ﰡ
في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي ﷺ وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي ﷺ وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية.
والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوّغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها.
وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة. ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك «١». فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥).
(٢) الحجرات: جمع حجرة وهي الغرفة، والمقصود هنا مساكن النبي ﷺ التي كانت في جانب مسجده.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين
في الآية الأولى: نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي ﷺ بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدوا رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي ﷺ من قول وعمل ورأي والوقوف عنده. مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.
وفي الآية الثانية: نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.
وفي الآية الثالثة: تنويه (على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي) بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.
وفي الآيتين الرابعة والخامسة: تنديد بالذين ينادون النبي ﷺ من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد. فأكثرهم جاهلون لا يعقلون. ولو أنهم الجزء الثامن من التفسير الحديث ٣٢
ومع ذلك فالله غفور رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.
والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي ﷺ كما هو واضح. وقد روى المفسرون «١» لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة. فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول:
(١) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلّا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما وكان ذلك في حضرة النبي ﷺ وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله بن الزبير «٢».
(٢) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي ﷺ وجوب الصوم.
(٣) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم. ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت بن قيس كان جهير الصوت فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك؟ قال شرّ، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة «٣».
(٢) التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢١٣- ٢١٤.
(٣) التاج ج ٤ ص ٢١٤. وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.
(١) أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.
(٢) وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي ﷺ في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي ﷺ والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها، استهدافا لذلك التأديب والتعليم. بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.
والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل: أولا: على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الندّ للندّ وبدون احتشام كبير. وثانيا: على أن
هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي ﷺ والاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.
كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتواتر أن النبي ﷺ عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحلّ مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود إلخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه ثم أخذ ينشىء إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته. وقد توفي ﷺ في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
. (١) عنتم: شقّ عليكم.
في الآيات:
(١) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق
(٢) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر، فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله ﷺ الموجود بينهم فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة. وأن الله قد منّ عليهم أيضا بفضله ونعمته فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك. ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون. والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره.
تعليق على الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا... إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين
لقد روى المفسرون «١» روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات. منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت إن النبي ﷺ بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوّج النبي ﷺ ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع وقال لرسول الله ﷺ إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم فأتوه ووجدوه يصلّي الظهر فتصافوا أمامه وصاروا يقولون نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدّقا فسررنا وقرّت أعيننا ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذّن لصلاة العصر فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ... إلخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وإنه قال لرسول الله إن بني المصطلق
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق. ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم. ولا سيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدّقه النبي ﷺ والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء. على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق، ويسوّغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة.
والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى. ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها. لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه، وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه. ولقد روى الترمذي «أن أبا سعيد الخدري قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ثم قال هذا نبيكم يوحى إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم» «١» مما فيه تدعيم
والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان. وحيث ينطوي في هذا التنويه حثّ على هذه الصفات والتزامها.
ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي رفاعة الزرقي قال «لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال اللهمّ لك الحمد كلّه. اللهمّ لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت. ولا هادي لمن أضللت ولا مضلّ لمن هديت.
ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت ولا مباعد لما قرّبت اللهمّ ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهمّ إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهمّ إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شرّ ما أعطيتنا ومن شرّ ما منعتنا. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهمّ توفّنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين. غير خزايا ولا مفتونين. اللهمّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ويصدّون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهمّ قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحقّ»، حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله ﷺ فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه. ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة.
هذا وجملة إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد ووجوب ردّ من عرف بفسقه. والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرّد عن كلّ ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية.
ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد. ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرّا ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين. وهذا سديد مستلهم من روح الآية. وإذا لم يشهد عدلان بعدالته ردّه القاضي، وبعض القضاة يردون مجهول الحال. والقوانين تمنح للمدعى عليه حقّ الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه، فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عدّ قاذفا عليه العقاب وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
. (١) حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع عن بغيها وتقبل حكم الله وما رسمه من حدود.
تعليق على الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما والآية التالية لها وما فيها من أحكام وتلقين وما ورد في صددها وفي صدد الأخوة بين المسلمين من أحاديث ومدى هذه الأخوة والخطة الرائعة المرسومة فيها لما يجب أن يكون عليه الأمر بين الدول الإسلامية
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تعليم للمسلمين بما يجب عليهم إذا اقتتلت
ولقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها رواية رواها مسلم في صحيحه عن أنس قال «قيل للنبي ﷺ لو أتيت عبد الله بن أبي.
فركب النبي ﷺ حمارا وانطلق إليه مع بعض المسلمين. وكانت الأرض سبخة.
فلما أتاه قال له إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فكان بينهم ضرب بالأيدي والجريد والنعال. قال فبلغنا أنه نزلت فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... » «٢» ومنها رواية رواها الطبري الذي روى أيضا الرواية السابقة جاء فيها «إن امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد كانت تحت رجل فكان بينها وبينه شيء فضربها فجاء قومها وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ فنزلت الآية وجاء النبيّ فأصلح بينهم». ومنها رواية رواها الطبري كذلك جاء فيها أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار وكانت بينهما مشادة على حقّ لأحدهما على الآخر فقال صاحبه لآخذنّه عنوة لكثرة عشيرته فدعاه الآخر إلى نبيّ الله ليحاكمه فأبى واشتدّ الأمر بينهم فتدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن في الآية ما يفيد أن القتال على أمور وحقوق خاصة يجب إقرارها
(٢) التاج ج ٤ ص ٢١٥ والروايات رواها غير الطبري أيضا.
والآيتان احتوتا تعليما تام الأركان رائع المدى في شأن ما يقوم من نزاع وقتال بين فريقين من المسلمين. وموجها إلى الفريق الذي ليس طرفا في النزاع بين المسلمين. وموجبا عليه بأن لا يقف موقف الساكت المتفرج بل يسارع إلى التدخل والإصلاح بين الفريقين المتنازعين وإحقاق الحق لصاحبه بدون محاباة. ونصرة المظلوم المبغى عليه بالسلاح إذا لم يرتدع الظالم ويقف عند ما رسمه الله ورسوله من حدود الحق والعدل.
وإطلاق العبارة في الآيتين يجعل ما تحتويانه من تعليم عامّا مستمر التلقين.
ويجعل واجب المسلمين المذكور فيهما لازما عليهم في كل وقت ومكان. وفيهما توطيد للأخوة والسلم بين المسلمين. وتقرير لمنافاة النزاع والبغي والظلم بينهم لمعنى الأخوة الإسلامية. وفي هذا من الروعة والجلال ما هو واضح.
وقد يصح أن يقال إن طائفتي المسلمين يمكن أن تكونا قبيلتين أو أسرتين أو مدينتين في نطاق دولة واحدة ويمكن أن تكونا جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو دولتين كل منهما ذات سلطان مستقل.
وفي صدد التطبيق قد يكون الأمر بالنسبة للنزاع والقتال بين جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو بين دولتين كل منهما مستقل السلطان هو الأكثر تواردا. لأنه لا يبدو ضرورة لقتال الفريق الباغي من طرف ثالث لو كان الأمر يظل دائما في نطاق خصومة عائلية في بلد ما أو قبيلة ما أو بين قبيلتين أو مدينتين في
ولا تعدّ حكومة هذه الدولة طرفا ثالثا بطبيعة الحال. وحتى لو كانت ظروف الدولة تتحمل مثل ذلك فإن تناول حكم الآيتين لدولتين إسلاميتين أو لجماعتين إسلاميتين لا ترضخ إحداهما لسلطان الأخرى في نطاق دولة واحدة يظل قويّ الورود.
ولعل ما كان من حوادث أليمة بين المسلمين بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وما كان من تكتلهم كتلا بعضهم ينصر فريقا أو إماما وبعضهم ينصر فريقا أو إماما آخر ولا يخضع بعضهم لسلطان الآخر في نطاق دولة واحدة كان من هذا الباب ومن قبيل الاجتهاد في من هو الباغي وفي من هو المبغى عليه أو من قبيل فرض السلطان مما لا يتحمل منهج التفسير تفصيله.
ونريد أن نستدرك أمرا في صدد احتمال قيام دول إسلامية عديدة. وهو أن القرآن قرر ضمنا واقع الأمر من أن رئاسة النبي ﷺ للدولة كانت شاملة لجميع المسلمين ومصالحهم وكما قررت ذلك الأحاديث النبوية. وأن هذا استمر في عهد الخلفاء الراشدين وبعدهم إلى أمد غير قصير بحيث يسوغ القول إن الأصل في الإسلام هو وحدة الدولة. وإن كان ذلك تقريرا لواقع ما كان دون أن يكون فيه شيء صريح وقطعي من قرآن وسنّة.
ولقد روت الروايات أن فريقا من أصحاب رسول الله ﷺ بذلوا جهودهم أولا في وقف ما كان من شقاق وحروب بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير بعد مقتل عثمان رضي الله عنهم أجمعين. ثم بين علي من جهة ومعاوية من جهة رضي الله عنهما. وإن صلحا تمّ بين علي ومعاوية نتيجة لهذه الجهود على أساس استقلال علي بحكم العراق وبعض البلاد واستقلال معاوية بحكم الشام وبعض البلاد «١»
ولقد كان في أواخر القرن الهجري الثاني ثلاث دول إسلامية كل منها مستقلة عن الأخرى كل الاستقلال وهي العباسية في المشرق والإدريسية في المغرب والأموية في الأندلس. وفي أواخر القرن الثالث قامت الفاطمية في شمال إفريقية ثم امتدت إلى مصر والشام. وكانت كل من الأموية في الأندلس والفاطمية والعباسية تتسم بسمة الخلافة وينعت رؤساؤها بنعت أمير المؤمنين. وكان القرآن والسنة مصدري حكمهم وشرائعهم. وساغ ذلك في نظر جمهور المسلمين. ثم استمرت ظاهرة قيام دول إسلامية مستقلة بعضها عن بعض والقرآن والسنّة مصدرا تشريعها وحكمها وما تزال.
ونخلص من هذا إلى القول إن حكم الآيتين وتلقينهما واجدان مجالهما الأوسع والألزم في حالة وجود دول إسلامية عديدة بحيث يكون هو الضابط للعلاقات بينهما. ويكون الانحراف عنه إثما دينيا فضلا عن خطره عليها جميعا وبحيث يقوم بينها تضامن تام في المنافع والمصالح والدفاع والتعاون في مختلف المجالات. وإذا نشب خلاف ونزاع وقتال بين دولتين أو أكثر منهما وجب على سائر الدول الإسراع إلى المداخلة وحل المشكل في نطاق ذلك الأساس والتضامن في فرض قبول الحل على المبطل ولو أدى الأمر إلى الاجتماع على قتاله إلى أن يفيء لأمر الله ويخضع للحق. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. وخاصة إذا لا حظنا أن مثل هذا النظام هو أسمى ما يتوق إلى تحقيقه العالم، ويرى أساطينه أن لا سبيل إلى توطيد العدل والسلم والحق بين أمم الأرض ودولها إلّا به حيث تبدو بذلك روعة الهدى القرآني ومعجزته الخالدة.
ومسألة تعيين الباغي في هذا الموقف مسألة دقيقة من دون ريب. ولا سيما إذا كانت الأسباب مختلفا فيها. وهذا ما يوجب على الطرف الثالث سواء أكان دولة
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات وبخاصة في صدد الإقساط والأخوة الإسلامية وواجباتها والتضامن الإسلامي أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة.
منها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزّ وجل بما أقسطوا في الدنيا» «١» وروي لهذا الحديث صيغة أخرى بطريق آخر وهي «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» «٢». ومنها حديث عن النعمان بن بشير رواه الشيخان جاء فيه «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» «٣». ومنها حديث عن أبي موسى رواه الشيخان والترمذي جاء فيه «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا وشبّك بين أصابعه» «٤». وهناك أحاديث صحيحة أخرى في هذا الباب منها حديث عن أبي هريرة رواه الأربعة جاء فيه «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.
التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «٥».
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) التاج ج ٥ ص ٣٥.
وينطوي في تقرير الأخوة بين المسلمين في الآية والأحاديث تقرير المساواة بينهم كما هو المتبادر. فكما أن كل مسلم أخ لسائر المسلمين فإن كل مسلم متساو مع سائر المسلمين في الحقوق والواجبات العامة. وبكلمة أخرى ليس بين المسلمين طبقات متفاوتة يكون لإحداها على الأخرى حق التميز والتفوق والتعالي بسبب الأحساب والكثرة والمال. وتكون الفرص بينهم متكافئة. وما يكون ويصح أن يكون بينهم من تفاوت في المركز الاجتماعي والسياسي ونطاق الحكم والثروة مما هو نتيجة للتفاوت في المواهب والنشاط والمطامح وحسن اقتناص الفرص ليس من شأنه أن يسبغ لأحد على أحد ذلك الحق.
وليس هذا طبقية أيضا. لأنه مقبول متحول دائما. ولقد روى أبو داود عن علي بن أبي طالب حديثا عن رسول الله جاء فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم» «٣» ويأتي بعد قليل آية رائعة تقرر التساوي بين الناس وتقرر أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم.
والمتبادر من إطلاق جملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ومن الإطلاق في الأحاديث أن الرجال والنساء سواء في هذه الأخوة. وفي القرآن آيات مؤيدة لذلك
(٢) التاج ج ٥ ص ٣٦ وكذلك روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا. انظر المصدر نفسه.
(٣) تفسير القاسمي للآيات [١٧٨ و ١٧٩] من سورة البقرة والتاج ج ٢ ص ١٦٨.
هذا، ولقد قال المفسرون «١» إن في الآيتين دليلا على أن القتال بين المسلمين لا يزيل اسم الإيمان عنهم حتى ولا عن الباغي منهم لأن الله سماهم إخوة ومؤمنين. وفي هذا وجاهة ظاهرة. ولقد روى البغوي «أن سائلا سأل عليّ بن أبي طالب عن الذين قاتلهم وقاتلوه في وقعتي الجمل وصفين «٢» هل هم مشركون؟ قال لا إنهم من الشرك فرّوا. فسأله هل هم منافقون؟ قال لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا. فسأله فما حالهم؟ قال إخواننا بغوا علينا».
ومع أن قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله مستند إلى أمر الله في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما فالمتبادر أن هذا لا يدخل ذلك في مدى ومفهوم الجهاد في سبيل الله وموجباته ومقتضياته وحدوده وآثاره. لأن هذا إنما شرع بالنسبة لأعداء المسلمين من غيرهم. ويستتبع هذا أن لا يكون استرقاق للأسرى المسلمين الذين تأسرهم الفئة الثانية ولا جواز قتلهم ولا يكونوا تابعين للفداء لأن كل هذا إنما جاء كذلك بالنسبة لأسرى غير المسلمين من الأعداء. ولقد
(٢) الواقعة الأولى بين علي وأنصاره من جهة وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعا من جهة. والثاني بين علي وأنصاره من جهة ومعاوية وأنصاره من جهة.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
. (١) قوم: هنا بمعنى الرجال على ما عليه الجمهور.
(٢) لا تلمزوا: لا تعيبوا ولا تغمزوا ولا تطعنوا.
(٣) ولا تنابزوا بالألقاب: ولا تنعتوا بعضكم بأسماء وألقاب مكروهة.
في الآية:
(١) نهي للمسلمين رجالهم ونسائهم عن سخرية بعضهم من بعض. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أنه قد يكون المسخور به خيرا من الساخر.
(٢) ونهي كذلك عن غمز بعضهم بعضا بما يسيئه أو تلقيب بعضهم بعضا بأسماء وألقاب مكروهة. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أن في ذلك فسقا.
ولبئس الإنسان أن يفسق بعد الإيمان.
(٣) وإنذار للذين لا يرتدعون ولا يتوبون فهم ظالمون باغون.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وما فيها من تلقين وتأديب
ولقد احتوت الآية أربعة نواه. وروى المفسرون «١» لكل نهي مناسبة خاصة.
والثاني بسبب سخرية بعض زوجات النبي ببعض آخر منهن بسبب قصر قامتها وهي أم سلمة أو بسبب يهوديتها وهي صفية. والثالث بسبب غمز مسلم لمسلم آخر بأمه لأنه لم يفسح له مكانا للجلوس فيه قرب النبي صلى الله عليه وسلم. أو بسبب تسمية أشخاص بأسماء لهم غير مستحبة عندهم فيثيرون بذلك غضبهم. والرابع بسبب نعت بعض المسلمين بعض من أسلم من اليهود والنصارى باليهودي والنصراني. والآية منسجمة الأجزاء والأسلوب متماثلة المواضيع إجمالا. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أنها غير منقطعة وغير منفصلة عن مواضيع ما قبلها وما بعدها. فإذا كانت الحوادث المروية صحيحة وهو محتمل فالراجح أنها وقعت قبل نزول الآية بل قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول الآية في جملة آيات السورة التأديبية.
وعبارة الآية مطلقة من شأنها أن يكون ما احتوته تعليما وتأديبا عامين للمسلمين في كل وقت ومكان. وقد استهدفت توطيد الأخوة والمودة بينهم.
فالمنهيات مما يتنافى مع آداب السلوك الرفيعة. ومن شأنها إثارة العداء والبغضاء والأحقاد بين المسلمين بعد أن جمعت بينهم أخوة الإسلام العامة.
ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين أن النهي يتناول كل ما فيه نبز وسخرية وانتقاص وتحقير وإساءة ومن ذلك نعت المرء لآخر بالفسق والكفر والنفاق وبالكلب والحمار. وهذا سديد، ويمكن أن يقاس على هذا كل ما يكون من هذا الباب بطبيعة الحال غير ما ذكر.
ولسنا نرى محلا للاستشكال بسبب نهي الرجال عن السخرية من الرجال فقط والنساء عن السخرية من النساء. وبسبب تعليل النهي باحتمال أن يكون المسخور به خيرا من الساخر. فالتقريرات والمبادئ القرآنية عامة تمنع أن يفرض إجازة سخرية الرجال من النساء والنساء من الرجال وإجازة السخرية من أحد ما إطلاقا سواء أكان الساخر خيرا منه أم كان المسخور منه غير خير من الساخر. وروح الآية وهدفها بالذات يلهمان أنها بسبيل تأديب المسلمين رجالهم ونسائهم جميعا، ويلهمان بالتالي أن كل ما نهي عنه فيها وارد بالنسبة للرجال والنساء على السواء الجزء الثامن من التفسير الحديث ٣٣
ولقد أثرت عن رسول الله ﷺ أحاديث عديدة متساوقة في التلقين مع تلقين الآية مع شيء من التوضيح نكتفي منها بما ورد في الكتب الخمسة، منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال «أيّما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان قال وإلّا رجعت عليه». وحديث رواه الشيخان عن أبي ذرّ قال «سمع النبيّ ﷺ يقول لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلّا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك». وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله عن النبي ﷺ «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال «قال النبيّ ﷺ المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم». وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال «اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة على الميّت». وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال «قال النبيّ ﷺ ليس المؤمن بالطّعّان ولا اللّعّان ولا الفاحش ولا البذيء» وحديث رواه أبو داود عن عائشة قالت «اعتلّ بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله ﷺ لزينب أعطها بعيرا فقالت أنا أعطي تلك اليهودية. فغضب النبيّ ﷺ وهجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر» وفي بعض الأحاديث التي أوردناها في الفقرة السابقة شيء متصل بهذه الآية ومنها الذي جاء فيه «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره».
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
. (١) ولا تجسّسوا: ولا تبحثوا سرا عن عورات الناس وشؤونهم الخاصة لتطّلعوا على مخفياتهم.
(١) أمر للمسلمين باجتناب الظنون والتخمينات والأخذ بها والحكم على الأمور بموجبها. فإنّ من الظنون ما هو خطأ يجرّ صاحبه إلى الإثم.
(٢) ونهي لهم عن البحث عن عورات بعضهم ومخفيات أمورهم وكشفها عن اغتياب بعضهم بعضا وذكره بالسوء في غيابه. وسؤال إنكاري على سبيل توكيد النهي عن الغيبة بخاصة عما إذا كان يحبّ أحدهم أن يأكل لحم أخيه ميتا. وتقرير لما هو طبيعي من كراهية ذلك.
(٣) وحثّ على تقوى الله ومراقبته والتوبة عن مثل هذه الأعمال البغيضة المكروهة المؤذية مع التنبيه على أن الله تعالى تواب يقبل توبة التائب ويشمله برحمته.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إلخ وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث
وقد روى المفسرون «١» أن الآية نزلت أثناء غزوة غزاها النبي. حيث ضمّ سلمان الفارسي إلى شخصين موسرين- وهذا من عادة النبي حينما يخرج إلى غزاة- ليخدمهما ويأكل معهما. فغلبته عيناه مرة فلم يجهز لهما طعاما فأرسلاه إلى النبي ﷺ فأرسله إلى أسامة بن زيد خازن المئونة فقال له ليس عندي شيء فأرسلاه إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فقالوا له لو أرسلناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان على أسامة ليعلما إن كان عنده طعام ومنعه وأخذا يغمزان سلمان ويغتابان أسامة فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا لحما قال بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله الآية.
ولقد استهدفت الآية تنبيه المسلمين إلى وجوب رعاية حقوق بعضهم وأعراضهم في الغياب وتغليب حسن الظن في بعضهم وكبت غريزة الاستطلاع والتجسس على أسرار بعضهم ومخفياتهم. وتلقينها عام مستمر المدى كسابقاتها.
وتعبير أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تعبير قوي لاذع بسبيل تعظيم إثم غيبة الناس واستنكارها.
وهكذا تتكامل سلسلة التأديبات الرفيعة ليكون المسلمون بها مثال مكارم الأخلاق منزهين عن سيئاتها ومكروهاتها الخاصة والعامة.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة في صدد منهياتها. منها حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال «رأيت النبي ﷺ يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه وأن يظنّ به إلّا خيرا» «١» وحديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه «إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» «٢». وحديث رواه أبو داود عن معاوية قال «سمعت رسول الله ﷺ يقول إنك إن اتبعت عورات الناس
(٢) المصدر نفسه.
وهذه طائفة من أحاديث نبوية أخرى في صور من الاغتياب المكروهة التي نبّه رسول الله عليها وندّد بها ونهى عنها. منها أحاديث رواها الطبري بطرقه وهو من أئمة الحديث ومن ذلك حديث عن أبي هريرة جاء فيه «إنّ رجلا قام عند رسول الله ﷺ فرأوا في قيامه عجزا فقالوا ما أعجز فلانا فقال رسول الله أكلتم لحم
(٢) المصدر نفسه.
(٣) النص من ابن كثير أيضا. وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بطريق أخرى مع خلاف يسير في العبارة.
(٤) النصوص من ابن كثير أيضا، وقد أورد ابن كثير الحديث الأول من طريق أخرى بصيغة أخرى.
(٥) المصدر نفسه.
وهناك حديث يرويه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال «إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ، ومن الكبائر السّبّتان بالسّبة» «٤» وفي الأحاديث تعليم وتأديب نبويان واجبا الالتزام.
هذا، وهناك حديث صحيح استنبط منه العلماء جواز غيبة الفاسق. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «استأذن رجل على النبيّ ﷺ فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام، قال أي عائشة إن شرّ الناس من
(٢) روى أبو داود والترمذي حديثا مقاربا بصيغة أخرى عن عائشة قالت «قلت للنبي ﷺ حسبك من صفية كذا وكذا يعني قصيرة. فقال قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) التاج ج ٥ ص ٢٤.
(٣) روى هذا الحديث أبو داود أيضا انظر التاج ج ٥ ص ٢٥.
(٤) التاج ج ٥ ص ٢٤.
وهناك حديثان نبويان فيهما صورة لأخلاق رسول الله متصلة بالموضوع الذي نحن فيه رواهما أبو داود والترمذي أحدهما عن عبد الله عن النبي ﷺ قال «لا يبلّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» «٢» وثانيهما عن عائشة قالت «حكيت للنبي إنسانا فقال ما أحبّ أني حكيت إنسانا وأنّ لي كذا وكذا» «٣» حيث ينطوي فيهما تأديب نبوي للمسلمين أيضا الذين أمروا بأن يكون لهم رسول الله الأسوة الحسنة.
ولقد شرحنا كلمة وَلا تَجَسَّسُوا بما شرحناه لأن هذا هو ما يلهمه مقامها والأحاديث التي أوردناها في صددها. ومن المعلوم أن هناك عملا آخر من أعمال التجسس وهو التجسس على الأعداء والتجسس لهم. والأول مبرّر. وهناك حديث رواه أبو داود عن أنس في هذا جاء فيه «بعث النبيّ ﷺ بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان» «٤» وحديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «قال النبيّ ﷺ يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا. قالها ثلاثا ويجيبه الزبير. فقال النبيّ لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّي الزبير» «٥». والثاني جريمة قد تكون ارتدادا لأن فيها توليا ونصرة للأعداء ومتولي الأعداء وناصرهم على المسلمين منهم وليس من الله في شيء كما جاء في آية سورة آل عمران هذه لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [٢٨] وآية سورة المائدة هذه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «٦».
(٢) التاج ج ٥ ص ٢٤.
(٣) المصدر السابق نفسه. والمتبادر أن كلمة (حكيت) بمعنى قلدت ذلك الإنسان في عمله أو قوله ويكون ذلك القول أو العمل غير مستحب أو مثيرا للسخرية. وهذا من مألوفات ما يفعله الناس.
(٤) التاج ج ٤ ص ٣٦١.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) هذه الآية في سلسلة فيها نهي عن اتخاذ الذين يتخذون دين المسلمين هزوا من أهل الكتاب والمشركين حيث يكونون بذلك أعداء للمسلمين. وفي السلسلة نعت الذين يفعلون ذلك بالارتداد أيضا. [.....]
ويرد على البال الجواسيس الذين تبثّهم الحكومات بين رعاياها. فإن كان ذلك ضدّ المجرمين وجرائمهم حقا وصدقا فقد يكون مبررا. وإن كان لغير ذلك يكون إثما عند الله وداخلا في نطاق النهي القرآني والنبوي، والله تعالى أعلم.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
. (١) شعوبا وقبائل: أوجه الأقوال في الكلمتين على ما تلهمه روح الآية وتقديم الأولى على الثانية أن (الشعب) هو الأصل البعيد الجامع وأنه سمّي بذلك لأنه يتشعب إلى فروع. وأن (القبيلة) هي الأصل القريب المتفرع عن الشعب التي يتجمع فيها أفراد الفرع المنحدرين من أب أقرب.
(٢) المصدر نفسه ص ٣٦٠ ذكر الشارح في ذيله أن النبي ﷺ عدل عن قتل فرات لأن حليفه كفله وأنه تاب وحسن إسلامه. ولم يذكر سندا لذلك. فإذا صح ففيه سنة نبوية بطبيعة الحال.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا وما فيها من تلقينات رائعة وما ورد في صددها من أحاديث
عبارة الآية واضحة، وفيها هتاف للناس جميعا بأن الله قد خلقهم متساوين من ذكر وأنثى. وأن تفرقهم إلى شعوب وقبائل للتعارف وليس للتفاضل. وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم بالإقبال على صالح العمل واجتناب الآثام. وأن الله عليم خبير بأعمالهم وشؤونهم لا تخفى عليه منهم خافية.
وقد روى المفسرون أكثر من رواية لمناسبة نزول الآية. منها أن صحابيا اشترى عبدا على شريطة عدم منعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله ﷺ فواظب على ذلك. وقد غاب فسأل عنه النبي ﷺ فقيل له إنه محموم فعاده ثم بلغه أنه يحتضر فحضر موته وتولّى غسله ودفنه، فدخل على الأنصار والمهاجرين من ذلك أمر عظيم فنزلت الآية لتهتف بما هتفت به «١». ومنها أنها نزلت في ثابت بن قيس حيث غمز بأمّ رجل لم يفسح له في المجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلّا بالدين والتّقوى «٢». ومنها أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذّن عقب فتح مكة قال الحارث بن هشام أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، فأخبر الله رسوله وأوحى بالآية لزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء «٣».
والروايات غير موثقة الإسناد. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية نزلت
(٢) انظر تفسير الخازن.
(٣) المصدر نفسه.
وأصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار أجلّ من أن يداخلهم همّ عظيم بسبب ما ظهر من رسول الله ﷺ من برّ وتكريم لمسلم ولو كان عبدا وهو ما روته الرواية الأولى. وقد يكون في الرواية الثانية مناسبة لأن فيها شيئا مما يتناسب مع الآية، ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين [١١ و ١٢] اللتين نهتا المسلمين عن إساءة بعضهم لبعض وجاها وغيابا بسخرية وانتقاص أو نبز أو لمز أو سوء ظن أو غيبة أو تجسس وكشف عورة على اعتبار أن فاعل ذلك إنما يفعله وهو يظنّ أنه أرفع وأفضل وأكرم من غيره. وإنها بالتالي جزء من سلسلة الآيات وتتمة لما احتوته من تعليم وتأديب ساميين.
على أن الآية بما هتفت به بالناس واستهدفته من تذكيرهم بمساواتهم لبعض في الأصل والطبيعة وحقوق الحياة. ومن تقرير كون التفاضل بينهم إنما يكون في العمل الصالح وتقوى الله. وكون الأكرم عند الله إنما هو الأتقى، هي جملة تامة لذاتها تقرر وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى، في مساواة الناس في الحقوق والواجبات العامة مساواة تامة. وفي هدم درجات التفاوت والطبقات في الإسلام ونسف امتيازاتها القائمة على الأنساب والأحساب والثروات وما يماثلها من الأعراض. وفي جعل التفاضل منوطا بالسلوك الشخصي
ويلفت النظر بخاصة إلى المخاطب في الآية. فبينما خاطبت الآيات السابقة لها المسلمين جاءت هذه الآية لتخاطب الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأنسابهم وأحسابهم وأديانهم ونحلهم خطابا مطلقا يمتد ما دامت الحياة الدنيا، لأن الموضوع الخطير الذي تقرره هو الذي يتناسب مع هذا الخطاب أكثر. وفيها شيء من معنى التنديد اللاذع بما اعتاده الناس من التفاخر بالأحساب والأنساب والثروات وما يماثلها من الأعراض.
وهذه الدلالات قوية البروز في الخطبة الرائعة التي ألقاها السيد الرسول صلوات الله عليه بعد فتح مكة وتلا فيها الآية والتي أوردنا خبرها قبل.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآية وفي صددها أحاديث نبوية قوية التلقين والعظة منها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «١». وحديث أخرجه الطبراني عن محمد بن حبيب بن خراش العصري عن أبيه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتّقوى» «٢». وحديث أخرجه أبو بكر البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلّكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكوننّ أهون على الله تعالى من الجعلان» «٣». وحديث رواه الطبري جاء فيه «قال
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق آيات في سورة (المؤمنون) تحتوي التلقين الذي احتوته الأحاديث الشريفة وهي فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣).
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
. (١) لا يلتكم: لا ينقصكم.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
تعليق على الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا | والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين |
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت:
أولا: صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم ومنّهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ردت عليهم الآيات ردّا قويّا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمنّ عليهم بهما.
وثانيا: تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله. وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا: وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحثّ على الاتصاف به.
ورابعا: فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل
ولقد كان تعبير (الإسلام) يأتي بمعنى إسلام النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب أَسْلَمْنا دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم. حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن. ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد ﷺ على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. فجملة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى (قولوا اتخذنا الإسلام دينا) والله أعلم.
ولقد نبّه بعض المفسرين «١» إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح. ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم. وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحثّ في مناسبة ما روي عنهم من منّ وتبجّح. وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا حال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [١٠] وفَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [٨] كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي ﷺ يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩). وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: ٩٧- ٩٨]. حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المنّ بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حقّ ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما. لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صحّ هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة، والله تعالى أعلم.