ﰡ
وتسمى: سورةَ القتال، مدنية بإجماع، وقيل: إنَّ قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾ الآية نزلت بمكة في وقت دخول النّبيّ - ﷺ - فيها عام الفتح، أو سنة الحديبية، وما كان مثل هذا، فهو معدود في المدني؛ لأنّ المراعى في ذلك إنّما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها، وآيها: ثمان وثلاثون آية، وحروفها: ألفان وثلاث مئة وتسعة وأربعون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وتسع وثلاثون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١)﴾.[١] ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مبتدأ ﴿وَصَدُّوا﴾ نفوسهم وغيرهم.
﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: شرعِ الله وطريقِه الّذي دعا إليه، وهو الإسلام، وخبر المبتدأ.
﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أبطلها، فلم يقبلها، وهي ما فعلوا من إطعام الطّعام وصلة الأرحام، والإشارة في ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى أهل مكّة الذين أخرجوا رسول الله - ﷺ -.
* * *
[٢] ثمّ أشار إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مبتدأ أيضًا ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ يعني: القرآن.
﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وسمي دينُ محمّد حقًّا؛ لأنّه لا يردُ عليه النسخ، وخبر المبتدأ.
﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ سترها بالإيمان.
﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ حالَهم؛ بتوفيقه.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣)﴾.
[٣] ﴿ذَلِكَ﴾ الواقع من الضلالة والهدى ﴿بِأَنَّ﴾ أي: بسبب أن.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾ الشيطانَ.
﴿وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهو القرآن.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلك الضرب.
﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ أي: يذكر لهؤلاء النَّاس قصصَ أمثالهم؛ ليتعظوا بهم.
* * *
[٤] ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في المحاربة ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ مصدر بمعنى الفعل؛ أي: فاضربوا الرقاب ضربًا، المعنى: إذا لقيتموهم، فاقتلوهم، وعَيَّنَ من أنواع القتل أشهرَه وأعرفه، فذكره.
﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ﴾ أكثرتم فيهم القتل، وأوهنتموهم به.
﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ أي: فَأْسِروهم، واحتفظوا بهم حتّى لا يُفلتوا منكم، ولما قوي الإسلام، نزل:
﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ﴾ أي: تمنون عليهم منًّا بإطلاقهم بعد أسرهم.
﴿وَإِمَّا فِدَاءً﴾ أي: تفادوهم فداء؛ أي: أنتم مخيرون في ذلك.
﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ﴾ أي: أصحابها.
﴿أَوْزَارَهَا﴾ سلاحها، فيمسكوا عن الحرب، وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان.
واختلفوا في حكم الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧]، وبقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وهو قول أبي حنيفة، وذهب آخرون إلى أنّها محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض، أو يفاديهم بالمال، أو بأسارى المسلمين، وهو قول الشّافعيّ ومالك وأحمد؛ لأنّه
وجاء في الحديث عن النبي - ﷺ -: "الجهادُ ماضٍ منذُ بعثني الله إلى أن يُقاتل آخر أُمتي الدجَّالَ" (٢).
﴿ذَلِكَ﴾ أي: الأمر ذلك ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ﴾ فأهلكهم بغير قتال.
﴿وَلَكِنْ﴾ أمركم بالقتال ﴿لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ ليختبر المؤمنين بالكافرين؛ بأن يجاهدوهم، فيستوجبوا (٣) الثّواب، والكافرين بالمؤمنين؛ بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم؛ ليرتدع بعضهم عن الكفر.
﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (قُتِلُوا) بضم القاف وكسر التاء من غير ألف بينهما؛ يعني: الشهداء، وقرأ الباقون: بفتح القاف والتاء وألف بينهما (٤)؛ يعني: المجاهدين.
(٢) رواه أبو داود (٢٥٣٢)، كتاب: الجهاد، باب: في الغزو مع أئمة الجور، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) في "ت": "فيستجيبوا".
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠٠)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٨٤).
* * *
﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥)﴾.
[٥] ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات.
﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم.
* * *
﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ أي: عرفهم منازلَهم فيها.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)﴾.
[٧] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾ أي: دينَه.
﴿يَنْصُرْكُمْ﴾ على أعدائكم.
﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ عند القتال.
* * *
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: تَعِسوا، يدلُّ عليه: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ أي: عِثارًا وسقوطًا، ودخلت الفاء للجزاء، وتعطف على تعسوا المحذوف.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩)﴾.
[٩] ﴿ذَلِكَ﴾ التعسُ والإضلالُ.
﴿بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من القرآن وأحكامِه.
﴿فَأَحْبَطَ﴾ أبطلَ ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾.
* * *
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠)﴾.
[١٠] ثمّ خّوَّف الكفار فقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ أهلكهم وأموالهم وأولادهم.
﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ أمثالُ عاقبة المدمَّرِ عليهم إنَّ لم يؤمنوا، توعُّد لمشركي مكّة.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (١١)﴾.
[١١] ﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ من نصر المؤمنين وقهر الكافرين ﴿بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وليهم وناصرهم ﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ يُنجيهم، والمراد: ولاية النصرة، لا ولاية العبودية؛ فإن الخلق كلهم عباده تعالى.
* * *
[١٢] ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ﴾ في الدنيا ﴿وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ ليس لهم همة إِلَّا بطونهم وفروجهم، ولا يفكرون في مآلهم ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ أي: موضع إقامتهم.
* * *
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ﴾ أهل (١) ﴿قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْك﴾ أي: أخرجك أهلُها، المعنى: كم رجال هم أشدُّ من أهل مكّة.
﴿أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُم﴾ من إهلاكنا. وتقدم اختلاف القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورة الحجِّ عند قوله تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ قال ابن عبّاس: لما خرج رسول الله - ﷺ - من مكّة إلى الغار، التفت إلى مكّة وقال: "أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأحبُّ بلاد الله إليَّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني، لم أخرجْ منك"، فأنزل الله هذه الآية (٢).
* * *
(٢) رواه عبد الرزّاق في "المصنِّف" (٨٨٦٨)، والإمام أحمد في "المسند" (٤/ ٣٠٥)، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ٣٠٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[١٤] ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ يقينٍ من دينه، وهم النّبيّ - ﷺ - والمؤمنون، وخبر (مَنْ):
﴿كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ وهم مشركو مكّة ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ المعنى: لا مساواة بين المهتدي والضال.
* * *
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ أي: صفتها.
﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ قرأ ابن كثير: (أَسِنٍ) بقصر الهمزة، والباقون: بمدها (١)؛ أي: غير متغير الطعم والرائحة.
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ كلبن الدنيا.
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ لم تَدُسْها الأرجل، ولم تدنسها الأيدي؛ لأنّ خمر الدنيا كريهة الطعم عند التناول، وشربها يبعد من الله تعالى؛
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ لا شمعَ فيه ﴿وَلَهُمْ فِيهَا﴾ مع كلّ (١) ذلك.
﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ أصناف ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ عطف على الصنف المحذوف؛ أي: ونعيم أعطته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة إنّما هي قبل الجنَّة.
﴿كَمَنْ﴾ أي: أمثال أهل الجنَّة وهي بهذه الأوصاف كمن.
﴿هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا﴾ شديدَ الحر يُسقط فروةَ الوجه عند الشرب.
﴿فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُم﴾ ما في بطونهم من الحوايا؛ من فرط الحرارة، فخرجت من أدبارهم.
* * *
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَمِنْهُمْ﴾ أي: المنافقين ﴿مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ ولا يَعون كلامَك.
﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ من الصّحابة؛ استهزاءً وسخرية.
﴿مَاذَا قَالَ﴾ محمّد ﴿آنِفًا﴾ قرأ البزي عن ابن كثير بخلاف عنه: (أَنِفًا) بقصر الهمزة، والباقون: بمدها (٢)؛ يعني: الآن، ونصبه ظرف؛ أي: وقتًا مؤتنفًا، وذلك أن النّبيّ - ﷺ - كان يخطب، ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٨٨).
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ بالنفاق ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم﴾ في الكفر، فلا يؤمنون.
* * *
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ وهم المسلمون ﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ علمًا وبصيرة.
﴿وَآتَاهُمْ﴾ تعالى ﴿تَقْوَاهُمْ﴾ أي: جعلهم متقين.
* * *
﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون ﴿إِلَّا السَّاعَةَ﴾ وتبدل من (السّاعة) بدلَ اشتمال ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ علاماتُها، وبَعْثُه - ﷺ - من أشراطها، ومن أشراطها: أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل والربا وشرب الخمْرِ، ويقل الرجال ويكثر النِّساء، حتّى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد (٢).
(٢) رواه البخاريّ (٨٠)، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وظهور الجهل، ومسلم (٢٦٧١)، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزّمان، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَشْرَاطُهَا) كاختلافهم فيهما من قوله (٢): (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ) في سورة الحجِّ [الآية: ٦٥].
﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم السّاعة؟ لا ينفعهم ثَمَّ، نحو: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: ٢٣].
* * *
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿فَاعْلَمْ﴾ يا محمدُ ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ أي: دُمْ موحِّدًا.
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ ليستنَّ بك غيرُك.
﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ لتغفرَ ذنوبُهم.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ﴾ منصرَفكم في الدنيا.
﴿وَمَثْوَاكُمْ﴾ مصيرَكم في الآخرَة إلى الجنَّة أو النّار.
* * *
(٢) "قوله" ساقطة من "ت".
[٢٠] ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ حرصًا على طلب الجهاد: ﴿لَوْلَا﴾ هلَّا.
﴿نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ فيها ذكرُ الجهاد.
﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ مثبتة غير منسوخة الأحكام من الجهاد وغيره.
﴿وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾ أي: الأمر به.
﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي: شك، وهم المنافقون.
﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نظَرَ﴾ أي: نظرًا مثل ﴿الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ إذا نزل به، وعاين الملائكة؛ بغضًا لك، وخوفًا منك ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ وعيد بمعنى: فويل؛ أي: قَرُبَ منهم ما يكرهون.
* * *
﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ استئناف، والخبر محذوف؛ أي: هما خير لهم، والقول المعروف: هو الأمر المرضي.
﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ أي: جَدَّ ولزمَ فرضُ القتال، وجواب (إذا) محذوف؛ أي: كذبوا.
﴿لَكَانَ﴾ الصدق ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ من الكراهة والكذب.
* * *
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢٢)﴾.
[٢٢] ثمّ التفت من الغيبة إلى الخطاب لضرب من الإرهاب، فقال: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ أي: فلعلّكم ﴿إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أمرَ هذه الأُمَّة، وقيل: معناه: إنَّ أعرضتم عن الحق.
﴿أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي، والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام.
﴿وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ بالقتل والعقوق ووأد البنات، المعنى: فهل يتوقع منكم إِلَّا الإفساد وتقطيع الأرحام؟ قال البغوي (١): نزلت في بني أمية وبني هاشم. قرأ نافع: (عَسِيتُمْ) بكسر السين، والباقون: بفتحها (٢)، وقرأ رويس عن يعقوب: (تُوُلِّيتُم) بضم التاء والواو وكسر اللام، والباقون: بفتحهن (٣)، وقرأ يعقوب: (تَقْطَعُوا) بفتح التاء وإسكان القاف وفتح الطاء
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩٢).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩٢).
* * *
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿أُولَئِكَ﴾ المفسدون ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ لإفسادهم.
﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ عن استماع الحق ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ أي: بصائرهم عن طريق الهداية.
* * *
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ فيعرفون الحق، والتدبر: النظر إلى ما يؤول إليه الكلام، فلما لم يتدبروا، أضرب عنهم، فقال: ﴿أَمْ﴾ أي: بل ﴿عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ المعنى: قلوبهم مقفلة، فلا يتدبرون، ولا يعون، ونكرت القلوب إرادة بعض القلوب (٣)، وهي قلوب المنافقين وأعداء الدِّين.
* * *
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩٢ - ١٩٣).
(٣) "إرادة بعض القلوب" زيادة من "ت".
[٢٥] ونزل في اليهود الذين كفروا بمحمد - ﷺ -، وهم يعرفونه:
﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ (١) أي: رجعوا إلى الكفر.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى﴾ في التوراة، وهو أن محمدًا حق ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه﴾ [البقرة: ٨٩] ﴿الشَّيْطَانُ﴾ مبتدأ، خبره ﴿سَوَّلَ﴾ زَيَّنَ ﴿لَهُمْ﴾ أعمالَهم ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (وَأُمْلِي لَهُمْ) بضم الهمزة وكسر اللام، فأبو عمرو يفتح الياء على ما لم يسم فاعله، ويعقوب يسكنها على وجه الخبر من الله سبحانه عن نفسه أنّه يفعل ذلك، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة واللام، وقلب الياء ألفًا (٢)؛ أي: أطال الشيطان لهم المدة، ومد لهم في الأمل.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿ذَلِكَ﴾ الإضلالُ ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ﴾
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٠ - ١٦١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩٤ - ١٩٥).
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (إِسْرَارَهُمْ) بكسر الهمزة مصدر أَسَرَّ، وقرأ الباقون: بفتحها، جمع سِرّ (١).
* * *
﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿فَكَيْفَ﴾ يعملون.
﴿إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ ظهورهم بمقامع الحديد.
قال ابن عبّاس: "لا يُتَوَفَّى أحدٌ على معصية، إِلَّا تضرب الملائكةُ وجهَه ودُبُرَهُ" (٢).
* * *
(٢) انظر: "الكشَّاف" للزمخشري (٤/ ٣٢٩).
[٢٨] ﴿ذَلِكَ﴾ التوفِّي ﴿بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ من كتمان نعته -عليه السّلام- ﴿وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ أي: أبغضوا العمل بما يرضيه. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رُضْوَانَهُ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (١).
﴿فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أبطلها لذلك.
* * *
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أظنَّ المنافقون.
﴿أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ يعرفوا نفاقهم.
* * *
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ أي: لو أردنا، لدللناك على المنافقين.
﴿فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامتهم.
* * *
﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ فحواه، المعنى: أنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمور المسلمين، فكان لا يتكلم عنده - ﷺ - منافق إِلَّا عرفه، والأكابر يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ فيجازيكم بها.
* * *
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ لنعاملنكم معاملة المختبرين؛ بأن نأمركم بالجهاد والقتال ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ والمراد: علم الظهور؛ أي: نبلوكم حتّى يظهر ما نخبر به عنكم من أفعالكم؛ من جهاد وصبر وغيرهما ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ نظهرها بسبب طاعتكم وعصيانكم (٣). قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَلَيَبْلُوَنَكمْ حَتَّى يَعْلَمَ)، (وَيَبْلُوَ) بالياء في الثلاثة؛ لقوله تعالى: (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)، وقرأهن الباقون: بالنون، لقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٥٢)، وذكره البغوي في "تفسيره" (٤/ ١٦١)، والزمخشري في "الكشاف" (٤/ ٣٣٠).
(٣) في "ت": "إبائكم".
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢)﴾.
[٣٢] ونزل فيمن عصى الله وكره الإسلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى﴾ هم قريظة والنضير.
﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ بكفرهم وبصدِّهم.
﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ يبطلها، فلا يرون لها ثوابًا.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ بالمعاصي والكفر.
* * *
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٩٦).
[٣٤] ونزل في أصحاب القَليب ومَنْ جرى مجراهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ ويدلُّ بمفهومه على أنّه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.
* * *
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ لا تضعفوا ﴿وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ أي: لا تدعوا إلى الصلح ابتداءً إذا لقيتم الكفار. قرأ حمزة، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (السِّلْمِ) بكسر السين، والباقون: بفتحها (١)، وهما لغتان بمعنى.
﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْن﴾ الغالبون ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ بالعون والنصرة.
﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ﴾ ينقصكم ﴿أَعْمَالَكُمْ﴾ أي: ثواب أعمالكم.
* * *
﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ باطل وغرور، لا ثباتَ لها، فلا
﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ ثوابَ إيمانكم وتقواكم ﴿وَلَايَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم﴾ جميعَها، بل الزَّكاة المفروضة، وهي ربع العشر، فَطَيِّبوا أنفسَكم.
* * *
﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ﴾ يُلِحّ عليكم ﴿تَبْخَلُوا﴾ بها ﴿وَيُخْرِجْ﴾ البخل ﴿أَضْغَانَكُمْ﴾ أحقادَكم ومعتقداتكم السوء. قرأ يعقوب: (وَنُخْرِجْ) بالنون، والباقون: بالياء (١).
* * *
﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿هَاأَنْتُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، ونافع: بتسهيل الهمزة بين بين، وقرأ الكوفيون، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: بتحقيق الهمزة بعد الألف، وروي عن ورش: (هَآنْتُمْ) مدًّا بلا همزة، وعنه وجه ثان (هَئَنْتُمْ) بهمزة مقصورة بين الهاء والنون؛ مثل: سَأَلْتُم، وروي عن قنبل: كالوجه الثّاني عن ورش، أصلها أَأَنْتُمْ، قلبت الهمزة الأولى هاء؛ كقولهم هَرَقْتُ، وأَرَقْتُ (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٢ و ٦٠٧)، و"النشر في القراءات العشر" =
﴿تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ما فرض عليكم.
﴿فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ﴾ بالزكاة المفروضة، و (يَبْخَلُ) رفع؛ لأنّ (مَنْ) هذه ليست بشرط؛ لاستئنافك ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ﴾ بالصدقة والمفروض، و (يَبْخَلْ) جزم، لأنّ (مَنْ) هذه شرط، جوابه ﴿فَإِنَّمَا يَبْخَلُ﴾ رفعٌ أيضًا.
﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ أي: عليها، المعنى: جزاءُ بخله مختص به.
﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ﴾ عنكم وعن صدقتكم ﴿وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ عن الطّاعة ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ خيرًا منكم، وهم الأنصار.
﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ في البخل والتولي ونحوهما، بل يكونوا خيرًا منكم، وأطوعَ لله، والله أعلم.
* * *