تفسير سورة التوبة

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة براءة والتوبة ولها أسماء أخر مدنية قيل إلا الآيتين لقد جاءكم رسول وآيها مائة وثلاثون قيل تسع وعشرون ولها ستة عشر ركوعا.
﴿ براءة١ من الله ورسوله ﴾، أي : هذه براءة واصلة٢ من الله ورسوله ﴿ إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ أي : الله ورسوله برءا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإن كان صادرا من رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله تعالى، يعني وجب نبذه ولا عهد بعد ذلك.
١ في البخاري عن البراء: إن براءة آخر سورة نزلت حين رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة تبوك وقصد الحج فكره مخالطة الكفار سيما وهم يطوفون بالبيت عراة/١٢ منه..
٢ إشارة إلى أن "من الله" صفة البراءة لا أنه من صلة براءة /١٢ منه..
﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ : أيها المشركون، ﴿ أربعة أشهر ﴾، والأصح أنه من يوم النحر إلى عاشر ربيع الآخر، وعند بعضهم أنه إلى سلخ المحرم ؛ لأن الآية نزلت في شوال والأكثرون١ على أن من كان له عهد مؤقت ولم ينقض عهده فأجله إلى مدته مهما كان، ومن له عهد غير مؤقت أو دون أربعة أشهر أو أكثر لكن نقضه فيكمل له أربعة أشهر وقد صحت بهذا الروايات عن علي رضي الله عنه، وفي رواية٢ عن ابن عباس أن من له عهد مؤقت أو غير مؤقت فأجله أربعة أشهر ومن ليس له عهد فأجله انسلاخ الأشهر المحرم خمسون ليلة ثم السيف حتى يدخلوا في الإسلام، ﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ : لا تفوتونه وإن أمهلكم، ﴿ وأن الله مخزي الكافرين ﴾ : مذلهم في الدنيا والآخرة.
١ هذا قول الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد من السلف واختاره ابن جرير وهو الرواية عن السدي وقتادة/١٢ منه..
٢ إشارة إلى أن بعض الروايات عن ابن عباس يوافق قول الأكثرين/١٢ منه..
﴿ وأذن ﴾ : أي إعلام، عطف على براءة ﴿ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾ : يوم أفضل أيام المناسك وأكبرها جميعا١ وهو يوم العيد أو يوم عرفة أو أيام الحج كلها، وعن الحسن البصري رحمه الله : عام، حج فيه أبو بكر٢ – رضي الله عنه – بالاستخلاف، وعن بعضهم : الذي حج النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ولم يجتمع قبله ولا بعده وقال بعضهم الحج الأصغر العمرة، ﴿ أن الله ﴾ أي : بأنه ﴿ بريء من المشركين ﴾ أي : من عهودهم، ﴿ ورسوله ﴾ عطف على المستكن في بريء، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي : ورسوله كذلك وعند ابن حاجب٣ جاز في مثله أن يكون عطفا على محل اسم " أن "، ﴿ فإن تبتم ﴾ : من الكفر والغدر، ﴿ فهو ﴾، أي : الرجوع، ﴿ خير لكم وإن توليتم ﴾ : من التوبة، ﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ : غير فائتين أخذه وعقابه، ﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾، في الآخرة.
١ وإذا كان يوم العيد فأكبريته باعتبار أن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج من الطواف والسعي والحلق والرمي والذبح، وإذا كان المراد يوم عرفة فلأنه يحصل في هذا اليوم أعظم واجباته، لأنه إذا فات فات الحج والحج عرفة/ ١٢ منه..
٢ عن ابن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا وحجا فقام علي في أيام التشريق فنادى: إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فكان علي ينادي فإذا أعيى قام أبو بكر ينادي بها. أخرجه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس [وهو صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٦٨)]، وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما/١٢ فتح..
٣ فإنه قال: أن المفتوحة قسمان قسم هو في حكم المكسورة نحو علمت أن زيدا قائم وعمرو، فإن "علم" لا يدخل إلا على المبتدأ والخبر فلابد أن نقول "أن" في حكم إن المكسورة فجاز فيها العطف على اسمها بالرفع، وقسم ليس في حكمها نحو: أعجبني أن زيدا قائم وعمرا، فلا يجوز إلا النصب في"عمرا"/١٢ منه..
﴿ إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴾، استثناء من المشركين في قوله " بريء من المشركين " فالمستثنى من جميع المشركين من كان أجل عهده فوق أربعة أشهر ولم ينقضوا١ العهد، فوجب إتمام عهدهم على الأصح، أما على ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات فمعناه : أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، أي : مدة قدرنا وهي أربعة أشهر لكن في الاستثناء يختل الفصل بأجنبي٢ أو تقديره : فقولوا لهم : سيحوا واعلموا أن الله بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم أتموا عهدهم وأمهلوهم بعد أربعة أشهر إلى انقضاء أجلهم، ﴿ ثم لم ينقصكم شيئا ﴾ : من شرط العهد، ﴿ ولم يظاهروا ﴾ : لم يعاونوا ﴿ عليكم أحدا ﴾ : من أعدائكم، ﴿ فأتموا لهم عهدهم إلى ﴾، تمام ﴿ مدتهم إن الله يحب المتقين ﴾، فإتمام العهد من التقوى.
١ وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر الله تعالى رسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد/١٢ معالم..
٢ وهو قوله: فإن تبتم خير لكم/الخ ١٢ منه..
﴿ فإذا انسلخ ﴾، انقضى، ﴿ الأشهر الحرم ﴾ : الأشهر التي حرمنا فيها قتلهم وأجلناهم فيها وهو أربعة أشهر لغير من كان معاهدته أكثر من أربعة أشهر ولم ينقض عهده وأكثر من أربعة أشهر لهم فإن بني ضمرة وبني كنانة بقي من مدة عهدهم تسعة أشهر وأوله يوم النحر أو يوم نزول الآية وقد نزلت في شوال كما ذكرنا، ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ : كافة ناكثا وغير ناكث، وعلى ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما فمعناه : إذا انقضى الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة والحجة ومحرم فاقتلوا المشركين الذين لا عهد لهم أصلا، فعلى هذا أول الصفر ابتدءا من جواز المقاتلة مع من ليس له عهد، ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ : من حل أو حرم، ﴿ وخذوهم ﴾ : ائسروهم، ﴿ واحصروهم ﴾، احبسوهم وضيقوا عليهم ﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ : كل ممر حتى لا يتوسعوا في البلاد، ﴿ فإن تابوا ﴾ : عن الشرك، ﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾ : فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ : يغفر زلاتهم وينعم عليهم.
﴿ وإن أحد من المشركين ﴾ : الذين أمرتك بقتلهم ورفع " أحد " بشريطة التفسير، ﴿ استجارك ﴾ : طلب منك الأمان، ﴿ فأجره ﴾ : أمنه، ﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾، تقرأه عليه وتقيم عليه حجة الله تعالى، ﴿ ثم أبلغه مأمنه ﴾، هو مستمر الأمان إلى أن يرجع بلاده، ﴿ ذلك ﴾ : الأمر بأمنه ﴿ بأنهم قوم لا يعلمون١ : جهلة فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا كلام الله لعلهم يعقلون فيطيعون.
١ أي: لا يعلمون دين الله وتوحيده، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة./١٢ معالم..
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾، استفهام إنكار، أي : يمكن ذلك وهم على الشرك والكفر وخبر يكون " عند١ الله " و " كيف " حال من العهد، ﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد٢ الحرام ﴾، يعني يوم الحديبية ومحله الجر والنصب على الاستثناء المتصل، لأنه في معنى ليس للمشركين عهد إلا الذين، أو منقطع أي : لكن تربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم، ﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾، أي : فإن استقاموا على الوفاء بالعهد فاستقيموا أنتم أيضا " فما " شرطية، ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾، والوفاء بالعهد من التقوى، هم أهل٣ مكة٤ نقضوا عهدهم وقاتلوا حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعند ذلك قاتلهم وفتح مكة وقال بعضهم : هم قبائل٥ من بني بكر قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم ينقضوا والناقض قريش وبعض قبائل بني بكر فإن بني ضمرة ممن استمر على عهده فما قاتلهم أحد حتى أسلموا بلا مقاتلة.
١ وجاز أن يكون خبر"يكون للمشركين" و"عند الله" ظرف للعهد/١٢ منه..
٢ هذه الآية تدل على صحة ما نقلنا عن الأكثرين ورجحناه بأنه ثابت عن علي رضي الله عنه فتدبر/١٢ منه..
٣ فإنهم عاهدوا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم إني ناشد محمدا" إلى آخر ما قال من الأشعار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا نصرت إن لم أنصركم وتجهز إلى مكة سنة ثمان حتى فتحها إلى تمام القصة/١٢ معالم. [رواه أبو يعلي عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح، كذا في المجمع (٦/ ١٦١)]..
٤ أي: الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام/١٢ منه..
٥ قال محيي السنة: هذا أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يقول لشيء قد مضى "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"، وإنما هم الذين قال الله عز وجل "إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا": يعني كما نقضكم قريش، "ولم يظاهروا عليكم أحدا" كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم-. انتهى ما قاله محيي السنة. قال المصنف في المنبهات بعد نقل هذا القول: وأنت إن تأملت في بعض الآيات لعرفت أن الظاهر أن نزولها قبل الفتح/١٢.
.

﴿ كيف ﴾، تكرار للاستبعاد، أي : كيف لهم عهد عندك ؟ ! ﴿ وإن يظهروا عليكم ﴾، والحال أنهم إن يظفروا بكم، ﴿ لا يرقبوا ﴾ : لا يراعوا، ﴿ فيكم إلا ﴾ : قرابة، أو حلفا قال بعضهم الإل هو الله عبراني، ﴿ ولا ذمة ﴾ : عهدا، ﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾، استئناف، أي : يظهرون خلاف ما يضمرون، ﴿ وتأبى قلوبهم ﴾ الوفاء بما قالوا ﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ : ناقضون للعهد.
﴿ اشتروا بآيات الله ﴾ : استبدلوا بالقرآن، ﴿ ثمنا قليلا ﴾ : متاع الدنيا قيل نقضوا العهد بأكلة أطعمهم أبو سفيان، ﴿ فصدوا عن سبيل الله ﴾ : أعرضوا عن دينه، أو منعوا الناس عن الدخول في دينه، ﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾، عملهم١ هذا.
١ قوله عملهم هذا هو مخصوص بالذم المحذوف/١٢ منه..
﴿ لا يرقبون ﴾ : لا يحافظون، ﴿ في مؤمن ﴾، فإنهم يحبون الكفر وأهله، ﴿ إلا ولا ذمة ﴾ : قرابة وعهدا، ﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ : المتجاوزون الغاية في الشرارة.
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم ﴾، أي : فهم إخوانكم١، ﴿ في الدين٢ ونفصل الآيات ﴾ : نكررها ونبينها، ﴿ لقوم يعلمون ﴾، وهم المؤمنون.
١ يعني "إخوانكم" خبر مبتدأ محذوف/١٢.
٢ قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له/١٢ معالم..
﴿ وإن نكثوا أيمانهم ﴾ : نقضوا مواثيقهم، ﴿ من بعد عهدهم وطعنوا في١ دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ : رؤساء مشركي قريش فإنهم ناقضون للعهد مستهزئون بدين الله، أي : قاتلوهم ؛ لأنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة في الكفر٢ قال بعضهم : هم أهل فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان : لم يأت أهلها بعد، ﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ : لا عهود لهم فإن عهدهم على الحقيقة ليس بعهد ومن قرأ لا إيمان بكسر الهمزة فمعناه لا إسلام أو لا أمان لهم، ﴿ لعلهم ينتهون٣، أي : قاتلوهم٤ لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد.
١ قد استدل بالآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة، لأن لله إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما: نقض العهد، والثاني: الطعن في الدين، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل؛ لأنه ينقض عهده بذلك، قالوا: وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل/١٢ فتح..
٢ إشارة إلى أنه وضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة والتقدم في الكفر بمعنى: قاتلوهم فإنهم أحقاء/١٢ منه..
٣ هذه الآيات كالصريح في أن نزول تلك الآيات قبل فتح مكة خلاف ما قال محي السنة كما كتبنا على الحاشية، اللهم إلا أن يقال: هذه الآيات من قوله: "وإن نكثوا أيمانهم" قبل الفتح والآيات التي تقدمت بعده/١٢ منه..
٤ ولما تقدم الحث على القتال أمر به "قاتلوهم" الآية/١٢ وجيز..
﴿ ألا تقاتلون ﴾، تحريض على القتال، ﴿ قوما نكثوا أيمانهم ﴾ : كفار مكة نقضوا عهد الحديبية ﴿ وهموا بإخراج الرسول١ : من مكة كما مر في قوله :" وإذ يمكر بك الذين كفروا " ﴿ وهم بدءوكم ﴾ : بالقتال، ﴿ أول مرة ﴾، يعني يوم بدر فإنهم خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت استمروا على وجههم طلبا للقتال بغيا وتكبرا، أو المراد أنهم بدءوا بالقتال مع حلفائكم خزاعة، ﴿ أتخشونهم ﴾ : أتتركون قتالهم خشية منهم ﴿ فالله أحق أن تخشوه ﴾ : فلا تتركون لدينه ضعفا وتسعون في إعلاء كلمته ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾، فإن الإيمان الكامل ينفي الخشية عن غير الله.
١ من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وهموا بأحد أمور ثلاثة قتله وحبسه وإخراجه، وإنما اقتصرنا على الهم بالإخراج؛ لأنه هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر وكانت دار الندوة مكان اجتماع القوم للتحدث وكان قد بناها قصي، وقد أدخلت الآن في المسجد فهي مقام الحنفي الآن/١٢ فتح.
.

﴿ قاتلوهم ﴾، أمر بالقتال بعد التوبيخ على تركه، ﴿ يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ﴾ : يذلهم، ﴿ وينصركم عليهم ﴾، وعد من الله بنصر المؤمنين وقتل الكافرين وإذلالهم، :﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ أي : بني خزاعة أعانت قريش بني بكر عليهم.
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ أي : كربه بمعونة قريش بني بكر، ﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ : من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ﴿ والله عليم ﴾ : بما كان وما لم يكن ﴿ حكيم ﴾ : لا يأمر إلا بما هو المصلحة.
﴿ أم حسبتم ﴾ : أيها المؤمنون، وأم منقطعة بمعنى الهمزة فيها توبيخ على الحسبان وقيل خطاب للمنافقين، ﴿ أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾، أي : نترككم مهملين ولا نختبركم بأمور يظهر الخلص من غيرهم، نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة نفيا للملزوم بنفي اللازم، ﴿ ولم يتخذوا ﴾، عطف على جاهدوا ﴿ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ : بطانة وأولياء يفشون أسرارهم، ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ : يعلم أغراضكم من أفعالكم.
﴿ ما كان ﴾ : ما صح، ﴿ للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾، أي مسجد كان، أو المراد مسجد الحرام، وجمعه لأنه قبلة المساجد، ويدل عليه قراءة من قرأ مسجد الله وعمارته مرمته عند الخراب، أو الصلاة والقعود فيه أو أعلم، قيل نزلت في عباس حين أسر في البدر فأغلظ علي- رضي الله عنه - له القول في التعيير فأجاب : تعدون مساوئنا : ولا تذكرون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، ﴿ شاهدين١ على أنفسهم بالكفر ﴾، حال من فاعل يعمروا، أي ما استقام الجمع بين عمارة بيت الله وعبادة غيره، ﴿ أولئك حبطت٢ أعمالهم ﴾، لأن الكفر يذهب ثوابها، ﴿ وفي النار هم خالدون ﴾.
١ وشهادتهم على أنفسهم هو قولهم في الطواف لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك إذا سئلوا عن دينهم قالوا: نعبد اللات والعزى/١٢ منه..
٢ لأنها لغير الله عز وجل/١٢ معالم..
﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ﴾، في باب١ الدين وأمره يعني من كان بهذه الصفات فهو اللائق بعمارة المساجد قال صلى الله عيه وسلم " إذا رأيتم٢ الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "، قال الله تعالى :" إنما يعمر مساجد الله من لآمن بالله واليوم الآخر " ( التوبة : ١٨ )، وقد ورد " عمار المساجد هم أهل٣ الله " ﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾، قيل الإتيان بلفظ عسى إشارة إلى ردع الكفار وتوبيخهم بالقطع في زعمهم أنهم مهتدون فإن هؤلاء مع هذه الكمالات اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بمن هو أضل من البهائم ! وإشارة أيضا إلى منع المؤمنين من الاغترار والاتكال على الأعمال.
١ لا أن يترك الدين خشية من زوال مال أو جاه أو تعيير أو قتال/١٢ منه..
٢ ذكره الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر والبيهقى هذا يدل على أحد الوجهين الأخير في قوله: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" /١٢ منه وفتح. [ضعيف، انظر ضعيف الجامع]..
٣ رواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه والحافظ البزار/١٢ منه. [ضعيف، وهو في "الحلية" أيضا لأبي نعيم (٦/١٧٣)].
.

﴿ أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام ﴾، أي : أهل السقاية والعمارة، قيل المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي : الساقي والعامر، ﴿ كمن آمن بالله واليوم١ الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾، وفي مسلم قال رجل من : الصحابة ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام، وقال الآخر : الجهاد خير مما قلتم٢ فقال عمر : استفتيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى :" أجعلتم سقاية الحاج " الآية، وعن كثير من السلف : أنها نزلت في مفاخرة عباس وطلحة وعلي بن٣ أبي طالب رضي الله عنهم، قال طلحة أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء أبيت فيه، وقال العباس بعد إسلامه : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، وأنزلت حين قال المشركون٤ : عمارة البيت والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد، ﴿ لا يستوون عند الله ﴾ ؛ بل المجاهد أفضل لكن للمرجوح درجة٥ ثم بين بقوله ﴿ و الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾، أن من ليس له فضل، ولا هداية ولا درجة هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادة كالأوثان مكان عبادة الله، وإن كان سبب النزول مفاخرة المشركين فقوله :" و الله لا يهدي القوم الظالمين " لبيان عدم التساوي.
١ جاز أن يكون تقديره: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجهاد من جاهد؟!/١٢ منه..
٢ يعني من السقاية والعمارة/١٢ منه..
٣ تصديقا لمن قال الجهد أفضل/١٢ منه..
٤ رواه العوفي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس/١٢ منه..
٥ هذا على أن تكون تلك المفاخرة بين المسلمين كما بين في الوجهين الأولين، وأما على الوجه الثالث فهو الذي ذكرناه لقولنا: وإن كان سبب النزول إلى آخره فافهم/١٢ منه..
﴿ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ﴾ : ممن يستجمع هذه الصفات، ﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ : بالنجاة الكلية١ عن النار والصر المطلق بالأمنية.
١ فلا يرد أن من لم يكن له هذه الصفات لم يكن من الفائزين فلا تغفل/١٢ منه..
﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ﴾ : دائم.
﴿ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ﴾ : يستحقر دونه نعيم الدنيا بأسرها.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ﴾ : أصدقاء، ﴿ إن استحبوا ﴾ : اختاروا، ﴿ الكفر على الإيمان ﴾، نزلت حين أمروا بالهجرة من مكة فإن بعض١ المؤمنين قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا، أو نزلت نهيا عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، ﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾ : بوضع الموالاة مكان المعاداة.
١ نقله محي السنة والواحدي/١٢ منه..
﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ﴾ : أقرباؤكم، ﴿ وأموال اقترفتموها ﴾ : اكتسبتموها، ﴿ و تجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ﴾ : تستطيبونها، ﴿ أحب إليكم من الله ورسوله وجها د في سبيله فتربصوا ﴾، جواب الشرط، أي انتظروا، ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ : عقوبته العاجلة والآجلة، ﴿ و الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ : لا يرشد الخارجين عن الطاعة وفي الحديث١ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : والله لأنت رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن أحدكم حتى أكون إليه أحب من نفسه فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : الآن يا عمر، قيل المراد كالحب الاختياري دون الطبيعي الذي لا يدخل تحت التكليف.
١ رواه البخاري في صحيحه/١٢ وجيز..
﴿ لقد نصركم الله في مواطن ﴾ : أماكن، ﴿ كثيرة ويوم١ حنين ﴾، أي : وموطن يوم حنين٢ واد بين مكة وطائف وقع فيه المقاتلة بعد فتح مكة، ﴿ إذ أعجبكم ﴾، بدل من يوم حنين، ﴿ كثرتكم ﴾، المؤمنون اثنا عشر ألفا والكفار أربعة آلاف، :﴿ فلم تغن ﴾، أي : لم تدفع الكثرة، ﴿ عنكم شيئا ﴾ : من أمر العدو، ﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾، أي : برحبها وسعتها فلم تجدوا موضعا للقرار تطمئن به نفوسكم، ﴿ ثم وليتم ﴾ : فررتم، ﴿ مدبرين ﴾ : منهزمين حتى بلغ٣ فلكم مكة وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مركزه معه العباس وأبو سفيان٤.
١ عطف على محل في مواطن ولا محظور فيه أصلا فلا تخف من قعقعة سلاح الزمخشري فليست تحته إلا إخافة وليس بشيء فتدير /١٢ منه..
٢ قدر المضاف في يوم حنين، لأن المتعلقات لا يعطف بعضها على بعض إلا ما هو من جنسه نحو صمت يوم الجمعة ويوم الخميس، ولا يقال صمت يوم الجمعة وفي بلدك وبتقدير المضاف صارا ظرفين مكانيين وجاز أن يقدر في أيام مواطن حتى يكونا زمانيين /١٢ منه..
٣ أي: منهزموكم يستوي فيه الواحد والجمع/١٢..
٤ ابن حارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب وربيعة بن الحارث والفضل بن عباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجالا/١٢ وجيز.
.

﴿ ثم أنزل الله سكينته ﴾ : ما سكن واطمئن به الفؤاد من رحمته، ﴿ على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ : فنادى العباس بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وكان صيتا : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة. فكروا عنقا واحدا قائلين لبيك لبيك، ﴿ وأنزل جنودا ﴾ : من الملائكة، ﴿ لم تروها ﴾، لكن قالوا : سمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد، ﴿ وعذب الذين كفروا ﴾ : بالقتل والسبي ستة آلاف أسير من صبي وامرأة، ﴿ وذلك ﴾، إشارة إلى ما فعل بهم، ﴿ جزاء الكافرين ﴾ : في الدنيا.
﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾، فإن كثيرا ممن بقي من هؤلاء المقاتلين بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مسلمين فرد عليهم سبيهم كلها برضى المؤمنين وقسم أموالهم بين الغانمين، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ : لمن آمن يتجاوز عنه ويتفضل عليه.
﴿ يا يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس١ : باطنهم ودينهم قال قتادة لأنهم٢ لا يتطهرون من جنابة ولا من حدث، ﴿ فلا يقربوا المسجد٣ الحرام ﴾، منعوا من دخول الحرم، وقيل : منعوا عن الحج٤ والعمرة لا عن الدخول مطلقا، ﴿ بعد عامهم هذا ﴾، وكان سنة تسع أرسل عليا ونادى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، ﴿ وإن خفتم عيلة ﴾ : فقرا بسبب الكفار من الحرم لانقطاع المتاجر، ﴿ فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾، من عطائه بوجه آخر، ﴿ إن شاء ﴾، قيده بالمشيئة ليقطع الآمال إلى الله عوضهم الجزية وأمول البلدان، ﴿ إن الله عليم ﴾ : بأحوالكم، ﴿ حكيم ﴾ : في المنع والإعطاء.
١ جعلوا كأنهم النجاسة مبالغة، فإن النجس بفتح الجيم مصدر أو معناه ذوو نجس فإن شركهم بمنزلة نجس، وعن بعض أن أعيانهم كالكلاب والخنازير نجسة، وعند الحسن من مس مشركا فليتوضأ/١٢ وجيز، وفي الفتح: قد استدل بالآية من قال: بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية، وروي عن الحسن البصري، وهو محكي عن ابن عباس، وقال الحسن بن صالح: من مس مشركا فليتوضأ وروى هذا عن الزيدية وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات؛ لأن الله سبحانه أحل طعامهم وثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده وهو الحق/١٢ منه..
٢ فعلى قوله نجس ظاهرهم وباطنهم/١٢ منه..
٣ يطلق مسجد الحرام ويراد به الحرم كله/١٢ منه..
٤ فيكون المراد من السجد الحرام نفس المسجد؛ لأن الحج لا بد له من الدخول في/١٢ منه..
﴿ قاتلوا١ الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾، أمر بقتال أهل الكتاب، فهم لا يؤمنون إيمانا كما ينبغي فإيمانهم كلا إيمان، ﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ : كالخمر والربا، ﴿ ولا يدينون٢ دين الحق ﴾ : لا يعتقدون دين الثابت الناسخ لسائر الأديان، ﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾، بيان للذين لا يؤمنون، ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾ : ما تقرر عليهم أن يعطوه، ﴿ عن يد ﴾ : عن قهر وذل يقال لكل شيء أعطي كرها : أعطاه عن يد أي : عاجزين فهو حال أو يعطونها بأيديهم ولا يرسلون على يد غيرهم، أي : المسلمين بأيديهم قيل : عن غنى٣ ولذلك قيل لا يؤخذ من الفقير، ﴿ وهم صاغرون ﴾، ذليلون، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يؤخذ منه وتوجأ عنقه.
١ ولما بين وفصل أمر المشركين من قريش وغيره توجه إلى أمر أهل الكتاب فقال: "قاتلوا الذين" الآية/١٢ وجيز..
٢ يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذ دينه واعتقده/١٢ منه..
٣ يقال: لفلان ذات يد أي ثروة ومال/١٢ منه..
﴿ وقالت١ اليهود عزير ابن الله ﴾، وذلك لأن العزير كتب التوراة بعدما فات منهم وضاع، ثم لما وجدوا نسخة من نسخ التوراة قابلوها به فوجدوها صحيحا فقال بعض جهلتهم، إنما جاء بها لأنه ابن الله، ﴿ وقالت٢ النصارى المسيح ابن الله ﴾، وسبب ضلالهم في المسيح ظاهر، ﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾، : لا مستند لهم كالمهمل يتفوهون به ليس له مفهم عيني، ﴿ يضاهئون ﴾، أي : يضاهي قولهم فحذف القول وأقيم المضاف إليه مقامه، ﴿ قول الذين كفروا من قبل ﴾، من قبلهم، أي : قدماؤهم فالكفر فيه قديم، أو المشركين الذين يقولون الملائكة بنات الله، ﴿ قاتلهم الله ﴾، قال ابن عباس : أي لعنهم الله، ﴿ أنى يؤفكون ﴾، كيف يضلون عن الحق.
١ هذا كالدليل على جواز مقاتلتهم لما قتل الأنبياء بعد موسى رفع الله عنهم التوراة ومحاها عن قلوبهم خرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل وعلمه التوراة فأملاها عليهم عن ظهر لسانه فلما وجدوا شيئا من التوراة قابلوها فوجدوا صحيحا فقالوا ما قالوا/١٢ وجيز..
٢ الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم؛ بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقال: "إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" أخرجه أحمد وابن جرير والترمذي وحسنه البيهقي في سننه وابن أبي حاتم [حسن، انظر صحيح الترمذي (٢٤٧١)]، وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى قال شيخنا ومولانا خاتم المحققين والمجتهدين رضي الله عنهم: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب يعني كيف يمكن العمل بظواهر الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟! و لو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا/١٢ كبير.
.

﴿ اتخذوا أحبارهم ﴾، علماؤهم، ﴿ ورهبانهم ﴾، زهادهم والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، ﴿ أربابا من دون الله ﴾، حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فأطاعوهم وتركوا كتاب الله تعالى، ﴿ والمسيح ابن مريم ﴾، بأن جعلوه ابنا له، ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾، هو الله ﴿ لا إله إلا هو ﴾، صفة ثانية أو استئناف، ﴿ سبحانه عما يشركون١، هو المنزه عن شريك وولد.
١ وفي هذه الآية مما يزجر عن التقليد في دين الله وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب والسنة المطهرة فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخلفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه- هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم؛ بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء، فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين ونصوص الكتاب والسنة تهادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه؟ّّ! فدعوا أرشدكم وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم و خالقكم ومعبودهم ومعبودكم واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – اللهم اهدينا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب/١٢ فتح.
.

﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله ﴾، الذي أرسل به رسوله من الهدي ودين الحق، ﴿ بأفواههم ﴾، بتكذيبهم، ﴿ ويأبى الله ﴾، لا يرضى، ﴿ إلا أن يتم نوره ﴾، بإعلاء كلمته، والاستثناء مفرغ لأن الفعل الموجب في معنى النفي وهذا تمثيل لحالهم في طلب إبطال الدين بالتكذيب، بحال من يطلب إطفاء نور منبث في الآفاق بنفخة، ﴿ ولو كره الكافرون ﴾، إتمامه، ويدل على جواب لو ما قبله.
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ﴾، القرآن والمعجزة، ﴿ ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾، ليعليه على سائر الأديان فينسخها فالضمير إما لدين الحق، أو للرسول، أو على أهل الكتاب١ فيخذلهم، ﴿ ولو كره المشركون ﴾، غلبته وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى.
١ قوله: "أو على أهل الكتاب" معطوف على قوله: "ليعليه على سائر الأديان" ولو عطف على ما قبله مباشرة لفسد المعنى؛ إذ لا يصح أن يعود الضمير في قوله: "ليظهره" على أهل الكتاب. والله أعلم..
﴿ يا يأيها الذين آمنوا إن كثيرا١ من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ﴾، يأخذ علماء أهل الكتاب الرشى ويبطلون دين الله وحكمه والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال، ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾، يصرفون الناس عن إتباع الحق، ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ﴾، الضمير للدنانير والدراهم الكثيرة الدالة عليها يكتنزون الذهب والفضة، أو للكنوز أو الفضة، لأنها أقرب وتدل على أن حكم الذهب بطريق الأولى، ﴿ في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾، عن كثير من السلف كعمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن الكثير من المال لم يؤد منه الزكاة وما أدي زكاته فليس بكنز٢ وقد صح عن علي رضي الله عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما أكثر ذلك فهو كنز، ومثل هذا مذهب كثير من السلف، والأخبار في مدح التقلل وذم التكثر٣ أكثر من أن يخفى.
١ ولعمري من تأمل في أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم فنرى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطاهرة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله/١٢ كبير..
٢ وقد صح ذلك مرفوعا..
٣ نقله الإمام أحمد عن علي – رضي الله عنه- أن رجلا من أهل الصفة مات وترك دينارين فقال عليه السلام كيتان/١٢ منه..
﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم ﴾، أصل معناه يوم تحمى النار، أي : توقد ذات حمي وحر شديد على الكنوز ثم طوي ذكر النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور للمبالغة في شدة حر الكنوز، ﴿ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ﴾، لا يوضع دينار على١ دينار لكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة قال بعضهم صاحب الكنز إذا وأرى الفقير قبض جبهته وولى طهره وأعرض عنه كشحه ولهذا خص الجباه والجنوب والظهور، ﴿ هذا ما كنزتم ﴾، أي : يقال لهم ذلك، ﴿ لأنفسكم ﴾، فصار النفع ضرا، ﴿ فذوقوا ﴾ : وبال، ﴿ ما كنتم٢ تكنزون ﴾، ما مصدرية أو موصولة وأكثر السلف على أن الآية عامة في المسلمين وأهل الكتاب وبه بالغ وحلف٣ أبو ذر.
١ هكذا رواه الحافظ أبو يعلى عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بكن في إسناده ضعف/ منه..
٢ ولما عد أنواعا من قبائح أهل الكتاب والنسيء من قبائحهم عده في جنبها فقال إنما النسيء/ وجيز..
٣ حين يدعي معاوية بن أبي سفيان أن الآية في شأن أهل الكتاب لا فينا/ منه..
﴿ إن عدة الشهور ﴾، مبلغ عددها، ﴿ عند الله ﴾، متعلق بعدة فإنها مصدر، ﴿ اثنا عشر شهرا ﴾، لا أزيد ذلك كما يفعله المشركون وسنذكره في قوله :" إنما النسيء زيادة "، الآية ( التوبة : ٣٧ )، ﴿ في كتاب الله ﴾ : في اللوح المحفوظ أو في حكمه، ﴿ يوم خلق السماوات ولأرض ﴾، أي : ثابت في كتاب الله يوم خلق الأجسام فيكون " قي كتاب الله " صفة لاثني عشر و " يوم خلق " متعلق بمتعلقه، ﴿ منها أربعة حرم ﴾، رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ﴿ ذلك الدين القيم ﴾، أي : تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين الأنبياء، ﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾، بهتك جرمتها فإن الظلم فيها أعظم وزرا فيما سواه، والطاعة فيها أعظم أجرا قال بعضهم : ضمير فيهن راجع إلى اثني عشر، أي : لا تظلموا في الشهور كلها قال الأكثرون : حرمة المقاتلة في أشهر الحرم منسوخة فأولوا نهي الظلم بترك المعاصي، وقال بعضهم : محكمة وجازت المقاتلة إذا كانت البدأة منهم وأجابوا عن محاربة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بأن ابتداءه في الشهر الحلال، ﴿ وقاتلوا١ المشركين كافة ﴾ : جميعا، ﴿ كما يقاتلونكم كافة ﴾ : هو تهييج وتحضيض للمسلمين بالاتفاق في محاربة أهل الشرك والنفاق، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ : وبشرهم بالنصرة بعدما أمرهم بالمقاتلة.
١ فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض/ فتح..
﴿ إنما النسيء ﴾ : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرا من أشهر الحل، حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد، ﴿ زيادة في الكفر ﴾ : فإن تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم، ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ : ضلالا زائدا، ﴿ يحلونه ﴾ أي : النسيء من الأشهر الحرم، ﴿ عاما ويحرمونه عاما ﴾ : إذا قاتلواِّ١ فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، ﴿ ليواطئوا ﴾ : متعلق بما دل عليه الكلام، أي : حرموا مكانه شهرا آخر ليوافقوا، ﴿ عدة ما حرم الله ﴾ : لا يزيد ولا ينقص الأشهر الحرم من الأربعة، ﴿ فيحلوا ما حرم الله ﴾ : فإنه لم يحرموا الشهر الحرام بل وافقوا في العدد وحده، قيل : وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو عشر ليسع لهم الوقت فلذلك قال تعالى :" إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر " الآية، ﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ : فإن الشيطان يغويهم، ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾، أي : لا يهدي من هو في علم الله كافر مؤبد الكفر أو معناه، لا يهديهم في حال كفرهم.
١ قد نقل إن جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم ينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القابل إن آلهتكم قد حرمت عيكم الحرم فحرموه/ منه..
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا ما لكم٢ إذا قيل لكم انفروا ﴾ : اخرجوا، ﴿ في سبيل الله اثاقلتم ﴾، تباطأتم :﴿ إلى الأرض ﴾، متعلق باثاقلتم لتضمنه معنى الميل والخلود نزلت في شان غزوة تبوك أمروا بها حين رجعوا من فتح مكة والطائف٣ في وقت عسرة وشدة حر فشق عليهم، ﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾، أي بدلها : يعني الجنة، ﴿ فما متاع الحياة الدنيا ﴾، التمتع بها، ﴿ في الآخرة ﴾، أي : في جنبها ﴿ إلا قليل ﴾، فإنها لا تتناهى وأين نعيم الدنيا من نعيمها.
١ وكانت العرب لا عيش لأكثرهم إلا من الغارات وأعمال السلاح وهم يدعون إنا على دين إبراهيم، وكانت إذا توالت عليهم الثلاثة الحرم صعب عليهم وكان فيهم من يبلين دينهم فهو الذي شرع له النسيء وبقي إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضل فيهم ذو الحجة، وأما أن سنة حج فيها أبو بكر هي في ذي القعدة فليس بشيء وإن قاله بعض المؤرخين؛ لأنه نودي في حج أبي بكر بتحريم النسيء ونفي منهم وغيره من أمر الجاهلية وأيضا لما مضى من حجته عشر أشهر وكان الحادي عشر في أواخره سار(*) صلى الله عليه وسلم إلى الحج موافيا لهلال ذي الحجة فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار كهيئته فعلم قطعا أن استدارته كانت في حجة أبي بكر والحمد لله وحده ولما أمرهم وهيجهم وشجعهم على القتال كافة وهم لم يبادروا وتثاقلوا وقعوا موقع العذاب فقال: "يا يأيها الذين آمنوا ما لكم" الآية/وجيز.
(*) كذا بالأصل، واللفظ في الحديث "كهيئة"..

٢ الاستفهام إنكاري تفريعي والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر إغلاظا ومخاشنة لهم صونا عن ذكره إذ خولف أمره/ وجيز..
٣ سنة تسع من الهجرة/١٢..
﴿ إلا تنفروا ﴾، شرطية، ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾، في الدنيا والآخرة، ﴿ ويستبدل قوما غيركم ﴾، يأت بقوم آخرين مطيعين بعد هلاككم، ﴿ ولا تضروه شيئا ﴾، بالتثاقل فإنه هو الناصر لدينه، أو الضمير لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أي : سينصره إن قعدتم عن الحرب، ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾، فيقدر على تبديلكم ونصرته بلا مددكم.
﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله ﴾، بمنزلة العلة له، ﴿ إذ أخرجه الذين كفروا ﴾، حاصله أنه ينصره كما نصره جواب الشرط محذوف ١ وهو فسينصره، وقوله :" فقد نصره الله " حين إن وقع الكفار سببا لخروجه، ﴿ ثاني اثنين٢، أي : حال كونه أحد اثنين هو وأبو بكر رضي الله عنه، ﴿ إذ هما في الغار ﴾، في جبل ثور وهو بدل البعض من " إذ أخرجه "، لأن المراد منه زمان متسع٣، ﴿ إذ يقول ﴾، بدل آخر أو ظرف لثاني، ﴿ لصاحبه ﴾، أبي بكر حين طلع الكفار فوق الغار يطلبونهما، ﴿ لا تحزن٤ إن الله معنا٥، بالنصرة والعصمة، ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾، أمنته، ﴿ عليه ﴾ أي : تجدد أمنته على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما - أن الضمير لأبي بكر رضي الله عنه ويؤيد الأول قوله، ﴿ وأيده ﴾، أي : رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، ﴿ بجنود لم يروها ﴾، أي : الملائكة ليحرسوه، قال بعضهم : بقوله :" وأيده بجنود لم يروها " التأييد يوم بدر فعلى هذا عطف على أخرجه الذين كفروا، ﴿ وجعل كلمة الذين كفروا ﴾، كلمة الشرك، ﴿ السفلى٦، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فلم يروه أو حين قتلوا وأسروا يوم بدر، ﴿ وكلمة الله هي العليا ﴾، كلمة التوحيد عالية ظاهرة حين هاجر المدينة أو حين غلبوا ونصروا يوم بدر، ﴿ والله عزيز حكيم ﴾، في أمره وتدبيره.
١ لا يجوز أن يكون "فقد نصره الله" جوابا للشرط؛ لأنه ماض محض فالمذكور بمنزلة العلة، أي: إن لا تنصروه فينصره الله كما نصره؛ لأنه نصره في وقت أصعب من ذلك..
٢ قال الشعبي عاتب الله عزز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر/ فتح، وعن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال أبي بكر: أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح حسن غريب/ فتح. [ضعيف، انظر ضعيف الجامع(١٤٢١)]..
٣ وهذا الزمان الذي هما في الغار بعضه..
٤ قال أبو بكر: يا رسول الله، إن قتلت فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة وذهب دين الله فقال –صلى الله عليه وسلم -: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ومن يلك الآية قال العلماء من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر/ وجيز..
٥ أي: ناصرنا كذا في البخاري في كتاب التفسير..
٦ مقهورة مخفوضة..
﴿ انفروا١، إلى جهاد تبوك، ﴿ خفافا وثقالا ﴾، شبانا وشيوخا أو نشاطا وغيره أو ركبانا ومشاة أو فقيرا وغنيا أو قليل العيال وغيره أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو أصحاء ومرضى أو مسرعين، وبعد الاستعداد، ﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم٢ خير لكم ﴾، من التثاقل إلى الأرض، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾، فإن من لم يكن من أهل العلم لا يصدق بخيرية النفور ويختار هوى النفس، قال ابن عباس رضي الله عنه : نسخت هذه الآية بقوله :" وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قال بعضهم ٣ : لما نزلت اشتد شأنها على الناس فنسها الله بقوله :" ليس على الضعفاء ولا على المرضى " الآية ( التوبة : ٩١ ).
١ ولما توعد من لا ينفر معه وضرب له من الأمثال، أتبعه بالأمر الجازم فقال: انفروا خفافا/ وجيز..
٢ أي: الجهاد بالأموال والأنفس..
٣ هو السدي.
﴿ لو كان عرضا قريبا ﴾، لو كان ما دعوا إليه نفعا وغنيمة دنيوية قريبة، ﴿ وسفرا قاصدا ﴾، متوسطا، ﴿ لاتبعوك ﴾، وافقوك، ﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾، المسافة التي تقطع بمشقة فإنه عليه الصلاة والسلام خرج بنية الروم، ﴿ وسيحلفون١ بالله ﴾، إذا رجعت من تبوك عذرا للتخلف يقولون ﴿ لو استطعنا ﴾، استطاعة بدن ومال، ﴿ لخرجنا معكم ﴾، هذا ساد مسد جوابي القسم والشرط، ﴿ يهلكون أنفسهم٢، بإيقاعها في العذاب للحلف الكاذب حال من فاعل سيحلفون، ﴿ والله يعلم أنهم لكاذبون ﴾، فإنهم مستطيعون.
١ إخبار عما سيقع فما هو إلا معجزة/ وجير..
٢ جملة مستأنفة وإخبار منه سبحانه و باقي الإعرابات تمحلات/ وجيز..
﴿ عفا١ الله عنك ﴾، خطأك في إذنهم للتخلف، بدأ بالعفو قبل التعبير بالذنب لنهاية العناية في شأنه عليه الصلاة والسلام، ﴿ لم أذنت لهم ﴾ : في القعود وهلا توقفت، ﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا ﴾ : في الاعتذار فتأذن لهم، ﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ : فلا ترخصهم في التخلف.
١ قال الطبري هذا عتاب من الله عز عاتب به الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أي: في إذنه لمن أذن له التخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، والمعنى عفا عنك يا محمد ما كان في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، قال عمرو بن ميمون اثنان فعلهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه اله كما تسمعون/ لباب التأويل المعروف بالخازن..
﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله١ واليوم الآخر ﴾، في التخلف كراهة، ﴿ أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾، لأنهم يرون الجهاد٢ قربة أو لا يستأذنون في أن يجاهدوا٣ بل يسرعون إلى الجهاد من غير طلب إذن، ﴿ والله عليم بالمتقين ﴾، فيجازيهم على حسب تقواهم٤.
١ يعني: أن المخلص الخالص إذا توجه سلطانه وسيده إلى سفر سيما إلى حرب لا يخطر بباله التخلف بل يسرع إلى التجهز فلا يستأذن/ وجيز..
٢ يعني: أن يجاهدوا مفعول له بحذف مضاف يعني أن الاستئذان في التخلف لأجل كراهة المجاهدة منتف عنهم/ منه..
٣ على هذا الوجه أن يجاهدوا ظرف بحذف حرف الجر والوجه الأول كأنه أولى لأن مقدمه وهو قوله: "أذن لهم" ليس إلا الإذن في التخلف ومؤخره وهو قوله: "إنما يستأذنك" أيضا كذلك فالمناسب أن يكون المتوسط مثلهما/ منه..
٤ ومن تقواهم إسراعهم في القربات (وجيز)..
﴿ إنما يستأذنك ﴾، في التخلف، ﴿ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾، يتحيرون.
﴿ ولو أرادوا الخروج ﴾، معك إلى القتال، ﴿ لأعدوا له ﴾، للخروج، ﴿ عدة ﴾، أهبة من الزاد والركوب، أي : هم أهل ثروة واستطاعة، ﴿ ولكن كره الله انبعاثهم ﴾، يعني ما خرجوا ولكن١ تثبطوا ؛ لأن الله أبغض خروجهم معك، ﴿ فثبطهم ﴾، حبسهم ومنعهم عن الخروج، ﴿ قيل اقعدوا ﴾، في بيوتكم تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، أو قال بعضهم لبعض، ﴿ مع القاعدين ﴾، الذين لهم عذر، أو مع الصبيان والنسوان وعلى هذا صلاحكم في تخلفهم، وعتاب الله تعالى عليه لمبادرة الإذن في التخلف.
١ ومن حق حرف الاستدراك كالتوسط بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا وظاهر الآية أنهم لم يريدوا الخروج فلم يستعدوا لكن كره الله فبين الشارح ملخصه وهو أن نفي إرادتهم الخروج يستلزم نفي خروجهم وكراهة الله انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فيئول حاصله إلى ما فسره وهو في غاية الانتظام/١٢ منه..
﴿ لو خرجوا ﴾، يبين١ وجه كراهته تعالى، ﴿ فيكم ما زادوكم ﴾، بخروجهم شيئا، ﴿ إلا خبالا ﴾، فسادا ولا يلزم من هذا٢ أن يكون للمؤمنين فساد وهم زادوه، ﴿ ولأوضعوا ﴾، لأسرعوا ركائبهم٣، ﴿ خلالكم٤، في وسطكم بإيقاع العداوة للنميمة، ﴿ يبغونكم الفتنة ﴾، يريدون أن يفتنونكم ٥ بإيقاع الخلاف٦ فيكم، ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾، مطيعون ٧ مستجيبون لحديثهم أو سماعون لهم الأخبار لينقلوها عليهم، ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾، فيجازيهم.
١ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي على ذي حرة أسفل من ثنية الوداع ولم يكن لأقل العسكرين فلما سار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم: "لو خرجوا"، الآية/ معالم..
٢ لأن المستثنى منه كما بينا هو أعلم العام الذي شيئا والاستثناء متصل مفرغ/١٢ منه..
٣ فمفعول أوضعوا محذوف هو ركابهم ١٢..
٤ من وضع البعير: أسرع..
٥ كذا في الأصل بإثبات النون..
٦ فإنهم نمامون حرفتهم النميمة/ وجيز..
٧ قاله قتادة (منه)..
﴿ لقد ابتغوا الفتنة ﴾، تفريق أصحابك وتشتيت أمرك، ﴿ من قبل ﴾، في أوائل ما جئت المدينة رمته العرب واليهود ومنافقوها عن قوس واحد، ﴿ قلبوا لك الأمور ﴾، دبروا لك الحيل، ﴿ حتى جاء الحق ﴾، التأكيد الإلهي، ﴿ وظهر أمر الله ﴾، وعلا كلمته يوم بدر ويوم فتح مكة، ﴿ وهم كارهون ﴾، كما قال ابن سلول الملعون حين سمع قصة بدر : هذا أمر قد توجه.
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ﴾، في القعود، ﴿ ولا تفتني ﴾، لا توقعني في الفتنة ببنات الأصفر نزلت في جد بن قيس من أشراف بني سلمة حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له هل لك في جهاد بني الأصفر يعني الروم فقال لنفاقه، : ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر فوالله إني أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمالي١، ﴿ ألا في الفتنة ﴾، بسبب تخلفهم عنك، ﴿ سقطوا ﴾، لا بسبب بنات الأصفر وما دعوتهم إليه، ﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾، جامعة لهم لا مهرب ولا محيص.
١ رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف، كذا قال الهيثمي في "المجمع"، (٧/٣٠)..
﴿ إن تصبك حسنة ﴾، ظفر وغنيمة، ﴿ تسؤهم وإن تصبك مصيبة ﴾، كما أصاب يوم أحد، ﴿ يقولون قد أخذنا أمرنا من قبل ﴾، عملنا بالحزم كما قال ابن سلول وأصحابه حين تخلفوا عنك يوم أحد، ﴿ ويتولوا ﴾، عن مقام التحدث أو أعرضوا عن الرسول، ﴿ وهم فرحون ﴾، بما نالكم من المصيبة.
﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾، في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، ﴿ هو مولانا ﴾، ملجؤنا وناصرنا، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾، لا على كثرة العدد.
﴿ قل هل تربصون ﴾، تنظرون، ﴿ بنا إلا إحدى الحسنيين ﴾، النصرة والشهادة١ وكل منهما حسنى، ﴿ ونحن نتربص بكم ﴾، إحدى السوءين، ﴿ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ﴾، بقارعة وبلاء من السماء، ﴿ أو بأيدينا ﴾، أو بعذاب بأيدينا كالقتل، ﴿ فتربصوا ﴾، انتظروا ما هو عاقبتنا، ﴿ إنا معكم متربصون ﴾، ما هو عاقبتكم.
١ ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله (وفي رواية تضمن الله) لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" أخرجاه في الصحيحين (لباب)..
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾، طائعين أو مكرهين، ﴿ لن يتقبل١ منكم ﴾، أمر في معنى الخبر، أي : لن يتقبل الله تعالى منكم نفقاتكم إن أنفقتم طوعا أو كرها كما٢ قال جد بن قيس أعنيك بمالي، ﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾، تعليل لعدم القبول على سبيل الاستئناف.
١ لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله؛ بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه (لباب)..
٢ نقله محيي السنة..
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا ﴾، أي : إلا كفرهم فاعل منع، ﴿ بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾، متثاقلين ليس لهم قصد صحيح، ﴿ ولا ينفقون إلا و هم كارهون ﴾، لأنهم لا يرجون بها ثوابا ؛ بل غرضهم إظهار الإسلام.
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾، فإنها لهم استدراج ووبال، ﴿ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾، بزكاتها والنفقة في سبيل الله على كره والتعب في جمعها والوجل في حفظها والشدائد والمصائب فيها فهي لهم عذاب وللمؤمنين أجر، قال بعضهم : في الحياة الدنيا متعلق بلا تعجبك، ﴿ وتزهق ﴾، تخرج ﴿ أنفسهم وهم كافرون ﴾، أي : يموتوا كافرين مشتغلين بصعوبة فراق مستلذات الدنيوية غافلين عن النظر في العاقبة.
﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾، من جملة المسلمين، ﴿ وما هم منكم ﴾، فإنهم منافقون، ﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾، يخافون فيحلفون تقية.
﴿ لو يجدون ملجئا ﴾، حصنا يلجئون إليه، ﴿ أو مغارات ﴾، غيرانا في الجبال، ﴿ أو مدخلا ﴾، نفقا ينحجرون فيه كنفق اليربوع١، ﴿ لولوا إليه٢، لأقبلوا نحوه، ﴿ وهم يجمحون ﴾، يسرعون إسراعا لا يردهم شيء وحاصله أنهم لو وجدوا مهربا منكم أي مهرب لفروا منكم ليقهم في أيديكم.
١ دويبة تحفر الأرض/ ١٢..
٢ ولما جاء بأوعاد الضمير في إليه مفردا على قاعدة العربية وعوده إلى المغارات بالتأويل لتذكير الضمير (وجيز)..
﴿ ومنهم من يلمزك ﴾، يعيبك، ﴿ في الصدقات ﴾، أي : قسمتها، ﴿ فإن أعطوا منها رضوا١ وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾، أي : ينكرون ويعيبون لحظ أنفسهم، وإذا للمفاجأة نائب منا فاء الجزاء نزلت في ذوي الخويصرة٢ أصل الخوارج وآبائهم حين قال : اعدل في القسمة فقال صلى الله عليه وسلم : قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فمن يعدل ؟٣، أو نزلت في أبي الجواظ من المنافقين حين قال : لم تقسم بالسوية.
١ عن العطاء لا عن المعطى (وجيز)..
٢ رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة قد قتله علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج/١٢ منه..
٣ أخرجاه في الصحيحين..
﴿ ولو أنهم رضوا ما آتاهم ﴾، أعطاهم، ﴿ الله ورسوله ﴾، من الغنيمة والصدقة، وفعل الرسول بأمر الله، فلذلك أتى بلفظ الله، ﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾، محسبنا وكافينا، ﴿ سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾، في أن يوسع علينا من فضله وجواب لو محذوف، أي : لكان خيرا لهم وأقوم.
﴿ إنما١ الصدقات للفقراء ﴾، أي : الزكاة لهؤلاء لا لغيرهم٢ والفقير المستضعف الذي لا يسأل، وعند الشافعي رضي الله عنه : من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته أو المحتاج٣ المريض أو فقراء المهاجرين٤، ﴿ والمساكين ﴾، المستضعف الذي يطوف٥ ويسأل وعند الشافعي رضي الله عنه من له مال أو كسب لكن لا يكفيه أو المحتاج الصحيح والفقراء من أهل الكتاب، ﴿ والعاملين عاليها ﴾، الساعين في تحصيل الصدقات غنيا أو فقيرا، ﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾، وهم أقسام منهم من يعطي ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، ومنهم من يعطى رجاء إسلامه، ومنهم من يعطي لإسلام نظرائهم وأمثالهم، ومنهم من يعطي ليأخذ الزكاة ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، قال كثير من العلماء : سهمهم الآن بعد أن أعز الله تعالى الإسلام ساقط، وقال قوم : باق إلى الأبد، ﴿ وفي الرقاب ﴾، أي : للصرف في فك الرقاب بإعانة المكاتب أو باشتراء الرقاب للعتق، والعدول عن اللام إشارة إلى أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب، ﴿ والغارمين ﴾، المديونيين إن صرفه في غير معصية وحينئذ لو صرفه في مصالحه فيعطى إذا لم يكن له ما يفيء بالدين ولو صرفه في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطى وإن كان غنيا، ﴿ وفي سبيل الله ﴾، هم الغزاة٦ الذين لا لهم في الديوان وإن كانوا أغنياء قال بعضهم : والحجاج أيضا، ﴿ وابن السبيل ﴾، المسافر المنقطع عن ماله وإن كان له مال في بلده، ﴿ فريضة من الله ﴾، أي : فرض لهم الزكاة فريضة٧، ﴿ والله عليم حكيم ﴾، يضع الأمور في مواضعها ثم اعلم أن أكثر السلف على أنه لا يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل يجوز٨ الدفع إلى واحد منها وقال بعضهم يجب.
١ ولما جاء ذكر الصدقات ومن يعيب الرسول فيها بين مصرفها فقال: (إنما الصدقات) الآية/١٢ وجيز..
٢ أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" (صحيح، أخرجه أبو داود (١٦٣٣)، والنسائي ٥/٩٩ وغيرهما]، قال البغوي: اختلفوا في حد الغني الذي يمنع أخذ الصدقة، فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله وهو قول مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي: حده أن يملك مائتي درهم وقال قوم: من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة مسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب [صحيح، أخرجه أحمد وإسحاق وأصحاب السنن، وانظر صحيح الجامع (٦٢٧٦)] وهو قول الزهري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وقالوا لا يجوز للرجل أن يعطي الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما..
٣ قاله قتادة..
٤ قاله إبراهيم النخعي..
٥ كذا قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري/١٢..
٦ قيل إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك والأول الأولى لإجماع الجمهور عليه/١٢..
٧ يعني نصب فريضة على أنه مصدر فعل محذوف وجاز أن يكون مصدرا مؤكدا لنفسه فإن قوله "الصدقات للفقراء" دال على فرضيتها/١ منه..
٨ وعليه الأئمة الثلاثة وبعض الشافعية، ويمكن حمل الآية على المذهبين فعلى الأول تكون من قبيل إنما الخلافة للعلوية والعباسية وغيرهم من أصناف قريش على التفضيل، وعلى الثاني تكون من قبيل إنما المال لزيد ولعمرو ولبكر/منه، لكن قال المصنف في الوجيز بعد نقل القول الأول: وفيه بحث؛ لأن الخليفة لا يتعدد/١٢..
﴿ ومنهم١، أي : من المنافقين، ﴿ الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ﴾، الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع كانوا يقولون في شأنه ما لا ينبغي فيقول تعضهم : لا تقولوا ربما يبلغه قولكم فقالوا لا بأس إنه أذن لو ننكر ما قلنا وحلفنا ليصدقنا، ﴿ قل أذن خير لكم ﴾، كأنه قال : نعم أذن، لكن هو أذن خير يسمع الخير ويقبله لا أذن شر فلا طعن ولا ذم بفطنته إلا شرف٢ وشهامته وهو من أهل سلامة القلوب عليه أشرف الصلوات وأكمل التسليمات ثم فسر ذلك بقوله، ﴿ يؤمن بالله ﴾، يصدق به٣ ﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾، يسلم لهم أقوالهم لكونهم صادقين، و﴿ رحمة ﴾ أي : هو رحمة، وقراءة جرها لعطفها على " خير "، ﴿ للذين آمنوا منكم ﴾، وحجة على الكافرين قيل المراد من الذين آمنوا : من أظهر الإيمان حيث لا يكشف سره، ففيه إشارة إلى أن قبول قولكم رفق وترحم منه لا لجهله بلاهته، ﴿ والذين يؤذون٤ رسول الله لهم عذاب أليم ﴾.
١ ولما استطرد في أثناء أصناف المنافقين ذكر الصدقات و بين مصرفها رجع إلى ما هو في صدره فقال: "ومنهم الذين يؤذون النبي وقولون هو أذن" الآية/ وجيز..
٢ كذا بالأصل..
٣ في تفسير يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين إشارة جهة تعدية الأول بالباء والثاني باللام لأنه قصد من الأول التصديق الذي هو نقيض الكفر به نحو "ما أنت بمؤمن لنا" (يوسف: الآية١٧)، ومن الثاني أن يسلم لهم ما يقولون ويصدقه نحو "أنؤمن لك" (الشعراء: ١١١)، "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه" (يونس: ٣٨) /منه..
٤ بأي نوع من الآية..
﴿ يحلفون بالله لكم ﴾، على مدعاهم١، ﴿ ليرضوكم ﴾ بيمينهم، نزلت في قوم من المنافقين، قالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، فلما بلغت مقالتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألهم حلفوا بالله إن المبلغ كذاب، أو في رهط تخلفوا عن غزوة تبوك وحلفوا في معاذيرهم، ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾، بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين فكأنهما واحد، ﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾، صدقا.
١ من غير تحليف/١٢.
.

﴿ ألم يعلموا أنه ﴾، الضمير للشأن، ﴿ من يحادد الله ورسوله ﴾، يشاقق الله ويخالفه، ﴿ فأن له نار جهنم ﴾، تقديره فحق أن له نار جهنم على حذف الخبر، ﴿ خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ﴾، الذل والفضيحة العظيمة.
﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم ﴾، على المؤمنين، ﴿ سورة تنبئهم ﴾، تخبرهم، ﴿ بما في قلوبهم ﴾، من الكفر والحسد وتهتك عليهم أستارهم يعني يقولون القول ويستهزئون، ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي١ علينا سرنا، ﴿ قل استهزءوا إن الله مخرج ﴾، مطهر مبرز، ﴿ ما تحذرون ﴾، ظهوره.
١ في الأصل: يغشي..
﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ﴾، نزلت في ركب من المنافقين قالوا في غزوة تبوك انظروا١ إلى هذا الرجل يريد فتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فلما نزل الوحي دعاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا أن لسنا في شيء من أمرك لكنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر وليقطع الطريق بالحديث واللعب، ﴿ قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ﴾، توبيخا لهم فإنهم كاذبون في عذرهم.
١ كذا قال الكلبي ومقاتل وقتادة/منه..
﴿ لا تعتذروا ﴾، فإني أعلم كذبه، ﴿ قد كفرتم ﴾، أظهرتم الكفر بما قلتم، ﴿ بعد إيمانكم ﴾، بعدما أظهرتم الإيمان، ﴿ إن نعف عن طائفة منكم ﴾، لتوبتهم، ﴿ تعذب طائفة ﴾، منكم ﴿ بأنهم كانوا مجرمين ﴾، مصرين١ على النفاق والاستهزاء، قيل كانوا ثلاثة فعفى الله عن واحد كان يضحك ولا يخوض٢.
١ مصرين على النفاق أو نقول كما قالوا: إن المنافقين صنفان صنف أمر بجهادهم وهم رؤساؤهم وهم المعلنون بالأراجيف قال الله تعالى: "جاهد الكفار والمنافقين" (التوبة: ٧٣)، وهم الذين أخرجوا من المسجد وصنف ضعفة وإن أبطنوا الكفر بكن لم يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعفي عنهم وعلى هذا العذاب والعفو في الدنيا/وجيز.
.

٢ نقله محيي السنة عن محمد بن إسحاق وأنت تعلم أن لفظ طائفة وضمير الجمع في كانوا تنافي أن يكون المعذب اثنين ومن يعفى عنه واحدا/ منه..
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض١، أي : وهم على دين وطرق واحد وبعضهم مشابه ومقارب من بعض كأبعاض الشيء الواحد، ﴿ يأمرون بالمنكر ﴾، بالكفر والمعاصي، ﴿ وينهون عن المعروف ﴾، الإيمان والطاعة، ﴿ ويقبضون أيديهم ﴾، عن الإنفاق في سبيل الله، ﴿ نسوا الله ﴾، تركوا ذكره وطاعته، ﴿ فنسيهم ﴾، تركهم من لطفه وإنعامه، ﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾، الكاملون في التمرد.
١ أراد به تكذيبهم في قولهم "إنهم لمنكم" وتقرير قوله "وما هم منكم" ثم وصفهم بما يدل على اتحادهم ومضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله ويأمرون بالمنكر الخ/ منه..
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾، مقدرين للخلود، ﴿ هي ﴾، أي : النار، ﴿ حسبهم ﴾، كافيهم جزاء على نفاقهم، ﴿ ولعنهم الله ﴾، أبعدهم من رحمته، ﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾، لا تصير النار قط عليهم١ بردا.
١ يعني لهم عذاب مقيم دال على أنهم معذبون في النار دائما بما لا يعتادون بها فلا يكون تكرار مع قوله "خالدين فيها"/١٢ منه.
.

﴿ كالذين ﴾، أي : أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل الذين، ﴿ من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ﴾، بدينهم أو بنصيبهم من ملاذ الدنيا، ﴿ فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾، فحالكم وفعلكم كفعلهم القبيح الشنيع، بين أولا بقوله١ " فاستمتعوا " قباحة طرائقهم ثم شبههم بهم حذو النعل بالنعل، ﴿ وخضتم ﴾، في الكذب والباطل، ﴿ كالذي خاضوا ﴾، أي : كالفوج الذي٢ خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، ﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾، لم يستحقوا عليها في الدارين٣ جزاء، ﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾، دينهم ودنياهم، يعني : كما حبطت أعمال من قبلكم حبطت أعمالكم.
١ إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن قوله "كما استمع الذين من قبلكم بخلاقهم" وهذا كما يقال: أنت مثل فلان كان يقتل ويفسق وأنت تفعل مثل فعله بعينه فلا تكرار/منه وجيز..
٢ يعني أن الظاهر أن يقال كالذين خاضوا فبين وجهه بوجهين/منه..
٣ نقيض قوله: "وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ( النحل: ١٢٢)، منه..
﴿ ألم١ يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح ﴾، أهلكوا بالطوفان، ﴿ وعاد ﴾، بالريح، ﴿ وثمود ﴾، بالصيحة، ﴿ وقوم إبراهيم ﴾، بسلب النعمة وهلاك ملكهم نمرود ببعوض، ﴿ وأصحاب مدين ﴾، قوم شعب بالنار يوم الظلة، ﴿ والمؤتفكات ﴾، قريات قوم لوط ائتفكت بهم انقلبت فصارت عاليها سافلها، ﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾، المعجزات الظاهرات فكذبوهم فأخذوا بتعجيل النقمة، ﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾، بأن عاقبهم لا جرم، ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾، بتكذيب رسلهم فاستحقوا العذاب فنزل عليهم.
١ استفهام إنكار يعني جاء نبأهم فلم يعتبروا حتى تشبهوا بهم/ منه..
﴿ والمؤمنون١ والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾، أي : يتناصرون ويتعاضدون في مقابلة قول :" المنافقون والمنافقات " الآية، ﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾، في جميع ما أمر ونهي، ﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾، لا محالة والسين مؤكدة٢ للوقوع، ﴿ إن الله عزيز ﴾، غالب، ﴿ حكيم ﴾، يضع الأشياء في مواضعها.
١ ولما ذكر المنافقون والمنافقات وأحوالهم في الدارين تعرض في مقابلتهم بحال أضدادهم فقال: "المؤمنون" /١٢ وجيز..
٢ لأن السين في الإثبات مقابلة لن في النفي ولهذا يتمحض للتأكيد من غير قصد على معنى الاستقبال/١٢ منه..
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، تحت أشجارها وغرفها، ﴿ خالدين فيها ومساكن طيبة ﴾، من أنواع الجواهر، ﴿ في جنات عدن ﴾، وقد ورد١ : العدن دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، أو نهر في الجنة جناته على حافتيه، أو أعلى درجة في الجنة، ﴿ ورضوان من الله ﴾، أي : شيء من رضاه، ﴿ أكبر ﴾، من جميع ذلك أو مما يوصف، فإن رضى الله هو المبدأ لكل سعادة وهو المؤدي إلى الوصال واللقاء، ﴿ ذلك ﴾، أي : الرضوان أو جميع ما تقدم، ﴿ هو الفوز العظيم ﴾.
١ نقله بن جرير وابن حاتم عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم/منه.
.

﴿ يا يأيها النبي جاهد الكفار١، بالسيف، ﴿ والمنافقين ﴾، بتغليظ الكلام وترك الرفق، أو بإقامة الحدود عليهم أو بالسيف أظهروا النفاق، ﴿ واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾، مصيرهم.
١ و لما كان في قوله سيرحمهم الله إجمال فصله بقوله "وعد الله" إلخ، ولما بين مخائب الكفار ومقابح المنافقين خاطب رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بقوله: "جاهد الكفار والمنافقين" الآية/وجيز..
﴿ يحلفون١ بالله ما قالوا ﴾، نزلت حين كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالسا في ظل شجرة إذ طلع رجل أزرق فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق وجاء بأصحابه وحلفوا بلله أنهم ما قالوه، أو نزلت في جلاس ابن سويد حين قال : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير ومعه ابن امرأته فأوعده بأن يذكر قوله هذا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذكره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل أقلت كذا وكذا ؟ فحلف، أو نزلت في ابن أبي حين قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر وحلف٢، ﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾، سبه أو تكذيبه، ﴿ وكفروا بعد إسلامهم ﴾، أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان، ﴿ وهمواّ ﴾، قصدوا، ﴿ بما لم ينالوا ﴾، ما قدروا عليه من قتل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في العقبة التي بطريق تبوك، أو من قتل ابن امرأة الجلاس حين أوعد السعاية، أو أرادوا أن يعقدوا على ابن سلول تاجا يباهي به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما سئلوا عن هذه الإرادة حلفوا أنا ما أردنا، ﴿ وما نقموا ﴾، ما أنكروا وما عابوا، ﴿ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ وحاصله أنهم جعلوا الشكاية والعيب موضع الشكر والمدح فإنه ما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته بعدما كانوا في ضنك وضيق، ﴿ فإن يتوبوا يك ﴾، أي : التوب، ﴿ خيرا بهم ﴾، فتاب الجلاس وحسنت توبته، ﴿ وإن يتولوا ﴾، بالإصرار على النفاق ﴿ يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾، ينجهم من عذابه.
١ ولما أمر نبيه بالجهاد والغلظة على الكفار والمنافق وأن مرجعهم ومنزلهم جهنم يعد بعض مساوئهم ليعلم أسباب شقاوتهم فيحرز عنه/ وجيز..
٢ أخرجاه في الصحيحين، وسيأتي.
.

﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾، نزلت١ في ثعلبة بن حاطب التمس الدعاء من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لتكثير٢ ماله وعهد أن لو رزق ليعطي كل ذي حق حقه فلما رزق غنما تضيق بها المدينة أرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في طلب الزكاة منه فأبى وقال : ما هذه إلا أخت الجزية. فلما نزلت الآية جاء بالزكاة فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل منك. فجعل التراب يحثو على رأسه، فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما قبل منه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه.
١ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والحسن وغيرهم/ منه..
٢ أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم هذه القصة بأطول من هذا جدا وفيه قال، يعني رسول الله – صلى الله عليه وسلم- له: يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فقال: ادع الله أن يرزقني مالا. فقال: "اللهم ارزقه مالا"، فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود، حتى ضاقت بها المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ولا يشهدها بالليل، ثم نمت حتى لا يشهد جمعة ولا جنازة [رواه الطبراني وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك، كما في المجتمع (٧/٣٢)]. الحديث/ فتح البيان..
﴿ فلما آتاهم ﴾ : الله ﴿ من فضله بخلوا به وتولوا ﴾، عن طاعة الله، ﴿ وهم معرضون ﴾، قوم عادتهم الإعراض.
﴿ فأعقبهم ﴾، أورثهم الله وجعل عاقبة فعلهم ﴿ نفاقا١، متمكنا٢ ﴿ في قلوبهم إلى يوم يلقونه ﴾، يلقون الله بالموت، ﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه ﴾، من التصدق والصلاح، ﴿ وبما كانوا يكذبون ﴾، وبسبب كذبهم فإن خلف الوعد مستقبح من وجهين الإخلاف والكذب.
١ إشارة بقوله: ممكنا إلى أن ﴿في قلوبهم﴾ ظرف مستقر صفة لنفاقا/ منه..
٢ كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود/ فتح..
﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ﴾، من إضمار النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، ﴿ ونجواهم ﴾، ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية، ﴿ وأن الله علام الغيوب ﴾، فلا يخفى عليه شيء.
﴿ الذين يلمزون ﴾، يعيبون مرفوع أو منصوب بالذم، أو بدل ضمير سرهم، ﴿ المطوعين ﴾، المتطوعين، ﴿ من المؤمنين في الصدقات ﴾، نزلت لما حث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على الصدقة جاء بعضهم بكثير مال وبعضهم الفقراء بالقليل، فقال المنافقون : من أكثر فهو مراء، ومن أقل أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات ﴿ والذين ﴾، عطف على المطوعين، ﴿ لا يجدون إلا جهدهم ﴾، طاقتهم وهم الفقراء، ﴿ فسيخرون منهم ﴾، يستهزءون بهم، ﴿ سخر الله منهم ﴾، جازاهم على سخريتهم، أي : أذلهم، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾.
﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾، أي : ساوى١ استغفارك وعدمه في عدم الإفادة لهم، ﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾، المراد منه التكثير٢ لا العدد المخصوص، ﴿ فلن يغفر الله لهم ﴾، وقد نقل أنه لما نزلت قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :" إن الله قد رخص لي فأزيدن٣ على السبعين٤، لعل الله أن يغفر لهم " حرصا على مغفرتهم٥ فأنزل الله تعالى :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾. وهو من باب حمل اللفظ على ما يحتمل مع العلم بأنه غير مراده، كقول بعضهم : مثل الأمير يحمل على الأدهم. والأشهب في جواب قول الحجاج : لأحملنك على الأدهم. أي : السلسلة إلى٦، ﴿ ذلك ﴾، أي : عدم قبول استغفارك، ﴿ بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾، المتمردين في الكفر، فإن من طبع على الكفر لا ينقطع أبدا ولا يهتدي، فعدم قبول دعائك لا لبخل منا ولا لقصور فيك، بل لعدم قابليتهم.
١ أشار بقوله أي: ساوي إلخ. إلى أن الأمر بمعنى الخبر/ منه..
٢ وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاستعمال [في تفسير البيضاوي مع حاشيته محيي الدين زاده (٢/٣٤٥): لاشتمال]. السبعة على جملة أقسام العدد، أي: التي هي الزائد والناقص والمساوي، فإن ما دون السبعة لا يشتمل على جملتها كما تري فكأنه العدد بأسره/ (قاضي)..
٣ نقله ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما/ وجيز..
٤ وهو من باب حمل اللفظ على ما يحتمله من المعني مع العلم بأنه غير مراده كقول القبعثري: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب في جواب الحجاج لأحملنك على الأدهم أي: السلسلة، وحاصل الكلام أن الكرام لا يرضون إلا بصدق مقالهم في كل حال فحين خاطبه بقوله: لأحملنك على الأدهم وقصد السلسلة تجاهل العارف وقال: مثل الأمير إلى آخره، فإن الأدهم يطلق أيضا على الفرس فتفضل على بهذا وتجاوز عن القصد الأولي كذلك سلك رسول الله صلى الله عليه وسلمفي قول الله يعني صدقها إما يحمل السبعين على الكثرة الغير المحصورة التي هي المراد وإما بحمله على العدد المعين المحصور فتفضل على بأن تتجاوز عن الأول وتترك على الثاني محسنا منعما وهذا توجيه وجيه ما حام حوله أحد من العلماء/وجيز..
٥ نظرا إلي ظاهر ﴿إ ن تستغفر لهم سبعين﴾، فإنه دل على الجواز في الجملة وفي لفظ الترخيص إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بحرمة الاستغفار لهم وما خفي عليه أشرف التحيات أن هذه الآية ليست في بيان رخصة، لكن حرصه وكمال شفقته على أمته جره إلى هذا؛ لكي يرحم الله عليهم بفضله فلا تغفل/١٢ منه..
٦ كذا في الأصل..
﴿ فرح المخلفون بمقعدهم ﴾، بقعودهم١ عن الغزو، ﴿ خلاف رسول الله ﴾، أي : خلفه٢ كما في : أقام خلاف الحي. أي : بعده أو من المخالفة، أي : لمخالفته أو مخالفين له، ﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا ﴾، بعضهم لبعض أو للمؤمنين، ﴿ لا تنفروا ﴾، لغزة تبوك، ﴿ في الحر قل نار جهنم أشد حرا ﴾، وقد اخترتموها بهذه المخالفة، ﴿ لو كانوا يفقهون ﴾، أنها كيف هيأ، أو أن مصيرهم إليها، أو لو أنهم يفهمون و يفقهون لنفروا ليتقوا به من حر جهنم.
١ أشار إلى أن المقعد مصدر/١٢ منه..
٢ على الأول ظرف وعلى الثاني مفعول له وعلى الثالث حال..
﴿ فليضحكوا قليلا ﴾، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره : الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا ﴿ وليبكوا كثيرا ﴾، فإنهم في النار لا يزالون باكين أبد الآباد، ﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾، من النفاق.
﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ﴾، أي : من المخلفين. وليس كل من تخلف عن تبوك منافقا، يعني : إن وصلت إلى المدينة وفيها طائفة منهم، ﴿ فاستأذنوك للخروج ﴾، إلى غزوة أخرى بعد تبوك، ﴿ فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ﴾، إخبار في معنى النهي، ﴿ إنكم رضيتم بالقعود ﴾، استئناف تعليل١ له، ﴿ أول مرة ﴾، هي الخرجة إلى تبوك، ﴿ فاقعدوا٢، حينئذ، ﴿ مع الخالفين٣، أي : الرجال الذين تخلفوا٤ بغير عذر، أو مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى٥ قيل : مع المخالفين.
١ يعني المراد من القلة أيام الدنيا، أخرجه على لفظ الأمر سيضحكون قليلا للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره/منه..
٢ كأنهم قالوا: لم لا نخرج معك؟ فقال: لأنكم رضيتم بالقعود أول مرة / ١٢ وجيز..
٣ وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكر وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته؛ لأن الله سبحانه منع المنافقين من الخروج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد لما علم من مكرهم وخداعهم /لباب..
٤ أي: اقعدوا بعضكم مع بعض/منه..
٥ جمع زمن أزمانه بالفتح جائى ماندكى/١٢ صراح..
﴿ ولاتصل ﴾، صلاة الجنازة، وقيل : لا تدع ولا تستغفر، ﴿ على أحد منهم مات أبدا ﴾، الموت على الكفر موت أبدي، فإن إحياءه للتعذيب أسوء وأسوء من الموت فكأنه لم يحي، ﴿ ولا تقم على قبره ﴾، لا تقف تستغفر، أو تدع له أو لا تتول دفنه، ﴿ إنهم كفروا بالله رسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾، تعليل للنهي، نزلت بعد أن مات ابن١ أبي سلول وهو – صلى الله عليه وسلم - أرسل قميصه الأشراف لكفنه بالتماسه، في مرض موته، وقام ليصلي عليه، وعمر – رضي الله عنه – قام بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والقبلة ؛ لئلا يصلي عليه، فقال الأكثرون : نزلت بعد أن صلى عليه. و قال بعضهم : نزلت حين قام عمر فلم يصل عليه. ولما رأوا أنه ترك بقميصه أسلم من المنافقين يومئذ ألف، وقال بعضهم : إنما ألبسه مكافأة ؛ لأن سلول٢ ألبسه ثوبه يوم بدر العباس، فإنه بين الأسارى ليس له ثوب.
١ قال القرطبي في شرح صحيح مسلم له: إن عبد الله بن أبلي بن سلول كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم، فلما ظهر النبي– صلى الله عليه وسلم- وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة، غير أن الإسلام غلب عليه فنافق و كان رأسا في المنافقين وأعظمهم نفاقا وأشدهم كفرا وكان المنافقون كثيرا حتى لقد روي عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة، وكان ولده عبد الله – يعني ولد عبد الله بن أبي – من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدرا، وكان أبر الناس بأبيه وأحرص الناس على إسلامه، وعلى أن ينتفع من بركات النبي - صلى الله عليه وسلم- بشيء، ولذلك لما مات أبوه سأل النبي – صلى الله عليه وسلم - أن يعطيه قميصه فيكفنه فيه فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه، كل ذلك إكراما لابنه عبد الله وإسعافا له وقول عمر: تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه. يحتمل أن يكون قبل نزول "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا" ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي – صلى الله عليه وسلم- / لباب التأويل المعروف بالخازن..
٢ سلول بالفتح قبيلة من هوازن، وهو اسم أمهم/١٢..
﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ﴾، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله منها على كره والشدائد والمصائب بلا طعم ثواب، ﴿ وتزهق ﴾، تخرج ﴿ أنفسهم وهم كافرون ﴾، فإن الأبصار طامحة على الأموال الأولاد سيما عند المفارقة فيبغضون حكم الله وملائكته.
﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا ﴾، أي : بأن آمنوا، ﴿ بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول ﴾، أصحاب الغنى، ﴿ منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾، الذين قعوا لعذر.
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾، أي : النساء، جمع خالفه١ : أي : بحيث لا يتحرزون عن هذا العار ﴿ وطبع على قلوبهم ﴾، أحدث فيها هيئة تمرنهم على استحباب الكفر واستقباح الإيمان بحيث لا ينفذ فيها الحق كأنه مطبوع مختوم، ﴿ فهم لا يفقهون ﴾، ما فيه صلاحهم ولا ما فيه مضرتهم.
١ قد يقال: الخالفة بمن لا خير له/ منه..
﴿ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ أي : إن لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم ١، ﴿ وأولئك لهم الخيرات ﴾ نقل٢ عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله، ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون.
١ نحو "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" (الأنعام: ٨٩)/ منه..
٢ نقله محيي السنة البغوي/ منه..
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ﴾ فإن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
﴿ وجاء المعذرون ﴾ من عذر إذا قصر أو من اعتذر إذا مهد العذر، ﴿ من الأعراب ليؤذن لهم ﴾ في القعود عن ابن عباس ومجاهد – رضي الله عنهم - هم أهل العذر وقال الحسن وقتادة : اعتذروا فلم يعذرهم الله، ﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ في ادعاء الإيمان، أي : يقعد آخرون من الأعراب المنافقين عن المجيء للاعتذار، وعن الحسن وقتادة الذين كذبوا عبارة عن المعذرون وأتى بالظاهر بدل المضمر إشارة إلى أن كذبهم بعثهم على القعود يعني وقعد عن الحرب من كذب في المعذرة، ﴿ سيصيب الذين كفروا منهم ﴾ فإن منهم من قعد للكسل لا للكفر، ﴿ عذاب أليم ﴾.
﴿ ليس على الضعفاء ﴾ كالزمنى والمشايخ، ﴿ ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ﴾ الفقراء، ﴿ حرج ﴾، إثم في التأخر، ﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ أخلصوا الإيمان والأعمال من الغش١، ﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ إلى عقوبتهم، وضع المحسنين موضع الضمير إشارة إلى أنهم المحسنون، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ للمسيء٢ فكيف للمحسن.
١ ساعية في لإيصال الخير للمؤمنين..
٢ كان ابن أم مكتوم أعمى فخرج إلى (أحد) وطلب أن يعطى اللواء فأخذه فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى فضربت فأمسكه بالصدر وقرأ: "وما محمد إلا رسول" الآية. رضي الله عنه/١٢ وجيز..
﴿ ولا١ على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ هم سبعة نفر من الفقراء التمسوا مراكب للمرافقة في الغزو، ﴿ قلت ﴾ يا محمد حال من مفعول أتوك بإضمار قد :﴿ لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ من الركب، ﴿ تولوا ﴾ جواب إذا وقلت جواب وتولوا استئناف كأنه قيل : كيف صنعوا إذا قيل لهم ذلك ؟ ﴿ وأعينهم تفيض من الدمع ﴾ من للبيان والجار والمجرور في محل نصب على التمييز وهي أبلغ٢ من تفيض دمعها، ﴿ حزنا ﴾ مفعول له أو حال، ﴿ ألا يجدوا ﴾ أي : لئلا متعلق بتفيض أو حزنا، ﴿ ما ينفقون ﴾.
١ عطف على الضعفاء ولا لتأكيد النفي ولا يبعد أن يقال عطف على المحسنين وعلى الوجهين هو من باب عطف الخص على العام لفضيلتهم/ وجيز..
٢ لأنه أسند الفيض إلى العين فجعلت العين كأنها من كثرة البكاء دمع فائض/منه..
﴿ إنما السبيل ﴾ بالمعاتبة والعقوبة، ﴿ على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾ النساء وقبلوا تلك الدناءة، ﴿ وطبع الله على قلوبهم ﴾ حتى لم يذكروا مواعظ الله، ﴿ فهم لا يعلمون ﴾ كّأنهم مجانين.
﴿ يعتذرون إليكم ﴾ في التخلف، ﴿ إذا رجعتم ﴾ من هذه الغزوة، ﴿ إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ لن نصدقكم١ لأنه، ﴿ قد نبأنا الله ﴾ بالوحي، ﴿ من أخباركم ﴾ بعض ما في صدوركم، ﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ في المستأنف أتتوبون أم تستمرون على نفاقكم ؟ وجاز أن يكون معناه يمهلكم حتى تكتسبوا جرائم أخرى، ﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ الذي لايفوت عن علمه شيء، ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ في سركم.
١ إشارة إلى أن قوله: "قد نبأنا الله" مستأنفة يبين علة عدم تصديقهم/منه..
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ بأن لهم في التخلف أعذارا، ﴿ لتعرضوا عنهم ﴾ فلا تعاتبوهم، ﴿ فأعرضوا١ عنهم ﴾ دعوهم ونفاقهم، ﴿ إنهم رجس ﴾ نجس بواطنهم لا يقبل التطهير من النفاق، ﴿ ومأواهم جهنم جزاء ﴾، مفعول له، أو مصدر، ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾ من الآثام.
١ فالإعراض عنهم لازم لأن المعاتبة لا تنفعهم ولا تصلحهم؛ ولأن مأواهم جهنم فكفتهم النار عتابا وتوبيخا فلا تتكلفوا عتابهم، وجاز أن يكون مأواهم جهنم من تتمة الأول قال إنهم رجس من أهل النار فلا تضيعوا معاتبتكم/منه..
﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾ بحلفهم، ﴿ فإن ترضوا عنهم ﴾ بأن تصدقوهم في العذر، ﴿ فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين١ فإنه لا يمكن التلبيس على الله تعلى بوجه والمقصود النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ثمانين من المنافقين أمرنا حين قدمنا المدينة بأن لا نكلمهم ولا نجالسهم.
١ ولما ذكر من أحوال المنافقين ما دل على جهلهم وطغيانهم أخذ يبين تفاوت أحوالهم وعقائدهم فقال: (الأعراب) إلخ/١٢ وجيز..
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ﴾ أي : أهل البدو وكفرهم ونفاقهم أعظم من أهل الحضر لقساوتهم وبعدهم عن العلماء ﴿ وأجدر ﴾، أولى، ﴿ ألا ﴾ بأن لا، ﴿ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾ من الشرائع، ﴿ والله عليم ﴾ بقلوب أهل الوبر والمدر، ﴿ حكيم ﴾ فيما قسم بين عباده وفي الحديث١ ( من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ).
١ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهما/منه. [بل أخرجه أحمد وأصحاب السنن خلا ابن ماجه من حديث ابن عباس مرفوعا بسند صحيح الجامع (٦٢٩٦)].
.

﴿ ومن الأعراب من يتخذ ﴾ يعد، ﴿ ما ينفق ﴾ في سبيل الله، ﴿ مغرما ﴾ غرامة وخسارة لا يرجون ثوابا، ﴿ ويتربص ﴾ ينتظر، ﴿ بكم الدوائر ﴾ دائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم، ﴿ عليهم دارة السوء١ الأمر منعكس والسوء دائر عليهم فلا يرون فيكم إلا ما يسوءهم، ﴿ والله سميع ﴾ لمقالهم، ﴿ عليم ﴾ بضمائرهم.
١ السوء مصدر أضيف إليه للمبالغة كرجل صدق والدائرة اسم فاعل في الأصل سمي بها عقب الزمان/منه..
﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ﴾ يعد ﴿ ما ينفق ﴾ في سبيل الله تعالى ويتصدق به، ﴿ قربات عند الله ﴾ أي : سبب١ قربات، ﴿ وصلوات الرسول ﴾ أي : سبب صلاته فإنه يستغفر ويدعوا للمتصدقين، ﴿ ألا إنها ﴾ أي : نفقتهم، ﴿ قربة لهم ﴾ أي : ما يرجون الحاصل البتة ﴿ سيدخلهم الله في رحمته ﴾ السين للتأكيد، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فيغفر زلاتهم ويدخلهم الجنة برحمته.
١ قوله أي: سبب قربات يمكن أن يكون بيان حاصل المعنى لا أن يكون الكلام على حذف المضاف بل مبنى الكلام على أنه نقس القربات تجوز في الإسناد ونصب قربات على المفعول الثاني/منه..
﴿ والسابقون١ الأولون من المهاجرين ﴾، هم الذين صلوا القبلتين٢، أو من أدرك٣ بيعة الرضوان بالحديبية، أو من شهد٤ البدر، ﴿ والأنصار ﴾ هم الذين آمنوا قبل قدوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم، ﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ بإيمان٥ وطاعة إلى يوم القيامة كسائر الصالحين من أهل السنة وقال بعضهم : المراد بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم٦ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾، أي : تحت أشجارها، ﴿ خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ الجملة خبر لقوله والسابقون.
١ و لما ذكر في مقابلة المنافق الذي يعد ما ينفق مغرما، الأعراب الذين لهم الإيمان وعدوا نفقاتهم قربات وبين مآلهم في الآخرة وصف ومدح من هو أعلى كعبا وأعظم درجة وأقدم مثوبة كأنهم هم المؤمنون فقال: "والسابقون"/١٢ وجيز..
٢ كذا قاله سعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة وغيرهم/منه..
٣ قاله الشعبي/١٢..
٤ قاله عطاء بن أبي رباح/ منه..
٥ قال أبو صخر حميد بن زياد: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فقال: جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت، من أين تقول هذا؟، فقال: اقرأ قول الله تعالى فقال: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" إلى أن قال: "رضي الله عنهم ورضوا عنه"، وقال: "والذين اتبعوهم بإحسان" شرط في التابعين وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة، فقال أبو صخر: فإني لم اقرأ هذه الآية قط/١٢ معالم..
٦ الجنة معدة لهم والباقي من أهل الإيمان إن حال بينهم وبين الجنة ذنوبهم أول الأمر يدخلونها تبعا لهؤلاء العظماء/ وجيز..
﴿ وممن حولكم من الأعراب ﴾ أعراب حوالي المدينة، ﴿ منافقون ومن أهل المدينة ﴾ عطف١ على ممن حولكم وقوله :﴿ مردوا على النفاق ﴾، صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو عطف الجملة على الجملة تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا، تمردوا أو تمهروا، ﴿ لا تعلمهم ﴾ يا محمد بأعيانهم، ﴿ نحن نعلمهم ﴾ فإنه لا يخفى علينا شيء، ﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ فضيحتهم٢ في الدنيا وعذاب القبر ومصائب في أموالهم٣ وأولادهم فهذه لهم عذاب وللمؤمنين أجر وعذاب القبر أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ثم عذاب القبر، ﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾ وهو الخلود في جهنم.
١ فمعناه ومن أهل المدينة منافقون/منه..
٢ هذا قول ابن عباس والكلبي والسدي/منه..
٣ هذا قول الحسن وابن زيد قيل: عذاب القبر وفضيحتهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد/منه..
﴿ وآخرون ﴾ من أهل المدينة١ لا من المنافقين، ﴿ اعترفوا بذنوبهم ﴾ في التخلف عن الغزو، ﴿ خلطوا عملا صالحا ﴾ كصلاتهم وإنابتهم وغيرهما، ﴿ وآخر سيئا ﴾ كتقاعدهم عن تلك الغزوة كسلا، قيل : الواو بمعنى الباء كما في بعت الشاة شاة ودرهما أي بدرهم، والأولى أن الواو على أصله دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر كما تقول : خلطت الماء واللبن، أي : خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ يقبل توبتهم، ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلقوا عن تبوك ثم إذا رجعت الغزاة عن غزوتهم ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت حلهم وعفا عنهم.
١ فإن من أهل المدينة قسمان منافق ومؤمن والمراد من آخرون القسم الثاني /منه..
﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾، نزلت لما أطلق هؤلاء الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا تصدق بها وطهرنا فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :" ما أمرت بأخذ شيء من أموالكم "، ﴿ تطهرهم ﴾عن الذنوب، ﴿ وتزكيهم١ بها ﴾ ترفعهم بهذه الصدقة إلى منازل المخلصين، ﴿ وصل٢ عليهم ﴾ ادع لهم، ﴿ إن صلاتك سكن ﴾ طمأنينة ورحمة ووقار، ﴿ لهم والله سميع ﴾ بدعائك، ﴿ عليم ﴾ بما هو أهل له أو سميع باعترافهم عليهم بندامتهم.
١ قال السيوطي: فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها على سبيل الكفارة لذنوبهم. فيه أن كل من أتى ذنبا يسن له التصدق/فتح..
٢ واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة قال بعضهم: يجب وقال بعضهم: يستحب، وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع، وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذا أتى بصدقة قال: "اللهم صل على آل فلان" فأتاه أبي بصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"/فتح..
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾ تعديته بعن لتضمنه معنى التجاوز، ﴿ ويأخذ الصدقات١ يقبلها وهذا تهييج إلى التوبة والصدقة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الصدقة تقع في الله قبل أن تقع في يد كالسائل، ﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ يقبل توبة تائبين ويتفضل عليهم.
١ وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث يطول ذكرها / فتح.
.

﴿ وقل اعملوا ﴾ يا معشر المخالفين، ﴿ فسيرى الله عملكم ﴾ لا يخفى عليه شيء، ﴿ ورسوله والمؤمنون ﴾ فإن الله يطلعهم على أعمالكم لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة يوم تبلى السرائر، ﴿ وستردن إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ بالموت ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بالمجازاة عليه فعلى هذه الآية وعيد أو معناه يا معشر المحسن والمسيء اعملوا فلا يخفى على الله خير وشر والله يطلع الرسول والمؤمنين على ما في قلوبكم فيحبون المحسن ويبغضون المسيء ثم يوم القيامة يجازيكم فعلى هذه الآية وعد ووعيد.
﴿ وآخرون ﴾ من المتخلفين، ﴿ مرجون ﴾ مؤخرون يعني : موقوف أمرهم، ﴿ لأمر الله ﴾ في شأنهم، ﴿ إما يعذبهم ﴾ لم يقبل توبتهم، ﴿ إما يتوب عليهم ﴾ يقبل توبتهم، ﴿ والله عليم ﴾ بمن يستحق العقوبة، ﴿ حكيم ﴾ فيما يفعل والمراد منهم الثلاثة الذين خلفوا من جملة من قعد كسلا لا نفاقا ولم يربطوا أنفسهم بالسراري ولم يبالغوا في التوبة كما فعل أبو لبابة وأصحابه فنزلت توبتهم بعد خمسين ليلة بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت١.
١ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن لا يكلموهم ولا يجالسوهم بوجه كما سيجيء في آخر السورة/ منه..
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي : وفيمن وصفنا من المنافقين الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص، ﴿ ضرارا ﴾ مفعول له أو مصدر محذوف الفعل، أي مضارة للمؤمنين، ﴿ وكفرا ﴾ أي : تقوية للكفر، ﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾ فإنهم يجتمعون في مسجد قباء فأرادوا افتراقهم، ﴿ وإرصادا ﴾ ترقبا، ﴿ لمن حارب الله ورسوله ﴾ أبي عامر الراهب، ﴿ من قبل ﴾، متعلق بحارب١، ﴿ وليحلفن إن أردنا ﴾، أي : ما أردنا ببنائه، ﴿ إلا الحسنى ﴾، أي : إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة فيه والتوسعة على المسلمين، ﴿ ولله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ في حلفهم كان بالمدينة أبو عامر الراهب تنصر في الجاهلية وما آمن بمحمد عليه السلام وبعد البدر التحق بقريش وحثهم على المحاربة وكان معهم في أحد ثم ذهب إلى عظيم الروم وكتب إلى أعوانه من المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش لمحاربة الإسلام وأمرهم ببناء مسجد له فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء إرصادا لرجوعه من القيصر فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وقالوا : أتممنا مسجدا للضعفاء وأهل العلة والليلة المطيرة نلتمس أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة فنزلت في تكذيبهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدموه وأحرقوه٢.
١ فإن الراهب مل يزال يحارب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى يوم حنين كذا قله محي السنة /منه.
.

٢ فيه تحريق أمكنة المعصية التي يعصي الله ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلي فيه يذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وكل مكان هدا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع من له، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي يدعو سدنتها إلى اتخاذ فيها من فيها أندادا أحق بذلك وواجب وكذلك محال المعاصي والفسوق كالخانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكمالها يباع فيها الخمر وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقا، وأحرق قصر سعد عليه ملما احتجب فيه عن الرعية، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تارك حضور الجماعة والجمعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا يجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك هذا ما قاله الحافظ شمس الدين ابن قيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، وأيضا قال فيه: وهدم مواضيع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام و المسلمين من هدم الحانات و المواخر وهذه المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله تعالى ويشرك بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها وللإمام أن يقطعها لجند الإسلام ويستعين بها على مصالح المسلمين كما أخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- بيوت هذه الطواغيت وكذلك ما فيها من الآلات والمتاع والنذور التي تساق إليها يضاهي لها الهدايا التي تساق البيت للإمام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين، كما أخذ النبي – صلى الله علي وسلم- أموال بيوت هذه الطواغيت وصرفها في مصالح الإسلام وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد سواء من النذور لها والتبرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها، هذا شرك القوم بها ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض؛ بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه انتهى بلفظه..
﴿ لا تقم فيه ﴾ في ذاك المسجد، ﴿ أبدا ﴾ للصلاة، ﴿ لمسجد أسس ﴾ بني أصله، ﴿ على التقوى ﴾ على طاعة الله ورسوله، ﴿ من أول يوم ﴾ من أيام وجوده، ﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾ للصلاة جماعة من السلف على أنه مسجد قباء منهم ابن عباس رضي الله عنهما وبعض منهم على أنه المسجد الذي في جوف المدينة وعليه حديث صحيح وقال بعضهم١ لا منافاة ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى فمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأخرى ولي في هذا التوفيق خدشة٢ والله تعالى أعلم، ﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ من الأحداث والنجاسات هم أهل قباء كان من عادتهم أنهم يستعملون الماء في الاستنجاء عقيب الحجر قيل : ولا ينامون على الجنابة وقيل : يتطهرون بالتوبة عن الشرك والمعاصي، ﴿ والله يحب المطهرين ﴾ يرضى عمن طهر ظاهره وباطنه.
١ في (ن): وبعض العلماء.
٢ لأن في كلامه مشعر بأنه سلم أن المراد من قوله: "لمسجد أسس" هو مسجد قباء لكن مسجد المدينة أولى بالقيام فيه وهذا مسلم لكن لا ينفعه في التوفيق كما ترى، لأن الخلاف في أن المراد من قوله: "المسجد أسس" أي مسجد هو و الحديث الصحيح على أنه المسجد الذي هو في جوف المدينة قال صاحب الكشاف: أقول ومع بيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يعبأ بقول غيره أما ما رواه أبو داوود والترمذي أن فيه رجال إالخ... نزلت في أهل قباء [صحيح، انظر صحيح الترمذي (٢٤٧٦)، فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما رواه ابن ماجة عن أبي أيوب وجابر وأنس أن، هذه الآية فيه رجال إلخ... لما نزلت قال عليه الصلاة والسلام واقفا على باب مسجد القباء(إن الله قد أثنى عليكم يا معشر الأنصار في الطهور فما طهوركم)، فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده من الأنصار/منه..
﴿ أفمن أسس بنيانه ﴾ أي : بنيان مبنية، مصدر كالغفران، ﴿ على تقوى من الله ﴾ أي : على قاعدة محكمة قوية هي التقوى من مخالفته، ﴿ ورضوان ﴾ وطلب مرضاته، ﴿ خير أم من أسس بنيانه ﴾ أي : بيان مبنيه، ﴿ على شفا جرف هار ﴾ جانب واد من أودية جهنم تكاد تسقط على جهنم والشفا الحرف وجرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا والهار المنصدع الذي أشفى على السقوط قيل حاصله أنه على قاعدة ضعيفة رخوة تكاد تسقط، ﴿ فانهار به ﴾ طاح ببانيه وأسقطه، ﴿ في نار جهنم ﴾ قد صح١ عن بعض٢ الصحابة أنه رأى الدخان يخرج من هذه الأرض حين حفر وهو اليوم مزبلة، ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إلى ما فيه صلاحهم.
١ أخرجه الحاكم والمسدد وابن جرير وغيرهم/ فتح..
٢ هو جابر بن عبد الله وقتادة وغيرهما/ منه..
﴿ لا يزال بينانهم ﴾ أي : مبنيهم مصدر أريد به المفعول، ﴿ الذي بنوا ﴾ صفة لبنيانهم وجاز أن يكون بنيانهم على معناه المصدري والذي بنوا مفعوله، ﴿ ريبة في قلوبهم ﴾ سبب شك ونفاق فإنهم بنوا للكفر والتفريق فلما خربوه ازدادوا غيظا وحسدا وعضا، ﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ بالموت والاستثناء من أعم الأزمنة، أي : يسألون عنه حينئذ، ﴿ والله عليم ﴾ بأعمال الخلائق، ﴿ حكيم ﴾ في مجازاتهم من خير وشر.
﴿ إن١ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾، التي هو خلقها ﴿ وأموالهم ﴾ التي هو رزقها، ﴿ بأن لهم الجنة ﴾ تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيل الله الجنة، ﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾ استئناف ببيان ما لأجله الشرى، ﴿ وعدا عليه حقا ﴾ مصدران مؤكدان٢ فإن الاشتراء بالجنة يستلزم الوعد بها، ﴿ في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾، أي : هذا الوعد الذي وعده للمجتهدين ثابت فيهما كما هو ثابت في القرآن، قال بعضهم : الأمر بالجهاد في جميع الشرائع، وقال بعض : كتب فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن، ﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾، يعني لا أحد أو في بما وعد " ومن أصدق من الله قيلا " ( النساء : ١٢٢ )، ﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي، ﴿ وذلك هو الفوز العظيم ﴾ نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال :" لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم "، قالوا : فما لنا ؟ قال :" الجنة "، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل٣.
١ ولما ذكر أنهم مطروحون في جهنم أسفل السافلين بين أن مقابليهم في الجنة أعلى عليين، فقال: "إن الله اشترى" الآية/ وجيز..
٢ (وعدا) مصدر مؤكد لنفسه و(حقا) مصدر مؤكد لغيره/منه..
٣ صحيح..
﴿ التائبون ﴾ أي : هم التائبون مدحهم الله تعالى به، ﴿ العابدون ﴾ بالإخلاص، ﴿ الحامدون ﴾ لله تعالى على كل حال، ﴿ السائحون ﴾ الصائمون١ كما ورد " سياحة أمتي الصوم " يعني في رمضان، وقيل : من يديم الصوم، أو المجاهدون أو طلبة٢ العلم، ﴿ الراكعون الساجدون ﴾ المصلون، ﴿ الآمرون بالمعروف ﴾ بالإيمان والطاعة، ﴿ والناهون عن المنكر ﴾ عن الشرك والمعاصي وجاء بحرف العطف إشارة إلى أن ما عطف عليه في حكم خصلة٣ واحدة، ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ القائمون بطاعته وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل، قال بعض العلماء : هذه الثلاثة في حكم خصلة واحدة، يعني : يرشدون الخلائق إلى الطاعة بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله تعالى في تحليله وتحريمه وعلى هذا وجه للعطف أظهر، ﴿ وبشر٤ المؤمنين ﴾ أي : الموصوفين بتلك الفضائل وذكر لفظ المؤمنين دون الضمير للإشعار بأن الإيمان داع إلى ذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه شيء لا يمكن بيانه.
١ هو قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم/ منه..
٢ قول عكرمة لأنهم يسيحون في الأرض يطلبون العلم من مظانه/ منه..
٣ ولهذا جاء بالواو فإنه جاء بغير حرف العطف لناسب أن يكون مثل الخصال المتقدمة خصلة على حيالها/ منه..
٤ وفي الآية الأولى أمرهم بالاستبشار وفي هذه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبشرهم ومن أين إلى أين، ولمت بشر المؤمنين بالجنة وأنهم هم الين اشتروها علم أن ليس للكافرين نصيب فالاستغفار لهم ظلم ولا يجوز للمؤمنين الظلم فأراد منعهم، وقال: "ما كان للنبي والذين آمنوا" الآية، وأيضا لما بين في أول السورة وجوب البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه يجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب كالأب والأم كما وجبت عن أحيائهم والمقصود ببيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب/ كذا في الكبير والوجيز.
.

﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ بأن ماتوا على الكفر نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب١ أو لأبيه٢ وأمه حين استأذن المسلمون أن يستغفروا لأبويهم.
١ هكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وغير واحد/منه..
٢ قاله أبو هريرة وفي مسلم ما يدل على ذلك/منه..
﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها ﴾ إبراهيم، ﴿ إياه ﴾ بقوله : لأستغفره لك، أي : أطلب المغفرة من الله، أو وعدها أبوه إياه أي : إبراهيم وهي عدته بالإيمان والأول١ أصح عن علي رضي الله عنه أني سمعت رجلا يستغفر لأبويه المشركين فنهيته، فقال : ألم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه فذكرت ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم – فنزل " ما كان للنبي " إلى قوله :" إن إبراهيم لأواه حليم " ٢ ولما استأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه فلم يأذن رحم عليها وبكى فجاء جبريل عليه السلام لقوله :" وما كان استغفار إبراهيم " الآية وقال : تبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، ﴿ فلما تبين له ﴾ بالوحي أو بموته على الكفر، ﴿ أنه عدو لله تبرأ منه ﴾ ما دعا له بعد، ﴿ إن إبراهيم لأواه ﴾ متضرع كثير الدعاء أو الرحيم٣ أو الموقن٤ بلسان الحبشة أو المؤمن٥ التواب أيضا بلسانهم أو المسبح أو كثير٦ الذكر والتسبيح أو فقيه٧ أو يتأوه٨ من الذنوب كثيرا نقل أنه عليه السلام يتنفس تنفس الصعداء كثيرا ويقول آه من النار قبل أن كثيرا لا ينفع آه، ﴿ حليم ﴾ صبور على الأذى صفوح.
١ لقوله تعالى: ﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم﴾ الممتحنة الآية..
٢ حسن، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٧٧)..
٣ قول الحسن وقتادة.
.

٤ قول مجاهد..
٥ قول ابن عباس..
٦ قول عتبة بن عامر..
٧ قول النخعي..
٨ قول كعب الأحبار..
﴿ وما كان الله ليضل قوما ﴾، ليحكم عليهم بالضلالة ويؤاخذهم، ﴿ بعد إذ هداهم ﴾ للإسلام، ﴿ حتى يبين لهم ما يتقون ﴾ أي : ما يجب اتقاؤه والغافل غير مكلف فلا نؤاخذكم باستغفاركم أبويكم المشركين قبل أن تعلموا أنه خطر حرام لكن لما بينت حرمته إن عدتم إليه ليتحقق الضلال قال١ بعضهم : نزلت في قوم عملوا بالمنسوخ قبل أن يعلموا نسخه، ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾.
١ المقاتل والكلبي.
.

﴿ إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ فتبرءوا عن المشركين وتوجهوا إلى الله تعالى بالكلية.
﴿ لقد١ تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ﴾، أي : في وقت العسرة، يعني غزوة تبوك، فإنها في وقت شدة وحر وقلة زاد وماء ومركوب، ﴿ من بعد ما كاد ﴾ اسم ما كاد ضمير الشأن، ﴿ يزيغ قلوب فريق منهم ﴾، تميل عن الحق، فإن كثيرا منهم هموا بالتخلف ثم عصمهم الله تعالى فلحقوا أو لما نالوا شدائدها من الجوع وغاية العطش والحر كادوا يشكون في دين الإسلام وأما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى :" لقد تاب الله على النبي " معهم فلأنه أذن للمنافقين في التخلف قبل إذن الله تعالى وقال بعض افتتح به الكلام لأنه كان صلى الله عليه وسلم سبب توبتهم فذكره معهم، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾، تكرير للتأكيد، فإنه لما ذكر ذنبهم أعاد ذكر توبتهم، ﴿ إنه بهم رءوف٢ رحيم ﴾.
١ لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنا عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها ومن بقية تلك الأحكام أنه صدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - نوع زلة جارية مجرى تلك الأولى وصدر أيضا عن المؤمنين نوع زلة فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم فقال: "لقد تاب الله" الآية/ كبير..
٢ ولهذا قبل توبتهم/ وجيز..
﴿ وعلى الثلاثة ﴾ عطف على النبي، ﴿ الذين خلفوا ﴾ أي : خلف الله تعالى أمرهم عمن ربط نفسه بالسواري وعمن اعتذر بالأكاذيب قيل : خلفوا١ عن الغزو، ﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾، أي : برحبها٢ ووسعتها وهو مثل لشدة الحيرة فإنهم مهجورون بالكلية في المعاملة والمجالسة والمكالمة، ﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ قلوبهم من كثرة الهم، ﴿ وظنوا ﴾ علموا، ﴿ أن لا ملجأ من الله ﴾ من سخطه، ﴿ إلا إليه ﴾ بالتضرع والاستغفار، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾ وفقهم للتوبة أو رجع عليهم بالرحمة، ﴿ ليتوبوا ﴾ أو قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل إن صدر عنهم خطيئة أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم، ﴿ إن الله هو التواب الرحيم ﴾ يقبل توبة العباد بمحض رحمته وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلاب بن أمية٣ الواقفي.
١ والأول أولى، لأن حتى غايته فلا يحتاج إلى تكلف بخلاف المعنى الثاني/ وجيز..
٢ فما مصدرية وهو مثل لشدة الحيرة كأنهم لا يجدون فيها محلا يقرون فيه..
٣ وهم من كبار الصحابة واثنان منهم من أهل البدر كما في الصحيحين وليسوا بمنافقين أبدا/ وجيز..
﴿ يا يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾١ في نياتهم وأعمالهم أو في الاعتراف بالذنب لا كمن اعتذر بالأكاذيب والخطاب لأهل الكتاب، أي : كونوا مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
١ ولا تفارقوهم/وجيز..
﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول١ الله ﴾ نهي بصيغة النفي للمبالغة، ﴿ ولا يرغبوا ﴾، أي : ولا أن يرغبوا، ﴿ بأنفسهم عن٢ نفسه ﴾ لا أن يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه الأشرف عنه، ﴿ ذلك ﴾ أي : النهي عن التخلف ووجوب الموافقة، ﴿ بأنهم ﴾ بسبب أنهم، ﴿ لا يصيبهم ظمأ ﴾ عطش، ﴿ ولا نصب٣ تعب، ﴿ ولا مخمصة٤ مجاعة، ﴿ في سبيل الله و لا يطئون ﴾ لا يدوسون، ﴿ موطئا ﴾ مكانا، ﴿ يغيظ ﴾ وطؤه، ﴿ الكفار ﴾ يضيق صدورهم ويغضبهم، ﴿ ولا ينالون من عدو نيلا ﴾ قتلا وأسرا أو غنيمة وغلبة، ﴿ إلا كتب لهم به ﴾ بكل واحد من الظمأ وغيره، ﴿ عمل صالح ﴾، إلا استوجبوا الثواب والاستثناء المفرغ في موقع الصفة للنكرة قبله أو الحال٥، ﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ على إحسانهم وهو كالعلة لكتب.
١ فإنه النبي الصديق وقد أمرنا بقوله: (كونوا مع الصادقين) /وجيز..
٢ أي: وما استقام لهم أن يجعلوا أنفسهم راغبة عن نفسه متباعدة مترفعة عنها والحقيقة هذا أمر بضده وهو أن يصحبوه في البأساء والضراء..
٣ من عطف العام على الخاص..
٤ من عطف الخاص على العام..
٥ فيكون الأمر بوجوب الموافقة رحمة وشفقة عليهم/ وجيز..
﴿ ولا ينفقون نفقة ﴾ في سبيل الله، ﴿ صغيرة ولا كبيرة ﴾ قليلا ولا كثيرا، ﴿ ولا يقطعون ﴾ في سفرهم، ﴿ واديا ﴾ ألرضا، ﴿ إلا كتب لهم ﴾ أثبت لهم كل من الإنفاق والقطع، ﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ أي : يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم١.
١ قدمت الجملة السابقة وتأخرت الجملتان؛ لأنها أشق على النفس وأنكى على العدو وأعلى وأنيل أجرا؛ لأن هاتين المؤخرتين من خواص الأسفار لا اختصاص لهما بالغزو فأثبت لهما جزاء أحسن من العمل بخلاف الأول فإنهم وصلوا إلى أعلى رتبة الإيمان، وهي الإحسان ولما أعلم بما في الغزو من الأجر الجزيل وعلم أن الصحابة مولعون به صار مظنة أن لا يقف ولا يتوقف عند النبي – صلى الله عليه وسلم- إن جهز المسلمين إلى الغزو فقال: "وما كان المؤمنون" / وجيز..
﴿ وما كان المؤمنون ﴾ ما استقام لهم، ﴿ لينفروا كافة ﴾ أي : جميعا لغزو نزلت حين بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السرايا بعد تبوك ينفر المؤمنون جميعا إلى الغزو حذرا مما أنزل الله تعالى في تخلف المنافقين عن تبوك فيتركون رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ﴿ فلولا ﴾ أي : هلا، ﴿ نفر من كل فرقة منهم ﴾ جماعة كثيرة، ﴿ طائفة ﴾ جماعة قليلة، ﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾ أي : ليحصل القاعدون الفقه والقرآن١ وأحكامه، ﴿ ولينذروا٢ قومهم ﴾ : ليعلموا النافرين وخوفوهم لما نزل من الوحي، ﴿ إذا رجعوا ﴾ من الغزو، ﴿ إليهم لعلهم يحذرون٣ عما ينذروا عنه أو ليتفقه النافر أي : ليتبصروا بالغلبة على المشركين وينظروا صنائع الله تعالى ثم إذا رجعوا ينذروا قومهم من الكفار ويخبرهم بنصرة الدين لعلهم يحذرون، أو نزلت حين نزلت أحياء العرب المدينة فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم بالعذرات وحينئذ معنى الآية ظاهر، أو نزلت حين خرج بعض الصحابة في البوادي فأصابوا منهم معروفا ودعوا الناس إلى الهدى فقال أهل البوادي فأصابوا : ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم فرجعوا كلهم إلى المدينة فقال تعالى هلا رجع طائفة منهم يستمعوا ما أنزل الله تعالى بعدهم من الوحي ولينذروا ويخبروا قومهم أي : أهل البوادي بالفقه الذي تعلموه إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد ذكر في وجه النزول غير ما ذكرنا أيضا.
١ في صحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال محي السنة البغوي: الفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، وكذلك كل عبادة، أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل علم الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه وأما فرض الكفاية هو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا فإذا قعد أهال بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام من كل بلد واحد يتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما تقع لهم من الحوادث..
٢ دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم، لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق ويحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين فكل من تفقه لهذا الأمر كان على المنهج القويم والصراط المستقيم، ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا/ مفاتيح الغيب المعروف بالكبير..
٣ لما أمرهم بالغزو وعلمهم وظيفة النفر شرع يعلمهم كيفية نفرهم إلى الأعداء: "يا يأيها الذين آمنا قاتلوا الذين يلونكم" الآية /وجيز.
.

﴿ يا يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب ولهذا لما فرغوا عن جزيرة العرب شرعوا في الشام، ﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ شدة في القتال وصبرا، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾، بالإعانة١ والحفظ.
١ والقتال مع عدو الله بالصبر من شعائر التقوى..
﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم ﴾ المنافقين، ﴿ من يقول ﴾ أي : يقول بعضهم لبعض استهزاء وتثبيتا على النفاق، ﴿ أيكم زادته هذه ﴾ السورة، ﴿ إيمانا فأما الذين آمنا فزادتهم إيمانا ﴾ بزيادة المؤمن به أو لزيادة١ عمله الحاصل منها، ﴿ وهم يستبشرون ﴾ بنزولها.
١ أو لزيادة إيمانه وقوة يقينه في الإيمان..
﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض ﴾ كفر ونفاق، ﴿ فزادتهم رجسا ﴾ كفرا، ﴿ إلى رجسهم ﴾ الذي كانوا عليه، ﴿ وماتوا وهم كافرون١.
١ وهذا شقاوة لا شيء بعدها..
﴿ أولا يرون ﴾ أي : المنافقون، ﴿ أنهم يفتنون ﴾ يختبرون بالسنة والقحط أو الغزو والمصائب، ﴿ في كل عام مرة أو مرتين ﴾ لأن يتنبهوا، ﴿ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾ لا يعتبرون.
﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ فيها عيب المنافقين، ﴿ نظر بعضهم إلى بعض ﴾ إنكارا لها وسخرية أو تدبيرا للفرار قائلين، ﴿ هل يراكم من أحد ﴾ يعني من المسلمين إن قمتم من الخطبة١ والمسجد فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا أقاموا، ﴿ ثم انصرفوا ﴾ عن حضرته، ﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ عن الإيمان دعاء أو إخبار، ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون٢ عن الله دينه.
١ فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرأ سورة القرآن في خطبته/ وجيز..
٢ ولما تم جميع ما أراد بيانه في تلك السورة خاطب الكل بما هو فذلكة الكتاب وأصله ومقصوده فقال ﴿لقد جاءكم رسول﴾ الخ/ وجيز..
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ تعرفون حسبه ونسبه، ﴿ عزيز ﴾ شديد شاق، ﴿ عليه ما عنتم ﴾ أي : عنتكم١ ومضارتكم، ﴿ حريص عليكم ﴾ على صلاحكم وإيمانكم، ﴿ بالمؤمنين٢ رءوف ﴾ له شدة الرحمة على المطبعين، ﴿ رحيم ﴾ على المذنبين لكن غليظ شديد على الكافرين٣.
١ فما مصدرية/١٢..
٢ في قوله بالمؤمنين من باب التنازع بالرءوف والرحيم..
٣ كما دل تقديم المؤمنين تخصيصهم بالرأفة والرحمة..
﴿ فإن تولوا ﴾ عن الإيمان وقاتلوك، ﴿ فقل حسبي الله ﴾ في الحماية والنصرة، ﴿ لا إله إلا هو عليه توكلت ﴾ فلا أرجو ولا أخاف غيره، ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلق تحته وعن بعض السلف أن آخر ما نزل هاتان الآيتان.
Icon