ﰡ
قوله جل وعز :﴿ يأَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ ﴾.
اتفق عليها القراء، ولو قرأ قارئ :( لا تَقْدَموا ) لكان صواباً ؛ يقال : قَدَمت في كذا وكذا، وتقدَّمت.
وفي قراءة عبد الله «بأصواتكم »، ومثله في الكلام : تكلم كلاما حسنا، وتكلم بكلام حسن.
وقوله :﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ :
يقول : لا تقولوا : يا محمد، ولكن قولوا : يا نبي الله يا رسول الله، يا أبا القاسم.
وقوله :﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ ﴾.
معناه : لا تحبطُ وفيه الجزم والرفع إذا وضعت ( لا ) مكان ( أن )، وقد فُسر في غير موضع، وهي في قراءة عبد الله : فتحبطَ أعمالكم، وهو دليل على جواز الجزم فيه.
أخلصها للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده، ويسقط خبثه.
وجه الكلام أن تضم الحاء والجيم، وبعض العرب يقول : الْحُجَرات والرُّكَبات وكل جمع كأن يقال في ثلاثةٍ إلى عشرةٍ : غرف، وحجر، فإذا جمعته بالتاء نصبت ثانية، فالرفع [ ١٨٠/ب ] أجودُ من ذلك.
وقوله :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾.
أتاه وفد بني تميم في الظهيرة، وَهو راقد صلى الله عليه وسلم، فجعلوا ينادون : يا محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج، فنزل :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ ﴾ إلى آخر الآية، وَأذِن بعد ذلك لهم ؛ فقام شاعرهم، وشاعر المسلمين، وخطيب منهم، وخطيب المسلمين، فعلت أصواتهم بالتفاخر، فأنزل الله جل وَعز فيه :﴿ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾.
قراءة أصحاب عبد الله، ورأيتها في مصحف عبد الله بالثاء، وَقراءة الناس :( فَتَبَيَّنُوا ) وَمعناهما متقارب ؛ لأن قوله :( فَتَبَيَّنُوا ) أمهلوا حتى تعرفوا، وَهذا معنى تثبتوا. وَإنما كان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم بعث عاملاً على بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم، فلما توجه إليهم تلقوه ليعظموه، فظن أنهم يريدون قتاله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فقال : إِنهم قاتلوني، وَمنعوني أداء ما عليهم فبينما هم كذلك وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قدم عليه وَفد بني المصطلق فقالوا : أردنا تعظيم رسول رسول الله، وَأداء الحق إِليه، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم وَلم يصدقهم ؛ فأنزل الله :«يأَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتثَبَّتُوا » إلى آخر الآية، وَالآية التي بعدها.
ولم يقل : اقتتلتا، وَهي في قراءة عبد الله : فخذوا بينهم. مكان فأصلحوا بينهم، وَفي قراءته : حتى يَفِيئُوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم.
ولم يقل : بين إخوتكم، وَلا إخوانكم، وَلو قيل ذلك كان صوابا.
وَنزلت في رهط عبد الله بن أبي، وَرهط عبد الله بن رواحة الأنصاري، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على حِمار فوقف على عبد الله بن أبي في مجلس قومه، فراث حمار رسول الله، فوضع عبد الله يده على أنفه وَقال : إليك حمارك فقد آذاني، فقال له ابن روَاحة : أَلِحِمارِ رسول الله تقول هذا ؟ فوالله لهو أطيب عِرضا منك وَمن أبيك، فغضب قوم هذا، وَقوم هذا، حتى اقتتلوا بالأيدي وَالنعال، فنزلت هذه الآية.
نزلت في أن ثابت بن قيس الأنصاري كان ثقيل السمع، فكان يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم وسلم ليسمع حديثه، فجاء بعد ما قضى ركعة من الفجر، وَقد أخذ الناس أماكنهم من رسول الله فجعل يتخطى وَيقول : تفسحوا حتى انتهي إلى رجل دون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : تفسح، فقال له الرجل : قد أصبت مكانا فاقعد، فلما أسفر قال : من الرجل ؟ قال : فلان بن فلان، قال : أنت ابن هَنَةٍ لأُِمٍّ له، قد كان يعير بها ؛ فشق على الرجل، فأنزل الله عز وجل :﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ وهي في قراءة عبد الله فيما أعلم : عَسَوا أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسَين أن يكنَّ خيراً منهن.
ونزل أيضاً في هذه القصة :[ ١٨١/ا ] ﴿ يأَيُّها الناسُ إِنا خَلَقْناكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً ﴾. والشعوب أكبر من القبائل، وَالقبائل أكبر من الأفخاذ ﴿ لِتَعَارَفُواْ ﴾ : ليعرف بعضكم بعضا في النسب ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ ﴾ مكسورة لم يقع عليها التعارف، وهي قراءة عبد الله : لتعارفوا بينكم، وخيركم عند الله أتقاكم ؛ فقال ثابت : والله لا أفاخر رجلاً في حسبه أبداً.
وقوله :﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾.
لا يَعب بعضكم بعضاً، ولا تنابزوا بالألقاب : كان الرجل يقول للرجل من اليهود وقد أسلم : يا يهودي ! فنُهوا عن ذلك ؛ وَقال فيه :﴿ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمانِ ﴾ ومن فتح : أن أكرمكم فكأنه قال : لتعارفوا أن الكريم المتقِي، ولو كان كذلك لكانت : لتعرفوا أن أكرمكم، وجاز لتعارفوا ليعرِّف بعضكم بعضا أن أكرمكم عند الله أتقاكم.
القُراء مجتمعون على الجيم ؛ نزلت خاصة في سلمان، وكانوا نالوا منه.
وقوله :﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾.
قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أكان أحدكم آكلاً لحم أخيه بعد موته ؟ قالوا : لا ! قال : فإن الغيبة أكل لحمه، وهو أن تقول ما فيه، وإذا قلت ما ليس فيه فهو البَهْت ليست بغيبة فكرهتموه أي فقد كرهتموه، فلا تفعلوه.
ومن قرأ : فكُرِّهتموه يقول : قد بُغِّض إليكم والمعنى والله أعلم واحد، وهو بمنزلة قولك : مات الرجل وأُميت.
فهذه نزلت في أعاريب بني أسد ؛ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بعيالاتهم طمعا في الصدقة، فجعلوا يروحون ويغدون، ويقولون : أعطنا فإنا أتيناك بالعيال والأثقال، وجاءتك العرب على ظهور رواحلها.
فأنزل الله جل وعز ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾ ؛ ( وأن ) في موضع نصب لأنها في قراءة عبد الله : يمنون عليك إِسلامهم، ولو جعلتَ : يَمُنُّونَ عَلَيْك لأنْ أَسْلَمُوا، فإِذَا ألقيت اللام كان نصباً مخالفا للنصب الأول.
وقوله :﴿ أَنْ هَدَاكُمْ ﴾، وفي قراءة عبد الله : إذ هداكم.
فـ ( أن ) في موضع نصب لا بوقع الفعل، ولكن بسقوط الصفة.
وقوله :﴿ لاَ يَلِتْكُمْ ﴾.
لا ينقصكم، ولا يظلمكم من أعمالكم شيئاً، وهي من لات يليتُ، والقراء مجمعون عليها، وقد قرأ بعضهم : لا يَأْلِتْكم، ولست أشتهيها ؛ لأنها بغير ألف كتبت في المصاحف، وليس هذا بموضع يجوز فيه سقوط الهمز ؛ ألا ترى قوله :( يأتون )، و ( يأمرون )، و ( يأكلون ) لم تلق الألف في شيء منه لأنها ساكنة، وإنما تلقى الهمزة إذا سكن ما قبلها، فإذا سكنت هي تعني الهمزة ثبتت فلم تسقط، وإنما اجترأ على قراءتها «يألتكم » أنه وجد ﴿ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ في موضع، فأخذ ذا من ذلك ؛ فالقرآن يأتي باللغتين المختلفتين ؛ ألا ترى قوله :﴿ تُمْلَى عَلَيْهِ ﴾. وهو في موضع آخر :﴿ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِل ﴾. ولم تحمل إحداهما على الأخرى فتتفقا ولات يليت، وألَت يألِتُ لغتان [ قال حدثنا محمد بن الجهم بن إبراهيم السمري قال حدثنا الفراء ].
وقوله :﴿ أَنْ هَدَاكُمْ ﴾، وفي قراءة عبد الله : إذ هداكم.
فـ ( أن ) في موضع نصب لا بوقع الفعل، ولكن بسقوط الصفة.