ﰡ
وهي مدنية بإجماع العلماء، وعدد آياتها ثماني عشرة آية..
هذه السورة جمعت مكارم الأخلاق، وأرشدت المسلمين إليها، وبينت لهم موقفهم مع الله، ومع رسول الله، وكيف يقابلون أخبار الفساق؟ وبماذا يعاملون إخوانهم المؤمنين، سواء أكانوا حاضرين معهم أم غائبين، وبينت حقيقة الإيمان والمؤمنين إلى غير ذلك من فضائل الأعمال، وكريم الخلال..
موقف المسلمين من أحكام الله [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)المفردات:
لا تُقَدِّمُوا: بمعنى لا تقدموه، أى: لا تسبقوه بالقول والحكم وهذا معنى لازم للتقدم، أو هو بمعنى لا تتقدموا، أى: لا يحصل منكم تقديم بقطع النظر عن المقدم. بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ المراد: أمامهما.
المعنى:
يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح، وهم أحق الناس بامتثال أمر الله: لا تسبقوا الله ورسوله بالقول أو الحكم في أمر من الأمور، وكونوا كالملائكة الذين شهد الله بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهذا نهى صريح عن الإقدام على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله- تعالى- وسنة رسوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله «١»، ولعل ذكر الرسول لأنه مبلغ عن الله وحافظ لشريعته.
واتقوا الله، أى: خذوا الوقاية من سخطه وعذابه باتباع أمره واجتناب نهيه والوقوف عند الحدود المرسومة التي بينها لكم، إن الله سميع بكل المسموعات، ويجازى بها أتم الجزاء، وهو عليم بكل المعلومات، وسيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذه الآية تقرر أصلا من أصول الدين المهمة، وهو أن الحكم لله وحده لا معقب لحكمه وهو أحكم الحاكمين فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وإذا كنا نهينا عن أن نتقدم الله ورسوله في حكم من الأحكام، فيا ويل المسلمين ويا هلاكهم! حين يتركون اليوم أمر الله ورسوله، ويتحاكمون إلى طواغيت الغرب وقوانينه.
من أدب الحديث مع الرسول [سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٢ الى ٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة السمع أو حاسة البصر. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ حبط عمله: بطل ثوابه لطغيان السيئات عليه.
يَغُضُّونَ الغض: النقصان من النظر أو الصوت. امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أصل الامتحان: إذابة الذهب ليخلص إبريزه من الخبث، وقد يطلق ويراد منه الاختبار والتجربة، ويلزم من هذا المعرفة وهي المرادة هنا. الْحُجُراتِ: جمع حجرة، وهي قطعة من الفضاء تحجر أى: يمنع من الدخول فيها بحائط أو نحوه. وَراءِ الْحُجُراتِ: خارجها.
كانت الآية السابقة لبيان أدب المسلمين مع الله ورسوله ومكانتهما، وهذه الآيات لبيان الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديثه ومعاملته.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا: لا تجعلوا أصواتكم عند الحديث مع الرسول الأكرم فوق صوته، بل كلموه بصوت منخفض، بلا جلبة ولا ضوضاء، وكونوا معه كما يكون الابن مع أبيه، وإياكم والجهر له في القول إذا كلمتموه وهو صامت، فلا تظهروا أصواتكم معه كما تجهرون مع بعضكم.
أدبهم الله الأدب العالي في حديث النبي، ولم يكن النبي جبارا متعاليا، وإنما كان مثلا أعلى في التواضع والحياء تكلمه الأمة في الطريق فلا يتركها حتى تتركه، ولكنه كان كثير الشغل، كثير التفكير، والتأمل في شأن الأمة الإسلامية، والعرب قوم جفاة غلاظ لا يعرفون اللين وأدب الخطاب، فنهاهم الله عن رفع صوتهم على صوت النبي، وعن الجهر بالقول عند مخاطبته وهو ساكت. مخافة بطلان أعمالهم الصالحة التي
روى عن زيد بن الأرقم أنه: جاء أناس من العرب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا عشنا في جناحه، ثم جاءوا إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادونه: يا محمد، فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ...
وقد تأذى من ندائهم على هذه الصفة.
وقد حكم الله على أكثرهم بعدم العقل لأن بعضهم لم يكن موافقا، أو هو أسلوب عربي معروف ينسب للأكثر ما هو للكل، ولا شك أن هؤلاء يستحقون هذا الوصف لجهلهم بقانون الأدب العام، وما ينبغي أن يكون عليه الزائر من أدب الحديث واختيار الزمان والمكان المناسبين، ولو أن هؤلاء صبروا حتى يخرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كان في قيلولة مستريحا لكان خيرا لهم وأتم.
وما كان النبي يحتجب عن أصحابه إلا في أوقات خاصة قليلة ليستريح بعض الوقت ليلا أو في الظهر.
وهكذا القرآن الكريم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالإجمال أو التفصيل حتى أدب الحديث وأدب الاستئذان نراه يرسم لنا طريقهما..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
المفردات:
فاسِقٌ الفسق: الخروج عن حدود الشرع. بِنَبَإٍ النبأ: هو الخبر المهم.
فَتَبَيَّنُوا أى: فتثبتوا، وبه قرئ، وهذا اللفظ مأخوذ من البيان الذي هو الكشف عن الشيء. نادِمِينَ: من الندم الذي هو التحسر من خطأ في أمر فات، والمادة تفيد الملازمة ومنه المنادمة والنديم. لَعَنِتُّمْ العنت: الجهد والمشقة والهلاك.
وَزَيَّنَهُ: حسنه. وَالْعِصْيانَ: الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة، وأصله أن يمتنع الرجل بعصاه. الرَّاشِدُونَ الرشد: ضد الغي وهو العمل لصالح الدين والدنيا.
روى في سبب النزول أنه: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة في جمع صدقات بنى المصطلق، فلما سمعوا بمقدمه أعدوا أنفسهم للقاء رسول الله فحدثه الشيطان بأنهم قاتلوه. فرجع، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن بنى المصطلق منعوا صدقاتهم، فغضب لذلك رسول الله، وهم بغزوهم، أما هم فلما بلغهم رجوع ابن عقبة أتوا رسول الله يشرحون له حقيقة الحال، وقالوا: نعوذ بالله من سخط الله ورسوله! بعث إلينا رجلا
ولقد سمى الوليد بن عقبة فاسقا تنفيرا وزجرا عن المبادرة والاستعجال إلى الأمر من غير تثبيت كما فعل هذا الصحابي الجليل، لكنه مؤول ومجتهد فليس فاسقا حقيقة.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله إن جاءكم فاسق كاذب بخبر فتثبتوا أولا لتعرفوا الحق من الباطل، وتقفوا على حقائق الأمور قبل الوقوع في الأخطار فكم فرق الكذب بين الأصدقاء؟ وكم سفك من دماء؟ وكم كان التسرع في الحكم مدعاة لشن حروب وغارات، وإثارة إحن وثارات، ولذلك
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ذمّا في الكذب ومدحا في الصدق: «إنّ الصّدق يهدى إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنّة، وإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار»
وكان
النبي يقول: «التّأنّى من الله والعجلة من الشّيطان».
تبينوا كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة وخطأ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فلو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عمل بقول ابن عقبة لغزا قوما مؤمنين يحبون الله ورسوله، وسفك منهم دماء، وأخذ أموالا بغير حق، فإذا ما تبين الواقع ندم على كل ذلك.
فالله يرشد عباده وأولياءه إلى هذا الأدب الكامل، ويحذرهم من العمل بالخبر قبل الكشف عنه والتثبت منه لئلا يصيبوا قوما بسبب الجهل والكذب فيصبحوا نادمين آسفين على ذلك.
والروايات تثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة كانوا يشكون في كلام وفد بنى المصطلق، فمن الصحابة من أشار بغزوهم، ومنهم من تريث، ولقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خالدا يستطلع الحقيقة، وأمره بعدم العجلة في حربهم.
واعلموا أيها الصحابة أن فيكم رسول الله، وليس المراد هذا الخبر فإنه مشاهد معروف، ولكن المراد لازمه، وهو أن فيكم الرسول الأمين المبلغ عن الوحى المعصوم من الخطأ، الذي يجب ألا يكذبه أحد من أصحابه، فإن الكذب عليه قد يوقعه في أمر
ولكن ذلك لا يكون لأن رسول الله لا يتبع إلا الموحى به، والمؤمنون لا يرضون عن مخالفة الرسول لأن الله حبب إليهم الإيمان وطاعة الرسول وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
أولئك المؤمنون الموصوفون بذلك هم الراشدون في الدنيا والآخرة، وقد فعل الله معهم ذلك تفضلا منه ورحمة ونعمة عليهم، والله عليم بخلقه حكيم في فعله.
كيف نقضي على النزاع الداخلى [سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
المفردات:
طائِفَتانِ الطائفة: الجماعة من الناس. بَغَتْ البغي: الظلم وتجاوز الحد. تَفِيءَ: ترجع إلى حالة محمودة. بِالْعَدْلِ: بالسوية بلا ظلم.
هذه الآيات نزلت كما روى عن ابن عباس في رجلين أو في قبيلتين من أهل الإسلام يقتتلان.
المعنى:
وإن اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما، ويقضوا بالحق الذي شرعه الله في كتابه: إما القصاص والقود، وإما العقل والدية، هذا الواجب العام على المسلمين يقوم به الإمام، أى: الحاكم فيدعو المتنازعين إلى الصلح، وإلى تحكيم كتاب الله والرضا بما فيه من التسامح والتساهل.
فإن تعدت إحداهما ولم تقبل نصحا بل ركبت رءوسها وقاتلت الطائفة الأخرى بغير حق، فالواجب على المسلمين والإمام الذي ينفذ ما دام موجودا وإلا فعلى عامة المسلمين وجمهورهم، الواجب قتال الفئة الباغية، وردعها عن ظلمها حتى ترجع إلى كتاب الله وتحكيمه، فإن رجعت بعد القتال، وفاءت إلى الهدوء والسكينة وترك الشرور والحروب فالواجب الصلح بينهما بالعدل صلحا على السواء والإنصاف بلا تحيز، لا صلح القوى مع الضعيف والمنتصر مع المهزوم كما يحصل اليوم، والواجب الإصلاح بالعدل لتسل الضغائن وتزول الأحقاد، ويعود الصفاء ويحل محل الخصام، وبذلك يأمن الناس الرجوع إلى الحرب، والله- تعالى- يحب المقسطين العدول وهذه الحروب الداخلية لها أحكام خاصة في كتب الفقه الإسلامى، منها أنه لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا تؤخذ أموالها، والذي يتلف في غير القتال فمضمون، وأما في القتال فلا ضمان.
وإن كانت الفئتان باغيتين وكل يدعى لنفسه الحق فعلى المسلمين جميعا الإصلاح بما يحفظ على الناس دماءهم وأموالهم، ويمنع من وقوع الحرب والدمار.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في هذه الآية تقرير لما أمر الله به من الإصلاح في الآية السابقة وبيان للعلة، إذ لحمة الإيمان وقرابته أقوى من لحمة النسب وقرابته، والأخوة
«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه».
واعلموا أن تقوى الله هي العلاج العام الذي يمنع النزاع، ويفك الخصام وهي سبيل الرحمة وطريق النجاة.
إرشادات إلهية في المعاشرة والاجتماع [سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
المفردات:
لا يَسْخَرْ السخرية: الاستهزاء والنظر إلى المسخور منه بعين النقص
وَلا تَلْمِزُوا اللمز: الطعن والضرب باللسان والتنبيه على المعايب. تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ المراد: لا يدع بعضكم بعضا بلقب قبيح. الِاسْمُ أى: الذكر، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق، أى: ذكره وشهرته. اجْتَنِبُوا: كونوا على جانب والظن على آخر، والمراد التباعد. الظَّنِّ: حد وسط بين العلم والوهم، وهم اسم لما يحصل في النفس عن أمارة قوية أو ضعيفة. الإثم: الفعل المعوق عن الثواب. وَلا تَجَسَّسُوا الجس: جس العرق باليد وتعرف نبضه للحكم عليه، وهو أخص من الحس، أى: التحسس فإنه يدرك بإحدى الحواس.
وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. شُعُوباً الشعب: الجماعة من الناس التي لها وطن خاص وهو أعم من القبيلة.
إنه لترتيب إلهى عال حيث رتب مسألة النزاع والقتال بين الطوائف والأشخاص على أنباء الفاسقين، ووقيعة الدساسين، ولذا نبهنا فيما سبق إلى التبين والتثبت في تلقى الأخبار، وإنه لنسق فريد أن يسوق تلك الإرشادات الإلهية في هذه الآيات التي تتضمن سل السخائم وإماتة الأحقاد حتى تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد بعد ذلك.
المعنى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ نادانا الله بوصف الإيمان لينهانا عن السخرية وغيرها ليشعرنا بأن ما يدعونا إليه من إرشاد هو مقتضى الإيمان الصحيح.
يا أيها المؤمنون لا يسخر رجل أو جماعة من رجل آخر أو جماعة أخرى، والسخرية بالناس رذيلة تغضب الرحمن، وترضى الشيطان، وتثير كوامن الفتن، وبواعث الشر، وهي صفة المجردين من الخير المنغمسين في حمأة الرذيلة، فالسخرية دليل خبث الطوية، وسوء السريرة ودناءة النفس ولا يصح أن يسخر نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، فالمستهزأ به غالبا يكون خيرا عند الله وأفضل من المستهزئ.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وتلك مرتبة ثانية، وأن المؤمنين كالجسد الواحد كأن من لمز غيره وعابه كأنه لمز نفسه، ولعل المعنى أنك تلمز نفسك بسبب لمزك لغيرك كما ورد
الحديث «من الكبائر أن يشتم الرّجل والديه»
وفسر بأنك إذا شتمت غيرك فشتمك فكأنك شتمت نفسك.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وكأن اللقب السيئ حجر تنبزه في وجه أخيك فينبزك هو بمثله، ولله در النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يوصى بأن تدعو أخاك بأحب الأسماء إليه، وقد بدأ الله بالأهم حيث نهانا عن السخرية التي هي داء له دواع كثيرة منها حب التظرف، والرغبة في جلب السرور على الحاضرين، ومنها الحسد الكامن والداء الباطن، ثم ثنى باللمز لما فيه من الخفاء والإشارة، وصاحبه قد يستخف به، ثم ختم هذه الإرشادات بالتنابز بالألقاب لأنه أخفها فقد يكون اللقب المكروه مما يتسامح فيه صاحبه إذا شاع وذاع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ... (الآية). وهذه إرشادات لما ينبغي مراعاته في حق المسلم إذا غاب، بعد بيان ما يجب مراعاته في حق المسلم وهو حاضر من ترك السخرية به واللمز عليه والتنابز معه بالألقاب.
وهذا القسم مشتمل على ثلاثة أمراض:
(أ) الظن السيّئ.
(ب) تتبع عورات أخيك.
(ج) إشاعة عوراته بين الناس بالغيبة، وتلك صفات لعمري تتنافى مع الإيمان الصحيح ولا يصح أن تكون في المؤمنين.
ولذا صدر الكلام بالنداء بوصف الإيمان، ولقد أخذ هذا القسم بالتدرج الطبعي، فإن أول بوادر الشر أن يخطر ببالك ظن سىء وتأويل غير مقبول لفعل أخيك، فتأخذ في تأكيد هذا الخاطر وتثبيته وبتتبع حركاته واستقصاء أعماله، لتبنى من ذلك كله عقائد يعلم الله أنها على أسس من الوهم والظن السيئ، وربما فعلها أخوك من غير قصد، ولو كان قلبك سليما من سوء الظن لما فهمت هذا، ثم يأتى بعد هذا التجسس دور الغيبة وإذاعة السوء محبة أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، وهو دور التقاطع والتدابر، والتباغض، وربما تفاقم الشر حتى يصل إلى أعلاه، وقد كان السبب أوهاما وخيالات لا أساس لها.
اجتنبوا كثيرا من الظن، فإن من الظن ما هو مطلوب كالاحتياط في دفع الأذى عن النفس والمال، والظن في استنباط الأحكام الشرعية، والظن في وجوه الكسب والعمل كالذي يحصل من أصحاب العمل والتجارة، أما الظن السيئ الذي نهانا عنه هو ما يحيك في نفوس بعض الناس بالنسبة لإخوانهم، إذا رأى أحدهم عملا يحتمل في تأويله الخير والشر، فيؤوله هو ويحمله على جانب الشر، والذي دفعه إلى ذلك منافسة ومناظرة بينه وبين أخيه، ويؤيده في ذلك اعتقاد خاطئ أن الناس كلهم شر وفساد فيتبرم بهم ويتنكر لهم ويظن بهم الظنون، وهو داء استشرى بين الناس، فنحن في حاجة ماسة إلى التمييز بين الظن الحسن بأنواعه والظن السيئ الكثير الوقوع، وما أدق قول الله بعد ذلك:
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ نعم هو موقع في الإثم والحرج، وإذا كان بعض هذا الظن يوقع في هذا الإثم المبهم، أليس من الحكمة والعقل البعد عن الكثير من هذا النوع؟ حتى نسلم من آثامه،
والنبي يقول في حديثه: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه»
والحديث وإن كان في أعمال الجوارح فخطرات القلوب وأعمالها أشد وأدهى.
والظن المنهي عنه هو ما يترتب عليه الإضرار بالناس، أما ما ينشأ عنه من الاحتراس المأمور به والتحفظ الذي لا يضر الغير فهذا مطلوب، وهو من الحزم «الحزم سوء الظّنّ» وقيل: حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة.
وَلا تَجَسَّسُوا هذا هو الدور الثاني للظن السيئ فإن الإنسان يظن بأفعال أخيه الظنون ثم ينظر فيها فلا يجد لها أسبابا قوية فيأخذ في البحث وتتبع العورات لعله يجد ما يؤيد ظنه، وهو في ذلك إن رأى حسنة أعرض عنها، وإن رأى سيئة شنع بها، ذلك من ضعف الإيمان، وسوء الاعتقاد،
ولقد صدق رسول الله حيث قال خطيبا: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تتّبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبّع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته»
نعم فإنه لا يعمل هذا إلا ضعيف الإيمان حقّا، وليس المربى والراعي داخلين في ذلك حيث يتتبعان العورات للإصلاح لا لإشاعة السوء والتشنيع.
ولقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا. الله ورسوله أعلم، قال: «هي ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت لو كان في أخى ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».
والغيبة تباح عند رفع الظلم، والشهادة في الخصومات، والاستشارات العامة، وكالتشنيع على المتجاهر بالمعصية، وما أروع هذا التمثيل حيث يقول الله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وحقا من ولغ في العرض فكأنه أكل اللحم من أخيه وهو ميت لا يقدر على رده، وكذلك المغتاب في غيبة أخيه ينهش من عرضه وهو لا يستطيع رده، فهذا أسلوب غاية في التنفير من الغيبة، ثم أتبع ذلك بقوله:
فَكَرِهْتُمُوهُ فقد صور المغتاب بصورة من يحب شيئا، حقه أن يكون في غاية الكراهية وهو أكل لحم الأخ، وزاده أن صوره بصورة الميت، وحقه أن يكون منه أنفر، وخلاصة المعنى: إن يفعل ذلك أحد فقد كرهتموه واتقوا الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
«وبعد» : فالغيبة عادة مرذولة، وصفة مستهجنة، كثيرا ما أودت بالصلات، وأثارت الأحقاد، وشتتت من جمع، وفرقت من شمل، وهي مع هذا عذابها شديد وعقابها أليم، وهي بالفساق أولى فاتقوا الله واجتنبوها
«وهل يكبّ النّاس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» صدق رسول الله.
ما مضى كانت إرشادات إسلامية يوجهها الله إلى المؤمنين ليبين لهم أن مقتضى الإيمان ألا يحصل هذا منكم كما عرفنا سابقا. وهنا قال: «يا أيها الناس» لأن هذا الداء الذي هو التفاخر والتباهي بالأنساب والأحساب داء قديم عام في جميع الأمم، فهو يعرض للناس من حيث كونهم ناسا فهو في طبيعة الإنسان، ولقد عالج الله هذا الداء علاجا حاسما حكيما، فإنك تفضل هذا على ذاك إذا كان من معدن وهو من آخر، أو هذا من صنع فلان، وذاك من صنع فلان، فإذا كانت المادة واحدة والصانع واحدا ففيم إذن الاختلاف والتفاضل؟!
وهذه هي الديمقراطية الصحيحة، وهكذا تحطيم الفروق والطبقات، أما الديمقراطية الكاذبة التي ما زالت تفرق بين الأجناس والألوان كما نرى في أمريكا الآن وجنوب أفريقيا فشيء لا يقره الدين الإسلامى الذي أصبح- وللأسف- مضغة في أفواه جنود أمريكا وأعوانها من مبشرين وملاحدة.
الله خلقكم من آدم وحواء ليس غير، وجعلكم شعوبا وقبائل، وميزكم أشكالا وأجناسا ليكون ذلك أدعى إلى التعارف، ففي التنويع تقريب للضبط وعون على المعرفة، فكيف انقلب هذا وأصبح مدعاة للمفاخرة الكاذبة، ووسيلة للتدابر والتناكر والتقاطع؟
وإذا كان لا بد من أن يفضل بعضكم بعضا فاعلموا أن التسابق يجب أن يكون بالأعمال الشخصية، وليس هناك أفضل من تقوى الله عملا، فبذلك فليفرح المؤمنون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، والتقوى أمر عام جماعها الخوف من الله والعمل على ما يرضيه، وهذا باب واسع يشمل خيرى الدنيا والآخرة، فليست التقوى محصورة في أضيق حدودها، بل هي جماع كل خير، وأساس كل فضل، والله- سبحانه- هو العليم بها، والخبير بعباده، وسيجازى كلا على عمله الظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم.
الإيمان الصحيح [سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
آمَنَّا الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، وقد أخذ منه الإيمان وهو التصديق والإذعان بالحق مع الأمن، والإسلام والاستسلام والانقياد الظاهري وترك التمرد والعناد، وقد يكون معه إخلاص وقد لا يكون، وفي عرف الشرع استعملهما مترادفين تارة، أى: بمعنى واحد ومختلفين مرة أخرى كما في هذه الآية، وكما في حديث جبريل حين سأل النبي عن الإيمان
فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشرّه»
ولما سأله عن الإسلام
قال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصّلاة وتؤدّى الزّكاة وتصوم رمضان».
لا يَلِتْكُمْ لاته يليته عن كذا: صرفه عنه، ونقصه حقه، ولا يلتكم من أعمالكم أى ينقصكم من أعمالكم شيئا. يَرْتابُوا رابه: أوقعه في الشك والتهمة، وارتاب: وقع في الشك، ومنه قيل: ريب المنون للشك فيه من جهة وقته.
يَمُنُّونَ المن: تعداد النعم اعتدادا بها وإظهارا لفضل صاحبها، وأصله من المن:
وهو القطع، كأن المان قطع نظره عن الجزاء أو قطع حاجة المنعم عليه.
، وعلى ذلك فليس المراد كل الأعراب بل هم قوم مخصوصون منهم.
المعنى:
قالت الأعراب- وهم بنو أسد وإن كان اللفظ يتناول كل من أراد بدينه وإسلامه وتقواه عرضا من أعراض الدنيا- قالت الأعراب: آمنا بالله ورسوله، وهم في الواقع لم يؤمنوا إيمانا كاملا خالصا لوجه الله، ولذا يقول الله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وهذا تكذيب لهم في دعواهم الإيمان، فإن الإيمان تصديق وإذعان، وامتلاء القلب بنور اليقين، وأولئك قوم ألجأتهم ظروفهم إلى ادعاء ذلك، ولذا يقول الله ما معناه: ما كان يصح أن تقولوا: آمنا. ولكن قولوا: أسلمنا وانقدنا ظاهريا فقط للنجو من القتل والأسر وننعم بالفيء عند المسلمين، فلا تكذبوا على علام الغيوب فإنه يعلم السر وأخفى.
ثم عاد القرآن فجبر خاطرهم ونفى عنهم الإيمان مع ترقب حصوله لهم فقال: ولما يدخل الإيمان قلوبكم، أى: إلى الآن لم يدخل، ولكنه سيدخل فيها إن شاء الله وهذا تشجيع لهم على العمل والدخول حقّا في صفوف المؤمنين فقال: وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئا بل يوفيكم جزاءها كاملا غير منقوص فهيا اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، إن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم.
وبعد هذا ألسنا في حاجة إلى بيان الإيمان حقا، وإلى تعرف المؤمنين وصفاتهم حتى نكون على بينة من أمرهم؟ نعم يقول الله شارحا الإيمان ومبينا صفات المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (الآية). وقد ذكر الله صفات لهم عدة في هذه الآية وفي غيرها..
١- المؤمنون هم الذين آمنوا بالله على أنه واهب الوجود، والقادر على كل موجود، والعالم بالسر وأخفى، والمحيط بخفايا النفوس والعليم بذات الصدور، وهو
٢- وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم على أنه خاتم الرسل وإمامهم، وأنه المبلغ عن ربه كل شيء، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى.
٣- ثم لم يرتابوا في شيء بل كان إيمانهم عن عقيدة ثابتة، ويقين كامل لا تزعزعه العواصف، ولا تدفعه الرياح، آمنوا بالله ورسوله لأنه حق وواجب بقطع النظر عن أى شيء آخر لم يكن إيمانهم لغرض، فإن أعطوا منه رضوا، وإن لم يعطوا منه إذا هم يسخطون، ومن هنا كان نفى الريب والشك درجة عليا تناسب ذكر (ثم) معه.
٤- الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس محك الإيمان ودليله، وعنوانه وأساسه، فليس الإيمان دعوى تردد باللسان، ولا خداع بالكلام، وإنما هو جهاد للنفس وللعدو ولأعداء الإسلام، ودعوته جهاد في سبيل الله فقط ولإعلاء كلمة الله فقط لا لدنيا يصيبها أو لغرض يحققه، ولقد سئل صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة. ويقاتل حمية، ويقاتل رياء: أى ذلك في سبيل الله؟
فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
ومعنى كون كلمة الله هي العليا أن يكون الناس أحرارا في أن يدينوا بدين الله وأن يدعوا إلى سبيل الله، لا يمنعهم من ذلك مانع.
أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في إيمانهم ودعواهم لا هؤلاء الأعراب من بنى أسد.
روى أنه لما نزلت تلك الآية التي تقضى بتكذيبهم جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون وصادقون فنزلت هذه الآية أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
لتكذيبهم وتسفيه عقولهم إذ هم يخاطبون الرسول الذي يستقى علمه من علام الغيوب العليم بذات الصدور فكيف تنطلى الأكاذيب عليه، وهو يعلم كل ما في السموات، وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم.
يمنون عليك أيها الرسول أن أسلموا، سمى الله ما أظهروه إسلاما، ونفى أن يكون إيمانا كما زعموا، قل لهم يا محمد: لا تمنوا على إسلامكم، وفي إضافة الإسلام لهم معنى
تلك أحكام اللطيف الخبير، وإرشادات العليم البصير الذي يعلم غيب السموات والأرض وهو بصير بما تعملون، وسيجازيكم عليه، وهذا ختام للسورة رائع.