تفسير سورة الإنسان

الدر المصون
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿هَلْ أتى﴾ : في «هل» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. «والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٦٢]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه» انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ
589
وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى «قد» قال الزمخشري: «هل بمعنى» قد «في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه:
٤٤٣٠ - سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور»
انتهى. فقولُه: «على التقريرِ» يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ «هل». وقوله: «والتقريب» يعني المفهومَ مِنْ «قد» التي وقع مَوْقِعَها «هل». ومعنى قولِه «في الاستفهام خاصةً» أنَّ «هل» لا تكونُ بمعنى «قد» إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: «هل جاء زيدٌ» تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى «قد» من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ:
590
فالباءُ بمعنى «عن»، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه:
٤٣٣١ - فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به .......................
٤٤٣٢ - فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى «قد»، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ «هل» على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى «قد» لأنَّ «قد» مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ «قد» لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله: ﴿لَمْ يَكُن﴾ في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من «الإِنسان»، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل «حينٌ» بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
591
قوله: ﴿أَمْشَاجٍ﴾ : نعتٌ ل «نُطْفة» ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع، كقولِه تعالى: ﴿رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع، وقال الزمخشري: «أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ
591
مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ» ويقال: نُطْفَةٌ مَشَجٌ، قال الشماخ:
٤٤٣٣ - طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ
ولا يَصِح «أَمْشاج» أَنْ يكونَ تكسيراً له، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما «. فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ» مِشْجٍ «بالكسر. قال الشيخ:» وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: «وليس في الكلامِ» أَفْعال «إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه» انتهى. قلت: هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً، إنما قال: يُوْصف به المفردُ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً، فوصفوهما بالجمع. وقال الشيخ: «الأمْشاج»
592
الأخلاط، واحدُها مَشَج بفتحتين، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف، قاله ابنُ الأعرابي. وقال رؤبة:
٤٤٣٤ - يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ
وقال الهذلي:
٤٤٣٥ - كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ
وقال الشماخ:
٤٤٣٦ - طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ...... .....................
البيت. ويقال: «مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط» انتهى. فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ: مَنَعَ ذلك. وقال الزمخشريُّ: «ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً، والمعنى: مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان.
593
قوله: ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ يجوزُ في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها حالٌ مِنْ فاعل» خَلَقْنا «، أي: خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له. والثاني: أنَّها حالٌ من» الإنسان «، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال. ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب» نَبْتَليه «: نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً. وهو قولُ ابن عباس، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب» نَبْتَليه «: نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ. وقال الزمخشري:» ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ: ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ «. قلت: هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ. وقال بعضُهم:» في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ. والأصلُ: إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه، أي: جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ «وهذا لا حاجةَ إليه.
594
قوله: ﴿إِمَّا شَاكِراً﴾ :«شاكراً» نصبٌ على الحال، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «هَدَيْناه»، أي: هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه. قال أبو البقاء: «وقيل: هي حالٌ مقدرةٌ». قلت: لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له، و [هو] في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ. والثاني: أنه حالٌ من «السبيل» على المجاز. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من» السبيل «، أي: عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكِراً، وإمَّا سبيلاً كَفُوراً كقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠] فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً.
594
والعامَّةُ على كسر همزة» إمَّا «وهي المرادِفَةُ ل» أو «وتقدَّم خلافُ النَّحْويين فيها. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا» إنْ «الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها» ما «ثم قال:» وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن «إن» الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ [التوبة: ٦]. ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ «شاكراً» وأيضاً فإنَّه لا دليلَ على الفعلِ «انتهى. قلت: لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ» شاكراً «مع إضمار الفعلِ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ يَنْصِبُ» شاكراً «تقديرُه:» إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ.
وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّها العاطفةُ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها، وأنشدوا على ذلك:
595
بفتحِ الهمزةِ. ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً. قال:
٤٤٣٧ - يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ
٤٤٣٨ -.................... أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ
وحَذَفَ الواوَ بينهما. والثاني: أنها أمَّا التفصيليةُ، وجوابُها مقدرٌ. قال الزمخشري: «وهي قراءةٌ حسنةٌ والمعنى: أمَّا شاكِراً فَبِتَوْفِيْقِنا، وأمَّا كفُوراً فبِسُوءِ اختيارِه» انتهى. ولم يذكُرْ غيرَه.
596
قوله: ﴿سَلاَسِلَ﴾ : قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع] مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك.
596
فأمَّا التنوينُ في «سلاسل» فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: «سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث:» إنكن لصَواحِبات يوسف «وقال الشعر:
٤٤٣٩ - قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا .............................
فجمع»
أيامِن «جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:
597
٤٤٤٠ - وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ:» نواكِسِين «فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً،
وقال الزمخِشريُّ:»
وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف «. قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً
598
للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول:» رَأَيْتُ عُمَرا «بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم الكلامُ فيها.
599
قوله: ﴿عَيْناً﴾ في نَصْبِها أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «كافوراً» لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثاني: أنَّها بدلٌ مِنْ محل «مِنْ كأسٍ»، قاله مكي، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ. وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ. قال: «كأنه قيل: يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ» وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ «كافوراً» فقال: «والثاني: بدلٌ مِنْ» كافوراً «، أي: ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن» وهو معنىً حَسَنٌ. الثالث: أنَّها مفعولٌ ب «يَشْرَبون»، أي: يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس. الرابع: أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص. الخامس: بإضمارِ «يَشْربون» يُفَسِّرُه ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر. السادس: بإضمار «يُعْطَوْن». السابع: على الحالِ من الضمير في «مِزاجُها»، قاله مكي.
والمِزاج: ما يُمْزَجُ به، أي: يُخْلَطُ. يقال: مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً، أي: خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً. قال حسان:
599
٤٤٤١ - كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
فالمِزاج كالقِوامِ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ. والكافورُ: طِيْبٌ معروفٌ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه. والكافور أيضاً: كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها. ومفعولُ «يَشْربون» : إمَّا محذوفٌ، أي: يعني: يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ، وإمَّا مذكورٌ وهو «عَيْناً» كما تقدَّم، وإمَّا «مِنْ كأسٍ» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت: لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم، فكأنَّ المعنى: يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل».
قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ في الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يَشْرَبُها، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ «يَشْرَبُها» مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه. الثاني: أنها بمعنى «مِنْ». الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها. الرابع: أنها متعلقَةٌ ب «يَشْرَبُ». والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري. الخامس: أنه على تَضْمين «يَشْرَبُون» معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين. السادس: على تَضْمينِه معنى «يَرْوَى»، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ. وكهذه الآية في
600
بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي:
٤٤٤٢ - شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى «مِنْ». والجملةُ مِنْ قولِه «يَشْرَبُ بها» في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل «عَيْناً» إنْ جَعَلْنا الضميرَ في «بها» عائداً على «عَيْناً» ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء. وقرأ عبد الله «قافوراً» بالقاف بدلَ الكافِ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم: «عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ. و» يُفَجِّرونها «في موضع الحال.
601
قوله: ﴿يُوفُونَ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً، قال الفراء: «التقديرُ: كانوا يُوْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا، وكانوا يخَافون» انتهى. وهذا ما لا حاجةَ إليه. الثالث: أنه جوابٌ لمَنْ قال: ما لم يُرْزَقون ذلك؟. قال الزمخشري: «يُوْفُوْن» جوابُ مَنْ عَسَى يقول: ما لم يُرْزَقون ذلك «؟ قال الشيخ:» واستعمل «عَسَى» صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ، وأتى بالمضارع بعد «عَسَى» غيرَ مقرونٍ ب «أَنْ» / وهو قليلٌ أو في الشعر «.
قوله: ﴿كَانَ شَرُّهُ﴾ في موضع نصبٍ صفةً ل»
يَومْ «. والمُسْتَطِير: المنتشر يُقال: استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر:
601
٤٤٤٣ - فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا
وقال الفراء:» المُسْتطير: المُسْتطيل «. قلت كأنه يريدُ أنه مِثْلُه في المعنى، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً. والفجرُ فجران: مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ، ومُسْتطيرٌ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفُق.
602
قوله: ﴿حُبِّهِ﴾ : حالٌ: إمَّأ من الطعامِ، أي: كائنين حلى حُبَّهم الطعامَ، وإمَّا من الفاعلِ. والضمير في «حُبِّه» لله تعالى، أي: على حُبِّ اللهِ. وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ﴾ إمَّا على إضمارِ القولِ أي : قائلين ذلك. وقرأ أبو جعفر " فَوَقَّاهم " بتشديد القافِ على المبالغةِ.
قوله: ﴿قَمْطَرِيراً﴾ : القَمْطَرير: الشديدُ. وأصلُه كما قال الزجاج: «مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ: إذا رفعَتْ ذَنَبها، وجمعَتْ قُطْرَيْها، وزَمَّتْ بأَنْفِها. قال الزمخشري:» فاشتقَّه من القَطْر، وجعل الميمَ مزيدةً. قال أسد بن ناعصة:
٤٤٤٤ - واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ
قال الشيخ: «واختلف النحاةُ في هذا الوزن، والأكثرُ لا يُثْبِتُ
602
افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ» ويقال: اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ، قال الشاعر:
٤٤٤٥ - تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ
ويومٌ قَمْطرير وقُماطر بمعنى: شديد. قال الشاعر:
٤٤٤٦ - فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ
وقال الزجَّاج: «القَمْطَرِيرْ» الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه «انتهى. فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً. وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط، فعلى هذا تكون الراءان فيه مزيدتَيْن.
603
قوله: ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ :«ما» مصدريةٌ. و «جنةٌ» مفعولٌ ثانٍ أي: جَزاهم جنةً بصَبْرهم. وقدَّر مكي مضافاً فقال: «تقديرُه: دخولَ جنة ولِبْسَ حرير».
قوله: ﴿مُّتَّكِئِينَ﴾ : حال مِنْ مفعول «جَزاهم».
603
وقرأ علي رضي الله عنه «وجازاهم» وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ «مُتَّكئين» صفةً ل «جَنَّةً». وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال: مُتَّكئين هم فيها، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له. وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ «مُتَّكئين» صفةً ل «جنةً» لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير. وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ «مُتَّكئين» صفةً ل «جَنَّةً» الزمخشريُّ فإنه قال: «ويجوزُ أَنْ تكونَ» مُتَّكئين «. و» لا يَرَوْن «و» دانيةً «كلُّها صفاتٍ ل» جنةٌ «وهو مردودٌ بما ذكرْتُه. ولا يجوزُ أَنْ يكونُ» مُتَّكئين «حالاً مِنْ فاعل» صَبَروا «؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة، قال معناه مكي. ولقائلٍ أَنْ يقول: إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم بسبب صَبْرهم إلى هذه الحالِ. وله نظائرُ.
وقوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ﴾ إمَّا على إضمارِ القولِ أي: قائلين ذلك. وقرأ أبو جعفر»
فَوَقَّاهم «بتشديد القافِ على المبالغةِ.
قوله: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ»
جزاهم «. الثاني: أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في» مُتَّكئين «،
604
فتكونُ حالاً متداخلةً. الثالث: أَنْ تكونَ صفةً ل جنة كمتَّكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدَّم أنه قولُ الزمخشريِّ.
والزَّمْهَرير: أشدُّ البردِ. هذا هو المعروفُ. وقال ثعلب: هو القمرُ بلغة طيِّىء وأنشد:
٤٤٤٧ - في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرْ
والمعنى: أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعْلَلِيل.
605
قوله: ﴿وَدَانِيَةً﴾ : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطفُ على محلِّ «لا يَرَوْن». الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكئين»، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في» عليهم «إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنةً دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل» جنةٌ «الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.
605
وقرأ أبو حيوةَ» ودانِيَةٌ «بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ» ظلالُها «مبتدأ و» دانيةٌ «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ في موضعِ الحال. قال الزمخشري:» والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم «. والثاني: أَنْ ترتفعَ» دانيةٌ «بالابتداء، و» ظلالُها «فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو:» قائمٌ الزيدون «، فإنَّ» دانية «لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ» ظلالُها «وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء:»
وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ «. قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً» ودانِيَةٍ «بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه:» لا يَرَوْنَ فيها «أي: ولا في جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ»
ظلالُها «فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و» عليهم «خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب» دانية «؛ لأنَّ» دنا «يتعدَّى ب» إلى «لا ب» على «. والثاني: أنها مرفوعةٌ ب» دانية «على أَنْ تُضَمَّن معنى» مُشْرِفَة «لأنَّ» دنا «و» أَشْرَفَ «
606
يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ» دانيةً «أيضاً.
وقرأ الأعمش»
ودانِياً «بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب» عليهم «، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ.
وقرأ أُبَيٌّ «ودانٍ عليهم»
بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: «وقُرِىء» دانِياً «ثم قال:» ويجوزُ «ودانيةٌ» بالرفعِ، ويجوزُ «دانٍ» بالرفعِ والتذكيرِ «ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
قوله: ﴿وَذُلِّلَتْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على»
دانِيَةً «فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في» عليهم «سواءً نَصَبْتَ» دانِيَةً «أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفعِ» ودانيةٌ «فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ.
607
قوله: ﴿بِآنِيَةٍ﴾ : هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى. ويجوزُ أَنْ يكون «عليهم». وآنِيَة: جمعُ «إناء» والأصلُ: أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً، وهذا نظيرُ: كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِيَة، ونظيرُه في الصحيح اللامِ: حِمار وأَحْمِرة. و «مِنْ فضةٍ» نعتٌ ل «آنية».
قوله: ﴿قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ﴾ : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في ﴿سَلاَسِلَ﴾. واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني
608
بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على «قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه:
٤٤٤٨ - يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ... وفي انتصابِ «قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ «بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل» قوارير «.
609
قوله: ﴿قَدَّرُوهَا﴾ صفةٌ ل» قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها «فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: «ويُطافُ»
والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: ﴿لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة﴾ [القصص: ٧٦] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان،
610
إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:» قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: «قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار: «قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف «قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ:»
والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: «قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم.
611
قوله: ﴿زَنجَبِيلاً﴾ : الزَّنجبيل: نَبْتٌ معروفٌ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها. والعربُ تَستَلِذُّه. وأنشد الزمخشريُّ للأعشى:
611
٤٤٤٩ - كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْ لَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا
وأنشد للمسيَّب بن عَلَس:
٤٤٥٠ - وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به إذا ذُقْتَه وسُلافةَ الخمرِ
و «عَيْناً» فيها من الوجوه ما تقدَّمَ.
612
قوله: ﴿سَلْسَبِيلاً﴾ : السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: «هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة». وقال الزمخشري: «يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ». قال الشيخ: «فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة». وقال ابن الأعرابي: «لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ». وقال مكي: «هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ».
612
ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ «دَرْدَبيس». وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ «سَلْسَبيلَ» دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين ﴿سَلاَسِلَ﴾ [الإِنسان: ٤] ﴿قَوَارِيرَاْ﴾ [الإِنسان: ١٥] وقد تقدَّمَ. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: «وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها». قال: «وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ» سَلْ سبيلاً «جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين:
613
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول:» وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه «. قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال أبو البقاء:» والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ «. وفي قوله:» كلمة واحدة «تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
614
قوله: ﴿ثَمَّ﴾ هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ. وفي انتصابِه هنا وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد: وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ، ف «رَأَيْتَ» الثاني جوابٌ ل «إذا». وقال الفراء: «ثَمَّ» مفعولٌ به ل «رَأَيْتَ». وقال الفراء أيضاً: «وإذا رَأَيْتَ تقديره:» ما ثَمَّ «، ف» ما «مفعولٌ فحُذِفَتْ» ما «وقامت» ثَمَّ «مَقام» ما «. قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق:» ومَنْ قال: معناه «ما ثَمَّ» فقد أخطأ؛ لأنَّ «ثَمَّ» صلةٌ ل «ما»، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا، واستدلُّوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ، تقدَّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع.
وقال ابن عطية:»
وثَمَّ ظرفٌ. والعاملُ فيه «رَأَيْتَ» أو معناه،
614
والتقديرُ: رأيتَ ما ثَمَّ، فحُذِفَتْ ما «. قال الشيخ:» وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً ل «رَأَيْتَ» لا يكونُ صلةً ل «ما» ؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي: ما استقرَّ ثَمَّ «. قلت: ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه: بأنَّ قولَه:» أو معناه «هو القولُ بأنَّه صلةٌ لموصول، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ، ولولا ذلك لكان قولُه:» أو معناه «لا معنى له. ويعني بمعناه أي: معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملةُ، وهو الاستقرارُ المقدَّرُ.
والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ»
ثَمَّ «كما تقدَّم. وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ، وتكونُ قد عَطَفَتْ» رأَيْتَ «الثاني على الأول، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقولِه:» نعيماً «، والتقدير: وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ/ أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً. فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ.
615
قوله: ﴿عَالِيَهُمْ﴾ : قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً. و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ «عالِيْهم» مبتدأ و «ثيابُ» مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ.
615
والثالث: أنَّ «عالِيْهم» منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها.
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: «لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية:» ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم «. قال الشيخ:» وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في [إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ «. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا.
الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في ﴿عَلَيْهِمْ﴾ [الإِنسان: ١٩]. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ ﴿حَسِبْتَهُمْ﴾ [الإِنسان: ١٩]. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف»
عاليَهم «حالٌ مِنْ» أهل «المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال:» وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من
616
الضميرِ في «يَطوف عليهم» أو في «حَسِبْتَهم»، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: [رأيت] أهلَ نعيم «. قال الشيخ:» أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهم» فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على «وِلدانٌ» ولذلك قدَّر «عاليَهم» بقوله: «عالياً لهم»، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: «وحُلُّوا» و «سَقاهم» و ﴿إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً﴾ وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «.
قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول «لَقَّاهم»
. السادس: أنه حال مِنْ مفعول «جَزاهُمْ» ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به «ثيابُ» على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في
617
وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقولِه تعالى: ﴿عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] [وقولِه:]
٤٤٥١ - سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
٤٤٥٢ - يا رُبَّ غابِطِنا........... .......................
ولم يؤنَّثْ «عالياً» لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ «عاليَهم» على الظرفيةِ، ويرتفع «ثيابُ» به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ «عاليَهم» بالابتداء و «ثيابُ» على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقولِه تعالى: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ القوم﴾ [الأنعام: ٤٥]، أي: أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي «عاليتُهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها «عَلِيَتْهم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثيابُ» فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه.
618
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق «عليهم»، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ «عاليَهم» ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم، وارتفاعُ «ثيابُ» به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
وقرأ العامَّةُ/ «ثيابُ سُنْدُسٍ» بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ «ثيابٌ» منونةً «سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» برفعِ الجميعِ، ف «سندسٌ» نعتٌ ل «ثيابٌ» لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و «خُضْرٌ» نعتٌ ل «سندس» ؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و «إستبرقٌ» نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في «خُضْر وإستبرق» على أربع مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط.
الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءةُ الأولى: فإنَّ رَفْعَ «خُضْرٌ» على النعتِ ل ثياب، ورَفْعَ «إستبرقٌ» نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: «على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ» أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ «خُضْرٍ» على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال
619
مكي: «هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة» كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾ [الرعد: ١٢]. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: «أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ»، وفي التنزيل: ﴿أَوِ الطفل الذين﴾ [النور: ٣١] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ «إستبرق» نَسَقاً على «سندسٍ» لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ «خُضْرٌ» نعتاً ل «ثيابٌ» وجَرُّ «إستبرقٍ» نَسَقاً على «سُنْدُسٍ»، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ.
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ «خُضْرٍ» على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ «إستبرقٌ» على النَّسَقِ على «ثياب» بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ «وإستبرقَ» بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
620
فقال الزمخشري: «وقُرِىءَ» وإسْتبرقَ «نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول:» الإِستبرق «إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقُرِىءَ» واستبرقَ «بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ:» ودلَّ قولُه «إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن» وقولُه بعدُ: «وقُرىء» واسْتبرق «بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ». قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: «وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ، بعيدٌ في المعنى.
وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها «انتهى. فدلَّ قولُه:»
قُطِعَتْ ألفُه «/ إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه أولاً:» وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ «أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان: قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها. فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.
621
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن:» لا يجوز. والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه. والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ «. قال الشيخ:» ونقولُ: إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول: بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب، ولمَّا كان قولُه: «خُضْر» يدل على الخُضْرة، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه «خُضْر». وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ «. قلت: هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ.
قوله: ﴿وحلوا﴾ عطفٌ على»
ويَطوف «، عَطَفَ ماضياً لفظاً، مستقبلاً معنىً، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه. وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى:» وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران: سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ «، فناقَشَه الشيخ في قولِه» بالمِعْصم «فقال:» قولُه بالمِعْصم: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ «أَحْسن»، و «أَنْ يكونَ»
622
بدلاً منه، وأمَّا «أنْ يكونَ» مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور: فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ. لا تقول: ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ: «ما أحسن زيداً». وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ «. قلت: وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه، وهو المسموعُ من العربِ نثراً. قال عمروُ ابن معديكرب:» للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها «والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.
623
قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «نحن» توكيداً لاسم «إنَّ»، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و «نَزَّلْنا» على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ «إنَّ»، ويجوزُ أَنْ يكونَ «نحن» مبتدأً و «نَزَّلْنا» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ». وقال مكي: «نحنُ» في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم «إنَّ»، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد أن عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ
623
الخبرِ عنه «. قلت: وهذه عبارةٌ غريبةٌ جداً؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفاً بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ. تقول:» مَرَرْتُ به العاقل «على أَنْ يكونَ» العاقِل «نعتاً. أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه.
624
قوله: ﴿أَوْ كَفُوراً﴾ : في «أو» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها على بابها، وهو قولُ سيبويهِ. قال أبو البقاء: «وتُفيد في النهي [المنعَ] عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة:» جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين «كان التقديرُ: جالِسْ أحدَهما. فإذا نهى فقال:» لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً «فالتقدير: لا تُكَلِّمْ أحدَها، فأيُّهما/ كلَّمَهُ كان أحدَهما، فيكونُ ممنوعاً منه، فكذلك في الآية، ويَؤُول المعنى: إلى تقديرِ: ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً». وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: معنى» أو «: ولا تُطِعْ أحدَهما، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً. قلت: لو قيل:» لا تُطِعْهما «لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما. وإذا قيل: لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقولَ لأبَويْه:» أفّ «عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربْهما على طريق الأَوْلَى». الثاني: أنَّها بمعنى «لا»، أي: لا تُطِعْ مَنْ أَثِم
624
ولا مَنْ كَفَر. قال مكي: «وهو قولُ الفراء، وهو بمعنى الإِباحة التي ذكَرْنا». الثالث: أنها بمعنى الواو، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين وتقدَّمَتْ أدلَّتُهم.
والكَفور، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ، إلاَّ أنه عُطِفَ لأحدِ شيئَيْن: إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما. وفي التفسير: الآثمُ عُتبةُ، والكَفورُ الوليدُ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال: «فإنْ قلتَ: كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قولِه آثماً أو كفوراً؟ قلت: معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث».
625
قوله: ﴿وَسَبِّحْهُ﴾ : فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان: إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قولَ الشاعر:
٤٤٥٣ - كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي
البيت لأبي تمام. ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرارَ فيها.
قوله: ﴿يَوْماً﴾ : مفعولٌ ب «يَذَرُون» لا ظرفٌ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني. ووراء هنا بمعنى قُدَّام. قال مكي: «سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك» فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ، والصحيحُ أنه اسْتُعير ل قُدَّام. وقيل: بل هو على بابِه، أي: وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به. وفيه تجوُّزٌ.
قوله: ﴿وَإِذَا شِئْنَا﴾ : قال الزمخشري: «وحَقُّه أَنْ يجيءَ ب» إنْ «لا ب» إذا «كقولِه: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ [النساء: ١٣٣] يعني أنَّ» إذا «للمحقَّقِ، و» إنْ «للمحتملِ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك. وجوابُه أنَّ» إذا «قد تقع موقعَ» إنْ «كالعكسِ.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه حالٌ، أي: إلاَّ في حالِ مشيئِة اللَّهِ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة. إلاَّ أَنْ يريدَ تفسير المعنى. والثاني: أنه ظرفٌ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما محلُّ ﴿أَن يَشَآءَ الله﴾ ؟ قلت: النصبُ على الظرف، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ اللَّهِ، وكذلك قرأ ابنُ مسعود» إِلاَّ مَا يشَآءُ الله «لأنَّ» ما «مع الفعلِ ك» أَنْ «. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ. لو قلت:» أجيئُك أَنْ يَصيحَ الديكُ «أو» ما يصيحُ «لم يَجُزْ». قلت: وقد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ.
626
وقرأ نافعٌ والكوفيون «تَشاؤُون» خطاباً لسائر الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قولِه: «نحن خَلَقْناهم». والباقون بالغَيبة جَرْياً على قولِه: «خَلَقْناهم» وما بعدَه.
627
قوله: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ﴾ : منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه «أعدَّ لهم» من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: وعَذَّبَ الظالمين، ونحوُه: «زيداً مَرَرْتُ به»، أي: جاوَزْتُ ولابَسْتُ. وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها، وهي قولُه: «يُدْخِلُ». وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظَّالمون» رَفْعاً على الابتداءِ، وما بعده الخبرُ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ. وقرأ ابنُ مسعودٍ «وللظالمين» بلام الجرِّ. وفيه وجهان، المشهورُ: أَنْ يكونَ «للظَّالمين» متعلِّقاً ب «أَعَدَّ» بعده/ ويكونَ «لهم» تأكيداً. الثاني: وهو ضعيفٌ جداً أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ. فنقول: «بزيدٍ مررتُ به»، أي: مررتُ بزيدٍ مررتُ به. والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى. فإنْ وَرَدَ نحوُ «بزيدٍ مَرَرْتُ به» عُدَّ من التوكيدِ، لا من الاشتغالِ.
Icon