزَّ بالحُقُوف (١).
وذكر الكلبي سبب هذه الرمال واعوجاجها، فقال: هي رمال نضب الماء عنها زمان الغرق، كما ينضب الماء عن المكان من الجبل ويبقى أثره (٢) وينضب أيضًا عن مكان أسفل من ذلك، ويبقى أثره دون ذلك، فذلك الأحقاف.
قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة (٣)، وإليها تنسب الجمال المهرية (٤)، وقال عطاء عنه: هي رمال بلاد الشَّحر، وهو قول قتادة (٥)، وقال مقاتل: هي دكاك الرمل باليمن في حضرموت (٦) (٧).
(١) لم أقف عليه.
(٢) ذكر ذلك الثعلبي عن الكلبي ١٠/ ١١٤ أ، والقرطبي عن الكلبي ١٦/ ٢٠٤.
(٣) مَهَرة: قال العمراني: مهرة بلاد تنتسب إليها الإبل، قلت: هذا خطأ إنما مهرة قبيلة وهي مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة تنسب إليهم الإبل المهرية وباليمن لهم مخلاف يقال بإسقاط المضاف إليه، وبينه وبين عُمان نحو شهر وكذلك بينه وبين حضرموت فيما زعم أبو زيد وطول مخلاف مهرة أربع وستون درجة وعرضه سبع عشرة درجة وثلاثون دقيقة.
انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٢٣٤.
(٤) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره ١٠/ ١١٤ أ، والماوردي في تفسيره ٥/ ٢٨٢، والبغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٦٢، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٠٤.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١١٤ أ، والبغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٦٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٣.
(٧) حضرموت: ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود -عليه السلام-، ولها مدينتان يقال لإحداهما تريم وللأخرى شبام. وعندها قلاع وقرى. =
190
وقال مجاهد: هي أرض حِسْمَى (١) (٢).
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ قال مقاتل: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده إلى قومهم ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ يعني: لم يبعث رسولاً من قبل هود ولا من بعد هود إلا أمر بعبادة الله وحده (٣).
وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ﴾ كلامٌ اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه (٤)، لأن التقدير: إذ أنذر قومه بالأحقاف فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ فذكر فصلاً مؤكدًا لهذا الكلام، ثم عاد إلى كلام هود لقومه بقوله (٥):
٢٢ - ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وهذا معنى قول مقاتل، فقالوا لهود: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: لتصدنا عن
= وقال ابن الفقيه: حضرموت مخلاف من اليمن بينه وبين البحر رمال، وبينه وبين مخلاف صُداء ثلاثون فرسخًا. وقيل: مسيرة أحد عشر يومًا. وقال الإصطخري: بين حضرموت وعدن مسيرة شهر. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٧٠.
(١) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٢٣، وأورده الثعلبي في تفسيره ١٠/ ١١٤ أ.
(٢) حسمى: بالكسر ثم السكون مقصور، يجوز أن يكون أصله من الحسم وهو المنع. وهو أرض ببادية الشام، بينها وبين وادي القرى ليلتان، وأهل تبوك يرون جبل وحسمى في غربيهم وفي شرقيهم شَرَورَى، وبين وادي القرى والمدينة ست ليال. وحِسمى أرض غليظة وماؤها كذلك لا خير فيها ويقال آخر ماء نضب من ماء الطوفان حسمى فبقيت منه هذه البقية إلى اليوم فلذلك هو أخبث ماء. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٥٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٣.
(٤) انظر: "راد المسير" ٧/ ٣٨٤.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣٨٤.
عبادة آلهتنا (١).
وقال أبو إسحاق: لتصرفنا عنها بالإفك (٢) (٣)، ثم استعجلوا العذاب فقالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ من العذاب ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ إن العذاب نازل بنا، قال هود:
٢٣ - ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي هو يعلم متى يأتيكم العذاب، وهذا معنى قول المفسرين (٤)، يعني: يعلم نزول العذاب بكم، ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ أي: من الوحي والإنذار، يعني: أنا مبلغ والعلم بوقت العذاب عند الله و ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ قال عطاء: تجهلون عظمة الله وما يراد بكم من العذاب، وقال الكلبي: تجهلون الأمر أنه من الله (٥)، وقال أبو إسحاق: أي أدلكم على الرشاد وأنتم تصدون وتعبدون آلهة لا تنفع ولا تضر (٦).
٢٤ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ ذكر المبرد في الضمير في (رأوه) قولين أحدهما: أنه عاد إلى غير مذكور وبَيَّنه قولُه تعالى: ﴿عَارِضًا﴾ (٧)، كما قال: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥] ولم يذكر الأرض، ولكن يدل عليها العلم بها وما دل عليه الكلام، وعلى هذا الضمير يعود إلى السحاب كأنه قيل: فلما رأوا السحاب عارضًا، وهذا قول المفسرين
(١) انظر: "الطبري" ١٣/ ٢/ ٢٤، و"القرطبي" ١٦/ ٢٠٥، و"تفسير مقاتل" ٤/ ٢٣.
(٢) أفَكَ يأفِكُ وأفِكَ يَأفَكْ إذا كذب، والإفْكُ: الإثم، والإفك: الكذب. انظر: "تهذيب اللغة" (أفك) ١٠/ ٣٩٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٥.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٢٥، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٦٣.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٥ ولم أقف على قول عطاء.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٥.
(٧) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٠٥.
192
واختيار الزجاج (١)، ويكون هذا من باب الإضمار على شريطة التفسير، القول الثاني: أن الضمير عاد إلى: (ما) في قوله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾، فلما رأوا ما يوعدون (٢) عارضًا.
قال أبو زيد: العارض السحاب يراها في ناحية السماء (٣).
وقال أبو عبيدة: العارض من السحاب الذي يرى في قطر من أقطار السماء بالعشي، ثم يصبح وقد حبا حتى استوى (٤)، وهذا قول مقاتل: العارض بعض السحابة ثم تطبق السماء (٥).
قوله: ﴿مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ قال المفسرون: كان عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث (٦)، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا (٧) ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ والمعنى: ممطر إيانا، وهذا كقوله: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥]، وقد مر.
قال عمرو بن ميمون: كان هو قاعدًا في قومه فجاء سحاب
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٢٥، و"تفسير الثعلبي" ١٠/ ١١٤ ب، و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٥.
(٢) ذكر القولين السمين الحلبي في "الدر المصون" ٦/ ١٤١.
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٦٩.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٣.
(٦) المُغِيث: بالضم ثم الكسر وآخره ثاء مثلثة: اسم الوادي الذي هلك فيه قوم عاد، وقال أبو منصور: بين معدن النَّقْرة والرَّبذة ماء يعرف ماوان ماء وشروب. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ١٦٢.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٢٥، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١١٤ ب.
193
مكفهر (١)، فقالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال هود: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ (٢) قال مقاتل: وكان استعجالهم حين قالوا لهود: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ (٣) ثم بين ما هو فقال: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، قال ابن عباس: كانت الريح تطير بهم بين السماء والأرض حتى أهلكتهم (٤).
٢٥ - ثم وصف الريح فقال: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ قال مقاتل: تهلك كل شيء من الناس والدواب والأموال (٥).
وقال ابن عباس: يريد كل شيء بعثت إليه (٦).
﴿بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ بإذن ربها ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ يعني: عادًا ﴿لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ قرأه عاصم وحمزة: ﴿يُرَى﴾ بالياء مضمومة ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾ بالرفع، قال أبو إسحاق: تأويله لا يرى شيئًا إلا مساكنهم؛ لأنهم قد هلكوا (٧).
قال أبو علي: تذكير الفعل في هذه القراءة أحسن من لحاق علامة التأنيث، من أجل جمع المساكن، وذلك أنهم حملوا الكلام في هذا الباب على المعنى، فقالوا: ما قام إلا هند، ولم يقولوا: ما قامت، لما كان
(١) قال الأصمعي: (المكفهِرَ من السحاب: الذي يَغلَظ ويركَبْ بعضهُ بعضًا)، انظر: "تهذيب اللغة" (المكفهر) ٦/ ٥٠٨.
(٢) أخرج ذلك الطبري عن عمرو بن ميمون انظر "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٢٦.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٣.
(٤) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" عن ابن عباس ١٦/ ٢٠٦، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر: ٤/ ١١٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٥.
(٦) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٠٦.
(٧) انظر: "معاني الزجاج" ٤/ ٤٤٦.
المعنى: ما قام أحد، حملوه على هذا، وإن كان المؤنث يرتفع بهذا الفعل والتأنيث فيه لم يجيء إلا في شذوذ وضرورة (١)، كقوله:
فما بَقِيتْ إلا الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ (٢)
وقرأ الباقون: (لا تَرى) بفتح التاء (إلا مساكنَهم) بالنصب على معنى: لا ترى أيها المخاطب، والمساكن مفعول بها، و (ترى) في القراءتين جميعًا من رؤية العين، المعنى: لا تشاهد شيئًا إلا مساكنهم، كأنها قد زالت عما كانت عليه من كثرة الناس بها وما يتبعهم مما يقتنونه (٣).
٢٦ - قال ابن عباس: فلم يبق إلا هود ومن آمن معه.
ثم خوف كفار مكة وذكر فضل عاد بالقوة والأجسام عليهم فقال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ قال مقاتل: أي: من الخير والتمكين في الأرض (٤).
وقال الكلبي: يعني: ملكنا عالاً وأمهلناهم من العمر فيما لم نمكن لكم من العمر والمهلة (٥)، والمعنى: مكناهم في الشيء الذي لم نمكنكم فيه يا أهل مكة من الدنيا وكثرة الأموال وشدة الأبدان.
(١) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي ٦/ ١٨٦.
(٢) هذا عجز بيت لذي الرمة وصدره قوله:
بَرَى النَّحْزُ والأجْرَازُ ما في غُرُوضِها
انظر: "ديوانه" ص ٣٤١، و"المحتسب" ٢/ ٢٠٧، و"الحجة" ٦/ ١٨٦، و"الدر المصون" ٦/ ١٤٢.
(٣) انظر: "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٧٤، و"إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٦.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥٠٥.
195
قال المبرد: (مَا) في قوله: ﴿فِيمَا﴾ بمنزلة (الذي)، و (إِن) بمنزلة (ما) وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه (١)، ونحو هذا قال الكسائي والفراء (٢)، والزجاج وزاد بيانًا فقال: (إن) في النفي مع (ما) التي في معنى (الذي) أحسن اللفظ من (ما) لاختلاف اللفظين (٣).
وقال ابن قتيبة: معنى الآية: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ فزيدت (أن) (٤)، فقال ابن الأنباري (٥): وهذا غلط لأن كتاب الله -عز وجل- ليس فيه حرف لا معنى له، بل كل حرف يفيد فائدة ويزيد معنى، والعرب لا تزيد (إن) على (ما) إذا كانت بمعنى (الذي) والاستفهام والتعجب، بل يزيدونها عليها إذا كانت جحدًا على جهة التوكيد بها، فيقولون: ما إن قمت، وما إن لقيت عبد الله، يؤكدون الجَحْد "بإن" قال دريد ابن الصمة:
ما إنْ رأيتُ ولا سُمِعتُ به كاليَوْمِ طالي أَيْنُقٍ صُهْب (٦)
أراد: ما رأيت، وقال لبيد:
غُودِرت بعدَهم وكنتُ بطُولِ صُحْبتِهِم ضَنِينَا ما إنْ رِأيْتُ ولا سَمِعْتُ بمِثْلِهِم في العَالَمِينا (٧)
(١) انظر: "الدر المصون" ٦/ ١٤٢، و"تفسير الفخر الرازي" ٢٨/ ٢٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٦/ ٥٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٦.
(٤) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ٢/ ١٣٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٠٨.
(٥) ذكر في "كتاب الاضداد" حول هذه الآية ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ معناه: في الذي قد مكناكم فيه. انظر: "كتاب الأضداد" ص ١٨٩.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) لم أقف عليه.
196
والعرب تجمع بين الحرفين إذا اتفق معناهما إذا كان لفظهما مختلف كقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠]. و (ما) في هذه الآية بمعنى (الذي) فلا يزاد معها (إن) لا يقال: ما إن قبضت ديناراك، بمعنى الذي قبضت ديناراك، ثم ذكر الله تعالى أنهم أعرضوا عن قبول الحجج والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله تعالى من الحواس التي بها تدرك الأدلة قال: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ الآية، وفي هذا تخويف لأهل مكة، وضرب المثل لهم بحالة من قبلهم، فإنهم لما لم يستدلوا على توحيد الله ولم يقبلوا ممن دعاهم إليه لزمتهم الحجة ولم تغن عنهم مدارك الأدلة شيئاً، فأهل مكة إن صنعوا كصنعهم استحقوا مثل عذابهم، ثم زاد في التخويف فقال:
٢٧ - ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى﴾ قال ابن قتيبة: يريد: باليمن والشام (١) ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾ بيناها ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ لعل أهل القرى ﴿يَرْجِعُونَ﴾، والمراد بالتصريف التقديم؛ لأنه كان قبل الإهلاك، وقال قوم: تقدير الكلام: وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلم يرجعوا ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾.
٢٨ - فلم ينصرهم منا ناصر وهو قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
(١) قول قتيبة هذا غير موجود في تأويل المشكل، وتفسير غريب القرآن، والذي ذكر الطبري، قال كحجر ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٢٩. وقال الثعلبي: كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوها. انظر "تفسيره" ١٠/ ١١٦ أ.
وقال في "الوسيط": وأراد بالقرى المهلكة باليمن والشام، انظر: ٤/ ١١٤، وقال القرطبي: يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. انظر: "الجامع" ١٦/ ٢٠٩.
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} وهذا يدل على أنه لم ينصرهم من الله ناصر حين حلَّ بهم العذاب، وقولهم: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا﴾ القربان: ما يتقَرَّبُ به إلى الله (١) وهو في الأصل مصدر، وقد مر (٢)، قال ابن قتيبة: اتخذوهم آلهة يتقرب بها إلى الله (٣).
قوله تعالى: ﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ﴾ أي: اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم، و (اتخذوا) يدل على الاتخاذ.
٢٩ - قوله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ قال المفسرون: لما أيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة فكان ببطن نخلة (٤) قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر مَرَّ به نفر من أشراف حسن نصيبين كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فدفعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي فاستمعوا لقراءته، وهذا قول ابن عباس في رواية مجاهد والكلبي وقول عبد الله وسعيد بن جبير ومقاتل (٥).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (قرب) ٩/ ١٢٤.
(٢) ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ [المائدة: ٢٧].
(٣) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ٢/ ١٣٠.
(٤) هي: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، ينهما الطرف على الطريق وهو بعد أبرق العزّاف للقاصد إلى مكة، انظر: "معجم البلدان" ١/ ٤٤٩ - ٤٥٠، وقال ابن حجر: هي موضع بين مكة وطائف. قال البكري: على ليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة ووقع في رواية مسلم بنخل بلا هاء والصواب إثباتها، انظر: "فتح الباري" / ٦٧٤.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٣٠، و"تفسير مجاهد" ص ٦٠٣، و"تنوير المقباس" ص ٥٠٦ و"تفسير مقاتل" ٤/ ٢٧، و"الدر المنثور" ٧/ ٤٥٢، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٥.
198
وقال آخرون: بل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر الجِنَّة ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفر من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، وهذا معنى قول قتادة (١)، واختلفوا في عدد النفر، فقال ابن عباس: كانوا سبعة (٢)، وقال الكلبي ومقاتل (٣): كانوا تسعة، وهو قول زر بن حبيش (٤)، وقوله: ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ من صفة النكرة، وهذا يدل على أنهم أتوا لاستماع القرآن؛ لأن المعنى: نفرًا مستمعين القرآن، أي طالبين سماعه، فهذا يدل على صحة القول الثاني.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ إن عاد الضمير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو من تلوين الخطاب، وإن عاد إلى القرآن وهو الظاهر، فالمعنى: فلما حضروا استماعه (٥) قالوا: انصتوا، قال زر بن حبيش: قالوا صَهٍ (٦)، وهو كلمة الإسكات.
(١) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣٨٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٢.
(٢) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٣٠، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر: ٤/ ١١٥.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥٠٦، و"تفسير مقاتل" ٤/ ٢٧، ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد لابن عباس، انظر: ٧/ ١٠٦، ونسبه في "الوسيط" للكلبي ومقاتل، انظر: ٤/ ١١٥.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن زر بن حبيش، انظر: تفسيره ١٣/ ٢/ ٣١، ونسبه الهيثمي في "مجمع الزوائد" لزر بن حبيش وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. انظر: "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠٦، وهو في "كشف الأستار" ٣/ ٦٨ عن زر.
(٥) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٥، و"الدر المصون" ٦/ ١٤٤.
(٦) أخرج ذلك الطبري عن زر. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٢/ ٣٣، وأخرجه الهيثمي في "كشف الأستار" عن زر. انظر: "كشف الأستار" ٣/ ٦٨.
199
قال ابن عباس والمفسرون: قال بعضهم لبعض اسكتوا (١)، وذلك أنهم ازدحموا وركب بعضهم بعضًا حبًا للقرآن وحرصاً عليه، قال ابن مسعود: لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن ليلة الجن غشيته أسودة كثيرة (٢).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ قال أبو إسحاق: أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرغ منه (٣). ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد بما أمرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من توحيده وفرائضه وأحكامه (٤).
والمعنى: أن هؤلاء الذين استمعوا القرآن انصرفوا إلى قومهم بعد الاستماع محذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا، وهذا يدل على أن هؤلاء آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يؤمنوا لم يخبر عنهم بإنذار قومهم، ولهذا قال مقاتل في تفسير (منذرين): مؤمنين (٥).
٣٠ - ثم أخبر عنهم بما قالوا لقومهم وهو قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ يعنون القرآن، قال مقاتل: وكانوا مؤمنين بموسى (٦).
٣١ - قوله تعالى: ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس والمفسرون:
(١) ذكر المعنى من غير نسبة البغوي في "تفسيره" ٧٥/ ٢٦٩، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢١٥.
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٧.
(٤) أخرج الطبري عن ابن عباس يقول: انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٣٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٧.
(٦) المرجع السابق.
يعنون محمداً -صلى الله عليه وسلم- قالوا: وهذه القصة تدل على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم-كان مبعوثًا إلى الجن كما كان مبعوثًا إلى الإنس (١) (٢).
قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيًا إلى الإنس والجن قبله -صلى الله عليه وسلم- (٣).
٣٢ - وقوله: ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل يقول: لا يعجز الله فيسبقه ويفوته، ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ﴾ أنصار يمنعونه من الله ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: الذين لا يجيبون إلى الإيمان ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قال مقاتل: فأقبل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجن الذين أنذروا سبعون رجلاً فقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم (٤). واختلفوا في حكم مؤمني الجن؛ فروى سفيان عن ليث قال: الجن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم (٥)، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم قالوا: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، وتأولوا قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (٦).
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٧٠، و"زاد المسير" ٧/ ٣٩٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٧، و"تفسير ابن كثير" ٦/ ٣٠٤، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٥.
(٢) ومما يدل على ذلك بما ورد في "صحيح مسلم" كتاب المساجد ومواضع الصلاة ١/ ٣٧٠، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت خمساً لم يطهن أحد قبلي.. ". وذكر منها: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود". قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٧.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٣٠، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٥.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٢٨
(٥) أخرج ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٢٠ أ، وأورده البغوي في تفسيره ٧/ ٢٧٠.
(٦) ذكر ذلك البغوي في تفسيره ٧/ ٢٧٠، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢١٧.
وذهب قوم إلى أنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون بالإحسان، وهو مذهب مالك وابن أبي ليلى (١) قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون (٢).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ﴾ قال مقاتل (٣): نزلت في أبي بن خلف الجمحي حين أنكر البعث، وقد مضت القصة في آخر سورة يس [آية: ٧٧] (٤).
واختلفوا في وجه دخول الباء في قوله: ﴿بقادر﴾ وهو خبر (أن) والباء لا تدخل في خبرها، فقال أبو عبيدة: مجازها قادر، والعرب تؤكد الكلام بالباء وهي مُسْتغنًى عنها (٥).
وقال الأخفش: هذه الباء كالباء في قوله: ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [يونس: ٢٩] وقوله: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ (٦) [المؤمنون: ٢٠] فعلى قولهما الباء زائدة مؤكدة.
(١) ذكر ذلك الثعلبي في تفسيره. انظر: ١٠/ ١٢٠ أ، والبغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٧٠، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢١٨.
(٢) أخرج ذلك الثعلبي عن الضحاك. انظر المراجع السابقة.
وقال ابن كثير في تفسيره: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل لهذا بقوله -عز وجل-: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾، وفي هذا الاستدلال نظر. وأحسن منه قوله جل وعلا: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.. ٦/ ٣٠٥.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٣٠.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن مجاهد. انظر: "تفسيره" ١٢/ ٣٠، وأورده الواحدي في "أسباب النزول" ص ٣٨٥، والبغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٨.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٣.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٩٤.
202
وقال الفراء: دخلت الباء لِلَم، والعرب تدخلها مع الجحد مثل قولك: ما أظنك بقائم، وما أظن أنك بقائم، وأنشد:
فَما رَجَعَتْ بخاَئِبةٍ رِكَابُ حَكِيمُ بنُ المسَيَّبِ مُنْتهَاها (١)
وهذا مذهب الكسائي (٢)، ونحو هذا قال الزجاج، وزاد بيانًا فقال: لو قلت: ظننت أن زيدًا بقائم، لم يجز ولو قلت: ما ظننت أن زيدًا بقائم، جاز بدخول (ما) قال ودخول (إن) إنما هو توكيد الكلام فكأنه في تقدير: أليس الله بقادر على أن يحيى الموتى (٣).
وزاد أبو علي شرحًا فقال: هذا من الحمل على المعنى، وأدخل الباء لما كان الكلام في معنى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ﴾ [يس: ٨١].
قال: ومثل ذلك من الحمل على المعنى:
بَادَتْ وغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ البِلَى إلاَّ رَوَاكدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاءُ (٤)
ومُشَجَّجٌ أمَّا سَواءُ قَذَاله فبدا وغيب سَارَه المَعْزَاءُ (٥)
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٥٦، ٥٧، وانظر: "مغني اللبيب" ١/ ٩٤، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٣٥، وانظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي ص ٥٥، وقد نسبه: للقحيف العقيلي. وانظر: "بصائر ذوي التمييز" للفيروزابادي ٢/ ١٩٥.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ١٧٤.
(٣) انظر:"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٧.
(٤) معنى بادت: تغيرت وبليت، أي: غير البيود آيهن، والآي: جمع آية، وهي آثار الديار وعلاماتها، والبلى: تقادم العهد، والرواكد: الأثافي لركودها وثبوتها، والهباء: الغبار جعل الجمر كالهباء لقدمه وانسحاقه.
(٥) هذا موضع الشاهد والمشجج: الوتد من أوتاد الخباء وتشجيجه: ضرب رأسه لتثبيته، والقذال: عني به أعلى الوتد وهو من الدابة معقد العذار بير الأذنين وسواؤه: وسطه، وساره: سائره أي جميعه، وهي لغة في سائره. والمعزاء: =
203
لما كان معنى الكلام: بها رواكد، حمل مشجج على ذلك (١).
٣٥ - قوله: ﴿كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ تفسير العزم قد تقدَّم ذكره [البقرة: ٢٢٧، وآل عمران: ١٥٩] قال ابن عباس في رواية عطاء وأبي صالح: يريد نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، ونحو هذا روى معمر عن قتادة (٢).
وقال أبو العالية: هم ثلاثة: نوح وإبراهيم وهود، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رابعهم (٣).
وقال الحسن: هم أربعة إبراهيم وموسى ودواد وعيسى، أما إبراهيم فإنه ابتلي في نفسه وولده ووطنه فوجد صادقًا، وأما موسى فإنه عزم ولم يشك حين قال له قومه: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا﴾ [الشعراء: ٦١]. وأما داود فإنه لما نُبِّهَ على زلته بكى أربعين سنة، وأما عشى فإنه لم يضع في الدنيا لبنة على لبنة (٤).
= الأرض الحزنة الغليظة ذات الحجارة جمعها الأماعز، وكانوا ينحرون النزول في الصلابة ليكونوا بمعزل عن السيل، والشاهد فيه رفع مشجج على المعنى.
والبيتان لذي الرمة وقيل للشماخ. انظر: ملحقات "ديوان ذي الرمة" ٣/ ١٨٤، و"ديوان الشماخ" ص ٤٢٨، و"الكتاب" لسيبويه ١/ ١٧٣، و"اللسان" (شجج) ٢/ ٣٠٤.
(١) انظر: "الحجة" لأبي علي ٥/ ٣١٣، ٦/ ١٨٧.
(٢) أخرج ذلك الطبري عن عطاء ١٣/ ٢/ ٣٧، وانظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٨٨، و"البغوي" ٧/ ٢٧٢، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢١٩، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٦.
(٣) نظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٨٨، و"زاد المسير" ٧/ ٣٩٢، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٢٠، و"تفسير أبي الليث السمرقندي" ٣/ ٢٣٧.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢١ ب. و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٢١، عن الحسن، وانظر: تفسير الحسن ٢/ ٢٨٦.
204
وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح (١)، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر على البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر (٢).
وقال الكلبي: هم أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين (٣)، فهذا قول المفسرين في تفسير أولي العزم من الرسل.
وأما أهل المعاني والمحققون من العلماء فإنهم قالوا: كل الرسل أولو العزم، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل.
و (من) في قوله: (من الرسل) تبيين لا تبعيض (٤) كما يقال: أكسية من الخز، وكأنه قيل له: اصبر كما صبر الرسل قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم لصبرهم ورزانتهم.
وهذا قول ابن زيد (٥) وذكره الكلبي فقال: ويقال كل الرسل قد كان ذا عزم (٦).
(١) هذا على القول بأن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، وهو قول ضعيف.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٣١، ٣٢، و"الثعلبي" ١٠/ ١٢١ ب، و"البغوي" ٧/ ٢٧٢.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢١ أ، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧١، عن الكلبي، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٦.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢١ أ، و"وضح البرهان في مشكلات القرآن" ٢/ ٢٩٨، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧١
(٥) أخرج ذلك الطبري عن ابن زيد. انظر: تفسيره ١٣/ ٢/ ٣٧، و"تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢١ أ، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧١.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢١ أ، و"تنوير المقباس" ص ٥٠٦.
205
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد العذاب، ومفعول الاستعجال محذوف من الكلام، وهو ما ذكره ابن عباس (١)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ضجر بعض الضمير وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر أن ذلك منهم قريب (٢) بقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ أي: من العذاب في الآخرة: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ وقال الكلبي: لم يمكثوا في القبور إلا ساعة (٣)، وقال مقاتل: لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار (٤)، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا؛ ولأن الشيء إذا مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً ألا تسمع قول القائل:
كأنَّ شيئًا لم يَكُنْ إذا مَضَى كأنَّ شيئًا لم يَزَل إذا أَتَى (٥)
وتم الكلام (٦) ثم قال: ﴿بَلَاغٌ﴾ أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم كما قال: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٥٢] الآية، والبلاغ بمعنى التبليغ، وهذا مذهب المفسرين والقراء، من أن قوله (بلاغ)
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢/ ٣٧، و"تفسير الثعلبي" ١٢٢/ ١٠ ب، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧٢، فقد ذكروا المعنى ولم ينسبوه لابن عباس.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٢، و"زاد المسير" ٧/ ٣٩٣، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٧.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٢٨٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٢٢، وقد نسبا القول للنقاش.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٣٢، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢ / ٣٧.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "القطع والائتناف" ص ٦٦٤.
206
ابتداء كلام آخر (١)، وقال مقاتل في قوله (بلاغ) يقول: كأنهم تبلغوا فيها، والبلاغ على هذا القول بمعنى التبليغ (٢)، والمعنى: أن طول لبثهم في الدنيا كأنه تبلغ. والقول هو الأول.
قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي: العاصون الخارجون عن أمر الله. يعني: أن العذاب لا يقع إلا بهم فيما بلغهم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الله، ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية (٣).
قال أبو إسحاق تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وتفضله إلا القوم الفاسقون (٤).
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٢ ب، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧٣، و"زاد المسير" ٧/ ٣٩٣، و"القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٦٤، و"النشر في القراءات العشر" ص ٤٨٢.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٣٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٨، و"تفسير البغوي" ٧/ ٢٧٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٢٢، و"تفسير الوسيط" ٤/ ١١٧.
(٤) انظر:"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤٤٨.
207
سورة محمد
209
Icon