تفسير سورة الحجرات

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله عز وجل :﴿ لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ﴾. حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ﴾ أنّ ناساً كانوا يقولون لولا أُنزل في كذا. قال معمر : وكان الحسن يقول :" هم قوم ذبحوا قبل أن يصلّي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ". قال أبو بكر : ورُوي عن مسروق أنه دخل على عائشة فأمرت الجارية أن تسقيه فقال : إني صائم، وهو اليوم الذي يُشَكُّ فيه، فقالت :" قد نُهي عن هذا " وتلت :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ﴾ في صيام ولا غيره. قال أبو بكر : اعتبرت عموم الآية في النهي عن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في قول أو فِعْلٍ. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى :" لا تَعْجَلوا بالأمْر والنهي دونه ".
قال أبو بكر : يُحتجُّ بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها وفي تركها، وقد يَحْتَجُّ بها من يوجب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في تَرْكِ ما فَعَلَهُ تقدماً بين يديه، كما أن في ترك أمره تقدماً بين يديه. وليس ذلك كما ظنوا ؛ لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعلنا غيره، فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه. ويحتج به نُفَاةُ القياس أيضاً ؛ ويدل ذلك على جهل المحتجّ به لأن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدُّمٌ بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنّة والإجماع على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس فيه إذاً تقدم بين يديه.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ فيه أمرٌ بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وهو نظير قوله تعالى :﴿ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ﴾ [ الفتح : ٩ ] ؛ ورُوي أنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قالوا فيه قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً لما كان في رفع الصوت على الإنسان في كلامه ضَرْبٌ من تَرْك المهابة والجرأة، نَهَى الله عنه، إذْ كنا مأمورين بتعظيمه وتوقيره وتهييبه.
وقوله تعالى :﴿ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ زيادة على رفع الصوت ؛ وذلك أنه نَهَى عن أن تكون مخاطبتنا له كمخاطبة بعضنا لبعض، بل على ضرْبٍ من التعظيم تخالف به مخاطبات الناس فيما بينهم ؛ وهو كقوله :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ﴾ [ النور : ٦٣ ].
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾. ورُوي أنها نزلت في قوم من بني تميم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنادوه من خارج الحجرة وقالوا : اخرج إلينا يا محمد ! فذمّهم الله تعالى بذلك.
وهذه الآيات وإن كانت نازلةً في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمّة فيه، فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سِنّ وصلاح ونحو ذلك، إذ تَعْظِيمُه بهذا الضرب من التعظيم في تَرْكِ رفع الصوت عليه وتَرْكِ الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله وفي النهي عن ندائه من وراء الباب والمخاطبة له بلفظ الأمر ؛ لأن الله قد ذمّ هؤلاء القوم بندائهم إيّاه من وراء الحجرة وبمخاطبته بلفظ الأمر في قولهم اخرج إلينا. حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري، أن ثابت بن قيس قال : يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكتُ، لما نزلت هذه الآية :﴿ لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صَوْتِكَ، وأنا امْرُؤٌ جَهيرُ الصوت، ونَهَى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل، وأجدني أحبُّ الحمد، ونهانا الله عن الخُيَلاَءِ وأجدني أحبّ الجمال ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا ثَابِتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الجَنَّةَ ؟ " فعاش حميداً وقُتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب.

باب حكم خبر الفاسق


قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ﴾ الآية.
حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ قال : بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق، فأتاهم الوليد فخرجوا يتلقَّونه فَفَرِقَ ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارتدّوا ! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فلما دنا منهم بعث عيوناً ليلاً فإذا هم يؤذّنون ويصلّون، فأتاهم خالد فلم يَرَ منهم إلا طاعة وخيراً، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره.
قال : وقال معمر : فتلا قتادة :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعنِتُّمْ ﴾ قال : فأنتم أسخف رأياً وأطْيَشُ أحلاماً، فاتّهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله. ورُوي عن الحسن قال :" والله لئن كانت نزلت في رجل يعني قوله :﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء ".
قال أبو بكر : مقتضى الآية إيجابُ التثبّت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله والعمل به إلاّ بعد التبيُّن والعلم بصحة مخبره، وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين :" فتثبَّتوا " من التثبت، و ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾، كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته ؛ لأن قوله :" فتثبتوا " فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب قوماً بجهالة، فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوماً بجهالة، وأما قوله :﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ فإن التبيُّنَ هو العلم، فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم، فاقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقاً إذ كان كل شهادة خبراً، وكذلك سائر أخباره ؛ فلذلك قلنا شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق ؛ وكذلك إخباره في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان من أمر الدين يتعلق به من إثبات شَرْع أو حكم أو إثبات حقّ على إنسان.
واتفق أهل العلم على جواز قبول خبر الفاسق في أشياء، فمنها : أمور المعاملات يُقبل فيها خبر الفاسق، وذلك نحو الهدية إذا قال :" إن فلاناً أهدى إليك هذا " يجوز له قبوله وقَبْضُه، ونحو قوله :" وكلني فلان ببيع عبده هذا " فيجوز شراؤه منه، ونحو الإذن في الدخول إذا قال له قائل :" ادخل " لا تُعتبر فيه العدالة ؛ وكذلك جميع أخبار المعاملات. ويقبل في جميع ذلك خبر الصبيّ والعبد والذميّ، وقَبِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خبر بَرِيرَةَ فيما أَهْدَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتصدق عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هي لها صَدَقَةٌ ولنا هَدِيَّةٌ "، فقبل قولها في أنه تُصُدِّقَ به عليها وأن ملك المتصدق قد زال إليها. ويقبل قول الفاسق وشهادته من وجه آخر، وهو من كان فِسْقُه من جهة الدين باعتقاد مذهب وهم أهل الأهواء فُسَّاقٌ وشهادتهم مقبولة، وعلى ذلك جرى أمْرُ السلف في قبول أخبار أهل الأهواء في رواية الأحاديث وشهادتهم، ولم يكن فِسْقُهُمْ من جهة التديُّنِ مانعاً من قبول شهادتهم.
وتقبل أيضاً شهادة أهل الذمّة بعضهم على بعض، وقد بيناه فيما سلف من هذا الكتاب فهذه الوجوه الثلاثة يُقبل فيها خبر الفاسق، وهو مستثنًى من جملة قوله تعالى :﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ لدلائل قد قامت عليه، فثبت أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق أو إثبات أحكام الدين والفسق التي ليست من جهة الدين والاعتقاد.
وفي هذه الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم، إذ لو كان يوجب العلم بحال لما احْتِيجَ فيه إلى التثبت، ومن الناس من يحتجّ به في جواز قبول خبر الواحد العدل ويجعل تخصيصه الفاسق بالتثبت في خبره دليلاً على أن التثبت في خبر العدل غير جائز ؛ وهذا غلط لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه.

باب قتال أهل البغي


قال الله تعالى :﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾. حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن : أن قوماً من المسلمين كان بينهم تنازُعٌ حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل الله فيهم :﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾، قال معمر : قال قتادة : وكان رجلان بينهما حقّ تدارءا فيه، فقال أحدهما : لآخذنّه عنوة ! لكثرة عشيرته، وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فتنازعا حتى كان بينهما ضَرْبٌ بالنعال والأيدي. ورُوي عن سعيد بن جبير والشعبي قالا : كان قتالهم بالعصيِّ والنعال. وقال مجاهد : هم الأوس والخزرج كان بينهم قتال بالعصيّ.
قال أبو بكر : قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، وهو عموم في سائر ضروب القتال، فإن فاءت إلى الحقّ بالقتال بالعصيّ والنعال لم يُتجاوز به إلى غيره، وإن لم تفىءْ بذلك قُوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية. وغير جائز لأحد الاقتصار على القتال بالعصيّ دون السلاح مع الإقامة على البغي وترك الرجوع إلى الحق، وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ "، فأمر بإزالة المنكر باليد ولم يفرق بين السلاح وما دونه، فظاهره يقتضي وجوب إزالته بأي شيء أمكن.
وذهب قوم من الحَشْوِ إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصيّ والنعال وما دون السلاح وأنهم لا يقاتَلُون بالسيف، واحتجّوا بما روينا من سبب نزول الآية وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصيّ والنعال. وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا ؛ لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح، فأمر الله تعالى بقتال الباغي منهما ولم يخصص قتالنا إيّاه بما دون السلاح. وكذلك تقول متى ظهر لنا قتالٌ من فئة على وجه البغي قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحقّ، وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح ما يوجب أن يكون الأمر بقتالنا إيّاهم مقصوراً على ما دون السلاح مع اقتضاء عموم اللفظ للقتال بسلاح وغيره، ألا ترى أنه لو قال :" من قاتلكم بالعصي فقاتلوه بالسلاح " لم يتناقض القول به ؟ فكذلك أمْرُهُ إيّانا بقتالهم، إذ كان عمومه يقتضي القتال بسلاح وغيره، وجب أن يُجْرَى على عمومه.
وأيضاً قاتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد عُلِمَ مكانهم، وكان مُحِقّاً في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته وأتْبَاعُها ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار :" تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ "، وهذا خبر مقبول من طريق التواتر، حتى إن معاوية لم يقدر على جَحْدِهِ لما قال له عبدالله بن عمر، فقال : إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسِنَّتِنا ؛ رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام، وهو عَلَمٌ من أعلام النبوة ؛ لأنه خبر عن غَيْبٍ لا يُعلم إلا من جهة علاّم الغيوب.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب قتال الخوارج وقَتْلهم أخبارٌ كثيرة متواترة، منها حديث أنس وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيجاب قتال الخوارج وقَتْلهم أخبارٌ كثيرة متواترة، منها حديث أنس وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سَيَكُونُ في أُمَّتِي اخْتِلاَفٌ وفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ القَوْلَ ويُسِيئُونَ العَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لا يَرْجِعُونَ حَتّى يَرْتَدَّ على فُوقِهِ هُمْ شَرُّ الخَلْقِ والخَلِيقَةِ، طُوبَى لمنْ قَتَلَهُمْ أَو قَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إلى كِتَابِ الله ولَيْسُوا مِنْهُ في شيءٍ، مَنْ قَتَلَّهُمْ كان أَوْلَى بالله مِنْهُمْ "، قالوا : يا رسول الله ما سيماهم ؟ قال :" التَّحْلِيقُ ". ورَوَى الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال : سمعت عليّاً يقول : إذا حدّثتكم بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السماء فتخطفني الطير أحبُّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خُدْعَة، وإني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول :" يَخْرُجُ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ فإنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ". ولم يختلف أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب قتال الفئة الباغية بالسيف إذا لم يردعها غيره، ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لقتلوهم وسَبَوْا ذراريهم ونساءهم واصطلموهم ؟.
فإن قيل : قد جلس عن عليّ جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر. قيل له : لم يقعدوا عنه لأنهم لم يَرَوْا قتال الفئة الباغية، وجائز أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفياً بمن معه مستغنياً عنهم بأصحابه، فاستجازوا القعود عنه لذلك ؛ ألا ترى أنهم قد قعدوا عن قتال الخوارج لا على أنهم لم يروا قتالهم واجباً لكنه لما وجدوا من كَفَاهُمْ قَتْل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم ؟.
فإن احتجّوا بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشي والقَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ ". قيل له : إنما أراد به الفتنة التي يقتتل الناس فيها على طلب الدنيا وعلى جهة العصبية والحمية من غير قتال مع إمام تجب طاعته، فأما إذا ثبت أن إحدى الفئتين باغية والأخرى عادلة مع الإمام فإن قتال الباغية واجبٌ مع الإمام ومع من قاتلهم محتسباً في قتالهم.
فإن قالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد :" قَتَلْتَهُ وَهُوَ قَدْ قَالَ لا إِلهَ إِلاَّ الله ! " إنّما يردّد ذلك مراراً، فوجب أن لا يقاتَلَ من قال لا إله إلاّ الله ولا يُقتل.
قيل له : لأنهم كانوا يقاتلون وهم مشركون حتى يقولوا : لا إله إلا الله، كما قال صلى الله عليه وسلم :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاّ الله، فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاّ بِحَقِّهَا "، فكانوا إذا أعطوا كلمة التوحيد أجابوا إلى ما دُعُوا إليه من خلع الأصنام واعتقاد التوحيد، ونظير ذلك أن يرجع البغاة إلى الحق فيزول عنهم القتال ؛ لأنهم إنما يقاتلون على إقامتهم على قتال أهل العدل، فمتى كفّوا عن القتال تُرك قتالهم، كما يُقَاتَلُ المشركون على إظهار الإسلام فمتى أظهروه زال عنهم، ألا ترى أن قُطَّاع الطريق والمحاربين يقاتَلُونَ ويُقْتَلُون مع قولهم لا إله إلا الله ؟.

باب ما يبدأ به أهل البغي


قال الله تعالى :﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ قال أبو بكر : أمر الله عند ظهور القتال منهم بالإصلاح بينهما، وهو أن يدعوا إلى الصلاح والحق وما يوجبه الكتاب والسنة والرجوع عن البغي. وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ يعني والله أعلم : إن رجعت إحداهما إلى الحق وأرادت الصلاح وأقامت الأخرى على بَغْيها وامتنعت من الرجوع فقاتِلُوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فأمر تعالى بالدعاء إلى الحق قبل القتال، ثم إن أَبَت الرجوع قوتلت، وكذا فعل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بدأ بدعاء الفئة الباغية إلى الحق واحتجّ عليهم، فلما أبوا القبول قاتلهم.
وفي هذه الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم يقاتلوا، لأنه قال :﴿ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْر الله ﴾، فإنما أمر بقتالهم إذا بغوا على غيرهم بالقتال، وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج ؛ وذلك لأنهم حين اعتزلوا عسكره بعث إليهم عبدالله بن عباس فدعاهم، فلما أبوا الرجوع ذهب إليهم فحاجَّهم فرجعت منهم طائفة وأقامت طائفة على أمرها، فلما دخلوا الكوفة خطب فحكمت الخوارج من نواحي المسجد وقالت : لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه :" كلمة حقّ يُراد بها باطل، أما إن لهم ثلاثاً : أن لا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وأن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا ".

باب الأمر فيما يؤخذ من أموال البغاة


قال أبو بكر : اختلف أهل العلم في ذلك، فقال محمد في الأصل :" لا يكون غنيمة ويُستعان بكراعهم وسلاحهم على حربهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها رد المال عليهم ويُردّ الكراع أيضاً عليهم إذا لم يبق من البغاة أحد، وما استهلك فلا شيء فيه ". وذكر إبراهيم بن الجراح عن أبي يوسف قال :" ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع أو سلاح فهو فيء يقسم ويُخَمَّسُ، وإذا تابوا لم يؤاخذوا بدم ولا مال استهلكوه ". وقال مالك :" ما استهلكه الخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به، وما كان قائماً بعينه رُدَّ "، وهو قول الأوزاعي والشافعي. وقال الحسن بن صالح :" إذا قوتل اللصوص المحاربون فقُتلوا وأُخِذَ ما معهم فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس إلا أن يكون شيء يعلم أنهم سرقوه من الناس ".
قال أبو بكر : واختلفت الرواية عن علي كرم الله وجهه في ذلك، فروي فِطْرُ بن خليفة عن منذر بن يَعْلَى عن محمد ابن الحنفية قال :" قسم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم الجمل فَيْأَهُمْ بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح " ؛ فاحتجّ من جعله غنيمة بهذا الحديث، وهذا ليس فيه دلالة على أنه غنيمة لأنه جائز أن يكون قسم ما حصل في يده من كراع أو سلاح ليقاتلوا به قبل أن تضع الحرب أوزارها ولم يملّكهم ذلك على ما قال محمد في الأصل. وقد رَوَى عكرمة بن عمار عن أبي زُمَيْل عن عبدالله بن الدولي عن ابن عباس أن الخوارج نقموا على عليّ رضي الله عنه أنه لم يَسْبِ ولم يغنم، فحاجّهم بأن قال لهم :" أفَتَسْبُونَ أمّكم عائشة ثم تستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها ؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم ". وروى أبو معاوية عن الصلت بن بهرام عن أبي وائل قال : سألته أخَمَّسَ عليّ رضي الله عنه أموال أهل الجمل ؟ قال : لا. وقال الزهري :" وقعت الفتنة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، وأجمعوا أن كل دم أُريق على وجه التأويل أو مال استُهلك على وجه التأويل فلا ضمان فيه ". ويدل على أنه لا تُغنم أموالهم التي ليست معهم مما تركوه في ديارهم لا تُغنم وإن قت
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ يعني أنهم إخوة في الدين، كقوله تعالى :﴿ فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]، وفي ذلك دليل على جواز إطلاق لفظ الأُخُوَّة بين المؤمنين من جهة الدين. وقوله تعالى :﴿ فَأَصْلَحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ يدل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾، نهى الله بهذه الآية عن عَيْب من لا يستحق أن يُعاب على وجه الاحتقار له ؛ لأن ذلك هو معنى السخرية، وأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيراً عند الله.
وقوله تعالى :﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، رُوي عن ابن عباس وقتادة :" لا يطعن بعضكم على بعض ". قال أبو بكر : هو كقوله :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء : ٢٩ ] لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه، وكقوله :﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾ [ النور : ٦١ ] يعني يسلّم بعضكم على بعض. واللَّمْزُ العيب، يقال : لمزه، إذا عابه وطعن عليه ؛ قال الله تعالى :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات ﴾ [ التوبة : ٥٨ ]. قال زياد الأعجم :
* إذا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً * وإِنْ تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ *
* ما كُنْتُ أَخْشَى وإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بِهِ * حَيْفٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَغْتَابَنِي عَنَزَهْ *
وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق وليس بمَعِيبٍ، فإن من كان معيباً فاجراً فعيبه بما فيه جائز. ورُوي أنه لما مات الحجاج قال الحسن :" اللهم أنت أمَتَّهُ فاقطع عنا سنّته فإنه أتانا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ يمدّ بيد قصيرةِ البَنَانِ والله ما عَرِقَ فيها عِنَانٌ في سبيل الله، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ ويَخْطُرُ في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل " ثم قال الحسن :" هيهات والله حَالَ دون ذلك السيفُ والسوطُ ".
وقوله تعالى :﴿ وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ ﴾، روى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن : أن أبا ذرّ كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان بينه وبين رجل منازعة، فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَمَا تَرَى هاهُنَا ما شَيْءٍ أَحْمَرَ وَلا أَسْوَدَ وما أَنتَ أَفْضَلُ مِنْهُ إِلاّ بالتَّقْوَى ! " قال : ونزلت هذه الآية :﴿ وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ ﴾. وقال قتادة في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ ﴾ قال :" لا تقل لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق ". حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الحسن قال :" كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له يا يهودي يا نصراني، فنُهُوا عن ذلك ".
حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا وهيب عن داود عن عامر قال : حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة :﴿ وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ ﴾ قال :" قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منّا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا فلان، فيقولون : مَهْ يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم ! فأنزلت هذه الآية :﴿ وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ ﴾ ".
وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ذمّاً للموصوف به ؛ لأنه بمنزلة السباب والشتيمة. فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي ؛ لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال.
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن يزيد بن خُثَيْم عن محمد بن كعب قال : حدثني محمد بن خثيم المحاربي عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن يَنْبُعَ، فلما نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً وصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ووادعهم، فقال لي علي رضي الله عنه : هل لك أن تأتي هؤلاء من بني مدلج يعملون في عِيرٍ لهم ننظر كيف يعملون ! فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غَشِيَنا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا، فما أنبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا وقد تَتَرَّبْنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :" يا أبا تُرابٍ " لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال :" أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَشْقَى رَجُلَيْنِ ؟ " قلنا : من هما يا رسول الله ؟ قال :" أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الّذي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذي يَضْرِبُكَ يا عليّ عَلَى هذا " ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه " حتّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ " ووضع يده على لحيته.
وقال سهل بن سعد :" ما كان اسم أَحَبُّ إلى عليّ رضي الله عنه أن يدعى به من أبي تراب ". فمثل هذا لا يُكره، إذ ليس فيه ذمٌّ ولا يكرهه صاحبه.
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا إبراهيم بن مهدي قال : حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا ذا الأُذُنَيْنِ ". وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء قوم، فسمَّى العاص عبدالله وسمَّى شهاباً هشاماً وسمى حرباً سِلْماً، وفي جميع ذلك دليل على أن المنهيّ من الألقاب ما ذكرنا دون غيره. وقد رُوي أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" انْظُرْ إِلَيْهَا فإِنّ في أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئاً " يعني الصِّغَرَ.
قال أبو بكر : فلم يكن ذلك غيبة لأنه لم يُرِدْ به ذمَّ المذكور ولا غيبته
مطلب : الظن على أربعة أضرب
وقوله تعالى :﴿ اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِثْمٌ ﴾ اقتضت الآية النهي عن بعض الظنّ لا عن جميعه ؛ لأن قوله :﴿ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ﴾ يقتضي البعض، وعقبه بقوله :﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ فدل أنه لم يُنْهَ عن جميعه. وقال في آية أخرى :﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾ [ النجم : ٢٨ ]، وقال :﴿ وظننتم ظنّ السوء وكنتم قوماً بُوراً ﴾ [ الفتح : ١٢ ] ؛ فالظن على أربعة أضرب : محظور ومأمور به ومندوب إليه ومباح. فأما الظنّ المحظور فهو سوء الظن بالله تعالى. حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنّى ومحمد بن محمد بن حيان التمار قالا : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول :" لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله عزَّ وجلَّ ".
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك عن هشام بن الغازي عن حبان بن أبي النصر قال : سمعت واثلة بن الأسقع يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يَقُولُ الله : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن واسع عن شُتَيْر يعني ابن نهار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حُسْنُ الظَّنِّ مِنَ العِبَادَةِ "، وهو مرفوع في حديث نصر بن علي غير مرفوع في حديث موسى بن إسماعيل.
فحسن الظنّ بالله فرض وسوء الظن به محظور منهيٌّ، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور مَزْجُور عنه، وهو من الظنّ المحظور المنهيُّ عنه. وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال : حدثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته وقمت فانقلبت، فقام معي ليَقْلِبَني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" عَلَى رِسْلِكُمَا إِنّها صفِّيَةُ بِنْتُ حُيَيِّ " قالا : سبحان الله يا رسول الله ! قال :" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْري مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَيْئاً أو قال : سُوءاً ".
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عبدالرّحمن قال : حدثنا وهيب قال : حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِيَّاكُمْ والظَّنَّ فإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ ". فهذا من الظنّ المحظور، وهو ظنه بالمسلم سوءاً من غير سبب يوجبه. وكل ظنّ فيما له سبيل إلى معرفته مما تُعُبِّدَ بعلمه فهو محظور، لأنه لما كان متعبِّداً تُعُبِّد بعلمه ونُصب له الدليل عليه فلم يتّبع الدليل وحصل على الظن كان تاركاً للمأمور به ؛ وأما ما لم يُنصب له عليه دليل يوصله إلى العلم به وقد تُعُبِّد بتنفيذ الحكم فيه فالاقتصار على غالب الظن وإجراء الحكم عليه واجب، وذلك نحو ما تَعَبَّدنا به من قبول شهادة العدول وتحرِّي القبلة وتقويم المستهلكات وأُروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذه وما كان من نظائرها قد تعبدنا فيها بتنفيذ أحكام غالب الظن.
وأما الظن المباح فالشَّكَّاك في الصلاة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعمل على ما يغلب في ظنه، فلو غلب ظنه كان مباحاً وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزاً، ونحوه ما رُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لعائشة : إني كنت نَحْلْتُكِ جداد عشرين وَسْقاً بالعالية وإنك لم تكوني حُزْتِيهِ ولا قبضتيه وإنما هو مال الوارث وإنما هما أخواك وأختاك، قال : فقلت : إنما هي أسماء ! فقال : ألقي في رُوعي أن ذا بطن خارجه جارية. فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه.
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا هشام بن عمار عن عبدالرّحمنِ بن سعد عن عبدالله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذا ظَنَنْتُمْ فلا تُحَقِّقُوا "، فهذا من الظنّ الذي يَعْرُضُ بقلب الإنسان في أخيه مما يوجب الريبة فلا ينبغي أن يحققه. وأما الظنُّ المندوب إليه فهو حسن الظن بالأخ المسلم، هو مندوب إليه مُثاب عليه. فإن قيل : إذا كان سوء الظن محظوراً فواجب أن يكون حسن الظنّ واجباً. قيل له : لا يجب ذلك لأن بينهما واسطة، وهو أن لا يظن به شيئاً فإذا أحسن الظن به فقد فعل مندوباً إليه.
قوله تعالى :﴿ وَلا تَجَسَّسُوا ﴾. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود عن القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، ولا تَحَسَّسُوا ولا تَجَسَّسُوا ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب قال : أتى ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ! فقال عبدالله :" إنّا قد نُهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ".
وعن مجاهد :" لا تَجَسَّسُوا خذوا بما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله ". فنهى الله في هذه الآيات عن سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة والستر، ودلّ به على أنه يجب تكذيب من قذفه بالظن ؛ وقال تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين ﴾ [ النور : ١٢ ] ؛ فإذا وجب تكذيب القاذف والأمر بحسن الظن فقد اقتضى ذلك النهي عن تحقيق المظنون وعن إظهاره.
ونَهَى عن التجسس بل أَمَر بالستر على أهل المعاصي ما لم يظهر منهم إصرار. حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال : حدثنا الفريابي عن إسرائيل عن الوليد قال أبو داود : ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين بن محمد عن إسرائيل في هذا الحديث قال الوليد بن أبي هشام عن زيد بن زائد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يُبْلِغْني أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئاً، فإنّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ لَكُمْ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا عبدالله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَى مَوْءُودَةً ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمُ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ فإنّ الله في حَاجَتِهِ ومَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عَنْهُ بِهَا كُرْبةً مِنْ كَرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ومَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ". وجميع ما أمرنا الله به من ذلك يؤدّي إلى صلاح ذات البين، وفي صلاح ذات البين صلاح أمر الدنيا والدين، قال الله تعالى :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ﴾ [ الأنفال : ١ ].
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ والصَّلاةِ والصَّدَقَةِ ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله، قال :" إِصْلاحُ ذَاتِ البَيْنِ، وفَسَادُ ذَاتِ البَيْنِ الحَالِقَةُ ".
وقوله تعالى :﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، أنه قيل : يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال :" ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ "، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال :" إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وإِنْ لم يَكُنْ فيه ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كيت وكيت قال : غير مسدد تعني قصيرة فقال :" لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لو مُزِجَتْ بماءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ". قالت : وحكيت له إنساناً آخر فقال :" ما أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَاناً وَأَنَّ لي كَذَا وكَذَا ".
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبدالرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أن عبدالرّحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : جاء الأسلميّ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أربع مرات أنه أصاب امرأة حراماً ؛ وذكر الحديث إلى قوله :" فما تُرِيدُ بهذا القَوْلِ ؟ " قال : أريد أن تطهرني ! فأمَرَ به فرُجم ؛ فسمع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تردعه نفسه حتى رُجمَ رَجْمَ الكلب ! فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائلٍ برجله فقال :" أَيْنَ فُلانٌ وفُلانٌ ؟ " فقالا : نحن ذان يا رسول الله ! قال :" انْزِلا فَكُلا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الحِمَارِ ! " فقالا : يا نبي الله من يأكل من هذا ؟ قال :" فما نِلْتُما مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفاً أَشَدُّ مِنَ الأَكْلِ مِنْهُ، والّذي نَفْسي بِيَدِهِ إِنَّهُ الآنَ لَفي أَنْهَارِ الجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فيها ! ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال : حدثنا يزيد بن مرة سنة ثلاث عشرة ومائتين قال : حدثنا ابن عون أن ناساً أتوا ابن سيرين فقالوا : إنا ننال منك فاجعلنا في حِلّ ! فقال : لا أُحِلُّ لكم ما حرَّم الله عليكم ؛ وروى الربيع بن صبيح أن رجلاً قال للحسن : يا أبا سعيد إني أرى أَمراً أكرهه ! قال : وما ذاك يا ابن أخي ؟ قال : أرى أقواماً يحضرون مجلسك يحفظون عليك سَقْطَ كلامك ثم يحكونك ويُعِيبُونَكَ، فقال : يا ابن أخي لا يَكْبُرَنَّ هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب ؟ قال : وما ذاك يا عم ؟ قال :" أطمعت نفسي في جوار الرحمن وحلول الجِنَانِ والنجاة من النيران ومرافقة الأنبياء ولم أطمع نفسي في السلامة من الناس، إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم، فإذا لم يسلم خالقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم ".
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا داود بن المجبر قال : حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن قال : حدث
قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾. رُوي عن مجاهد وقتادة :" الشعوب النسب الأبعد، والقبائل الأقرب، فيقال بني فلان وفلان ".
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾.
بدأ بذكر الخلق من ذَكَرٍ وَأنثى وهما آدم وحواء، ثم جعلهم شعوباً يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم، ثم جعلهم قبائل وهم أخصّ من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم، ليتعارفوا بالنسبة، كما خالف بين خِلَقِهِمْ وصُوَرِهم ليعرف بعضهم بعضاً.
ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب، إذ كانوا جميعاً من أب وأم واحدة ؛ ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره، فبيّن الله تعالى ذلك لنا لئلا يفخر بعضنا على بعض بالنسب، وأكّد ذلك بقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾، فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تُستحق بتقوى الله وطاعته. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أنه قال :" إِنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعَظُّمَها بالآباءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ، لا فَضْلَ لَعَرَبِيٍّ عَلى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بالتَّقْوَى ".
وقال ابن عباس وعطاء :" إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أعظمكم بيتاً ".
Icon