تفسير سورة الرعد

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

١٣- سورة الرعد
نزولها: مكية: عند ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير..
وقال الحسن وعكرمة وقتادة: إنها مدنية.
وقد أخذ بالقول بمكيتها: الإمام النسفي، والفيروزبادى فى بصائر ذوى التمييز، وقال الزمخشري: «مختلف فيها». أما الإمام البيضاوي فاعتبرها مدنية.. والراجح عندنا أنها مكية.. وذلك لنظمها الذي يبدو عليه الطابع المكي، ولمضامين آياتها التي تعرض آيات الله الدالة على قدرته فيما أبدع وصوّر فى هذا الوجود.. وذلك هو الغالب على القرآن المكي.
عدد آياتها: سبع وأربعون على الراجح، وقيل ثلاث، وأربعون وقيل أربع وأربعون، وقيل خمس وأربعون..
عدد كلماتها: ثمانمائة وخمس وستون كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة حرف، وستة أحرف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات: (١- ٤) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
63
التفسير:
هذه السورة «مكية» - وقيل إنها «مدنية» وسورة «يوسف» التي قبلها «مكية» باتفاق، ومع هذا فقد كان بدء هذه السورة متلاقيا مع ختام السورة التي قبلها، وهذا يرجح القول القائل بأنها مكية.
فقد ختمت سورة «يوسف» بالآية الكريمة: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
والآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- تنفى عن القرآن الكريم أن بكون قد شابه شىء من الكذب أو الشك، إذ كان مصدّقا لما تقدمه من الكتب السماوية، شاهدا لها بأنها من عند الله.
وقوله تعالى: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» - هو توكيد لنفى الشّبه والرّيب عن القرآن الكريم، وتقرير بأنه الحقّ من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والإشارة «بتلك» مشار بها إلى «المر».. تلك الحروف المقطعة..
أي أنه من تلك الحروف وأمثالها من حروف الهجاء، قد نظمت آيات القرآن
64
الكريم، فكان منها هذا النظم البديع، وهذا البيان المبين، الذي أفخم البلغاء، وأعجز العالمين..
وفى الإشارة إلى آيات الكتاب، بعد ذكرها فى قوله تعالى: «المر» - فى هذه الإشارة تنويه بهذا الكتاب، وعرض له فى معرض التحدي، بهذه الأحرف التي نظمت منها كلماته، ونضّدت آياته..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» قصر للحق المطلق على آيات هذا الكتاب، فآيات هذا الكتاب هى الحق، ولا حقّ وراءها، لأنها كلمات الله.. وكلام الله صفة من صفاته..
وقد جاء القصر هنا بتعريف الخبر «الحق».. ولو جاء منكرا- كما هو مألوف لما وقع القصر-: فإنه شتان بين قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» وبين أن يقال: «والذي أنزل إليك من ربك حق».
قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ».. أي ومع هذا الحق المبين، وتلك الآيات المشرقة الوضيئة، فإن أكثر الناس لا يهتدون بها إلى الحق، ولا يتهدّون بها إلى التعرف على الله.
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ».
وإذا لم يكن للناس عقول تعقل هذه الآيات التي حملها رسول الله إليهم فى هذا الكتاب المبين.. أفلا كانت لهم أعين تنظر فى هذا الوجود الذي أوجده الله سبحانه وتعالى من عدم، وأقامه على هذا النظام البديع؟
وإذا لم يكن لهم نظر ينظرون به فى هذا الملكوت، أفليست لهم آذان
65
يسمعون بها، هذا النداء الإلهى الذي يناديهم به الحق جل وعلا، ليستيقظوا من نومهم، ولينتبهوا من غفلتهم؟
ألا من كانت له أذنان فليسمع!! وألا من كانت له عينان فلينظر!! وألا من كان له قلب فليخشع! - «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» أي ترونها مرفوعة هكذا بغير عمد، فقوله تعالى: «تَرَوْنَها» إما أن يكون صفة لعمد، ويكون المعنى:
أن الله سبحانه قد رفع السموات بغير عمد مرئية لنا، وإما أن يكون حالا من السموات.
- «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي بسط سلطانه على هذا الوجود.
- «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» أي أخضعهما لسلطانه، وأجراهما حسب أمره وتقديره.
- «كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي يدور فى فلك محدود، فى زمن محدود.
- «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» أي يقدر لكل شىء قدره، كما يقول سبحانه: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (٣: الطلاق) - «يُفَصِّلُ الْآياتِ» يبينها ويوضحها، ويأتى بها آية آية. ولم يأت بها جملة واحدة، وذلك لتنكشف للناس، ولتتضح لهم معالم الحق منها.
- «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» أي لعلكم ترون فى هذا الوجود، وفى الآيات المفصلة المبثوثة فيه، ما يدعوكم إلى الإيمان بالله، فإذا آمنتم بالله آمنتم بلقائه، وعملتم لهذا اللقاء حسابه، وأيقنتم أنكم مجزيون على ما تعملون من خير أو شر.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» بدلا من قوله «تؤمنون» إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي يجىء عن طريق النظر والتأمل فى آيات الله
66
الكلامية أو الكونية أو هما معا- هذا الإيمان، هو الإيمان الكامل، الذي يصل إلى مرتبة اليقين.
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
ومن مظاهر قدرة الله، تلك الآيات الكونية المفصلة، فهو سبحانه:
- «الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» أي بسطها وذللها.
- «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» أي جبالا راسية، ثابتة، مستقرة، كما ترسو السفن على المرافيء الآمنة.
- «وَأَنْهاراً» أي وأجرى فى هذه الأرض التي بسطها أنهارا.
- «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» أي وجعل من كل ثمرة زوجين اثنين، ذكرا وأنثى.. فالثمرة- أىّ ثمرة- لا تكون إلا بالتقاء الذكر والأنثى، على أية صورة من صورة الالتقاء، سواء فى ذلك عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان.. فكل مولود هو ثمرة هذا اللقاء، كل ثمرة هى المولود الذي تولّد من الذكر والأنثى! - «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» أي يلبس الليل النهار، ويجعله غشاء له، يجلّله، ويغطّيه.
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».. ففى كل هذا، آيات ودلائل، على وجود الخالق، وعلى قدرته، وعلمه.. ولكن هذه الآيات لا تنكشف إلا لمن وجّه إليها بصره، وأعمل فيها فكره.. أما من أعرض عنها، وأغلق عقله وقلبه دونها، فإنه لا يرى من هذه الآيات إلا عوالم جامدة صماء، لا تنطق بشىء، ولا تحدّث عن شىء!
67
قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».
أي فى هذه الأرض، وفى أية رقعة محدودة منها، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
- «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» أي يجاور بعضها بعضا، ولكنها تختلف وجوها، وتتباين صورا وأشكالا.. فبعضها جديب، وبعضها خصيب، وقطع منها مياه، وقطع أخرى يابسة، وجوانب منها عشب وزروع، وجوانب أخرى حدائق وبساتين.
- «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ» أي من قطع الأرض، جنات من أعناب.
- «وَزَرْعٌ» أي ومن قطع الأرض كذلك، زرع، من حبوب وغيرها.
- «وَنَخِيلٌ» أي ومن هذه القطع أيضا: نخيل.
- «صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» أي هذه النخيل بعضها «صنوان» أي كل نخلتين يخرجان من أصل واحد، أشبه بالتوائم فى عالم الإنسان.. «وَغَيْرُ صِنْوانٍ» أي كل نخلة قائمة بذاتها.. «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ» أي كل هذه الأنواع من النخيل يسقى بماء واحد، هو هذا الماء الذي تروى منه الكائنات الحيّة، من نبات وإنسان وحيوان.. ومع هذا فقد اختلفت ألوان ثمارها، وتعددت طعومها، ومذاقاتها، فكان بعضها أفضل من بعض، فى طعامه ومذاقه: «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ».
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» أي إن فى هذه الآيات المبثوثة فى كل مكان لآيات ودلائل تشهد بقدرة الخالق، وتحدث عن علمه وحكمته، ولكن ذلك لا يقع إلا لمن كان لهم عقول، تفرق بين المحسوسات، إذ كانت
68
تلك الآيات من الظهور والبيان، بحيث لا تخفى على أي إنسان له مسكة من عقل.. فكل إنسان احتفظ بإنسانيته قادر على أن يوجّه عقله إلى تلك الآيات، وينتفع بها فى التعرف على خالقه..
ولا بد من وقفة هنا، مع أسلوب هذا العرض المعجز لآيات الله..
فقد جاء العرض على أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي تلتقى مع العقل فى جميع مستوياته، وعلى مختلف أنماط تفكيره..
فقد بدأ العرض بالسماوات، مجملة من غير تفصيل.. هكذا.. «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» وفى السموات، وفى هذا الملكوت الذي يقصر الطرف عنه، ويضيق الخيال عن تصوّره، منطلق لجميع العقول، ومسبح لكل المدركات.
وهيهات أن يكون إنسان، لم يرفع بصره إلى هذا الملكوت، ولم يسرح بخياله مع شموسه وأقماره وكواكبه، ونجومه! ثم يمسك القرآن- بعد هذا العرض العام للعالم العلوي- بظاهرتين بارزتين من مظاهر هذا العالم، وهما الشمس، والقمر، ففيهما مجال لنظر الناظرين، وتدبر المتدبرين.. ذلك أنه إذا غفل الإنسان الغافل الجهول، عن الوقوف على ما فى السموات من آيات بيّنات، تحدّث عن قدرة القدير، وحكمة الحكيم، وعلم العليم- فإنه لن يستطيع- ولو حاول- أن يغمض عينيه عن الشمس والقمر، اللذين يملآن عليه وجوده.. وفى هذا يقول سبحانه:
«وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ثم يتحرك العرض إلى مستوى دون هذا المستوي.. فينتقل العرض من السماء إلى الأرض. وذلك لأنه إذا كان فى الناس- وكثير ما هم- من لا يرى
69
فى ملكوت السموات، وما فيهن، من شمس وقمر، ونجوم، فلينظر إلى هذه الأرض التي يدبّ عليها، فيقول سبحانه:
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ..
«وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً..
«وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..
«يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ..»

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وهنا على هذه الأرض معارض مختلفة، تتفاوت فيها أنظار الناظرين..
فبعض الأنظار تقف على حدود النظرة الملقاة على هذه الأرض، فلا ترى إلا آفاقا فسيحة ممتدة تتحرك عليها أشياء، أشبه بالأطياف، لا تتبيّن العين منها شيئا.. على حين تنفذ بعض الأنظار إلى مدارج النّمال وأفاحيص القطا.
فترى فيها من عظمة القدرة، وجلال العلم، وروعة الحكمة، ما يملأ القلب خشوعا، وولاء، وحمدا للخلّاق العظيم.. رب العالمين..
فهذه الأرض المبسوطة على امتداد البصر.. تقف عندها بعض الأنظار ولا تتجاوزها.. وهذه الجبال الراسية عليها.. هى أبرز ما على هذه الأرض..
تعلق بها الأنظار، وتمسك بها..
ثم هذه الثمار.. التي هى معاش الإنسان.. إن لم يلتفت إليها ببصره، ألجأته الحاجة إلى أن يسعى إليها بقدمه، ويقلّب وجوه الأرض باحثا عنها بيده! وهذا الليل الذي يغشى النهار ويلبسه، ويحيل بياضه سوادا، ونوره ظلاما- هذا الليل يشدّ الأبصار شدّا إليه، لتتلمّس طريقها فيه، وترصد المخاوف التي تطلع عليها منه..
70
وهكذا، إذا استطاع الإنسان أن يفلت من النظر إلى واحدة من تلك الموجودات، لم يستطع أن يفلت من أخرى.. فإن لم يجىء إليها اختيارا أجاءته إليها اضطرارا..
ثم لا يقف الأمر عند هذا..
فهناك معارض بين يدى الإنسان، وتحت قدميه..
«وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ..
«وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ..
«وَزَرْعٌ..
«وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ.. يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..»

ففى هذا معارض متعددة.. يعيش فيها الإنسان بكيانه كلّه، ويلقاها بحواسّه جميعا.. البصر، والشمّ، والذوق، واللمس.. شأنه فى هذا شأن الحيوان..
فإذا لم يكن وراء هذه الحواس عقلا يدرك، فقد خرج الإنسان من عالم البشر إلى عالم الحيوان، ولم يكن أهلا للخطاب، والتكليف! تلك هى دعوة الإسلام للعقل، كى يتعرف على الله، ويسلك سبيله إليه، بالنظر فى ملكوته، والتدبّر فيما أبدع وصوّر.. وإن العقل- على أي مستوى- لن يخطئه الطريق إلى الله، إذا هو وقف بين يدى تلك الآيات، متجردا من الأهواء الفاسدة، والموروثات الضالة، وأعطى لنفسه الحقّ فى الاستقلال بعقله، والإصغاء إلى صوت ضميره..
الآيات: (٥- ٧) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٥ الى ٧]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
71
التفسير:
من أبرز الأمور التي ضلّت عنها أبصار المشركين، وزاغت عنها عقولهم، ولم يمسكوا بخيط من خيوطها، وهم يدورون بأبصارهم فى هذا الوجود- أمر البعث، الذي لم يتصوروه، ولم يجدوا له مساغا فى عقولهم، فأنكروه أشدّ الإنكار، ورأوا أنه مما يستحيل وقوعه.. إذ كيف يبعث الإنسان بعد أن يموت، ويتحول إلى تراب فى هذا التراب؟ تلك هى مضلّتهم، ومثار الوسوسة والبلبلة التي تضطرب فى عقولهم، من أمر البعث.. فلو أنّهم سلّموا بالبعث، لنازع هذا التسليم، بل وانتزعه من عقولهم، هذا الفهم السقيم لقدرة الله، التي يبدو لأنظارهم الكليلة منها، أنها أعجز من أن تعيد الحياة فى هذا التراب الهامد، وتبعث الموتى من قبورهم على الحال التي كانوا عليها، بعد أن أبلاهم البلى، وأكلهم التراب! ولهذا كان ذلك منهم مثارا للعجب والدّهش، من ذوى العقول، وأصحاب النظر والفهم.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الكريم:
«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»..
أي إن ترد- أن تعجب وتدهش وإن أحببت أن تسمع من القول ما يثير العجب والدهش، فاستمع لهذا القول الذي يقوله هؤلاء المشركون: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟»
72
وقد جاء هذا القول منهم فى صورة هذا الاستفهام الإنكارى، للإشارة إلى أنه كان سؤالا مردّدا بينهم، يلقى به بعضهم إلى بعض، فى تساؤل منكر، وفى استفهام خبيث: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ولا يجدون جوابا لهذا إلا زرّ العيون، أو زمّ الشّفاه، أو ليّ الألسنة.. تحدّث بما فى قلوب القوم من سخرية واستهزاء! «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ، أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
وهذا هو الردّ المفحم على هذه السخرية، وذلك الاستهزاء..
إنهم كفرة بالله.. وليس للكافرين عند الله إلا النّار، يجرّون إليها كما تجرّ الحمر المستنفرة، قد أخذ صائدها بمقودها.. «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (٤٨: القمر).
وفى تكرار الإشارة إليهم.. «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.. وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» - فى هذا التكرار، فضح لهم على رءوس الأشهاد، وشدّ للوثاق الممسك بهم من أعناقهم، حتى لا يفلتوا وحتّى لكأن كل إشارة من تلك الإشارات الثلاث، طوق من حديد، يطوّقون به.. وإن ذلك لسمة من السّمات الدّالة عليهم بين أهل المحشر، فليس ثمّة شك فى أمرهم، أو فى التعرف على ذواتهم، وقد وسموا بتلك السمات الفاضحة.
وفى الإشارة إليهم بأن الأغلال فى أعناقهم، وبأنهم أصحاب النار، مع أنهم لم يبعثوا بعد، ولم يساقوا إلى جهنم بعد- حكم قاطع من الله عليهم بهذا، ولكنه مؤجل التنفيذ إلى يوم البعث..!
73
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ.. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ».
المثلات: جمع مثلة، وهى الحدث الذي يقع فيكون مثلا مضروبا، فى شناعته، وسوء وقعه، حيث يستحضره الناس عند كل أمر، تبدو فيه ملامح لهذا الحدث، فيكون ذكره مغنيا عن كل وصف.
والواو فى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» للاستئناف، بخبر جديد من أخبار هؤلاء المكذبين بيوم البعث..
- وفى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» - إشارة إلى أنهم لم يقفوا عند حدّ الكفر بالله، وإنكار يوم البعث، بل جاوزوا هذا إلى التحدّى، إمعانا فى الكفر، ومبالغة فى الإنكار، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
«وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال).. وهذا من غباوتهم وحمقهم وسفههم.. ولو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك، لكان لهم فى باب الأمانىّ الطيبة متسع، ولما رموا بأنفسهم فى هذا الوجه المهلك، الذي إن جاء على غير ما قدّروا، كان لهم فيه البلاء المبين، والعذاب الأليم.. وما لهم لو قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه، واشرح صدورنا له؟.. فإن كان حقّا أخذوا بحظهم منه، وعافاهم الله من البلاء.. وإن كان غير حقّ لم يخسروا شيئا؟ ولكنه الضلال الذي يستحوذ على أهله، فيدفع بهم إلى كل مهلكة، وما لهم لو أخذوا بقول الرجل المؤمن من آل فرعون: «وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (٢٨: غافر) - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» - الجملة هنا حالية، وهى فاضحة لغباوة هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من ضلال وسفه..
74
ذلك أنهم يستعجلون العذاب، وقد وقع هذا العذاب فعلا بكثير من الأمم التي سبقتهم، والتي كانت على مثل هذا الضلال الذي هم فيه.. فلو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك لكان لهم فى المثلات التي حلّت بالأمم الماضية عبرة زاجرة، وعظة بالغة.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ وأنّى للسفهاء أن يرشدوا؟
- وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» عرض لسعة رحمة الله، ومغفرته لعباده.. فهو يمهلهم، ويستأنى بهم، ويدعوهم إليه، ويفتح لهم باب التوبة والقبول، فإذا استجابوا له، ورجعوا إليه، قبلهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وعدل بهم عن طريق الضلال إلى الهدى، وعن النار وأهوالها، إلى الجنة ونعيمها.. فهذا من رحمة الله بعباده، ولو شاء لعجّل لهم العذاب، ولأخذهم بما كسبوا: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (٤٥: فاطر)..
وإذا كانت تلك هى رحمة الله، وذلك هو لطفه بعباده، فإن مع هذه الرحمة وذلك اللطف بالذين يرجون رحمته، عقاب راصد، عذاب شديد للذين يحاربون الله، ويحادّون رسله، وينأون بأنفسهم عن مواقع رحمته ومغفرته..
وذلك هو حكم الله فى عباده.. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢٦- ٢٧ يونس) «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» ومن منكرات هؤلاء الكافرين، أنهم يغمضون أعينهم ويصمّون
75
آذانهم عن آيات الله وكلماته، فلا يرون فيها شواهد صدقها، وصدق الرسول الذي جاءهم بها، بل يتصايحون بهذا القول المنكر: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟».. والآية التي يريدونها، هى آية مادية من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد تلقى الرسول من ربه هذا الرد المفحم لهم.. «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (٩٠- ٩٣: الإسراء).
فهذه الآية التي يقترحونها هنا هى واحدة من تلك الآيات، وهى قولة من أقوالهم التي كانوا يردّدونها فيما بينهم.. وقد ردّ الله عليهم بقوله:
- «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» وفى هذا التفات للنبىّ الكريم، وخطاب كريم له من ربّه، يواسيه، ويخفف ما به من ضيق، لهذا العنت الذي يلقاه من قومه..
- «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» هو الرسول الذي يرسله الله إليهم، ليدعوهم إليه، ويسلك بهم مسالك الخير والهدى.. فتلك هى وظيفة الرسول فى قومه كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» (١١٩: البقرة) وفى تقديم قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» على قوله سبحانه: «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المعاندين، الذين لجّ بهم العناد، واستبدّ بهم الضلال، فركبوا رءوسهم، ولم يعد ثمّة وجه لهم إلا أن ترفع فى وجوههم راية الإنذار، وأن يساق إليهم ريح من لفح جهنم!
76
الآيات: (٨- ١٥) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ١٥]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
التفسير:
تعود الآيات مرة أخرى إلى استعراض قدرة الله، بعد هذه الوقفة الفاضحة للمشركين، ولمقولاتهم المنكرة، التي يستقبلون بها آيات الله، ويلقون بها رسول الله.
77
وفى هذا الاستعراض تنكشف مظاهر كثيرة لقدرة الله سبحانه وتعالى، وتمكّن سلطانه فى هذا الوجود، وإحاطة علمه بكل شىء فيه..
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» تغيض الأرحام: أي تضع ما فيها من حمل.. يقال غاض ماء البئر، أي ذهب وجفّ..
فهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وسعة علمه.. فهو سبحانه يعلم ما تحمل كلّ أنثى، وما تضع من مواليد وما يتخلّق فى الأرحام من أجنّة..
وفى التعبير عن وضع الحمل بالغيض، إشارة إلى أن الرحم حين يشتمل على الجنين، إنما يحمل فى كيانه حياة، بها تزهو الحياة وتعمر الدنيا، كالماء الذي به تحيا الأرض، وتزدهر وتثمر.. فإذا سكن الجنين إلى الرحم، زاد الرحم ونما، وامتلأ، وإذا ولد الجنين، غاض الرحم، وانكمش..
وقدّم غيض الأرحام على زيادتها، لأن ملاحظة الغيض للرحم أظهر للعين، حيث يبدو فى تمام الحمل على صورة واضحة، ثم إذا وضع الجنين تبدل الحال.
- وفى قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» إشارة إلى أن هذا العلم الإلهى، علم قائم على حكمة، وعلى تقدير وتدبير، وليس علما جزافا، فهو مع إحاطته بكل شىء، ضابط لكل شىء، ومقدّر لكل أمر قدّره.. وهذا هو الفرق بين علم الله، وعلم العالمين، فإذا كان فى العالمين من يعلم ما فى الرحم..
فإنه لا يعلم ما فى الأرحام جميعها فى هذه الدنيا كلها، ولو احتشد لذلك العلماء، وتوفروا له بكل ما وضع العلم فى أيديهم من وسائل.. ولو فرض أنهم علموا
78
ما فى الأرحام الآدميين جميعا- وهذا هو المحال- فأنّى لهم أن يعلموا ما فى عالم الحيوان؟. «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ».
وفى إحاطة علم الله تعالى بالحمل الذي تحمله كل أنثى إشارة إلى نفوذ علم الله إلى خفايا الأمور، وأنه سبحانه يتولى هذه الأجنّة، إيجادا، وحفظا، داخل الأرحام وخارجها.
فعلم الله سبحانه وتعالى علم شامل، كامل، لأنه علم الخالق، المبدع، المصور.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذا.
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ».. فذلك هو علم الله سبحانه، علم شامل كامل.. يعلم ما بطن وما ظهر، وما كان غائبا عن حواسنا، وما كان مشهودا لها.. فهو سبحانه «الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» الكبير الذي وسع كرسيّه السموات والأرض، «المتعال» الذي علا بسلطانه على كل ذى سلطان، وبعلمه على كل ذى علم.
«سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ».
فالله سبحانه، فى كبريائه، وفى علوّه، محيط بكل صغيرة وكبيرة فى الوجود..
يتساوى لديه فى ذلك بعيد الأمور وقريبها، خفيها وظاهرها، إذ لا قرب ولا بعد عند من احتوى الوجود كله، ولا خفاء ولا ظهور لدى من ملك الأمر جميعه: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (٣: الحديد).
فمن أسرّ القول كمن جهر به.. الله يعلم سرّه، علمه لجهره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٣- ١٤: الملك).
79
ومن تدثّر بالليل واستتر به عن العيون، كمن هو سارب: أي متحرك، بالنهار.. الله يراه فى ظلمة الليل، كما يراه فى ضوء النهار.. «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».
«لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..».
أي إن لهذا الإنسان الذي يسرّ القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار فى ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس فى وضح النهار- هذا الإنسان موكّل به من قبل الله، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كلّ نفس يتنفّسه، وكلّ خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. فأنّى له أن يخلص إلى نفسه، أو يخلو إلى وجوده، دون أن ترقبه هذه العيون الراصدة المتعقبة له؟
- وفى قوله تعالى «مُعَقِّباتٌ» إشارة إلى أن هؤلاء الجند، يرون الإنسان من حيث لا يراهم، وأنهم أشبه بمن يتبع الإنسان من وراء عقبه، دون أن يراه أو يحسّ به، وهم- مع هذا- بين يدى الإنسان ومن خلفه.
- وقوله تعالى: «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ».. أمر الله هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما يقول سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (٥٤: الأعراف) والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير الله، وحكمه، وقضائه فى عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (٢: النحل).. وقوله سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (٥٢: الشورى) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» فى هذه الآية الكريمة أمور:
80
- ففى قوله تعالى فى أول الآية: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من الله، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع فى نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفيّة أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هى أشبه بالآلات المصورة، أو المسجّلة.. تصور ما يقع، وتسجّل ما يحدث، دون أن تتدخل فى مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد!.
ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم، ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه!.
وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرّية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه الله سبحانه وتعالى له: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».. فالناس يبذرون الحب.. والله سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرّا..
وفى تعليق تغيير أحوال الناس بتغيّر ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هى جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها
81
هى السلطان الآمر للإنسان، والموجّه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيّرت النفس اتجاه مسيرها، تغيّر تبعا لذلك سير الإنسان فى الحياة.
وفى إضافة التغيير إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى هى التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هى التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير..
ومعنى هذا، أن إرادة الله سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل فى محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، فى محيط إرادة الله العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج فى تحركها وعملها عن إرادة الله..! وفى هذا يقول الله سبحانه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (٤: الروم) ويقول سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (٢٩: التكوير).
قوله تعالى: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» - هو تقرير لشمول الإرادة الإلهية وعمومها، وأنها إرادة نافذة ماضية، وأن إرادة الناس لا تتحدّى إرادة الله، ولا تحول بينها وبين أن تمضى ما قضت به، وليس للنّاس فيما يقضى به الله ويريده من ولىّ ينصرهم، ويدفع ما يريد الله بهم من سوء.
هذا، مع أن للإنسان إرادته، ومشيئته، التي يجدها، ويملك أموره بها، دون أن تعطل إرادة الله العامة الشاملة إرادته، أو تكرهه على أمر لا يريده، فإن تعطلت إرادته، أو وقعت تحت سلطان قاهر لها، رفع عنه التكليف..
أو بمعنى آخر زالت عنه فى تلك الحال صفة الإنسان، المريد المختار..
وقد عرضنا لبحث هذه القضية، من قبل، فى مبحث خاص، تحت
82
عنوان: (مشيئة الله، ومشيئة الإنسان) عند تفسيرنا لقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» (١١١: الأنعام).. «١»
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» - هو عرض لمظهر آخر من مظاهر قدرة الله وهو أنه سبحانه وتعالى، هو الذي ينشىء هذه السحب الثقال، المحملة بالماء الغزير، ويسيّرها فى جوّ السماء، كما يسير السّفن على الماء، وأنه سبحانه يرسل من بين تلك السّحب بروقاً لامعة، هى إشارة سماوية تشير إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث تنطلق تلك الشرارات النارية الملتهبة، من هذا الماء الذي تحمله السحب..!
- وفى قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» إشارة إلى أن هذه البروق الراعدة تثير فى النفوس مشاعر مختلفة مختلطة.. فيخافها بعض الناس، ويخشى أن تكون صواعق مرسلة بالهلاك، كما يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ».. على حين يرجوها بعض الناس، وينتظر الغيث الهاطل من ورائها..
وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبّى حين يقول:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى يرجى الحيا منها وتخشى الصّواعق
قوله تعالى: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ»..
المحال: الحول، والطول، والقوة.
والمعنى: أن هذا الرّعد الذي ينطلق من السّحب، مدويّا هذا الدوىّ
(١) انظر ص: ٢٦٢ من الكتاب الرابع- تفسير الجزء الثامن.
83
الذي يملأ الآفاق، هو صوت منطلق فى الوجود، بين يدى تلك السحب المحملة بالغيث، ينادى بحمد الله، ويهتف بكل موجود أن يصحو من نومه، ويفيق من غفلته، ليستقبل هذه الرحمة المرسلة بحمد الله، والشكران له، على ما ساق إلى عباده من نعم! وفى جعل «الرَّعْدُ» مسبّحا بحمد الله إشارة إلى أن الرّعد دائما يصحبه المطر، وهذا يعنى أنه يبشر بتلك النعمة، ويزفّ إلى من يسمعون هذا الصوت، أن رحمة الله قريب منهم، إذ كان من شأن الرعد أن يتبعه المطر دائما.. وليس كذلك البرق، الذي قد يصحبه مطر، وقد لا يصحبه، وهو الذي يسمّى البرق الخلّب، أي الذي يخدع، حيث يوعد بأن وراءه مطرا، ثم يخلف هذا الوعد..
وليست الإشارة إلى تسبيح الرعد، إلا إلفاتا للإنسان، ودعوة له إلى أن يسبّح ربه ويحمده، وإلّا، فإنّ كل شىء يسبح بحمد الله دائما، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».
وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» معطوف على قوله تعالى «الرَّعْدُ» أي يسبح الرعد بحمد الله، وتسبّح الملائكة من خيفته، أي من خوف ربّهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» (٥٠: النحل)..
- قوله تعالى: «وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ».. الضمير «هم» يراد به المشركون بالله، الذين لا يرجون رحمة الله، ولا يخشون عذابه.
فلا يحمدون الله على تلك النعم التي أفاضها عليهم، مع أن هذه النعم ذاتها تسبّح الله وتحمده، أن جعلها رسول خير للنّاس، ومصدر حياة لهم..
84
فكيف لا يحمدها، ولا يشكر لله من أجلها، من كانت حياتهم معلقة بها، ووجودهم رهن بوجودها؟ أليس ذلك ضلالا وسفها وكفرا؟ وبلى.. إنه الضلال والسفه والكفر! ثم إذا كان الملائكة، وهم ما هم عند الله.. يخافون ربّهم، ويسبحون بحمده، ويشكرون له، فكيف بهؤلاء المشركين الضالّين.. لا يخشون الله، ولا يخافون بأسه وعقابه؟ لقد غرّهم بالله الغرور.. إنّهم يجادلون فى الله، جدال من ينكره، ويجحد نعمه، ويستخفّ ببأسه! وهو سبحانه آخذ بناصيتهم.. إنه ذو الحول والطول، شديد العقاب.. لن يفلتوا منه، ولن يخلصوا من عقابه.
«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ»..
فى هذا تسفيه لهؤلاء السفهاء الذين يصرفون وجوههم عن الله، فلا يدعونه، ولا يلجئون إليه، وهو الحقّ الذي إذا دعى سمع، وإذا سئل أجاب، وأعطى.. ولكنهم يدعون من دونه من لا يسمع ولا يجيب! «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (٥: الأحقاف).
- وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ».
تصوير كاشف لهذا الضلال الذي عليه هؤلاء المشركون، وهم يمدّون أيديهم إلى تلك الدّمى التي عبدوها من دون الله، وعلّقوا آمالهم بها، وانتظروا الخير الذي يرجونه منها.. إنهم لن ينالوا شيئا.. إنهم مع آلهتهم تلك كمن يبسط يده إلى الماء، يدعوه إليه أن ينتقل من حيث هو، حتى يبلغ فاه، ويرتوى
85
منه! وهيهات.. فإن الماء لا يسمع له، ولا يستجيب لدعائه.. «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ».. إنه دعاء لا يجد له أذنا تسمع، أو عقلا يعقل، أو لسانا ينطق! والسؤال هنا:
كيف كانت المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون الله- مقابلة فى هذا التشبيه للماء.. مع أن الماء فيه حياة ونفع لمن يتصل به! ويحسن أورد إليه؟.. فهل فى هذه المعبودات شىء، مما فى الماء من خير ونفع، حتى يقع الشبه بينها وبين الماء؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن المنظور إليه فى هذا التشبيه، هو العابدون لا المعبودون، وهؤلاء المشركون الضّالون، لا المعبودات التي يعبدونها.. وذلك أنهم فى هذا التشبيه ينكشف سفههم وضلالهم، وحماقتهم، وأنهم والماء قريب منهم، والظمأ يشوى أحشاءهم، لا يعرفون- لجهلهم وسفههم كيف ينالون منه حاجتهم، فيبسطون أيديهم إلى الماء، ويهتفون به أن يدنو منهم، ويدخل أفواههم..!
والحاجة- كما يقولون- تفتق الحيلة، وحاجة القوم إلى الماء شديدة، والوصول إليه، والارتواء منه سهل ميسور، يتهدّى إليه الحيوان بفطرته، ولكنّ القوم قد أفسدوا فطرتهم، وعطّلوا عقولهم، فلم يكن لهم ما للحيوان الأعجم من حيلة! ولو كان المشبّه به، المقابل للمعبودات، شيئا غير مرغوب ومطلوب، لما وقف القوم منه هذا الموقف الحريص المتلهف، ولما اشتد بهم الكرب، واستبدّت بهم الحسرة، حين طال وقوفهم عليه، ثم لم ينالوا شيئا منه! ومن جهة أخرى.. فإن من بين هذه المعبودات التي يتخذها المشركون
86
آلهة لهم من دون الله، ما فيه نفع وخير، كالملائكة، وبعض الصّالحين، الذين قيل إن ودّا وسواع، ويغوث، ويعوق، كانوا من صالحى العرب، فلما ماتوا صنعوا لهم التماثيل، وأطلقوا عليها أسماءهم، ثم عبدوهم..
فالملائكة، وهؤلاء الصّالحون من عباد الله، ممن عبدهم الناس، أو اتخذوهم شفعاء لهم عنده- هم أشبه بهذا الماء، الذي فيه رىّ وحياة، وأنّ من يسلك سبيلهم، ويتأسّى بهم، ويرد موارد التقوى التي وردوها- يجد الرىّ لروحه، والحياة لقلبه.. ولكن المشركين لم يحسنوا التعامل معهم، والانتفاع بهم، فهلكوا، وطريق النجاة دان منهم، ماثل أمام أعينهم! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ»..
هو قهر للمشركين وإذلال لهم، وأنّهم من حيث لا يريدون، ولا يدرون، هم منقادون لله، خاضعون له، إذ كانوا تحت سلطانه القاهر، وإرادته النافذة..
فهم إذ لم يعبدوا الله اختيارا وولاء، عبدوه كرها واضطرارا.. وأنفهم فى الرّغام، ومصيرهم إلى النار، لأنهم عصوا الله، وكفروا به، وأبوا أن يعطوه ولاءهم مختارين! وليس هذا شأن المشركين وحدهم.. بل إن الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، وما فى سماواته وأرضه، ساجد لله، خاضع لعزته وجبروته، منقاد لإرادته ومشيئته.. فالمراد بالسجود هنا، الخضوع والانقياد «طَوْعاً وَكَرْهاً» !.
والوجود كلّه- ما عدا الإنسان- يسجد لله، ويخضع لإرادته، وينقاد لمشيئته «طوعا» من غير تردد، إذ لم يكن فيها- كما نعلم- كائن ذو إرادة، تضعه أمام أوامر الله ونواهيه بين الإقدام والإحجام، وبين الامتثال،
87
والعصيان.. فيطيع وهو مريد، ويعصى وهو مريد.. الأمر الذي ليس لكائن غير الإنسان.. وفى هذا يقول تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (١١: فصلت).
أما الإنسان، فهو الكائن المريد، الذي تقوم فى كيانه قوة موجهة، هى التي تذهب به يمينا أو شمالا، وتقيمه على أمر الله، أو تخرج به عنه.. فإذا استجاب لأمر الله، واتبع سبيله كان نغما متجاوبا مع هذا الوجود المنقاد لله طوعا وإذا لم يستجب لله، وخرج عن طريق الحق الذي دعاه إليه، كان نغما شاذا، ثم كان فى الوقت نفسه منقادا لله «كرها».. لأنه واقع تحت سلطان الله، منقاد لمشيئته.. فما على هذا الإنسان الجهول لو انقاد لله طوعا، كما هو منقاد كرها؟
- وفى قوله تعالى: «وَظِلالُهُمْ» إشارة إلى أن ظلال هذه الكائنات، - ومنها الإنسان- منقادة لله سبحانه وتعالى، ساجدة لجلاله وعظمته.. فحيثما وقعت أشعة الشمس على كائن من الكائنات، وقع ظلّه على الأرض.. فكان ذلك منه سجودا لله، وولاء له.. إنه لا يملك الظل إلا أن يقع على الأرض.
وقوله تعالى: «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ».
الغدوّ: جمع غدو، مؤنثه غدوة.. وأصله غدوو.. على وزن فعول فأدغمت الواو فى الواو.. والغدو، والغدوة، أول النهار..
والآصال: جمع أصل، والأصل: جميع أصيل.. مثل نذير ونذر.. والأصيل آخر النهار..
وفى قصر سجود الظلال على الغدو والآصال، عرض واضح لسجود هذه الظلال، حيث تكون ظلال الأشياء فى أول النهار وآخره ظاهرة ممتدة، يبدو
88
فيها ظل الشيء أضعاف أصله، ثم ينكمش رويدا رويدا، حتى يقع تحت قدميه عند الزوال، ثم يبدأ فى الطول شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ أول النهار، فى طوله وامتداده، أضعافا مضاعفة. إنها دورة كاملة للظل على الأرض، أشبه بدورة الأفلاك فى مداراتها..
وأقرب شىء إلى الإنسان، وألصق الأشباه به، هو ظلّه.. وهذا الظلّ يسجد لله.. فإذا كان الإنسان مؤمنا سجد، وسجد معه ظله.. وإذا كان كافرا يأبى السجود لله، فإنه ساجد لله- كرها- بظله هذا الذي يسجد لله غدوة وأصيلا، وما بين الغدوة والأصيل.. فهل يستطيع أن يحول بين ظله وبين أن يسجد لله؟ فليجرب إذن.. وسيجد أنه كما لا يملك أن يمنع ظله من السجود لله، والانقياد لله، فإنه لا يملك نفسه من الانقياد لله، والخضوع لسلطانه القائم عليه، فى كل حركة يتحركها، أو نفس يتنفسه.. وليجرّب مرة أخرى إن كان يستطيع الخروج عن سلطان الله! وهل يستطيع مثلا أن يعيد نفسه إلى الشباب إن كان شيخا؟ وهل يستطيع أن يدفع عن نفسه عادية الجوع إذا امتنع عن الطعام يوما أو أياما؟ وهل يستطيع أن يغلب النوم فلا ينام أبدا؟ ثم أيستطيع أن يفرّ من الموت الذي هو ملاقيه يوما؟ أليست هذه، وآلاف غيرها من الضرورات القاهرة التي تتحكم فى الإنسان، وتأخذه من مقوده- أليست من مظاهر الخضوع لله، طوعا وكرها؟ وبلى! وإن الله سبحانه وتعالى ليقول:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (٣٣: الرحمن)
الآيات: (١٦- ١٨) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٦ الى ١٨]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
89
التفسير:
بعد أن عرضت الآيات السابقة بعض مظاهر قدرة الله، وقوة سلطانه، وسعة علمه، ثم ختمت هذه المشاهد بهذا الحكم الذي ألزم الوجود كلّه، الانقياد لله، والولاء له، طوعا أو كرها- جاءت هذه الآيات تخاطب العقل، وتدعوه إلى الله، وتضرب له الأمثال الحسية، ليقيم من منطقها طريقه الذي يستقيم عليه، فى التهدّى إلى الحقّ، والإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، ونبذ الشركاء والأنداد، التي إذا قايسها العقل بالله، كانت ضلالا وكانت هباء!..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟»..
هذا سؤال ينبغى للعاقل أن يسأله، وأن يجيب عليه!.. فإن هذا الوجود
90
فى سماواته وأرضه، لا بد له من خالق قد خلقه، وأجرى نظامه على هذا الترتيب المحكم البديع.. فإذا لم يسأل المرء نفسه هذا السؤال، ولم تثر فى نفسه داعية له، فها هو ذا السؤال يملأ سمعه.. فماذا يكون الجواب؟ ومن ضاع منه الجواب بين سحب الجهل والضلال المنعقد على عقله وقلبه.. فهذا هو الجواب حاضر عتيد..
«قُلِ اللَّهُ!».. وهذا الجواب هو من بديهية العقل، كما أن السؤال من بديهية العقل أيضا.. وعلى هذا، فإنه حكم لازم، وقضاء قاطع لا مردّ له..
وإذن فليكن الحساب والجزاء على هذا الحكم الذي لم يلتزمه المشركون، ولم يأخذوا أنفسهم به..
«قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ؟.
والاستفهام هنا إنكارىّ، يضع المشركين فى قفص الاتهام، والإدانة..
إذ كيف لا يعطون ولاءهم لله، ولا يخلصون له عبادتهم، وهو خالق السموات والأرض، على حين يجعلون ولاءهم وعباداتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، والتي هى خلق من خلق الله، تدين له بالولاء، كما دان له كل مخلوق؟ إنهم يسوّون فى هذا بين المتناقضات، ويقولون إن الأعمى والبصير سواء، وإن الظلمات والنور متعادلان، وإن الباطل والحق متشابهان.. وإن المخلوق والخالق سيان! وهذا منطق أحمق سفيه، لا يقبله إلّا من عميت بصيرته، وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة!..
«أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟» هذا استفهام إنكارى أيضا، يسأل فيه المشركون عن تلك الآلهة التي عبدوها من دون الله،
91
أو جعلوها شركاء لله.. أهذه الآلهة تخلق كما يخلق الله؟ وهل لها فى هذا الوجود شىء خلقته، حتى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون- إن كان لهم نظر- فيرون أن لهذه الآلهة خلقا خلقته، وعندئذ يتشابه الخلق عليهم فلا يفرقون بين ما خلق الله، وما خلق غير الله، أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟ وهل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة المعبودة لهم؟ «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» (٧٣: الحج) فكيف يستوى من يخلق ومن لا يخلق؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟.»
- «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».. لم يبق إذن إلا الصيرورة إلى هذا الحكم، الذي لا حكم غيره، وهو أن الله هو الخالق لكل شىء.. وأنه «الواحد» المتفرد بالخلق «القهار» الذي له كل مخلوق، ويخضع لسلطانه كل موجود.. عظيم أو صغير.. فى السماء، أو فى الأرض.. «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟..» (٧٨: النساء) قوله تعالى:
«أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ... »
بقدرها: أي بحجمها، ومقدارها..
الزبد: الرغوة التي تتكون من السائل حين يضرب بعضه ببعض، كما يظهر ذلك فى لعاب البعير حين يهدر ويرغو، أو لعاب الإنسان حين يثور، ويرمى بالكلام فى اندفاع وقوة
92
والرابى: المرتفع، ومنه الربوة، وهى المكان المرتفع.. وهذا مثل آخر ضربه الله سبحانه وتعالى للباطل والحق، وأنهما أمران مختلفان، اختلاف الأعمى والبصير، والظلمات والنور..
الحق والباطل.. دولة ودولة
فهذا الماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية- كلّ على قدر ما نزل من ماء- فيحمل معه فى جريانه واندفاعه، غثاء ورغوة وزبدا، فيختلط بالماء، ويعكر صفوه، حتى ليبدو لعين الغرّ الجاهل أن ما يراه هو غثاء وزبد، وأن لا شىء وراء هذا.. ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ أن بطن الوادي ملىء بالماء، مترع بالخير، وإن هذا الزبد إن هو إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ولا يبقى إلا ما ينفع الناس من ماء تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وإذا هو حياة يردها الناس فتمسك حياتهم، وحياة كل حىّ!..
هذه صورة واقعة فى الحياة، يراها الناس جميعا.. باديهم وحاضرهم، جاهلهم وعالمهم..
وهناك صورة أخرى تشبه تلك الصورة، قد لا يشهدها إلا أهل العلم والصناعة، ولكنها على كل حال صورة لا تغيب عن المجتمع الإنسانى أبدا، وهى تلك المعادن التي تسلط عليها النار، فتنصهر، وتتحول إلى مادة سائلة، أشبه بالماء، حيث يستطيع الصانع أن يشكل منها ما يشاء من آنية، وحلىّ!..
فهذه المعادن حين تنصهر تحت حرارة النار، يعلو سطحها زبد أشبه بالزبد الذي يعلو سطح الماء المندفع بقوة الجريان من السيل المتدفق، وإن هذه الرغوة التي تعلوا وجه المعدن المنصهر هى خبث يلقى به بعيدا عن جوهر المعدن حتى
93
يخلص للطرق والصقل، ويصبح آنية نافعة، أو حلية ثمينة معجبة..
- «كذلك يضرب الحق والباطل» أي يضرب بعضهما ببعض، فى هذا الصدام الذي بين أولياء الحق، وأتباع الباطل، فينشأ من هذا الضرب، وذاك الصراع «زبد».. «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» أي يرمى به بعيدا، فى جفاء وكره.. «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» أي ما ينفع الناس من الماء، ومن المعادن هو الذي يبقى، ويعيش مع الناس- ويكون سببا فى حياتهم.. كالماء، أو سببا فى تمكنهم من أسباب الحياة، ورفهها ونعيمها كالمعادن التي تصاغ منها الآنية والحلىّ..
فالصراع الذي يقع بين الحق والباطل، يثير فى الحياة غبارا، ودخانا، يعكر من صفو الحياة حتى ليبدو لأول نظرة أن غير هذا الصراع أولى بالناس، ولكن تلك هى سنة الحياة، إذ كان من شأن الباطل دائما أن يتحكك بالحق وأن يعترض سبيله، وكان على الحق أن يعمل على الخلاص منه، حتى يصفر وجهه، ويتمكن الناس من الانتفاع به.. تماما كما ينتفعون بالماء بعد أن يدور دورته، ويخلص من الزبد الذي علق به!!.
والذين يشهدون الصراع الدائر بين الحق والباطل، ويرصدون مواقع القتال بينهما، وما يقع من انتصارات وهزائم- هؤلاء قد يرون للباطل دولة، دونها دولة الحق، ويرون للمبطلين، صولة، دونها صولة المحقّين، ومن أجل هذا نجد كثيرا من الناس يضيقون بالحق ذرعا، ولا يصبرون على المكاره فى سبيل الانتصار له والدّفاع عنه.. وهؤلاء قد فاتهم أن هذه المكاره التي تحفّ بالحق، هى الثمن الذي يؤديه أصحاب المثل العليا، والنزعات الطيبة لما يجنون من ثمرات مباركة، هى غذاء الأرواح، وزاد القلوب، وهى التي تلد الرجال، وتربىّ للإنسانية قادتها الراشدين، وزعماءها المصلحين..
94
فليس بمنكور أن يهزم الحق فى معاركه مع الباطل.. فالحق والباطل فى صراع متلاحم لا ينتهى أبدا.. فينتصر هذا مرة، وينتصر ذاك أخرى، حتى يظل هذا الصراع دائما، لا تنقطع موارده، ولا تنطفىء ناره.. ولو كان النصر لأحدهما على الآخر ضربة لازب، لانتهى الصراع القائم فى هذا الوجود من من أول معركة، ولكانت الحياة وجها واحدا.. حقا أو باطلا.. ولو كان هذا لسكن ريح الحياة، ولخمدت جذوة الكفاح التي تدفع موكب الحياة فى قوه وانطلاق، فيتولد من هذا الاندفاع كل ما أقام الإنسان على هذه الأرض من مدنية وعمران..
إن الحياة فى هذا الكوكب الأرضى محكومة بهذا الصراع الأبدى، بين قوى الخير والشر، والحق والباطل.. فى ميزان، تتراجح كفتاه، وتضطربان هكذا أبدا..
وهزيمة الحق فى أروع مظاهره، وأكمل كمالاته، ليست بالتي تنقص من قدره، أو تقلل خطره، أو تحمل أتباعه على الشك فيه، أو الجفوة له.. فالحق وإن بدا أنه خسر المعركة فى بعض معاركه مع الباطل، فإن هذا لا يعنى أنه هزم، وأسلم يده للباطل وأهله.. وإنما ينهزم الحق حين تنهزم مبادئه فى نفس أهله، وتخف موازينه عندهم.. فذلك هو ميدان المعركة بين الحق والباطل..
فما دامت قلوب أهل الحق عامرة به، وما دامت أرواحهم متعلقة بالحياة معه والعيش فى ظله، فإنه لن يهزم أبدا، ولو خسر معاركه فى ميدان الحرب والقتال، وفيما يتقاتل من أجله الناس، من متاع الدنيا وزخرفها..
يقول الفيلسوف «جون ستيوارت» : إن من السخافة أن يتوهم المرء أن الحق لا لشىء سوى أنه حق- يشتمل على قوة غريزية، ليست موجودة فى الباطل، من شأنها أن تمكن الحق من التغلب على ضروب العقاب والتنكيل...
95
إذ الحقيقة الواقعة أن مقدارا كافيا من العقوبات القانونية أو الظلم الاجتماعى جديرة بأن تحول دون انتشار الحق!..
ثم يقول الفيلسوف:
«ولكن الفضيلة الصادقة التي يتميز بها الحق، هى أنه يمكن إخماده، مرة، ومرتين، ومرّات، غير أنه لا بد- على مدى الدهور- من أن يظهر أناس يعاودون استكشافه المرة بعد الأخرى، حتى يوافق ظهوره فى إحدى المرات ظروفا ملائمة، فيفلت من الاضطهاد، ويجمع من الأنصار ما يمكنه من الثبات» يريد هذا الفيلسوف أن يقول: «إن للحق أصولا مستقرة فى ضمير الإنسانية، وأن هذه الأصول، وإن حجبتها قوى الشرّ والبغي، وغامت على شمسها سحب الضلال والزيغ، فإنّ جوهرها النقىّ لا يناله من ذلك شىء، بل يظل هكذا على نقائه، وصفائه، وكرمه، حتى تجىء الظروف المناسبة، التي تجلّى عن وجه الحقّ ما غشيه من ضباب، وما خيّم عليه من ظلام.. وذلك إما بقوة تنبعث من كيان الحق، كما تنبعث الحرارة من الشمس، فتبدّد السحب والغيوم، وإما بأن تنحلّ قوى الباطل من تلقاء نفسها، فيذبل عوده، وتجفّ أوراقه، كما تموت نبتة السوء، وتصبح هشيما تذروه الرياح.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ».
والحق دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلا من رزقهم- سبحانه- الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد، إذ الحق- فى حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وقهر لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان فى حرب متصلة مع نفسه، وما فيها من أهواء ونزعات، حتى إذا أقامها على الحق
96
وصالحها عليه، وأسلم زمامها له- كان عليه أن يواجه الناس، وأن يجاهد فى سبيل الحق الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه ولسانه ويده، جميعا..
ومن هنا كان الصبر قرين الحق فى كلّ دعوة يدعو إليها الإسلام، فى مجال الخير والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان والإنسانية على صراط مستقيم..
ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة، ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هنا عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، وإلّا لو دخلوا المعركة بغير هذه العدة- عدة الصبر- لا يحلّ عزمهم، ولم يكن لهم من سبيل إلى احتمال تبعات هذه الدعوة.. فكان قوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (٣٤- ٣٥: فصلت) - جامعا بين الدعوة إلى الصفح والمغفرة، وبين الصبر، الذي بغيره لا يمكن حمل النفس على هذا المكروه عندها، وهو دفع السيئة بالحسنة..
وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يطلّ عليه من تسلط أهوائه، وساوس شيطانه، يقول الله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» لا يستثنى سبحانه أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ».
هذا، وللحق أصول ثابتة فى الحياة، هى الروح السّارية فى هذا الوجود، وهى الغالبة لكل باطل، حيث يكون له زبد ورغاء عند تشبثه بالحق، وتعلقه بذاتيته، كما تتعلق النباتات الطفيلية بأصول الأشجار الكريمة.. يقول سبحانه وتعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».. ويقول
97
جلّ شأنه: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» (٣٨- ٣٩: الدخان).. فعلى هذا الخالق بالحق قامت السموات والأرض وما فيهما من موجودات.. والحق هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وكفي بالوجود أن ينتسب إلى هذا النسب الكريم، ليهزم كل باطل، ويقضى على كل ضلال.. ومن هنا كان دائما النصر للحق، ولأتباع الحق..
والهزيمة دائما للباطل وأهل الباطل.. «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»..
«لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى» - جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير:
الحسنى للذين استجابوا لربهم.. أي إن للذين استجابوا لربهم، وآمنوا به، واتبعوا سبيله، - العاقبة الحسنى، والجزاء الحسن.. «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ..» فهؤلاء هم الزبد والغثاء، ليس لهم فى الآخرة إلا النار لا يجدون عنها مصرفا، ولو كان لهم ملك ما فى الأرض جميعا، ومثله مضافا إليه، لقدموه فدية من هول هذا العذاب.. وهيهات!..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة كانت مثلا مضروبا للحق والباطل وأنهما كثيرا ما يقع بينهما صراع، وقد يعلو الباطل على الحق فى بعض المواقف، كما يعلو الزبد صفحة الماء المتدافع من مسيل الوادي.. ولكنه لا يلبث أن يذهب هباء، ويبقى ما ينفع الناس.. كذلك الذين استجابوا لله وآمنوا به، والذين لم يستجيبوا له، واتخذوا من دونه شركاء.. فالذين استجابوا لله هم أشبه بالماء.. والذين لم يستجيبوا لله هم هذا الزبد.. وإذا كان ذلك كذلك، كان لكل من الفريقين حسابه، وجزاؤه عند الله.. فكما لا يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الزبد ولا الماء.. كذلك لا يستوى
98
الكافرون والمؤمنون.. أولئك أصحاب النار، وهؤلاء أصحاب الجنة:
«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (٢٠: الحشر).
الآيات: (١٩- ٢٤) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والزبد وما ينفع الناس.. وهى أمور متضادّة، كتضاد الشر والخير، والضلال والهدى.. كذلك الذين نظروا فى آيات الله فعرفوا أنها الحق من الله، وأنها تنزيل من حكيم خبير،
99
والذين عميت أبصارهم عن هذه الآيات، فلم يروا منها شيئا يهديهم إلى الله- هما عالمان متضادان.. هؤلاء مبصرون، وأولئك عمى لا يبصرون! والاستفهام فى الآية الكريمة مراد به التقريع والتسفيه لأهل الشرك والضلال، الذين عميت بصائرهم عن التهدّى إلى الحق، على ضوء ما تلا عليهم الرسول الكريم من آيات الله..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» هو تنويه بالمؤمنين الذين قادتهم عقولهم إلى الحق، فعرفوا الله، وآمنوا به، كما أنه تعريض بالمشركين واتهام لهم بالسّفه، والغفلة، وأنهم ليسوا من أصحاب العقول العاملة المبصرة! قوله تعالى: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» هو صفة لأولى الألباب، أصحاب العقول المبصرة، والبصائر المدركة..
وعهد الله الذي يوفون به، هو كل عهد يقطعونه على أنفسهم لله، أو للنّاس، وقد جعلوا الله كفيلا عليهم فيما أعطوا من عهد.. فالمؤمنون بالله حقّا هم الذين إذا أعطوا مثل هذا العهد من أنفسهم، برّوا به ووفوا، وأبى عليهم إيمانهم، وولاؤهم لله أن يعطوا عهدا باسمه، ثم يغدروا به وينقضوه، فذلك مما لا يتفق مع الولاء لله، والإكبار لذاته، فضلا عن أنه حطّة بالكرامة الإنسانية، وإزراء بقدر الإنسان، وإسقاط لمروءته. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (٩١: النحل) وأما الميثاق الذي لا ينقضونه، فهو الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على أبناء آدم وهم فى عالم الأرواح، كما يقول سبحانه وتعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (١٧٢: الأعراف) وهذا الميثاق الذي أخذه الله على أبناء آدم، هو
100
ما أودع فيهم من فطرة سليمة، من شأنها أن تتهدّى إلى الله، وتعرف طريقها إليه، وتؤمن به، لو أنها تركت وشأنها، دون أن يدخل عليها ما يفسدها، من وساوس الشيطان، وغوايات المغوين، وضلالات المضلّين.
وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسّانه» ثم بعد هذا الميثاق، جاء ميثاق آخر يؤكده، ويذكّر به، وهو دعوة الرسول لهم إلى الإيمان بالله، وأخذه الميثاق عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» (٧: المائدة) فنعمة الله هنا هى الرسول الذي جاءهم بكتاب الله إليهم، والميثاق هو ما أخذه الرسول عليهم عند بيعتهم له على الإيمان، حين قالوا:
«سمعنا وأطعنا» وإلى هذين الميثاقين- ميثاق الله، وميثاق الرسول- يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (٨: الحديد).. ففى هذه الآية ينكر الله سبحانه وتعالى على المتوقفين عن الإيمان، أو المعرضين عنه، هذا الموقف..
إذ ما كان لهم أن يترددوا فى الإيمان بالله، أو يعرضوا عن الإيمان به، ورسول الله يدعوهم إلى الله، ويذكرهم به، ويقدم لهم بين يديه كتابا من عنده.. هذا إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم من قبل وهم فى عالم الأرواح، وهذا الميثاق هو الفطرة المودعة فيهم، وهى وحدها كانت كافية لأن يتعرفوا إلى الله ويؤمنوا به، إن كانت هذه الفطرة قد بقيت سليمة فيهم، مهيأة لقبول الإيمان: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي إن كنتم ما زلتم على فطرتكم التي فطركم الله عليها.
101
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو بيان لصفات أخرى من صفات المؤمنين، بعد أن تأكد إيمانهم بالله، ووفاؤهم بعهوده ومواثيقه.. فقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بأنهم «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» والذي أمر الله- سبحانه- به أن يوصل، هو الإيمان.. فهم بإيمانهم بالله بعد أن أصبحوا فى عالم الأشباح، وصاروا أهلا للتكليف- هم بهذا قد وصلوه بإيمانهم الذي كان منهم وهم فى عالم الأرواح.. وهذا ما أمر الله به أن يوصل، إذ كانت دعوة الرسل إلى الإيمان بالله، دعوة إلى وصل هذا الإيمان، بإيمان الفطرة المستكنّ فيها.
ولهذا ذمّ الله سبحانه الكافرين بأنهم قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فخانوا بهذا، عهد الله، ونقضوا ميثاقه، وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٦- ٢٧ البقرة).. ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»
(٢٥: الرعد) فالكافرون قد نقضوا عهد الله الذي معهم، بعد أن جاءهم رسله ليوثّقوه، ويذكّروا به، وهم بهذا الكفر قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهو أن يصلوا إيمان الفطرة المركوز فيهم، بإيمان الدعوة على يد الرسل.. وهم بهذا الكفر قد أصبحوا أدوات هدم، وإفساد، فى كيان المجتمع الإنسانى. كما يقول سبحانه:
102
«وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ».
- وقوله تعالى: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» بيان لبعض صفات أخرى للمؤمنين، وهى أنهم يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب يوم القيامة، إذا جاءوا إلى هذا اليوم بما لا يرضى الله من سيئات ومنكرات، ولهذا، فهم يتجنبون السوء، ويجانبون المنكر، خشية لله، وخوفا من سوء الحساب، يوم الحساب! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» هو أيضا بيان للصفات المكملة لتلك الأوصاف التي ينبغى أن تكون للمؤمنين بالله.. إيمانا حقا..
فهم يصبرون ابتغاء وجه ربهم.. يصبرون على ما أصابهم من ضر، وما مسّهم من أذى، وما نزل بهم من مكروه، يرجون بهذا، الجزاء الحسن من الله على رضاهم بالمكروه، وصبرهم على الضر، إذ كان ذلك تسليما منهم بقضاء الله، وإيمانا بحقه سبحانه وتعالى فى ملكه، يفعل ما يشاء، لا معقّب لحكمه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (١٥٥: ١٥٦ البقرة) ففى الصبر على المكاره، تسليم لله سبحانه وتعالى بما قضى به، وطمع فى رحمته ولطفه «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (٨٧: يوسف) وفى هذا يقول الرسول الكريم: «حفّت الجنة بالمكاره» إذ كان فى استقامة الإنسان على طاعة الله، قهر لأهواء النفس، ومغالبة للشهوات..
- وفى قوله تعالى: «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن متوجههم فى احتمال الضر، والصبر على المكروه، إنما هو من أجل الظفر برضا الله عنهم..
103
إذ كان ذلك هو مبتغاهم من احتمال المكاره، والوفاء بالتكاليف الشرعية، من عبادات، ومعاملات وغيرها.. فالمراد بوجه ربهم هنا، هو إقباله- سبحانه وتعالى عليهم- وقبوله لهم..
- وفى قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» - هو عطف خاص على عام، إذ كان الصبر جامعا لجميع التكاليف الشرعية، ومنها إقامة الصلاة، والإنفاق فى السر والعلن، ودفع السيئة بالحسنة.. فهذه كلها مما لا يقوم بالوفاء بها إلا من رزقه الله الصبر والاحتمال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الصلاة: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (١٢٢: طه) وما يشير إليه قوله سبحانه عن درء السيئة بالحسنة: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (٣٤- ٣٥: فصلت)..
فالصبر هو ملاك كل طاعة، وميزان كل إيمان، وعقد كل عقيدة..
ولهذا جاء قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» - جاء جامعا بين الحق والصبر، إذ أنه لا يقوم حق إلا قام من ورائه الصبر.. إذ أنّ أكل حق يترصّد له الباطل، ويزحمه الضلال.. وتجلية الحق، ودفع الباطل عنه، يحتاج إلى مدد عظيم من الصبر والمصابرة..
- قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» الإشارة هنا ترجع إلى أولى الألباب، الذين عرفوا الله وآمنوا به، واتصفوا بتلك الأوصاف الكريمة التي عرضتها الآيات السابقة.. فهؤلاء لهم عقبى الدار.
والعقبى: العاقبة.. وعاقبة كل أمر خاتمته، وغايته..
104
والدار هنا: هى دار الدنيا..
«وعُقْبَى الدَّارِ» أي الخاتمة التي ختمت بها هذه الدار، وهى عمل كل عامل فيها، فمن عمل خيرا كانت عاقبته خيرا، ومن عمل سوءا كانت عاقبته بلاء ونكالا..
ولهذا جاء قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» بإضافة العاقبة لهم، ولم يجعلها عليهم، بمعنى أن هذه العاقبة مما يملكه الإنسان ويحرص على اقتنائه، إذا كان خيرا.. على حين أن العاقبة إذا كانت شرا، نفر منها الإنسان، وحاول أن يفلت منها، ويوليها ظهره، ولكها تحمل عليه حملا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ».
(٢٨٦: البقرة).
قوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» - هو بدل من قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ».. أي أن عقبى الدار هذه هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» حيث تنتهى بالمؤمنين حياتهم الدنيا عند جنات عدن.. «يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» أي أن هذه الجنات التي يجدها المؤمنون عند انقطاع حياتهم الدنيا، هى لهم، مفتحة أبوابها، يدخلونها هم، ومن كان صالحا لدخولها من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وفى هذا أنس لهم جميعا، حيث يجتمع شملهم، ويكمل نعيمهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ «١» مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (٢١: الطور)
(١) ما ألتناهم: أي: ما نقصناهم. [.....]
105
- وفى قوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ.. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ».
بيان لما يدخل على المؤمنين من مسرّات، وهم فى جنات النعيم.. إذ يحيّون فيها من ملائكة الرحمن، تحية ترحيب وتكريم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» وهم لا يدخلون عليهم من باب واحد، بل من أبواب كثيرة.. من يمين وشمال، وأمام، وخلف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (٤٤: الأحزاب) وقوله سبحانه: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً، وَسَلاماً» (٧٥: الفرقان).
- وفى قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» من غير وصله بما قبله، إشارة إلى أن دخول الملائكة عليهم، هو فى ذاته سلام وأمن، وهو تحية حيّة ولو لم ينطقوا بها.. ولهذا لم يجىء اللفظ القرآنى: يقولون «سلام عليكم» بل جاء هكذا:
«سَلامٌ عَلَيْكُمْ»..
وفى قوله تعالى: «بِما صَبَرْتُمْ» إشارة إلى أن الصّبر هو المطية الذّلول التي بلغت بالمؤمنين هذا المنزل الكريم، ونقلتهم من عالم الفناء إلى عالم البقاء والخلود فى جنّات النعيم.. «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» أي فنعم عقبى الدار الدنيا، هذه الدار.. دار الآخرة..
الآيات: (٢٥- ٢٩) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
106
التفسير:
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» - هو بيان للوجه الآخر من وجهى الإنسانية، وهو وجه الكافرين، والمشركين والمنافقين.. الذين نقضوا عهد الله الذي أخذه عليهم الرسول، من بعد الميثاق الذي واثقهم الله عليه، وهم فى عالم الأرواح.. وقد أشرنا إلى شرح هذه الآية من قبل: (الآية ٢١ من هذه السورة).
قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» - مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لما كانت الحياة الدنيا ومتاعها مما يفتن الناس، ويفسد عليهم فطرتهم، ويحجب عنهم وجه الحق، فيضل كثير منهم طريقه إلى الله.. لمّا كان هذا هو شأن الدنيا مع الناس، فقد جاء قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» منبها هؤلاء الضالّين المتكالبين على الدنيا، إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، وأن الأرزاق بيد الله سبحانه- يبسطها لمن يشاء، ويقدرها أي يقبضها، ويمسكها عمن يشاء، وأنّ تخبطهم فى طرق الضلال، وركوبهم مراكب النفاق لا ينفعهم فى شىء، ولا ينيلهم من الدنيا إلا ما قدّره الله لهم..
107
- وفى قوله تعالى: «وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» - هو تشنيع على الضالّين، واستخفاف بهم، وتسفيه لأحلامهم، إذ كان زخرف الحياة الدنيا، وهذا المتاع الزائل الذي وقع لهم منها- هو مبتغى مسعاهم فيها، ومبلغ حظهم منها، فإذا وقع لهم منها شىء طاروا به فرحا، ولو اغتال ذلك إنسانيتهم، وطمس على عقولهم وقلوبهم..
«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» (١٦: البقرة).
- قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» إشارة إلى أن الحياة الدنيا هى مزرعة للآخرة، يتزود فيها الناس ليوم الفصل.. فمن كان زاده التقوى، ربح، وسعد، وفاز بنعيم الجنة ورضوان الله، ومن تزوّد بالذنوب والآثام، فقد خاب، وتعس، وكان لجهنم حطبا.
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ».
هو بيان لتعلّات الكافرين والضالّين، الذين يدعون إلى الإيمان بالله، وتقرع أسماعهم كلمات الله، فلا يصيخون إليها، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم لها، بل يركبون رءوسهم، ويتنادون فيما بينهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟» حتى لكأن هذه الآية التي يقترحونها هى اليد التي تشدّهم إلى الإيمان، وتفتح آذانهم وقلوبهم إلى الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» (١٤٦: الأعراف).
108
- وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ»..
هو ردّ على تعلّات هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا..
إذ أنهم لم يكونوا ممن أرادهم الله سبحانه للإيمان، ودعاهم إليه، لما علم من فساد طبيعتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
(٢٣: الأنفال).. أما أهل الإيمان، فقد دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، ويسّر لهم الإيمان به، إذ كانوا على فطرة قابلة للخير، مستجيبة للحق، متهدّيه إلى الإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول:
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» (١٧: محمد) ويقول سبحانه: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (٧٧: مريم).
قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» - هو بدل من قوله تعالى «مَنْ أَنابَ» يعنى أنه سبحانه يهدى من أناب إليه من عباده، أي رجع إليه، ووجه وجهه إلى رحابه..
وهؤلاء هم المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول واطمأنت قلوبهم بذكر الله..
- وفى قوله تعالى: «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» إشارة إلى أن من علامات أهل الإيمان، أنهم إذا ذكروا الله، أو ذكّروا به، اطمأنت قلوبهم، واشتملت عليهم السكينة، وغشيهم الأمن والسلام..
- وفى قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» توكيد لهذا الخبر الذي تضمنه قوله تعالى «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ..»
وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» هو توكيد لقوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».. حيث أن ذكر الله يقيم الإنسان على الإيمان بالله، ويمسك به فى مجال العمل الصالح، فيحيا
109
حياة طيبة، يجد فيها الأمن والسكينة، فإذا كانت الآخرة، وجد ما عمل من صالحات حاضرا، فيسعد به ويهنأ.
والطوبى: مؤنث أطيب، وهو الحسن الجميل من كل شىء..
والمآب: المرجع، والمراد به يوم القيامة..
[ذكر الله.. واطمئنان القلوب به]
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»..
وذكر الله هو تذكره، فى استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وكل ما له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال.. فإذا ذكر الإنسان ربّه، واستحضر جلاله وعظمته، كان من هذا الذكر فى ظلّ ظليل، من جلال الله وعظمته، وفى حمّى لا ينال من حياطته، ورعايته، وفى عزة تصغر أمامها عزة كل عزيز فى هذه الدنيا، إذ كان معتصمه هو الله القوىّ العزيز! «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (١٠١: آل عمران).
فالذى يذكر الله وهو موقن به، طامع فى رحمته، معتصم بجلاله، محتّم بحماه، لائد بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين- يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له، قال تعالى: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».. وقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ».. وقال جل شأنه «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (١٨٦: البقرة).
وليس ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، هو هذا الذكر الذي تردّده الألسنة ترديدا آليا، دون أن يكون منبعثا من القلب، دافئا بحرارة الإيمان،
110
منطلقا بقوة اليقين- فمثل هذا الذكر لا يعدو أن يكون أصواتا مرددة، أشبه بالجثث الهامدة.. لا روح فيه، ولا معقول له.. ومن هنا تكون آفته، فلا يطمئن به قلب، ولا ينشرح به صدر..
أما الذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.» ثم يؤكده بقوله: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» فهو الذكر الذي ينبعث عن إيمان، فتهتزّ له المشاعر، وتدفأ به الصدور، وتطمئن به القلوب.. ولهذا قدّم سبحانه الإيمان على الذكر.. حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطق بنطق منه، وهو الإيمان.. فإذا ذكر المؤمن بالله ربّه، غرّدت فى نفسه بلابل البهجة، وزغردت فى صدره عرائس الرضا، واستولت عليه حال من الشجا الممزوج بالنشوة، حتى ليكاد يكون كلّه عاطفة ترفّ بجناحي الصبابة والوجد، وتحلّق فى سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر.
ولا يكون الذكر لله ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف بالله، مدرك لما ينبغى له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر الله، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء لله، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (٢: الأنفال).. وقوله سبحانه: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (٣٤- ٣٥ الحج) وقوله جلّ شأنه «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ».. (٢٣: الزمر)
111
فإذا ذكر المؤمن ربه، وقد تلبست به تلك الحال، واستولت عليه هذه المشاعر، قرب من الله، ودنا من مواقع رحمته، وأحسّ برد السكينة يغمر قلبه، ووجد ريح الأمن والطمأنينة تهبّ عليه، معطرة الأنفاس، زاكية الأرواح.
إن الإنسان إذ يذكر حدثا من الأحداث، أو يستحضر صورة شخص من الأشخاص، له به علقة حب أو بعض، فإنه يجد فى كيانه لهذا الذكر، ولذاك الاستحضار ما يهزّ كيانه، ويثير عواطفه، ويهيج أشجانه، أو يبعث مخاوفه..
وإلى هذا المعنى يشير الشاعر العربي فى مدح أحد الخلفاء.. إذ يقول:
خليفة الله إن الجود أودية أحلّك الله منها حيث تجتمع
إن أخلف الغيث لم تخلف مواطره أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
والشاهد هنا فى قوله: «أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع» فهو يريد أن يقول:
إنه إذا نزل به ضيق، أو كربه كرب، وجرى ذكر الخليفة فى خاطره، كان له من هذا سعة من ضيق، وخلاص من كرب، وراحة من عناء وهمّ.
ويروى أن قيس بن الملوح (مجنون ليلى) وهو فى زحمة الحجيج بمنى، سمع إنسانا يهتف بمن اسمها ليلى، بل لعله عرف المجنون، فأراد أن يهيج لواعجه، ويحرك أشجانه، فهتف بهذا الاسم، كأنه يستدعى ابنة أو زوجا له..
وأيّا ما كان، فقد أثار هذا النداء بيا «ليلى» ثائرة المجنون، وحرك بلابل أشجانه، وعرته حال من الصبابة والوجد. كان وصفه لها فى هذين البيتين، تصويرا لبعض ما استطاع أن يمسك به من مشاعره.. يقول المجنون:
112
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيّج أشجان الفؤاد وما يدرى
دعا باسم «ليلى» غيرها فكأنما أهاج «بليلى» طائرا كان فى صدرى!
هذا بعض ما تثير ذكريات الأحداث، وتذكّر الأشخاص، فى مجال الخير والشر، وفى مقام الحبّ والبغض.. فكيف يكون الحال عند من يذكر الله، ويستحضر جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما ينبغى له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال؟
إن الذاكر لله على تلك الصفة يجد نفسه فى حضرة مالك الملك، القائم على هذا الوجود، والمصرّف لكل موجود.. وإذا هو فى هذا المقام ذاهل عن كل ما عدا الله، مستخفّ بكل ما سواه، موقن بأن ما هو فيه من خير أو شر، هو مما قضى الله به، وأنه لا يكشف الضرّ إلا هو سبحانه، ولا يسوق الخير إلا هو جل شأنه، فوعى قوله سبحانه: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (١٧: الأنعام) وأخذ من ثمراتها الطيبة المباركة، زادا طيبا مباركا، فيه الشبع من كل جوع، والرىّ من كلّ ظمأ، والشفاء من كل داء.
فإذا ذكر الإنسان ربّه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، والذي يشهد منه ما يشهد من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ارتفع عن هذا العالم الترابىّ، واستصغر كل شىء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع ليديه من حطام هذه الدنيا.. وهذا هو الاطمئنان الذي يسكن به القلب وتقرّ العين.. حيث لا حزن، ولا جزع، ولا خوف!! «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»..
ذلك أن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقضّ مضاجعهم- هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء
113
لهذا الداء إلا باللّجأ إلى الله، والفزع إليه، وذلك بذكره، وتذكّر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ». وفى التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي «آمنوا» وعن الاطمئنان بفعل المستقبل..
«تطمئن» - فى هذا إشارة إلى أن الإيمان حال لا يتحول عنها المؤمن، وأنه لا بوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا.. على خلاف الاطمئنان، فإنه غير ملازم للمؤمن فى كل حال، وإنما يقع الاطمئنان عند ذكّر الله، وكلما ذكر المؤمن ربه، حين تعرض له عوارض الفلق والجزع.
وهنا، نود أن نشير إلى أن ذكر الله الذي يمنح القلب اطمئنانا وأمنا، يحسن أن يكون منظورا فيه إلى صفة من صفات الله، المناسبة لتلك الحال العارضة، التي أزعجت الطمأنينة عن القلب، وأطارت السكينة والأمن من الجوانح..!
فإذا كان الإنسان فى مواجهة مرض، مثلا.. فى نفسه، أو نفس من يحب. ذكر الله الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر، ورفع هذا السوء! وإذا كان فى يد سلطان جائر، أو عدوّ متسلط قاهر، ذكر الله القوىّ القاهر، الجبار المنتقم.. فأراه ذلك ضآلة هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو..
وهكذا يذكر للذاكر ربّه، فيرى فى وجهه الكريم، الصفة التي يتجلّى بها عليه، فإذا هى السكن لجوارحه، والدواء لدائه، والطمأنينة لقلبه.. وهذا
114
ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (١٨٠: الأعراف) فبالاسم الذي ندعو الله به، يتجلّى به الله- سبحانه- علينا، فنرى فى سنا وجهه الكريم، غيوث رحمته، ومواطر فضله ورضوانه.
ولعله من المناسب أن نذكر هنا قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١٥٢: البقرة) : فالله سبحانه وتعالى لا ينسى، حتى يذكر فيذكر..
بل هو جل شأنه يذكرنا دائما، ذكرناه أو لم نذكره.. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه، هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرا فى قلوبنا وعقولنا.. وأننا إذا لم نذكره، فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحسّ به، ولا ننأثر له.
فإذا ذكر المؤمن ربّه، وجد ربه تجاهه.. وكأنه بتفلّته عن ذكر ربه قد بعد عن الله، فإذا ذكر ربّه، وأشرق عليه بنوره السنىّ البهىّ.. وفى الحديث القدسي: «من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلىّ ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة»..
فذكر الله، وامتلاء القلب بهذا الذكر، يفيض على الذاكر أنوارا من جلال الله وبهائه، وإذا هو فى حمّى عزيز لا ينال، وفى ضمان وثيق من أن يهون أو يذلّ لغير الله الواحد القهار..
وأسمى الذكر وأكمله، هو ذكر العارفين بالله، معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية لله، حيث يشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون، الذي رضى الله عنهم ورضوا عنه.. كما يقول سبحانه وتعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».. فهذا الودّ إنما يناله أولئك الذين يذكرون الله فيذكرهم لله، ويعرفونه فيعرفهم.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
115
رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا»
.. فهذا الذكر المستبصر، هو الذي يضىء الطريق الذي يسلكه الذاكر إلى ربه، فيرى على ضوء هذا النور، قدرة الخالق وجلاله، وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه.
فالذكر- كما قلنا- ليس مجرد كلمات يرددها اللسان، وإنما هو نبضات قلب معمور بالإيمان بالله، وخفقات وجدان ريّان بالرجاء فى الله، والطمع فى فضله وإحسانه، وذلك بعد أن يعرف المرء ربّه، ويعرف ما ينبغى له سبحانه من كمالات..
والرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، هو مكر بالله، وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام الله عباده عليها، فجعل لكل عامل عمله، ولكل غارس ثمرة ما غرس!.
وحسن أن يحسن العبد ظنه بربه، بل وأن يبالغ ما شاء فى هذا الظن، ولكن شريطة أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان بالله، ومستندا على ما يجد العبد من شواهد القرب من ربه.. فهنا يحق له أن يتمنى على ربه، وأن يدلّ دلال المحبوب مع محبوبه.. وفى الحديث الشريف: «ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه».. وفى الخبر الثابت أن البراء بن مالك (وهو أخو أنس بن مالك) كان ممن يقسم على الله فيبرّ الله قسمه، وكان المسلمون إذا اشتدت عليهم الحرب فى قتال المشركين، يقولون: يا براء.. أقسم على ربك فيقسم على ربه فينتصرون!.
والدعاء، هو من ذكر الله.. حيث يوجّه الداعي وجهه إلى الله، طالبا اللجأ إليه، والمدد من إحسانه وفضله.. يقول ابن قيم الجوزية فى تفسيره المسمى:
«التفسير القيم» : إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه، والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو- أي الدعاء- ذكر وزيادة كما أن الذكر سمىّ دعاء
116
لتضمنه الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء: الحمد لله» فسمّى الحمد دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب!.
ثم يقول ابن القيم:
«وتأمل كيف قال «تعالى» فى آية الذكر: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً» وفى آية الدعاء: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن، والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء..
وخص الذكر بالخفية لحاجة الذكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بدّ، فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها، بل تضره، لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله ومحبته له، وتأليهه له.. فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل! «فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحبة عن قشرها..
«وسبب هذا، عدم اقتران الخوف من الله، بحبه وإرادته (أي كونه مريدا له).
ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله بالحب وحده، فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده، فهو حرورى «١»
ومن عبده بالرجاء وحده، فهو مرجىء «٢»،
(١) الحروري: نسبة إلى فرقة من فرق الخوارج، تعرف بالحرورية، الذين يقولون بالقدرة المطلقة للعبد.
(٢) المرجئة: من الفرق الخارجة على الملة الإسلامية، وهى التي تتعلق بالرجاء من غير عمل.
117
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن».. وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة فى قوله سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ» فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه.. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف!..
وبعد فإن ذكر الله بالقلب واللسان، هو خير زاد يتزود به الإنسان فى رحلة الحياة، وخير رفيق يؤنسه فى طريقه الموحش، حيث يجد فى جوار الله الأنس، حين يستوحش الناس، ويجد الشبع والرىّ إذا أجدب الناس، وكلب الزمان.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى».
الآيات: (٣٠- ٣٤) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
118
التفسير:
قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ..».
خلت: أي مضت، وتركت ما كانت تشغله خاليا منها..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» - تنويه بقدر النبىّ، وبشأن رسالته التي أرسل بها.. وأنها وإن تكن مسبوقة برسالات النبيين من قبله- فإنها ذات صفة خاصة، وشأن فريد، اختصت به، حتى لقد أصبحت بهذه الخصوصية، بحيث لا تشبه بالرسالات التي سبقتها، وأنه إذا أريد تشبيهها فلا مشبه لها إلا ما كان مثلها.. وإذا لم يكن هناك ما هو مثلها، شبهت بنفسها هى، «كذلك أرسلناك» أي مثل إرسالك هذا الذي لا شبيه له، أرسلناك.. «فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» أي أرسلناك فى أمة قد مضت من قبلها أمم، وقد جرت على هذه الأمم سنة الله فى خلقه، فكان فى الماضي منها عبرة وعظة لمن يخلقها ويجىء بعدها..
وفى تعدية الفعل «أرسلناك» بحرف الجر «فى» بدل الحرف «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل دائما- إشارة إلى أن النبىّ هو من صميم هذه الأمة حتى لكأنها أشبه بالظرف الذي يحتويه زمانا، ومكانا، ومجتمعا..
فهو ليس طارئا على هذه الأمة، مستدعى إليها من خارج ذاتها.. وإنما هو فى الصميم منها..
119
- وفى قوله تعالى: «لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» إشارة إلى مهمة الرسول، وأنها مهمة تبليغية، يتلو على هذه الأمة ما أوحى إليه من كتاب ربّه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (٢٩: الكهف).
- وفى قوله تعالى: «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» تشنيع على المشركين، وتهديد لهم، وتسفيه لجهلهم العنيد.. إذ كانوا كلما تلا النبىّ كلمات ربّه ازدادوا كفرا.. هكذا حالا بعد حال..
فجملة «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير فى «عليهم» أي أنت تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن.. هذا شأنك، وذلك شأنهم.! فما أبعد الفرق بينك وبينهم.. أنت تسمعهم كلمات الله، وهم يسمعونك السّفه والضلال.. وأنت تمدّ لهم يدك بالبرّ والإحسان، وهم يرجمونك بالأحجار والحصى! وفى ذكر الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم «الرحمن» دون أسمائه الكريمة الأخرى، ما يشير إلى شناعة جرم هؤلاء المشركين، الذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا، وضلالا، وأنهم إنما يكفرون «بالرحمن» الذي بعث فيهم رسولا منهم، يحمل بين يديه الدواء الذي يكشف عن قلوبهم ماران عليها من ضلال، ويرفع عن أبصارهم ما غشيها من ظلام..
أفذلك هو ما تستقبل به رحمة الرحمن؟ وأ هذا ما يجزى به المنعم على ما أنعم به من رحمة وهدى؟ ذلك جحود لئيم، وكفران سفيه..!
ومع هذا، فإن الرحمن الرحيم لم يعجّل لهم العذاب، ولم يقبض يده الرحيمة عنهم، بل لقد أمهلهم، ويده الكريمة بالرحمة مبسوطة لهم، ورسوله الكريم قائم فيهم، يتلو عليهم آيات ربّه، ويفتح لهم منها أبوابا واسعة من رحمة الله..
120
فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دين الله، حتى يموتوا على الكفر، فذلك من شؤمهم، ونكد حظهم.
قوله تعالى: «قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ».
.. هذا هو موقف النبىّ، بعد أن يبلّغ رسالة ربّه.. فليكفر من يكفر.. أما هو فمؤمن بربّه، الذي لا إله إلا هو، وهو متوكل عليه، لا يلتفت إلى غيره، ولا يطمع فى ثواب إلا منه.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..»
هو توكيد لهذا الكفر الذي انطبع فى قلوب أولئك الكافرين، الذين كلما تليت عليهم آيات «الرحمن» لجّ بهم العناد، والضلال.. فلم يزدادوا إلا كفرا على كفر، وضلالا إلى ضلال..
فلو نزل عليهم قرآن، تخرج منه آيات مادية محسوسة، من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فتسيّر بهذا القرآن الجبال، أو تقطع به الأرض، أو تتفجر به العيون، أو يبعث به الموتى من القبور، وينادون فيجيبون- لو نزل عليهم قرآن يرون منه رأى العين هذه الآيات، لما آمنوا، ولما أخذوا موقفا غير هذا الموقف المنحرف الضلال الذي هم فيه..
والسؤال هنا: لماذا حذف جواب «لو» فى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ... » ؟
والجواب- والله أعلم- هو أنه لما كان ضلال هؤلاء المشركين وعنادهم قد بلغ الغاية فى هذا الباب، بحيث تنطق شواهده، وتشهد وقائعه، بأن القوم ليسوا طلّاب حقيقة، وإنما هم أصحاب مماحكات وجدل- لمّا كان هذا هو شأن القوم
121
وتلك هى حالهم، فقد ترك جواب «لو» الشرطية لدلالة الحال عليه، وللإشارة إلى أن الجواب محمول مع الشرط، وأنه جواب واحد لا سبيل إلى غيره، وهو أن هؤلاء المشركين بالذات، لن يؤمنوا أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» (١٤٦: الأعراف) وكما يقول سبحانه فيهم أيضا «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ». (٩٦- ٩٧: يونس) والتعبير بصيغة الماضي عن هذا القرآن الذي تسير به الجبال، أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، وهذا ما يشير بأن هذه الآيات لو وقعت فعلا أمامهم لم يؤمنوا بها..
ومما يشهد لهذا الرأى الذي ذهبنا إليه فى تأويل هذه الآية هو الأخبار وقد تأول المفسرون لهذه الآية كثيرا من وجوه التأويل، لم نجد فيها ما نطمئن إليه.
قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» - هو إجابة عن سؤال يرد على الخاطر بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» وما يفهم من هذا، من أن هؤلاء المشركين لن يؤمنوا بالله أبدا.. والسؤال هو: لماذا لا يؤمن هؤلاء المشركون، بهذه الآيات التي يؤمن بها الناس؟ وماذا يحجزهم عن الإيمان، ويقيمهم على الشرك والضلال؟
وكان الجواب هو قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» أي أن الأمر كلّه لله، لا يسأل عما يفعل، وهو- سبحانه- إذ حجز هؤلاء المشركين عن الهدى، وختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلم يروا آيات الله الكونية، ولم يسمعوا آيات الله المنزلة على نبيّه، ولم يتحوّلوا عن طريق الشرك
122
والكفر- فذلك مشيئته فيهم.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وليس لمخلوق أن يعترض على ما أراد الخالق به! «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ»..
قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟».
اليأس: هو القنوط، وفقدان الرجاء.
والاستفهام هنا تقريرى، يراد به أخذ اعتراف المؤمنين باليأس من إيمان هؤلاء المشركين، وقطع الرجاء فى أن يكونوا يوما من المؤمنين.. وأنه إذا كان عند المؤمنين بقيّة من أمل فى إيمان هؤلاء الذين اتخذوا آيات الله هزوا وسخرية، والذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا على كفر، ورجسا على رجس- إذا كان عند المؤمنين بقية من أمل فى إيمان مثل هؤلاء، فليقطعوا حبل الرّجاء، وليكونوا على يأس من أن يؤمنوا.. وأنّه إذا سأل سائل منهم: لماذا لا يرجى من هؤلاء المشركين إيمان، ورسول الله فيهم، وآيات الله تتلى عليهم؟
فهذا جواب ما سألوا عنه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» وهؤلاء المشركون لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من الشرك! فإذا بقي بعد هذا من يسأل: «ولماذا لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم هم بالذات.. وقد طهّر قلوب كثير من إخوانهم الذين كانوا مشركين مثلهم فآمنوا واهتدوا؟» كان فى قوله تعالى: «أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً»، الجواب الذي لا تعقيب عليه.. فتلك هى مشيئة الله فى عباده..
«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (٧: الشورى).. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن).. وهؤلاء المشركون هم ممن حقت عليهم كلمة الله.. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟» (١٩: الزمر).
ونقرأ الآية الكريمة بعد هذا.
«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..
123
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.. أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً»
..
وننظر فيها على هذا الفهم الذي فهمناها عليه، فنجد بيانا معجزا، ونظما متفردا بالجلال والروعة، والإعجاز، وإن بدأ فى النظرة الأولى أنه غير جار على مألوف النظم، الذي تتشابك أطرافه، وتتماسك مقاطعه.. حتى لقد ذهب المفسّرون فى هذا مذاهب كثيرة، كلها ليس فيها ما تقع صدى أو يشفى غليلا.. وكان أهداهم سبيلا من تأول قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ» بمعنى أفلم يعلم، وجاء بشاهد من الشعر يشهد لهذا المعنى.. وهو تأويل فاسد متهافت.. وقد استعمل القرآن فعل اليأس هذا فى مواضع كثيرة من القرآن، فلم يكن فى موضع منها ما يشهد لهذا المعنى! وكان من أشنع المقولات التي قيلت هنا، هى قول من قال: إن ييئس بمعنى يتبيّن، وأن كاتب المصحف قد خلط فسوّى رءوس السّينات فى «يتبيّن» فقرئت «ييئس» !! وهذا قول ساقط، لا يستحق أن نلتفت إليه، أو نلقى إليه بالا.. فإن القرآن الكريم لم يودع فى المصاحف إلا بعد أن أودع فى صدور الكرام الحافظين من الصحابة والتابعين.. فكان المحفوظ فى الصدور مهيمنا على ما كتب الكاتبون من كلام الله! والعجب أن يقال مثل هذا القول الشنيع فى تفسير من التفاسير المعتمدة، ولو على سبيل النقل والحكاية.. فإن فى ذلك طعنا فى صحة القرآن الكريم، ومدخلا للشك فى حفظه من التحريف.. الأمر الذي لا يطلب أعداء هذا الذين سلاحا أمضى من هذا السلاح، لطعنه طعنة فى الصميم..!!
124
إن مثل هذا القول هراء، لا يصح أن يقف أحد عنده، أو ينظر إليه مجرد نظر عابر.
وتسأل: ماذا حمل المفسرين على هذا؟ ولا جواب، إلا النية الحسنة!! فهؤلاء المفسرون هم أحرص الناس على كتاب الله، وعلى توقيره، والذود عنه، وكشف مواقع الخير والهدى للناس منه..
ولكن عن نية حسنة أرادوا الدفاع عن النظم القرآنى، وإقامته على قواعد النحو التي استخلصوها من أساليب اللغة.. فكان منهم مثل هذه الزلات.. وفاتهم أن القرآن الكريم، وإن جرى على مألوف العرب فى شعرهم ونثرهم، هو- قبل هذا- أسلوب فريد، تفرد بالكمال كله، واحتوى الحسن جميعه، وإلا لما أعجز العرب، وأفحمهم، وقطع نوازع الرغبة عندهم، فى أن يعارضوه، ولو بسورة من مثله! ولا ندع الآية الكريمة، دون أن نعيد النظر إليها مرة أخرى، لنبحث عن السر فى هذا النظم الفريد الذي جاءت عليه، حتى أنه لم يكن بين مقاطعها ترابط بحرف من حروف العطف! فما سرّ هذا؟
ونقول- والله أعلم-: إن الآية الكريمة فى هذه المقاطع القليلة، قد عرضت أكثر من موقف، ولأكثر من جماعة..
فأولا: المشركون، وعنادهم، وضلالهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كل آية كانوا يقترحونها على النبي.
«وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..»
فهذه جبهة المشركين.. وتلك حالهم، وهذا حكم الله فيهم.. لن يؤمنوا أبدا،
125
ولو جاءهم قرآن يتلى عليهم، فتطل منه هذه الآيات الكونية المجسمة، يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ». (٧: الأنعام) وثانيا: الذين يعجبون لهذا الحكم الذي حكم به على المشركين.. سواء أكانوا من المؤمنين أو من المشركين.. وهؤلاء وأولئك جميعا، يلقاهم قول الحق سبحانه وتعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً».. فلتخرس الألسنة، ولتخضع الرقاب! وثالثا: المؤمنون الذين كانوا لا يزالون على طمع فى أن يلحق بهم آباؤهم أو أبناؤهم، أو أزواجهم، أو إخوانهم، من هؤلاء المشركين- هؤلاء المؤمنون مطلوب منهم أن يريحوا أنفسهم باليأس من إيمان هؤلاء الذين يطمعون فى إيمانهم، وأن يستمعوا لقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟»..
ورابعا: هذا اليأس الذي وقع فى نفوس كثير من المؤمنين الذين كانوا يطمعون فى أن يلحق بهم أهلوهم وإخوانهم، وأن يخرجوا من ظلام الكفر إلى الهدى والإيمان- هذا اليأس قد ترك مرارة وأسى فى نفوس المؤمنين، فكان قوله تعالى:
«أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» - كان ذلك عزاء لهم، إذ كانت تلك إرادة الله فيهم.. كما يقول سبحانه للنبى الكريم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص) وكما يقول له سبحانه:
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (١٠٣: يوسف) وكما يقول له سبحانه أيضا: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (٣٧: النحل).
126
وهكذا أشرفت كلمات الله من عل على الناس جميعا.. مؤمنين، ومشركين، وخاطبت كل فريق منهم الخطاب الملائم له.. وكان من مقتضى الحكمة ألا تجمع بينهما فى هذا الموقف جامعة، الأمر الذي أوجب عزل مقاطع الآية بعضها عن بعض، فلم يقم بينهما حرف عطف، إذ كان داعية الحال تقضى بأن ينزع المؤمنون من قلوبهم كل عاطفة تعطفهم على المشركين من أهليهم وذوى قرابتهم، وأن يستريحوا إلى اليأس من إيمانهم، غير آسفين على هذا المصير الذي هم صائرون إليه.. إذا أن الأمر كله لله.. وأن لو شاء الله لهدى الناس جميعا.!
أفرأيت إذن كيف كان هذا الإعجاز فى النظم؟ وكيف جاءت مقاطع الآية على هذا الوجه الذي جعل كل مقطع منها يكاد يعطى ظهره لصاحبه؟ وهل فى غير كلام الله- سبحانه وتعالى- يجىء مثل هذا النظم الذي يجعل من الكلمات شخوصا ماثلة، مائجة بالعواطف الجياشة، الملتحمة فى هذا الصراع..
من داخل ذاتها، ومن خارجها على السواء؟
فسبحان من هذا كلامه.. «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ»..!
قوله تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» - هو إرهاص بما سيلقى هؤلاء المشركون والكافرون، من بلاء فى هذه الدنيا على يد المؤمنين.
وإنه كما يئس المؤمنون من إيمان أهليهم وإخوانهم، وصبروا على تلك المصيبة فيهم، كذلك ينبغى عليهم أن يوطنوا أنفسهم على ألا يحزنوا، ولا يأسوا على ما سيحل بهؤلاء المشركين من بلاء، وما يصيبهم من قوارع، أي كوارث ونوازل، ذلك أنهم قد استوجبوا بكفرهم، هذا الخزي والبلاء فى الدنيا،
127
على يد المؤمنين، الذين سينصرهم الله عليهم، ويمكّن لهم من ديارهم وأموالهم..
- وفى قوله تعالى: «تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» إشارة إلى أن ما سيحل بالكافرين من خزى فى هذه الدنيا، هو مما كسبته أيديهم، ومما جرّه عليهم كفرهم وضلالهم..
والقوارع التي أصابت هؤلاء الكافرين كثيرة.. منها ما أصابهم به المسلمون فى غزوة بدر، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من خزى فى غزوة الأحزاب، حيث يقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (٢٥: الأحزاب)..
ثم ما كان فى فتح مكة، حيث وقف رسول الله ﷺ مشرفا على عتاة قريش وجبابرتها، وقد خشعوا بين يديه، وضرعوا له فى ذلة واستكانة، فقال:
«ما تظنون أنّى فاعل بكم» ؟ فقالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم!» فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!!».
- وقوله تعالى: «حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ»..
إشارة إلى أن هذه القوارع التي تحل بالكافرين لا ترتفع عنهم أبدا، ما داموا فى هذه الحياة الدنيا، وما داموا فى لباس الكفر، وذلك إلى أن يأتى وعد لله وهو فتح مكة الذي وعد الله سبحانه وتعالى، النبىّ والمؤمنين به فى قوله تعالى:
«لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ» (٢٧: الفتح).. «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ».. فقد صدق الله وعده ونصر عبده.
وفتح له البلد الحرام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا..
128
قوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» - هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة كريمة له.
لما كان يصيبه من أذى، يلقى به إليه قومه، بلا مبالاة وبغير حساب.. فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول من دعا إلى الخير فلقى الأذى، ومدّ يده بالهدى، فردّ السفهاء يده.. فلقد سبقه إلى ذلك كثيرون من رسل الله، مستهم من أقوامهم البأساء والضرّاء.. ولكن الله سبحانه أملى لهؤلاء السفهاء، أي أمهلهم، وأفسح لهم فى الحياة وزينتها، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.. كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (٤٠: العنكبوت).
- وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ».. وعيد لهؤلاء المشركين من قريش، وإلفات لهم إلى ما أخذ الله به الظالمين قبلهم: وإنه لعقاب أليم..
وبلاء محيط، يهلك الحرث والنسل..
قوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ..» الاستفهام هنا إنكارى.. والهمزة بمعنى أىّ.. والتقدير: أىّ أحق بالعبادة، من هو قائم على كل نفس بما كسبت، فيعلم سرها وجهرها، ويجزيها على ما تعمل من خير أو شر، أم تلك الآلهة التي ولدتها الأوهام والضلالات؟.
وقد حذف المعادل لهمزة التسوية استخفافا به، وهوانا له، وتنزيها لله سبحانه أن يقارن به شىء من خلقه، أو من ضلالات خلقه. ولهذا جاء النظم القرآنى عارضا قدرة الله، وأنه القاهر فوق عباده، القائم على كل نفس بما كسبت.. ضاربا عن ذكر الآلهة التي افتراها المفترون، وعبدها المشركون الضالون..
129
وقوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» هو البديل من المقابل لقوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» فبدلا من أن يجىء النظم القرآنى هكذا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أم تلك الأصنام الصماء الخرساء التي تعبدونها؟ - جاء قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» بدلا من هذا المقابل، الذي يعرض تلك الآلهة فى ميزان واحد مع الله سبحانه وتعالى.. وكان قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» مشيرا إلى هذا المقابل من طرف خفى، وعارضا له فى معرض الزراية والاستخفاف، كاشفا عن وجه هذه المعبودات التي يعبدونها، وأنها من صنع أيديهم، أو من مواليد أوهامهم وضلالات عقولهم..
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ!!» فهى مجهولة، أي مصنوعة، أو مختلقة.. «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» (٢٣: النجم).
وقوله تعالى:
«قُلْ سَمُّوهُمْ» هو تحد لهؤلاء المشركين أن يكشفوا عن وجه هذا الخزي الذي فى أيديهم، وأن يضعوا لهذه المواليد أسماء تعرف بها! فكما استولدوا هذه الآلهة من ضلالاتهم، كان عليهم أن يضعوا لكل مولود اسما!!..
وفى مطالبتهم بتسمية آلهتهم تلك، إشارة إلى أنها أشياء غير معقولة، وغير متصوّرة، وأنها لا يمكن أن تكون لها أسماء دالة عليها.. إنها أوهام وخرافات وضلالات، فإذا أطلقت عليها أسماء، فهى إشارات عمياء، ليس بينها وبين مسمياتها صلة، من قريب أو من بعيد..
فالاسم عادة صفة من صفات المسمى، ودلالة من دلالاته.. فمن أسماء
130
الله سبحانه وتعالى.. الرحمن.. الرحيم.. الخالق.. البارئ.. المصور..
السميع.. البصير.. الرازق.. القوى. العزيز.. إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى..
ومن أسماء تلك الآلهة: هبل، وودّ، وسواع، ويغوث، ونسر.. وهى جميعها لا يراد منها إلا التفرقة بين هذه الدّمى المنصوبة، ليعرف بعضها من بعض كما كانوا يفعلون ذلك فى تسمية بعض حيواناتهم، وأدواتهم..
فمطالبتهم بذكر أسماء آلهتهم تلك، هو اختبار عملىّ لهم، يضع بين أيديهم ما تكشف عنه هذه الأسماء من مسميات، هزبلة تافهة، لا يرجى منها خير، ولا يحشى منها ضر.
قوله تعالى: «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.. أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ؟».
هو إشارة إلى أن هذه الأسماء التي أطلقوها على آلهتهم، والتي وجدوا فى أنفسهم الجرأة على النطق بها، وهى مما لا وجود لمسمياتها- إذ أن تلك الأسماء التي أطلقوها عليها، لا صلة بينها وبين تلك المسميات، وإنما هى- كما قلنا- إشارات عمياء، أرادوا بها أن تكون مجرد رمز، أو إشارة، يميزون بها بعضها من بعض، كالأطواق والقلائد التي كانوا يميزون بها أغنامهم وكلابهم! ونفى علم الله عن هذه المعبودات، هو نفى لعلمه بها على تلك الصفة التي جعلوها لها.. وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى على حقيقتها التي هى لها..
- وفى قوله تعالى: «فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أن هذه الآلهة التي أطلقوا عليها تلك الأسماء، هى من العالم الأرضى.. من أحجاره، أو حيواناته.
- وفى قوله تعالى: «أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» إشارة أخرى إلى أن هذه الأسماء
131
التي أطلقوها على آلهتهم، هى كلمات، لا معنى لها.. وإنما هى أصوات، تبدو فى ظاهرها كأنها كلام، أما باطنها فأجوف لا شىء فيه! قوله تعالى: «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ»..
هو الحكم المناسب لما كشف عنه الحال من هؤلاء المشركين، وما اتخذوا من دون الله من آلهة، وما جعلوا لتلك الآلهة من أسماء.. «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ».. أي حلا فى أعينهم هذا المكر، وحسن فى عقولهم هذا الضلال، الذي صنعوه بأيديهم، وغذّوه بأوهامهم وخيالاتهم، فكان مكرا سيئا.. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فأضلّهم الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يهديه، ويرفع عن عينيه غشاوة الضلال..
- وفى قوله تعالى: «وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن قوة خارجة عنهم هى التي صدّتهم عن سبيل الله، وحالت بينهم وبين الهدى. وتلك القوة وإن كانت خارجة عنهم إلّا أنهم قد استدعوها بضلالهم وعنادهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (٥: الصف).
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أخلى بينهم وبين أهوائهم، ليضلّوا، فضلّوا..
قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ».
هذا هو جزاء المكذبين الضالّين، الذين حادّوا الله ورسوله.. «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
بما ينالهم على يد المؤمنين من هزيمة، وبما تغلى به قلوبهم أبدا من حسرة وكمد.. فالكافر همّه كله فى هذه الدنيا، وحياته كلّه محصورة فى الأيام المعدودة التي يعيشها فيها.. فهو من أجل هذا، حريص أشد الحرص
132
على كل ما فى دنياه هذه، فإذا فاته شىء منها- وما أكثر ما يفوته- استبدّ به الجزع، واستولى عليه اليأس، وملكه الحزن.. وإن أصيب بموت قريب أو حبيب- وما أكثر ما يصاب- لم يجد شيئا من ذلك العزاء، الذي يجده المؤمنون الذين يفوضون أمرهم لله، ويسلمون مصيرهم إليه، ويرجون العاقبة عنده، ويحتسبون الصبر لديه..! وهكذا الكافر فى قلق دائم، وجزع متصل، إذ لا حياة له وراء هذه الحياة، حسب تقديره وتفكيره.. فحيثما التفت، وجد العدم باسطا يديه لاحتوائه، والفناء فاغرا فاه لابتلاعه..!
- «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ»
.. وهذا عذاب لا يتوقعه الكافر، ولا يعمل حسابا له، وإنما هو عذاب يجيئه على غير انتظار، ويطلع عليه من حيث لا يحتسب..
- «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
أي ليس هناك من يدفع عنهم هذا العذاب، أو يخفف عنهم من شدته وهوله..
الآيات: (٣٥- ٤٣) [سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٥ الى ٤٣]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
133
التفسير:
قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..»
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّه وقد ذكر مصير المشركين فى الآية السابقة عليها، فى قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
- كان من المناسب أن يذكر فى مقابل هذا المصير المشئوم، المصير الحسن الطيّب، الذي أعدّه الله للمؤمنين المتقين من عباده، ليكون فى ذلك إثارة لأشواق المؤمنين، وتعجيل بتلك البشريات المسعدة لهم، فى حين أنه يملأ قلوب المشركين حسرة وألما، ويقطع أكبادهم كمدا وحسدا..
ومثل الشيء ما يماثله، ويشبهه، فى بعض الوجوه، لا فى كل وجه.. كما نقول مثلا: القط مثل النمر.. وهذه الفتاة مثل القمر، وهذا الطفل مثل الزهرة..
فهناك وجه شبه يجمع بين المشبّه والمشبّه به، وصفة مشتركة بينهما يلتقيان عندها.. والمثل يجمع أكثر من صورة من صور التشبيه، فهو تشبيه مركّب.
134
- وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ».. إشارة إلى أن هذا العرض ليس للجنة، فى ذاتها، وإنّما هو عرض لجنّة تشبهها.. إذ أن الجنّة التي أعدها الله للمؤمنين المتقين من عباده، لا يمكن وصفها لنا، إذ لا شىء مما فى دنيانا هذه، يشبه أشياءها.. كما ورد فى الأثر: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».. فاشباه الجنة غير واقعة فى فهمنا أو تصورنا، ومن ثمّ لم يكن للكلمات التي نتعامل بها مجال، لتصوير ما لا نفهمه ولا نتصوره..
فكان الحديث عنها بعرض صورة تشبهها، هو أقرب شىء ممكن أن نتمثل فيه صورة لها..
- وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ».. مبتدأ، وخبره محذوف، موصوف، بقوله تعالى: «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ».. أي هى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. والتقدير على هذا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» مثل جنّد «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها».. فهذه الجنة التي تشبه جنة الآخرة موصوفة بصفتين.. تجرى من تحتها الأنهار.. وأكلها دائم وظلّها.. أي ثمارها دائمة لا تنقطع أبدا، كما تنقطع ثمار الدنيا، وظلّها دائم، أي مورقة مخضرة دائما، لا تتغيّر كما تتغير أشجار الدنيا على مدار الفصول..
وقوله تعالى: «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» تأكيد للوعد لذى وعده الله المتقين بهذه الجنة فى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» فهى لهم وحدهم، على حين أن للكافرين النار.. فكل ينزل الدار التي هو أهل لها..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ».
135
الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى..
والسؤال هنا: كيف كان يفرح أهل الكتاب بما أنزل على النبي؟
وإذا كانوا على تلك الصفة فلماذا لا يؤمنون به، ولا يستجيبون له؟ بل لماذا كانوا حربا عليه، وحزبا مع المشركين على الكيد له؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أن هذا كان فى أول الدعوة الإسلامية، وكان أهل الكتاب يرصدون مطلع النبىّ، وينتظرون ظهوره.. فلما ظهر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توقعوا أن يكون مبعوثا إليهم، وإن كان من العرب، وانتظروا فى تلهف ما ينزل عليه من آيات.. وإذ كان ينزل على النبىّ من آيات الله- فى أول الدعوة- هو دعوة إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة الأصنام- فإن أهل الكتاب، لم يروا فى هذا ما يضيرهم، أو يعارض الدين الذي هم عليه.. فكانوا لذلك يستبشرون بما ينزل على النبىّ فى تلك المرحلة من الدعوة، فلما أن دكّ الإسلام حصون الشرك، وهدم معاقله، والتفت إلى أهل الكتاب، وخاصة اليهود، كان منهم هذا الموقف اللئيم المخادع الذي وقفوه من النبىّ الكريم، ورسالته..
وثانيا: أن فى القرآن الكريم ذكرا لليهود والنصارى.. وهذا الذكر منه ما هو فى مقام المدح لهم، ومنه ما هو فى مقام الذمّ لمخازيهم، والفضح لنفاقهم..
فاليهود مثلا، كانوا يسمعون ما نزل على النبىّ مثل قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» (٩٤: يونس) وقوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
136
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ»
(٤٧: البقرة) كما كانوا يسمعون ما نزل من القرآن فيما كان بين موسى وفرعون، ونجاتهم على يد موسى، وغرق فرعون وجنوده، وكان هذا مما يسرّهم، وينعش نفوسهم.. فيتلّقون ما نزل من القرآن فى مثل هذا، بالقبول والرضا.. فإذا نزل من القرآن ما يفضح الجوانب الخبيثة فيهم، ويكشف عن وجوه الشر المنطوية عليه صدورهم، مثل قوله تعالى فيهم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» ١٣: المائدة).. وقوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (٥١- ٥٢: النساء) - إذا سمعوا مثل هذا من كلام الله، ساءهم وأفزعهم، فأنكروه، وأنكروا على الرسول رسالته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ».. فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزبا على النبي مع مشركى قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب، فهم لا ينكرون كل ما جاء فى القرآن، وإنما ينكرون منه ما فضح نفاقهم، وكشف تحريفهم لكتاب الله الذي فى أيديهم..
وكذلك كان شأن النصارى.. يفرحون بالآيات التي تحدث عنهم حديثا فيه ذكر طيب لهم، كقوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (٨٢: المائدة)..
وكقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» (٣٣: آل عمران) ومثل ما قصّ القرآن من سيرة مريم.. فكل هذا مما يرضاه النصارى من القرآن، ويمسكون به منه، أما ما جاء فى القرآن من
137
حديث عن عيسى عليه السلام، وأنه عبد من عباد الله، وليس ابنا لله، ولا إلها مع الله، وأن من يعبده على هذا المفهوم الخاطئ، كان كافرا بالله- ساءهم ذلك وأنكروه..
وثالثا: ليس كل اليهود والنصارى وقف من الرسول الكريم، ومن كتاب الله الذي بين يديه، موقف الكفر به والتكذيب له، بل كثير منهم كان على انتظار لظهور هذا النبىّ، تحقيقا للبشريات التي بشرت بها عنه التوراة والإنجيل.. فلما جاء النبىّ لم ينكروه، بل تهيأت نفوسهم لاستقباله، واختبار ما عنده من كلمات الله.. فكانت كلما نزلت آيات من القرآن الكريم كشفت لهم دلائل جديدة تزيد من إيمانهم بالرسول، ومن تيقّنهم بصدقه..
فيفرحون لذلك ويستبشرون..
- قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ»..
هو ردّ على موقف أهل الكتاب الذين ينكرون بعض ما أنزل على النبي، وإنكار لموقفهم هذا من رسول الله، وكتاب الله..
فماذا ينكر أهل الكتاب من رسول الله ومن الكتاب الذي معه؟
إنه يعبد الله.. إلها واحدا لا شريك له..
وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه الدعوة يدعو عباد الله، إلى الإيمان بالله.. إلها واحدا لا شريك له..
فماذا فى هذا الكتاب الذي بين يدى الرسول، والذي هو دستور دعوته- ماذا فيه مما يخرج عن هذه الدعوة حتى ينكره المنكرون، ويكفر به الكافرون؟
أليس أهل الكتاب مؤمنين بما فى كتبهم؟ أو ليست كتبهم من عند الله
138
إله واحد؟ إن كان ذلك كذلك- فلماذا ينكرون على النبىّ دعوته، وهو إنما يدعو إلى الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟
«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (٦٤: آل عمران).
- وفى قوله تعالى: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» أسلوب قصر، يراد به أن الرسول لا يدعو إلا إلى الله وحده، وأنه إذا كان لأهل الكتاب دعوة إلى إله غير الله، فلا شأن له بهم، أمّا هو فإن دعوته إلى إله واحد.. لا شريك له.. وأن مآبه ومرجعه إليه.. فإذا كان فى أهل الكتاب من يرى له مرجعا إلى غير الله، فذلك رأيه، وعليه تبعته.. أما الرسول فإنه لا مرجع له إلا إلى الله..
قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ»..
أي كهذا الذي أنت عليه أيها النبىّ، وهو التزامك بالعبوديّة لله وحده، ودعوتك الخالصة له، وإيمانك بمرجعك إليه- كهذا الذي أنت عليه جاء الكتاب الذي أنزل عليك.. فالزمه، واستقم عليه، ولا تلتفت إلى ما جاء فى غيره من الكتب السابقة إن لم يكن مطابقا له، فهو الذي أنزله الله عليك حكما عربيا.. أي حاكما بأسلوبه العربي الذي نزل به، على الكتب السماوية السابقة، ومهيمنا عليها..
فالحكم هنا بمعنى: الحاكم المهيمن، ذو السلطان..
وجاء اللفظ القرآنى «الحكم» بمعنى «الحاكم» ولم يجىء بلفظه، للإشارة
139
إلى أن القرآن الكريم هو «حكم» صدر من «حاكم» حكيم، هو الله سبحانه وتعالى..
وفى وصف «الحكم» بأنه عربى، تنويه بشأن الأمة العربية، ورفع لقدرها، ولشرف لغتها التي حملت حكم الله الحكيم العليم على الإنسانية كلها، بلسان العرب، وعلى يد الرسول العربىّ..
- قوله تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ»..
هو تعريض بما مع أهل الكتاب من ضلالات وأهواء أدخلوها على ما جاءهم به رسول الله من نور وهدى.. ثم هو من جهة أخرى توكيد لما فى يد النبىّ من حق، وأنه بهذا الحق قد علم بما فى أيدى أهل الكتاب من أهواء ومفتريات، وذلك حين التقى الحق الذي معه بالباطل الذي فى أيديهم..
وتحذير النبي من اتباع أهواء أهل الكتاب، مع العلم الذي علمه من أمرهم- هذا التحذير هو إشارة لما مع أهل الكتاب من باطل، ينبغى على كل عاقل أن يحذره، ويتوقّى الخطر الذي يتهدد من يقترب منه.. حتى النبىّ نفسه، مع ما يملك من قوى الإيمان، ومع ما يحوطه من رعاية ربه، إن اتبع أهواء هؤلاء القوم تعرض لنقمة الله، ولم يكن له من ولىّ يدفع عنه بلاء الله، أو يقيه بأسه إن جاءه!! فكيف بغير النبي من عباد الله؟ إن الخطر شديد، وإن البلاء داهم، وإنه لا عاصم من أمر الله لمن ألقى نفسه فى لجج هذا الطوفان!.
قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ».
فى هذه الآية ردّ على المشركين، وتحديد لموقف النبي منهم، بعد أن جاءت
140
الآية السابقة عليها، فاضحة لأهواء أهل الكتاب، محذرة النبي من أن يلتفت إليهم، أو يتعامل معهم بهذه الأهواء التي بين أيديهم..
والمشركون، كانوا ينكرون على النبي أن يكون إنسانا مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم:
«وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ»..
(٧: الفرقان)..
فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» ليقرر أن هؤلاء الرسل كانوا بشرا، وكان لهم ما للبشر، من أزواج وذرية.. فلست أنت أيها النبىّ بدعا من الرسل حتى ينكر منك المشركون ما أنكروا!..
- وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» هو ردّ على ما كان يقترحه المشركون على النبىّ، كقولهم الذي حكاه القرآن عنهم:
«لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (٧- ٨ الفرقان) وقولهم أيضا: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (٩٠- ٩٣: الإسراء)..
فالرسول لا يملك من أمر نفسه إلا ما يملك سائر الناس من أمر أنفسهم..
إنهم جميعا فى قبضة الله، وتحت سلطانه.. وليس لرسول أن يأتى بآية إلّا بما يأذن الله له به من آياته. «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» (٥٠: العنكبوت) - وهو
141
سبحانه الذي ينزلها بقدر: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ».. فكل آية مرهونة بوقتها، شأنها فى هذا شأن المواليد التي تولد، والأحياء التي تموت.. فلا يولد مولود إلا بإذن الله، وفى الوقت الذي قدّره الله له، ولا تموت نفس إلا بإذنه، وفى الوقت الموقوت لموتها..
قوله تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» المراد بالمحو والإثبات هنا، هو ما يقع فى الوجود من آثار قدرة الله، وتصرفاته فى الموجودات، من إحياء وإماتة، ومن بناء وهدم، ومن زيادة ونقص، ونهار وليل، وزرع وحصاد.. إلى غير ذلك مما يجرى عليه نظام الوجود.. فهناك محو وإثبات، وإثبات ومحو.. وكذلك الآيات التي يحملها رسل الله إلى أقوامهم، هى واقعة تحت هذا الحكم، يمحو الله منها ما يشاء، ويبقى منها ما يشاء.. وينسخ دينا، ويقيم دينا، ويمحو شريعة ويثبت شريعة..
وهذا كله ثابت فى علم الله.. فما يقع شىء فى هذا الوجود إلا وهو واقع فى علم الله الأزلىّ.. يظهر فى وقته الموقوت له فى علم الله..
والمراد «بأم الكتاب» هو علم الله، الذي يرجع إليه كل أمر: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (٥٩: الأنعام) قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» هو وعيد لهؤلاء المشركين والكافرين جميعا، وأنهم فى معرض النقمة والبلاء، من الله، وسواء أوقع عليهم البلاء وحلّت بهم النقمة والنبىّ حىّ يرى بعض هذا ويشهده، أو يموت قبل أن يرى ما توعدهم الله به، فإن ذلك ليس من همّ النبىّ، ولا مما يشغل نفسه به، وإنما مهمته هى
142
أن يبلغ رسالة ربّه، ويدع حساب المبلّغين لله سبحانه، فهو- جل شأنه- الذي يتولى حسابهم وجزاءهم.
قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» المراد بنقص الأرض، ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، وما يصيب الناس فى أرزاقهم وأعمارهم.. وإذا كان الذي يحدث فى الأرض من نقص يحدث إزاءه ما يقابله من زيادة، إلا أن الأمر الذي أريد الإلفات إليه هنا هو ما يحدث من نقص، فى الأموال، والأنفس، والثمرات، إذ كان ذلك هو الذي يهتمّ له الإنسان أكثر من اهتمامه لجانب الزيادة، وإذ كان المقام هنا مقام تهديد بنقم الله، حيث يرى المشركون والكافرون هذه الغير، وتلك الجوائح التي تقع هنا وهناك فى أطراف الأرض، وأنها ليست بعيدة عنهم، ولا هم بمأمن منها..
- «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ» أي أنه سبحانه إذا أراد أمرا نفذ، دون أن يعترض عليه معترض، أو يفلت منه مطلوب له: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (١١: الرعد) - «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» أي أنه سبحانه وتعالى بقدرته ممسك بكل شىء، عالم بكل شىء. لا يشغله شأن عن شأن، ولا حساب أحد عن أحد، فلو أراد سبحانه حساب الناس جميعا فى طرفة عين لكان ذلك كما أراد! قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» - هو تهديد لهؤلاء المشركين والكافرين، الذين تصدّوا للنبىّ، وآذوه، وبهتوه وكذّبوا به.. وكان لهم فى هذا مكرهم وتدبيرهم.. ولكن أين يقع هذا المكر والتدبير من مكر الله
143
وتدبيره؟ إنه قطرة من محيطات، وهباءة من جرم السموات والأرض! - «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» فيحاسب ويجازى.. لا يفلت مجرم من حسابه وعقابه..
- «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ».. وعند الحساب سيرى الكفار بأعينهم لمن الفوز والظفر، وعلى من الخزي والخذلان؟
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ»..
بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الرعد»، فيلتقى ختامها مع بدئها: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ».. ثم يصافح هذا الختام بدء السورة التي بعدها «إبراهيم» :
«الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ»..
- فقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» - هو جواب الكافرين على هذا الكتاب الذي جاءهم النبىّ به، والذي هو الحقّ الذي أنزل إليه من ربه..
وقوله تعالى فى أول سورة «إبراهيم» - بعد هذه السورة: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - هو ردّ على جواب هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولم يأذن الله لهم بالخروج من تلك الظلمات..
- وقوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إحالة للكافرين على موقف الحساب والمساءلة بين يدى الله، وهو سبحانه حكم عدل بينهم وبين
144
النبيّ، عالم بما كان منه من أمانة فى تبليغ ما أمر بتبليغه من ربه، وما كان منهم من تكذيب وبهت وكفر! - وقوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» معطوف على فاعل الفعل «كفى» وهو لفظ الجلالة «بالله» والباء حرف جرّ زائد.. أي كفى الله شهيدا بينى وبينكم، وكذلك من عنده علم الكتاب منكم، أي أهل العلم، فإنهم يعلمون أنى مرسل من عند الله! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» (٢٠: الأنعام) وقوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» (٣٦: الرعد) وقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» (٥٢: القصص) وقوله جل شأنه: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (١٩٧:
الشعراء) فعلماء بنى إسرائيل يعلمون صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.
وإن كتمه بعضهم، وآمن به بعضهم.. وهم شهود على الكافرين المكذبين من قومهم.. «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» «وكفى بالله شهيدا»
145
Icon