تفسير سورة التوبة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ
قوله: ﴿ بَرَآءَةٌ ﴾ أشار المفسر إلى أن قوله: ﴿ بَرَآءَةٌ ﴾ خبر لمحذوف قدره بقوله: (هذه). قوله: ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ﴾ متعلق بمحذوف صفة لبراءة قدره المفسر بقوله: (واصلة) والمعنى هذه قطع واصلة صادرة ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، واصله ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾.
قوله: (ونقض العهد) أي في الصورة الثلاثة. قوله: ﴿ فَسِيحُواْ ﴾ أمر إباحة للمشركين، وهو مقول لقول محذوف، والتقدير فقولوا لهم سيحوا، وهذا بيان لعقد الأمان لهم أربعة أشهر، وإنما اقتصر عليها الإسلام وكثرة المسلمين، بخلاف صلح الحديبية، فكان عشر سنين، لضعف المسلمين إذ ذاك. قوله: (أولها شوال) أي آخرها المحرم، وقيل: أولها عشر ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسيء، ثم صار في السنة القابلة في العاشر من ذي الحجة، وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله "الحديث، وقيل: أولها عاشر ذي الحجة، وآخرها عاشر ربيع الثاني. قوله: (بدليل ما سيأتي) أي في قوله:﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ ﴾[التوبة: ٥].
قوله: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ ﴾ إلخ، أي فلا تغتروا بعقد الأمان لكم.
قوله: ﴿ وَأَذَانٌ ﴾ معطوف على قوله:﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[التوبة: ١] عطف مفصل على مجمل. قوله: (اعلام) أي فالمراد الأذان اللغوي لا الشرعي الذي هو الإعلام بألفاظ مخصوصة. قوله: (يوم النحر) إنما سمي يوم الحج الأكبر لأن معظم أفعال الحج يكون فيه، كالطواف والرمي والنحر والحلق، واحترز بالحج الأكبر عن العمرة، فهي الحج الأصغر، لأن أعمالها أقل من أعمال الحج، لأنه يزيد عليها بامور: كالرمي والمبيت والوقوف. قوله: ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ ﴾ إلخ، هذه الجملة خبر عن قوله: ﴿ وَأَذَانٌ ﴾.
وقوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ ﴾ ظرف للأذان، والمعنى وإعلام من الله ورسوله إلى الناس، كائن في يوم الحج الأكبر، بأن الله بريء إلخ. قوله: ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ القراءة السبعة بل العشرة، على الرفع عطف على الضمير المستتر في بريء، ووجد الفاصل وهو قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ ويصح أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره وبريء منهم أيضاً، وقرىء شاذاً بالنصب، ووجهت بوجهين: الأول أن الواو بمعنى مع، ورسوله مفعول معه، الثاني أنه معطوف على اسم أن وهو لفظ الجلالة، وقرىء شاذاً أيضاً بالجر، ووجهت بأن الواو للقسم، واستبعدت تلك القراءة لإيهام عطفه على المشركين، حتى أن بعض سمع رجلاً يقرأ بها، فقال الأعرابي: إن كان الله بريئاً من رسول فأنا بريء منه، فلببه القارىء إلى عمر، فحكى الأعرابي الواقعة، فأمر عمر بتعليم العربية، وتحكى هذه أيضاً عن علي وأبي الأسود الدؤلي. قوله: (وقد بعث) إلخ حاصل ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً يوم الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة، وأعانتهم قريش بالسلاح، فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خظاعة، ونقضوا عهدهم، خرج عمرو بن سلام الخزاعي، ووقف على رسول الله وأخبره بالخبر، فقال رسول الله: لا نصرت إن لم أنصرك، وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة، فلما كان سنة تسع، أراد رسول الله أن يحج، فقيل إن المشركين يحضرون ويطوفون بالبيت عراة، فقال لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة، آخرها﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾[التوبة: ٣٣] ثم بعث بعده علياً على ناقته العضباء، ليقرأ على الناس صدر براءة، فلحق أبا بكر بالعرج - بفتح العين وسكون الراء، قرية جامعة بينها وبين المدينة ستة وسبعون ميلاً - فلما تلاقيا، ظن أبو بكر أنه معزول، فرجع إلى رسول الله فقال: يا رسول أنزل في شأني شيء؟ فقال لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، أما ترضى أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض، فقال: بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحاج، وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم، قام أبو بكر فخطب الناس، وحدثهم على مناسكهم، وأقام للناس الحج، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي فأذن بما أمر به، وهو لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو منقوض، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج، ثم حج رسول الله سنة عشر حجة الوداع، إذا علمت ذلك، وفي ذلك قال المفسرون: لما خرج رسول الله إلى تبوك، فكان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم، وذلك قوله تعالى:﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً ﴾[الأنفال: ٥٨] الآية، ففعل رسول الله ما أمر به، ونبذ لهم عهودهم. قوله: (بهذه الآيات) أي وهي ثلاثون أو أربعون آية آخرها﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾[التوبة: ٣٣] قوله: (وأن لا يحج) أي وبأن لا يحج، فهو وما بعده من جملة ما أذن به. قوله: ﴿ فَهُوَ ﴾ أي التوبة المفهومة من قوله: ﴿ تُبْتُمْ ﴾.
قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي من بقائكم على الكفر الذي هو خير في زعمكم، أو اسم التفضيل ليس على بابه. قوله: (أخبر) أشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة مطلق الإخبار، وعبر عنه بالبشارة تهكماً بهم.
قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم ﴾ استثناء من المشركين في قوله:﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة: ١] وهو منقطع والتقدير لكن الذين عاهدتم فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، وهذا أولى من جعله متصلاً، لما يلزم عليه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه. قوله: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ ﴾ قرأ الجمهور بالصاد المهملة من النقصان، وهو يتعدى لواحد واثنين، فالكاف مفعول، و ﴿ شَيْئاً ﴾ إما مفعول ثان أو مصدر، أي لا قليلاً ولا كثيراً من النقصان، وقرىء شذوذاً بالضاد، والمعنى لم ينقضوا عهدكم، وهي مناسبة لذكر العهد، والقراءة الأولى مناسبة لذكر التمام في مقابلتها. قوله: ﴿ وَلَمْ يُظَاهِرُواْ ﴾ أي هؤلاء المشركون وهم بنو ضمرة حي من كنانة. قوله: ﴿ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ﴾ أي وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر. قوله: ﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ ﴾ أي انقطعت وفرغت، وتقدم للمفسر أن هذا يدل على أن أول المدة شوال، وهو أحد أقوال ثلاثة تقدمت. قوله: ﴿ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ أي في أي مكان. قوله: ﴿ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ أي لئلا ينتشروا في البلاد. قوله: ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ الخ، المراد أتوا بأركان الإسلام، وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة، لأنهما رأس الأعمال البدنية والمالية، قوله: (ولا تتعرضوا لهم) أي لا لأنفسهم ولا لأموالهم، فلا تأخذوا منهم جزية ولا أعشاراً، ولا غير ذلك. قوله: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أن حرف شرط جازم، وأحد فاعل بفعل محذوف يفسره قوله: ﴿ ٱسْتَجَارَكَ ﴾ وهو فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَأَجِرْهُ ﴾ جواب الشرط، وإنما أعرب أحد فاعلاً بفعل محذوف، لأن أدوات الشرط لا يليها إلا الأفعال لفظاً أو تقديراً سيما إن. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ أي فيتدبره ويعلم كيفية الدين وما انطوى عليه من المحاسن. قوله: ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ أي إن أراد الانصراف ولم يسلم وصله إلى قومه ليتدبره في أمره، ثم بعد ذلك يجوز لك قتالهم، لقيام الحجة عليهم. قوله: (المذكور) أي من الإجارة والإبلاغ. قوله: (ليعلموا) أي ما لهم من الثواب إن آمنوا، وما عليهم من العقاب إن لم يؤمنوا.
قوله: (أي لا) ﴿ يَكُونُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الاستفهام للتعجب بمعنى النفي، وهذا تأكيد لإبطال عهدهم ونقضه في الآية المتقدمة. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ ﴾ يصح أن يكون الاستثناء منقطعاً أو متصلاً، فعلى الانقطاع يكون الموصول مبتدأ خبره جملة الشرط وهي قوله: ﴿ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ ﴾ الخ، وعلى الاتصال يكون الموصول منصوباً على الاستثناء. قوله: (يوم الحديبية) اسم مكان بينه وبين مكة سنة فراسخ. قوله: (وهم قريش المستثنون من قبل) أي في قوله:﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ﴾[التوبة: ٤] وقد تبع المفسر في ذلك ابن عباس وهو مشكل، لأن هذه الآيات نزلت في شوال في السنة التاسعة، وقريش إذ ذاك مسلمون، لأنها كانت نقضت في السنة السابعة، وحصل الفتح في الثامنة، فالصواب كما قال الخازن: إن ذلك محمول على بني ضمرة، الذين دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية مع جملة من القبائل، فكلهم نقضوا إلا بين ضمرة فلم ينقضوا، فلذا أمر رسول الله بإتمام عهدهم إلى مدتهم. قوله: (وما شرطية) أي بمعنى إن، ويصح كونها مصدرية ظرفية، أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. قوله: (حتى نقضوا بإعانة بني بكر على خزاعة) هذا مبني على ما فهمه أولاً، ولو مشى على الصواب لقال: حتى فرغت مدتهم. قوله: ﴿ كَيْفَ ﴾ (يكون لهم عهد) كرر الاستفهام زيادة في التأكيد. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ مفعول ليرقبوا، وجمعه إلال كقداح. قوله: (قرابة) وقيل المراد به العهد، وقيل المراد به الله تعالى، وقيل الجواز وهو رفع الصوت عند المحالفة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك عند المحالفة، والأقرب ما قاله المفسر. قوله: (عهداً) أي فالعطف للتفسير على تفسير إلال بالعهد. قوله: ﴿ يُرْضُونَكُم ﴾ هذا بيان لحالهم، عند عدم الظفر بالمسلمين، إثر بيان حالهم عند الظفر بهم. قوله: (وتأبى قلوبهم) أي تمتنع من الإذعان والوفاء بما أظهروه. قوله: ﴿ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي استبدلوا آيات الله بالأعراض الفانية والشهوات الزائلة. قوله: ﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أي منعوا الناس من اتباع دين الإسلام والإيمان. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي لضلالهم وكفرهم وإضلالهم غيرهم. قوله: ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ ﴾ كرر ذلك لمزيد التشنيع والتقبيح عليهم، لأن مقام الذم كمقام المدح، البلاغة في الإطناب.
قوله: ﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ الخ ليس فيه تكرار مع ما تقدم، لاختلاف جواب الشرط، لأن الأول أفاد تخلية سبيلهم، وهنا أفاد أنهم إخواننا في الدين. قوله: (أي فهم إخوانكم) أشار بذلك إلى أن ﴿ فَإِخْوَٰنُكُمْ ﴾ خبر لمحذوف، والجملة في محل جزم جواب الشرط. قوله: (يتدبرون) أي يتعظون فيؤمنون، وإنما فسر العلم بالتدبر، لأن المراد به علم يحصل معه الإذعان لا مطلق علم. قوله: ﴿ وَإِن نَّكَثُوۤاْ ﴾ النكث في الأصل الرجوع إلى خلف، ثم استعمل في النقض مجازاً بجامع أن كلاً متأخر عن مطلوبه وهو مقابل قوله: ﴿ فَإِن تَابُواْ ﴾ إلخ، والمعنى فإن أظهروا ما في ضمائرهم من الشر فقاتلوا إلخ. قوله: ﴿ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ عطف تفسيراً أو سبب على مسبب والأقرب الأول. قوله: ﴿ فَقَاتِلُوۤاْ ﴾ أمر لسيدنا محمد وأمته. قوله: ﴿ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ﴾ بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما وتركه، وتسهيل الثانية مع إدخال ألف بينهما وتركه، وبإبدال الثانية ياء، فهذه خمس قراءات غير شاذة هنا، وفي الأنبياء، وفي موضعي القصص، وفي السجدة وأصله أأئمه بوزن أفعله، أريد إدغام أحد الميمين في الأخرى، فنقلت حركة الميم الأولى للساكن قبلها، وهو الهمزة الثانية. قوله: (فيه وضع الظاهر) إلخ أي زيادة في التقبيح عليهم، حيث وصفهم بكونهم رؤساء في الكفر، وكان مقتضى الظاهر فقاتلوهم. قوله: ﴿ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾ بفتح الهمزة جمع يمين بمعنى الحلف، والمعنى لا عهود لهم متممة. قوله: (وفي قراءة بالكسر) أي فيكون مصدر آمن بمعنى أعطاه الأمان، أو من الإيمان وهو التصديق. قوله: ﴿ إلاَّ ﴾ (للتخصيص) أي وهو الطلب، بحث وإزعاج لاتصافهم بصفات ثلاثة، كل واحد منها يقتضي القتال. قوله: ﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ ﴾ إنما اقتصر على الإخراج، مع أنه وقع منهم الهم بالقتل والهم بالإيثاق أيضاً، لأن أثر الإخراج ظهر عقبه، وهو خروجه منها بإذن ربه لا خوفاً منهم، ولذا ورد:" اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك "قوله: (بدار الندوة) تقدم أنها مكان اجتماع القوم للمشاورة والحديث. والباني لها قصي، وقد أدخلت الآن في المسجد، فهي في مقام الحنفي. قوله: (حيث قاتلوا خزاعة) أي أعانوهم بالسلاح، ثم اعلم أن صريح المفسر على ذلك على قريش، وهو مناف لما تقدم، من أن السورة نزلت سنة تسع، وقريش إذ ذاك مسلمون. قوله: (فما يمنعكم أن تقاتلوهم) أشار بذلك إلى أن المراد من التحضيض الأمر مع التوبيخ. قوله: (في ترك قتالهم) يتعلق بقوله: ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه.
قوله: ﴿ قَاتِلُوهُمْ ﴾ هذا أمر ذكر في جوابه خمسة أمور، قوله: (بنوا خزاعة) يؤخذ من ذلك أنهم مؤمنون إذ ذاك. قوله: ﴿ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ ﴾ بالرفع استئناف، ولم يجزم لأن التوبة على من يشاء، ليست جزاء على قتال الكفار. قوله: (بمعنى همزة الإنكار) الحق أنها بمعنى بل، والهمزة معاً كما تقدم له. قوله: ﴿ أَن تُتْرَكُواْ ﴾ أي يترككم الله من غير قتال. قوله: ﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾ الجملة حالية. قوله: (علم ظهور) دفع بذلك ما يقال كيف ينفي علم الله مع أنه متعلق بكل شيء وجد أو لم يوجد. قوله: (بالإخلاص) أي مع إخلاص. قوله: ﴿ وَلِيجَةً ﴾ من الولوج وهو الدخول، والمعنى بل ظننتم أن تتركوا من غير قتال بمجرد قولكم آمنا، بل يظهر المجاهد منكم الإخلاص من غيره، ولم تتخذوا في الله ورسوله ولا المؤمنين شيئاً تدخلونه في قلوبكم، غير محبة الله ورسوله والمؤمنين. قوله: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ ﴾ إلخ. سبب نزول هذه الآية وما بعدها أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، منهم العباس عم رسول الله، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله يعيرونهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقيل له: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم، نحن أفضل منكم، نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة أي نخدمها، ونسقي الحجيج، ونفك العاني. قوله: (بالإفراد والجمع) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالإفراد إما على أن المراد بالمسجد الحرام، أو على أن المسجد اسم جنس، فيدخل فيه جميع المساجد، والجمع إما على أن كل بقعة من المسجد الحرام يقال لها مسجد، أو الجمع باعتبار أنه قبلة لسائر المساجد. قوله: ﴿ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾ قيل: المراد به السجود للأصنام، لأن كفار قريش كانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام، فلم يزدادوا بذلك إلا بعداً من الله. قوله: ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ ﴾ أي الحسنة التي افتخروا بها من خدمة المساجد، وفك الأسير، وسقاية الحاج، وغير ذلك. قوله: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ ﴾ بالجمع باتفاق السبعة، وعمارتها تكون ببنائها من المال الحلال والصلاة فيها وغير ذلك. قوله: ﴿ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ أي أن يحشروا في زمرتهم يوم القيامة.
قوله: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ ﴾ رد على العباس وغيره كما يأتي للمفسر، حيث افتخروا بذلك وقالوا إن هذا شرف لا يضاهى، والسقاية في الأصل هي المحل الذي يجعل في الشراب في الموسم، كانوا ينبذون الزبيب في ماء زمزم ويسقونه الناس أيام الحج، وكان الفاعل لذلك العباس في الجاهلية، واستمرت معه السقاية في الإسلام، فهي لآل العباس أبداً. قوله: (أي أهل ذلك) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف، والتقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج إلخ، وقد دفع بذلك ما يقال: كيف يشبه المعنى، وهو السقاية بالذات، وهو من آمن. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ (في الفضل) أي الأخروي، لأن فضل أهل السقاية والعمارة دنيوي. قوله: (أو غيره) أو بمعنى الواو، لأن أهل مكة كانوا يفتخرون بذلك، ويزعمون أن هذا فخر لا يضاهى. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالإيمان، وما عطف عليه وهو الهجرة والجهاد. قوله: (من غيرهم) يدخل فيه أهل السقاية والعمارة من الكفار، فمقتضاه أن لهم درجة لكنها ليست أعظم، والجواب: أن ذلك إما باعتبار ما يعتقدونه من أن لهم درجة ورتبة، أو اسم التفضيل باعتبار المؤمنين الذين لم يستكملوا الأوصاف الثلاثة. قوله: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ ﴾ أي الكاملون في الفوز، بالنسبة للمؤمن الذي لم يستكمل الأوصاف الثلاثة، أو المراد الذي لهم أصل الفوز بالنسبة لأهل السقاية والعمارة. قوله: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ ﴾ إلخ. ذكر الله سبحانه وتعالى ثلاثة أشياء، جزاء على الصفات الثلاثة، فالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقف الرحمة عليه، والرضوان في مقابلة الجهاد، لأنه بذل الأموال والأنفس في مرضاة الله، والرضوان نهاية الإحسان، فكان في مقابلته، والجنة في مقابلة الهجرة، لأن الهجرة ترك الأوطان، فبدلوا وطناً في الآخرة أعلى وأجل مما تركوه، وإنما قدمت الرحمة والرضوان، إشارة إلى أنهما يكونان في الدنيا والآخرة، وأخرت الجنة إشارة إلى أنه مختصة بالآخرة، ولأنها آخر العطايا. قوله: (حال مقدرة) أي لأنهم حين الدخول ليسوا خالدين، وإنما هم منتظرون. قوله: (ونزل فيمن ترك الهجرة) قال ابن عباس: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون: ننشدكم بالله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ ﴾ نزلت لما قال الذين أسلموا ولم يهاجروا، نحن إن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا، وتخربت ديارنا، وتقطعت أرحامنا، ويؤخذ من ذلك، أنه إذا تعارض أمر من أمور الدين، مع مصالح الدنيا، يقدم أمر الدين، ولو لزم عليه تعطيل أمر الدنيا. قوله: ﴿ وَإِخْوَانَكُمْ ﴾ أي حواشيكم، والمراد هنا إخوان النسب، وإن شاع جمع أخ النسب على إخوة، وأخ الدين على إخوان. قوله: (أقربائكم) وقيل هم من بينك وبينهم معاشرة مطلقاً ولو غير قريب، فهو عطف عام على ما قبله على كل حال. قوله: (وفي قراءة عشيراتكم) أي وهي سبعية، وقرأ الحسن عشائركم. قوله: ﴿ تَرْضَوْنَهَآ ﴾ أي ترضون الإقامة فيها. قوله: ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ ﴾ خبر كان، واسمها ﴿ آبَاؤُكُمْ ﴾ وما عطف عليه. قوله: (فقعدتم لأجله) قدره ليرتب عليه قوله: ﴿ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ وجملة ﴿ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ جواب الشرط. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ قال ابن عباس هو فتح مكة. إذا علمت ذلك، تعلم أن هذا مشكل مع ما تقدم، ومع ما يأتي من أن السورة نزلت بعد الفتح، إلا أن يقال إن بعض السورة نزل قبل الفتح، بحسب الوقائع والسورة بتمامها نزلت بعد الفتح، ولا غرابة في ذلك فتدبر. قوله: (تهديد لهم) أي تخويف. قوله: ﴿ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ عبر عنهم أولاً بالظالمين. إشارة إلى أن الكفار موصوفون بكل وصف قبيح.
قوله: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الخطاب للنبي وأصحابه، بتعداد النعم عليهم. قوله: فِي مَوَاطِنَ } جمع موطن كمواعد وموعد، ويرادفه الوطن وهو محل السكنى. قوله: (وقريظة والنضير) الكلام على حذف مضاف، أي وموطن قريظة وموطن النضير. قوله: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر) وقيل معطوف على ﴿ مَوَاطِنَ ﴾ من عطف ظرف الزمان على ظرف المكان، ورد بأنه يقتضي أن قوله: ﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ يرجع لقوله: ﴿ مَوَاطِنَ ﴾ أيضاً لأنه بدل من يوم حنين، ولا يصح ذلك، أن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، بل في خصوص حنين، فتعين ما قدره المفسر، قوله: (واد بني مكة والطائف) أي وبينهما ثمانية عشر ميلاً، وفي بعض العبارات ثلاث ليال. قوله (هوازن) أي وهم قبيلة حليمة السعدية. قوله: (سنة ثمان) أي من الهجرة، وهي سنة فتح مكة، لأن مكة فتحت في رمضان، وغزوة هوازن في شوال عقبه. قوله: (من قلة) أي من عدد قليل. قوله: (وكانوا اثني عشر ألفاً) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار. وألفان من الذين أسلموا في مكة بعد فتحها. قوله: (والكفار أربعة آلاف) الذي في شرح المواهب أنهم أكثر من عشرين ألفاً. قوله: ﴿ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾ أي لم تنفعكم ولم تدفع عنكم شيئاً. قوله: (أي مع رحبها) أشار بذلك إلى أن الباء بمعنى مع، والجملة حال أي متلبسة برحبها، والرحب بالضم السعة، وبالفتح الواسع. قوله: (وليس معه غير العباس) أي وقد كان آخذاً بلجام بغلته. قوله: (وأبو سفيان) أي ابن الحرث بن عبد المطلب. وقد أسلم هو والعباس يوم الفتح، وفي بعض السير: أن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين مائة وثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وستة وستون من الأنصار، ويجمع بين ما قاله المفسر وغيره بأنه لم يبق متصلاً بالبغلة إلا اثنان، والباقون مشتغلون بالحرب لم يفروا. قوله: (فردوا) أي رجعوا جميعاً كالفصيل الضال عن أمه إذا وجدها. قوله: (لما ناداهم العباس) أي وكان صيتاً يسمع صوته من نحو ثمانية أميال. قوله: ﴿ لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ قيل كانوا خمسة آلاف، وقيل ستة عشر الفاً ولم يقاتلوا، بل نزلزا لتقوية قلوب المسلمين، وروي" عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، فما القيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا "، وروي" أن الملائكة الذين نزلزا يوم حنين، عليهم عمائم حمر، راكبين خيلاً بلقاً "قوله: (بالقتل) أي لبعضهم وهو أكثر من سبعين. قوله: (والأسر) أي للنساء والذراري وكانوا ستة آلاف، ولم تقع غنيمة أعظم منها، فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر الفاً، وقيل أربعة وعشرون ألفاً، ومن الغنم ما لا يحصى، وكان فيها غير ذلك، ولما هزمهم قصد إلى الطائف، وأمر بجعل الغنائم في الجعرانة حتى يأتي إليهم،" فلما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف، انتظر هوازن بضعة عشر يوماً، ليقدموا عليه مسلمين، ثم أخذ في قسمة الغنائم، وكان في السبي اخت رسول الله من الرضاع، وهي بنت حليمة السعدية، فأطلقها رسول الله واكرمها وردها لقومها، فأخبرتهم بما وقع لها من رسول الله من الإكرام، فكان ذلك باعثاً على إسلامهم، أتى منهم جماعة وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرهم، فأردد علينا أموالنا وأهلينا، قال لهم: أن خير القول أصدقه، اختاروا إما أموالكم، وإما ذراريكم ونساءكم، قالوا: ما كنا نعدل بالأحسان شيئاً، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأما ما كان لغيرهم فسأطلب فيه معروفهم، ثم قال لهم: إذا أنا صليت فتقدموا إلي وأخبروني بذلك، ففعلوا كما أمروا، فقال صلى الله عليه وسلم: من طابت نفسه بشيء أن يرده فليفعل "، فقالا: رضينا بذلك وسلموه الأموال والأسارى.
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ القراءة السبعية بفتحتين، وفيه لغات أخر ككتف وعضد، والمعنى انهم نجس نجاسة معنوية لا حسية، وقال ابن عباس: أعيانهم نجس كاكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً توضأ، وأهل المذهب على خلاف ذلك، فإنهم طاهرون لأنهم داخلون في آية﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ﴾[الإسراء: ٧٠].
قوله: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ إلخ، قال العلماء: جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام، احدها: الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال، وجوز أبو حنيفة دخول المعاهد، الثاني: الحجاز فلا يجوز للكافر دخوله إلا بإذن، ولا يقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام، لما في الحديث:" لا يبقين دينان في جزيرة العرب وحدها طولاً من أقصى عدن إلى ريف العراق، وعرضاً من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام "الثالث: سائر بلاد الإسلام، يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة أو أمان، لكن لا يدخل المساجد إلا لغرض شرعي. قوله: (عام تسع) أي وهو عام نزول جملة السورة على الصحيح، وما يوهم خلاف ذلك يجب تأويله. قوله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ إلخ، سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر علياً أن يقرأ على المشركين أول براءة، خاف أهل مكة الفقر وضيق العيش، لامتناع المشركين من دخول الحرم واتجارهم فيه، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. قوله: (فقرأ) في المصباح معيلة بالفتح الفقر، وهي مصدر عال يعيل، من باب سار، فهو عائل، والجمع عالى، وفي المختار: وعيال الرجل من يعولهم، وواحد العيال، عيل كجيد، والجمع عيائل كجيائد، وأعال الرجل كثرت عياله. قوله: (وقد أغناهم بالفتوح) أي فأسلم أهل صنعاء وجدة وتبالة بفتح التاء، وجرش بضم الجيم وفتح الراء بعدها شين معجمة، قريتان من قرى اليمن وجلبوا إليهم الميرة، وصاروا في أرغد عيش.
قوله: ﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ إلخ، شروع في ذكر قتال أهل الكتابين، أثر بيان قتال مشركي العرب، وهذه الآية نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فلما نزلت توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك. قوله: (وإلا لآمنوا بالنبي) جواب عما يقال: إن ظاهر الآية يقتضي نفي إيمانهم بالله واليوم الآخر، مع أنهم يزعمون الإيمان بالله واليوم الآخر، وفي كلام المفسر إشارة بالقياس استثنائي وتقريره أن يقال: لو آمن اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر، لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يؤمنوا بالنبي، فلم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر، وأيضاً دعواهم الإيمان بالله باطلة، لأنهم يعتقدون التجسيم والتشبيه، ولا شك في كونه كفراً، كذلك دعواهم الإيمان باليوم الآخر باطلة، لأنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها، ولا يشربون، ولا ينكحون، فتحصل أن كفرهم بهذه الأمور، وتكذيبهم النبي، ومن كذب نبياً، فقد كفر بالله واليوم الآخر، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً ﴾[النساء: ١٥٠-١٥١] قوله: (كالخمر) أي والخنزير والربا وكل محرم في شرعنا، فإنهم مخاطبون بفروع الشريعة، ويعذبون عليها زيادة على عذاب الكفر. قوله: ﴿ دِينَ ٱلْحَقِّ ﴾ من إضافة الموصوف لصفته. قوله: (الناسخ لغيره) أي الماحي له، فمن اتبع غير الإسلام فهو كافر، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ ﴾[آل عمران: ١٩] وقال تعالى:﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[آل عمران: ٨٥]، ويصح أن يراد بالحق الله سبحانه وتعالى، لأن من أسمائه الحق، والمراد بدين الله الإسلام. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ ﴾ غاية لقتالهم، وسميت جزية لأنها جزاء لكف القتال عنهم وتأمينهم. قوله: (الخراج المضروب عليهم) أي الذي يجعله الإمام على ذكورهم الأحرار البالغين الموسرين. قوله: (أي منقادين) تفسير باللازم، أي فاليد كناية عن الانقياد. قوله: (لا يوكلون بها) أي فاليد على حقيقتها، وهذا التفسير يناسب مذهب مالك، لأن عنده لا يجوز التوكيل في دفعها، بل كل واحد يدفع جزيته بيده وحين دفعها يبسط الكافر يده بها، ويأخذها المسلم من يده، لتكون يد المسلم هي العليا، ثم بعد أخذها يصفعه المسلم على قفاه، وعند الشافعي يجوز التوكيل في دفعها.
قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾ إلخ، هذا من تفصيل عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، و ﴿ عُزَيْرٌ ﴾ بالصرف وعدمه قراءتان سبعيتان، فالصرف على أنه عربي فلم توجد فيه إلا علة واحدة، وعدمه على أنه أعجمي ففيه العلتان و ﴿ ٱبْنُ ﴾ خبر عزير فيرسم بالألف لأنه ليس بصفة للعلم، وسبب تلك المقالة على ما قاله ابن عباس، أن عزيراً كان فيهم، وكانت التوراة عندهم، والتابوت فيهم، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت، وأنساهم التوراة، ومسحها من صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه، فأذن في قومه وقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراة وردها علي، فعلقوا به يعلمهم، ثم مكثوا ما شاء الله، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت، عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا، إلا لأنه ابن الله. قوله: ﴿ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ﴾ المسيح لقب له، إما لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برىء، أو لأنه ممسوح بالبركة، وسبب مقالتهم، أنهم كانوا على الدين الحق، بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة، يصلون إلى القبلة ويصومون، حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص، قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولص لليهود: إن كان الحق مع عيسى، فقد كفرنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضله حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه، فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولص، قد نوديت من السماء، أنه ليست لك توبة حتى تتنصر، وقد تبت وأتيتكم، فأدخلوه الكنيسة ونصروه، ودخل بيتنا فيها، فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج وقال: قد نوديت أن الله قد قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى ثلاثة رجال، اسم واحد نسطورا، والآخر يعقوب والآخر ملكان، فعلم نسطورا أن عيسى ومريم آلهة ثلاثة، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان، انه ابن الله، وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل، فلما تمكن ذلك فيهم، دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي، وادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني، وقال لكل واحد إني سأذبح نفسي تقرباً إلى عيسى، ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه، وتفرق أولئك الثلاثة، فذهب واحد إلى الروم، وواحد إلى بيت المقدس، والآخر إلى ناحية أخرى، وأظهر كل واحد منهم مقالته، ودعا الناس إليها، فتبعه على ذلك طوائف من الناس، فتفرقوا واختلفوا. قوله: ﴿ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ من المعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه، فذكرها مبالغة في الرد عليهم، قوله: ﴿ يُضَاهِئُونَ ﴾ بضم الهاء بعدها واو، وبكسر الهاء بعدها همزة مضمومة، ثم واو، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي أبعدهم عن رحمته، فهو دعاء عليهم. قوله: ﴿ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ استفهام تعجب، والاستفهام رجع إلى الخلق، لأن الله يستحيل عليه التعجب. قوله: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ ﴾ أي اليهود والنصارى. قوله: ﴿ أَحْبَارَهُمْ ﴾ جمع حبر بالفتح والكسر، والثاني أفصح، العالم الماهر. قوله: (حيث اتبعوهم) أشار بذلك إلى أنهم لم يتخذهم أرباباً حقيقة، بل المعنى كالأرباب في شدة امتثالهم أمرهم. قوله: ﴿ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ بالنصب على عطف على ﴿ أَحْبَارَهُمْ ﴾ والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ربا. قوله: ﴿ وَمَآ أُمِرُوۤاْ ﴾ إلخ، الجملة حالية. قوله: ﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ صفة ثانية لإلهاً. قوله: (شرعه وبراهينه) أي الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، وهي ثلاثة أمور: أحدها المعجزات الظاهرات، ثانيها القرآن العظيم، ثالثها كون دينه الذي أمر باتباعه، وهو دين الإسلام، ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والانقياد لأمره ونهيه، والتبري من كل معبود سواه، فهذه أمور نيرة واضحة في صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، فمن أراد إبطال ذلك فقد خاب سعيه. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾ أي يعليه ويرفع شأنه. قوله: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: ولو كره الكافرون إتمامه لأتمه ولم يبال بهم.
قوله: ﴿ بِٱلْهُدَىٰ ﴾ أي القرآن. قوله: ﴿ وَدِينِ ٱلْحَقِّ ﴾ أي دين الإسلام. قوله: (جميع الأديان المخالفة له) أي بنسخه لها. قوله: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾ كرر لمزيد التهكم بهم والرد عليهم، ووصفهم أولاً بالكفر، وثانياً بالإشراك، إشارة إلى أنهم اتصفوا بكل منهما. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ ﴾ إلخ لما بين عقائد الأتباع وصفاتهم، شرف في بيان صفات الرؤساء والأحبار علماء اليهود، والرهبان عباد النصارى. وفي قوله: ﴿ كَثِيراً ﴾ إشاره إلى أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يكونوا كذلك، كعبد الله بن سلام وأضرابه من الأحبار، والنجاشي وأضرابه من الرهبان. قوله: (يأخذون) أشار بذلك إلى أن المراد بالأكل الأخذ، فأطلق الخاص وأريد العام، من باب تسمية الشيء باسم جزئه الأعظم، لأن معظم المقصود من أخذ الأموال أكلها. قوله: ﴿ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ قيل هو تخفيف الشرائع والتساهل فيها لسفلتهم، وقيل هو تغيير صفات المصطفى صلى الله عليه وسلم الكائنة في التوراة والإنجيل، وقيل ما هو أعم وهو الأحسن، والباعث لهم على ذلك حب الرياسة وأخذ الأموال. قوله: (كالرشا) بضم الراء وكسرها، جمع رشوة، بالضم على الأول، والكسر على الثاني، وفي القاموس: الرشوة مثلثة وهي الجعل على الحكم، وهي حرام ولو على الحكم بالحق، فما بالك بأخذها على الحكم بالباطل، أما حبل الاستقاء، فيقال فيه رشاء بالكسر والمد. قوله: ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ﴾ الكنز في الأصل جمع المال ودفنه وعدم الإنفاق منه، واختلف في المراد بالذين يكنزون الذهب والفضة، فقيل المراد بهم أهل الكتاب، لأن شأنهم الحرص وكنز المال، وقال ابن عباس: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين والحقوق الواجبة، وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب والمسلمين، الذين يمنعون الزكاة والحقوق الواجبة. روي أن أبا ذر اختلف مع معاوية في هذه الآية، فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب، وقال أبو ذر: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية وكان أميراً على الشام إلى عثمان يشكوه، فكتب عثمان إلى أبي ذر أن أقدم المدينة فقدم، فازدحم عليه الناس حتى كأنهم لم يروه قبل ذلك، فأخبر عثمان بذلك، فقال له: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً منا، فنزل بالزبدة وقال: ولو أمروا علي عبداً حبشياً لسمعت وأطعت. قوله: (أي الكنوز) أي المدلول عليها بقوله: ﴿ يَكْنِزُونَ ﴾ ودفع بذلك ما يقال: إن المتقدم شيئان، الذهب والفضة، فكان مقتضاه تثنية الضمير، فلم أفرد؟ فأجاب: بأنه عائد على الكنوز المفهومة من السياق. قوله: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ ﴾ إنما سمي بشارة تهكماً بهم، وإشارة إلى أنه بمنزلة الوعد في عدم تخلفه.
قوله: ﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا ﴾ ظرف لقوله:﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[التوبة: ٣٤] و ﴿ يُحْمَىٰ ﴾ يجوز أن يكون من حميته وأحميته ثلاثياً ورباعياً، يقال: حميت الحديدة وأحميتها، أوقدت عليها لتحمى، والفاعل محذوف تقديره يوم تحمى النار عليها، أي تتقد على تلك الكنوز.
﴿ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ ﴾ إلخ، فلما حذف الفاعل، ذهبت علامة التأنيث، ولذلك قرىء بالتاء من فوق، وأنيب الجار والمجرور منابه، ولتضمنه معنى الانقياد عدي بعلى. قوله: ﴿ جِبَاهُهُمْ ﴾ المراد بها جهة الإمام بدليل المقابلة. قوله: (وتوسع جلودهم) أي حتى لا يوضع دينار على دينار، ولا درهم على درهم، وذلك بعد جعلها صفائح من نار. قوله: (أي جزاؤه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، لأن الكنوز لا تذاق، وهذا عذابه في الآخرة، وورد أنه يصور ماله في قبره بصورة شجاع أقرع له زبيبتان، يأخذ بلزمتيه أي شدقيه ويقول: أنا كنزك، أما مالك، فلا مانع من حصول الجميع له، أجارنا الله من أسباب ذلك.
قوله: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ ﴾ إلخ المقصود من ذلك الرد على الجاهلية، حيث يزيدون في الأشهر، بحسب أهوائهم الفاسد، فراراً من القتال في الأشهر الحرام، فإنهم كانوا يعظمون الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها، فكانوا إذا اضطروا للقتال فيها، ادعوا أنه لم تأت وقاتلوا فيها، فربما جعلوا السنة أربعة عشر شهراً أو أزيد بحسب ما تسوله عقولهم الفاسدة. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صفة للشهور. قوله: ﴿ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً ﴾ وهذه شهور السنة القمرية العربية التي يعتد بها المسلمون في عباداتهم كالصيام والحج وسائر أمورهم، وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً، والسنة الشمسية وتسمى القبطية، وهي عبار عن دور الشمس في الفلك دورة تامة، وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية، إما عشرة أيام، أو أحد عشر يوماً، خمسة أيام نقص الشهور العربية، وخمسة أيام النسيء إن كانت السنة بسيطة، وستة أيام إن كانت السنة كبيسة، فكل أربع سنين تأتي فيها سنة كبيسة، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية، فيقع الصور والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف. قوله: ﴿ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ صفة لأثنا عشر. قوله: (محرمة) أي معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات. قوله: (ذو القعدة) بفتح القاف وكسرها، والفتح أفصح عكس الحجة. قوله: (بالمعاصي) أي فظلم النفس يكون بمخالفة الله، لأنه بسبب ذلك تعرض لغضب الله الموجب لدخول النار. قوله: (فإنها فيها أعظم وزراً) أي أشد إثماً منه في غيرها. قوله: ﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾ هذه الآية ناسخة لآية البقرة المفيدة حرمة القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾[البقرة: ٢١٧] الآية، وقوله: ﴿ كَآفَّةً ﴾ مصدر في موضع الحال من فاعل ﴿ وَقَاتِلُواْ ﴾ أو من ﴿ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ ولا يثنى ولا تجمع ولا تدخل عليه أل ولا يتصرف فيه بغير الحال. قوله: (بالعون والنصر) أي فمعيته مع المتقين زائدة على معيته مع الخلق أجمعين، المشار إليها بقوله تعالى:﴿ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ﴾[المجادلة: ٧] لأنها معية تصريف وتدبير، وذلك لا يختص بالإنسان، بل مع كل مخلوق حيواناً وجماداً.
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ ﴾ فعيل بمعنى مفعول، والمراد به تأخيرهم حرمة المحرم إلى صفر، كما في المختار، وهذه قراءة الجمهور بهمزة بعد الياء، وفي قراءة سبعية بإبدال الهمزة ياء، أو إدغام الياء فيها، وقرىء شذوذاً، بسكون السين وبفتح النون وبضم السين بوزن فعول. قوله: (كما كانت الجاهلية تفعله) أي لأن الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرام وتعظيمها، وكانت معاشهم من الغزو، وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فأخروا تحريم شهر إلى شهر آخر، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فإذا احتاجوا إلى القتال، أخروا التحريم إلى ربيع الأول، وهكذا، حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، والمحرم كذلك، وهكذا باقي الشهور، فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة ذا القعدة، ثم" حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فوافقت شهر الحج المشروع، وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة في اليوم التاسع، وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى حيث قال: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر، الذين بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليست البلدة؟ قلنا: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماؤكم وأموالكم - قال محمد وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم بعضاً، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت "؟ مرتبن. قوله: (إذا هل) بالبناء للفاعل وللمفعول، ويقال استهل وهل: إذا رفع الصوت عند ذكره، وبذلك سمي الهلال. قوله: (بضم الياء) أي مع فتح الضاد مبنياً للمفعول في السبعة، ومع كسر الضاد مبنياً للفاعل في العشرة. قوله: (وفتحها) أي مع كسر الضاد لا غير، وهي سبعية أيضاً، فتكون القراءات ثلاثاً: واحدة عشرية، واثنتان سبعيتان. قوله: (أي النسيء) المراد به هنا اسم المفعول أي المنسوء أي المؤخر، وهو تحريم بعض الشهور. قوله: ﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً ﴾ فيه وجهان: أحدهما: أن الجملة تفسيرية للضلال، الثاني: أنها حالية. قوله: ﴿ لِّيُوَاطِئُواْ ﴾ تنازعه كل من يحلونه ويحرمونه، فيجوز الثاني أو الأول. قوله: (إلى أعيانها) أي الأربعة التي اشتهر تحريمها، لأنهم لو التزموا أعيانه لم يضلوا. قوله: ﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ ﴾ بالبناء للمفعول والمزين لهم الشيطان. قوله: أي لا يوصلهم للسعادة. قوله: (ونزل لما دعا) إلخ أي من هنا إلى قوله: ﴿ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لا يوصلهم للسعادة. قوله: (ونزل لما دعا) إلخ من هنا إلى قوله:﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ ﴾[التوبة: ٦٠] فهذه الآيات متعلقة بغزوة تبوك والمتخلفين عنها من المنافقين وغيرهم. قوله: (إلى غزوة تبوك) بالصرف على إرادة البقعة، ومنع للعلمية والتأنيث، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه من الطائف، وسبب توجهه لها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان صلى الله عليه وسلم قليلاً ما يخرج في غزوة إلا ورى عنها بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك، وذلك لبعد المسافة، لأنها على طرف الشام، بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، فأمرهم بالجهاد، وبعث إلى مكة وقبائل العرب، وهي آخر غزاوته صلى الله عليه وسلم، وأنفق عثمان نفقة عظيمة، فجهز عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير تسعمائة بعير ومائة فرس وما يتعلق بذلك، وجاء أبو بكر بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فلما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وهم ثلاثون الفاً، وقيل أربعون الفاً، وقيل سبعون الفاً، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل علي بن أبي طالب، وتخلف عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من المنافقين، فبعد أن خرج بهم إلى ثنية الوداع متوجهاً إلى تبوك، عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخظزرج للحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من الأنصار، ومن قبائل العرب، لواء وراية، ولما نزلوا تبوك، وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفة من مائها، فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها، ففارت عينها حتى امتلأت وارتووا هم وخيلهم وركابهم، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين ليلة، فأتاه يحنة - بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة ثم تاء التأنيث - ابن رؤية - بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة - صاحب أيلة، وأهدى له بغلة بيضاء، فكساه النبي رداء وصالحه على إعطاء الجزية، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم وكتب له ولأهل أيلة كتاباً تركه عندهم ليعلموا، وقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في مجاوزة تبوك، فأشاروا عليه بعدم مجاوزتها، فانصرف وهو والمسلمون راجعين إلى المدينة، ولما دنا من المدينة، تلقاه المتخلفون، فقال لأصحابه: لا تكلموا رجلاً منهم، ولا تجالسوهم، حتى آذن لكم، فصار الرجل بعرض عن أبيه وأخيه. قوله: (وكانوا في عسرة) أي قحط وضيق عيش، حتى أن الرجلين ليجتمعان على التمرة الواحدة. قوله: (وشدة حر) أي حتى كانوا يشربون الفرث. قوله: (فشق عليهم) أي فتخلف عنهم عشرة قبائل، ويقال لها غزوة العسرة الفاضحة، لأنها اظهرت حال المنافقين.
قوله: ﴿ مَا لَكُمْ ﴾ ما مبتدأ، و ﴿ لَكُمْ ﴾ خبره، و ﴿ ٱثَّاقَلْتُمْ ﴾ حال، و ﴿ إِذَا ﴾ ظرف لتلك الحال مقدم عليها، والتقدير أي شيء ثبت لكم من الضرر حال كونكم متثاقلين وقت قول الرسول لكم انفروا إلخ. قوله: (بادغام التاء إلخ) أي فالأصل تثاقلتم، أبدلت التاء ثاء وأدغمت فيها، وأتى بهمزة الوصل توصلاً للنطق بالساكن. قوله: (وملتم) إشارة إلى أنه ضمن اثاقلتم معنى ملتم فعداه بإلى. قوله: ﴿ أَرَضِيتُمْ ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتعجب. قوله: (حقير) أي لأن لذات الدنيا خسيسة مشوبة بالمكدرات والآفات سريعة الزوال، بخلاف لذات الآخرة، فهي شريفة منزهة عن الأقذار والأكدار، باقية لا منتهى لها. قوله: (بإدغام لا في نون إن) العبارة فيها قلب، والأصل بإدغام إن في لام لا. قوله: (في الموضعين) أي هذا قوله:﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ ﴾[التوبة: ٤٠].
قوله: ﴿ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ قيل: المراد في الآخرة، وقيل المراد في الدنيا باحتباس المطر، لما روي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من أحياء العرب فتثاقلوا، فأمسك الله عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم. قوله: ﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ قيل المراد بهم أبناء فارس، وقيل أهل اليمن. قوله: (ومنه نصر دينه) أي ولو من غير واسطة.
قوله: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ ﴾ شرط حذف جوابه تقديره فسينصره الله، وأما قوله: ﴿ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ ﴾ فتعليل للجواب، ولا يصلح أن يكون جواباً لأنه ماض، وقوله: ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ ﴾ ظرف لقوله: ﴿ نَصَرَهُ ﴾ وهذا خطاب لمن تثاقل عن تلك الغزوة. قوله: (بدار الندوة) تقدم إيضاح ذلك في سورة الأنفال في قوله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[الأنفال: ٣٠] إلخ. قوله: (حال) أي من الهاء في ﴿ أَخْرَجَهُ ﴾ والتقدير: إذ أخرجه الذين كفروا، حال كونه منفرداً عن جميع الناس إلا أبا بكر. قوله: (بدل من إذ قبله) أي بدل بعض من كل، لأن الإخراج زمنه ممتد، فيصدق على زمن استقرارهما في الغار، وإلا فزمن الإخراج مباين لزمن حصلهما في الغار، لأن بين الغار ومكة مسيرة ساعة. قوله: ﴿ لاَ تَحْزَنْ ﴾ أي لا تهتم، وكان حزن الصديق على رسول الله لا على نفسه، ورد أنه قال له: إذا مت فأنا رجل واحد، وإذا مت أنت، هلكت الأمة والدين. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ﴾ أي معية معنوية خاصة. قوله: (قيل على النبي) أي فيكون المراد، زاده سكينة وطمأنينة حتى عمت أبا بكر، وإلا فرسول الله لم يسبق له انزعاج، لمزيد ثقته بربه. قوله: (وقيل على أبي بكر) أي لأنه هو المنزعج. قوله: (ملائكة في الغار) أي يحرسونه من أعدائه. قوله: (ومواطن قتاله) الواو بمعنى أو، لأنه تفسير ثان. قوله: (أي دعوة الشرك) أي دعواة أهل الشرك الناس إليه، أو المراد عقيدة أهل الشرك. قوله: ﴿ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا ﴾ القراء السبعة على الرفع مبتدأ، وهي إما ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، والعليا إما خبر عن كلمة، أو عن الضمير، والجملة خبر كلمة وقرىء شذوذاً بالنصب، معطوفاً على مفعول ﴿ وَجَعَلَ ﴾.
قوله: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ ذكر المفسر في معنى ذلك ثلاثة أقوال، وهي من جملة أقوال كثيرة ذكرها المفسرون، فقيل الخفيف الذي لا ضيعة له، والثقيل الذي له الضيعة، وقيل الخفيف الشاب، والثقيل الشيخ، وقيل غير ذلك من الأحوال، أي انفروا على أي حال كنتم عليه، وهذا الحكم باق، إذا تعين الجهال بأن فجأ العدو، وأما في حال كونه فرض كفاءة، فليس حكم العموم باقياً، بل منسوخ إما بآية﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾[التوبة: ١٢٢] أو بآية﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ ﴾[التوبة: ٩١] إلخ. قوله: (نشاطاً) بكسر النون جمع نشيط، ككرام وكريم. قوله: (وهي منسوخة) أي على القولين الأخيرين، لا على الأول فهي محكمة. قوله: (أنه خير) مفعول ﴿ تَعْلَمُونَ ﴾.
قوله: (فلا تثاقلوا) جواب الشرط. قوله: (في المنافقين) أي كعبد الله بن أبي وأضرابه. قوله: (متاعاً من الدنيا) سمي عرضاً لسرعة زواله كالعرض. قوله: (المسافة) أي التي تقطع بالمشقة، فهي مشتقة من المشقة. قوله: ﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ هذا إخبار من الله بالغيب، فإن هذه الآية نزلت قبل رجوعه من تبوك. قوله: ﴿ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ هذه الجملة سدت مسد جواب القسم والشرط. قوله: ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ هذا مرتب على قوله: ﴿ وَسَيَحْلِفُونَ ﴾ المعنى يزدادون بها هلاكاً لأنهم هالكون بالكفر، ويزيدون هلاكاً باليمين الكاذبة، لما في الحديث:" اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع "قوله: (الجماعة) أي من المنافقين. قوله: (باجتهاد منه) هذا أحد قولين، والآخر أنه لا يجتهد، والحاصل أنه اختلف هل يجوز على النبي الاجتهاد في غير الأحكام التكليفية الصادرة من الله تعالى، أو لا يجوز؟ والصحيح الأول، ولكنه في اجتهاده دائماً مصيب، وعتاب الله له إنما هو على فعل أمر مباح له، فهو من باب حسنات الأبرار، سيئات المقربين، لا على وزر فعله، ، فاعتقاد ذلك كفر.
قوله: ﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ ﴾ أي عن هذا الأمر الذي فعلته. قوله: ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ اللام الأولى للتعليل، والثانية للتبليغ، وكلاهما متعلق بأذنت، فلم يلزم عليه تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد، والمعنى لأي شيء أذنت لهم في التخلف عن الجهاد. قوله: (وهلا تركتهم) قدره إشاره إلى أن قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ ﴾، غاية ذلك المحذوف. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا يليق منهم، وليس من عادتهم الاستئذان في الواجب عليهم، بل الخالص في الإيمان، يبادر إليه من غير توقف، فحيث وقع من هؤلاء الاستئذان، كان دليلاً على نفاقهم. قوله: (في التخلف) أي من غير عذر. قوله: ﴿ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ إنما أسند الريب للقلب، لأنه محله، كما أنه محل الإيمان والمعرفة. قوله: ﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ ﴾ إلخ، هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم على عدم خروج المنافقين معه، إذ لا فائدة فيه ولا مصلحة، وعتاب الله على الأذن لهم في التخلف، إنما هو لأجل إظهار حالهم وفضيحتهم، كأن الله يقول لنبيه: كان الأولى لك عدم الإذن لهم في التخلف ليظهر حالهم، فإن القرائن دالة على أنهم لا يريدون الخروج لعدم التأهب له. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ ﴾ استدراك على قوله: ﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ﴾ لأنه في معنى النفي، فهو استدارك على ما يتوهم ثبوته، وهو محبة الله منهم الخروج، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا، ولكن لم يريدوه لكراهة الله انبعاثهم، لما فيه من المفاسد، فلم يعدوا له عدة، وهذا أحسن ما يقال: قوله: (أي قدر الله تعالى ذلك) جواب عما يقال: حيث أمرهم الله بالقعود، كان قعودهم محموداً لا مذموماً، فأجاب بأنه ليس المراد بالقول حقيقته، بل المراد به الإرادة والتقدير. وأجيب أيضاً بأن القائل الشيخان وهو يأمر بالفحشاء والمنكر، وأجيب أيضاً: بأن القائل الله حقيقة والقول على حقيقته، وهو أمر تهديد على حد: اعملوا ما شئتم.
قوله: ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ هذا بيان للمفاسد التي تترتب على خروجهم. إن قلت: إن مقتضى العتاب المتقدم أن خروجهم فيه مصلحة، ومقتضى ما هنا أن خروجهم مفسدة، فكيف الجمع بينهما؟ أجيب بأن خروجهم مفسدة عظيمة، وعتاب الله لنبيه، إنما هو على عدم التأني، حتى يظهر نفاقهم وفضيحتهم، وليس في خروجهم مصلحة أصلاً، كما علمت. قوله: ﴿ مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ يصح أن يكون استثناء منقطعاً، والمعنى ما زادوكم قوة ولكن خبالاً أو متصلاً من عموم الأحوال، والمعنى ما زادوكم شيئاً أصلاً إلا خبالاً. قوله: ﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾ الإيضاع في الأصل سرعة سير البعير، ثم استعير الإيضاع لسرعة الإفساد، ففي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه سرعة الإفساد بسرعة سير الركائب، ثم اشتق منه أوضعوا بمعنى أسرعوا، وفي الخلال استعارة مكنية، حيث شبه الخلال بركائب تسرع في السير، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو أوضعوا بمعنى أسرعوا فإثباته تخييل. قوله: ﴿ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ ﴾ حال من فاعل أوضعوا، والتقدير طالبين لكم الفتنة. قوله: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ يحتمل أن يكون المراد جواسيس منهم يتسمعون لهم الأخبار منكم، ويحتمل أن يكون الضمير في فيكم، عائداً على المؤمنين، والمعنى أن في المؤمنين ضعفاء قلوب، يصغون إلى قول المنافقين بالتخذيل والإفساد، لظنهم صحة إيمانهم. قوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي قبل هذه الغزوة، كالواقع من المنافقين في أحد وفي الأحزاب. قوله: ﴿ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي استمروا على تقليب الأمور حتى إلخ. قوله: (وهو الجد بن قيس) وهو منافق عنيد، حتى أنه من قباحته امتنع من مبايعة رسول الله تحت الشجرة في بيعة الرضوان، واختفى تحت بطن ناقته. قوله: (في جلاد بني الأصفر) أي ضربهم بالسيوف، وفي نسخة جهاد، وهي ظاهرة، وبنو الأصفر هم ملوك الروم، أولاد الأصفر بن روم بن عيص بن إسحاق. قوله: (وقرىء سقط) أي بالإفراد مراعاة للفظ من، والضمير عائد على الجد بن قيس، وهي شاذة كما هي قاعدته.
قوله: ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ﴾ أي في بعض الغزوات. قوله: ﴿ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ﴾ أي في بعضها، وقابل الحسنة بالمصيبة، إشارة إلى أن الثواب مترتب على كل منهما، وإنما قابلها بالسيئة في آل عمران، لأنها خطاب للمؤمنين، وفيهم من يراها سيئة. قوله: ﴿ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ﴾ أي أدركنا ما أهمنا من الأمور، وهو موالاة الكفار، واعتزال المسلمين، وغير ذلك من أنواع النفاق. قوله: ﴿ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ وَيَتَوَلَّواْ ﴾.
قوله: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ ﴾ أي رداً لقولهم: ﴿ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلْحُسْنَيَيْنِ ﴾ صفة لموصوف محذوف، قدره المفسر بقوله: (العاقبتين). قوله: ﴿ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ﴾ لأي العاقبتين السيئتين. قوله: (بقارعة) أي صاعقة. قوله: ﴿ فَتَرَبَّصُوۤاْ ﴾ إلخ، أي فإنا منتظرون ما يسرنا وأنتم منتظرون ما يسوؤكم. قوله: ﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ إلخ، نزلت في الجد بن قيس، حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي في القعود، وأنا أعطيك مالي والمعنى قل لهم اتصافكم بصفات المؤمنين في الإنفاق والصلاة لا يفيدكم شيئاً. قوله: ﴿ طَوْعاً ﴾ أي من غير إلزام. وقوله: ﴿ أَوْ كَرْهاً ﴾ أي بإلزام. قوله: ﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ أي ولم تزالوا كذلك، فالمراد فاسقون فيما مضى وفي المستقبل. قوله: (والأمر هنا بمعنى الخبر) أي فالمعنى نفقتكم طوعاً أو كرهاً غير مقبولة. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾ استثناء من عموم الأشياء، كأنه قيل: ما منعهم قبول نفقتهم لشيء من الأشياء إلا لثلاثة أمور: كفرهم بالله ورسوله، وإيتائهم الصلاة في حال كسلهم، وإنفاقهم مع الكراهة. قوله: (لأنهم يعدونها مغرماً) أي لأنهم لا يرجون عليها ثواباً، ولا يخافون على تركها عقاباً. قوله: (فهي استدارج) أي ظاهرها نعمة، وباطنها نقمة. قوله: (بما يلقون في جمعها من المشقة) جواب عما يقال: إن المال والولد سرور في الدنيا، فأجاب بأن المراد بكونهما عذاباً، باعتبار ما يترتب عليهما من الشقة. إن قلت: إن هذا ليس مختصاً بالمنافق، بل المؤمن كذلك بهذا الاعتبار. أجيب: بأن المؤمن يرجو الآخرة والراحة فيها والتنعم بسبب المشقات، فكأنها ليست مشقة، والمنافق ليس كذلك، فهي حينئذ مشقة في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ أَنفُسُهُمْ ﴾ أي أرواحهم.
قوله: ﴿ يَفْرَقُونَ ﴾ الفرق بالتحريك الخوف. قوله: ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً ﴾ إلخ، أي لو قدروا على الهروب منكم، ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم، والمعنى أنهم وإن كانوا يحلفون لكم أنهم منكم، فهم كاذبون في ذلك، لأنهم لو وجدوا مكاناً يلجؤون إليه، من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أو مغارات، وهي الأماكن المنخفضة في الأرض أو في الجبل أو سراديب، أي أماكن ضيقة لفروا إليها. قوله: ﴿ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ في المصباح: جمع الفرس براكبه يجمح: استعصى حتى غلبه اهـ، ففيه إشارة إلى أنهم كالدابة الجموح التي لا تقبل الإنقياد بوجه من الوجوه. قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ ﴾ هذا بيان لحال بعض المنافقين، وقوله: ﴿ يَلْمِزُكَ ﴾ من باب ضرب واللمز الإشارة بعين ونحوها على سبيل التنقيص، فهو أخص من الغمز، إذ هو الإشارة بعين ونحوها مطلقاً، والمراد هنا الإعابة بالقول. قيل: نزلت في أبي الجواظ المنافق، بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء، ومعناه الضخم المتكبر الكثير الكلام، حيث قال: ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم على رعاء الغنم، ويزعم أنه يعدل. وقيل: نزلت في ذي الخويصرة التميمي، وقيل اسمه حرقوص بن زهير، وهو أصل الخوارج. قوله: ﴿ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ المراد بها قيل الزكاة، وقيل الغنائم، وقيل ما هو أعم، وهو الأولى بدليل ما يأتي للمفسر. قوله: ﴿ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا ﴾ أي ما يريدون. قوله: ﴿ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ إذا فجائية قامت مقام الفاء، والأصل فهم. قوله: ﴿ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ نسبة الإعطاء لله حقيقة، وللرسول مجازية، وفيه إشارة إلى أن ما فعله الرسول، إنما هو على طبق ما أمر الله به. قوله: ﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ ﴾ أي (كافينا). قوله: (أن يغنينا) أي في أنه يغنينا، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بفي متعلقة بيغنينا، ويؤخذ من الآية تعليم العباد التعفف، والاعتماد على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه، فإن الأرزاق بيده تعالى مكتفل بها، لا يقطعها عن عباده ولو خالفوه.
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ ﴾ رد على المنافقين الذين يزعمون أن رسول الله يأخذ الصدقات لنفسه ولأهل بيته، فبين في هذه الآية المستحقة لها الأصناف الثمانية، ورسول الله وأهل بيته محرمة عليهم، تشريفاً لهم وتطهيراً، والآية من قصر الموصوف على الصفة، أي الصدقات مقصورة على الإتصاف، بصرفها لهؤلاء الثمانية. قوله: (مصروفة) قدره ليتعلق به الجار والمجرور. قوله: (الذي لا يجدون ما يقع موقعاً من كفايتهم) صادق بأن لا يجدون شيئاً أصلاً، أو لا يجدون شيئاً لا يقع الموقع من كفايتهم. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ (الذين لا يجدون ما يكفيهم) صادق بأن لا يجدوا شيئاً أصلاً، أو يجدوا شيئاً لا يقع الموقع أو يقع، ولكن لا يكفيهم، فالفقير على هذا أسوأ حالاً من المسكين، وهذا مذهب الإمام الشافعي، وعند مالك بالعكس، فالمسكين من لا يملك شيئاً أصلاً، والفقير من عنده شيء لا يكفيه، والمراد بالكفاية عند مالك كفاية سنة، وعند الشافعي كفاية العمر الغالب، وهو ستون سنة. قوله: (من جاب إلخ) أي وهو الذي يجمع الزكوات من أربابها، والقاسم الذي يقسمها على المستحقين، والكاتب الذي يكتب ما أعطاه أرباب الأموال، والعاشر الذي يجمع أرباب الأموال ليأخذ منهم الجابي الزكاة. قوله: (ليسلموا) أي يرجى بإعطائهم إسلامهم. بقوله: (أو يثبت إسلامهم) أي فهم حديثو عهد بالإسلام، فنعطيهم ليتمكن الإسلام من قلوبهم. قوله: (أو يسلم نظراؤهم) أي فهم كبار قبيلة أسلموا، فيعطون ليسلم نظراؤهم من الكفار. قوله: (أو يذبوا عن المسلمين) أي يدفعوا الكفار ويردوهم عن المسلمين، والحال أنهم مسلمون. قوله: (والأول والأخير) أي الكافر ليسلم والذاب عن المسلمين. قوله: (لا يعطيان) هذا ضعيف عندهم، والمعتمد عندهم إعطاء الأول. قوله: (بخلاف الأخيرين) أي الثاني والثالث، وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك المؤلفة قلوبهم، إما كفار يعطون ليسلموا، أو مسلمون يعطون ليثبت إسلامهم. قوله: ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾ إنما أضيفت الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأول باللام، وإلى الأربعة الأخيرة بقي، إشارة إلى أن الأربعة الأول يملكونها ويتصرفون فيها كيف شاؤوا، بخلاف الأربعة الأخيرة فيقيد بما إذا صرفت مصارفها، فإذا لم يحصل نزعت منهم. قوله: (أي الكاتبين) أي ليستعينوا بها على فك رقابهم، وهذا التفسير على مذهب الإمام الشافعي، وعند مالك وأحمد: أن معناه يشترى بها رقيق كامل الرق، ويعتق ولاؤه للمسلمين، وعند أبي حنيفة: يشترى بها بعض رقبة، ويعان بها مكاتب، لأن قوله: ﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾ يقتضي التبعيض. قوله: (لغير معصية) أي بأن استدانوا المباح، ولو صرفوه في معصية، وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك: إذا صرفوه في معصية، لا يعطون منها إلا إذا تابوا. قوله: (أو تابوا) أي ظهرت توبتهم، لا بمجرد قولهم تبناً مثلاً. قوله: (أو لإصلاح ذات البين) أي كأن خيف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله، فتحملوا الدية تسكيناً للفتنة. قوله: (أي القائمين بالجهاد) إلخ، أي ويشتري منها آلته من سلام ودرع وفرس، ومذهب مالك أن طلبة العلم المنهكين فيه، لهم الأخذ من الزكاة ولو أغنياء، إذا انقطع حقهم من بيت المال، لأنهم مجاهدون. قوله: ﴿ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ الإضافة لأدنى ملابسة، أي الملازم للطريق. قوله: (المنقطع في سفره) أي إن كان سفره في غير معصية، وإلا فلا يعطى، ولو خيف عليه الموت ما لم يتب، ويعطى بشرط أن لا يجد مسلفاً، وهو مليء ببلده. قوله: (فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء) أخذ ذلك من الحصر وهو محل وفاق. قوله: (ولا يمنع صنف منهم) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك: لا يلزم تعميم الأصناف، فاللام في (للفقراء) إلخ، لبيان المصرف لا للاستحقاق. قوله: (فيقسمها الإمام عليهم على السواء) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك: لا يلزم ذلك، بل يندب إيثار المضطر. قوله: (لعسره) علة لعدم وجوب الاستغراق. قوله: (الإسلام) هذا في غير المؤلفة قلوبهم. قوله: (وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك: الذين تحرم عليهم الزكاة بنوا هاشم فقط، وهذا إن كان حقهم من بيت المال جارياً، وإلا فهم أولى من غيرهم، فإعطاؤهم أسهل من تعاطيهم خدمة الذمي والفاجر.
قوله: ﴿ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ ﴾ سبب نزولها: أن جماعة من المنافقين تكلموا في حقه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق، فقال بعضهم لبعض: كفوا عن ذلك الكلام لئلا يبلغه ذلك، فيقع لنا منه الضرر، فقال الجلاس، بضم الجيم وفتح اللام المخففة، ابن سويد: نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا فيما نقول، فإنما محمد أذن. قوله: (أي يسمع كل ما قيل) أي من غير أن يتأمل فيه، ويميزنا باطنه من ظاهره، فقصدوا بذلك وصفه صلى الله عليه وسلم بالغفلة، لأنه كان لا يقابلهم بسوء أبداً، وتحمل أذاهم ويصفح عنهم، فحملوه على عدم التنبه والغفلة، وإنما كان يفعل ذلك رفقاً بهم، وتغافلاً عن عيوبهم، وفي تسميته إذناً مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة في استماعه، حتى صار كأنه هة آلة السماع، كما يسمى الجاسوس عيناً. قوله: ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾ أي يسمع الخير، ولا يسمع الشر. قوله: ﴿ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ إلخ، هذا أيضاح لكونه أذن خير. قوله: (واللام زائدة) جواب عما يقال: لم زيدت اللام مع أن الإيمان يتعدى بالباء. فأجاب: بأنها زيدت للفرق بين إيمان التسليم وهو قوله: ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، أي يسلم لهم قولهم ويصدقهم فيما يقولونه، وبين إيمان التصديق المقابل للكفر وهو قوله: وَ ﴿ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾، أي يصدق بالله ويوحده. قوله: ﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي أظهروا الإيمان منكم، وهذه الرحمة بمعنى الرفق بهم، وعدم كشف أسرارهم، لا بمعنى التصديق لهم، فإن رحمته في الدنيا عامة للبر والفاجر، وفي الاخرة مختصة بالبر دون الفاجر، إذ هي تابعة لرحمة الله تعالى وإحسانه. قوله: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ ﴾ أي يحلف المنافقون للمؤمنين، أنه ما وقع منهم الإيذاء للنبي، وقصدهم بذلك إرضار للمؤمنين ليذبوا عنهم، إذا أراد رسول الله أن يفتك بهم، وسبب نزولها: أنه اجتمع ناس من المنافقين، منهم الجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، فوقعوا في رسول الله قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام يقال له عامر بن قيس، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامراً كذاب، وحلف عامر أنهم كذبوا، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عامر يدعو ويقول: اللهم صدق الصادق، وكذب الكاذب. قوله: (ما أتوه) أي ما فعلوه، وفي نسخة آذوه. قوله: ﴿ لِيُرْضُوكُمْ ﴾ علة لقوله: ﴿ يَحْلِفُونَ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ الجملة حالية من ضمير يحلفون، والمعنى يحلفون لكم لإرضائكم، والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء. قوله: ﴿ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، أي فليرضوا الله ورسوله. قوله: (وتوحيد الضمير) إلخ، أشار المفسر لثلاثة أجوبة عن سؤال وارد على الآية حاصله أن لفظ الجلالة مبتدأ.
﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ مبتدأ ثان معطوف عليه، وجملة ﴿ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ خبر، والضمير مفرد، وما قبله مثنى، فلم أفرد الضمير؟ فأجاب المفسر: بأنه أفرده، لأن الرضاءين واحد، لأن رضا رسول الله تابع لرضا الله ولازم له، فالكلام جملة واحدة، أو الجملة خبر عن رسوله، وحذف خبر لفظ الجلالة لدلالة ما بعده عليه، أو خبر عن لفظ الجلالة، وخبر رسوله محذوف، لدلالة ما قبله عليه، ففيه: إما الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، أو بالعكس. قوله: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ ﴾ الإستفهام للتوبيخ. قوله: ﴿ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ ﴾ من: شرطية مبتدأ، وقوله: ﴿ فَأَنَّ ﴾ إلخ خبر لمحذوف أي فحق أن له الخ، والجملة جواب الشرط، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر ﴿ مَن ﴾، ومجموع اسم الشرط وفعله وجزائه خبر أن الأولى، وجملة أن الأولى من اسمها وخبرها، سدت مسد مفعولي يعلم. قوله: (جزاء) تمييز. قوله: ﴿ خَالِداً فِيهَا ﴾ حال مقدرة.
قوله: ﴿ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي المؤمنين، وقوله: ﴿ تُنَبِّئُهُمْ ﴾ أي تخبر المؤمنين، وقوله: ﴿ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ أي المنافقين من الحقد والحسد للمؤمنين. قوله: ﴿ قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ ﴾ إلخ، نزلت هذه الآية في" اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا لرسول الله على العقبة، لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها، وتنكروا عليه في ليلة مظلمة، فأخبر جبريل رسول الله بما قد أضمروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم؛ وكان معه عمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله، وسراقة يسوقها، فقال لحذيفة: أضرب وجوه رواحلهم، فضربها حذيفة حتى نحاها عن الطريق، فلما نزل قال لحذيفة: هل عرفت من القوم أحداً؟ فقال: لم أعرف منهم أحداً يا رسول الله، فقال رسول الله: إنهم فلان وفلان، حتى عدهم كلهم، فقال حذيفة: هلا بعثت إليهم من يقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل بقتلهم، بل يكفينا الله بالديلة "، وهي خراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم. قوله: (وهم سائرون معك) أي فكانوا يقولون: هيهات هيهات، يريد هذا الرجل أن يفتح حصون الشام وقصورها، فأطلع الله نبيه على ما قالوه، فقال لهم: هل قلتم كذا وكذا؟ فقالوا: لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بنا السفر. قوله: ﴿ أَبِٱللَّهِ ﴾ أي بفرائضه وحقوقه. قوله: ﴿ وَآيَاتِهِ ﴾ أي كلماته القرآنية. قوله: ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ أي محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (عنه) أي الاستهزاء. قوله: (مبنياً للمفعول) إلخ، أي ونائب الفاعل عن طائفة، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (كمخشي بن حمير) وفي بعض النسخ كجحش بن حمير، أسلم وحسن إسلامه، كان يضحك ولا يخوض، وكان ينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود، وتخفق منها القلوب، اللهم اجل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.
قوله: ﴿ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ أي وكانوا ثلثمائة. قوله: ﴿ وَٱلْمُنَافِقَاتُ ﴾ أي وكن مائة وسبعين. قوله: (أي متشابهون في الدين) أي الذي هو النفاق فهم على أمر واحد مجتمعون عليه. قوله: ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ كناية عن عدم الإنفاق، لأن شأن المعطي بسط اليد، وشأن الممسك قبضها. قوله: (تركوا) ﴿ ٱللَّهَ ﴾ جواب عما يقال: إن النسيان لا يؤاخذ به الإنسان. فاجاب: بأن المراد به الترك. قوله: (تركهم) جواب عما يقال: إن النسيان مستحيل على الله تعالى. فأجاب بأن المراد به الترك. قوله: ﴿ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أي الكاملون في التمرد والفسق والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقريع. قوله: ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ ﴾ يستعمل وعد في الخير والشر، وإنما يفترقان في المصدر، فمصدر الأول وعد، والثاني وعيد. قوله: ﴿ وَٱلْكُفَّارَ ﴾ أي المتجاهرين بالكفر، فهو عطف مغاير. قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال مقدرة. قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ أي غير النار كالزمهرير، أو المراد عذاب في الدنيا. قوله: ﴿ كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ الجار والمجرور خبر لمحذوف، قدره المفسر بقوله أنتم، وهذا خطاب للمنافقين، ففيه التفات من الغيبة للخطاب، والمثلية في الأوصاف المتقدمة، وهي الأمر بالمنكر، والنهي عن المعرون، وقبض اليد، ونسيان حقوق الله الآتية بقوله: ﴿ فَٱسْتَمْتَعُواْ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ﴾ أي بحظوظهم الفانية، والتشاغل بها عما يرضي الله تعالى. قوله: (أي كخوضهم) مشى المفسر على أن الذي حرف مصدري، وهي طريقة ضعيفة لبعض النحاة، وعليه فيقدر في الكلام مفعول مطلق، ليكون مشبهاً بالمصدر المأخوذ من الذي، والتقدير وخضتم خوضاً كخوضهم، والصحيح أن الذي اسم موصول صفة لموصوف محذوف، والعائد محذوف تقديره كالخوض الذي خاضوه.
قوله: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ ﴾ أي المنافقين والاستفهام للتقرير. قوله: ﴿ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ إلخ، أي وقد أهلكوا بالطوفان، قوله: ﴿ وَعَادٍ ﴾ أهلكوا بالريح العقيم. ﴿ وَثَمُودَ ﴾ أهلكوا بالرجفة.
﴿ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ ﴾ أهلكوا بسلب النعمة عنهم وبالبعوض.
﴿ وَأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ ﴾ أهلكوا بالظلة. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ ﴾ أي المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها. قوله: ﴿ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ معطوف على مقدر قدره المفسر بقوله: (فكذبوهم فأهلكوا). قوله: (بأن يعذبهم بغير ذنب) تفسير للظلم المنفي أي الواقع أن الله لم يعذبهم بغير ذنب، بل لو فرض أنه عذبهم بغير ذنب لم يكن ظلماً، لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير من غير إذنه، ولا ملك لأحد معه سبحانه وتعالى، ولكن تفضل الله بأنه لا يعذب بغير ذنب، ولا يجوز عليه شرعاً أن يعذب في الآخرة عبداً بغير ذنب، وإن جاز عقلاً. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ إلخ، لما بين حال المنافقين والمنافقات عاجلاً وآجلاً، ذكر حال المؤمنين والمؤمنات عاجلاً وآجلاً. قوله: ﴿ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ أي في الدين، وعبر عنهم بذلك دون المنافقين، فعبر في شأنهم بمن، إشارة إلى أن نسبة المؤمنين في الدين كنسبة القرابة، وأما المنافقون فنسبتهم طبيعية نفسانية، فهم جنس واحد. قوله: ﴿ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ أي يحبونه لأنفسهم ولإخوانهم، والمعروف كل ما عرف في الشرع وهو كل خير. قوله: ﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَ ﴾ أي ينفرون منه ولا يرضون به، والمراد بالمنكر كل ما خالف الشرع. قوله: ﴿ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أي باللسان والجنان وسائر الأعضاء. قوله: ﴿ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي في الدنيا بالإيمان والمعرفة، وفي الآخرة بالخلود في الجنة ونعيمها، ورضا الله عنهم، وهذه الأوصاف مقابلة لأوصاف المنافقين المتقدمة. قوله: (عن إنجاز وعده) أي للمؤمنين والمؤمنات. قوله: (ووعيده) أي للمنافقين والمنافقات، فهو لف ونشر مشوش. قوله: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾ هذا تفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ ﴾.
قوله: ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ أي بساتين، لكل مؤمن ومؤمنة ليس فيها شركة لأحد. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ أي بأرضها. قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال من المؤمنين والمؤمنات. قوله: ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ أي تستطيبها النفوس وتألفها فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قوله: ﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ أي في بساتين إقامة، لا تحول ولا تزول، روي أنه" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: ﴿ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي عَدْنٍ ﴾ قال: قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين "، وفي رواية:" في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام "قوله: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ التنوين للتقليل، أي أقل رضوان يأتيهم من الله، أكبر من ذلك كله، فضلاً عن أكثره، ورد" أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً "قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الرضوان. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي الظفر بالمقصود الذي لا يضاهى. قوله: (بالسيف) المراد به جميع آلات الحرب. قوله: (باللسان والحجة) أي لا بالسيف لنطقهم بالشهادتين، فالمراد بجهادهم بذل الجهد في نصيحتهم وتخويفهم. قوله: (بالانتهار والمقت) المراد به القتل بالنسبة للكفار، والإهانة والزجر بالنسبة للمنافقين. قوله: ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ جملة مستأنفة بيان لعاقبة أمرهم.
قوله: ﴿ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ ﴾ هذا بيان لقبحهم وخيانة باطنهم. قوله: ﴿ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ ﴾ قيل هي كلمة الجلاس بن سويد حيث قال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير، وقيل: هي كلمة ابن أبي ابن سلول حيث قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز من الأذل. قوله: (أظهروا الكفر) إلخ، دفع بذلك ما يقال: إن ظاهر الآية يقتضي أنهم مسلمون ثم كفروا بعد ذلك مع أنهم لم يسلموا أصلاً. فاجاب: بأن المراد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام. قوله: (من الفتك) مثلث الفاء الأخذ على حين غفلة. قوله: (ليلة العقبة) أي التي بين تبوك والمدينة. قوله: (وهم بضعة عشر رجلاً) قيل اثنا عشر، وقيل أكثر من ذلك، لكن لم يبلغوا العشرين، وقد اجمع رأيهم على أن يفتكوا بالنبي في العقبة ليقع في الوادي فيموت، فأخبره الله بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة، نادى منادي رسول الله بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة، فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النبي العقبة، وكان ذلك في ليلة مظلمة، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، فلما ازدحموا على رسول الله، نفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم فولوا مدبرين، وأمر عمار بن ياسر، وقيل حذيفة، بضرب وجوه رواحلهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس، فقال له النبي: هل عرفت أحداً منهم؟ قال: لا، كانوا متلثمين والليلة مظلمة، قال: هم فلان وفلان حتى عدهم، قال: هل عرفت مرادهم؟ قال: لا، قال: إنهم مكروا وأردوا الفتك بي، وإن الله أخبرني بمكرهم، فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا، فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا، فنزلت الآية، ويؤخذ من ذلك أنهم سافروا مع رسول الله إلى تبوك، وتقدم أنهم تخلفوا، ويمكن الجمع بأن البعض سافر، والبعض تخلف. قوله: (فضرب عمار بن ياسر) وقيل حذيفة. قوله: ﴿ وَمَا نَقَمُوۤاْ ﴾ (أنكروا) أي ما كرهوا وما عابوا، وفي الآية تأكيد المدح بما يشبه الذم كأنه قيل: ليس له صفة تكره وتعاب، إلا إغناءهم من فضله بعد أن كانوا فقراء، وهذه ليست صفة ذم، فحينئذ ليس له صفة تذم أصلاً. قوله: (وليس مما ينقم) أو يعاب ويكره. قوله: ﴿ وَإِن يَتَوَلَّوْا ﴾ أي داموا عليه.
قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ أي المنافقين، وظاهر الآية أنه حين المعاهدة كان منافقاً، وليس كذلك، بل كان مسلماً صحيحاً، وكان يلزم المسجد والجماعة، حتى لقب بحمامة المسجد فجعله منها باعتبار ما آل إليه أمره، ففيه مجاز الأول. قوله: ﴿ لَئِنْ آتَانَا ﴾ تفسير لقوله: عاهدوا، واللام موطئة لقسم محذوف، وإن شرطية، و ﴿ آتَانَا ﴾ فعل الشرط، وجملة ﴿ لَنَصَّدَّقَنَّ ﴾ جواب القسم، وحذف جواب الشرط، لدلالته عليه ولتأخره، على حد قول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم   جواب ما أخرت فهو ملتزمقوله: (فيه إدغام التاء) إلخ، أي والأصل لنتصدقن، قلبت التاء صاداً، ثم أدغمت في الصاد. قوله: ﴿ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي في صرف المال، بأن نصل به الأرحام، وننفقه في وجوه البر والخير. قوله: (وهو ثعلبة بن حاطب) كان أولاً صحابياً جليلاً ملازماً للجمعة والجماعة والمسجد، ثم رآه النبي يسرع بالخروج إثر الصلاة، فقال له رسول الله: لم تفعل فعل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت، ولي ولأمرأتي ثوب، أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به، فادع الله أن يوسع في رزقي. وحاصل قصته" أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله يرزقني مالاً، فقال رسول الله: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه. ثم أتاه بعد ذلك فقال له مثل ذلك فقال له رسول الله: أما لك فيَّ أسوة حسنة، والذي نفسي بيده، لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت، ثم أتاه بعد ذلك فقال له: والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالاً، لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله: اللهم ارزق ثعلبة مالاً، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، وهي تنمو كما ينمو الدود، فكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمه سائر الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا له: يا رسول الله، اتخذ ثعلبة غنماً ما يسعها واد، فقال رسول الله: يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة "فلما نزلت آية الصدقة،" بعث رسول الله رجلاً من بني سليم، ورجلاً من بني جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذانها وقال لهما: مرا على ثعلبة بن حاطب، وعلى رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وقرآ عليه كتاب رسول الله، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ، فانطلقا، وسمع بهما السليمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما يها، فلما رأياه قالا: ما هذا عليك؟ قال: خذاه، فإن نفسي بذلك طيبة، فمرا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقرأه فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي فانطلقا، فلما رآهما رسول الله قال قبل أن يتكلما: يا ويح ثعلبة، ثم دعا للسليمي بخير، فأخبره بالذي صنع ثعلبة "، فنزلت الآية. قوله: (ويؤدي منه) الخ، الجملة حالية من فاعل سأل. قوله: (فدعا له) أي في المرة الثالثة. قوله: (فوسع عليه) أي بأن رزق غنماً، فصارت تنمو كالدود. قوله: ﴿ بَخِلُواْ بِهِ ﴾ أي حيث منع الزكاة لما جاءه السعاة لأخذها وقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية.
قوله: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً ﴾ أي فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم. قوله: ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ غاية لتمكن النفاق في قلوبهم، وحكمة الجمع في هذه الضمائر، مع أن سبب نزولها في شخص واحد، الإشارة إلى أن حكم هذه الآية باق لكل من اتصف بهذا الوصف، من أول الزمان لآخره، وليس مخصوصاً بثعلبة. قوله: ﴿ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ ﴾ الباء سببية وما مصدرية، والمعنى ذلك بسبب إخلافهم الله الوعد، ورد:" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان "قوله: (فجاء بعد ذلك) أي غير تائب في الباطن، وإنما ذلك خوفاً من أن يحكم بردته، فيقتل ويؤخذ ماله كله، ففعله ذلك لأجل حفظ دمه وماله، لا توبة من ذنبه، وإلا لقبله الله. قوله: (يحثو التراب) أي يهيله على رأسه، قوله: (ثم جاء إلى أبي بكر) أي في خلافته، وكذا في خلافة عمر وعثمان. قوله: (أي المنافقون) أي لا بقيد كونهم الذين عاهدوا الله، لأن آيتهم قد انقضت بقوله: ﴿ يَكْذِبُونَ ﴾.
قوله: (ما أسروه) أي أخفوه. قوله: (ما غاب عن العيان) أي بالنسبة للعباد، لا بالنسبة لله، فإن الكل عنده عيان، وليس شيء غائباً عن علمه سبحانه وتعالى. قوله: (جاء رجل) هو عبد الرحمن بن عوف، جاء بأربعة آلاف درهم، وقال كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربي أربعة، فاجعلها يا رسول الله في سبيل الله، وأمسكت لعيالي أربعة، فقال له النبي: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أممسكت، فبورك له حتى صولحت إحدى زوجاته الأربع بعد وفاته عن ربع الثمن بثمانين ألفاً، وأعتق من الرقاب ثلاثين ألفاً، وأوصى بخمسين ألف دينار، وأوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف. قوله: (وجاء رجل فتصدق بصاع) أي وهو أبو عقيل الأنصاري، جاء بصاع تمر وقال بتّ ليلتي أجر بالجرير، أي الحبل الذي يستقى به الماء، وكان أجيراً يسقي الزرع بالماء من البئر، قال: وكانت أجرتي صاعين من تمر، فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع، فأمره النبي أن ينثره على الصدقات. قوله: (فقالوا إن الله غني) الخ، أي وإنما أتى به تعريضاً بفقره ليعطى من الصدقات.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ﴾ مبتدأ خبره ﴿ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ ﴾ ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ وعطف على ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ﴾ الأول وقوله: ﴿ فَيَسْخَرُونَ ﴾ عطف على قوله: ﴿ يَلْمِزُونَ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلْمُطَّوِّعِينَ ﴾ أصله المتطوعين، أبدلت التاء طاء، ثم أدغمت في الطاء. قوله: ﴿ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾ الجهد الشيء اليسير الذي يعيش به المقل. قوله: ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ إلخ خبر جيء به في صورة الأمر، والمعنى استغفارك لهم وعدمه سواء. قوله: (قال: صلى الله عليه وسلم) دليل على التخيير. قوله: (قيل المراد بالسبعين) إلخ، هذا بناء على أن العدد لا مفهوم له. قوله: (غفر) جواب (لو) الثانية، وقوله: (لزدت) جواب (لو) الأولى. قوله: (وقيل المراد) إلخ، بناء على أن العدد له مفهوم. قوله: (لحديثه) أي البخاري. قوله: (حسم المغفرة) أي قطعها. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي عدم المغفرة لهم. قوله: ﴿ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾ الباء سببية، وأن مصدرية، والتقدير بسبب كفرهم. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ أي لا يوصلهم لما فيه رضاه. قوله: ﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾ جمع مخلف اسم مفعول، والفاعل الكسل، أي الذين خلفهم الكسل، وكانوا اثني عشر. قوله: (أي بعد) أشار بذلك إلى أن ﴿ خِلاَفَ ﴾ ظرف زمان أو مكان، ويصح أن يكون مصدراً بمعنى مخالفة، والمعنى على الأول: فرحوا بقعودهم في خلاف رسول الله، أي بعد سفره، أو بمكانه الذي سافر منه، وعلى الثاني: فرحوا بمخالفة رسول الله، حيث اتصفوا بالقعود، واتصف هو بالسفر. قوله: ﴿ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ﴿ وَكَرِهُوۤاْ ﴾، والمعنى كرهوا الجهاد، لأن الإنسان بطبعه ينفر من إتلاف النفس والمال، سيما من ينكر الآخرة. قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي قال بعضهم لبعض. قوله: ﴿ لاَ تَنفِرُواْ ﴾ أي إلى تبوك، لأنها كانت في شدة الحر والقحط. قوله: ﴿ أَشَدُّ حَرّاً ﴾ أي لأن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جهنم دائم لا يفتر عنهم، وهو فيه مبلسون، فمن آثر الشهوات على ما يرضي مولاه، كان مأواه جهنم، ومن آثر رضا ربه على شهوته، كان مأواه الجنة، ولذا ورد" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "قوله: (ما تخلفوا) جواب ﴿ لَّوْ ﴾.
قوله: ﴿ وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ﴾ أي على ما فاتهم من النعيم الدائم، ورد عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يا أيها الناس ابكوا، فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار، حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتفرغ العيون، فلو أن سفناً أجريت فيه لجرن "قوله: ﴿ جَزَآءً ﴾ إما مفعول لأجله، أو مصدر منصوب بفعل مقدر تقديره يجزون جزاء. قوله: (خبر عن حالهم) أي العاجل والآجل، وإنما جيء به على صورة الأمر، إشارة إلى أنه لا يتخلف، لأن الأمر المطاع ما لا يكاد يتخلف عنه المأمور. قوله: ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم جمعهم معه في مشاهد الخير بعد ذلك، ويؤخذ من ذلك، أن أهل الفسوق والعصيان، لا يرافقون ولا يشاورون. قوله: (ممن تخلف) بيان للضمير في منهم. قوله: (من المنافقين) بيان للطائفة. قوله: ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ أي وهو الخروج لغزوة تبوك قوله: (وغيرهم) أي كالمرضى. قوله: (على بن أبيّ) اسمه عبد الله، وأبي اسم أبيه، وسلول اسم أمه، وكان رئيس الخزرج، وكان له ولد مسلم صالح، قد دعا النبي ليصلي عليه، وسأله أن يكفنه في قميصه ففعل، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه، ويروى أنه أسلم ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مِّنْهُم ﴾ صفة لأحد، وكذا قوله: ﴿ مَّاتَ أَبَداً ﴾.
قوله: ﴿ وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ﴾ أي لا تتول دفنه. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾ علة لما قبله، ولما نزلت هذه الآية، ما صل على منافق، ولا قام على قبره بعدها. قوله: (كافرون) أي وإنما عبر عنهم بالفسق، إشارة إلى أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، بخلاف الفاسق، فأفعاله خبيثة لا ترضي أحداً، وليس له دين يقر عليه، فعبر عنهم بالفسق، بعد التعبير عنهم بالكفر، إشارة إلى أنهم جمعوا بين الوصفين: الكفر وخسة الطبع. قوله: ﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ ﴾ إلخ، الحكمة في تكرارها، المبالغة في التحذير من هذا الشيء الذي وقع الاهتمام به، وعبر في الآية الأولى بالفاء، وهنا بالواو، لأن ما سبق له تعلق بما قبله، فحسن العطف بخلاف ما هنا، فلا تعلق له بما قبله، وأتى بلا فيما تقدم، وأسقط من هنا اعتناء بنفي الأولاد هناك، وبيّن هنا أنهم سواء، وأتى باللام في ليعذبهم هناك، وبأن هنا، إشارة إلى أن اللام بمعنى أن، وليس للتعليل، وأتى فيما تقدم بالحياة، وهنا باسقاطها، إشارة إلى خسة حياة الدنيا، حيث لا تستحق أن تذكر، وقال هناك كارهون، وهنا كافرون، إشارة إلى أنهم يعلمون كفرهم قبل موتهم، ويشاهدون الأماكن التي أعدت لهم في نظيره، فمن حيث تلك المشاهدة تزهق أرواحهم، وهم كافرون كارهون، بخلاف المؤمن، فإنه يشهد مقعده في الجنة، ولا تخرج روحه إلا وهو كاره للدنيا، محب للآخرة. قوله: ﴿ وَهُمْ كَٰفِرُونَ ﴾ الجملة حالية. قوله: (أي طائفة من القرآن) أي سواء كانت تلك الطائفة سورة كاملة أو بعضها. قوله: (ذوو الغنى) أي السعة من المال، وقيل الرؤساء، وخصوا بالذكر لأنهم قادرون على السفر، وتركوه نفاقاً، إذ العاجز لا يحتاج لاستئذان.
قوله: ﴿ وَقَالُواْ ﴾ عطف على استأذنك. قوله: (أي النساء) ويصح أن يراد بهم الرجال الذين لا خير فيهم من قولهم رجل خالفة، أي لا خير فيه. قوله: ﴿ لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ ﴾ استدراك على ما قد يتوهم أن كسل هؤلاء جر غيرهم. قوله: ﴿ ٱلْخَيْرَاتُ ﴾ (في الدنيا والآخرة) أي بالنصر والغنيمة، والجنة والكرامة. قوله: ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ أي هيأ وأحضر، ويؤخذ من ذلك أن الجنة موجودة الآن. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي الجنة المستفادة من قوله: ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾.
قوله: ﴿ وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ ﴾ أي الطالبون قبول العذر وهذا شروع في ذكر أحوال منافقي الأعراب بعد بيان أحوال منافقي المدينة. قوله: (بإدغام التاء في الأصل) أي وأصله المعتذرون، أبدلت التاء ذالاً، وأدغمت في الذال، وقيل إنه لا أصل له، بل هو جمع معذر بالتشديد بمعنى متكلف العذر كذباً، وليس بمعذور. قوله: ﴿ مِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ أي سكان البوادي الناطقون بالعربية، والعربي من نطق بالعربية مطلقاً، سكن البوادي أم لا، فهو أعم من الأعراب. قوله: ﴿ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أي فهم فريقان: فريق جاء واعتذر لرسول الله كذباً وهم أسد وغطفان، اعتذروا بالجهد وكثرة العيال، وفريق لم يأت أصلاً، وكذبوا بالتخفيف باتفاق السبعة، وقرىء شذوذاً بالتشديد. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي استمروا عليه وأتى بمن إشارة إلى أن بعضهم أسلم، وهو كذلك. قوله: ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الدنيا بالقتل والأسر، والآخرة بالخلود في النار.
قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ ﴾ هذا تخصيص لقوله فيما تقدم﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾[التوبة: ٤١] والضعفاء جمع ضعيف، وهو ضعيف البنية النحيف. قوله: (كالشيوخ) أي النساء والصبيان. قوله: (والزمنى) من الزمانة، وهي العجز والابتلاء. قوله: ﴿ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ ﴾ أي لفقرهم وعجزهم، كجهينة ومزينة وبني عذرة. قوله: ﴿ حَرَجٌ ﴾ اسم ﴿ لَّيْسَ ﴾ حذف من الأولين لدلالة الثالث عليه. قوله: ﴿ إِذَا نَصَحُواْ ﴾ شرط في قوله: ﴿ حَرَجٌ ﴾ والمعنى ليس على هؤلاء حرج، وقت نصحهم لله ورسوله. قوله: (بعدم الإرجاف) أي إثارة الفتن. قوله: (والتثبيط) أي تكسيل من أراد الخروج. قوله: (والطاعة) معطوف على عدم الإرجاف، والمعنى أن نصحهم كائن بالطاعة لله ورسوله، بأن يخلصوا الإيمان، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين، ويقوموا بمصالح بيوتهم، وبعدم إثارة الفتن، وبعدم تكسيل غيرهم، بل لينشطوا ويرغبوا في الجهاد، وينهوا من أراد التخلف. قوله: ﴿ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ إنما أظهر في مقام الإضمار إشارة إلى انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين، و ﴿ مِن ﴾ زائدة للتأكيد، والجار والمجرور خبر مقدم، و ﴿ مِن سَبِيلٍ ﴾ مبتدأ مؤخر، ويصح أن يكون فاعلاً بالجار والمجرور، لاعتماده على النفي. قوله: ﴿ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ ﴾ أي ليس عليهم سبيل. قوله: ﴿ إِذَا مَآ أَتَوْكَ ﴾ ما إذا وقعت بعد إذا تكون صلة. قوله: (إلى الغزو) أي وهي غزوة تبوك. قوله: (وهم سبعة من الأنصار) أي ويقال لهم البكاؤون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه، وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين. قوله: (وقيل بنو مقرن) أي كانوا ثلاثة إخوة، معقل وسويد والنعمان، وقيل: هم أصحاب أبي موسى الأشعري، وقد كان حلف أن لا يحملهم، ثم أتى له صلى الله عليه وسلم بإبل من السبي، فأرسلها لهم ليحملوا عليها، فقالوا: لا نركب حتى نسأل رسول الله، فإنه قد حلف أن لا يحملنا، فلعله نسي اليمين، فجاؤوه فقال ما معناه: لا أرى خيراً مما حلفت عليه إلا فعلته، ومثل هذه اليمين لا تكفر عند مالك، لوجود بساط اليمين حين الحلف، فكان يمينه مقيدة بعدم وجود ما يحملهم عليه، وتكفر عند الشافعي. قوله: ﴿ قُلْتَ لاَ أَجِدُ ﴾ أي ليس عندي ما تحملون عليه، وفي هذا التعبير مزيد لطف بهم. قوله: (حال) أي من الكاف في أتوك، ويصح أن تكون هي الجواب، وجملة قوله: ﴿ تَوَلَّوْا ﴾ مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، وتقديره فماذا حصل لهم. قوله: ﴿ وَّأَعْيُنُهُمْ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ تَوَلَّوْا ﴾.
قوله: (للبيان) أي لجنس الفائض. قوله: ﴿ أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ أشار المفسر إلى أنه مفعول لأجله، والعامل فيه ﴿ حَزَناً ﴾ الواقع مفعولاً له أو حالاً.
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ ﴾ أي طريق العقاب. قوله: ﴿ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ يَسْتَأْذِنُونَكَ ﴾.
قوله: ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ ﴾ إما مستأنف، أو حال مقدرة. قوله: (تقدم مثله) أي فأذكره هنا للتأكيد، وعبر هنا بالعلم، وهناك الفقه، إشارة إلى أن معناهما واحد، إذ الفقه هو العلم، والعمل هو الفقه. قوله: ﴿ يَعْتَذِرُونَ ﴾ أي المتخلفون بالباطل والأكاذيب، استئناف لبيان اعتذارهم عند العود إليهم، روي أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلاً، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون إليه وإلى أصحابه بالباطل. قوله: ﴿ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ ﴾ أي جواباً لهم. قوله: ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ ﴾ تعليل للنهي، وقوله: ﴿ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ ﴾ علة للعلة. قوله: ﴿ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ أي السيىء، ومفعول يرى الثاني محذوف تقديره مستمراً، والمعنى سيظهر تعلق علمه بأعمالكم لعباده. قوله: (أي الله) أشار بذلك إلى أنه إظهار في موضع الإضمار، زيادة في التشديد عليهم. قوله: ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي بعملكم أو بالذي كنتم تعملونه. قوله: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ ﴾ تأكيد لعذرهم بالكذب. قوله: (إنهم معذورون في التخلف) هذا هو المحلوف عليه. قوله: ﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ أي غير راضين بفعلهم. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ علة لقوله: ﴿ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ ﴾ شرط، حذف جوابه لدلالة قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ ﴾ الخ، أشار المفسر بقوله: (ولا ينفع رضاكم) إلخ. قوله: (أي عنهم) أشار بذلك إلى أن المقام للإضمار، زيادة في التشنيع والتقبيح عليهم بحيث وصفهم بالخروج عن الطاعة. قوله: ﴿ ٱلأَعْرَابُ ﴾ أي جنسهم، وهو اسم جمع، لا جمع عرب، لئلا يلزم عليه كون الجمع أخص من مفرده، فإن الأعراب سكان البوادي، والعرب المتكلمون باللغة العربية سكنوا البوادي أم لا. قوله: (لجفائهم) علة لقوله: ﴿ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾.
قوله: (من الأحكام والشرائع) بيان للحدود.
قوله: (لأنه لا يرجو ثوابه) أي لعدم إيمانه بالآخرة، وهو تعليل للاتخاذ المذكور قوله: ﴿ وَيَتَرَبَّصُ ﴾ عطف على ﴿ يَتَّخِذُ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلدَّوَائِرَ ﴾ جمع دائرة، وهي ما يحيط بالإنسان من المصائب. قوله: (فيتخلصوا) أي من الإنفاق. قوله: (بالضم والفتح) أي فهما قراءتان سبعيتان، وهذا دعاء عليهم بنظير ما أرادوه للمسلمين. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ إلخ، اعلم أن الأعراب أقسام منهم المنافقون وقد تقدم ذكرهم في قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ﴾ (ومنهم مؤمنون) وقد ذكروا هنا. قوله: (كجهينة ومزينة) أي وكغفار وأسلم قبائل عظام. قوله: ﴿ وَيَتَّخِذُ ﴾ فعل مضارع ينصب مفعولين: الأول الاسم الموصول، والثاني ﴿ قُرُبَاتٍ ﴾ على حذف مضاف، أي سبب قربات، وقوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صفة لقربات، وقوله: ﴿ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ معطوف على ﴿ قُرُبَاتٍ ﴾ أي وسبب صلوات الرسول. قوله: ﴿ قُرُبَاتٍ ﴾ بضم الراء باتفاق السعبة، جمع قربة، بضم الراء وسكونها، فعلى الضم الأمر ظاهر، وعلى السكون فضم راء الجمع للإتباع لضم قافه، أو جمعاً لمضموم الراء، وقد قرىء بهما في السبع، ومعنى كونها قربات، أنها تقرب العبد لرضا الله عليه، وليس معناه أن الله في مكان، وتلك النفقة تقربه من ذلك المكان، فإنه مستحيل، تعالى الله عنه. قوله: ﴿ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ أي دعواته لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة، فتجب ملاحظته في كل عمل لله، لأن الله تعبدنا بالتوسل به، قال تعالى:﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ٣١] فمن زعم أنه يصل إلى رضا الله بدون اتخاذه صلى الله عليه وسلم واسطة ووسيلة بينه وبين الله تعالى، ضل سعيه وخاب رأيه، قال العارف ابن مشيش: ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب - كما قيل - الموسوط، وقال بعضهم: وأنت باب الله أي أمرىء   أتاه من غيرك لا يدخلفهو من باب الله الأعظم وسره الأفخم، والوصول إليه وصول إلى الله، لأن الحضرتين واحدة، ومن فرق لم يذق للمعرفة طعماً، قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّهَا ﴾ ألا: أداة استفتاح يؤتى بها لأجل الاعتناء بما بعدها. قوله: ﴿ قُرْبَةٌ ﴾ أي تقربهم لرضا ربهم، حيث أنفقوها مخلصين فيها، متوسلين بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (جنته) أشار بذلك إلى أن المراد بالرحمة الجنة، من إطلاق الحال وإرادة المحل، لأن الجنة محل للرحمة.
قوله: ﴿ وَٱلسَّابِقُونَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ ٱلأَوَّلُونَ ﴾ صفته، وقوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ ﴾ حال ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم ﴾ معطوف على ﴿ وَٱلسَّابِقُونَ ﴾ والخبر قوله: ﴿ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ وَٱلأَنْصَارِ ﴾ أي وهم الأوس والخزرج. قوله: (وهم من شهد بدراً) أي لأنهم أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين، وعليه تكون (من) للتبعيض. قوله: (أو جميع الصحابة) أي فتكون _من) بيانية، وقيل المراد بهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا ألفاً وخمسمائة، وقيل المراد بهم أهل أحد، وقيل كل من دخل الإسلام قبل الفتح لقوله تعالى:﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾[الحديد: ١٠].
قوله: (إلى يوم القيامة) أي فيشمل صلحاء كل زمان. قوله: ﴿ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ أي قبل أعمالهم، وأثابهم عليها وأعطاهم ما لم يعط أحداً، من خلقه. قوله: ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ أي قبلوا ما أعطاهم الله لما في الحديث:" ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك " فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط بعده أبداً "قوله: (وفي قراءة بزيادة من) أي وهي سبعية لابن كثير، ومعلوم أنه يقرأ بالصلة، فمن قرأ بقراءته وصل اتبعوهم وعنهم ولهم بأن يشبع ضمة الميم في الجميع. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي ما تقدم من الرضا والجنان. قوله: ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ أي الظفر بالمقصود الذي لا يضاهى. قوله: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ مُنَٰفِقُونَ ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾ بيان لمن ﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ خبر مقدم، والمبتدأ محذوف تقديره (ومنافقون أيضاً) وجملة ﴿ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ ﴾ صفة لذلك المحذوف، فيكون من عطف الجمل، أو خبر بعد خبر، توسط بينهما المبتدأ، ويكون من عطف المفردات. قوله: (كأسلم) إلخ، أي بعض هذه القبائل، فلا ينافي ما تقدم من مدحهم في قوله:﴿ وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن ﴾[التوبة: ٩٩]﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ ﴾[التوبة: ٩٩].
قوله: ﴿ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ ﴾ أي تمرنوا عليه، ولم يتوبوا منه. قوله: ﴿ لاَ تَعْلَمُهُمْ ﴾ إن قلت: كيف نفى علمه بحال المنافقين هنا، وثبته في قوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) فالجواب: أن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات. قوله: (بالفضيحة أو القتل) أشار بذلك إلى أنه اختلف في المرة الأولى، ولكن القول الأول هو الصحيح، لأن أحكام الإسلام في الظاهر جارية على المنافقين، فلم يقتلوا، ولو يؤسروا، والفضيحة بإخراجهم من المسجد، لما في الحديث" عن ابن مسعود، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن منكم منافقين، فمن سميته فليقم، ثم قال: قم يا فلان فإنك منافق، حتى سمى ستة وثلاثين "قوله: (وعذاب القبر) هذه هي المرة الثانية، وستأتي الثالثة في قوله: ﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ فقد صار عذاب المنافقين ثلاث مرات.
قوله: ﴿ وَآخَرُونَ ﴾ حاصله أن من تخلف عن تبوك ثلاثة أقسام: قسم منافقون استمروا على النفاق، وقد تقدم ذكرهم في قوله:﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾[التوبة: ١٠١] إلى قوله:﴿ عَظِيمٍ ﴾[التوبة: ١٠١]، وقسم تائبون، اعترفوا بذنوبهم، وبادروا بالعذر لرسول الله، وقد ذكرهم في قوله: ﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ ﴾ إلى قوله:﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[التوبة: ١٠٥]، وقسم لم يبادروا بالعذر، وقد ذكرهم الله بقوله:﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ﴾[التوبة: ١٠٦] إلى قوله:﴿ حَكِيمٌ ﴾[التوبة: ١٠٦].
قوله: ﴿ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي أقروا بذنوبهم لربهم وتابوا منها، وليس المراد اعترفوا للناس وهتكوا أنفسهم، فإن ذلك أمر لا يجوز. قوله: (وهو جهادهم قبل ذلك) أي قبل هذا التخلف. قوله: ﴿ وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ الواو بمعنى الباء، والمعنى أنهم جمعوا بين العمل الصالح، والعمل السيىء. قوله: (وهو تخلفهم) أي من غير عذر واضح. قوله: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي يقبل توبتهم، والترجي في القرآن بمنزلة التحقيق، لأن ﴿ عَسَى ﴾ ونحوها تفيد الأطماع، ومن أطمع إنساناً في شيء، ثم حرمه منه، كان عاراً عليه، والله أكرم من أن يطمع أحداً في شيء، ثم لا يعطيه إياه، لأنه وعد، وهو لا يتخلف، وهذه الجملة مستأنفة، ويصح أن تكون خبراً، وجملة ﴿ خَلَطُواْ ﴾ حالية وقد مقدرة. قوله: (نزلت في أبي لبابة) وهو رفاعة بن عبد المنذر، كان من أهل الصفة، ربط نفسه ثنتي عشرة ليلة، في سلسلة ثقيلة، وكانت له ابنة تحله للصلاة وقضاء الحاجة، وتقدم في سورة الأنفال، أنه أوثق نفسه مرة أخرى بسبب قريظة حتى نزلت توبته. قوله: (وجماعة) قيل عشرة، وقيل ثمانية، وقيل خمسة، وقيل ثلاثة، وقد كانوا تخلفوا عن تبوك، ثم ندموا بعد ذلك، فلما قدم رسول الله من المدينة، حلفوا ليربطن أنفسهم بالسواري، ولا يطلقونها حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقها، ففعلوا، فلما رجع رسول الله رآهم، فقال من هؤلاء؟ فقال له: هؤلاء تخلفوا عنك، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تطلقهم أنت، وترضى عنهم، فقال: وأنا أقسم بالله، لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى أؤمر بإطلاقهم، فنزلت هذه الآية، فعذرهم وأطلقهم. قوله: (وما نزل في المتخلفين) أي من الوعيد الشديد، حيث قال الله فيهم﴿ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﴾[التوبة: ٨١] لآية. قوله: (فحملهم لما نزلت) أي آية ﴿ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾.
قوله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ (من) للتبعيض والجار والمجرور حال من ﴿ صَدَقَةً ﴾ ووجد المسوغ وهو وصفها بقوله: ﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ والمعنى خذ بعض الأموال التي خرجوا عنها لله ورسوله، وذلك أنه لما نزلت فيهم الآية، وحلهم رسول الله، أتوا وقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، خذها فتصدق بها وطهرنا واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فنزلت ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ الآية. قوله: ﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾ الأقرب أن التاء للخطاب، وحذف قوله: ﴿ بِهَا ﴾ من الأول، لدلالة الثاني عليه، والمعنى خذ يا محمد بعض أموالهم صدقة، حال كونك مطهراً لهم بها وتزكيهم بها، ومعنى تزكيهم تنميهم وتزيدهم بسبب أخذها خيراً. قوله: (فأخذ ثلث أموالهم) أي كفارة لذنوبهم، ويؤخذ من ذلك أن ما قال: مالي صدقة في سبيل الله أو للفقراء، يكفيه ثلثه وهو مذهب مالك، وعموم الآية يشمل الصدقة الواجبة والمندوبة. قوله: ﴿ إِنَّ صَلَٰوتَك ﴾ بالجمع والإفراد هنا، وفي هو في قوله: (أصلواتك تأمرك) قراءتان سبعيتان، والمعنى دعواتك رحمة لهم وطمأنينة، وهذا في حياة رسول الله، وأما بعد وفاته، فدعاء الخليفة يقوم مقام دعاء النبي، وأيضاً الأعمال تعرض عليه صباحاً ومساءً، فإن رأى خيراً حمد الله، وإن رأى غير ذلك، استغفر لنا، كما ورد في الحديث" حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم في الصباح وفي المساء، فإن وجدت خيراً، حمدت الله، وإن وجدت سوءاً، استغفرت لكم "فدعاء رسول الله حاصل في حياته وبعد موته، ولا عبرة بمن ضل وزاغ عن الحق وخالف في ذلك. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي بالأقوال والأفعال. قوله: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ ﴾ أي التائبون. قوله: ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ ﴾ ﴿ هُوَ ﴾ مبتدأ وجملة ﴿ يَقْبَلُ ﴾ خبره، والجملة خبر إن وجملة إن واسمها وخبرها، سدت مسد مفعولي يعلم أو مفعولها. قوله: ﴿ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ متعلق بيقبل و ﴿ عَنْ ﴾ بمعنى من، ويجوز أن تكون باقية على معناها للمجاوزة، والمعنى يتجاوز عباده بقبول توبتهم. قوله: ﴿ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ أي يثيب صاحبها وعبر عن القبول بالأخذ، ترغيباً لهم في بذل الأموال. قوله: (والاستفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بالحكم. قوله: (تهييجهم) أي حثهم وترغيبهم. قوله: (لهم أو الناس) تفسيران في الآية. قوله: ﴿ ٱعْمَلُواْ ﴾ (ما شئتم) في ذلك وعد عظيم للطائعين، ووعيد للعاصين، والمعنى اعملوا أيها التائبون، أو أيها الناس عموماً ما شئتم من خير، فيجازيكم عليه بالثواب أو شر، فيجازيكم عليه بالعقاب، أو يعفو الله عنكم. قوله: ﴿ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ أي يحصيه ويجازيكم عليه، فالاستقبال بالنظر للجزاء. قوله: ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ أي لأن الأعمال تعرض عليه. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي فيكون ذلك الجزاء، إما فرحاً وسروراً بين أهل الموقف، أو حزناً وسوءاً بينهم. قوله: ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي فيحاسبكم على جميع ما قدمتموه. قوله: (بالهمز) أي المضموم (وَتَرَكَهُ) أي مع سكون الواو، وقراءتان سبعيتان. قوله: (عن التوبة) أي عن قبولها، وإلا فقد وقعت منهم التوبة، غير أنهم لم يعتذروا للنبي صريحاً، وإنما ندموا وحزنوا وصمموا على التوبة سراً.
قوله: ﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ ﴾ إما للإبهام بالنسبة للمخاطبين. والمعنى أن الله أبهم على المخاطبين أمرهم. قوله: ﴿ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي يقبل توبتهم. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي لا يسأل عما يفعل، فلا يعترض على أحكامه سبحانه وتعالى. قوله: (وهم الثلاثة) أي وكانوا من أهل المدينة. قوله: (مرارة) بضم الميم. قوله: (إلى الدعة) أي الراحة والكسل. قوله: (ولم يعتذروا) أي لشدة ما نزل بهم من الحزن والأسف على ما فرطوا. قوله: (فوقف أمرهم خمسين ليلة) أي في نظير مدة التخلف، لأنها كانت خمسين ليلة، فلما تمتعوا بالراحة فيها، مع تعب غيرهم في السفر، عوقبوا بهجرهم تلك المدة.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ﴾ بالواو ودونها، قراءتان سبعيتان، والأحسن إعراب الاسم الموصول مبتدأ، وعلى كل خبره محذوف قدره المفسر بقوله: (منهم) والواو إما للعطف على الجمل المتقدمة، كقوله:﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾[التوبة: ٥٨]﴿ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ ﴾[التوبة: ٦١]﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ ﴾[التوبة: ٧٥] عطف قصة على قصة أو للاستئناف. قوله: ﴿ ضِرَاراً ﴾ إما مفعول لأجله، أو مفعول ثان لاتخذوا. قوله: (لأهل مسجد قباء) أشار بذلك إلى أن متعلق الضرار محذوف. قوله: (بأمر أبي عامر الراهب) أي وهو ولد حنظلة غسيل الملائكة. قوله: (معقلاً له) أي ملجأ. قوله: (وكان ذهب) إلخ، حاصل ذلك: أن أبا عامر قد ترهب في الجاهلية، وليس المسوح وتنصر، فلما" قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال أبو عامر: ما هذا الذين الذي جئت به؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر: فأنا عليها، قال له النبي: إنك لست عليها، قال أبو عامر: بلى، ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت، ولكن جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً غريباً وحيداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمين، وسماه أبا عامر الفاسق، فلما كان يوم أحد، قال أبو عامر الفاسق للنبي: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل كذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن يئس أبو عامر، فخرج هارباً إلى الشام، فأرسل إلى المنافقين، أن أعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجداً، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي لنا في وتدعو بالبركة، فقال رسول الله: إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا فيه، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك راجعاً، نزل بذي أوان، وهو موضع قريب من المدينة، فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزلت هذه الآية، وأخبره جبريل خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشياً، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه واحرقوه، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار، فدخل هلى أهله، فأخذ من سعف النخل فأوقده ثم خرجوا يشتدون، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فأحرقوه وهدموه وتفرق أهله، وأمر رسول الله أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام طريداً وحيداً غريباً ". قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ صفة لموصوف محذوف قدره المفسر بقوله: (الفعلة). قوله: ﴿ يَشْهَدُ ﴾ أي يعلم. قوله: (في ذلك) أي الحلف. قوله: (وكانوا سألوا النبي) إلخ، أي بعد فراغهم من بنائه، وكان متجهزاً لغزوة تبوك، فوعدهم بذلك حين يقدم. قوله: ﴿ لَّمَسْجِدٌ ﴾ اللام للابتداء، ومسجد مبتدأ و ﴿ أُسِّسَ ﴾ نعته وَ ﴿ أَحَقُّ ﴾ خبره. قوله: (يوم حللت بدار الهجرة) أي وهو يوم الاثنين، فأقام فيه الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج صبيحة الجمعة، فدخل المدينة وقيل صلى به الجمعة، وهي أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا على القول بأنه قام بقباء أربعة أيام، وقيل أقام أربعة عشر، وقيل اثنين وعشرين يوماً. قوله: ﴿ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه، أو باعتبار زعم المنافقين، أو باعتبار ذات المسجد، فإن الخبث في نيتهم لا في ذات المسجد. قوله: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ ﴾ هم بنو عامر بن عوف. قوله: ﴿ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ ﴾ يحتمل أن المراد الطهارة: المعنوية من الذنوب والقبائح، وذلك موجب للثناء والمدح والقرب من الله، وقيل المراد الطهارة الحسية من النجاسات والأحداث وهو الأقرب، لأن مزيتهم التي مدحوا عليها مبالغتهم في طهارة الظاهر وأما طهارة الباطن، فأمر مشترك بين المؤمنين، وقيل المراد ما هو أعم، فقد حازوا طهارة الظاهر والباطن. قوله: (وفيه إدغام التاء) إلخ، أي فأصله المتطهرين، أبدلت التاء طاء، وأدغمت الطاء. قوله: (في الطهور) بضم الطاء في هذا وفيما يأتي، لأن المراد به الفعل. قوله: (فغسلنا كما غسلوا) أي بعد المسح بالأحجار، بديل الرواية الثانية. قوله: (نتبع الحجارة بالماء) أي وهذا هو الأكمل في الاستنجاء، فإن لم يوجد حجر، فالمدر يقوم مقامه، وإلا فالماء فقط، أو الحجر فقط، أو المدر فقط، قوله: (فعليكموه) أي الزموه.
قوله: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ ﴾ إلخ، في الكلام استعارة مكنية، حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة، يعتمد عليه البنيان، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس، فإثباته تخييل، والتأسيس كناية عن أحكام أمور الدين والأعمال الصالحة. قوله: ﴿ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾ أي أحكم أمور دينه على ضلال وكفر ونفاق. قوله: (بضم الراء وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (جانب) الأحسن ما قاله غيره، أن المراد به البئر التي لم تطو. قوله: ﴿ هَارٍ ﴾ إما أصله هاور، أو هائر، فقدمت اللام على العين فصار كقاض، فإعرابه بحركات مقدرة، أو حذفت عينه تخفيفاً بعد قلبها ألفاً مثل باب، وإعرابه بحركات ظاهرة كالذين قبله. قوله: ﴿ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ وورد أنهم رأوا الدخان حين حفروا أساسه. قوله: (خبر) قدره إشارة إلى أن خبر من الثانية محذوف. قوله: ﴿ رِيبَةً ﴾ أي سبب ريبة، أو بولغ فيه حتى جعل نفس الريبة. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ مستثنى من محذوف، والتقدير لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم، في كل وقت أو كل حال، إلا وقت أو حال تقطيع قلوبهم، وفيها قراءتان سبعيتان: الأولى بفتح التاء وتشديد الطاء بحذف إحدى التاءين، وقلوبهم فاعل. الثانية بضم التاء، وقلوبهم نائب فاعل، وقرىء شذوذاً تقطع بالتخفيف، وقرىْ أيضاً إلا أن تقطع بضم التاء وكسر الطاء المشددة، وقلوبهم مفعول به، والفاعل ضمير يعود على النبي. قوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي يضع الأشياء في محلها، منه جريان عادة الله في كل حسود لأهل الدين والصلاح، أنه لا يزال الكمد به حتى يموت على أسوأ الأحوال.
قوله: ﴿ ٱلتَّائِبُونَ ﴾ إلخ، هذه أوصاف تسعة للمؤمنين. الستة الأولى متعلقة بحقوق الله وحده، والاثنان بعدها متعلقان بحقوق الخلق، والأخير عام. قوله: (بتقدير مبتدأ) أي وهم التائبون. قوله: (من الشرك والنفاق) متعلق بالتائبون، والتوبة شرطها الندم على ما وقع، والعزم على عدم العود والإقلاع ورد المظالم إلى أهلها. قوله: (المخلصون العبادة لله) أي المنهكون في طاعة الله سراً وجهراً. قوله: ﴿ ٱلْحَامِدُونَ ﴾ (له على كل حال) أي في السراء والضراء، قال عليه السلام" أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله على كل حال، في السراء والضراء "أي بأن يكون عن الله راضياً في جميع الأحوال، كالفقر والغنى والصحة والمرض، وغير ذلك. قوله: ﴿ ٱلسَّائِحُونَ ﴾ من السياحة، وهي في الأصل الذهاب في الأرض للعبادة، سمي الصائمون بذلك، لأن من شأن السائح ترك اللذات كلها، من المطعم والمشرب والملبس والمنكح، ولا شك أن الصائم كذلك، والصيام عند العامة ترك ما سوى الله تعالى، قال العارف الجيلي: صيامي هو الإمساك عن رؤية السوى   وفطري أني نحو وجهك راجعقوله: (أي المصلون) أشار بذلك إلى أنه أطلق الجزء وأراد الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر من دون أركانها، لأن بهما التقرب إلى الله تعالى، لما في الحديث:" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والركوع يلي السجود في التواضع والذل "قوله: ﴿ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ﴾ إنما عطف هذا بالواو على ما قبله، لوجود المضادة بينهما، لأن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك. قوله: ﴿ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ﴾ هذا أعم الأوصاف المتقدمة، ولذا عطف بالواو، وهذا معنى التقوى إذ هي امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، ولذا حكى السري السقطي، سأل ابن أخته الجنيد عن التقوى وهو صغير فقال له: أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، فقال له: أخاف أن يكون حظك من الله لسانك. قوله: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ إظهار في مقام الإضمار، اعتناء بهم، وتشريفاً لقدرهم، وحذف المبشر به، إشار إلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قوله: (لعمه أبي طالب) أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب حين حضرته الوفاة: يا عم، قل كلمة أحاج لك بها عند الله، فإني لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عن الاستغفار فنزلت، وقصد النبي بهذا الاستغفار، وتأليفه للإسلام لعلة يهتدي، وإلا فرسول الله يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به. قوله: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ﴾ أي لا ينبغي ولا يصح. قوله: (بأن ماتوا على الكفر) أي فلا يجوز لهم الاستغفار حينئذ، وأما الإستغفار للكافر الحي ففيه تفصيل، فإن كان قصده بذلك الاستغفار هدايته للإسلام جاز، وإن كان قصده أن تغفر ذنوبه مع بقائه على الكفر، فلا يجوز.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ إلخ. هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً واقعاً في جواب سؤال مقدر، تقديره إن شرعنا هو بعينه شرع إبراهيم وقد استغفر ابراهيم لأبيه. فأجاب الله عن ابراهيم بما ذكر. قوله: ﴿ لأَبِيهِ ﴾ تقدم الخلاف في كونه أباه أو عمه، وإنما سمي أباً، لأن عادة العرب تسمي العم أباً والقرآن نزل بلغة العرب. قوله: ﴿ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾ أي إن ابراهيم وعد أباه بالاستغفار، قيل تبين أنه لا ينفع فيه الاستغفار، لإصراره على الكفر. قوله: ﴿ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ﴾ أي أنه أنه مصر ومستمر على الكفر والعداوة، لأن الذي تبين بالموت، إنما هو إصراره على الكفر، وإلا فأصله كا حاصلاً ومتبيناً من قبل. قوله: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ﴾ هذا بيان للحامل له على الاستغفار قبل التبين. قوله: ﴿ لأَوَّاهٌ ﴾ من التأوه وهو التوجع والإكثار من قول آه، واختلف في معناه، فقيل هو الخاشع المتضرع، وقيل كثير الدعاء. وقيل المؤمن التواب، وقيل الرحيم بعباد الله، وقيل: الموقن، وقيل المسبح، وقيل المعلم للخير وقيل الراجع عما يكره الله، الخائف من النار. قوله: ﴿ حَلِيمٌ ﴾ معناه صفوح عن المسيء له، مقابل له بالعطف والرفق، وذلك كما فعل ابراهيم مع أبيه حين قال له:﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ﴾[مريم: ٤٦] إلخ. فأجابه إبراهيم بقوله:﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ ﴾[مريم: ٤٧] وكعدم دعائه على النمرود حيث ألقاه في النار. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ﴾ سبب نزولها، أن بعض الصحابة كانوا يستغفرون لآبائهم الكفار، وماتوا قبل نزول آية النهي، فظن بعض الصحابة أن الله يؤاخذهم، فبين الله أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب، إلا بعد أن يبين حكمه فيه. قوله: ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾ أي بعد وقت هدايتهم وتوفيقهم للإيمان. قوله: (ومنه) أي من الشيء. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي ففوضوا أمركم إليه، لأنه الموجد لكل شيء الذي منه العون والنصر.
قوله: ﴿ لَقَدْ تَابَ الله ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف. قوله: (أدام توبته) جواب عما يقال: إن النبي معصوم من الذنوب، والمهاجرون والأنصار لم يفعلوا ذنباً، بل سافروا معه واتبعوه من غير امتناع. وأجيب أيضاً: بأن معنى توبته على النبي، عدم مؤاخذته في إذنه للمتخلفين، حتى يظهر المؤمن من المنافق، ومعنى توبته على المهاجرين والأنصار، من أجل ما وقع في قلوبهم من الخواطر والوساوس في تلك الغزوة، فإنها كانت في شدة الحر والعسر، وقيل إن ذكر النبي تشريف لهم وإنما المقصود ذكر قبول توبتهم، لأنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذنب أصلاً حتى يحتاج للتوبة منه. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ أي وكانوا سبعين الفاً، ما بين راكب وماش، من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل. قوله: (أي وقتها) أشار بذلك إلى أن المراد بالساعة الزمانية لا الفلكية والعسر الشدة والضيق، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، وجيشها يسمى جيش العسرة، لأنه كان عليهم عسرة في المركب والزاد والماء، فكان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه. وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير، وكان تمرهم يسيراً جداً حتى إن أحدهم إذا جهده الجوع، يأخذ التمرة فيلوكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها لصاحبه، حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى إلا النواة، وكانوا من شدة الحر والعطش، يشربون الفرث، ويجعلون ما يبقى على كبدهم. قال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد وعدك خيراً، فادع الله، قال أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع رسول الله يديه، فلم يرجعا حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملؤوا مع معهم من الأوعية، ثم ذهبنا ننظرها، فلم نجدها جاوزت العسكر. قوله: ﴿ مَا كَادَ يَزِيغُ ﴾ هذا بيان لبلوغ الشدة حدها حتى إن بعضهم أشرف على الميل إلى التخلف، واسم ﴿ كَادَ ﴾ ضمير الشأن، وجملة ﴿ يَزِيغُ ﴾ في محل نصب خبرها. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ ذكر التوبة أولاً قبل الذنب، تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم، ثم ذكرها بعده تعظيماً لشأنهم، وتأكيداً لقبول توبتهم. قوله: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ هذا تأكيد لما تقدم والرؤوف الرفيق بعباده، اللطيف بهم، والرحيم: المحسن المتفضل.
قوله: ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ﴾ إشارة إلى معطوف على قوله:﴿ عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ ﴾[التوبة: ١١٧] ويصح عطفه على الضمير في قوله: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ وهو الأقرب لإعادة الجار. قال ابن مالك: وعود خافض لدى عطف على   ضمير خفض لازماً قد جعلاوإن كان يكمن أن يقال، إنما أعاده تأكيداً. قوله: ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ﴾ إنما لم يسمهم الله، لكونهم معلومين بين الصحابة، والتوبة هنا على حقيقتها، بمعنى أنه قبل عذرهم وسامحهم، وغفر لهم ما سلف منهم، وأما التوبة فيما تقدم، فمستعملة في مجازها بمعنى دوام العصمة للنبي. والحفظ للمهاجرين والأنصار، ففي القبول من الله، عدم إظهار توبتهم، كما فعل أبو لبابة، وقيل: المراد خلفوا عن الغزو، ولم يخرجوا مع رسول الله، وفي صحيح البخاري ما نصه: باب حديث كعب بن مالك وقول الله عز وجل ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب ابن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان يقود كعباً حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، وكان من خبري، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار والظلال، وهممت أن ارتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه براده ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك، فلما بلغني أنه توجه قافلاً، حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأهيئه لأعتذر به وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، أي قرب قدومه، انزاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت الصدق، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل رسول الله منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه، تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت مركوبك؟ فقلت: بل إني والله يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، أي فصاحة، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد، أي تغضب علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي عذر، ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت، وبادر رجال من بني سلمة قاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يلومونني لوماً عنيفاً، حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحداً؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع المعمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، فتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، وكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه فاسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، فإذا التفت نحوه، أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله، فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم، حتى يقضي الله في هذا الأمر، فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت بفتح الميم لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر، صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء فرج، وأن رسول الله، أي اعلم الناس بتوبة الله علينا حين صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيَّ مبشرون، وركب رجل إلي فرساً وركضها، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك من الثياب غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله، فتلقاني الناس وجاؤوا يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنك بفتح التاء توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك امك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، قال رسول الله: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وأنزل الله على رسول الله﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ ﴾[التوبة: ١١٧] إلى قوله: ﴿ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله اهـ. قوله: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ﴾ الخ أي لم يطمئنوا ولم يسكنوا إلى شيء منها، وَ ﴿ إِذَا ﴾ صلة أو ثم ليستقيم المعنى. قوله: (أي من رحبها) بضم الراء وأما بفتحها، فمعناه المكان المتسع. قوله: (فلا يسعها سرور) العبارة فيها قلب، أي فلا تسع سروراً. قوله: ﴿ أَن ﴾ (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن. قوله: ﴿ لاَّ مَلْجَأَ ﴾ إلخ.
﴿ لاَّ ﴾ نافية للجنس و ﴿ مَلْجَأَ ﴾ اسمها، و ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ خبرها، والجملة سدت مسد مفعولي ﴿ وَظَنُّوۤاْ ﴾.
قوله: ﴿ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ﴾ أي من سخطه إلا بالتضرع إليه. قوله: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي قبل توبتهم. قوله: ﴿ لِيَتُوبُوۤاْ ﴾ أي ليحصلوا التوبة وينشئوها. خطاب عام لكل مؤمن. قوله: ﴿ يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ﴿ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ ﴿ مَعَ ﴾ بمعنى من، بدليل القراءة الشاذة المروية عن ابن مسعود.
قوله: ﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ أي لا يصح ولا ينبغي ولا يجوز لهم التخلف عن رسول الله إلخ، والمعنى إذا خرج رسول الله بنفسه للغزو، فلا يجوز لأحد من المؤمنين التخلف، بل ينفرون كافة. قوله: ﴿ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ يجوز فيه النصب عطفاً على ﴿ يَتَخَلَّفُواْ ﴾ والجزم على أن لا ناهية. قوله: (بأن يصونوها) إلخ، هذا بيان لحاصل المعنى، وإيضاحه أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، وأن يتلقوا الشدائد معه صلى الله عليه وسلم، علماً بأنه أعز نفس وأكرمها عند الله، فإذا تعرضت مع عزتها وكرامتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتعرض مثلها. قوله: (وهو نهي بلفظ الخبر) أي ما ذكر من قوله ﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ﴾ إلخ، أي فكأنه قيل لا يتخلف واحد منهم. قوله: ﴿ ظَمَأٌ ﴾ أي ولو يسيراً، وكذا يقال فيما بعده. قوله: ﴿ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً ﴾ أي لا يدوسون بأرجلهم، وحوافر خيولهم، وأخفاف رواحلهم دوساً. قوله: ﴿ يَغِيظُ ﴾ بفتح الياء باتفاق السبعة، وإن كا يجوز في اللغة ضمها. قوله: ﴿ وَلاَ يَنَالُونَ ﴾ أي يصيبون. قوله: (قتلاً أو أسيراً أو نهباً) أمثلة للنيل بسبب جعله مصدراً، ويصح أن يكون بمعنى الشيء المنال، أي المأخوذ. قوله: ﴿ إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ ﴾ أي بكل واحد من الأمور الخمسة. قوله: (أي أجرهم) غرضه بهذا، أن المقام للإضمار والعدول عنه لأجل مدحهم، وليفيد العموم، وعدم الخصوصية للمخاطبين، بل هذا الفضل العظيم باق ومستمر إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ وَادِياً ﴾ المراد به هنا مطلق الأرض، وإن كان في الأصل، المكان المنفرج بين الجبال، قوله: (ذلك) أي ما ذكر من كل من النفقة وقطع الوادي. قوله: (أي جزاؤه) يصير بهذا إلى تقدير مضاف، أي جزاء أحسن ما كانوا إلخ. قوله: (ولما وبخوا على التخلف) إلخ، أي سبب نزولها: أنه لما وبخهم الله على التخلف، وظهرت فضيحة المنافقين، وتاب الله على من تاب، أجمع رأيهم وحلفوا أنهم لا يتخلفون عن رسول الله، ولا عن سرية بعثها، فلما رجعوا من تبول، وبعث السرايا، تهيأ المسلمون جميعاً إلى الغزو. قوله: (سرية) قيل هي اسم لما زاد على المائة إلى الخمسمائة، وما زاد عليها إلى ثمانمائة يقال له منسر، وما زاد عليها إلى أربعة آلاف يقال له جيش، وما زاد عليها يقال له جحفل، وجملة سراياه التي أرسلها رسول الله ولم يخرج معها سبعة وأربعون، وغزواته التي خرج فيها بنفسه، سبعة وعشرون، قاتل في ثمانية منها فقط.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا ينبغي، ولا يجوز لهم أن ينفروا جميعاً، بل يجب عليهم أن يتقسموا قسمين، طائفة تكون مع رسول الله لتلقي الوحي، وطائفة تخرج للجهاد. قوله: (فهلا) أشار بذلك إلى أن ﴿ فَلَوْلاَ ﴾ للتحضيض. قوله: (ومكث الباقون) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ ﴾ الخ، علة لمحذوف، ولا يصح أن يكون علة لقوله: ﴿ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ﴾ قوله: ﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ ﴾ فيه إشارة إلى أنه ينبغي لطالب العلم تحسين مقصده، بأن يقصد بطلبه العلم تعليم غيره، واتعاضه هو في نفسه، لا الكبر على العباد، والتشدق بالكلام. قوله: ﴿ إِذَا رَجَعُوۤاْ ﴾ أي من كان في الغزو، قوله: ﴿ إِلَيْهِمْ ﴾ أي إلى من مكث ليتفقه في الدين. قوله: (قال ابن عباس) إلخ، المقصود من ذلك، دفع التعارض بين هذه الآية وما قبلها. قوله: (مخصوصة بالسرايا) أي وهي التي أرسلها ولم يخرج معها. قوله: (فيما إذا خرج النبي) أي لأنه لا عذر، حينئذ لمن يتخلف، لأن صاحب الشريعة الذي يتعلمونها منه مصاحب لهم. قوله: ﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ ﴾ ليست هذه الآية ناسخة لآية:﴿ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ﴾[التوبة: ٣٦] على التحقيق، بل هذه الآية تعليم لآداب الحرب، وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب، حتي يصلوا إلى الأبعد، فبهذا يتمكنون من قتالهم كافة، لأن قتلهم دفعة واحدة لا يتصور، ولذا قاتل رسول الله أولاً قومه، ثم انتقل إلى سائر العرب، ثم إلى قتال أهل الكتاب، ثم إلى قتال أهل الروم والشام، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم انتقل أصحابه إلى قتال العراق، ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار. قوله: ﴿ يَلُونَكُمْ ﴾ من الولي وهو الأقرب، وفي فعله لغتان: وليه يليه وهو الأكثر، والثانية من باب وعد، والآية منها وهي قليلة الاستعمال، فأصله يوليون، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، ثم نقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها، فالتقى ساكنان، حذفت الياء لالتقائهما. قوله: (شدة) أي صبراً وتحملاً. قوله: (أي أغلظوا عليهم) أشار بذلك إلى أن في الآية استعمال السبب في المسبب، لأن وجدان الكفار الغلظة، مسبب عن إغلاظ المسلمين عليهم. قوله: ﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ ﴾ المعنى إذا نزلت سورة من القرآن، والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين وقت النزول، وليس فيها فضيحة، وأما ما يأتي فيحمل على ما إذا كانوا حاضرين ذلك، والحال أن فيها بيان أحوالهم، فلا تنافي بين المحلين كما يأتي. قوله: (لأصحابه) أي أو لضعفاء المؤمنين. قوله: (يفرحون بها) أي لأنه كلما نزل شيء من القرآن، ازدادوا إيماناً، وهذا الحكم باق إلى الآن، فمن يفرح بكلام الله وبحامليه، فهو من المؤمنين الصادقين، ومن ينفر من سماعه ومن حامليه، فهو إما كافر أو قريب من الكفر. قوله: (كفراً إلى كفرهم) أشار بذلك إلى أنه ضمن الزيادة معنى الضم، والمعنى زادتهم كفراً مضموماً إلى كفرهم، لأن كفرهم يزيد بزيادة جحدهم المنزل، وسمي الكفر رجساً، لكونه أقبح الأشياء، والرجس هو الشيء المستقذر. قوله: (بالياء) أي فالاستفهام حينئذ للتوبيخ، قوله: (والتاء) أي فالاستفهام للتعجب، لأن الخطاب حينئذ للصحابة.
قوله: ﴿ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ ﴾ أي لا يرجعون عما هم عليه. قوله: (فيها ذكرهم) أي بيان أحوالهم قوله: ﴿ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي يتغامزون بالعيون. قوله: (يريدون الهروب) أي خوفاً من الفضيحة التي تحصل لهم. قوله: (ويقولون) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ مقول لقول محذوف. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾ (على كفرهم) عبارته تفيد أن قوله: ﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾ ليس مرتباً على كونهم (لم يرهم أحد) وليس كذلك، فكان المناسب أن يقول: (قاموا) وهو بمعنى ﴿ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ ﴾.
قوله: ﴿ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾ إخبار أو دعاء. قوله: ﴿ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ (الحق) أي لا يفهمونه.
قوله: ﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أي وعزتي وجلالي ﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ خطاب للعرب، قال ابن عباس: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيها نسب.
﴿ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ بضم الفاء باتفاق السبعة، وقرىء ﴿ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ بفتح الفاء من النفاسة، والمعنى جاءكم رسول من أشرفكم وأرفعكم قدراً، لما في الحديث:" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار ". قوله: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ يصح أن يكون ﴿ عَزِيزٌ ﴾ صفة لرسول، و ﴿ مَا ﴾ مصدرية أو بمعنى الذي، والمعنى يعز عليه عنتكم أو الذي عنتموه، ويصح أن يكون ﴿ عَزِيزٌ ﴾ خبراً مقدماً، و ﴿ مَا عَنِتُّمْ ﴾ مبتدأ مؤخراً. قوله: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يحافظ على هداكم، لتكون لكم السعادة الكاملة. قوله: (أن تهتدوا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي (حريص على هدايتكم). قوله: ﴿ رَءُوفٌ ﴾ بالمد والقصر، قراءتان سبعيتان، والرؤوف أخص من الرحيم، قال الحسن بن المفضل: لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى، إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فسماه رؤوفاً رحيماً، وقال:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[البقرة: ١٤٣].
قوله: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي جميع الخلق، مؤمنهم ومنافقهم وكافرهم. قوله: ﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ هذا كالدليل لما قبله. قوله: (لابغيره) أخذ هذا الحصر من تقديم المعمول. قوله: (الكرسي) مرور على القول باتحاد العرش مع الكرسي وهو خلاف الصحيح، والصحيح أن العرش غير الكرسي فالعرش جسم عظيم، محيط بجميع المخلوقات، والكرسي أقل منه. قوله: ﴿ ٱلْعَظِيمِ ﴾ بالجر باتفاق السبعة، صفة للعرش، وقرىء شذوذاً بالرفع، صفة للرب. وقوله: (خصه بالذكر) جواب عما يقال: إن الله رب كل شيء، فلم خص العرش بالذكر. قوله: (آخر آية) مراده الجنس، وإلا فهما آيتان، وهذا القول ضعيف لما تقدم أن آخر آية نزلت﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٨١] وعلى ما قاله المفسر يكونان مدنيتين، وهو أحد قولين، حكاهما المفسر أول السورة، وهاتان الآيتان بهما الأمان من كل مكروه، وقد ورد: من قراهما، ويكرر الآية الثانية سبعاً صباحاً، وسبعاً مساءً، أمن من كل مكروه حتى الموت، فمن أراد الله موته أنسان قراءتها.
Icon