سورة مدنية، وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية، وسميت "سورة الرعد" لقوله تعالى فيها :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة.... ١٣ ﴾ ولو سميت الكون والهداية لكانت التسمية محكمة.
وقد ابتدأت بالحروف المفردة﴿ آلمر ﴾، وأعقبها بإشارة إلى القرآن الكريم :﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾.
ثم بعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى ما في الكون مما يدل على قدرة القادر ووحدانيته، فالله هو الذي رفع السماوات بغير عمد مرئية، ولكن عدم رؤيتها لا ينفي وجودها، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، فسبحان الذي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.
وهو الذي مد الأرض وبسطها، وجعل فيها جبالا رواسي، وأنهارا وجعل من كل الثمرات، ومن كل من الحيوان وكل الأحياء زوجين اثنين، وجعل الليل والنهار آيتين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وجعل في الأرض قطعا متجاورات وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، ومع أنها متجاورة وتسقى بماء واحد، يفضل الله بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
وإن هذا الكون وما فيه يدل على أن الذي قدر على خلق الإنسان قادر على إعادته، كما بدأكم تعودون، ﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون٥ ﴾. وقد استرسلوا في إنكارهم النبوات، والبعث، وإذا أنذروا بالعذاب واستعجلوه إمعانا منهم في الإنكار، ﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ﴾.
وإنهم لينكرون المعجزات التي جاءت دالة على رسالة الرسول الذي أرسل إليهم، ويتجرءون على الله باقتراح معجزات، وينكرون أن يكون غيرها آية﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هود٧ ﴾. ثم يبين سبحانه إحاطة علمه، ﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وماتزدادوكل شيء عنده بمقدار ٨عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال٩ سواء منكم من من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ١٠ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ١١ ﴾.
ثم يبين الله سبحانه عجائب خلقه﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ١٢ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء... ١٣ ﴾، ينشئ كل ذلك، ويرونه عيانا ومع ذلك يجادلون في شأن الله تعالى﴿... وهو شديد المحال١٣ ﴾.
ويبين الله تعالى الحقائق التي يجب أن يذعن لها المؤمن، ﴿ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال١٤ ﴾، وبين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن كل ما في الوجود ومن في الوجود خاضع له بمقتضى التكوين طوعا وكرها، ونبه سبحانه إلى أنه خالق السموات والأرض فسألهم﴿.... من رب السموات والأرض... ١٦ ﴾ووبخهم على اتخاذهم آلهة من دون الله﴿.... قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل يستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء.... ١٦ ﴾.
وضرب الله مثلا بين الحق والباطل، فقال تعالى :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ١٧ ﴾.
وبعد ذلك يبين جزاء الذين يستجيبون، ويشير إلى الذين يكفرون وهم الذين لم يستجيبوا له﴿.... لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ١٨ ﴾.
ويبين الله على طريقة الاستفهام فيقول ( افمن يعمل انما انزل اليك من ربك الحق كمن هو اعمى انما يتذكر اولوا الالباب١٩ )ويبين أوصاف أهل الحق بأنهم :﴿.... يوفون بعهد الله ولا ينقضون اليثاق٢٠ ﴾. و﴿... يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب٢١ ﴾، وهم الذين﴿... صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة... ٢٢ ﴾، ثم يبين جزاءهم في الآخرة فيقول :﴿.... أولئك لهم عقبى الدار٢٢ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب٢٣ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار٢٤ ﴾
وبين الله سبحانه وتعالى أوصاف الكفار، وهي نقيض أوصاف المؤمنين فهم :﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض... ٢٥ ﴾ وجزاؤهم بينه سبحانه بقوله :﴿... أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار٢٥ ﴾.
وقد كان المشركون يتخذون من بسط الرزق وضيقه دليلا على الفضل عند الله، وإذا كان الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فقيرا، ومجيبوه من الفقراء فقد ظنوا أنهم أولى، فقال تعالى :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع٢٦ ﴾.
وقد طلبوا آيات أخرى مادية، وما كانوا ليؤمنوا إذا جاءتهم، فقال تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب٢٧ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب٢٨ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب٢٩ ﴾.
ثم بين سبحانه أن مثل هذه الآيات جاءت من قبلهم ولم يؤمنوا، فقال تعالى :﴿ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب٣٠ ﴾.
ويبين منزلة معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن فيقول تبارك وتعالى :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد٣١ ﴾.
وإذا كانوا يستهزئون بك وبمن معك فقد استهزئ برسل من قبلك ﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب٣٢ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد ٣٣ لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق٣٤ ﴾.
وبعد بيان عذابهم في الدنيا والآخرة ذكر الجنة التي ينالها المؤمنون، فقال سبحانه :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ٣٥ ﴾.
وبين سبحانه وتعالى موقف اليهود من القرآن والنبي، فقال تعالى :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مئاب ٣٦ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ٣٧ ﴾.
ولقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الله أرسل رسلا من قبله من البشر لهم أزواج وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، يمحو الله ما يشاء من الآيات، ويثبت، وعنده أم الكتاب، وهو التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا ومهما يكن من أمر المشركين، فإما نزينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وإما نتوفينك. فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
ولقد بين سبحانه وتعالى العبر، وقدرة الله تعالى ليعتبروا فلم يعتبروا :﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب٤١ ﴾، وبين سبحانه أنهم يدبرون تدبيرهم الخبيث والله يعلم ما تكسب كل نفس﴿... وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ٤٢ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ٤٣ ﴾.
ﰡ
آلمر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ١ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ٢ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهار ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ٣ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون٤
﴿ آلمر ﴾ هذه حروف مفردة، وقد تكلمنا عن هذه الحروف وقلنا : إنها من المتشابه الذي استأثر علم الله تعالى به، ولسنا من الذين زاغت قلوبهم، يتبعون ما تشابه ابتغاء تأويله، ولكنا نلتمس الحكم في ابتداء السور بهذا، وقد حاولنا تلمس هذه الحكم، وقلنا : إن أكثر السور التي ابتدأت بهذه الحروف يذكر بعدها أمر الكتاب بالإشارة إليه تعالت كلماته، ويقولون في مقام هذه الحروف من الإعراب : إنها اسم للسور أو الكتاب. وتعرب على أنها مبتدأ، خبره :﴿ تلك آيات الكتاب ﴾، والإضافة إليها باعتبارها جزءا من آيات الله، فالإضافة في قوله تعالى :﴿ تلك آيات الكتاب ﴾ إضافة بمعنى ( من )، أي إن تلك آيات من كتاب الله، أو الإضافة بيانية، أي تلك آيات هي الكتاب. من قبيل أن جزءا في الكتاب هو قرآن يتحدى به، فقد كان يتحدى بآيات القرآن على أن فيها كلها ما امتاز به الكتاب الكريم من المجاز. و( أل ) في ﴿ الكتاب ﴾ للدلالة على أنه الكتاب الكامل الذي هو جدير بأن يسمى كتابا، كأن غيره ليس جديرا بأن يسمى كتابا ؛ لأنه من عند الله تعالى، وكلام الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ والذي أنزل إليك من ربك ﴾ جملة معطوفة لبيان أن ما أنزل منه من ربك هو الحق الثابت، وهذا من صفات كمال الكتاب، فكان من هذه الصفات :
أولا : أنه ليس من عندك، بل أنزل من الله تعالى إليك، فليس افتراء ولا كذبا.
وثانيا : هو من ربك الذي يدبر الأمر بحكمته، وينزل كل شيء منزلته، وهو الذي اختار أن يكون المعجزة المحمدية الكبرى.
وثالثا : هو الحق الثابت الذي ما جاء فيه إلا الحق في العقيدة وفي الشريعة، وفي دفع الأوهام، ودفع الفساد في الأرض، وعلاج أمور الناس بالحق، فهو الحق في كل ما جاء به لأنه من الحق جل جلاله، وعلا كماله.
ويكون العطف بين الجملتين ﴿ تلك آيات الكتاب ﴾، ﴿ والذي أنزل.... ﴾ إلى آخره، لبيان أن الكتاب متصف بصفتين كلتاهما تؤدي معنى الكمال :
الأولى : أنه الكتاب الكامل في ذاته.
والثانية : أنه الكامل لأنه من عند الله تعالى، فالتقى فيه الكمالان : الكمال الذاتي والكمال الإضافي.
وكان حق أن يؤمن الناس جميعا به، ويذعنوا لحقائقه...﴿ ولكن أكثر الناس ﴾، فالاستدراك لما كان تقتضيه حقيقة الكمال في القرآن، فكانت تقتضي الإيمان﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾، أي لايذعنون للحق وليس أن شأنه أن يذعنوا، بل إنهم يمارون، ويجادلون، فتضيع الحقائق في وسط لجاجة الجدل ﴿..... وكان الإنسان أكثر شيء جدلا٥٤ ﴾( الكهف ).
وإن أول الحق الذي جاء به القرآن، وأوحى به الديان عبادة الله تعالى وحده، وألا يشركوا به شيئا ؛ ولذا بين الله استحقاقه للعبادة وحده بالكون، وما خلقه وبديع صنعه في السموات والأرض، وما خلق من كل شيء، فقال تعالى :﴿ الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون٢ ﴾.
صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يتضمن الخالق المدبر المتصف بكل كمال، والمستحق وحده للعبادة، ولا يعبد معه شيء : حجر، أو حي، أو نجم، أو غير ذلك مما توهم فيه بنو الإنسان في العصور المختلفة قوة يعبد لأجلها.
وبين سبحانه فضله في خلق الكون فابتدأ بذكر الكون الأعلى مجملا عرفه بخلق الله فقال :﴿ الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ﴾، هنا اتجاهان : نفي العمد، ووجود العمد ونفي رؤيتها :
الاتجاه الأول : أن النفي متجه إلى وجود العمد، وقوله تعالى :﴿ ترونها ﴾ دليل على نفي وجود العدم، أي دليل على عدم وجودها عدم رؤيتكم لها، فالله سبحانه وتعالى أنشأ السموات كالقبة المحيطة بالأرض من كل أطرافها، من غير عمد قائمة، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى :﴿.... ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.... ٦٥ ﴾( الحج ).
والاتجاه الثاني : أن النفي واقع على الرؤية، وعلى هذا يكون هناك عمد، ولكن لا ترى، فالله سبحانه وتعالى قد أوجد تماسكا بين السماء والأرض بالجاذبية، وكأنها عمد ولكنها لا ترى، وبهذه الجاذبية، وهذه الجاذبية كأنها العمد التي لا ترى. والاتجاهان يحتملهما اللفظ، وهما صادقان، وأميل إلى الاتجاه الثاني، ورجح ابن كثير الاتجاه الأول، وكلاهما فيه قدرة الله تعالى الجلية واضحة، والعمد( بفتح العين وضمها ) جمع عماد أوعمود، وهي الأسطوانة التي يقام عليها السقف المرفوع.
﴿ ثم استوى على العرش ﴾( ثم ) هنا بيان مراتب الخلق في ستة أيام، أي أدوار كما مضى القول في ذلك في سورة الأعراف، فإنه بعد أدوار الخلق التي تمت بإرادة الله تعالى، والاستواء على العرش كمال سلطانه في الكون، كما يستوي الملك العادل على عرش ملكه، ولله المثل الأعلى، وما مثلنا إلا للتقريب، فلا مساواة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾ أي ذللهما في حركتهما وسيرهما في مداريهما، فكل له مدار، وكل له خواصه، فالشمس هذا الضياء المشرق الذي يملأ الوجود حرارة يكون بها الأحياء والأزهار والأشجار. والقمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ولأشعته الصافية المستمدة يكون السير ليلا، ويؤثر في النفوس، وفي البحار بالجزر والمد، وفي الأحياء، فيكون الحمل والإرضاع تابعين لأدواره.
﴿ كل ﴾ في قوله تعالى :﴿ كل يجزي لأجل مسمى ﴾أي لأجل معين ينتهي عنده ذلك الأجل الذي حد له، وقد قال البيضاوي في ذلك عند قوله تعالى :﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾ ذللهما لما أراد منها كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها.﴿ كل يجري لأجل مسمى ﴾ لمدة معينة يتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة دونها سيرها وهي :﴿ إذا الشمس كورت١ وإذا النجوم انكدرت ٢ ﴾ ( التكوير )١، أي أن الأجل المسمى يفسره بتفسيرين :
أولهما : الأجل الذي تتم به أدوار الشمس من حيث قربها نسبيا من الأرض وانحرافها نسبيا عنها فتبعد، ويكون من ذلك الفصول الأربعة التي تتغير فيها حال الأرض، وما تنبت من زرع، وما يكون من دفء وحرارة ونوعها. وما يختلف به الليل والنهار طولا وقصرا، وما ينتظم به الزرع والثمر ويختلف باختلاف الفصول، إلى آخر ما هو معروف في العلم، ويحس به الناس في أدوار الحياة وتعاقب الليل والنهار.
والثاني : أن الأجل المسمى هو أجل الدنيا، الذي يكون بعدها زلزلة الأرض، وفناء العالم ليجدد في حياة أخرى هي الجزاء والتعويض لما كان في الدنيا.
وإني أرى أنه لا مانع من إرادة الأمرين : فهما ليس أجلين، بل هو أجل واحد يكون أولهما في دائرة الوجود الدنيوي وهو في الثانية الذي هو النهاية.
وإن النص القرآني يقول :﴿ كل يجري لأجل مسمى ﴾، أي أن الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى، فالقمر يجري حول الأرض ويدور حولها دورته الشهرية. وتكون من هذه الدورة درجاته وصوره من كونه هلالا إلى أن يكون بدرا ﴿.... وكل في فلك يسبحون٤٠ ﴾ ( يس )وإن القمر له بهذا الدوران أوقات تؤثر في الأحياء، فالحمل والرضاع، ونمو الأطفال، وحياة الجنين، وولادته، والحياة التناسلية لها ارتباط وثيق بالقمر وأدواره، وطمث المرأة، وقرؤها، له ارتباط بالقمر، والميزان الدقيق لمعرفة ذلك وأدواره هو الشهر القمري، بل إن القمر له أثر في الإخصاب، حتى عبروا في بعض اللغات عن الأمراض العصبية بأنها الأمراض القمرية. وهكذا، وإن القمر يجري لأجل مسمى في دائرة المعاني التي ذكرناها، وإنه يستمر جاريا إلى أن تنقضي الدنيا، والله أعلم.
وإن الله تعالى بعد بيان القدرة المشيئية﴿ يدبر الأمر يفصل الآيات ﴾ الأمر هو ملكوت السموات والأرض من حركات النجوم، وأبراجها، وإحياء الأحياء وإماتتهم( أل ) في قوله تعالى :﴿ الأمر ﴾ للعهد، وهو ما يتعلق بهذا الملكوت.
﴿ يفصل الآيات ﴾ ينزل عليهم الآيات المبنية للقدرة من خسف وكسوف، وزلازل وغيث يحيى الأرض، وغيث يدمر ما عليها، كل هذه لتكون آيات بينات تدل على القدرة، وعلى أن الكون يسير بإرادة مختارة، وأنه يبدئ ويعيد، وينشئ ثم يميت، ثم يحيي، وهو على كل شيء قدير.
وإن الله تعالى أشار إلى هذه القدرة العظيمة رجاء أن يؤمنوا بالمعاد فقال تعالى :﴿ لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾.
أي : لعلكم ترجون لقاء ربكم وتوقنون به، فالرجاء ليس من الله، ولكن الرجاء من الخلق وهو على كل شيء قدير، أي لعلكم إذا تأملتم ما في السموات والأرض من خلق توقنون بلقاء ربكم ولا تنكرون ولا تظنون ظنا. بل تستيقنون استيقانا، وهنا إشارات بيانية في هذه الآية وما قبلها نذكرها إجمالا :
أولاها : أن تعريف الطرفين في قوله :﴿ الذي أنزل إليك من ربك الحق ﴾ للقصر، أي لا حق سواه.
الثانية : في قوله :﴿ رفع السموات بغير عمد ﴾ فيها دليل على وجود الصانع المنشئ والمدبر، وأن وراء كل جزئية من الكون سرا إلهيا، هو الذي يدبر، وهو الذي قوم عليه فهو الحي القيوم.
الثالثة : أن قوله عن البعث :﴿ لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾ فيه إشارة إلى أن البعث لقاء الله، وقدر﴿ بلقاء ربكم ﴾ على الفعل ﴿ توقنون ﴾ لمزيد الاهتمام. وبعد ذكر الله تعالى رفع السموات، وما فيها من أجرام ذكر الأرض وما فيها من آيات بينات فقال عز من قائل :﴿ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٣ ﴾.
بعد أن بين سبحانه وتعالى قدرته في رفع السماء بغير عمد ترونها، وما فيها من كواكب ونجوم رمز إليها بأجلها شأنا، وهي الشمس مصدر نورها، والقمر، وكان رمزا لمن استمد نوره منها، وهو من أكبر أتباعها. أنزل آياته إلى الأرض وهي قريبة من الأنظار غير بعيدة عنها، وفيها يمرحون، ومن خيراتها يتخذون نماءهم ؛ ولذا قال :﴿ وهو الذي مد الأرض ﴾، أي بسطها طولا وعرضا بحيث يسهل افتراشها أو الانتقال في أجزائها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا وليس ذلك دليلا على أنها غير كروية، بل كونها كروية ثبت من الليل والنهار، ومن أدلة عقلية كثيرة وكرويتها لا تنافي مدها، وجعلها مفترشا لابن آدم، وذلك لكبرها وامتداد أطرافها.
ثم أخذ يبين سبحانه ما جعل فيها، فقال تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي ﴾ أي جعل فيها جبالا كالأوتاد لها، كما قال تعالى :﴿ والجبال أوتادا ٧ ﴾( النبأ ) ورواسي جمع راس، وقال البيضاوي وغيره : إنها جمع راسية، وجاءت التاء لأنها وصف لأجبل. ونحن نرى أن ذلك تكلف لا داعي إليه ؛ لأنها جمع( راس ). وهو وصف لما لا يفعل وفواعل تجمع ما تكون وصفا لما لا يفعل، و( راس ) من رسا إذا ثبت، ف﴿ رواسي ﴾ معناها ثوابت مستقرة كأنها أثقال تزن الأرض، وعطف على الرواسي الأنهار ﴿ وأنهارا ﴾ للتقابل بينهما ؛ لأن الجبال أحجار أو نحوها، والأنهار ماء سهل فهما متقابلات في الجملة ؛ ولأن أودية الماء تكون بجوار الجبال وتتخذ منها، أو تتكون مياه الأنهار ما ينحدر من الجبال، أو تنزل الأمطار على الجبال، ثم تنحدر حتى تجري في الأنهار، كما ترى في نهر النيل، إذ إنه تكون من البحيرات التي ترفدها، بمائها ثم تنحدر المياه من جبال الحبشة، فيكون فيضانه بخيراته التي أفاض الله بها على عباده، فأوجد الخصب في وادي النيل، وأخصب مصر من وقت أن جري فيها.
وأنه من وراء الأنهار يكون إنبات النبات، وإثمار الأشجار، فإن هذا كله يكون من الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي، وكذا قال سبحانه وتعالى بعد الأنهار وجريانها وتحدرها من الجبال :﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين ﴾، أي جعل سبحانه وتعالى صنفين متقابلين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، وجعل منها زوجين أي الذكر والأنثى، فمنه الذكر الذي يلقح بما تحمله من البذر الرياح اللواقح، والأنثى التي تحمل بذر الذكر، كما تحمل أنثى الحيوان بذر الذكر في رحمها.
ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن معنى التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى، والتقابل في الألوان، والتقابل في الطعم، والتقابل في الصغر والكبر، وهذا كله في أرض واحدة، وكان مقتضى اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئا واحدا في لونه أوطعمه، أو ذكورته أو أنوثته، أو صغره أو كبره، ولكن تعددت وتخالفت، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ثم بين سبحانه بعض العلاقة بين السماء والأرض، وهي الليل والنهار، فهما من دوران الأرض حول الشمس، وكل يدور في مداره، فبدوران الأرض يكون الليل والنهار، وبدوران الشمس تكون الفصول الأربعة. ولقد قال تعالى :﴿ يغشي الليل النهار ﴾ بسكون( الغين ) وهناك قراءة بفتح الغين وتشديد الشين من التغشية، فأما الأصلية : فهي تشبيه الظلمة بالثوب الأسود، والضوء بالجسم الأبيض، وتبع ذلك أن شبه النهار بأنه يغشي الليل.
وإن هذا من اتصال الشمس بالأرض، أي اتصال الأرض بالسماء.
هذه آيات الله تعالى، وبيناته، وخلقه، وتكوينه، وهي تدل على أنه فعل فاعل مختار لما يريد، وأن الأشياء لا تنشأ عنه سبحانه نشوء المعلول عن علته، كما يقول الفلاسفة، ويسميهم الناس حكماء وليسوا كذلك ؛ ولذا قال الله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾.
﴿ إن في ذلك ﴾ الإشارة إلى المذكور من : مد الأرض، ووجود أوتادها، وتحدر الأنهار منها، ووجود الأزواج المختلفة﴿ لآيات ﴾ أي لدلالات بينات﴿ لقوم يتفكرون ﴾ لجماعة يفكرون ويتفاهمون على التفكير ويتدبرون المعاني، فإنها لو كانت بالتعليل المجرد ما تنوعت هذا التنويع، وما تقابلت هذا التقابل فيما بينها، بل كانت صنفا واحدا ولم تكن أصنافا، وكانت لونا واحدا، ولم تكن ألوانا، والله بكل شيء عليم.
إن القضية بين الفلاسفة الطبيعيين، والدين الإسلامي في أصل الخلق أن الطبيعيين يقولون- باطلا - : إن الأشياء كانت من العقل الأول كما يكون المعلوم من علته. وإن ذلك يقتضي جدلا وحدة المخلوقات جنسا وشكلا وحقيقة، ولكنها متغايرة في كل شيء، متغايرة في طبعها وشكلها وطعومها وألوانها مما يدل على أن لها خالق مدبر فعال لما يريد، مبدع على غير مثال ولا محاذاة.
﴿ وفي الأرض قطع متجاورات ﴾ بعضها طيب تخرج نباتها، وبعضها سبخة لا تخرج زرعها، وبعضها صخري، وبعضها رملي، وبعضها صالح للزرع دون الغراس، وبعضها صالح لها. وإنه لا يخصص هذه لهذه الصفة، وللأخرى غيرها إلا للطيف الخبير مبدع السموات والأرض، فدل هذا على وجود المنشئ المدبر لهذا الكون، الذي يغير ويبدل بإرادة المبدع.
وفوق هذا، هذه الأرض المتدانية المتقاربة تسقى بماء واحد، ويختلف بعضها عن بعض في الأكل مع ان التربة تكون أحيانا واحدة، وتسقى بماء واحد، وتبذر بها بذور واحدة ورعايتها واحدة، ومع ذلك تأتي إحداهما بالخير الوفير وإحداها لا يكون فيها الخير الكثير، فدل هذا على أن هناك مريدا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وكل عنده بمقدار، وكل بوقت معلوم، ولحكم يعلمها اللطيف الخبير.
﴿ وجنات من أعناب ﴾انتقل البيان من الأرض إلى ما تثمره، وما تأتي به من خير، وابتدأ بجنات الأعناب ؛ لأنها كانت أحب الثمار إليهم، يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا، ولأنها سهلة لينة، ولأنها أطيب ما تخرجه الأرض العربية.
﴿ وزرع ونخيل ﴾ هذا إحصاء من غير استقراء لبعض ما ينتج في الأرض العربية وغيرها من الأرضين، وهي متنوعة، فزروع مختلفة من حبوب وبقول، ومختلفة الأنواع، وتخرج مختلفة في طعومها، ونوعها، وإشباعها للحاجات المختلفة ففيها اللين، وفيها الصلب، وذكر الجنات من الأعناب رمز لغيرها من أنواع الثمار كالرمان والخوخ وغيرها.
﴿ صنوان وغير صنوان ﴾ النخلات، أو النخلتان اللتان تخرجان من أصل واحد، أي النخيل سواء أكان مجتمعا من أصل واحد، أم كان متفرقا، وفي هذا إشارة إلى أنه لو كانت مخلوقة بالطبع أو بالعلة ما اختلفت صنوانا وغير صنوان.
ثم بين سبحانه اتحاد سبب الإنتاج فقال :﴿ يسقى بماء واحد ﴾، أي أن التربة واحدة، والبذر واحد، والسقي واحد، ومع ذلك يفضل بعضها على بعض في الأكل ما بين حلو ومر، ورديء وجيد، وغير ذاك مما هو مختلف ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾ والأكل هو الثمر.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾ ( ذلك ) إشارة إلى الاختلاف مع أن قطع الأرض متجاورة، وأن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل – الممتدة الجذور وتسقى بماء واحد- وهو صنوان وغير صنوان، في كل ذلك آيات مبينة لقدرة الخالق، لقوم يعملون عقولهم ويدركون أن هذا يدل على خالق مختار فعال لما يريد.
وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ٥ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ٦ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد٧
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الخطاب لكل من يقرأ القرآن، والأول أولى لأنه جاء بعد ذلك﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾والاستعجال منهم لا يكون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى النص السامي : وإن يكن من شأنك يا محمد أن تعجب من أمر فالأمر الجدير بالعجب، فهو قولهم﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ﴾ أما إن هذا هو وحده الأمر الحقيق بالعجب، ونكر﴿ فعجب قولهم ﴾ لإفادة عظم هذا العجب لشدة الغرابة فيه.
والعجب منصب على قولهم﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ﴾، فموضوع العجب هو هذا القول ؛ لأنه غريب في ذاته ينافي كل معقول، وكل محسوس ؛ لأنهم يرون في خلق الله تعالى أن الله سبحانه خلق السموات والأرض، وخلق كل نوع نباتا، وأشجارا، ويحيي ويميت، ويفلق الحب والنوى. فيجعل منه زرعا متراكبا، ونخيلا وجنات، وفوق ذلك هم يسلمون بأنه الذي ابتدأ خلقهم، والابتداء في حكم العقل والفكر أشد من الإعادة، كما قال تعالى :﴿.... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾ ( الأعراف ) وعجبهم الضال هو في أنهم بعد أن يصيروا ترابا يعودون أحياء.
والاستفهام للإنكار، لإنكار الوقوع مع الغرابة من هذا الوقوع، إن كان، وكرر الاستفهام﴿ أئذا كنا ترابا ﴾، وقولهم :﴿ أئنا لفي خلق جديد ﴾ ؛ لأن موضع الغرابة هو الخلق الجديد بعد أن يصيروا ترابا، فدخل الاستفهام على الحالين، والتعبير ب﴿ خلق جديد ﴾ يدل على موضع استغرابهم، ونسوا أن الذي يخلقهم خلقا جديدا هو الذي أنشأهم ابتداء على غير مثال سبق، ومن أنشأ على غير مثال سبق قادر على الإعادة على المثال الذي بدأه.
والسبب في ذلك أنهم كفروا بربهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ أولئك الذين كفروا بربهم ﴾ الإشارة إليهم محملين بهذا العجب من إعادة الخلق جديدا ممن بدأه، وفي هذه الجملة السامية بيان سبب الإنكار وهو أنهم كفروا بربهم، كفروا بقدرته القاهرة، والتعبير بربهم في هذا المقام له سره العميق ؛ لأنهم يكفرون بقدرته وهو الذي أنشأهم، ويربيهم، ويقوم على أمورهم، فكيف يعجز عن حال من أحوالهم.
﴿ وأولئك الأغلال في أعناقهم ﴾ الإشارة إليهم على النحو الذي بيناه، والأغلال جمع غل وهو القيد الذي يرفع اليد إلى الأعناق، وذكرت الأعناق في الآية لتأكيد وجود الغل، وفي الكلام ما يفيد أن الأغلال معنوية ؛ ذلك أنهم لسيطرة المادة عليهم كانوا كأنهم في أغلالها لا ينفصلون عن هذه الأغلال، فالكفر بالغيب أداهم إلى هذه الحال المثيرة للعجب من أمرهم، ففي الكلام استعارة، شبهت حالهم في استغراق المادة لنفوسهم بحال من وضع الغل في عنقه، فلا يتحرك إلا تحت سيطرة هذه الأغلال، و﴿ في أعناقهم ﴾ ترشيح للاستعارة.
وهناك تخريج آخر، وهو أنهم يكونون في أغلال من حديد يساقون بها إلى جهنم، وقد أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون. فقال سبحانه وتعالى :﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ الإشارة لما ذكرنا إلى موضع العجب من أمورهم، وقد أكد خلودهم في النار بالتعبير عنهم بأنهم أصحاب النار، أي الذين يلازمونها بالصحبة الدائمة المستمرة، وب﴿ هم ﴾ التي تدل على التوكيد، وتدل أيضا على اختصاصهم بالدخول في النار والخلود فيها، أنهم يبالغون في إنكار البعث، ولا تجديهم النذر، بل يستهزءون بالإنذار بعد الإنذار.
السين والتاء للطلب، فهم يطلبون التعجيل بالسيئة قبل الحسنة، أي أنهم عندما يسمعون البشير والنذير، يستعجلون العقوبات التي تكون في الإنذار بدل أن يعملوا الحسنات ويستعجلونها طالبين لها، وذلك من فساد الفكر وضلال النفس، وسيطرة العادة، والمبالغة في إنكار الحق، فإذا جاء إنذار بعذاب شديد إن استمروا في غيهم، وجنات النعيم والعزة في الدنيا إن استقاموا على الطريقة واهتدوا، لا يفكرون في فعل الخير يستعجلون به بل ينساقون في الإنكار ويستعجلون السيئة متهكمين، مهملين مستهترين، والسيئة ما يسوء في ذات نفسه، والحسنة ما يحسن في ذات نفسه فهم يطلبون السيئ تحديا وتهكما، واستهتارا، وكأنهم لا يعبئون.
ويفعلون ذلك، ويقولونه، مع أن العبر بين أيديهم شاهدة بصدق ما يخبرهم به ربهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾و﴿ خلت ﴾ معناها مضت﴿ من قبلهم المثلات ﴾ والمثلات جمع( مثلة )، ك( سمرة )، أي خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا، وعاندوا رسلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وسميت مثلة ؛ لأنها كانت عقوبة متماثلة لما ارتكبوا، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص ؛ للتماثل بين الجريمة والعقوبة، وذلك أعدل وأردع.
وإنه سبحانه وتعالى مع عدله في أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، وملاحظة التماثل بينهما من غير أي بخس لعمل ولا مجاوزة للعقاب يعفو عن كثير ؛ ولذا قال تعالى بعد أن قرر أن المثلات قد مضت، أنه عندما يشتد سيل الشر ويتفاقم أمره ينزل العقاب ؛ دفعا للشر ووقفا له حتى لا يعم الفساد، ويضل العباد، قال تعالى :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ أي إن ربك لذو مغفرة، تلازمه المغفرة كما يلازم الصاحب صاحبه حال كونهم ظالمين لأنفسهم بالشر الذي ارتكبوه، ولكنه يقبل التوبة فالتوبة سبيل الغفران، كما قال تعالى :﴿ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب... ٣ ﴾ ( غافر ). فالظلم بمعنى ظلم النفس بارتكاب المعاصي وليست بمعنى الشرك، فإنه ظلم كما قال تعالى عن لقمان :﴿.... إن الشرك لظلم عظيم١٣ ﴾ ( لقمان )، ولكنه هنا بما دون ذلك ؛ لأن الله تعالى لا يغفر الشرك، كما قال تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ﴾( النساء )، وكما أن الله سبحانه وتعالى صاحب المغفرة التي هي ستر الذنب، ولا يحاسب عليه إذا كانت دون الشرك، فهو أيضا شديد العقاب على المصرين على المعاصي الذين أحاطت بهم خطيئاتهم واستغرقت نفوسهم، ولذا قال تعالى :﴿ وإن ربك لشديد العقاب ﴾، أي إن عقابه شديد لمن أصر على المعصية وتدرنت بها نفسه وأظلمت.
وقد أكد سبحانه وتعالى عقابه بالجملة الاسمية، وب( إن ) التي للتوكيد، وباللام.
ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى عبر بالرب في صحبة المغفرة، وشدة العقاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه من مقتضيات الربوبية، فهو يهذب عبيده بالإنذار بشدة العقاب، وفتح باب من غير أن يقنط العصاة من رحمته، كما قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا.... ٥٣ ﴾( الزمر ).
وقد ورد في معنى هذا النص السامي آيات كثيرة منها قوله تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ٤٩ وأن عذابي هو العذاب الأليم ٥٠ ﴾ ( الحجر )، ومنها قوله تعالى :﴿...... إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ١٦٥ ﴾ ( الأنعام )، وقوله تعالى :﴿ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ١٤٧ ﴾( الأنعام )، وهكذا النصوص القرآنية الدالة على أنه لا يصح أن يطمع العاصي في عفو مطلق، ولا أن ييئس من رحمة الله تعالى، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى :"لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد "١ والله أعلم.
وإنهم مع قيام الدلائل على الوحدانية، وقيام المعجزة الكبرى، وهي القرآن يطلبون آيات أخرى وينكرون إعجاز القرآن مع قيام التحدي الشامخ. وعجزهم عن أن يأتوا بمثله ؛ ولذا قال الله تعالى لهم :﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هود٧ ﴾.
أظهر لنا، ولم يضمر، كما قال من قبل :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ﴾ فعبر بالموصول بدل الضمير ؛ وذلك لبيان الكفر ابتداء هو الذي دفعهم إلى طلب آية أخرى، فصلة الموصول، وهي الكفر، علة الطلب، فليست علة الطلب الحق ليهتدوا، فقد طمس على قلوبهم، وإنما اتخذوا ذلك تعلة لكفرهم، وتماديهم في غيهم، وإلا ففي التحدي والعجز دليل على الإعجاز.
و﴿ لولا ﴾ في قوله تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية ﴾ معناها هلا أنزل عليه آية من ربه، وإن ذلك يتضمن أنهم لا يؤمنون لعدم وجود آية، ويتضمن بالتالي إنكار أن يكون القرآن آية مع التحدي المتولي.
وقوله تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا ﴾ في التعبير بالمضارع ما يفيد بتكرار هذا الطلب عنادا وسترا لكفرهم، ولعجزهم عن التحدي طلبوا أن ينزل عليهم كتاب في قرطاس وأن يلمسوه بأيديهم، وأنكروا أن يعبث الله بشرا رسولا، ورد الله تعالى قولهم بقوله :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ٩٥ ﴾ ( الإسراء )، وطلبوا آيات يسترون بها كفرهم :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ٩٠ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ٩١ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ٩٢ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ٩٣ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءتهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ٩٤ ﴾( الإسراء ).
وهكذا يكفرون بالمعجزة وينتحلون لأنفسهم ما يحسبونه عذرا بإنكارهم القرآن، وقوله تعالى :﴿ لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ فيه تنكير﴿ آية ﴾ للمبالغة في الإنكار، كأنهم يطلبون أي آية، ولا يعدون القرآن الكريم آية، وهو أعظم الآيات وأبقاها.
رد الله سبحانه وتعالى قولهم بقوله :﴿ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ﴾( إنما ) أداة من أدوات القصر، أي لست إلا منذرا ينذرهم بسوء العقبى، ومآل الإنكار، وقد أنذرت، وأقمت الحجة على أنك متكلم من عند الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ ولكل قوم هاد ﴾ متضمن معنيين، وتشملهما ؛ الأول : أن كل قوم لهم نبي يهديهم ويرشدهم، فإن اهتدوا كانت لهم الحسنى، وإلا كان لهم السوءى، وهذا كقوله تعالى :﴿.... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ٢٤ ﴾ ( فاطر )، والثاني : أن كل قوم لهم معجزة تهديهم إلى الرسول تناسبهم، فكانت معجزة عيسى ما كان لأنه بعث في عصر لا يؤمنون فيه بالسببية، ويعتقدون أنها لا تختلف، فجاءت معجزاته هدما لقانون السببية، وخرقا لنظامه، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء للخليقة كلها من بعده إلى يوم القيامة، فكانت معجزته من النوع الذي يبقى ولا يزول ولا يحول، وهو كلام الله الذي يبقى ويتحدى بإعجازه الخليقة إلى يوم الدين ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم بعض ظهيرا ٨٨ ﴾( الإسراء ).
وإن الذين أرسلت إليهم الآيات المادية منهم من كذب بها، وكانوا الأكثرين ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا من كذب بها الأولون... ٥٩ ﴾( الإسراء ).
وقوله تعالى على النحو الذي نهجناه وهو﴿ إنما أنت منذر ﴾ جملة مستقلة عن التالية، فيكون معناها ما ذكرنا من أنه عليه الصلاة والسلام مختص بالإنذار، ﴿ ولكل قوم هاد ﴾ جملة أخرى دالة على ما ذكرنا من الأمر، وجاء في حاشية الشهاب على البيضاوي أن﴿ هاد ﴾ معطوف على﴿ منذر ﴾ أي إنما أنت منذر وهاد، وتكون هاد مؤخرة عن تقديم، ويكون المعنى : إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. وهو معنى محتمل ولكنه ليس الظاهر البين من السياق.
بعد أن أشار سبحانه إلى خلق السموات وما فيها بين سبحانه آياته في خلق الإنسان.
قال الله تعالى :﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ٨عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ١٠ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ١١ ﴾
بين سبحانه قدرة الله تعالى في خلق السموات بغير عمد ترونها، وسخر الشمس والقمر وغير ذلك من الكائنات التي هي سمات هذا الوجود، والآن يبين خلق الإنسان، وكيف كان في علمه الذي لا يعلم به أحد غيره سبحانه. فقال تعالى :
﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ٨ ﴾.
﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى ﴾ ( ما ) هنا قد تكون موصولة بمعنى الذي، ويكون السياق : الله جل جلاله يعلم الذي تحمل كل أنثى، والذي تغيض به الأرحام والذي تزداد، وكل شيء عنده بمقدار قدره، وحده وعينه.
يعلم ما تحمل كل أنثى من ذكورة وأنوثة، ومن حجمه، وشكله، وامتداده، وعمره، وما قدر له من حياة سعيدة أم شقية، وإيمان، وصباحة ودمامة، واستقامة وفجور، وما يكون في قابله هاديا مهديا، أو مقيتا شقيا، وغير ذلك مما يكون في حياته البدنية والنفسية، وكل ما يتعلق به.
يعلم أدوار الحمل من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ومن وقت وضعه نطفة من قرار مكين، كما قال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ١٢ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ١٣ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ١٤ ﴾ ( المؤمنون )، وبقوله سبحانه :﴿.... هو أعلم إذ أنشأنكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم... ٣٢ ﴾( النجم )، ويقول تعالى :﴿.... يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث... ٦ ﴾( الزمر ).
يعلم الله تعالى ما تحمل كل أنثى من هذه الأطوار كلها طورا بعد طور، وما يعلمه الله هو علم الخالق لما خلق، ومهما يكن متعلقا ب( ما ) في الأرحام فالعلم عند الله علام الغيوب، وقد روى في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك"١.
﴿ وما تغيض الأرحام وما تزداد ﴾، الأرحام جمع رحم، وهو وعاء الولد في بطن أمه الذي تلقى فيه النطفة، وتمكث فيه أربعين يوما كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تصير علقة، ثم مضغة، كما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتغيض أي تنقص، يستعمل لازما ومتعديا، ومنه غاض الماء، ويقال غضته أ نقصته، ومنه قوله تعالى في قصة الغرق لقوم نوح﴿... وغيض الماء... ٤٤ ﴾( هو )، و﴿ تزداد ﴾فأخذه زائدا.
ومعنى هذا بالنسبة للحمل أن يكون الرحم خاليا من الولد أو يزداد فيه بالحمل ونموه، وتعدده، ويغيض بالخلو من الدم الذي يشتمل على خلايا التولد وامتلائه بهذا الدم، يكون التوالد من نطفة الرجل وخلايا المرأة.
وخلاصة القول في هذا أن الذكورة والأنوثة، وكل ما يخص التكوين الخلقي من عمل هو في علم الله، والله وحده الذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، لا يغيرها إلا خالقها ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ أي عنده كل شيء بمقدار معلوم محدود، فأدواره مقدورة محدودة قدرها الله سبحانه وتعالى، ولا يعلمها إلا هو لأنه العالم بالشاهد والغائب، وبالسر والجهر ؛ ولذا قال تعالى :﴿ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ١٠ ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى علمه بما تحمله كل أنثى، وهو من الغيب الذي لا يظهر في حسنا والذي لا يعلم إلا بعد ظهوره لنا، ذكر سبحانه أنه المحيط عمله للحاضر والغائب، ومات يسر به الإنسان وما يجهر، وما يستخفى وما يظهر، فقال تعالت كلماته :﴿ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ٩ ﴾.
هو تأكيد ما تضمنته الآية السابقة من علمه بما في الأرحام منذ وجودها فيها ومكنونها، وأدوارها، وقابلها، وكان التأكيد بذكر عموم علمه للغائب والحاضر، والغيب مصدر غاب، وأطلق على ما يغيب حتى اشتهر، فيه مبالغة في غيبه عن الرؤية والحس، والشهادة من شهد بمعنى حضر، ثم أطلقت على ما هو حاضر محسوس، مبالغة في حضوره والحس به، والمعنى : عالم بما يغيب عن الحس، وما هو محسوس حاضر، وقال( عالم ) ولم يقل يعلم ؛ للإشارة إلى أسمائه وأنه صفة ملازمة له سبحانه وتعالى وذكرالمغيب والشهادة لاثبات ان علمه واحد بالشاهد والمغيب على سواء ؛ لأنه علم محيط، ولا يفترق فيه شيء عن شيء.
ووصف ذاته العلية بأنه فوق البشر وفوق كل ما هو من شأن البشر، فقال :﴿ الكبير المتعال ﴾ الكبير أي العظيم في قدرته وإرادته، وكمال سلطانه وتدبيره وخلقه لكل هذا الوجود بسمائه وأجرامه وكواكبه وسياراته، وأرضه، وكل ما هو مسخر في هذا الوجود﴿ المتعال ﴾ أي المتسامي في صفاته، وفي كل ما هو من شأنه فلا يشبه شيئا من خلقه، ، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى الله سبحانه عن مشابهته للمواد علوا كبيرا وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
ثم بين سبحانه وتعالى علمه بالناس في سرهم وجهرهم، في خواطر نفوسهم وما تنطق به ألسنتهم، فقال تعالى :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ﴾
﴿ ومن هو مستخف بالليل ﴾ المستخفي بالليل : السين والتاء للطلب، أي من هو طالب للاختفاء بالليل، فهو لا يكتفي بخفاء الليل وظلمته، بل يطلب خفاء آخر بأن يكون في كن من الأرض مستور لا يعلمه أحد، و( السارب )، هو السائر في سرب، أي في طريق ظاهر بالنهار، فحاله لا تخفى على أحد ؛ لأنه في وضح النهار، ولأنه سائر في سربه معلوم، وذكر هذا بجوار الاستخفاء بالليل للدليل على أنه لا تفاوت في علمه بين الظاهر والخفي، بل الجميع في علمه على السواء، إنما التفاوت يكون فيمن يكون علمه مبنيا على الحس فيختلف عنده المحسوس عن غير المحسوس، وعلم الله سبحانه وتعالى ذاته، كل المعلومات عنده سبحانه وتعالى على سواء، ولإشعار الناس جميعا بأنهم تحت سلطان علمه المحيط.
ولقد قال العلماء : إن( سواء ) بمعنى الاستواء تكون لمعادلة اثنين، ولا شك أن﴿ من هو مستخف بالليل ﴾ معطوف على﴿ من أسر ﴾، فتكون سواء داخلة عليه، لأن عطف النسق على نية تكرار العامل، فسواء مقدرة في الاستخفاء، وسارب، فما هما المتعادلان ؟ قالوا : إن( من ) مقدرة في قوله تعالى :﴿ وسارب بالنهار ﴾ لأنها معطوفة على﴿ مستخف ﴾ فتقدر( من ) الداخلة على ﴿ مستخف ﴾، وليس في هذا كبير خفاء.
وقد بين سبحانه إحكام رقابته على عباده ورعايته لهم فقال تعالى :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال١١ ﴾.
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين علم الله تعالى بالغائب والحاضر علما واحدا، وعلم الإسرار والجهر علما واحدا، لا فرق في علمه بين إسرار النفوس وجهار الألسنة، وأنه يعلم المستخفي في ظلام الليل كعلم السارب بالنهار على حد سواء، وفي هذه الآية :﴿ له معقبات من بين يديه ﴾ الآية تبين أن علم الله تعالى يحيط بالحسنات والسيئات، ويحفظ الإنسان في حياته ما دام حيا، وكل بأمره، ويعرف حاضر أمره وقابله وتفسير أحواله وأسباب التغير كل في علم الله تعالى وكل بإرادته، فالمستغرق في ضلاله يعلمه ويغير ما به إذا غير ما بنفسه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه ﴾ "المعقبات" جمع معقبة، والتاء للمبالغة مثل علامة وفهامة، فإنها تدل على المبالغة في العلم والفهم، ومثل رحالة ونسابة، فإنها تدل على كثرة الرحلة، ودقة العلم في النسب.
والمعنى تعقبه فهي تكون ملازمة له محتذية عقبه لا تختلف عنه، والضمير يعود إلى الإنسان المتحدث عنه في قوله تعالى :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ١٠ ﴾ فكما أن الله تعالى يعلم سره وجهره، واستخفاءه وظهروه، قد أحاطه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحيطون به إحاطة الدائرة بقطرها، وهم من الملائكة يحصون عليه ما يفعل من خير وشر، ويكتبون ما يفعل من حسنات وسيئات، ولقد قال تعالى : إنها مع هذه الإحاطة الشاملة به وأنهم يعدون عليه سيئاته وحسناته، مع هذا فإن عمل هؤلاء الملائكة أنهم يحفظونه من أمر الله تعالى، ويقول الزمخشري : إن قوله تعالى :﴿ يحفظونه من أمر الله ﴾ صفتان، أي بعد﴿ من بين يديه ومن خلفه ﴾.
وتقدير الصفة الأولى، أي أن هذه المعقبات ( تحفظه )، وقوله :﴿ من أمر الله ﴾ صفة ثانية أي يحفظونه لأنه أمرهم بذلك، وكلفهم الحفظ وصيانته، وقال الزمخشري : إنه يؤيد لذلك قراءة( يحفظونه بأمر الله ) فهم مكلفون الحفظ بأمر الله تعالى.
ويصح أن يكون ﴿ من أمر الله ﴾ ليست وصفا جديدا بعد﴿ يحفظونه ﴾، إنما التقدير يحفظونه من أمر الله، أي مما كتب الله تعالى عليه أن ينزل من صواعق أو خسف، أو غير ذلك من ملمات الأمور، فالله سبحانه ينزل عليه ما قد يؤذيه، ويكلؤه بحفظه من الملائكة يحمونه، وكلا الأمرين بعمل من الله تعالى، فهو رحيم في ابتلائه، ويقارب هذا المعنى ما قاله شاعر العربية في زمننا شوقي، إذ يقول :
وقى الأرض شر مقاديره لطيف السماء ورحمانها
فالله تعالى ينزل البلاء، وينزل معه الحماية والاتقاء.
ويصح أن نقول : إن المعنيين مرادان، إذ لا تناقض بينهما، ويمكن الجمع فيهما إعمالا للقراءتين، فالحفظ بأمر الله تعالى، ومما ينزله تعالى من أمور تكرثه كتعرض للغرق أو الحرق أو غير ذلك، وإن كل شيء بقدر، وكتبه الله تعالى.
وإن التعبير عن الكوارث والنوازل بأنها من أمر الله تعالى ينبئ بأن ذلك يكون في كثير من الأحيان عن معاصي يرتكبها الناس في ذات أنفسهم، أو مجتمعهم، أو تخاذلهم عما أمر الله تعالى به من أخذ الأهبة.
وقد أشار سبحانه وتعالى ان الريح الصرصر العاتية قد تجيء بسبب الظلم، فقال في شأن الخير الذي يفعله الكافرون من غير إيمان﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون١١٧ ﴾( آل عمران ).
وقد صرح الله سبحانه وتعالى بأن المعاصي والمفاسق يصيب أصحابها بالجوع والفقر، فقال :﴿ وضرب الله مثل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون١١٢ ﴾( النحل ).
هذا بعض ما يدل عليه قوله تعالى :﴿ من أمر الله ﴾، أي أن المحن تكون بأمر الله ويحفظ الناس بحفظة من الملائكة حتى لا يعم الهلاك.
وإن الوقاية ليست في حفظ الملائكة فقط، بل إن تغيير الحال من ظلم الى عدل، والنفوس من انحراف إلى استقامة، هو الحماية الكبرى ؛ ولذا قال تعالى عقب حفظ الله الملائكة عند نزول قدره :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾.
والمعنى الجملى أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا أنفسهم، فإن كانوا في خير بأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان لا يغير حالهم إلى ضراء وبأساء إلا إذا غيروا أنفسهم من خير إلى شر وانحراف، ولا يغير الله حال قوم أصابهم الضر والشر والخذلان والهزيمة أمام أعدائهم، إلا إذا غيروا حالهم من فساد إلى صلاح، ومن تخاذل نفس وتفرق كياني إلا إذا غيروا أنفسهم واجتمعوا على الحق، وتركوا التنابز والتدابر، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بالجملة الاسمية، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة اسم الله العلي الأعلى القادر على كل شيء وبالغاية ( حتى )، فجعل تغير الحال الأليمة إلى حال صالحة راضية منتفية إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، أي إنهم يستمرون في الآلام تنزل بهم إلى أن يغيروا أنفسهم.
وما أحرانا نحن المسلمين بالاعتبار بهذه الآية، لقد كنا أعزة بعزة الله تعالى حتى تفرقنا، وأضعنا أحكام القرآن بيننا، حتى صارت غريبة تستغرب إذا ذكرت، وضاعت لغتنا، واستنكرت حال من يستمسك بها، وتقاتل المسلمون بعضهم ببعض، ووالوا الكفار واستنصروا بهم على بعض وصرنا وراء كل الأمم، فهل لنا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله حالنا.
ولكن أراد بنا هذا التخاذل، وقد قال :﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ﴾.( السوء ) ما يسوء الأمم من الهلاك أو الهزيمة، أو الخسران، أو الحرمان، أو الفساد والدمار، إذا أراد الله تعالى ذلك وأشباهه، مما تضيع به الأمم وتذهب قوتها من أعمالها، بأن ارتكبوا الشر واستعذبوا فعله، إذا أراد الله ذلك بسبب ما في نفوسهم وما يرتكبون فإنه نتيجة حتمية لعملهم، وأراده الله تعالى فيهم بسبب سوء ما يصنعون.
وقد سمعنا أن شر حاكم رآه التاريخ الإنساني أصيبت بلاده التي حكمت به بسبب تقاصره، وظلمه، وقتله الأنفس البريئة وطغيانه المستمر الدفين، ذكر بالصلاة فقال : كيف أصلي له وهو لم ينصرني، ونسي أنه سبب الهزيمة النكراء، وإذا كان ما ينزل بسبب الظلم، وأراد الله النزول كمسبب يكون ثمرة للاعتداء فإنه لا يرد، و( مرد ) مصدر ميمي، بمعنى الرد، ثم أكد أن الشر لا محالة نازل بمن ظلموا أنفسهم، فقال تعالى :﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾، أي ليس لهم غير الله من وال يواليهم وينصرهم ويدفع عنهم.
وقوله تعالى :﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾ ( من ) الثانية لاستغراق النفي، والمعنى ليس لهم من غير الله أي وال من العباد أو غيرهم ؛ لأن ما ينزله الله لا يدفعه أحد من عباده.
بعد أن بين سبحانه وتعالى علمه الشامل بكل شيء بين مظاهر الخلق والتكوين قال تعالى :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال١٢ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال١٣ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال١٤ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والأصال ١٥ ﴾
يبين الله سبحانه في الآيات السابقة ما يسير الإنسان، وعلم الله المحيط الذي يشتمل ما يظهر وما يختفي، والمعقبات التي تحفظ وتحصي ولا ترى.
ثم بين سبحانه وتعالى ما يرى وما يسمع، والله مسيره، وموجهه، بحيث ترى آثاره، ولا يكون من الإنسان تفاعله، بل يتولى أمره رب العالمين، فقال تعالى :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ﴾ الضمير يعود على الله تعالى الذي يكون الحفظ من أمره، ومن كل ما يقدره، فهو الذي يرينا البرق حالة كوننا خائفين من منظره، ومن عاقبته، طامعين في أن يعقبه مطر يكون غيثا، وخائفين من أن يكون غيثا مدمرا مفسدا. والبرق ينشأ عند اصطدام سحابتين بعضهما ببعض فيحدث من الاصطدام النور البارق. ويقول علم خواصم الأجسام : إن إحدى السحابتين تكون ذات كهرباء موجبة، والأخرى ذات كهرباء سالبة، فيحدث من احتكاكهما برق، ويكون معه الرعد، بيد أن الرعد لا يصل إلى الأسماع إلا بعد فترة من رؤية البرق ؛ لأن الرعد صوت الاصطدام والبرق صوته، ولكي يصل الصوت إلينا يمر بأجواء الفضاء فلا يصل إلى مسامعنا إلا بعد فترة يقطع فيها مروره، والصواعق إذا كانت أحيانا من هذا الاصطدام تكون مع البرق في فترة واحدة تقريبا. وهذه الآية تبين رؤية البرق والتي تليها تبين سماع هزيم الرعد، والثالثة تبين إصابة الله تعالى بالصواعق لمن يشاء.
ولقد ذكر سبحانه في الآية الأولى أنه يرى الناس البرق خائفين طامعين، وذكر بعد البرق السحاب المملوء ماء، فقال سبحانه :﴿ وينشيء السحاب الثقال ﴾السحاب اسم جنس جمعي لسحابة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو ياء النسب، مثل شجر وشجرة، ومثل عرب وعربي، فمفرده كما رأيت سحابة، والثقال جميع ثقيلة، وعبر سبحانه وتعالى بالنسبة للسحاب بأنه أنشأها، ولم يقل سيرها ؛ لأن الله تعالى يشير بذلك إلى رحمته بالناس، أي أن ماء البحر الملح يتبخر ثم يتكاثف ماء عذبا، يثيره سبحانه وتعالى سحابا مملوء بالماء، فبين أنها ثقالا لما تحمله من هذا الماء العذب الفرات، ويرسلها لمن يشاء من عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يجزي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من ربد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ٤٣ ﴾( النور ).
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى مزية البرق المثير للخوف والطمع معا ذكر ملازمها وهو الرعد فقال :﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾.
للمفسرين اتجاهان في هذا :
الاتجاه الأول : أنه يفسر الرعد بمن يسمعه، فالتسبيح ليس تسبيح الرعد ولكن تسبيح من يسمعه ؛ لأنه يكون خائفا فزعا، كما يكون الفزع من كل صوت مزعج، فيجعله الخوف والفزع في حال إدراك لقوة منشئه كما تكون النفس عند رؤية أي أمر مزعج.
والاتجاه الثاني : أن الرعد ذاته يكون في حال تسبيح الله تعالى وحده ؛ لأن هذا الصوت المزعج الرهيب المفزع يكون خاضعا لله تعالى، دالا على توحيده، وعلى كمال سلطانه، فكل شيء يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
وإني أميل إلى الاتجاه الثاني ؛ لأنه يتفق مع النسق القرآني، إذ إن النسق القرآني يبين خضوع الكون ومظاهره لله تعالى مسبحا بحمده، وهي تدل على الباعث على هذا التسبيح، وهو حمده على نعمة إيجاده، وكمال خضوعه.
وقوله تعالى :﴿ والملائكة من خيفته ﴾
أي من خوفه سبحانه، و( خيفة ) فعلة بكسر الفاء، وهي هيئة الخوف، أي هيئة الخوف الرهيب من الله تعالى، فلا يدرك عظمة الله القوي الجبار إلا من يكون قريبا منه سبحانه وتعالى. ومع تسبيح الرعد بهزيمه، والملائكة الأبرار بخيفتهم من الله، ينزل الله تعالى الصواعق وهي من احتراق البرق، فالبرق يحدث معه الرعد، وأحيانا يكون السحابتين السالبة والموجبة محدثة شرارا ينزل على الأرض فيحرق ما يصيبه ومن تصيبه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ﴾ومع هذا البرق الخاطف للأبصار الذي يرونه ويفزعون له، ويرجون المطر منه، وهزيم الرعد الذي يسبح لله تعالى، وتسبح الملائكة من خيفته، وإرسال الصواعق الحارقة مع رؤيتهم هذه الظاهرة الدالة على القدرة القاهرة، والإبداع الباهر يجادل المشركون في الله ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وهم يجادلون في الله ﴾ يجادلون في قدرة الله تعالى على إعادتهم في البعث، كما بدأهم، ويجادلون في الله فيحسبون أن الاحجار تعبد لانها تكون شفيعهم عنده ويجادلون في قدرتها فيحسبون ان لها قدرة مع قدرته سبحانه وتعالى، وغير ذلك من الأوهام الفاسدة التي يثيرونها حول الذات العلية، والجدل من جدل الحبل إذا فتله فتلا شديدا ليحمل به الأشياء الثقيلة، ويشد عليها، واستعمالها هنا بمعنى فتل الحجة الباطلة يريدون أن يعتمدوا تفكيرهم الفاسد، ووهمهم الباطل عليها، ﴿.... وكان الإنسان أكثر شيء جدلا٥٤ ﴾( الكهف ).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك أن جدلهم في هباء أمام قدرة الله تعالى، فقال سبحانه وتعالى :﴿ وهو شديد المحال ﴾ الضمير في﴿ وهو ﴾ يعود إلى الله تعالى، والمحال : قال الأزهري : إنه القوة والشدة، ويقال : ما حلت فلانا أي قاومته حتى يتبين أينا أقوى، ومحال فعال من المماحلة، أي أنه لا يغالبه في الوجود أحد فهو أقوى من كل الوجود، ومع ذلك يجعلون ذاته الكريمة موضع جدال. ولكنه الضلال الذي أوجد غمة على العقول فلا تدرك الحق المبين الواضح الذي قامت فيه الدلائل على قوته القاهرة.
ويجادلون في الله بأوهام توهموها ؛ ولذا بين سبحانه وتعالى أن دعوة الله هي الحق ودعوة أندادهم هي الباطلة، فقال تعالى :﴿ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغه فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال١٤ ﴾.
بعد أن بين سبحانه علمه الذي لا يفرق بين جهر وإسرار، وإخفاء وإظهار وقدرته الباهرة ويرونها عيانا في آياته في البرق والرعد والصواعق :﴿ له دعوة الحق ﴾ الضمير في ( له ) يعود إلى الله جل جلاله، وتقديم( له ) على ما بعدها يدل على الاختصاص أي له وحده لا لغيره دعوة الحق.
و﴿ دعوة ﴾ إما أن تفسرها بمعنى الدعاء وهو العبادة، أي له وحدة العبادة الحقة، والإضافة بيانية، أي أن المضاف إليه فيه بيان للمضاف، أي الدعوة التي هي الحق، والحق ضد الباطل أي العبادة الثابتة الصادقة التي هي الحق، وغيرها الباطل. وإما أن يفسرها بمعنى الطلب، والالتجاء، أي لا يلجأ إلا إليه، ولا يجيب غيره دعوة اللاجئين المستغيثين، ولا مانع من إرادة المعنيين ؛ لأنه لا تضاد بينهما، ولا تضارب، فيمكن الجمع بينهما، ويكون المعنى العبادة هي الحق، ولا التجاء بحق إلا له سبحانه، وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك بطلان دعوة غيره، فقال تعالى :﴿ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ﴾.
كثر في الكلام العربي تشبيه الذي لا يقبض على شيء ثابت بالقابض على الماء ؛ لأنه لا يستقر في يده ؛ إذ لا يمكن القبض عليه، وجاء القرآن الكريم بأبلغ مما عند العرب في هذا المثل الرائع في لفظه ومعناه، فشبه حال من يدعو غير الله بحال من يبسط يده للماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، أي ليرتفع إلى فمه، وما هو من شأنه أن يبلغه ؛ ولذا كان النفي باسم فاعل، فنفى عن الماء ذلك الوصف، ونفي الوصف أبلغ من نفي الفعل، والتشبيه تشبيه تمثيلي، فيه تشبيه حال بحال، ففيه حال من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ولا يجيب، ولا يدرك معنى الطلب أو العبادة، بحال العطشان الذي أمضه العطش، فيطلب من الماء أن يرتفع إلى فمه إذا بسط يده، ومد أنامله إليه على قرب أو بعد، فإن الماء لا يجيء إليه، ولا يستطيع أن يتناول منه بهذه الطريقة ما ينقع غلته ويطفيء ظمأه.
ولقد روي عن علي كرم الله وجهه في تفسير هذا التشبيه : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا فكيف يبلغ فاه.
وفسره مجاهد- تلميذ ابن عباس- بأنه يبسط يده إلى الماء في نهر أو عند غدير يدعوه إليه فلا يأتيه.
وأغرب بعض المفسرين فقال : إن المثل هو تشبيه حالهم في دعوتهم ما لا يضر ولا ينفع بمن يرى خياله في الماء يبسط يده إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه. وكلها يفيد معنى محققا في عبدة الأوثان، وهو أنهم يتوهمون القدرة فيما لا قدرة عنده على شيء، وهو مستحيل أن ينفع، وأن يحقق مبتغى.
وهنا إشارات بيانية :
أولاها : قوله تعالى :﴿ لا يستجيبون لهم بشيء ﴾فقد أعاد الضمير على الأنداد بضمير العقلاء، وذلك على زعم المشركين في وصفهم إياها في صفوف العقلاء المدركين، وليست إلا أحجارا، وقال تعالى :﴿ لا يستجيبون لهم بشيء ﴾ الباء لاستغراق النفي، وتنكير( شيء ) لبيان عموم النفي، أي لا يستجيبون بأي شيء من الاستجابة.
الثانية : في قوله تعالى :﴿ كباسط كفيه ﴾ هنا مضاف محذوف، أي إلا كاستجابة باسط كفيه، والاستجابة مستحيلة، فتكون استجابة أندادهم مستحيلة.
الثالثة : في قوله تعالى :﴿ ليبلغ فاه ﴾ فيه بيان وجه الاستحالة ؛ لأنه يمكن أن يكون بلل الماء، ولكن لا يمكن أن يرفع إلى الفم، فكأنه يرى الماء والعطش يقتله، وبمحاولته لا ينال شيئا، فتعبه في هباء، ومن غير جدوى، ولقد قال تعالى :﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾.
ومعناها : ما دعاء المشركين الذين يشركون الأنداد مع دعائهم لها بالعبادة، والالتجاء في الحاجة إلا في ضياع إجابة له، فضراعتهم للأنداد ضراعة لأوهام، إذ لا حقيقة لها في شيء ولا وجود لها إلا أن تكون أحجارا صنعوا وابتدعوا لها قوة أرادوها، وما يستطيعون تغيير حقيقتها بأوهامهم.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن الوجود- كله عقلاء وغيرعقلاء- خاضعون له طوعا وكرها، فقال تعالى :﴿ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال١٥ ﴾.
بعد أن بين سبحانه وتعالى بطلان الشرك، وضرب الأمثال على ذلك، وهي أمثال على عظمة البيان القرآني الذي لا يسامي، ولا يناهد، أخذ يبين سبحانه وتعالى خضوع الوجود كله له سبحانه، والانقياد له سبحانه، فقال تعالت كلماته :﴿ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ﴾، والمراد من السجود في ظاهر القرآن، وكما قرر أكثر العلماء الخضوع، وتسخير الله سبحانه وتعالى له، وبذلك يكون المعنى خضوع الموجودات كلها لإرادته سبحانه وتعالى، فالرياح تسير بأمره، والكواكب والنجوم مسخرات بأمره.
وإذا كان المراد من السجود لازمه، وهو الانقياد يكون التعبير من قبيل المجاز المرسل حيث أطلق السجود وأراد لازمه.
وإذا كان المراد الخضوع والانقياد فإن فيهم العقلاء وغير العقلاء، وقد نص على الظلال بالغدو والآصال، ولا تعد من العقلاء التي تخاطب، فلماذا عبر ب( من ) التي تدل على العقلاء ؟ ونقول : إن ذلك من قبيل تغليب العقلاء على غيرهم، كما يعبر بجمع المذكر السالم على الذكور والإناث تغليبا للذكور العقلاء على غيرهم، وقد تطلق( من ) على العموم، ولو لم يكن في مضمونها عاقل وغير عاقل. وذلك كما في قوله تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ٤٥ ﴾( النور ).
وإن كل شيء يسجد لله تعالى حتى الظلال بالغدو والآصال، فهي أيضا تسجد خاضعة لله تعالى منقادة له سبحانه، وذكرت مع أنها تابعة لأشخاصها، وذلك للإشارة إلى أن أولئك المشركين خاضعون منقادون حتى ظلالهم التي تلازمهم، ويقال : فلان ألزم فلان من ظله، فالوجود كله تابع ومتبوع، ملازم وغير ملازم، خاضع لله تعالى، والغدو جمع غداة، كالقنو جمع قناة، والغدو مصدر.
ويصح أن نقول : إن ذكر الغدو والآصال توجيه النظر إلى مظهرها في طول الظل وقصره، بين الغدو في الصباح. والآصال، وهي جمع أصيل، وكيف أنه في الصباح غير مرتفع، ثم يرتفع شيئا فشيئا حتى يكون عموديا على الأرض في وقت الزوال، ثم ينحدر من بعد الزوال إلى الغروب، فيعود منخفضا نحو الأرض، وتصفر الشمس، وإن من وراء ذلك التغيير المستمر الدائم اتصال الشمس بالأرض، ووجود الحرارة في ارتفاعها فيكون الدفء، وفي انخفاضها فيكون البرد، ثم ما يكون للظلال من أثر، فتنبت الزرع وتنميه، حتى يستغلظ سوقه، ويعجب الزراع وهكذا، وذكر الوقتين وهما الغدو والآصال ؛ لأنهما الوقتان اللذان يختلف فيهما الطول والعرض ؛ ولأن الغدوة تشرق فيها الشمس على الوجود فتمده بكل أسباب القوة والنماء للأحياء ؛ ولأن الأصيل هو الوقت الذي تؤذن فيه الشمس بزوال، والله على كل شيء قدير.
وننبه إلى أمرين :
الأمر الأول : أن كلمتي﴿ طوعا وكرها ﴾ تدل على عموم السجود في حالي الطوع والاختيار والكره والاضطرار، وهذا دليل على كمال السلطان لله تعالى.
الأمر الثاني : أن بعض المفسرين قال : إن المراد من السجود سجود الصلاة، ومعنى الطوع الملائكة والدخول في الإسلام طوعا، ومعنى كرها : الدخول في الإسلام بعد الحرب نفاقا أو ضعفا، ولكن ذلك ليس بظاهر السياق. أولا لعموم من السموات والأرض، والمناسب لذلك أن يكون الخضوع للوجود كله.
وثانيا : فإن الكلمة السامية﴿ وظلالهم بالغدو والآصال ﴾ تعين أن يكون الواضح السجود بمعنى الخضوع.
قال الله تعالى :
قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ١٦ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأماما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ١٧
كان العرب يؤمنون بأن الله تعالى خالق السموات والأرض، وأنه ليس كمثله شيء، ولكنهم مع الإيمان بهذه القدرة القاهرة الغالبة كانوا يعبدون مع الله آلهة أخرى ؛ ولذلك كان الاحتجاج عليهم بالخلق والتكوين احتجاجا بأمر يعترفون به ويقرونه، ولا يخالفون فيه ؛ لذلك أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم :﴿ قل من رب السموات والأرض ﴾ كان السؤال لهم للإلزام، لا للإثبات، فهذا أمر ثابت لا خلاف فيه عندهم ؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه بأن يتولى هو الإجابة ؛ فقال :﴿ قل الله ﴾ لأنهم يقرون بذلك ولا ينكرونه ؛ ولأن ذلك بدهى في ذاته ؛ إذ لم تكن فيهم انحرافات الفلاسفة الذين يقولون فيها بالعلة والمعلول. ولم تكن فيهم خلافات المصريين في عهد الفراعنة ؛ ولذلك أمر نبيه أن يجيب عنهم، ثم أمر سبحانه أن يسألهم عن شركهم لماذا يكون مع اعتقادهم أن خلق السموات والأرض لله تعالى وحده، ﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله... ( ٦١ ) ﴾ [ العنكبوت ].
أمره الله تعالى أن يسألهم ما رتبوه على هذا الاعتقاد، وهو نقيضه، ﴿ قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والهمزة للاستفهام، وقدم على الفاء ؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتوبيخ أو التهكم، والمعنى : فقد رتبتم على قولكم : إن الله خالق السموات والأرض أن اتخذتم أولياء أو نصراء لهم ولاؤكم كأنهم آلهة غير الله تعالى ودونه في العقول عند كل المعقول، وتركتم من خلق وحده، وبدل أن تعبدوه عبدتم ما لا يملك لنفسه نفعا وإن أراده، ولا ضرا إن أراد دفعه، ومن لا يضر نفسه ولا ينفعها، فبالأولى لا يضر ولا ينفع غيره، فلا يرجى خيره، ولا يدفع شره إلا ما يكون في أوهامكم، وإن هذا التوبيخ يتضمن التوجيه إلى الوحدانية والبعد عن الشرك بالدليل القاطع المانع.
ولقد بين سبحانه ما تنكره العقول في هذا النحو من التفكير، وأمر الله تعالى نبيه أن يوجه إليهم الأسئلة ليتنبهوا إلى بطلان ما هم فيه، ومناقضته لاعتقادهم أن الله خالق كل شيء ﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ﴾ هذا الاستفهام إنكاري في الاثنين، وهو توبيخي، وفيه معنى التهكم، هل يستوي الأعمى الذي لا يرى بالبصير الذي يرى الأشياء، وإنكم قد أبصرتم الحق بإقراركم أن الله خالق السموات والأرض، فأقررتم بأنه الخالق، ومع ذلك عبدتم ما لا يملك جلب خير لنفسه، ولا دفع ضر لها، فلا يستويان، كما لا يستوى الأعمى والبصير، والظلمات والنور.
و ( أم ) في قوله ﴿ أم هل تستوي الظلمات والنور ﴾ للإضراب الانتقالي، فينقل الله نبيه من السؤال عن استواء الأعمى والبصير إلى السؤال عن استواء الظلمات والنور.
وينتقل آمرا نبيه بأن يسألهم سؤالا إيجابا عن الخلق عساهم يشركونهم في الخلق بدل التوحيد الذي قرروه من قبل فقال :﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ﴾ ( أم ) هنا للإضراب الانتقالي، وهو استفهام إنكاري لإنكار الواقع، أي توبيخ لهم لأن حالهم فيها إنكار ؛ لأن الله خالق كل شيء، إذ إنهم يؤمنون بالأوثان كإيمانهم بالله أو أشد، فحالهم حال من جعلوها شركاء لله تعالى في خلقه وإنشائه للوجود، حتى تشابه الخلق عليهم، فحسبوا أنهم خلقوا كما خلق.
والخلاصة أن حالهم ليست حال من يعتقد أن الله تعالى خالق الوجود وحده سبحانه ؛ لأنهم يشركون بل يفردون الأوثان بالعبادة.
ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يؤكد أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده، ولذا قال تعالى :﴿ قل الله خالق كل شيء ﴾ الله تعالى هو الخالق لكل شيء ﴿ وهو الواحد القهار ﴾ أي الواحد الأحد الفرد الصمد القاهر الغالب لكل شيء، وهنا إشارة بيانية وهي قوله تعالى :﴿ أم جعلوا لله شركاء ﴾ معناها أن ذلك مثل جعلوه، وزعم زعموه، وهو أنهم شاركوا في الخلق، ولم يستطيعوا تمييز عمل أوثانهم عن عمل الله، فتشابه الخلق عليهم، ولم يميزوا بينها.
وإن ذلك الفرض أخذ من حالهم في عبادة الأنداد مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( ١٧ ) ﴾.
هذه الآية الكريمة فيها : أولا : بيان نعمة الله تعالى على الناس، فيما ينزل من ماء يجري في الأودية والأنهار فينتفع به الناس آمادا، يأمنون فيها على أنفسهم وزرعهم وضرعهم من العطش الشديد، والجدب، وضياع الحرث والنسل. وفيها ثانيا : نعمة الله تعالى عليهم فيما أودعه باطن الأرض من فلزات يوقدون عليها فتكون منها حليهم وأمتعتهم من أوان وأدوات حروب، ودفع لأعدائهم، وبذلك يكون منها متاع وحماية ودفاع.
وفيها ثالثا : وهو الذي سيق له القول ظاهرا، وهو ضرب المثل بالحق والباطل، فالحق هو الأمر الثابت الباقي الذي ينفع الناس، والباطل هو الزبد الذي يجيش الماء فيوجده كالرغوة لا تبقى، والذي يوحده الغليان في الفلز فيظهر خبثا غير مفيد، والفلز يبقى من بعده خالصا ينفع الناس.
هذه خلاصة مقاصد الآية الكريمة السامية، بعضها بالقصد الأول، وبعضها بالقصد الثاني، وكلاهما فيه فضل الله واضح بين، بلا فرق بين ما سيقت له الآية قصدا، وما سيقت تبعا، فالجميع كلام الله تعالى مقصود كل معانيه أصليا وتبعيا.
ولنتكلم في أجزاء الآية الكريمة :
قوله تعالى :﴿ أنزل من السماء ماء ﴾ السماء هي العلو، والماء ينزل من المزن، وهي السحاب الثقال التي ذكر الله تعالى أنه ينشئهما في الآية السابقة، وتلك نعمة من الله أنعمها على الناس، نزلت من السماء على الجبال أو المرتفعات فتحدرت عليها المياه وسالت حتى كونت أودية وأنهارا، وهذا قوله تعالى :﴿ فسالت أودية بقدرها ﴾، الأودية جمع واد، وهو المكان الذي يجري فيه الماء، وليست الأودية هي التي تسيل، إنما الذي يسيل هو الماء الذي يجري فيها، وأطلقت الأودية وأريد ماؤها من قبيل المحل وإرادة ما يحل فيه، مثل قوله تعالى :﴿ فليدع ناديه ( ١٧ ) ﴾ [ العلق ] أي أهل ناديه، وقيل : سالت الأودية وأريد الماء ؛ لأن السيل شديدا عنيفا قد طم، حتى اختفت الأودية من شدته فصار الناظر لا يرى إلا المياه المتدفقة، وكان حكمه على ما يراه، لا على محله، وقوله تعالى :﴿ بقدرها ﴾ وقرئ بسكون الدال لا بفتحها، والمراد بمقدار ما يملؤها، وقيل : بما قدر لها من ماء يكفى الناس في معاشهم وزرعهم وضرعهم، ويصح إرادة المعنيين، والنص يحتمل الجمع، ولا تعارض بينهما.
و ( الزبد ) ما يحمله عند جريانه وجيشانه من أتربة وغيرها، وإن هذا بلا ريب يذهب ولا يبقى، بل أحيانا يكون رغوة يبددها الهواء، فهي كأزيز١ الموج يصطخب ولا يبقى منه شيء.
ولقد قال تعالى توجيها لأمر آخر، وهو الفلز عندما يفتن ليخرج ما فيه من خبث تعلق به من باطن الأرض فقال سبحانه :﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾ ( مما ) مدلولها الفلزات من المعادن وهي القابلة للطرق والسحب أو التي تنصهر بالنار كالذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير وغيرها، و ﴿ في النار ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف يفهم من القول، والمعنى : مما يوقدون عليه ملقى في النار، وقوله :﴿ ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾ أي مما يلقى في النار الموقدة بقصد طلب حلية كالذهب والفضة ﴿ أو متاع ﴾، أي أمر ينتفع به كالأواني، وأدوات الحروب وغير ذلك ﴿ زبد مثله ﴾، أي أن خبث الفلزات يكون كالزبد الذي يجئ من إثارة الماء للتراب واصطخاب الأمواج.
والجفاء هو ما يلقيه السائل بعيدا ليصفو، وذلك من قولهم جفأه السيل، وقد مثل الله تعالى المهتدى بالبصير، والضال بالأعمى، والعبادة الحقة بالنور، والباطلة بالظلمات في الآية السابقة. وفي هذه الآية مثل حق بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل منه أودية مختلفة تأتى بالزروع والثمار مناوبة، ولذا نكر أودية، وشبه الحق بالفلز الخالص، والزبد الذي يكون في حال جيشان الماء، ويكون من إيقاد النار على الفلز، أي شبه الباطل بهذا الزبد الذي لا يبقى، بينما الماء والفلز الخالص يبقيان نافعين دائمي النفع ووجه الشبه بين الحق، والفلز والماء، أنها مفيدة دائما، وباقية لغداء الإنسان، ومتاعه وحليه، وأنها جوهر صالح. ووجه الشبه بين الباطل والزبد، أولا : أنه لا بقاء لهما، ثانيا : أنهما لا حقيقة لهما، وثالثا : أن السلامة في الخالص منهما.
ويصح أن يكون التشبيه تشبيها تمثيليا، بأن يشبه حال الحق في بقائه ودوامه بالماء والجوهر الصافي من حيث النفع والبقاء والدوام، ويشبه حال الباطل من حيث إنه لا حقيقة له، وإذا كانت له حقيقة فهو خبث تجب إزالته وتطهير الجسم النافع، شبه حال الباطل بالزبد الذي يكون من الماء، أو يكون من إيقاد الفلز في النار ؛ لأنه لا حقيقة لها، وإذا كانت لها حقيقة فهي خبث يجب زواله.
وقد قال تعالى :﴿ كذلك يضرب الله الحق والباطل ﴾ كذلك يبين الله الحق والباطل فيشبه الحق بالماء والفلز ويشبه الباطل بالزبد، وقد بين سبحانه وجه الشبه، فقال :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ وقد ذكر في الأول المشبه به لتأكيد ذهاب الباطل، وفي الثاني ذكر المشبه وهو الحق لبيان بقائه ونفعه وثباته، وأن النهاية دائما له ﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل... ( ٨ ) ﴾ [ الأنفال ]، وقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ كذلك يضرب الله الأمثال ﴾.
والإشارة إلى بيان مثل الحق بالماء والفلز، ومثل الباطل بالزبد الذي لا يبقى، والمعنى كهذا المثل الذي بين الله تعالى به الحق والباطل يبين الأمثال المشابهة، ويبين المعاني الجلية، والحقائق الثابتة، ويهدي بها من يشاء من عباده.
بعد أن ضرب الله تعالى الأمثال للحق، وبين الدلائل المبينة الدالة على عبادة الله وحده لا شريك له من أنداد وأوثان، أو أحد من خلقه، وضرب الأمثال للحق والباطل، بين سبحانه وتعالى من يستجيب للحق وجزاءه، ومن لا يستجيب، فقال تعالى :﴿ للذين استجابوا لربهم الحسنى ﴾ الحسنى هو مؤنث أحسن، وليس أفعل التفضيل على بابه هنا، بل المراد الحال البالغة أقصى درجات الحسن ونهايته التي لا غاية في الحسن بعدها. و( استجاب ) معناها أجاب، ولكنها في أصلها طلب الإجابة ؛ أن السين والتاء للطلب، والمعنى : للذين أجابوا دعوة ربهم الذي خلقهم، وقام على شئونهم الجزاء الأحسن الذي لا حسن بعده.
هذا جزاء الذين استجابوا لدعوة الحق ولربهم رسوله، أما الذين لم يستجيبوا لربهم ولم يلبوا دعوته إلى الحق وعدم الشرك فلهم السوءى، أي أسوأ الأحوال التي لا نهاية بعدها في السوء. ويلاحظ أن الذين استجابوا جعل استجابتهم لربهم، والذين لم يستجيبوا لم يذكر في النفي أنها لربهم، وذلك لسببين :
السبب الأول : أن عدم ذكر ذلك لعدم التكرار، والتكرار في الأمر مذموم في ذاته غير مقبول.
والسبب الثاني : بيان أنهم ليس من شأنهم أن يستجيبوا لحق، فقد طمس الله على قلوبهم، وعلى أعينهم غشاوة ولا يبصرون.
وقد ذكر الله الجزاء الذي يقابل الحسنى بقوله تعالى :﴿ لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ﴾ وهذا يدل على أنه عذاب عظيم يحاول من ينزل به الخلاص منه، وأنه لا يخلص منه إلا بفداء عظيم يساوي الفداء منه كل ما في الأرض من أموال وأعراض ومتع ومناصب وجاه، فكان له كفاء، ومعنى ﴿ لو أن لهم ما في الأرض... ﴾ إلى آخره لو ثبت أن لهم كل ما في الأرض من ملاذ وشهوات جمعيا غير منفرط منه شيء، لافتدوا أي رضوا أن يقدموه فداء له، فما في الأرض إن كانوا يملكونه يقدمونه.
و ( لو ) امتناع لامتناع، أي امتنع عليهم الافتداء ؛ لأنهم لا يملكون ما في الأرض جميعا.
ولقد صرح سبحانه بأنه سوء في ابتدائه وانتهائه، فقال تعالى :﴿ أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾ وسوء الحساب أنه شاق يسوء في نتائجه لا تخفى فيه خافية. بل يحاسبون حسابا عسيرا شديدا في شكله وغايته، وقد ذكره سبحانه وهو الإلقاء في الحميم. و ( المأوى ) ما يأوي إليه الإنسان يتقي به الحر والبرد، والمأوى الذي يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي بئس المهاد، و ﴿ المهاد ﴾ جمع مهد وهو الفراش الذي يفترشه لينال به الراحة والقرار، ولكنه في الآخر ليس للراحة ولكن العذاب الدائم ﴿... أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ٣٩ ) ﴾ [ البقرة ].
﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ( ١٩ ) ﴾.
هذا النص الكريم لتأكيد الفارق بين جزاء المتقين وجزاء الذين لا يستجيبون للحق ولا يذعنون، والاستفهام هنا إنكاري، لإنكار الوقوع، أي أنه لنفي التشابه بين من يعلم الحق، ويذعن له، ويؤمن به، ومن يعرض عن الحق ويترك الآيات الدالة على الحق المبين وكأنه الأعمى الذي لا يبصر، إذ عدم البصيرة كعدم البصر على السواء.
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على اختلاف الجزاءين تقرير أن التشابه بينها غير ممكن، وأخر الفاء عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة كما ذكرنا من قبل.
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أفيستوي الذين يعلمون ﴿ إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ﴾. والمراد بالذي ﴿ أنزل إليك من ربك ﴾ القرآن، وكر بهذا الموصول ليكون متضمنا الحكم، وهو أنه الحق لأنه أنزل إليك من الله الذي خلقك ورباك وأيدك، فلا بد أن يكون الحق، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنه لا يمكن أن يكون إلا حقا، ولا يمكن أن يكون فيه باطل قط ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.... ( ٤٢ ) ﴾ [ فصلت ]، وقوله تعالى :﴿ كمن هو أعمى ﴾ المراد من لا يصدق أنه الحق، كأنه الأعمى، إذ إنه أعرض عن الآيات الشاهدة بالصدق، وأنه المعجزة الكبرى، والآيات الدالة على أن الله واحد أحد فرد صمد، وقد خلق كل شيء وقدره تقديرا، فاستعير لفظ الأعمى لمن أعرض عن ذكر ربه وأنكر آياته كأنه لم يرها. وإن فقد البصيرة كفقد البصر على سواء.
ثم قال تعالى :﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾ ( إنما ) أداة من أدوات القصر، أي لا يتذكر إلا أولو الألباب، أي العقول التي تدرك لب الأمور، وخواصها، وما تدل عليه من غير شائبة تقليد، ولا اتباع لغير المؤمنين، و ( أولوا ) أي أصحاب الألباب، ومعنى التذكر إدراك الآيات، وكأنها لا تحتاج إلى تعرف جديد ؛ لأن أصلها في الفطرة.
يصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالوفاء بالعهد، وما بعده من أوصاف.
كما قال تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( ١٧٧ ﴾ [ البقرة ].
فالوفاء بالعهد من صفات المؤمنين، ومن خصال الإيمان ؛ وذلك لأن الوفاء يقتضي أن تصدق النفس في ذاتها وأن تدرك ما يجب في حق النفس، ويشعر المرء بالمعادلة في الحياة بينه وبين الناس، يشعر بحقهم عليه كما يطالبهم بحقه عليهم ؛ ولذا كان علامة من علامات الإيمان. وكان خلف العهد علامة من علامات النفاق ؛ لأن المنافق يحسب أن الناس خلقوا له يستغلهم ولا يعطيهم، يأخذ منهم ولا يقدم لهم.
والعهد أضيف إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا... ( ٩١ ) ﴾ [ النحل ].
والعهد سواء أكان مضافا إلى الله تعالى أم كان مضافا إلى العبد واجب الوفاء ؛ لأنه من أمر الله، والنقض من أمر الله تعالى، فمن أوفى بعهده للناس فقد أوفى بعهد الله تعالى، وقد قال تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود.... ( ١ ) ﴾ [ الأنعام ].
والعهود تشمل التكليفات الشرعية كلها فهي عقود الله تعالى على عباده، وتشمل العهود التي عقدت موثقة بيمين سواء أكانت نذورا أم كانت عهودا للناس، وثقها على نفسه بيمين الله تعالى، فالوفاء بها من الإيمان، ويشمل العهود التي يعقدها مع الناس ولو لم يذكر فيها يمين لما ذكرنا ؛ لأن الشعور بالوفاء شعور بالمبادلة الاجتماعية بينه وبين الناس في الحقوق والواجبات، وبذلك يكون الاجتماع المستقيم القائم على هدى رب العالمين.
وأكد الله تعالى الوفاء بذم نقيضه، فقال تعالى :﴿ ولا ينقضون الميثاق ﴾، و ( الميثاق ) وهو ما وثق من العهود بيمين الله أو غيره، و ( أل ) فيه للعهد، وقد ذكر الميثاق على بني إسرائيل وهو ميثاق الله تعالى الذي حمله الأنبياء، وقد بينه الله تعالى على بني إسرائيل فقال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ( ٨٣ ) ﴾ [ البقرة ].
هذا ميثاق الله تعالى على عباده أجمعين، جاء على لسان الأنبياء الأكرمين، ولكن ذكر مع بني إسرائيل لأنهم أشد الناس مخالفة له. وقد أمر به في القرآن أمرا، فقال تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ( ٣٦ ) ﴾ [ النساء ].
هذا ميثاق النبيين، وهو يقوم على القيام بحق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد التي أكدها الله سبحانه وتعالى بأمره، وهذا الميثاق هو ميثاق الجماعة، وميثاق العدل الاجتماعي الكامل.
قال تعالى فيه :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ( ٢١ ) ﴾.
وذكر الله تعالى لهم ثلاثة أوصاف : وصف يتعلق بالصلاة الاجتماعية التي بها يقوم بناء اجتماعي سليم يبتدئ من الأسرة بمعناها الممتد الذي يشمل القرابة جميعها قريبة كانت أم بعيدة، ويشمل المجتمع الصغير، ومجتمع المدينة، ثم الدولة، ثم المجتمع الإنساني، وهذا هو الوصف الأول ﴿ الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ﴾، والوصف الثاني نفسي، وهو أساس البناء الاجتماعي الفاضل، ورمز الله تعالى إليه بقوله تعالت كلماته :﴿ ويخشون ربهم ﴾، أي يخافون الله تعالى في كل عمل يعملونه، فلا يطغون، ولا يظلمون، ولا ينقصون الناس حقوقهم، فمن خشى الله تعالى يتذكره في كل عمل يعمله في ذات نفسه، وفي أهله وبينه وبين الناس.
والوصف الثالث : الإيمان بأنه يحاسب عليه، وقد ذكره سبحانه بقوله تعالى :﴿ ويخافون سوء الحساب ﴾، وخوف الحساب يتضمن الإيمان بالبعث والنشور، ولقاء الله تعالى يوم القيامة أولا، وأنه سيحاسب على ما كان في الدنيا ثانيا. ويتضمن ترجيح الخوف على الرجاء، وأنه يخشى السوء قبل أن يرجو الثواب. ثالثا : فهو يستقل ما قدمه من خير، ويستكثر دائما ما وقع فيه من هفوات، وهذا شأن الأبرار، يستقلون ما يفعلون من خير، ويستكثرون ما يقع منهم من هفوات.
ولنذكر كلمات موجزة عن هذه الصفات الثلاث :
فأما الأولى، فهي : أن يصلوا ما أمر الله به أن يوصل، فنقول : إن ما أمر الله به أن يوصل هو ما يتعلق ببناء المجتمع على المودة والرحمة، فيصل قرابته القريبة والبعيدة، فقد أمر سبحانه وتعالى بصلة الرحم، فقال :﴿... وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض... ( ٧٥ ) ﴾ [ الأنفال ]، وأمر على لسان رسوله بصلة الأرحام في أكثر من حديث، وأمر بالصلة بين الناس بالتعاون فيما بينهم على الخير، فقال تعالى :﴿... وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان....( ٢ ) ﴾ [ المائدة ]، ودعا إلى إقراء السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وأمر بإغاثة المستغيث، وفك كرب المكروبين. فكل هذه صلات قد أمر الله تعالى بوصلها. ولقد جاء في الكشاف للزمخشري ما نصه : ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان ﴿ إنما المؤمنون إخوة....( ١٠ ) ﴾ [ الحجرات ]، وقرابة المؤمنين الثابتة حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم وطرح التفرقة بين أنفسهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر )١.
وهكذا نجد من الأمر بأن يصل ما أمر الله به أن يوصل، أن يعملوا على رأب الصدع وجمع الوحدة، وإزالة الفرقة، وأن يحسنوا إلى الضعفاء والمساكين، وقد روى ابن كثير عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :"هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من الملائكة : إيتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، فتأمرنا أن نأتيهم فنسلم عليهم، فيقول : إنهم كانوا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع قضاءها"٢.
هذه صلة من أمر الله به.
وأما خشية الله تعالى فهي امتلاء القلب بالله، وخشية عقابه، ورجاء ثوابه، وأن يكون ذاكرا لله، شكورا لنعمه، راجيا قبول طاعته ﴿... إنما يخشى الله من عباده العلماء... ( ٢٨ ) ﴾ [ فاطر ]، فهم أعلم الناس به ذاتا، وصفات، وقدرا، وإكبارا.
ومنها خوف سوء الحساب، فهو خوف نتائج السر الذي كان في الدنيا، والله غفور رحيم.
٢ رواه أحمد: مسند المكثرين من الصحابة – مسند عبد الله بن عباس (٦٢٨٢)..
﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ( ٢٢ ) ﴾.
ذكرت هذه الآية أربع خصال للمؤمنين، أولها : الصبر ابتغاء وجه الله تعالى، وإقامة الصلاة والإنفاق من رزق الله تعالى، ودرء السيئة بالحسنة.
أما الصفة أو الخصلة الأولى : وهي الصبر ابتغاء وجه الله، فإن معناها ضبط النفس عن الشهوات، وتسيطر على منازع النفس فتقوى الإرادة، وتكون الأهواء أمة لها، ولا تكون سيدا عليه، وإن الصبر في المصائب التي تنزل، والإصرار على الوقوف عند أمر الله تعالى ونهيه، ولقد فسر ابن كثير الصبر ابتغاء وجه ربهم بقوله :"الصبر عن المحارم والمآثم، فقطعوا أنفسهم عنها لله عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه" وفسره الزمخشري بقوله :"﴿ صبروا ﴾ مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، ومشاق التكليف ابتغاء وجه الله، لا ليقال ما أصبره، وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع، ولا لئلا يشمت به الأعداء كقول القائل :( وتجلدي للشامتين أريهم )١، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع، ولا مر فيه للفائت كقول القائل :
ما إن جزعت ولا هلع ت ولا يرد بكاي زندا
فكل عمل له وجوه، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما كان حسنا عند الله، وإلا لم يستحق ثوابا، وكان فعل كل فعل" ا. ه٢. قيل هذا الكلام بليغ، وفيه بيان متى يكون الصبر ابتغاء وجه ربه، ومتى لا يكون، وإنه بلا ريب كلام حق، ولكني أريد عليه، بأن كلمة :﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ﴾ لا بد أن يكون في موضع معين يكون الصبر فيه ابتغاء وجه الله، أي يبيع المؤمن نفسه لله تعالى صابرا محتسبا، وهو الجهاد، فهذه الجملة السامية أو الخصلة الكريمة مع أنها تفيد أن الصبر في كل أحواله خير، وخصوصا إذا لم تقصد به المفاخرة، كما جاء على لسان بعض الشعراء، فإن الأخص هو الصبر في الجهاد، يدفع نوازع النفس، وبالتقدم للميدان رجاء ما عند الله تعالى، والصبر في كل أحواله خير.
ومعنى ﴿ ابتغاء وجه ربهم ﴾ أن يطلب رضا ذات الله تعالى العلية عليه. وعبر بالوجه عن الذات ؛ لأنه في أصل معناه اللغوي ما يواجه الإنسان.
والخصلة الثانية : إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مستوفية الأركان، وبخشوع وخضوع، وبأداء حقيقة معناها الناهية عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى :﴿... إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر... ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ]، وإن الصلاة إذا أقيمت لقويت النفس، وناجى المؤمن ربه حق المناجاة، وقرب من ربه، وامتلأت نفسه به، وصار قلبه نورا، وفكره نورا، واستقامت نفسه وقلبه.
والخصلة الثالثة : كما قال تعالى :﴿ وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية ﴾، وقوله تعالى :﴿ مما رزقناهم ﴾ معناها : إنفاق بعض ما رزقناهم، أي من حلال مكاسبهم، فالكسب الحلال رزق من الله، وإضافة الرزق إلى الله تعالى يقتضي أولا ما ذكرنا وهو أن يكون حلالا، ويعتبر ثانيا أن المال مال الله تعالى فهو الذي رزق، وما تكلف من إنفاق إنما هو مما أعطاك، فقد أعطاك لتنفق، فهو ابتلاك بالمال لتنفقه وتشكر، وابتلى غيرك بالفقر ليصبر، والله فضل بعضكم على بعض في الرزق.
وقوله :﴿ سرا وعلانية ﴾ ولكل حال فضلها، ففضل السر الستر على من يعطيه، وألا يكون تفاخرا، وأن يكون العطاء لوجه الله لا رياء فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائى فقد أشرك"٣، وفي العلانية فضل أحيانا كأن تحرض الناس على العطاء، وأن يمنع الاتهام بالشح ليقي نفسه منه.
والخصلة الرابعة : بينها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة ﴾.
( درأ ) بمعنى دفع، ومن ذلك بقوله تعالى في اللعان :﴿ ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) ﴾ [ النور ].
ودرء السيئة بالحسنة فسرها المفسرون بأنه دفع الإساءة بالإحسان، ومقابلة الحرمان بالإعطاء، والقطيعة بالوصل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"٤، وقد روى عن ابن عباس أنه قال في معنى هذه الآية : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وعن الحسن البصري : إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا.
وجملة هذه المعاني تتجه إلى نشر التسامح، ومنع مبادلة السوء بالسوء حتى لا يؤدى ذلك إلى التقاطع والتدابر، وأن يكون بأن المسلمين بينهم شديدا، وهذا هو ما أمر الله تعالى به منعا للعداوة، فقد قال تعالى :﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( ٣٤ ) ﴾ [ فصلت ].
هذا معنى سليم مستقيم، ويصح أن نقول : إن معنى قوله تعالى :﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة ﴾، أن الإكثار من الحسنات يدفع السيئات ؛ ذلك أن الحسنات طهارة للنفس، والطهارة تزيل أخباث النفس، كما قال تعالى :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات... ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ] فإن السيئات تخط في القلب خطوطا، والحسنات تزيلها، أو تذهب بنكتها السوداء، ويصح أن يراد المعنيان. ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحسنة تمحو السيئة فقال صلى الله عليه وسلم :"وأتبع السيئة الحسنة تمحها"٥.
٢ الكشاف للزمخشري: ج ٢/ ٣٥٧، وتتمة البيت كما ذكره البيضاوي ج ٦/ ٣٧٦:
وتجلدى للشامتين أربهم أبي لريب الدهر لا أتضعضع
البيت لأبي ذؤيب قاله يرثي بنيه..
٣ رواه أحمد، وقد سبق تخريجه..
٤ رواه البخاري: الأدب – ليس الواصل بالمكافئ (٥٥٣٢). كما رواه الترمذي: البر والصلة (١٨٣١)، وأبو داود: الزكاة (١٤٤٦)، وأحمد: مسند المكثرين (٦٢٣٨)..
٥ رواه الترمذي: البر والصلة – ما جاء في معاشرة النساء. (١٩١٠)، كما أخرجه أحمد في مسند الأنصار (٢٠٣٩٢)، والدارمي: الرقاق (٢٦٧١)..
﴿ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( ٢٣ ) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( ٢٤ ) ﴾.
﴿ جنات عدن ﴾ بدل أو بيان لمعنى عقبى الدار، أو الدار نفسها التي تكون عاقبة العالمين عملا صالحا، والذين صبروا في الجهاد ابتغاء وجه ربهم، و ﴿ عدن ﴾ يعني إقامة، أي جنات يقيمون فيها إقامة دائمة وهي الفردوس، وتكون في وسط الجنة، وفوقها عرش الرحمن الذي يحكم في عباده بما يشاء، وهذا تصوير بياني رائع لبيان النعيم المقيم الذي يختص به الأبرار المجاهدون الأطهار.
يدخلونها، لا عائق يعوقهم، ولا حائل بينهم وبينها، ويدخلون معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ذكر هؤلاء الذين يكونون الأسرة، والمؤمن في حنان مستمر إلى هؤلاء، من آباء وأمهات وأبناء وأحفاد. فالله سبحانه وتعالى يطمئنه عليهم، وبأن الأسرة الدنيوية تكون معه في الآخرة يأنس بها وتأنس به، وقيد هؤلاء بأنهم الصالحون، وغير الصالحين ليسوا منه، وليس هو منهم كابن نوح، إذ قال ربه :﴿... إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح... ( ٤٦ ) ﴾ [ هود ]، وهذا يشير إلى أن الجنة جزاء للأعمال، لا للأنساب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحبابه من بني هاشم :"يا معشر بني هاشم، لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب، وأن ليس للأنساب إلا ما سعى"١. وقد فهم بعض المفسرين أن أولئك ألحقوا به إكراما له، ولكن اشتراط الصلاح يقيد دخولهم ﴿ ومن صلح ﴾، إنما كان استقلالا لعملهم بدليل ذكر الصلاح، ولكن ذكروا معه لبيان أنسه بأحبابه في الدنيا أولا ولاطمئنانه على من يحدب عليهم ثانيا.
ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي على قبور الشهداء كل حول فيقول :"السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"٢، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك، ولم يذكر علي مع أنه بطل الجهاد الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعرف الناس بعد الرسول بحق الجهاد وهو القائل :( الجهاد باب من أبواب الجنة ).
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة"٣، وإن المسلمين هانوا على أنفسهم يوم بث أعداؤهم التخاذل عن الجهاد، فأطاعوهم، فخذلهم الله تعالى، ولا تزال تطلع على المتخاذلين من المسلمين عن الجهاد، فقد ساروا وراء أذيال النعم، وصاروا عاملين لأعدائهم يقدمون لهم أسباب المال الذي يستخدمونه ضدهم.
ثم بين سبحانه أن هذا الجزاء هو خير الجزاء، فقال :﴿ فنعم عقبي الدار ﴾. الفاء للإفصاح، أي إذا كان ذلك هو العقبى والنتيجة، فنعم هذه العقبى، وتلك النهاية.
٢ انظر ما جاء في البداية والنهاية – ج ٤/ ٢١٨..
٣ رواه أبو داود: في الغزو مع أئمة الجور. (٢١٧٠)..
هذه أوصاف الذين عتوا عن أمر ربهم وخرجوا عن جادة الحق، وأوصافهم في مقابلة أوصاف المؤمنين، وهم متصفون بصفات ثلاث، جعلتهم يمردون على الكفر والطغيان، وهذه الصفات الثلاث هي : نقض عهد الله، والثانية : قطعهم ما أمر الله به أن يوصل، والثالثة، الفساد في الأرض.
أما الأولى فقد بينها سبحانه وتعالى :﴿ والذين ينقصون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾ وعهد الله تعالى بدهى تدركه البديهية السليمة ؛ لذا سمى دين التوحيد، فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها. وهي إدراكها حقيقة، حتى إن بعض العلماء قال : إن إدراك الله تعالى تدركه البديهة السليمة ؛ لذا سمى دين التوحيد، فطرة الله التي فطر الناس عليها. وقد نص على عهد الله في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( ١٧٢ ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( ١٧٣ ) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( ١٧٤ ) ﴾ [ الأعراف ].
ولم يترك الناس بعد هذا العهد الذي أخذ بمقتضى الفطرة، بل وثقه بميثاق، ولذا قال تعالى :﴿ من بعد ميثاقه ﴾ وهذا الميثاق الذي وثق به الرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين ﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ [ فاطر ]، وقال تعالى :﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ١٥ ) ﴾ [ الإسراء ].
ولقد جاءت النذر بهلاك الأمم التي فسقت عن عهدها، فكان ذلك توثيقا بعد توثيق، وإنذارا بع إنذار، ومع ذلك نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه.
الصفة الثانية : قطعهم ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام، والعلاقات الاجتماعية الفاضلة على ما بينا في معنى قوله تعالى في صفات المؤمنين :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ﴾.
الصفة الثالثة : أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ الفساد في الأرض ألا يقوم فيها النظام الاجتماعي على التكافل بين الآحاد، ومعاونة بعضهم، وألا يستعلى قوي على ضعيف، وألا يندغم الضعفاء في الجماعة، وألا يراعى لهم حق، وأن يكون التفاوت الظالم بين الآحاد، وألا يكون ضابط يحمى الضعفاء من الأقوياء والأغنياء من الفقراء، وأن يسود الظلم من الحكام لرعاياهم، فإن ذلك فسادا أي فساد، وقد رأينا حكاما ظالمين يقتلون الرعية بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، والله أكبر، ويدعون أنهم يصلحون وهم المفسدون ؛ لأن أساس كل نظام العدل. إفساد أي حكم بالظلم أولا، وما يتبعه تحسس وتجسس وسعاية ثانيا، وما يجري وراءه من نفاق ثالثا : وإذا جاء النفاق عم الفساد. ولقد قال أبو العالية :"ست صفات في المنافقين، إذا كانت الظهرة ( أي السيطرة ) على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم ثلاث خصال : إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا".
وإن النفاق دائما وليد الاستبداد الغاشم، والظلم الطاغي، وقد رأينا وشاهدنا.
وقد بين الله سبحانه الجزاء الأوفى للذين لا يؤمنون، فقال تعالى :﴿ أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ اللعنة هي الطرد، وقد ذكرت غير مقيدة، فإنها في الدنيا أو الآخرة، أما لعنتهم في الدنيا فالمقت الشديد والبغض والكراهية، وسوء الأحدوثة، واقتران حياتهم بالخوف من الناس، والاضطراب النفسي حتى يموتوا بغيظهم، وسوء الحديث عنهم تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل. ويقال فيهم ما قاله الشاعر البطل محمود سامي البارودي :
زالوا فما بكت الدنيا لطلعتهم ولا تعطلت الأعياد والجمع
واللعنة في الآخرة : الطرد من رحمة الله ورضوانه، فلا ينظر إليهم ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم ﴿ ولهم سوء الدار ﴾ والدار هي الآخرة وسوءها جهنم وبئس المهاد.
وقال تعالت كلماته :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ( ٢٦ ) ﴾.
صدر سبحانه وتعالى الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يطالبهم الله تعالى بعبادته وحده من غير أن يشركوا به شيئا، ويبين سبحانه أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء، أي يمده ويجعله ممدودا واسعا، ويقدره لمن يشاء أي يجعله محدودا قليلا، كقوله تعالى :﴿... ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها...( ٧ ) ﴾ [ الطلاق ].
والمعنى في تصدير الآية بلفظ الجلالة هو أن الله تعالى هو الذي بسط لكم قدر الرزق للضعفاء والفقراء فصبروا فحق لهم التكريم وحسن الجزاء، ولا يستوي المحسن والمسئ، ولا الأعمى والبصير.
وإن الله الذي بسط الرزق وقدره لم يجعل أمرا الدنيا في السعة والضيق دليلا على الرضا أو البغض إنما هذا للاختبار، فهو سبحانه وتعالى يختبرنا بالتوسعة ويطالب بالشكر، ويختبر بالقدر والضيق ويطالب بالصبر، وكل له جزاؤه.
وإن أولئك المشركين بسط الله تعالى لهم في الرزق فلم يشكروا ؛ ولأن الشكر يقتضي أن يحسوا بفضل المنعم، لا أن يحس فقط بالاستمتاع بما أعطى، والاستطالة به على الناس وإن ذلك ينشأ من الفرح ببسط الرزق، لا ينشأ من القيام بحق الشكر ؛ لأن إحساس المؤمن بأنها ابتلاء، كما قال تعالى :﴿... ونبلوكم بالشر والخير فتنة...( ٣٥ ) ﴾ [ الأنبياء ]، وإحساس الكافر بأنها متعة ينتهزها.
ولقد قال في ذلك :﴿ وفرحوا بالحياة الدنيا ﴾ أي إن الكافرين فرحوا بما بسط الله تعالى من الدنيا، ففرحوا بها فرحا أدى إلى أن بطروا معيشتهم، وغمطوا الناس حقوقهم، وإن فرحهم بالحياة الدنيا لم يكن فرحا يذوقون حلوها ومرها، بل فرح استعلاء واستغواء لا يلاحظون إلا أنها متعتهم يستكبرون بها على غيرهم، وينسون في سبيل ذلك كل حق عليهم، ولا يعرفون أن المتعة حق يتبعه واجب، وبذلك تكون متعة لا يعقبها خير في الآخرة ينالون به نعيما مقيما ؛ إذ لم يلتفتوا إلى الآخرة وما فيها، ﴿ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ﴾ التنكير في ﴿ متاع ﴾ للتحقير لا للتكبير، أي الإمتاع نزر قليل، لا بقاء له، لأنه سرعان ما يزول إذ هو في الدنيا، والدنيا زائلة، ويقول الزمخشري في ذلك :( وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نزرا به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله به من تميرات، أو شربة سويق أو نحو ذلك )١.
ولقد ذكر الله تعالى في آيات أخر، مثل قوله تعالى :﴿... قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ( ٧٧ ) ﴾ [ النساء ]، وقوله تعالى :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا ( ١٦ ) والآخرة خير وأبقى ( ١٧ ) ﴾ [ الأعلى ]، وقوله تعالى :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ].
إن هذا من تعنتهم ومحاولة إعانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وحالهم كحال الأعمى الذي لا يحسن أن يعيش في ضوء الشمس وحرارتها، ويقول لا توجد شمس ولا دفء، وما العيب إلا في مشاعره التي إيفت، فهو ينكر ما لا يحس به، طلبوا ملكا رسولا، وطلبوا أن تفجر الأنهار، وغير ذلك من المطالب التي ساقوها، وما هي إلا تعلات الكفر والإشراك، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله أو بعشر آيات من مثله فعجزوا، وكان عجزهم دليلا على أنه من عند الله، ولقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يرد عليهم بأن الذي دفع إلى طلب هذه الآيات هو ضلالهم، وإصرارهم على الكفر والعناد، وقد جاءت هذه الآيات وأشباهها لمن سبقوهم وكفروا وضلوا سواء السبيل، أمر الله نبيه فقال :﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾.
﴿ أناب ﴾ رجع، أي رجع إليه، وابتدأ السير في طريق الهداية، فإن الله يأخذه بيده حتى يصل إلى نور ربه، والمعنى : الذين كتب الله تعالى عليهم الضلالة، وهم الذين ساروا في طريق الغواية يكتبهم سبحانه من الضالين فتعمى قلوبهم عن إدراك ما في الآيات من أمارات الحق وهدايته، وإن كانت هي في ذاتها منيرة بينة، أما الذين عادوا إلى ربهم وأنابوا إليه فإنه يهديهم إليه سبحانه وتعالى.
وهذا يفيد أن الذين يريدون آية غير القرآن وغير ما جاء على يديه من خوارق العادات كالإسراء والمعراج إنما يريدون هذه الآية إمعانا في ضلالهم.
وهنا إشارات بيانية نذكرها :
أولاها : التعبير بالمضارع في قوله تعالى :﴿ ويقول الذين كفروا ﴾ فيها إشارة إلى تكرار قولهم هذا وهم مبطلون.
الثانية : التعبير بالموصول يدل على أن الصلة علة الطلب، فكفرهم هو علة طلبهم، أي أنهم سبقوا إلى الكفر فاعتنقوه، ثم حاولوا الاستدلال لتأييده، فما طالبوا ببراءة، طالب الحق بل حكموا أولا وأخذوا يتعنتون لإثبات ما هم عليه ومثلهم كمثل القاضي الذي يحكم ثم يحاول تقديم البينة لإثبات ما حكم به.
الثالثة : أن الهداية تكون لمن فتح قلبه للرجوع إلى الله، ولذا عبر بالماضي في قوله :﴿ من أناب ﴾ أي من فتح قلبه للإنابة إلى الله، فأخذ الله سبحانه وتعالى بيده إلى الحق، والتعبير بالمضارع في قوله تعالى :﴿ ويهدي إليه ﴾، للإشارة إلى تكرار الهداية بشرطها من غير إجبار على كفر، ولا طاعة، بل الطاعة بالإرادة، ولذا كان الثواب والمعصية بإرادة العاصي ؛ ولذا كان العقاب.
وقد قال الزمخشري في الكشاف في قوله تعالى :﴿ يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾ قال ما خلاصته : كيف كان قوله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ردا لقولهم :﴿ لولا أنزل عليه آية من ربه ﴾ ؟ فأجاب بأن قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب كلام جار مجرى التعجب من قولهم ؛ وذلك من الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية، وراء كل آية، فإن جحدوها ولم يعتبروا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعا للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم، وما أشد تصميمكم على كفركم، إن الله يضل من يشاء من كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة، فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن نزلت كل آية١.
وإن ذلك بيان يليق بمقام الزمخشري في البيان، وإدراك ملامح القول، وهو لا ينافي ما بينا من قبل، وإن زاد معنى التعجب من صلابة تفهم.
وأناب في قوله تعالى :﴿ ويهدي إليه من أناب ﴾ معناها : أقبل إلى الحق، ودخل في توبة الخير ؛ لأن أناب معناها اللغوي دخل في التوبة، والمناسب هنا دخوله في توبة الخير.
﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾.
﴿ الذين آمنوا ﴾ بدل أو بيان لقوله تعالى في الآية السابقة :﴿ ويهدي إليه من أناب ﴾، فهي بدل من قوله :﴿ من أناب ﴾، وعلى ذلك يكون محل ﴿ الذين آمنوا ﴾، النصب ؛ لأن ﴿ من ﴾ محلها النصب، على أنها مفعول به ل ﴿ يهدي ﴾، ويكون قوله تعالى :﴿ وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله ﴾ الفعل ﴿ تطمئن ﴾ يكون معطوفا على ﴿ يهدي ﴾، ويكون الفعل المضارع معطوفا على مثلهن وليس في الكلام السامي عطف مضارع على ماض.
أي أن الله يهدي من أناب، وهم الذين آمنوا وصدقوا وأذعنوا، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى بهذه الهداية، والرجوع إلى الله تعالى وبذكر الله، وذكر الله تعالى يجعل القلوب مطمئنة ؛ لأنه إذا امتلأ القلب بذكر الله تعالى سكن إليه، وأصبح لا يبالي شيئا من كوارث الدنيا، فالقلق والفزع، والخوف من الحرمان، والشدائد، كل هذا يذهب، ولا يكون شيئا إذا عمر القلب بذكر الله، فلا يكون فيه فراغ لشيء من هذا الخوف أو الفزع ؛ وذلك لأن الأنس بالله يوجد في القلب اطمئنانا القلب، ويجعل النفس في حال رجاء لرحمته، ومغفرته.
وقد قرر الله تعالت حكمته هذا المعنى فقال :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾، أي أنها تكون في فزع هالع إذا لم تذكر الله، فإذا ذكرت الله تعالى هان كل شيء ؛ لأنها حينئذ تلجأ إلى حصن من القرار، لا تصل إليه عوامل القلق والاضطراب، وقوله تعالى :﴿ بذكر الله ﴾ بتقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد الاختصاص، أي بذكر الله وحده لا بشيء آخر تطمئن القلوب، و ( ال ) في ﴿ القلوب ﴾ لبيان عمومها، فالقلوب كلها لا تطمئن إلا بذكر الله تعالى ؛ ولذلك تكون القلوب الخالية من ذكر الله تكون في فزع مستمر ؛ لأنها خالية من الإيمان غير عامرة.
وإن المؤمنين لفرط إحساسهم بالواجبات عليهم وإدراكهم للنذر تقشعر جلودهم عند سماع القرآن، وما فيهم من نذر تقشعر جلودهم، ولا يذهب بذلك إلا ذكر الله تعالى، اقرأ قوله تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ( ٢٣ ) ﴾ [ الزمر ].
﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب ( ٢٩ ) ﴾.
هذا جزاء آخر، غير جزاء الاطمئنان والقرار الذي يختص به المؤمنون دائما، ﴿ طوبى لهم ﴾ وهي على وزن فعلى كبشرى، وزلفى، وأصلها طيبى، وقعت الياء ساكنة بعد ضمة فقلبت واوا، وقد قال الزمخشري عالم البيان في تصريفها :"وطوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى، ومعنى طوبى لك أصبت خيرا وطيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك".
وعلى كلام الزمخشري تكون هذه الكلمة السامية تحية من الله تعالى لعباده المؤمنين، وتكون هذه التحية مقررة لهم بأن لهم السلام والاطمئنان، والطيب في إقامتهم في الجنة، بدليل ما جاء معطوفا عليها، وهو قوله تعالى :﴿ وحسن مئاب ﴾ أي مآب، ومرجع ونهاية هي حسنة في ذاتها، ليجتمع لها طيب الإقامة، وحسن الثواب، بل كلاهما من الثواب.
وطوبى، محلها هنا، بدليل المعطوف عليها، فإنه مرفوع.
وقد ذكر سبحانه وتعالى لاستحقاق هذه التحية المباركة وصفين :
الوصف الأول : الإيمان.
والوصف الثاني : العمل الصالح.
فالعمل الصالح غذاء الإيمان، وإذا لم يكن جف الإيمان، وصار حطاما أو غثاء أحوى، وإن أساس الخير هو الإذعان للحق، ثم الجهد به، ثم العمل، ثم السير على مقتضى الإيمان في أعمال الحياة، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، وهيئ للمسلمين من أمرهم رشدا، وهبهم الاطمئنان إلى ذكرك، وحتى لا يرهبوا، ولا يفزعوا ولا يطمعوا، واجعل قلوبهم تعمر بك، حتى يجتمعوا، ولا يتفرقوا.
قال تعالى :
بين الله تعالى لنبيه الكريم الذي لاقى ما لاقى في سبيل دعوة الحق أن ذلك سنة الجهاد في سبيل دعوة الرسل وقد أتيت في رسالته بأمر خطير، ﴿ فاصبر كما صبروا أولوا العزم من الرسل... ( ٣٥ ) ﴾ [ الأحقاف ].
قال تعالى :﴿ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم ﴾، أي كذلك الإرسال الذي أرسلنا به الرسل السابقين أرسلناك، فالشبه هو إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإرسال الذي حمله الواجبات الكبرى والجهاد الأعظم، والمشبه به إرسال الأنبياء السابقين، فالإشارة هي إلى إرسال الرسل السابقين.
ويصح أن تقول : إن الإشارة إلى إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المشبه به، والمشبه هو إرسال الرسل إلى الأمم الأخرى، والمعنى على هذا أن ما تعانيه من إنكار المنكرين في سبيل الحق الذي لا ريب عاناه من قبلك رسل سبقوك في أمم قد خلت، فاصبر كما صبروا فلا تحسب أن من سبقوك وجدوا أرضا طيبة وقولا ولا كلاما مجابا ولا تسليما سهلا لا معاناة فيه.
قوله :﴿ في أمة قد خلت من قبلها أمم ﴾، أي أمة الشرك التي قد مضت من قبلها أمم على مثل ما هي عليه من إنكار وجحود ولاقى رسلهم منهم مثل الذي تلاقى من عنت واستهزاء سخرية، وإيذاء لمن اتبعوك، وفتنة للضعفاء في دينهم، وعناد ومحاداة لله ولرسوله، ولأهل الحق ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ قد خلت من قبلها أمم ﴾، أي مضت من قبلها أمم.
والغاية من الرسالة التي بعثت بها أن تتلو عليهم القرآن ؛ ولذا قال :﴿ لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ﴾ اللام للتعليل، والمعنى أرسلناك لتتلو عليهم القرآن الذي أوحيناه إليك، والتلاوة القراء المتتابعة المتناسقة في اللفظ والمعنى، ويصح أن تكون بمعنى الترتيل، وقد نقل إلينا القرآن متلوا مرتلا، فلم تثبت روايته هو بذاته فقط، بل تواتر طريق ترتيله، فجبريل الأمين علم النبي صلى الله عليه وسلم ترتيله، كما حفظه القرآن ذاته ؛ ولذلك نزل القرآن منجما، ليحفظه النبي صلى الله عليه وسلم مرتلا ؛ ولذا قال تعالى في بيان حكمة نزوله منجما :﴿... كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ].
ومع هذا الترتيل الذي تذهب به المعاني في النفس حالهم حال إنكار شديد ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وهم يكفرون بالرحمن ﴾ وقد نص على كفرهم بالرحمن، وكان التعبير بالرحمن عن الذات العلية مع أنفسهما اسمان للذات العلية، ولا تتغير الذات بكثرة أسمائها، وإن التعبير بالرحمن لملاحظة الشاملة، فهم مغمورون برحمته في وجودهم وكلاءتهم، إذ هو الذي يكلؤهم في السموات والأرض، ومع أن نعمه سابقة لهم، ورحمته لهم، كفروا به، والتعبير بالمضارع يفيد استمرار كفرهم وتجدده آنا بعد آن.
ولقد روى أن العرب كانوا في إيمانهم الناقص بالله سبحانه وتعالى ما كانوا يعرفون إلا لفظ الجلالة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يملى شروط صلح الحديبية وابتدأه بسم الله الرحمان الرحيم، قالوا : الرحمن هو رحمتن اليمامة لا نعرفه قل باسمك اللهم، قد نزل فيهم :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى... ( ١١٠ ) ﴾ [ الإسراء ].
وقد أمر الله تعالى أن يعرفهم بالرحمن فقال تعالت كلماته :﴿ قل هو ربي ﴾، أي هذا الذي يكفرون هو ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئوني، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء، وهو الله.
﴿ عليه توكلت ﴾، أي عليه وحده توكلت في الدنيا ؛ لأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للدلالة على القصر، أي لا أتوكل على غيره، والتوكل لا ينافي العمل، بل إن التوكل بين أمرين كلاهما باطل، الأمر الأول المحيطة بكل شيء، والثاني من الباطل التواكل، وهو أن يهمل الأخذ بالأسباب، بل يأخذ بالأسباب، ويترك الوصول إلى النتائج لله سبحانه وتعالى فهو تعالت قدرته لا يغفل هن شيء، والقادر على كل شيء ﴿ وإليه متاب ﴾، ( متاب ) مصدر ميمي لتاب بمعنى رجع وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص، أي أن مرجعي إليه وحده، وله الثواب والعقاب وحده، لا شريك له، فالملك اليوم لله الواحد القهار.
﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ﴾.
جاء في السيرة النبوية أن نفرا من كفار قريش ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتحدونه فيهم أبو جهل، وعبد الله بن أمية، فقال عبد الله : إن سرك أن نتبعك سير لنا جبال مكة بالقرآن فادعها عنا حتى نتفسح فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ؛ حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح لنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا ونواتجنا، ثم نرجع من يومنا، فلقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت، فلست أهون على ربك من سليمان بن داود، وأحى لنا قصى بن كلاب جدك، أو من شئت أنت من موتنا، فعيسى كان يحيى الموتى، ولست أهون عند الله من عيسى ابن مريم.
ولقد حكى القرآن الكريم فيما تكون من قبل عنهم مثل ذلك فقد قالوا :﴿... لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا...( ٩٢ ) ﴾ [ الإسراء ] إلى آخر ما تلونا.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ﴾، ولا نقول : إن أقوالهم التي رواها القرآن الكريم عنهم أم التي روتها كتب السنة هي السبب في نزول هذه الآية كما ذكر في أسباب النزول، أم أن الآية الكريمة جاءت لتحقيق معنى في القرآن لا يوجد في غيره من الأمور الخارقة للعادة، فالآية الكريمة تبين أن القرآن أعلى من كل ما ذكروه وطلبوه من آيات لولا أنه من طبيعة غير طبيعتها، ومنهاج غير منهاجها، وهو أبقى وأخلد، فما يطلبون هو حوادث تنقضي بانتهاء وقتها، أما القرآن فباق خالد إلى يوم الدين، يتحدى الأجيال كلها شامخا عاليا أن تأتي بمثله، كما تلونا من قبل :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( ٨٨ ) ﴾ [ الإسراء ].
يقول تعالى :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾، أي لو ثبت أن قرآنا يقرأ ويتلى سيرت به الجبال، فانتقلت من أماكنها، وانفسحت عن شعابها لتتسع رقعة للزرع والغراس، أو قطعت الأرض فتشققت – لا تكون منها بحار تجري فيها المياه، أو يكلم به الموتى بمعنى أنه يحييها، ثم يكلمها، وجواب الشرط محذوف يفهم من سياق القول، وهو لكان هذا القرآن، ولكن الكلام لا يسير الجبال، ومع ذلك فهو أقوى تأثيرا، وكان يمكن أن يؤثر في قلوب المشركين بأشد من ذلك، لولا أن عنادهم حجر قلوبهم، وكما قال سبحانه :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله...( ٢١ ) ﴾ [ الحشر ]، ولكن القلوب التي سكنها الشرك والكفر، وهي كالحجارة أو أشد قسوة، بل لله الأمر جمعيا، الإضراب للانتقال بين هذا إلى بيان أن اختيار المعجزات من أمر الله، وله وحده كل الأمر.
ويقول تعالى :﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾، فسر كثير المفسرين أن ييئس هنا بمعنى لم يعلم، وساقوا شواهد من العربية للدلالة على ذلك، وفسرها الزمخشري بذلك، وبجواز أن تكون ييئس بمعنى اليأس، وهو اليأس من إيمان المشركين، ويزكى هذا قوله تعالى بعدها :﴿ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾، ولنترك الكلمة له فهو يقول رضي الله تعالى عنه :
"ومعنى ﴿ أفلم ييأس ﴾ أفلم يعلم قيل هي لغة قوم من النخع، وقيل غنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمينه معناه ؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لن يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك، قال سحيم بن وئيل الرباحي :( أقول لهم بالشعب، إذ ييسرونني، ألم ييئسوا أنى ابن فارس زهدم... ) إلى أن قال :( يجوز أن يتعلق ﴿ أن لو يشاء الله ﴾ بآمنوا، على معنى أولم يعتظ من إيمان هؤلاء الكفرة ﴿ لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾.
ومعنى الكلام الأخير، أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكافرين، ويعلموا أن لو يشاء الله لآمن الناس جميعا.
وقوله تعالى :﴿ ألم ييأس ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه أن تكون المعجزة في هذا المقام من الإعجاز، يقول الذين كفروا غير معتدين بها، فلم ييئس الذين آمنوا من إيمانهم، والاستفهام لإنكار الوقوع أي المعنى، ونفى النفي إثبات، والمعنى ييئس الذين آمنوا من أن يهتدوا، ويعلمون أن لو شاء الله لهدى الناس.
والمعنى لو شاء الله إيمان الناس جميعا لآمنوا، ولكنه سبحانه وتعالى تركهم ليطهر المؤمن عن نيته، ويعلم الكافر عن ضلاله، وتركه الحق، ويكون الجزاء عقابا أو ثوابا.
وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم، ويسيروا في طريق الرشاد، فالقوارع تنزل بهم قارعة يعد قارعة، أو تحل قريبا من دارهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم ﴾ القارعة : الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال، فمن لا ينهه الدليل والبرهان، ولا يجديه البرهان لا ينتبه بالعقل، بل لا بد من الشدة تقرع حسه، وكان الإقدام قبل النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يقتنعوا وعائدوا ينزل بهم ما يزيل ديار، أو ريح صرصر، أو غرق، وغير ذلك مما يبيد خضراءهم، وتبقى من بعدهم من اتبع النبيين، أما محمد، فإن رسالته، باقية خالدة، لا يؤثر في اتجاهها كفر من كفر، ولكن يغالب الكفر بالإيمان، ليكون من بعدهم من يعبد الله تعالى، ويدعو إلى ربه ؛ ولذلك كانت القوارع التي قرع حسهم، ليست إبادة، ولكنها مغالبة، ودفع الفساد، فالقارعة التي تصيب الكافرين هزيمة منكرة، تنزل بهم كالتي نزلت بهم ببدر، والخندق، وكأحد فقد رجعوا فيها إلى حنين من الغنيمة بالآيات، وإن كان المسلمون توجهوا بهم قرع، وكان تعليما، وتوجيها، كما قال تعالى :﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله...( ١٤٠ ) ﴾ [ آل عمران ]، لكن قرحهم كان هزيمة، وقرح المؤمنين لم يكن انهزاما ولا فرارا.
فالقارعة هي الهزيمة لا تزال تصيبهم مرة بعد أخرى، أو تحل قريبا من دارهم، في السرايا التي يبثها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبقيها النبي صلى الله عليه وسلم حول مكة تدعو إلى الله، وتنذرهم، حتى كان صلح الحديبية، وبه أمنوا على أنفسهم، وأخذ الناس يدخلون في دين الله في مكة وغيرها.
وتلك القوارع، والسرايا التي تحل قريبا من دارهم، حتى يأتي وعد الله بالنصر الحاسم، وأن تكون الكلمة للإسلام في البلاد العربية وما وراءها، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ﴾.
وإن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم في إبان نصرته، كانوا في إبان مقامه في مكة، وهم يحسبون أنه في قبضة أيديهم والله ناصره، وخاذلهم، ألم ترهم يقولون بعد حديث هرقل لهم في سؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم :"لقد أمر أمر ابن أبي كبشة".
﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ( ٣٢ ) ﴾.
﴿ استهزئ برسل ﴾ جاءوا مبشرين ومنذرين من قبلك، والاستهزاء يدل على جهل المشركين بما يستهزئون، ونسيانهم فضل من يسخرون منهم، ويدل أيضا على أنهم لا ينظرون للأمر نظرة من يجد ولا يهزل، ويدل على سيطرة العبث العابث، واللهو الماجن على أنفسهم، وهذه حال تحير الداعي إلى الحق من أين يحملهم على أن ينظروا جادين غير عابثين، ولا مازحين.
ولقد أكد الله استهزاء السابقين برسلهم، باللام، وقد ساق الله تعالى ذلك لنبيه ليتسلى عن إعراضهم واستهزائهم ولئلا يذهب به اليأس من قومه، وألا يرجو الانتصار منهم، فقد استمر الاستهزاء وأملى لهم، أي أعطاهم ملاوة من الزمن، حتى ظنوا أنه لا عاقبة مؤلمة تنتظرهم ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ﴾.
أمليت كما ذكرنا أعطيتهم ملاوة من الزمن إمهالا من غير إهمال لاستهزائهم، وسخريتهم من الحق، والفاء لبيان أن ما بعدها مسبب عما قبلها، والمعنى كان استهزاؤهم سببا للإملاء لهم، حتى يأخذهم، وهم لا يتوقعون، مثل قوله تعالى :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ( ١٨٣ ) ﴾ [ الأعراف ].
وثم للدلالة على التراخي، أي أنه أمد لهم أمدا غير قصير، حتى ظنوا أنه لا مؤاخذة على ما يفعلون، وغرهم الغرور، وحسبوا أن الدنيا قد طابت لهم بحذافيرها، ثم أخذتهم، أي أشعرتهم بسلطاني، وأنى أمهل ولا أهمل والأخذ كناية عن الإشعار بالسلطان ؛ لأن الأخذ يتضمن أنهم صاروا غير خارجين عن سلطانه ؛ لأن الأخذ أقصى ما يدل على التمكن، وأن يكونوا في قبضته يصرفهم كيف يشاء، وذكر الله تعالى عقابه فقال :﴿ فكيف كان عقاب ﴾ ياء المتكلم محذوفة على وجود ما يدل عليها، والمحذوف مع وجود ما يدل عليه يكون كالمذكور، بل إن تقديره بجهله مذكور، لم يبين الله سبحانه وتعالى العقاب، ولكن أشار إليه إشارة تدل على هوله، وعلى أنه كان حاسما قاطعا فمن غرق، أو جعل الأرض سافلها، ومن ريح صرصر عاتية، ولقد قال تعالى :﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ( ٤٨ ) ﴾ [ الحج ].
وكم قال تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾ [ هود ].
وفي الصحيحين :"إن الله ليملى للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته".
هذا بيان لبطلان عبادة الأوثان، وهو برها يستمد منها، لا من أمر خارج عنها، فالله الأعلى يوازن بين قدرته على كل شيء، وحياطته لكل شيء، وقيامه تعالى على الأنفس، وبين الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، وأنها لا حقيقة لها في عالم الأحياء، يقول تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾، الإستفهام هنا للتوبيخ، وبيان عجز آلهتهم، وقدرة الله تعالى، وقائم معناها وقيام على شؤون الأنفس، خلقها، وهي مربوبة لها، وعالم بها، ومحاط عليها، يعلم ما تسره وما تعلنه، وما تظهره، وما تخفيه.
ويقول ابن كثير في معنى هذه العبارة السامية :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي ﴾ أي حفيظ عليهم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون خير وشر، ولا تخفى عليه خافية﴿ وما تكون في شأن وما تتلو من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه...( ٦١ ) ﴾( يونس ) فمعنى قام ليس ضد القعود، وإنما معناه القيام على شؤون الأنفس، والعلم بها، كما قال تعالى :﴿... هو الحي القيوم...( ٢٥٥ ) ﴾( البقرة )، عبر عن القيام بهذه المعاني ؛ لأن القيام يدل على الحركة، والحركة تدل على معانة الأعمال خيرها وشرها، وهو بالنسبة لله تعالى القيام على شؤون هذا الوجود، وهو هنا الأنفس.
وذكر الله تعالى كل الأنفس للدلالة على عموم تدبيره للأنفس والعلم بما تفعل من خير وشر، وقوله تعالى :﴿ بما كسبت ﴾ يتضمن العلم بكل ما تصنع النفوس العاملة، والجزاء على ما تفعل، وفي ذلك بعضها لإنذار العصاة، كمنا قال تعالى :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار( ١٠ ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله...( ١١ ) ﴾.
وقوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفيس ﴾، لتمام الموازن تكون التسوية مقتضية محذوفا قدرا تقديره كي لا يستطيع شيئا، ولا يقوم على شيء ولا يضر ولا ينفع.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ضلالهم في عبادة الأوثان، فقال تعالى :﴿ وجعلوا لله شركاء ﴾، وهذه الجملة حالية، والحال أنهم جعلوا لله شركاء يشركونه في العبادة مع أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذاته العلية جلت عن المشاركة، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يسألهم عن حقيقتها، ولكنها من بيان الكنه والحقيقة يتبين بطلان ما يعتقدونه قال تعالى :﴿ قل سموهم ﴾ عبر عنهم بضمير ما يفعل على حسب زعمهم وأوهامهم، وإلا فهي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تعقل ولا تدرك.
﴿ سموهم ﴾، أي اذكروا أسماءهم، وأوصافهم، أي شيء لهم من الأسماء والصفات، وإنهم إذا جاءوا إلى ذلك، قالوا : إنها أحجار سميت اللات أو العزى أو هبل، أو نحو ذلك من الصفات التي تجعلها دونهم، فكيف يعبدون ما هي دونهم أو لا وجود لها في حقيقة أمرها، إلا أن تكون أحجارا، لا تنطق ولا تضر، ولا تنفع.
﴿ أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ﴾، أم للإضراب الانتقالي مع تضمنها معنى الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي أتنبئونه بشيء لا يعلمه في الأرض، وهو خالقها، والذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، أي أتنبئونها بأمر لا وجود له، والمؤدى أنها لا وجود لها في الأرض فهل تنبئونه بأمر لا يعلمه في هذه الأرض، وهذا كلام يؤدى لا محالة إلى أشياء لا وجود كآلهة في الأرض لعلمها سبحانه. ﴿ أم بظاهر من القول ﴾، أم للإضراب عن السابق مع دلالتها على الاستفهام التوبيخي الذي ينبههم إلى فساد قولهم، والمعنى أهذا العلم بظاهر من القول الذي لا يدل على حقيقة فقط، إنما أوهامه جعلتهم يرددون ظاهرا من القول لا يستطيعون أن يقولوا فيه إنه شيء له وجود، وصفات اقتضت الألوهية.
والحقيقة أنه زين لهم وهم لا مدلول له جعلهم يكفرون، وهم لا يشعرون ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ﴾.
بل الإضراب عن القول، أي أنه ما دام قد ثبت أنه لا حقيقة لأصنامهم التي يعبدونها، فأوصافهم لا تثبت ألوهية، بل لا تثبت وجود لها نفع وضرر، فالأمر أنهم زين لهم ما هم عليه بوهم توهموه، وخيال تخيلوه، وكان ذلك الخيال أساسي مكرهم، وتدبيرهم ضد الحق وأهل الإيمان، وبه صدوا عن السبيل، وصدوا غيرهم عن الطريق السوي، وفي قوله تعالى :﴿ وصدوا عن السبيل ﴾ قراءة بالضم، أي أنه بخذا التزيين الضال صدوا عن الطريق الحق، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وهناك قراءة بالفتح، أي صدوا غيرهم عن الحق بالاعتداء، والإيذاء، والاستهزاء بالرسل، ويجب أن يراد القراءتان أنه لا مانع من الجمع بينهما، فهم أبعدوا بأوهامهم عن الحق، وأوغلوا في الضلال بإبعاد غيرهم عنه.
وأكد الله سبحانه وتعالى الحكم بالضلال عليهم، فقال عز من قائل :﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾، أي من يحكم الله تعالى بضلاله، لأنه سار في طريق الغواية وصل إلى الضلال، ﴿ فما له من هاد ﴾ من لعموم النفي، أي ليس له من هاد أي هاد، فلا هادي بعد الله.
﴿ لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ( ٣٤ ) ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن لهم عذابين، أولهما عذاب الحياة الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، ليس لهم من الله من واق.
أما عذاب الدنيا، فإنه واقع في هذه الحياة، وإن لم يكن هو الأشق، وعذاب الدنيا يبتدئ من ذات أنفسهم، وهو ضلال الفكر واضطرابه وعدم استقامة أنفسهم، فإن استقامة العقل والنفس نعمة واطمئنان واستقرار وضد ذلك عذاب، لا ريب فيه، وعذاب الدنيا باللجاجة في الباطل، والبراهين ساطعة، والأدلة قائمة، ثم من عذاب الدنيا الخزيان والذل، وضر الذلة، ومن عذاب الدنيا قتلهم بسيف الحق، كما كان في بدر والأحزاب، بل أحد الذين رجعوا فيها من الغنيمة بالإناب، وقد يكون عذاب الدنيا بآية من آية.
أما عذاب الآخرة فهو أشق من عذاب الدنيا، ويواجهون الله، ﴿ وما لهم من الله من واق ﴾، فالله لا ينظر إليهم ولا يكلمهم، ويبدو لهم جهلهم، وضلالهم، ثم بعد ذلك جهنم بالتي جعلها مثوى الكافرين، ﴿ من ﴾ في قوله :﴿ من واق ﴾ لاستغراق النفي، أي ما لهم واق من عذاب الله واق، ما لهم من شفيع ولا نصير، بل إنهم يتقدمون إليه سبحانه متناولين كتابهم بشمالهم، اللهم قنا شر ذلك اليوم.
﴿ وظلها ﴾، وهو معطوف على أكل، أي أن ظلها دائم مستمر، ليس فيها حر لافح، ولا يتسخ ظلها بشمس.
ثم يقول تعالى :﴿ تلك عقبى الذين اتقوا ﴾، الإشارة إلى الجنة بأوصافها الثلاثة المذكورة، من أنها تجري من تحتها الأنهار، فتنعم النفس بالمنظر الجميل، والنسيم العليل، والمنظر البهيج، ومن أن ثمراتها دائمة لا تنقطع، فتنعم بحياة دائمة، ونعيم مقيم، ومن أنها ظل دائم مستمر، وتلك مبتدأ خبره ﴿ وعقبى الذين اتقوا ﴾، أي نهاية الذين اتقوا انتهوا إليها وذكر الموصول للإشارة إلى أن الصلة، وهي التقوى علة تلك العاقبة الحميدة في ذاتها.
ولقد ذكر في مقابل هذه النهاية الحلوة المرتبة عاقبة الكفر والأشرار، فقال :﴿ وعقبى الكافرين النار ﴾، أي نهاية الكافرين الذين كفروا بالله وبآياته، وبنعمه النار يلقون فيها، وهي دائمة، ﴿... كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب...( ٥٦ ) ﴾ [ النساء ].
والتعبير ب ﴿ عقبى ﴾ في جزاء الأشرار والأبرار للإشارة إلى أنه جزاء أعقب عملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والله تعالى لا يظلم العباد، وهم الذين يظلمون أنفسهم، وله إرادة مختارة، وعقل مدرك، وإذا كانت الأعمال غير مستوية، فالعقبى غير مستوية، فقال تعالى :﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ( ٢٠ ) ﴾ [ الحشر ].
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مئاب ( ٣٦ ) ﴾.
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون ﴾ ذكر الزمخشري، وغيره أن الذين يفرحون من أهل الكتاب هم اليهود الذين أسلموا كعبد الله بن سلام، والنصارى من نجران واليمن والحبشة، وعدهم ثمانين رجلا، أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانين من اليمن.
وأولئك ﴿ يفرحون بما أنزل إليك ﴾، وهو القرآن ؛ لأنهم وجدوه مطابقا لما عندهم في التوراة والإنجيل من تبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا كانوا يعرفونه في التوراة والإنجيل، وما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم.
وعندي أرى أن الذين آتاهم الله الكتاب يعم من أسلم، ومن لم يسلم، بل يدخل في عمومه ابتداء من لم يسلم فقد كانوا يفرحون ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا في حرب مع المشركين في يثرب، ويستفسحون عليهم بأن نبيا قد آن أوانه سينصرهم عليهم قال تعالى :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وإن سياق هذا في هذا المقام يدل على أن الإيمان الصادق ليس مطلوبا من المشركين فقط، بل منهم ومن أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب كان ينبغي أن يؤمنوا لمعرفتهم السابقة به ؛ ولأنهم كانوا يفرحون به عندما توقعوا مجيئه قريبا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ويقول سبحانه :﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾، أي من الجماعات المتحزبة التي تفهم أن التدين تحزب وتعصب منهم من ينكر بعضه وهو ما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، فالصدوقيون من اليهود أنكروا البعث وحسبوا الحياة مادة حتى النفس فسروها بالمادة، والنصارى حرفوا التوحيد وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
ولأنهم أنكر بعضهم اليوم الآخر، وأنكر بعضهم الوحدانية، رد الله تعالى ذلك عليهم، وذلك بأمره للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يستمسك بالوحدانية والإيمان باليوم الآخر، فقال تعالت حكمته :﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مئاب ﴾ كان ما أمر الله تعالى به نبيه أمرين قد أنكرهما، وهما عبادة الله تعالى وحده، وذلك يتحقق في قوله تعالى :﴿ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ﴾، فهذا إثبات للوحدانية في الذات والصفات والخلق، والعبادة، ونفى لأي شريك في العبادة، والنصارى أثبتوا الشرك في العبادة بعبادة ثلاثة ابتداء، ثم بلا يزالون يأتون بعبادة آخرين كالعذراء كما يسمونها في الأوهام التي توهموها في أنهم رأوا خيالها نورا، وكعبادة القديسين في نظرهم، وبذلك أنكروا أصل التوحيد الذي هو أصل الديانات السماوية كلها، وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلمة سواء بينه وبينهم، في كتابه إلى هرقل، والنجاشي، والمقوقس، وهذا بعض ما جاء فيه :﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا... ( ٦٤ ) ﴾ [ آل عمران ].
والأمر الثاني الذي أنكره اليهود، وهو اليوم الآخر ؛ ولذا قال فيه :﴿ وإليه مئاب ﴾، أي إليه وحده مآب أي مرجعي، لا إلى غيره من مسيح ونحوه، فإنه يوم القيامة عبد، كما كان في الدنيا عبد من عباده الصالحين الأبرار وإن كانت له منزلة الرسل كإخوانه من أولي العزم من الرسل.
وحض الله تعالى بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ إليه أدعو ﴾، أي أدعو إليه وحده، فتقديم الجار والمجرور يدل على أنه لا يدعو إليه غيره، فلا يدعو ابنا، ولا أما لهذا الابن، ولا روح قدس وغير ذلك مما توهمته الأفلاطونية الحديثة، وأخذوه منها كما يؤخذ الباطل من سلسلة الباطل.
﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ( ٣٧ ) ﴾.
كذلك، التشبيه بين ما هو كائن، وما قدره الله تعالى، وأحكمه، أي كهذا الذي تراه من نزول القرآن بلسان عربي مبين قدرناه وأحكمناه حكما عربيا، ووصف الحكم الإسلامي بأنه عربي ؛ لأن القرآن الذي هو حجته عربي ؛ ولأن الرسول الذي بعث به عربي ؛ ولأنه من سلالة إبراهيم أبي العرب، ولم يكن من سلالة إسحاق، بل من سلالة إسماعيل ضئضى العرب.
وليس معنى ذلك أنه مقصور حكمه على العرب فتلك فرية، إنما معناه في الحدود التي ذكرناها ؛ لأن القرآن شريعته عامة للناس كافة، لا فرق بين عربي وأعجمي.
ويصح أن يراد من كلمة { حكما، قرآنا أي أنزلناه قرآنا عربيا، وعبر عنه بحكم ؛ لأن ما اشتمل عليه هو الحكم القائم إلى يوم القيامة.
والعربية صف الشريعة وإن كانت عامة في تطبيقها ؛ لأن الشريعة نزلت، واختار الله تعالى نبيه من بينهم، ﴿... الله أعلم حيث يجعل رسالته...( ١٢٤ ) ﴾( الأنعام ) ؛ وذلك لأن العرب من بين الأمم كانوا أعرف الناس بالله فهم كما ذكرنا في عدة من كتاباتنا كانوا يؤمنون بأن الله خالق السموات والأرض ومن فيهن، ويؤمنون بأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم كانوا في العبادة يشركون معه الأوثان، وغيرهم من الأمم التي عاصرت مبدأ الإسلام ما كانت فيها معرفة الله تعالى تلك المعرفة فكانت جديرة بأن تكون أرض الدين الذي يدعو إلى التوحيد المطلق، إذ كانت فيه بذوره، فكان عمل محمد صلى الله عليه وسلم تقويم سوقه.
وإن ذلك يقتضي ألا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم أهواء المشركين، ولا أهواء أهل الكتاب ؛ ولذا قال تعالى :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ﴾ الضمير في ﴿ أهواءهم ﴾ يعود إلى المشركين وأهل الكتاب، وقد وصف بأن ما هو عليه هوى الأنفس، وشهوة العقل الفاسد، فهو الخاضع للأوهام الذي لا يسيطر عليه عقل مدرك، ولا جاء من العلم للنبي صلى الله عليه وسلم هو علم التوحيد، وعلم التكليف، وكل ما عداه انبعث من الهوى وضلال الفكر، وفساد الاعتقاد، واللام في قوله تعالى :﴿ ولئن اتبعت ﴾ هي لام مؤكدة ممهدة للقسم، وما جاء بعد ذلك جواب القسم لا جواب الشرط ؛ لأنه إذا اجتمع الشرط والقسم يكون جواب القسم أولى وأجدر، ويكون دالا على جواب الشرط.
فالكلام فيه قسم مطوى، وهو تأكيد للحكم، وهو العذاب الذي ينزله الله تعالى، ولا وقاية منه، أيا كان الواقى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك احتمال لأن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم أهواءهم فما اتبعها قبل أن يبعثه الله رسولا، فكيف يتبعها بعد أن شرفه الله تعالى بالرسالة العامة الخالدة، وإنما الخطاب له ابتداء، لتقتدي به أمته، وتتبعه، أو يكون الخطاب لكل قارئ للقرن مخاطب بأحكامه وبيانه، وجواب القسم ﴿ ما لك من الله من ولي ولا واق ﴾ من الله متعلق بواق، ومن الثانية لاستغراق النفي، أي ليس لك واق من عذاب الله تعالى أي واق كان كقوله تعالى :﴿... مالك من الله من ولي ولا نصير ( ١٢٠ ) ﴾ [ البقرة ]. اللهم قنا شر غضبك، واجعلنا في وقاية من معصيتك، فإنها الوقاية من النار.
كان المشركون يقولون : إنه لا يكون رسولا لله تعالى إلا ملك يجئ إليهم، ولا يكون بشرا، وقد رد الله تعالى في كلامهم في أكثر من آية في ثنايا كتابه الكريم :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ]، وكانوا يقولون :﴿... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...( ٧ ) ﴾ [ الفرقان ].
وفي هذه الآية بين سبحانه وتعالى أنه قد سبق الرسل والأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل، وأولاد إبراهيم من إسحاق فكل أولئك كانوا رسلا وأنبياء وكانوا بشرا، فقال تعالى :﴿ ولقد أرسلا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ﴾، وما كان لهم مشركين أو أهل كتاب أن ينكروا رسالة رسل كانت لهم أزواج وذرية، وأبو الأنبياء إبراهيم الذي كان شرف العرب، ومجدهم الذي يتفاخرون به كان رسولا، وعم لا يزال عندهم بعض شريعته في الحج، وهو باني البيت الحرام بأمر ربه، فقد كان رسولا نبيا، وكان زوجا كريما، ومن ذريته إسماعيل وإسحق وقال :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق...( ٣٩ ) ﴾ [ إبراهيم ]، والزوجية لازمة من لوازم البشرية، والملائكة لا يتزاوجون ولا يتناكحون ولا يتناسلون.
ولقد أكد سبحانه رسالة هؤلاء الرسل من البشر، بقد، وباللام، وقوله تعالى :﴿ من قبلك ﴾ رسالتك، فلست بدعا، وكان حقا عليهم ألا يعترضوا بذلك الاعتراض.
هذا الاعتراض الأول الذي كانوا يعترضون به على النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يحسبون أن الرسول لا يكون إلا ملكا وذلك يناقض ما هو معلوم عندهم من رسالة موسى، ونبوة إسماعيل، ورسالة إسحاق، ونبوة يعقوب عليهم السلام.
الأمر الثاني الذي اعترضوا به المعجزة، فهم يريدون آية غير القرآن تدل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون لولا أنزل عليه، كأنهم لا يعتدون بالقرآن أية معجزة، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا.
وقد رد الله سبحانه كلامهم بقوله سبحانه :﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾، إن ما كان من شأن الرسول أن يأتي بآية يثبت لها رسالته عن الله إلا بإذنه، فالآية من شأن من أرسله لا من شأنه، فالله هو الذي يرسل، وهو الذي يعطى لرسوله المعجزة التي تثبت أنه يتحدث عن الله، ومثل المعجزة بالنسبة للرسول كمثل الأمارة التي تكون شاهدة بصدق الرسالة عن الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي يختارها.
وقد اختار القرآن دليلا على الرسالة، ولكل زمن المعجزة التي تناسبه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ لكل أجل كتاب ﴾، أي لكل زمن أمر قد كتبه الله تعالى في قدره، فكان لزمن موسى ما كتبه من معجزات، وكان لزمن عيسى معجزات كتبها سبحانه وقد كانت معجزة عيسى عليه السلام خرقا لنظام الأسباب والمسببات ؛ لأن الزمان كان يناسبه معجزات الأسباب والمسببات، وكان عيسى ذاته في وجوده معجزة خارقة لنظام الأسباب، فكذلك كان إبراؤه للأكمه والأبرص، وإحياؤه للموتى، وإخراج الموتى من قبورهم، فكان هذا مناسبا لأجلها وزمنها، وكان كتاب الله تعالى بها، والزمن الذي عاش فيه ورسالته الخالدة، كان يناسبها، كتاب خالد يتحدى الأجيال جيلا بعد جيل، وهو أعظم من كل معجزات عيسى، وموسى وإبراهيم ؛ لأن هذه المعجزات حوادث تنقضى، وتنتهي بزمانها، ولا يراها إلا من شاهدها، ولولا أن القرآن سجلها ما علم بها أحد، أما القرآن فمعجزته خالدة باقية تتحدى الناس جميعا جيلا بعد جيل ؛ لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خالدة، فكانت معجزتها خالدة باقية تدل على صدقها أمام كل الناس في كل زمان.
يمحو الله من الآيات ما يشاء منها، ويثبت ما يشاء محوه منها، ويبث ما شاء منها فإذا كانت العصا معجزة في عصر موسى، وأقامت الدليل على رسالة موسى عليه السلام، فإن الله تعالى نسخها، ولا تكون آية لإتيان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويثبت له آية أخرى، وهي القرآن الكريم، وإذا كان عيسى له آيات خرقت نظام الأسباب والمسببات، فقد نسخها الله تعالى، وأثبت لمحمد معجزة أخرى تناسب رسالته، وتبقى ببقائها، فيثبتها الله تعالى.
هذا ما نراه تفسيرا للمحو والإثبات، ونرى أنه يمكن أن يكون التفسير الذي يتسق مع ما قبلها وما بعدها من الآيات، فالكلام في الآيات التي يطلبونها إعناتا وعنادا.
وقد قال الزمخشري عدة معان تحملتها الجملة السامية، وهذا نص ما قاله :"إنه يقول يمحو ما يشاء ويثبت، أي يأتي من الشرائع بما شاء، وينسخ منها ما يشاء، وعنده أم الكتاب الأصل الذي لا يمحى، ولا يقبل المحو، وهو التوحيد، فشرائع النبيين ينسخ بعضها بعضا، ولكن الأصل قائم، وهو أم الكتاب"، أي الشرع المكتوب المقرر في كل الشرائع، وهو التوحيد، كما قال تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه...( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ].
وإن هذا يتسق مع قوله تعالى :﴿ وعنده أم الكتاب ﴾.
ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت ﴾، ينسخ ما يستوصب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ، ويسوق أقوالا أخر.
وإنا نرى أن هذين الوجهين كافيان في البيان، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون المحو، بإلغاء آيات مادية، والإثبات إثبات أخرى، وأن تكون الشرائع السماوية التي جاءت بها الرسل، ينسخ بعضها بعضا، ولكن يبقى الأصل القائم وهو أم الكتاب، وهو التوحيد، والعدل، وإقامة الحق، والإصلاح في الأرض.
وقد قال الفخر الرازي في التفسير الكبير ما نصه :
"العرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب".
إن الشرطية مدغمة في تاء الدالة على توكيد التعليق، وليست زائدة، كما يعبر بعض النحويين، فليس في القرآن زائد، وإنما الزائد في إعرابهم، وفعل الشرط هو نرينك، أو نتوفينك، والمعنى إنا نريك بعض الذي نعدهم من أهوال تنزل بهم في حياتك، أو نتوفينك قبل أن ينزل بهم ما نعدهم به، كيفما كانت الحال، فإنه نازل بهم جزاؤهم في الدنيا ما استقام أهل الإيمان على الطريقة، فإن حادوا عنها، حيد لهم.
وقد تأكد الشرط بما الدال على التوكيد، وبنون التوكيد الثقيلة التي تلازم "ما" غالبا، وتوكيد الشرط توكيد للتعليق كله، أي أن الارتباط بين الشرط والجواب مؤكد، فإنه إذا لم تر بعض ما وعدهم الله به من عقاب بوفاتك قبله، أو تراه فإنه نازل بهم، وقد أديت ما وجب عليك من تبليغ وبقى أن ينفذ وعيد الله تعالى فيهم، ونعدهم أي الإنذار الذي أنذرهم الله تعالى به، فوعد بمعنى أوعد. وأحسب أن القرآن عبر عن الإيعاد بالوعد في جملة ما جاء به من إنذار.
وقوله تعالى :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ ليس هو جواب الشرط، وإنما يدل عليه والجواب مثلا، أنزلنا بهم ما وعدنا، وأريناك مصارعهم، وما عليك أي تبعة من أمورهم ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾، إنما للقصر، أي ليس عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، وعلينا الحساب، العقاب، وبر عن العقاب بالحساب ؛ لأنه جزاء لما فعلوا، ويفعلون، وهو ذاته حساب لهم على ما آذوا المؤمنون وهم مستمرون في غلوائهم، وذلك كقوله تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر ( ٢١ ) لست عليهم بمسيطر ( ٢٢ ) إلا من تولى وكفر ( ٢٣ ) فيعذبه الله العذاب الأكبر ( ٢٤ ) إن إلينا إيابهم ( ٢٥ ) ثم إن علينا حسابهم ( ٢٦ ) ﴾ [ الغاشية ].
قال ابن عباس في معنى ذلك النص الكريم :"أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض ونقصان الأرض من أطرافها، اقتطاعها جزءا جزءا من سلطانهم، وذلك بحروبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عذاب الله تعالى الذي ينزله في الكافرين جزاء كفرهم يكون بأحد أمرين، إما اجتثاثهم من الأرض، وأخذهم من حيث لا يحتسبون بريح عاصف أو بخسف يجعل عالي ديارهم سافلها، أو بطرق يحيط بهم فلا يبقى ولا يذر، وحيث لا يكون من أصلابهم من يعبد الله، وقد أوقع الله تعالى هذا بالذين بعث فيهم الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم من نوح وهود، وصالح، وشعيب.
والأمر الثاني : أن يكون ذلك بالمغالبة، يقاتلون، فيقتلون، ويقتلون، والعاقبة للمتقين، وإن ما نزل بمشركي مكة، واليهود كان من الثاني لا من الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن لأرجو أن يكون من أصلابهم من يؤمن بالله واليوم الآخر".
ويقول تعالى :﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالاستفهام الإنكاري داخل على "لم" والمعنى التنبيه على ما هو واقع بهم، والواقع أنهم يرون أن الله أتى الأرض ينقصها من أطرافها عليهم، وإسناد الإتيان للأرض إلى الله تعالى للدلالة على أن الله تعالى مع جيش المسلمين الذي يأتي الأرض التي لهم النفوذ، والسلطان فيها، ويتلاقون مع سكانهم في الشرك الذي يجمعهم و﴿ ننقصها ﴾ نأخذها جزءا فجزءا من دائرة الكفر، حتى تضيق حوزتهم، وتضيق الدائرة عليهم شيئا فشيئا حتى يحيط بهم، ويصلح الرسل من الأرض، وكذلك كان الأمر، فقد كانت الغزوات والسرايا تنزل بالمشركين، وقد ذهبت إلى ما حول مكة وأطراف الجزيرة داعية إلى الله تعالى مجاهدة، فكانت الأرض تنقص من نفوذهم من أطرافها، بسببين :
أولهما : وهو أن دعوة الإسلام تدخل إلى قلوبهم من يسرى إليهم ثلة من جنود المسلمين، وفي ذلك نقص من سلطانهم، وخروج من نفوذ مكة وأهلها.
ثانيهما : أنه يقتل من المشركين عدد، وإن لم يكن كثيرا، إلا أنه يبعدهم عن مكة وأهلها.
وإن إتيان الله للأرض إتيان لقوة الله قوة الحق والإيمان فهو سبحانه يأتي القلوب فتزمن، ويعمرها بالإيمان، وكل عمران بالإيمان، نقص للأرض من سلطان الكفار.
وإذا دخل الإسلام أرضا كان هو الحكم وحده، لا معقب لحكمه، أي لا يخرج منه ويجئ عقبه حكم غيره، فالإيمان الصادق إذا دخل النفوس لا يخرج منها لأنه يكون به سكونها واطمئنانها وقرارها.
وقد قال الزمخشري، وهو ابن نجدتها ﴿ لا معقب لحكمه ﴾ لا راد لحكمه، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقة الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق، معقب لأنه يعفى غريمه بالاقتضاء والطلب ؛ لذا قال لبيد :"طلب المعقب حقه المظلوم"، والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس.
ومعنى قوله تعالى :﴿ والله يحكم ﴾، أي الله وحده يكون الحاكم للنفوس، وليست الأهواء المتحكمة، ولا قهر الأقوياء للضعفاء، إنما هو الرحمة والعدل، ولا حكم يتعقبه.
ويكون للذين كانوا يسيطرون الحساب، وإنه لقريب، وإنه لسريع ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وهو سريع الحساب ﴾، أي أن الحساب آت لا ريب، وكل آت فهو سريع، لأنه مؤكد الوقوع، وعدد السنين والشهور لا قيمة له ما دام مؤكد الوقوع، وما يكون سريع الحساب يكون شديد ؛ لأنه يفاجئ المنكرين من حيث لا يحتسبون ؛ ولأن سرعة الحساب يكون لأجل غرض العقاب، ولتحقيق معنى الجزاء، وذلك يكون على قدر ما ارتكب المسئ، والله عزيز ذو انتقام.
وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم بتكسب كل نفس وسيعلم الكفر لمن عقبى الدار ( ٤٢ ) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتب ( ٤٣ )
المكر العمل على صرف غيره عن مقصده بحيلة، وأنه يأخذ وصف الذم والحمد، من المقصد الذي قصد الصرف، فإن كان ذلك القصد مذموما، فالصرف عنه خير، ما لم يكن السبيل ذاته شرا، وإن كان القصد محمودا، فالصرف عنه مذموم ؛ لأن الصرف عن المحمود يوجب الذم.
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى :﴿ وقد مكر الذين من قبلهم ﴾ الضمير يعود إلى المشركين، أي مكر الذين من قبلهم الذين ساروا هم على سننهم، وضلوا ضلالا بعيدا مثلهم، ولا شك أن من هذه حالهم مكرهم يكون لتحويل الناس عن إطاعة النبيين، وصرف النبيين لهم عن اتباعهم، وذلك بطرق التدبير السيء المختلفة من اضطهاد وأذى وسخر بهم، وقيل لهم أحيانا، والشتم والذم في أكثر الأحيان، فقد سخر قوم نوح منه وممن تبعه، وقالوا ما اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأي، وكذلك قوم هود وقوم صالح، وآل مدين قوم شعيب.
وذكر هذا الخبر للمشركين لبيان أنهم لن يضيروا النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مكرهم إلى هباء، ولا يعد شيئا بجوار مكر الله تعالى، والتدبير للمؤمنين لينجوا من شرهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فلله المكر جميعا ﴾، أي لله وحده التدبير الذي يحول القلوب، وقد دل هذا النص السامي على ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن مكرهم لا اعتداد به، ولا ثمرة له في تحقيق الغاية التي أرادوها، وهو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها.
الأمر الثاني : أن القلوب بيد الله، وهو الذي يهديها، وهو الذي يتركها تسير في مهواة الضلالة، حتى تنهوي فيها.
الأمر الثالث : أن الله مذهب كيدهم، وجعلها في هباء، وناصر أهله.
وإن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لا محالة ؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر، وتتحدث به النفوس، وما تكسبه الجوارح، وهو وحده مقلب القلوب.
قلنا : إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذين ارتضوه، وفيه إشارة إلى بطلان مكرهم، وإلى أن مكر الله فوقهم، وأنهم إذ يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إنما يقاومون بمكرهم مكر الله وتدبيره للمؤمنين أوليائه ؛ ولذا قال تعالى مهددا لهم :﴿ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ﴾ الكفار ( ال ) فيها للعهد، أي كفار العرب من مشركين ويهود، ومن لف لفهم والسين لتأكيد وقوع الخبر في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه علم معاينة، لا علم خبر وإخبار، إن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل، ويخرج المشركون من رجس الوثنية، والفساد اليهودي المنحرف، وتكون الكلمة العليا لله ولرسوله، وللمؤمنين، ومن بقى على كفرهم يعلم علما آخر بعقبى الدار في جهنم للكافرين، والجنة للمؤمنين.
وقوله :﴿ لمن عقبى الدار ﴾ لمن جار ومجرور، والمعنى لمن تكون عقبي الدار، أي عاقبة هذه الحياة الدنيا التي تكون فيها هذه المغالبة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وإن العقبى هي غلب الإيمان في الدنيا، والجنة لمن آمن في الآخرة، والنار لمن عصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ( ٤٣ ) ﴾.
ذكر سبحانه بعض مكر المشركين وغيرهم التي يقصدون بها تحويل المؤمنين وفتنتهم عن دينهم، فذكروا أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ لست مرسلا ﴾، فهم يسلمون بأن لله رسالة، ولكن لست من أصحابها، فالله لم يرسلك، وهم بهذا ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وينكرون أن يكون له معجزة دالة على هذه الرسالة، ويريدون آيات أخرى غير القرآن، إذ لا يعدون القرآن آية، وما كان للنبي أن يأخذ كلامهم أخذ من يعتبره، وقد قام الدليل عليه بالتحدي، وإدراك أهل الذكر منهم ما فيه من نسق، ووثيق نظم ؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم :﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾، أي كفا الله شهيدا بيني وبينكم، فهو الحق وشهادته الحق، وليست شهادته كلاما يردد، ولكن شهادته معجزة تفحم، وقد جاءت الخوارق تترى بشهادة الحق في كل ما ترون من حياته، وما أحاط بها، وما دبرتم وقد رد تدبيركم في نحوركم، وقوله تعالى :﴿ كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ فيه تهديد لهم بما يكون إنكارهم من عواقب وخيمة عليهم تنصر أهل الحق.
ويصح أن تقول :﴿ شهيدا ﴾ معناه حاكم ؛ لأن الشهادة تجئ بمعنى الحكم، كما في قوله تعالى :﴿... وشهد شاهد من أهلها...( ٢٦ ) ﴾ [ يوسف ]، والمعنى وكفى بالله حاكما بيني وبينكم، ويرشح لهذا المعنى عبارة بيني وبينكم، فالحكم هو الذي يكون بين اثنين، وأما الشهادة فتكون لأحد الفريقين على الآخر.
وقوله تعالى :﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ الكتاب إما أن يراد جنس الكتاب، ومن عنده علم الكتاب هو العالم بالكتب السماوية قبل تحريفها، فإنها تشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحكم بأنه رسول، وهذا التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، ولا يزال آثاره معها باقية إلى يوم القيامة تعرف برموزها لمن عنده علم بالكتاب، هذا إذا كان المراد جنس الكتاب، ومن عنده علم بكتاب أهل الفقه المخلصين من الكتابين.
وإذا أردنا الكتاب وكانت ( ال ) للعهد، يكون المراد هو القرآن الكريم، ومن عنده علم القرآن هو العليم بأساليب الكلام العربي يعرف شعره ورجزه، وإرساله ونثره، ويعرف ما في الكلام، كما روى عن فصحاء العرب، فإن هؤلاء يشهدون بإعجازه كما يقول قائلهم : إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشرا، وإنه ليعلو، ولا يعلى عليه.
هذا وإني أرى الوجه الثاني، وكلاهما عميق في معناه.