تفسير سورة الأعراف

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قلت : أرأيت ما يأتي بعد حروف الهِجاء مرفوعا ؛ مثل قوله :﴿ المص كتابٌ أنزل إِليك ﴾ ومثل قوله :﴿ الم تنزِيلُ الكتابِ ﴾، وقوله :﴿ الر كِتابٌ أحكمت آياتهُ ﴾ وأشباه ذلك بم رفعت الكتاب في هؤلاء الأحرف ؟
قلت : رفعته بحروف الهجاء إلى قبله ؛ كأنك قلت : الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتابٌ أنزل إليك مجموعا. فإن قلت : كأنك قد جعلت الألف واللام والميم والصاد يؤدّين عن جميع حروف المعجم، وهو ثلاثة أحرف أو أربعة ؟ قلت : نعم، كما أنك تقول : اب ت ث ثمانية وعشرون حرفا، فتكتفي بأربعة أحرف من ثمانية وعشرين. فإن قلت : إن ألف ب ت ث قد صارت كالاسم لحروف الهجاء ؛ كما تقول : قرأت الحمد، فصارت اسما لفاتحة الكتاب. قلت : إن الذي تقول ليقع في الوَهْم، ولكنك قد تقول : ابنى في ا ب ت ث، ولو قلت في حاط لجاز ولعلمت بأنه يريد : ابنى في الحروف المقطَّعة. فلما اكتفي بغير أوّلها علمنا أن أوّلها ليس لها باسم وإن كن أوّلها آثر في الذكر من سائرها. فإن قلت : فكيف جاءت حروف ( المص ) ( كهيعص ) مختلفة ثم أنزلا منزل باتاثا وهنّ متواليات ؟ قلت : إذا ذكرن متواليات دللن على أ ب ت ث بعينها مقطَّعة، وإذا لم يأتين متواليات دللن على الكلام المتصل لا على المقطّع. أنشدني الحارثىّ :
تعلمت باجاد وآل مُرامِرٍ *** وسوّدتُ أثوابى ولست
بكاتب وأنشدني بعض بنى أَسَد :
لّما رأيت أمرها في حُطِّى *** وفَنَكت في كذب ولط
أخذتُ منها بقرونٍ شُمطِ *** ولم يزل ضربى لها ومَعْطِى
*** حتى على الرأسِ دم يغطِى ***
فاكتفي بحطى من أبى جاد، ولو قال قائل : الصبي في هوّز أو كلمن، لكفي ذلك من أبى جاد.
وقد قال الكسائي : رفعت ﴿ كتابٌ أنزل إليك ﴾ وأشباهه من المرفوع بعد الهجاء بإضمار ( هذا ) أو ( ذلك ) وهو وجه. وكأنه إذا أضمر ( هذا ) أو ( ذلك ) أضمر لحروف الهجاء ما يرفعها قبلها ؛ لأنها لا تكون إلا ولها موضع.
قال : أفرأيت ما جاء منها ليس بعده ما يرافعه ؛ مثل قوله : حم. عسق، ويس، وق، وص، مما يقلّ أو يكثر، ما موضعه إذ لم يكن بعده مرافع ؟ قلت : قبله ضمير يرفعه، بمنزلة قول الله تبارك وتعالى :﴿ براءة مِن اللّهِ ورسولِهِ ﴾ المعنى والله أعلم : هذه براءة من الله. وكذلك ﴿ سورة أَنزلناها ﴾ وكذلك كل حرف مرفوع مع القول ما ترى معه ما يرفعه فقبله اسم مضمر يرفعه ؛ مثل قوله :﴿ ولا تقولوا ثلاثة انتهوا ﴾ المعنى والله أعلم : لا تقولوا هم ثلاثة، يعنى الآلهة. وكذلك قوله :﴿ سيقولون ثلاثة رابِعهم ﴾ المعنى والله أعلم : سيقولون هم ثلاثة.
وقد قيل في ( كهيعص ) : إنه مفسّر لأسماء الله. فقيل : الكاف من كريم، والهاء من هاد، والعين والياء من عليم، والصاد من صدوق. فإن يك كذلك ( فالذكر ) مرفوع بضمير لا ب ( كهيعص ). وقد قيل في ( طه ) إنه : يا رجل، فإن يك كذلك فليس يحتاج إلى مرافع ؛ لأن المنادى يرفع بالنداء ؛ وكذلك ( يس ) جاء فيها يا إنسان، وبعضهم : يا رجل، والتفسير فيها كالتفسير في طه.
وقوله :﴿ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾
يقول : لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك، وكما قال الله تبارك وتعالى :﴿ فلعلك باخِع نفسك على آثارِهِم إِن لم يؤمِنوا ﴾. وقد قيل :﴿ فلا يكن في صدرك حرج ﴾ : شك.
﴿ لِتُنذِرَ بِهِ ﴾ مؤخر، ومعناه : المص كتاب أنزِل إِليك لِتنذِر بِهِ فلا يكن في صدرِك حرج مِنه.
﴿ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ في موضع نصب ورفع. إن شئت رفعتها على الردّ على الكتاب ؛ كأنك قلت : كتاب حقّ وذكرى للمؤمنين ؛ والنصب يراد به : لتنذر وتذّكر به المؤمنين.
وقوله :﴿ اتَّبِعُواْ ما أُنزِلَ إِلَيْكُمْ... ﴾
وإنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأن ما أنذر به فقد أنذرت به أمته ؛ كما قال :﴿ يأيها النبي إِذا طلقتم النِساء ﴾ فخاطبه، ثم جعل الفعل للجميع، وأنت قد تقول للرجل : ويحك أما تتقون الله، تذهب إليه وإلى أهل بيته أو عشيرته. وقد يكون قوله :( اتبِعوا ) محكيا من قوله ( لتنذر به ) لأن الإنذار قول، فكأنه قيل له : لتقول لهم اتبعوا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ يوصِيكم الله في أولادِكم للذكرِ مِثل حظِّ الأنثيينِ ﴾ لأن الوصية قول.
ومثله :﴿ يأيها النبِيّ لِم تحرِّم ما أحلَّ الله لك ﴾. ثم قال :﴿ قد فرض الله لكم ﴾ فجمع.
وقوله :﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجَاءها ﴾
يقال : إنما أتاها البأس من قَبْل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك ؟ قلت : لأن الهلاك والبأس يقعان معا ؛ كما تقول : أعطيتني فأحسنت، فلم يكن الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله : إنما وقعا معا، فاستجيز ذلك. وإن شئت كان المعنى : وكم من قرية أهلكناها فكان مجيء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان. وإنما جاز ذلك على شبيه بهذا المعنى، ولا يكون في الشروط التي خَلَفتْها بمقدّم معروف أن يقدم المؤخر أو يؤخر المقدم ؛ مثل قولك : ضربته فبكى، وأعطيته فاستغنى، إلا أن تدع الحروف في مواضعها. وقوله :﴿ أَهْلَكْناها فَجَاءها ﴾ قد يكونان خبرا بالواو : أهلكناها وجاءها البأس بياتا.
وقوله :﴿ أَوْ هُمْ قَائلُونَ ﴾
ردّ الفعل إلى أهل القرية وقد قال في أولها ( أهلكناها ) ولم يقل : أهلكناهم فجاءهم، ولو قيل، كان صوابا. ولم يقل : قائلة، ولو قيل لكان صوابا.
وقوله :﴿ أَوْ هُمْ قَائلُونَ ﴾ واو مضمرة. المعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق، ولو قيل لكان جائزا ؛ كما تقول في الكلام : أتيتني واليا، أو وأنا معزول، وإن قلت : أو أنا معزول، فأنت مضمر للواو.
وقوله :﴿ فَما كَانَ دَعْوَاهُمْ ﴾
الدعوى في موضع نصب لكان. ومرفوع كان قوله :﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ فأن في موضع رفع. وهو الوجه في أكثر القرآن : أن تكون أن إذا كان معها فعل، أن تجعل مرفوعة والفعل منصوبا ؛ مثل قوله :﴿ فكان عاقِبتَهما أنهما في النار ﴾ و﴿ ما كان حجتهم إِلا أن قالوا ﴾. ولو جعلت الدعوى مرفوعة ( وأن ) في موضع نصب كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ ليس البرُّ أن تُولوا ﴾ وهي في إحدى القراءتين : ليس البر بأن تولوا.
وقوله :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾
وإن شئت رفعت الوزن بالحقّ، وهو وجه الكلام. وإن شئت رفعت الوزن بيومئذ، كأنك قلت : الوزن في يوم القيامة حقّاً، فتنصب الحقّ وإن كانت فيه ألف ولام ؛ كما قال :﴿ فالحقَّ والحقَّ أقول ﴾الأولى منصوبة بغير أقول. والثانية بأقول.
وقوله :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك ﴾ ولم يقل ( فذلك ) فيوحِّدَ لتوحيد من، ولو وحّد لكان صوابا. و( مَن ) تذهب بها إلى الواحد وإلى الجمع. وهو كثير.
وقوله :﴿ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعَايِشَ ﴾
لا تهمز ؛ لأنها - يعنى الواحدة - مفعِلة، الياء من الفعل، فلذلك لم تهمز، إنما يهمز مِن هذا ما كانت الياء فيه زائدة ؛ مثل مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارفتها ألف مجهولة أيضا همزت، ومثل معايش من الواو مما لا يهمز لو جمعت، معونة قلت :( معاون ) أو منارة قلت مناور. وذلك أن الواو ترجع إلى أصلها ؛ لسكون الألف قبلها. وربما همزت العرب هذا وشبهه، يتوهمون أنها فعلية لشبهها بوزنها في اللفظ وعدّة الحروف ؛ كما جمعوا مسِيل الماء أمسلة، شُبِّه بفعيل وهو مفعِل. وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة ؛ شبهت بفعيلة لكثرتها في الكلام.
وقوله :﴿ قَالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾
المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و( أن ) في هذا الموضع تصحبها لا، وتكون ( لا ) صلة. كذلك تفعل بما كان في أوّله جحد. وربما أعادوا على خبره جحدا للاستيثاق من الجحد والتوكيد له ؛ كما قالوا :
ما إن رأينا مثلهن لمعشر سود الرءوس فوالج وفيول
و( ما ) جحد و( إن ) جحد فجمعتا للتوكيد. ومثله :﴿ وما يشعِركم أنها إذا جاءت لا يؤمِنون ﴾. ومثله :﴿ وحرام على قريةٍ أهلكناها أنهم لا يرجِعون ﴾. ومثله :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون ﴾ إلا أن معنى الجحد الساقط في لئلا من أوّلها لا من آخرها ؛ المعنى : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون. وقوله :﴿ ما مَنَعَكَ ﴾ ( ما ) في موضع رفع. ولو وضع لمثلها من الكلام جواب مصحح كان رفعا، وقلت : منعني منك أنك بخيل. وهو مما ذكر جوابه على غير بناء أوله، فقال :﴿ أَنا خَيْرٌ مِّنْهُ ﴾ ولم يقل : منعني من السجود أنى خير منه ؛ كما تقول في الكلام : كيف بتّ البارحة ؟ فيقول : صالح، فيرفع ؛ أو تقول : أنا بخير، فتستدلّ به على معنى الجواب، ولوصحح الجواب لقال صالحا، أي بتُّ صالحا.
وقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
المعنى - والله أعلم - : لأقعدن لهم على طريقهم أو في طريقهم. وإلقاء الصفة من هذا جائز ؛ كما قال : قعدت لك وجه الطريق، وعلى وجه الطريق ؛ لأن الطريق صفة في المعنى، فاحتمل ما يحتمله اليوم والليلة والعام إذا قيل : آتيك غدا أو آتيك في غد.
وقوله :﴿ يَا بَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً ﴾
" ورياشا ". فإن شئت جعلت رياش جميعا واحده الريش، وإن شئت جعلت الرياش مصدرا في معنى الريش كما يقال لِبْس ولباس ؛ قال الشاعر :
فلما كشفن اللِّبْسَ عنه مَسَحْنَه بأطراف طَفْلٍ زان غَيْلا مُوَشَّما
وقوله :﴿ ورِيشاً ولِباسُ التقوى ﴾ و " لباسَ التقوى " يرفع بقوله : ولباس التقوى خير، ويجعل ( ذلك ) من نعته. وهي في قراءة أبىّ وعبد الله جميعا : ولباس التقوى خير. وفي قراءتنا ( ذلك خير ) فنصب اللباس أحب إلىّ ؛ لأنه تابع الريش، ( ذلك خير ) فرفع خير بذلك.
وقوله :﴿ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾
يقول : بدأكم في الخلق شقيا وسعيدا، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله :﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾
يقول : إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فيه، ولا تقولن : آتى مسجد قومى. فإن كان في غير وقت الصلاة صليت حيث شئت.

﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾
وقوله :﴿ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ... ﴾
ونصب الفريق بتعذون، وهي في قراءة أُبَىّ : تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حقَّ عليهم الضلالة. ولو كانا رفعا كان صوابا ؛ كما قال تبارك وتعالى :﴿ كان لكم آيةٌ في فِئَتْينِ التقتا فِئةٌ تقاتِلُ في سبِيل اللّهِ وأُخرى كافِرةٌ ﴾ و " فِئَةً " ومثله :﴿ وتُنذِرَ يوم الجمعِ لا ريب فِيهِ فرِيقٌ في الجنةِ وفرِيقٌ في السَّعِير ﴾. وقد يكون الفريق منصوبا بوقوع " هَدَى " عليه ؛ ويكون الثانى منصوبا بما وقع على عائد ذكره من الفعل ؛ كقوله :﴿ يدخِل من يشاء في رحمتِهِ والظالِمين أَعدَّ لهم عذاباً أَلِيما ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله :﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾
يقول : إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصلّ فيه، ولا تقولن : آتى مسجد قومى. فإن كان في غير وقت الصلاة صليت حيث شئت.

وقوله :﴿ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
نصبت خالصة على القطع وجعلت الخبر في اللام التي في الذين، والخالصة ليست بقطع من اللام، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة. والمعنى - والله أعلم - : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ؛ يقول : مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة. ولو رفعتها كان صوابا، تردّها على موضع الصفة التي رفعت لأن تلك في موضع رفع. ومثله في الكلام قوله : إنا بخير كثير صيدنا. ومثله قول الله عز وجل ﴿ إِن الإنسان خُلِق هَلوعا. إِذا مسّه الشرّ جَزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا ﴾. المعنى : خلق هلوعا، ثم فسر حال الهلوع بلا نصب ؛ لأنه نصب في أوّل الكلام. ولو رفع لجاز ؛ إلا أن رفعه على الاستئناف لأنه ليس معه صفة ترفعه. وإنما نزلت هذه الآية أن قبائل من العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون أيام حجهم إلا القوت، ولا يأكلون اللحم والدسم، فكانوا يطوفون بالبيت عراةً، الرجالُ نهارا والنساء ليلا، وكانت المرأة تلبس شيئا شبيها بالحَوْف ليواريها بعض المواراة ؛ ولذلك قالت العامرية :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أُحله
قال المسلمون : يا رسول الله، نحن أحق بالاجتهاد لربنا، فأرادوا أن يفعلوا كفعل أهل الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ خذوا زِينتكم عِند كل مسجِدٍ ﴾ يعنى اللباس. ﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾ حتى يبلغ بكم ذلكم تحريم ما أحللت لكم، والإسراف ها هنا الغلوّ في الدين.
وقوله :﴿ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالإِثْمَ ﴾
( والإثم ) ما دون الحدّ ( والبغي ) الاستطالة على الناس.
وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ﴾
يقال : ينالهم ما قضى الله عليهم في الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين. وهو قوله :﴿ ويوم القِيامةِ ترى الذِين كذبوا على الله وجوههم مسودة ﴾ ويقال هو ما ينالهم في الدنيا من العذاب دون عذاب الآخرة، فيكون من قوله :﴿ ولنذِيقنهم مِن العذابِ الأدنى دون العذابِ الأكبر ﴾.
وقوله :﴿ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَها ﴾
يقول : التي سبقتها، وهي أختها في دينها لا في النسب. وما كان من قوله :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾ فليس بأخيهم في دينهم ولكنه منهم.
وقوله :﴿ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ ﴾
ولا يَفتَّح وتُفَتَّح. وإنما يجوز التذكير والتأنيث في الجمع لأنه يقع عليه التأنيث فيجوز فيه الوجهان ؛ كما قال :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم ﴾ و " يشهد " فمن ذكَّر قال : واحد الألسنة ذكر فأبنى على الواحد إذ كان الفعل يتوحد إذا تقدّم الأسماء المجموعة، كما تقول ذهب القوم.
وربما آثرت القراء أحد الوجهين، أو يأتي ذلك في الكتاب بوجه فيرى من لا يعلم أنه لا يجوز غيره وهو جائز. ومما آثروا من التأنيث قوله :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾ فآثروا التأنيث. ومما آثروا فيه التذكير قوله :﴿ لن ينال الله لحومها ولا دِماؤها ﴾ والذي أتى في الكتاب بأحد الوجهين قوله :﴿ فتِحت أبوابها ﴾ ولو أتى بالتذكير كان صوابا.
ومعنى قوله :﴿ لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّماء ﴾ : لا تصعد أعمالهم. ويقال : إن أعمال الفجار لا تصعد ولكنها مكتوبة في صخرة تحت الأرض، وهي التي قال الله تبارك وتعالى :﴿ كلا إِن كِتاب الفجارِ لفي سجين ﴾.
وقوله :﴿ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ الجمل هو زوج الناقة. وقد ذكر عن ابن عباس الجُمَّل يعنى الحبال المجموعة. ويقال الخياط والمِخْيَط ويراد الإبرة. وفي قراءة عبدالله ( المِخْيَط ) ومثله يأتى على هذين المثالين يقال : إزار ومِئزر، ولِحاف ومِلحف، وقِناع ومِقنع، وقِرام ومِقرم.
وقوله :﴿ وَنادَى أَصْحابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ... ﴾
وذلك أنهم على سُور بين الجنة والنار يقال له الأعراف، يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم، فذلك قوله :﴿ يعرِفون كلا بسيماهم ﴾. وأصحاب الأعراف أقوام اعتدلت حسناتهم وسيئاتهم فقصَّرت بهم الحسنات عن الجنَّة، ولم تبلغ بهم سيئاتهم النار، كانوا موقوفين ثم أدخلهم الله الجنة بفضل رحمته.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْناهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً ﴾
تنصب الهدى والرحمة على القطع من الهاء في فصّلناه. وقد تنصبهما على الفعل. ولو خفضته على الإتباع للكتاب كان صوابا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ وهذا كِتاب أنزلناه مبارك ﴾ فجعله رفعا بإتباعه للكتاب.
وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ﴾
الهاء في تأويله للكتاب. يريد عاقبته وما وعد الله فيه.
وقوله :﴿ فَهَل لَّنا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنا أَوْ نُرَدُّ ﴾ ليس بمعطوف على ( فيشفعوا )، إنما المعنى - والله أعلم - : أو هل نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل. ولو نصبت ( نردّ ) على أن تجعل ( أو ) بمنزلة حتّى، كأنه قال : فيشفعوا لنا أبدا حتى نرد فنعمل، ولا نعلم قارئا قرأ به.
وقوله :﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
ذكرت قريبا لأنه ليس بقرابة في النسب. قال : ورأيت العرب تؤنث القريبة في النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا : دارك منا قريب، أو فلانة منك قريب في القرب والبعد ذكَّروا وأنَّثوا. وذلك أن القريب في المعنى وإن كان مرفوعا فكأنه في تأويل : هي من مكان قريب. فجعل القريب خَلَفا من المكان ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ وما هي مِن الظالِمِين ببعِيد ﴾ وقال :﴿ وما يدرِيك لعل الساعة تكون قريبا ﴾ ولو أنَّث ذلك فبنى على بعدَتْ منك فهي بعيدة وقَرُبت فهي قريبة كان صوابا حسنا. وقال عروة :
عشِيَّةَ لاعفراء مِنك قرِيبة فتدنو ولا عفراء مِنك بعِيد
ومن قال بالرفع وذكَّر لم يجمع قريبا [ ولم ] يثنّه. ومن قال : إنّ عفراء منك قريبة أو بعيدة ثنَّى وجمع.
وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْراً ﴾
والنَشْر من الرياح : الطيبة اللينة التي تنشيء السحاب. فقرأ بذلك أصحاب عبدالله. وقرأ غيرهم ( بُشْرا ) حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدثني قيس بن الربيع الأسَدىّ عن ابي إسحاق الهَمْداني عن أبى عبد الرحمن السُلَميّ عن على أنه قرأ ( بُشْرا ) يريد بشيرة، و( بَشْرا ) كقول الله تبارك وتعالى :( يرسل الرياح مبشِّرات ).
وقوله :﴿ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذلك نُخْرِجُ الْموْتَى ﴾ جواب لأنزلنا فأخرجنا به. يقال : إن الناس يموتون وجميع الخلق في النفخة الأولى. وبينها وبين الآخرة أربعون سنة. ويبعث الله المطر فيمطر أربعين يوما كمنىّ الرجال، فينبتون في قبورهم ؛ كما ينبتون في بطون أمّهاتهم. فذلك قوله :﴿ كَذلك نُخْرِجُ الْموْتَى ﴾ كما أخرجنا الثمار من الأرض الميتة.
وقوله :﴿ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾
قراءة العامة ؛ وقرأ بعض أهل المدينة : نَكَدا ؛ يريد : لا يخرج إلا في نَكَدٍ. والنكِد والنكَد مثل الدنِف والدنَف. قال : وما أُبعد أن يكون فيها نكُد، ولم أسمعها، ولكني سمعت حذِر وحذُر وأشِر وأشُر وعجِل وعجُل.
وقوله :﴿ ما لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ ﴾
تجعل ( غير ) نعتا للإله. وقد يرفع : يجعل تابعا للتأويل في إله ؛ ألا ترى أن الإله لو نزعت منه ( مِن ) كان رفعا. وقد قرئ بالوجهين جميعا.
وبعض بنى أَسَد وقُضَاعة إذا كانت ( غير ) في معنى ( إلا ) نصبوها، تمّ الكلامُ قبلها أو لم يتم. فيقولون : ما جاءني غيرَك، وما أتاني أحد غيرَك. قال : وأنشدني المفضَّل :
لم يمنع الشربَ منها غير أن هتفت حمامةٌ من سَحُوقٍ ذاتِ أوقال
فهذا نصب وله الفعل والكلام ناقص. وقال الآخر :
لا عيب فيها غيرَ شُهْلةِ عينِها كذاك عِتاق الطير شُهْلاً عيونُها
فهذا نصب والكلام تامّ قبله.
وقوله :﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ ﴾
هذه واو نَسَق أدخلت عليه ألف الاستفهام ؛ كما تدخِلها على الفاء، فتقول : أفعجبتم، وليست بأو، ولو أريد بها أو لسكِّنت الواو.
وقوله :﴿ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ ﴾ يقال في التفسير : مع رجل. وهو في الكلام كقولك : جاءنا الخير على وجهك، وهُدِينا الخير على لسانك، ومع وجهك، يجوزان جميعا.
وقوله :﴿ قَالَ الْمَلأُ... ﴾
هم الرجال لا يكون فيهم امرأة. وكذلك القوم، والنَفَر والرّهْط.
وقوله :﴿ وَأَنا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ﴾
يقول : قد كنت فيكم أمينا قبل أن أُبعث. ويقال : أمين على الرسالة.
وقوله :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحا ﴾
منصوب بضمير أرسلنا. ولو رفع إذ فقد الفعل كان صوابا ؛ كما قال :﴿ فبشرناها بإسحاق ومِن وراء إسحاق يعقوبُ ﴾ وقال أيضا :﴿ فأخرجنا بِهِ ثمراتٍ مختلِفا ألوانها ﴾ ثم قال :﴿ ومِن الجِبالِ جُدَدٌ بِيض ﴾ فالوجه ها هنا الرفع ؛ لأن الجبال لا تتبع النبات ولا الثمار. ولو نصبتها على إضمار : جعلنا لكم ( من الجِبال جددا بيضا ) كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ ختم الله على قلوبِهِم وعلى سمعِهِم وعلى أبصارِهم غشاوةً ﴾ أضمر لها جَعَل إذا نصبت ؛ كما قال :﴿ وختم على سمعِهِ وقلبِهِ وجعل على بصرِهِ غِشاوة ﴾ والرفع في غشاوة الوجه. وقوله :﴿ ومِن الناسِ والدوابِّ والأَنعامِ مختلِف ألوانه ﴾ ولم يقل : ألوانهم، ولا ألوانها. وذلك لمكان ( مِن ) والعرب تضمر مَن فتكتفي بمن مِن مَنْ، فيقولون : مِنا مَنْ يقول ذلك ومِنا لا يقوله. ولو جمع على التأويل كان صوابا مثل قول ذي الرمّة :
فظلُّوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يثنِى دَمْعَة العينِ بالمَهلِ
وقوله :﴿ وزادكم في الخلقِ بسطة ﴾ كان أطوالهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا.
وقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾
والرجفة هي الزلزلة. والصاعقة هي النار. يقال : أحرقتهم.
وقوله :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ يقول : رمادا جاثما.
وقوله :﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ... ﴾
يقال : إنه لم يعذب أمّة ونبيّها فيها حتى يخرج عنها.
وقوله :﴿ أَخْرِجُوهُمْ ﴾
يعنى لوطا أخرجوه وابنتيهِ.
وَقوله :﴿ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ يقولون : يرغبون عن أعمال قوم لوط ويتنزهون عنها.
وقوله :﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِها ﴾
وإصلاحها بَعثة النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالحلال وينهي عن الحرام. فذلك صلاحها. وفسادها العمل - قبل أن يبعث النبي - بالمعاصي.
وقوله شعيب :﴿ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ لم يكن له آية إلا النبوّة. وكان لثمود الناقة، ولعيسى إحياء الموتى وشبهه.
وقوله :﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ﴾
كانوا يقعدون لمن آمن بالنبي على طرقهم يتوعّدونهم بالقتل. وهو الإيعاد والوعيد. إذا كان مبهما فهو بألِف، فإذا أوقعته فقلت : وعدتك خيرا أو شرا كان بغير ألف ؛ كما قال تبارك وتعالى :﴿ النارُ وعدها الله الذِين كفروا ﴾.
وقوله :﴿ رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا ﴾
يريد : اقض بيننا، وأهل عُمان يسمون القاضى الفاتح والفتَاح.
وقوله :﴿ أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾
ثم قال :﴿ ونطبع ﴾ ولم يقل : وطبعنا، ونطبع منقطعة عن جواب لو ؛ يدلّك على ذلك قوله :﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ ؛ ألا ترى أنه لا يجوز في الكلام : لو سألتني لأعطيتك فأنت غنىّ، حتى تقول : لو سألتني لأعطيتك فاستغنيت. ولو استقام المعنى في قوله :﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ أن يتصل بما قبله جاز أن تردّ يفعل على فعل في جواب لو ؛ كما قال الله عز وجل :﴿ ولو يعجل الله لِلناسِ الشر استِعجالهم بِالخيرِ لقضِى إليهم أجلهم فنذر الذِين لا يرجون ﴾ فنذر مردودة على ( لقضِى ) وفيها النون. وسهَّل ذلك أنّ العرب لا تقول : وذرت، ولا ودعت ؛ إنما يقال بالياء والألف والنون والتاء ؛ فأوثرت على فعلت إذا جازت ؛ قال الله تبارك وتعالى :﴿ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا مِن ذلِك ﴾ ثم قال :﴿ ويجعل لك قصورا ﴾ فإذا أتاك جواب لو آثرت فيه ( فعل على يفعل ) وإن قلته ينفعل جاز، وعطف فعل على يفعل ويفعل على فعل جائز، لأن التأويل كتأويل الجزاء.
وقوله :﴿ حَقِيقٌ على أَنْ لاَّ أَقُولَ ﴾
ويقرأ :( حقيقٌ على أن لا أقول ) وفي قراءة عبد الله :( حقيق بأن لا أقول على الله ) فهذه حجة من قرأ ( على ) ولم يِضِف. والعرب تجعل الباء في موضع على ؛ رميت على القوس، وبالقوس، وجئت على حال حسنةٍ وبحال حسنةٍ.
وقوله :﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ ﴾
هو الذكر ؛ وهو أعظم الحيّات.
وقوله :﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَماذَا تَأْمُرُونَ ﴾
فقوله :﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾ من الملأ ﴿ فَماذَا تَأْمُرُونَ ﴾ من كلام فرعون. جاز ذلك على كلامهم إياه، كأنه لم يحك وهو حكاية. فلو صرّحت بالحكاية لقلت : يريد أن يخرجكم من أرضكم، فقال : فماذا تأمرون. ويحتمل القياس أن تقول على هذا المذهب : قلت لجاريتك قومي فإني قائمة ( تريد : فقالت : إني قائمة ) وقلَّما أتى مثله في شعر أو غيره، قال عنترة :
الشاتَمِي عِرْضي ولم أشتِمْهُما والناذرَيْنِ إِذا لقيتهما دمى
فهذا شبيه بذلك ؛ لأنه حكاية وقد صار كالمتصل على غير حكاية ؛ ألا ترى أنه أراد : الناذرَين إذا لقينا عنترةَ لنقتلنّه، فقال : إذا لقيتهما، فأخبر عن نفسه، وإنما ذكراه غائبا. ومعنى لقيتهما : لقياني.
وقوله :﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾
جاء التفسير : احبسهما عندك ولا تقتلهما، والإرجاء تأخير الأمر. وقد جزم الهاء حمزةُ والأعمش. وهي لغة للعرب : يقفون على الهاء المكنىّ عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها ؛ أنشدني بعضهم :
أنحى على الدهر رجلا ويدا يُقسم لا يُصلح إلا أفسدا
*** فيصلح اليوم ويفسدُهْ غدا ***
وكذلك بهاء التأنيث ؛ فيقولون : هذه طلحهْ قد أقبلت، جزم ؛ أنشدني بعضهم :
لما رأي أن لاّدعَهْ ولا شِبَعْ *** مال إلى أرطاة حِقْف فاضطجع وأنشدني القَنانىّ :
لستُ إذاً لزَعْبَلَهْ إن لم أُغَ يِّرْ بِكْلَتِى إن لم أُساوَ بالطُوَل
بِكْلَتِي : طريقتي : كأنه قال : إن لم أغيِّرْ بكلتي حتى أساوَى. فهذه لامرأة : امرأة طُولى و[ نساء ] طُوَل.
وقوله :﴿ إِما أَن تُلْقِيَ وَإِما أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾
أدخل ( أن ) في ( إما ) لأنها في موضع أمر بالاختيار. فهي في موضع نصب في قول القائل : اختر ذا أو ذا ؛ ألا ترى أن الأمر بالاختيار قد صلح في موضع إما.
فإن قلت : إن ( أو ) في المعنى بمنزلة ( إما وإما ) فهل يجوز أن يقول يا زيد أن تقوم أو تقعد ؟ قلت : لا يجوز ذلك ؛ لأن أول الاسمين في ( أو ) يكو خبرا يجوز السكوت عليه، ثم تستدرِك الشكّ في الاسم الآخِر، فتُمضى الكلام على الخبر ؛ ألا ترى أنك تقول : قام أخوك، وتسكت، وإن بدا لك قلت : أو أبوك، فأدخلت الشكّ، والاسم الأول مكتفٍ يصلح السكوت عليه. وليس يجوز أن تقول : ضربت إما عبد الله وتسكت. فلما آذنت ( إما ) بالتخيير من أول الكلام أحدثْتَ لها أن. ولو وقعت إما وإما مع فعلين قد وُصِلا باسم معرفة أو نكرة ولم يصلح الأمر بالتمييز في موقع إما لم يحدث فيها أن ؛ كقول الله تبارك وتعالى :﴿ وآخَرُون مُرْجَون لأَمْرِ الله إما يعذِّبُهم وإما يَتُوب عَلَيْهِمْ ﴾ ألا ترى أن الأمر لا يصلح ها هنا، فلذلك لم يكُنْ فيه أن. ولو جعلت ( أن ) في مذهب ( كي ) وصيَّرتها صلة ل ( مرجون ) يريد أُرجئوا أن يعذبوا أو يتاب عليهم، صلح ذلك في كل فعل تامّ، ولا يصلح في كان وأخواتها ولا في ظننت وأخواتها. من ذلك أن تقول آتيك إما أن تعطى وإما أن تمنع. وخطأ أن تقول : أظنك إما أن تعطى وإما أن تمنع، ولا أصبحت إما أن تعطى وإما أن تمنع. ولا تُدخلنَّ ( أو ) على ( إما ) ولا ( إما ) على ( أو ). وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما في المعنى على التوهّم ؛ فيقولون : عبد الله إما جالس أو ناهض، ويقولون : عبد الله يقوم وإما يقعد. وفي قراءة أبَىّ :( وإنا وإيَّاكم لإما على هدى أو في ضلال ) فوضع أو في موضع إما. وقال الشاعر :
فقلت لهن امشين إِما نلاقِه كما قال أو نشف النفوس فنعذرا
وقال آخر :
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت على البرء من دهماء هِيض اندمالها
تُهاض بدارٍ قد تقادم عهدُها وإما بأمواتٍ ألمَّ خيالها
فوضع ( وإما ) في موضع ( أو ). وهو على التوهم إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشيء هنالك يجوز التوهم ؛ كما تقول : أنت ضاربُ زيدٍ ظالما وأخاه ؛ حين فرقت بينهما ب ( ظالم ) جاز نصب الأخ وما قبله مخفوض. ومثله ﴿ يا ذَا القَرْنَيْنِ إِما أَنْ تُعَذِّبَ وإِما أَنْ تَتَّخِذَ فِيهم حُسْنا ﴾ وكذلك قوله ﴿ إِما أنْ تُلْقِىَ وإِما أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾.
وقوله :﴿ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ﴾
و( تَلَقَّفُ ). يقال لقِفت الشيء فأنا ألقفه لقفا، يجعلون مصدره لقفانا، وهي في التفسير : تبتلع.
وقوله :﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ... ﴾
معناه : أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سِحرا لعادت حبالَنا وعِصينا إلى حالها الأولى، ولكنها فُقِدت. فذلك قوله ( فوقع الحق ) : فتبين الحق من السحر.
وقوله :﴿ آمَنتُمْ بِهِ... ﴾
يقول : صدّقتموه. ومن قال :( آمنتم له ) يقول : جعلتم له الذي أراد.
وقوله :﴿ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ ﴾
مشدّدة، و( لأَصْلِبنَّكم ) بالتخفيف قرأها بعض أهل مكة. وهو مثل قولك : قتلت القوم وقتَّلتهم ؛ إذا فشا القتل جاز التشديد.
وقوله :﴿ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾
لك في ( ويذرك ) النصب على الصرف ؛ لأنها في قراءة أبىّ ( أتذر موسى وقومه لِيفسِدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك ) فهذا معنى الصرف. والرفع لمن أتبع آخر الكلام أوّله ؛ كما قال الله عز وجل ﴿ من ذا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَنا فَيُضَاعِفه ﴾ بالرفع. وقرأ بن عباس ( وإلاهتك ) وفسَّرها : ويذرك وعبادتك ؛ وقال : كان فرعون يُعبد ولا يَعبد.
وقوله :﴿ أُوذِينا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينا وَمِن بَعْدِ ما جِئْتَنا ﴾
قال : فأما الأذى الأوّل فقتله الأبناء واستحياؤه النساء. ثم لما قالوا له : أنَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض قال : أُعِيد على أبنائهم القتل وأَستحي النساء كما كان فعل. وهو أذى بعد مجيء موسى.
وقوله ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ ﴾
أخذهم بالسنين : القحط والجدوبة عاما بعد عام.
وقوله :﴿ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنا هذه ﴾
والحسنة ها هنا الخفض.
وقوله :﴿ لَنا هَذِهِ ﴾ يقولون : نستحقّها ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ يعنى الجدوبة ( يّطّيروا ) يتشاءموا ( بِموسى ) كما تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا : غلت أسعارنا وقلّت أمطارنا مذ أتانا.
وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ﴾
أرسل الله عليهم السماء سَبْتا فلم تقلِع ليلا ونهارا، فضاقت بهم الأرض من تهدّم بيوتهم وشُغُلهم عن ضِياعهم، فسألوه أن يرفع عنهم، فرفِع فلم يتوبوا، فأرسل الله عليهم ( الجراد ) فأكل ما أنبتت الأرض في تلك السنة. وذاك أنهم رأوا من غِبّ ذلك المطر خصبا لم يروا مثله قطُّ، فقالوا : إنما كان هذا رحمة لنا ولم يكن عذابا. وضاقوا بالجراد فكان قدر ذراع في الأرض، فسألوه أن يكشف عنهم ويؤمنوا، فكشف الله عنهم وبقى لهم ما يأكلون، فطغوا به وقالوا ( لن نؤمِن لك ) فأرسل الله عليهم ( القمل ) وهو الدّبَى الذي لا أجنحة له، فأكل كلّ ما كان أبقى الجراد، فلم يؤمنوا فأرسل الله ( الضفادع ) فكان أحدهم يصبح وهو على فِراشه متراكب، فضاقوا بذلك، فلما كُشِف عنهم لم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم ( الدم ) فتحوّلت عيونهم وأنهارهم دما حتى موّتت الأبكارُ، فضاقوا بذلك وسألوه أن يكشفه عنهم فيؤمنوا، فلم يفعلوا، وكان العذاب يمكث عليهم سبتا، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك قوله ﴿ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ﴾ ثم وعد الله موسى أن يغرق فرعون، فسار موسى من مصر ليلا. وبلغ ذلك فرعون فأتبعه - يقال في ألف ألف ومائة ألف سوى كتيبته التي هو فيها، ومُجَنِّبَتيه - فأدركهم هو وأصحابه مع طلوع الشمس. فضرب موسى البحر بعصاه فانفرج له فيه اثنا عشر طريقا. فلما خرجوا تبعه فرعون وأصحابه في طريقه، فلما كان أوّلهم يَهُمّ بالخروج وآخرهم في البحر أطبقه الله تبارك وتعالى عليهم فغرَّقهم. ثم سأل موسى أصحابُه أن يخرج فرعون ليعاينوه، فأخرِج هو وأصحابه، فأخذوا من الأمتعة والسلاح ما اتخذوا به العِجْل.
وقوله :﴿ وَأَوْرَثْنا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَها ﴾
فتنصب مشارق ومغارب تريد : في مشارق الأرض وفي مغاربها، وتوقع ( وأورثنا ) على قوله ﴿ الَّتِي بَارَكْنا فِيها ﴾. ولو جعلت ( وأورثنا ) واقعة على المشارق والمغارب لأنهم قد أُورثوها وتجعل ( التي ) من نعت المشارق والمغارب فيكون نصبا، وإن شئت جعلت ( التي ) نعتا للأرض فيكون خفضا.
وقوله :( وما ظلمونا ) يقول : وما نقصونا شيئا بما فعلوا، ولكن نقصوا أنفسهم. والعرب تقول : ظلمت سِقاءك إذا سقيته قبل أن يُمخض ويخرج زُبْده. ويقال ظلم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعا لم يكن ناله فيما خلا ؛ أنشدني بعضهم :
يكاد يطلع ظلما ثم يمنعه عن الشواهِق فالوادِي به شِرق
ويقال : إنه لأظلم من حيَّة ؛ لأنها تأتى الجُحْر ولم تحفِره فتسكنه. ويقولون : ما ظلمك أن تفعل، يريدون : ما منعك أن تفعل، والأرض المظلومة : التي لم ينلها المطر، وقال أبو الجراح : ما ظلمك أَن تفيء، لرجل شكا كثرة الأكل. ويقال صَعِق الرجل وصُعِق إذا أخذته الصاعقة، وسَعِد وسُعِد ورَهِصت الدابة ورُهِصت.
وقوله :﴿ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾
كان جسدا مجوّفا. وجاء في التفسير أنه خار مرة واحدة.
وقوله :﴿ وَلَما سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾
من الندامة. ويقال : أسقِط لغة. و( سقِط في أيديهم ) أكثر وأجود. ﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ﴾ نصب بالدعاء ( لئِن لم ترحمنا ربنا ) ويقرأ ( لئِن لم يرحمنا ربُّنا ) والنصب أحبّ إلىّ ؛ لأنها في مصحف عبد الله ( قالوا ربَّنا لئِن لم ترحمنا ).
وقوله :﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾
تقول : عجِلت الشيء : سبقته، وأعجلته استحثثته.
وقوله :﴿ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ ﴾ ذكر أنهما كانا لوحين. وجاز أن يقال الألواح للاثنين كما قال ﴿ فإنْ كان لَهُ إخْوَةٌ ﴾ وهما أخوان وكما قال ﴿ إن تَتُوبَا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ﴾ وهما قلبان.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ ﴾ يقرأ ( ابن أمَّ، وأُمِّ ) بالنصب والخفض، وذلك أنه كثر في الكلام فحذفت العرب منه الياء. ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادَى يضيف المنادِى إلى نفسه، إلاّ قولهم : يا بن عمّ يا بن أمِّ. وذلك أنه يكثرا استعمالهما في كلامهم. فإذا جاء مالا يستعمل أثبتوا الياء فقالوا : يا بن أبى، ويا بن أخي، ويا بن خالتي، فأثبتوا الياء. ولذلك قالوا : يا بن أمَّ، ويا بن عمَّ فنصبوا كما تنصب المفرد في بعض الحالات، فيقال : حسرتا، ويا ويلتا، فكأنهم قالوا : يا أماه، ويا عماه. ولم يقولوا ذلك في أخ، ولو قيل كان صوابا. وكان هارون أخاه لأبيه وأمّه. وإنما قال له ( يا بن أم ) ليستعطفه عليه.
وقوله :﴿ فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاء ﴾ من أشمت، حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال حدّثنا سفيان بن عُيينة عن رجل - أظنه الأعرج - عن مجاهد أنه قرأ ( فلا تَشْمِت بي ) ولم يسمعها من العرب، فقال الكسائي : ما أدرى لعلهم أرادوا ( فلا تَشْمَت بِي الأعداء ) فإن تكن صحيحة فلها نظائر، العرب تقول فرغت : وفرِغت. فمن قال فرَغت قال : أنا أفرُغ، ومن قال فرِغت قال أنا أَفرَغ، ورَكَنت ورِكنت وشمِلهم شر، وشمَلهم، في كثير من الكلام. و( الأعداء ) رفع لأن الفعل لهم، لمن قال : تَشْمَت أو تَشْمِت.
وقوله :﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ﴾
وجاء التفسير : اختار منهم سبعين رجلا. وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذ طرحت ( مِن ) لأنه مأخوذ من قولك : هؤلاء خير القوم، وخير من القوم. فلما جازت الإضافة مكان ( مِن ) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا : اخترتكم رجلا، واخترت منكم رجلا.
وقد قال الشاعر :
فقلت له اخترها قَلُوصا سمِينة وناباً علينا مثل نابك في الحَيَا
فقام إليها حَبْتَر بِسلاحِهِ فللّه عينا حَبْتَرٍ أَيَّما فتى
وقال الراجز :
*** تحت الذي اختار له الله الشجو ***
وقوله :﴿ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاء مِنا ﴾ وذلك أن الله تبارك وتعالى أرسل على الذين معه - وهم سبعون - الرجفة، فاحترقوا، فظنّ موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل، فقال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، وإنما أهلكوا بمسألتهم موسى ( أرنا الله جهرة ).
وقوله ﴿ ثم اتخذوا العِجل ﴾ ليس بمردود على قوله ﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ ثم اتخذوا ؛ هذا مردود على فعلهم الأوّل. وفيه وجه آخر : أن تجعل ( ثم ) خبرا مستأنفا. وقد تستأنِف العرب بثم والفعلُ الذي بعدها قد مضى قبل الفعل الأوّل ؛ من ذلك أن تقول للرجل : قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا ؛ فتكون ( ثم ) عطفا على خبر المخبر ؛ كأنه قال : أخبرك أنى زرتك اليوم، ثم أخبِرك أنى زرتك أمس.
وأما قول الله عزَّ وجلّ ﴿ خلقكم مِن نفسٍ واحِدةٍ ثم جعل مِنها زوجها ﴾ فإن فيه هذا الوجه ؛ لئلا يقول القائل : كيف قال : خلقكم ثم جعل منها زوجها والزوج مخلوق قبل الولد ؟ فهذا الوجه المفسّر يدخل فيه هذا المعنى. وإن شئت جعلت ( ثم ) مردودة على الواحدة ؛ أراد - والله أعلم - خلقكم من نفس وَحْدها ثم جعل منها زوجها، فيكون ( ثم ) بعد خلقه آدم وحده. فهذا ما في ثم. وخِلْقةُ ثُمَّ أن يكون آخِر. وكذلك الفاء. فأما الواو فإنك إن شئت جعلت الآخِر هو الأوّل والأوّل الآخر. فإذا قلت : زرت عبد الله وزيدا، فأيَّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة، وإذا قلت : زرت عبد الله ثم زيدا، أو زرت عبد الله فزيدا كان الأوّل قبل الآخِر، إلا أن تريد بالآخر أن يكون مردودا على خبر المخبر فتجعله أوّلا.
وقوله :﴿ وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ﴾
فقال : اثنتي عشرة والسِبط ذكر لأن بعده أمم، فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو كان ( اثنى عشر ) لتذكير السبط كان جائزا.
وقوله :﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ﴾
والعرب تقول : يُسْبِتون ويَسْبِتون وسَبَت وأَسبت. ومعنى اسبتوا : دخلوا في السبت، ومعنى يَسبِتون : يفعلون سبتهم. ومثله في الكلام : قد أجمعنا، أي مرَّت بنا جُمعة، وجَمَّعنا : شهدنا الجمعة. قال وقال لي بعض العرب : أترانا أشهرنا مذ لم نلتق ؟ أراد : مرَّ بنا شهر.
﴿ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ﴾ منصوب بقوله :﴿ لاَ تَأْتِيهِمْ ﴾.
وقوله :﴿ قَالُواْ مَعْذِرَةً ﴾
إعذارا فعلنا ذلك. وأكثر كلام العرب أن ينصبوا المعذرة. وقد آثرت القراء رفعها. ونصبها جائز. فمن رفع قال : هي معذرة كما قال :﴿ إِلا ساعة مِن نهارٍ بلاغ ﴾.
وقوله :﴿ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾
الجزيةَ إلى يوم القيامة.
وقوله :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ ﴾
و﴿ خَلْف أضاعوا الصلاة ﴾ أي قرن، بجزم اللام، والخلَف : ما استخلفته، تقول : أعطاك الله خَلَفا مما ذهب لك، وأنت خَلَف سَوْء، سمعته من العرب.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ﴾
ويقرأ ( يُمْسِكون بالكتاب ) ومعناه : يأخذون بما فيه.
وقوله :﴿ وَإِذ نَتَقْنا الْجَبَلَ ﴾
رفع الجبل على عسكرهم فرسخا في فرسخ. ( نَتَقْنا ) : رفعنا. ويقال : امرأة مِنتاق إذا كانت كثيرة الولد.
وقوله :﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ﴾
ركن إليها وسكن. ولغة يقال : خلد إلى الأرض بغير ألف، وهي قليلة. ويقال للرجل إذا بقى سواد رأسه ولحيته : إنه مُخْلِد، وإذا لم تسقط أسنانه قيل : إنه لمخلد.
وقوله :﴿ أَيَّانَ مُرْسَاها ﴾
المرسى في موضع رفع.
﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ثقل على أهل الأرض والسماء أن يعلموه.
وقوله :﴿ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ ﴾ كأنك حفي عنها مقدّم ومؤخر ؛ ومعناه يسألونك عنها كأنك حفي بها. ويقال في التفسير كأنك حفي أي كأنك عالم بها.
وقوله :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾
يقول : لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة، ولعرفت الغلاء فاستعددت له في الرُخْص. هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ﴾
الماء خفيف على المرأة إذا حملت.
﴿ فَمَرَّتْ بِهِ ﴾ فاستمرّت به : قامت به وقعدت.
﴿ فَلَما أَثْقَلَتْ ﴾ : دنت ولادتها، أتاها إبليس فقال : ماذا في بطنك ؟ فقالت : لا أدرى. قال : فلعله بهيمة، فما تصنعين لي إن دعوت الله لكِ حتى يجعله إنسانا ؟ قالت : قل، قال : تسمّينه باسمي. قالت : وما أسمك ؟ قال : الحرث. فسَّمته عبد الحارث، ولم تعرفه أنه إبليس.
وقوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ﴾
إذ قالت : عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله. ويقرأ : " شِرْكاً ".
وقوله :﴿ أَيُشْرِكُونَ ما لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ﴾
أراد الألهة ب ( ما )، ولم يقل : من، ثم جعل فعلهم كفعل الرجال. وقل :﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ ولا يملِكون.
وقوله :﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾
فجعل الفعل للرجال.
وقوله :﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى ﴾
يقول : إن يَدْعُ المشركون الآلهة إلى الهدى لا يتبعوهم.
وقوله :﴿ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴾ ولم يقل : أم صممتُّم. وعلى هذا أكثر كلام العرب : أن يقولوا : سواء على أقمت أم قعدت. ويجوز : سواء على أقمت أم أنت قاعد ؛ قال الشاعر :
سواء إذا ما أصلح الله أمرهم علينا أَدَثْرٌ ما لُهُم أم أَصارِم
وأنشدني الكسائي :
سواء عليك النفْرُ أم بِتَّ ليلة بِأهل القِباب مِن نُميرِ بنِ عامِرِ
وأنشده بعضهم ( أو أنت بائت ) وجاز فيها ( أو ) لقوله : النفر ؛ لأنك تقول : سواء عليك الخير والشر، ويجوز مكان الواو ( أو ) لأن المعنى جزاء ؛ كما تقول : اضربه قام أو قعد. ف ( أو ) إلى معنى العموم كذهاب الواو.
وقوله :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾
يريد الآلهة : أنها صُوَر لا تبصر. ولم يقل : وتراها لأن لها أجساما وعيونا. والعرب تقول للرجل القريب من الشيء : هو ينظر، وهو لا يراه، والمنازل تتناظر إذا كان بعضها بحذاء بعض.
وقوله :﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ ﴾
وقرأ إبراهيم النخعي ( طَيْف ) وهو اللمم والذنب ﴿ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ أي منتهون إذا أبصروا.
وقوله ﴿ وَإِخْوَانُهُمْ ﴾
إخوان المشركين ( يُمدُّونَهُم ) في الغيّ، فلا يتذكّرون ولا ينتهون، فذلك قوله :( ثم لا يُقْصِرُونَ ) يعني المشركين وشياطينَهم. والعرب تقول : قد قَصُر عن الشيء وأقصر عنه. فلو قرئت ( يَقْصُرون ) لكان صوابا.
وقوله :﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَها ﴾
يقول : هلا افتعلتها. وهو من كلام العرب ؛ جائز أن يقال : اختار الشيء، وهذا اختياره.
وقوله :﴿ وَإِذَا قُرِيءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ﴾
قال : كان الناس يتكلمون في الصلاة المكتوبة، فيأتي الرجل القوم فيقول : كم صليتم ؟ فيقول : كذا وكذا. فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام في الصلاة لما أنزلت هذه الآية.
Icon