ﰡ
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه (١) الطبراني وغيره عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله - ﷺ -، فقال عامر: يا محمَّد ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم"، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: "ليس ذلك لك ولا لقومك"، فخرجا، فقال عامر لأربد: إني أشغل منك وجه محمَّد بالحديث، فأضربه بالسيف، فرجعا فقال عامر: يا محمَّد قم معي أكلمك، فقام معه ووقف يكلمه، وسل أربد السيف، فلما وضع يده على قائم سيفه - يبست، والتفت رسول الله - ﷺ - فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم.. أرسل الله على أربد صاعقة فقتله، فأنزل الله: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى﴾ إلى قوله: ﴿شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿المر﴾ اسم للسورة خبر لمحذوف؛ أي: هذه السورة مسماة بهذا الاسم. وقيل (٢): إن هذه الحروف في أوائل السور حروف تنبيه كـ (ألا) ونحوها، وتقرأ بأسمائها، فيقال: ألف لام ميم را، فلا محل لها من الإعراب، كما قيل: إن كل سورة بدئت بهذه الحروف فيها انتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه. وقال ابن عباس (٣): معناه أنا الله أعلم وأرى ما لا يعلم الخلق وما لا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه الآيات المشتملة عليها هذه السورة ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: آيات من الكتاب العزيز والقرآن الكريم البالغ حدّ الكمال المستغني عن الوصف من بين الكتب السماوية، الجدير بأن يختص باسم الكتاب، وأشار إليها بإشارة البعيد تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي. وقوله: ﴿وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ مبتدأ خبره ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال، فكأنه سبحانه وتعالى بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم، فأثبته للقرآن جميعه، فلا تختص به سورة دون أخرى.
وهذا الأسلوب جارٍ على سنن العرب في تخاطبهم (١)، فقد قالت فاطمة الأنمارية، وقد سئلت عن بنيها، أي بنيك أفضل؟ ربيعة بل عمارة بل قيس بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين.. أجملت القول، وأثبتت لهم الفضل جميعًا.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بالقرآن، ويجحدون (٢) بحقيقته لإفراطهم في العناد، وخروجهم عن طريق السداد، وعدم تفكرهم في معانيه، وإحاطتهم بما فيه، وكفرهم به لا ينافي كونه حقًّا منزَّلًا من عند الله تعالى، فإن الشمس شمس، وإن لم يرها الضرير، والشهدُ شهدٌ وإن لم يجد طعمه المرور، والتربية إنما تفيد
(٢) روح البيان.
٢ - ثم ذكر سبحانه وتعالى أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته؛ بعضها سماوي، وبعضها أرضي، وذكر من الأولى ثلاثة أمور:
الأول منها: ما ذكره بقوله: ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة أيها العباد هو الإله ﴿الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ﴾ السبع؛ أي: خلقها (٢) مرفوعة بينها وبين الأرض مسيرة خمس مئة عام، لا أن تكون موضوعة فرفعها؛ أي: خلقها ورفعها ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ ودعائم وأساطين ﴿تَرَوْنَهَا﴾؛ أي: ترون أيها العباد تلك العمد، فالضمير راجع إلى العمد، والجملة صفة لها؛ أي: خلق السموات حالة كونها خالية من عند مرئية، وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعًا؛ أي: لا عمد لها فلا ترى، ويحتمل أن يكون لانتفاء الرؤية فقط بأن يكون لها عماد غير مرئي؛ وهو القدرة، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته، فكأنها عماد لها، أو العدل؛ لأن بالعدل قامت السماوات والأرض؛ أي:
(٢) روح البيان.
ويدل (١) على كون ﴿تَرَوْنَهَا﴾ صفة لـ ﴿عَمَدٍ﴾ قراءة أبيّ شذوذًا: ﴿ترونه﴾ فعاد الضمير مذكرًا على لفظ ﴿عَمَدٍ﴾؛ إذ هو اسم جمع لعمود، وقياس جمعه عمد - بضمتين - كرسول ورسل. ويجوز أن يكون ﴿تَرَوْنَهَا﴾ جملة مستأنفة، فالضمير راجع إلى ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ كأنه قيل: ما الدليل على أن السماوات مرفوعة بغير عمد؟.. فأجيب أنكم ترونها غير معمودة. والمعنى (٢): أنه تعالى خلق السماوات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها. وقرأ الجمهور (٣): ﴿عَمَدٍ﴾ - بفتحتين -، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب شذوذًا ﴿عُمُدٍ﴾ بضمتين كقراءة أبيّ.
والثاني منها: ما ذكره بقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ وكلمة (٤) ﴿ثُمَّ﴾ لبيان تفاضل الخلقين وتفاوتهما، فإن العرش أفضل من السماوات، لا للتراخي في الوقت لتقدمه عليها. وفي "السمين": ثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب؛ لأن الاستواء على العرش غير مرتب على رفع السماوات اهـ؛ أي: ثم (٥) استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان، والاستواء على العرش صفة ثابتة لله تعالى بلا كيف نعتقدها ولا نعطلها، لا نكيفها ولا نمثلها كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى.
والثالث منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾؛ أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد. وقال في "بحر العلوم" معنى
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
(٥) المراغي.
والمعنى: أي وذلل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما يراد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير في منازله إلى وقت معين، فالشمس تقطع فلكها في سنة، والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ وبقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ كما سبق إيضاح هذا في سورتي "يونس" و"هود". قال بعضهم: وهذا المعنى هو الحق في تفسير الآية كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنه.
وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي: أمر العالم وحده؛ أي: يقضي سبحانه وتعالى، ويدبر أمر ملكوته من الإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب، ورفع قوم ووضع آخرين، وغير ذلك؛ أي: إنه تعالى يتصرف في ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه، فهو يحيي ويميت، ويوجد ويعدم، ويغني ويفقر، وينزل الوحي على من يشاء من عباده، وفي ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شيء بوضع خاص وصفةٍ معنية لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شيء عن تدبير آخر، كما هو شأن المخلوقات في هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضًا على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته، لا يشبه شيئًا من مخلوقاته.
وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، ووافق في ﴿نفصل﴾ بالنون الخفاف وعبد الواحد عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص شذوذًا. وقال صاحب "اللوامح": جاء عن الحسن والأعمش شذوذًا: ﴿نفصل﴾ بالنون فقط ذكره في "البحر" أبو حيان. والمعنى (١): أي: يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض، فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة في حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه، ولا تجد معدلًا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهي العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها واختلال لحركاتها ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾.
وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقي فيها الحب، ثم يسقيها ويضع فيها السماد، ويوالي سقيها حتى تؤتي أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة.. باء صاحب الزرع بالخسران، فلم يحصل على شيء، أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنصب الذي فعله. وقيل (٢): إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان:
الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما
(٢) الخازن.
والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته.
ثم أبان سبحانه وتعالى أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة، والحكمة الشاملة جاء لحكمة اقتضتهما: وهي الإيقان بالبعث لفصل القضاء، ومجازاة كل عامل بما عمل ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾؛ أي: يبين (١) الله سبحانه وتعالى الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته؛ لكي توقنوا وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت؛ لأن من قدر على إيجاد الإنسان من العدم قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه: استيقن وأيقن بمعنى: علم؛ أي (٢): لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه. قال في "بحر العلوم": ﴿لعل﴾ (٣) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، والمعنى عليه؛ أي: يفصل الآيات إرادة أن تتأملوا وتنظروا فيها، فتستدلوا بها عليه وعلى وحدته وقدرته وحكمته، وتتيقنوا أن من قدر على خلق السموات والأرض والعرش، وتسخير الشمس والقمر مع عظمها، وتدبير الأمور كلها.. كان على خلق الإنسان مع مهانته، وعلى إعادته وجزائه أقدر.
وخلاصة هذه العبرة (٤): أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب في الجوّ بلا عمد، ودبر الأمور بغاية الإحكام والدقة، ولم يشغله شأن عن شأن.. ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
فائدة: قال بعضهم (١): لا غنية للمؤمن عن ست خصال:
أولاها: علم يدله على الآخرة.
والثانية: رفيق يعينه على طاعة الله تعالى، ويمنعه عن معصيته.
والثالثة: معرفة عدوه والحذر منه.
والرابعة: عبرة يعتبر بها في آيات الله، وفي اختلاف الليل والنهار.
والخامسة: إنصاف الخلق؛ لئلا يكونوا له يوم القيامة خصماء.
والسادسة: الاستعداد للموت ولقاء الرب قبل نزوله كيلا يكون مفتضحًا يوم القيامة.
وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى الدلائل السماوية على وحدانيته تعالى وكمال قدرته.. أردفها بالأدلة الأرضية، وذكر منها عدة أمور:
٣ - الأول منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾؛ أي: بسطها طولًا وعرضًا، ووسعها؛ أي: جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض؛ لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها، وبما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، ويسيرون في أكنافها يبتغون رزق ربهم منها.
والمعنى: أنشأها ممدودة بسيطة، لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها، وهذا يدل على كونها مسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة أن الأرض كرة لا شك في كرويتها عندهم لما عندهم من الأدلة على ذلك، ويجمع بينها بأن يقال:
والثاني منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا﴾؛ أي: في الأرض ﴿رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثابتة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره أثبته، جمع راسية، والتاء فيه للمبالغة كما في علامة؛ إذ لا يقال: جبال راسية والمعنى (١): وجعل فيها جبالًا ثابتةً أوتادًا للأرض؛ لئلا تضطرب فتستقر ويستقر عليها، وكان اضطرابها من عظمة الله تعالى. قال ابن عباس - رضي الله عنه - كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض. وقال في "القاموس": أبو قبيس جبل بمكة سمي برجل حداد من مذحج كمجلس؛ لأنه أول من بنى فيه، وكان يسمى الأمين؛ لأن الركن كان مستودعًا فيه. اهـ. قال في "إنسان العيون": وكان أول جبل وضع عليها أبا قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها، مع أن أفضلها كما قال السيوطي: أُحد؛ لقوله عليه السلام: "أُحُد يحبنا ونحبه" وهو بضمتين جبل بالمدينة.
والثالث منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَأَنْهَارًا﴾؛ أي: وجعل فيها أنهارًا ومياهًا جاريةً لمنافع الإنسان والحيوان، فَيسقي الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال، ويجعلها لنفسه طعامًا وفاكهةً، ويكون منها مادة حياته في طعامه وشرابه وغذائه. وإنما ضمها (٢) إلى الجبال، وعلق بها فعلًا واحدًا من حيث إن الجبال أسباب لتولدها، وذلك أن الحجر جسم صلب، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل.. احتبست هناك، فلا تزال تتزاحم وتتضاعف حتى تحصل بسبب الجبل مياه عظيمة، ثم إنها لكثرتها وقوتها تنقب الجبل، وتخرج وتسيل على وجه الأرض. ومن الأنهار العظيمة
(٢) روح البيان.
والرابع منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ متعلق بقوله: ﴿جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ اثنين تأكيد للزوجين، كما هو دأب العرب في كلامهم؛ أي: وجعل سبحانه وتعالى في الأرض من كل أنواع الثمرات زوجين زوجين؛ أي: صنفين صنفين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والأصفر والأحمر، والصغير والكبير. أو المعنى (١): جعل من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين، ذكرًا وأنثى حين تكونها، فقد أثبت العلم حديثًا أن الشجر والزرع لا يولدان الثمر والحب إلا من اثنين: ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة، كأغلب الأشجار؛ وقد يكون عضو التذكير في شجرة، وعضو التأنيث في شجرة أخرى، كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة؛ إما أن يكونا معًا في زهرة واحدة كالقطن، وإما أن يكون كل منهما في زهرة منفردة كالقرع مثلًا. وعبارة "الشوكاني" هنا: أي: جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين؛ إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء: يعني بالزوجين: الذكر والأنثى، والأول أولى. اهـ.
والخامس منها: ما ذكره بقوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ قرأ الجمهور: ﴿يُغْشِي﴾ من أغشى الرباعي. وقرأ حمزة (٢) والكسائي وأبو بكر: ﴿يغشِّي﴾ - بالتشديد - من غشى المضعف؛ أي: يجعل سبحانه وتعالى الليل غاشيًا وساترًا يغشى ويستر بظلمته ضوء النهار، فيذهب بظلمته ضوء النهار؛ أي: يجعل النهار مستورًا بالليل ويغطيه بظلمته، ولم يذكر العكس اكتفاء بأحد الضدين.
(٢) البيضاوي.
قال البيضاوي: يلبسه مكانه، فيصير الجو مظلمًا بعدما كان مضيئًا يعني: أن الإغشاء: إلباس الشيء الشيء، ولما كان إلباس الليل النهار وتغطية النهار به غير معقول؛ لأنهما متضادان لا يجتمعان، واللباس لابدّ أن يجتمع مع اللابس.. قدر المضاف وهو مكانه، ومكان النهار هو الجو، وهو يلبس ظلمة الليل، ففيه استعارة تبعية كما سيأتي في مبحث البلاغة.
وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد في رأي العين في كل صباح ومساء، وفي كل حين ووقت.. ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به، وعقل يهتدي به إلى وجه الصواب، وينتقل من النظر في الأسباب إلى مسبباتها، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما ذكر من عجائب خلق الله تعالى، وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلائل وحججًا ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: لقومٍ يتفكرون فيها ويتأملون، ويعتبرون بها، فيعلموا أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فني منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له تعالى، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغي أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبي أو غير أولئك ممن سلب النفع والضرّ، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
ومعنى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن (١) في كل من الأرض والجبال والأنهار والثمار والملوين (٢) ﴿لَآيَاتٍ﴾ تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره. أما في الأرض فمن حيث هي ممدودة مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للماشين في مناكبها، وغير ذلك مما فيها من العيون والمعادن والدواب مثلًا. وأما الجبال فمن جهة رسوها وعلوها، وصلابتها وثقلها، وقد أرسيت الأرض بها كما يرسى البيت بالأوتاد. وأما الأنهار فحصولها في بعض جوانب الجبال دون بعض لا بد أن يستند إلى الفاعل المختار الحكيم. وأما الثمار فالحبة إذا وقعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض.. ربت وكبرت، وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها، فتخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، وتخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض. وهذا من العجائب؛ لأن طبيعة تلك الحبة واحدة، وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد، ثم إنه خرج من أحد جانبي تلك الحبة جرمٌ صاعد إلى الهواء ومن الجانب الآخر منها جرم غائص في الأرض، ومن المحال أن يتولد من طبيعة واحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم، ثم إن الشجرة النابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشبًا، وبعضها يكون نورة، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضًا يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع. فالجوز له أربعة أنواع من القشور: قشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللب، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز واللوز رطبًا، وأيضًا قد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القدير. وأما الملوان فلا يخفى ما في اختلافهما ووجودهما من الآية؛ أي: الدلالة الواضحة ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيستدلون، والتفكر: تصرف القلب في طلب معاني الأشياء، وكما أن في العالم الكبير أرضًا وجبالًا ومعادن
(٢) الملوان: الليل والنهار.
٤ - والسادس منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾ خبر مقدم لقوله. ﴿قِطَعٌ﴾ جمع قطعة، وهي الجزء؛ أي: بقاع مختلفة في الأوصاف ﴿مُتَجَاوِرَاتٌ﴾؛ أي (١): متقاربات متلاصقات بعضها طيبة تنبت شيئًا، وبعضها سبخة لا تنبت، وبعضها قليلة الريع، وبعضها صلبة، وبعضها كثيرة الريع، وبعضها رخوة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، ولولا تخصيص قادرٍ حكيمٍ موقعٍ لأفعاله على وجهٍ دون وجه.. لم يكن كذلك لاشتراك تلك القطع وانتظامها في جنس الأرضية. والمعنى؛ أي (٢): وفي الأرض بقاع متجاورات متدانيات يقرب بعضها من بعض وتختلف بالتفاضل مع من تجاورها، فمن سبخة لا تنبت شيئًا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات، ومن صالحه للزرع دون الشجر إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك. ومنها الرخوة التي لا تكاد تتماسك، وهي تجاور الصلبة التي لا تفتتها المعاول وأدوات التدمير، وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره في خلقه.
قيل: وفي الكلام حذف (٣)؛ أي: قطع متجاورات وغير متجاورات كما في
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
واعلم: أن (٢) قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان أولى بهذا الاسم، ولذا قال عليه السلام: "لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن". قال ابن الملك: سبب النهي: أن العرب كانوا يسمون العنب وشجرته كرمًا؛ لأن الخمر المتخذة منه تحمل شاربها على الكرم، فكره النبي - ﷺ - هذه التسمية؛ لئلا يتذاكروا به الخمر، ويدعوهم حسن الاسم إلى شربها، وجعل المؤمن وقلبه أحق أن يتصف به لطيبه وذكائه، والغرض منه تحريض المؤمن على التقوى، وكونه أهلًا لهذه التسمية. ﴿وَزَرْعٌ﴾ بالرفع عطف على ﴿جَنَّاتٌ﴾ وتوحيده؛ لأنه مصدر في أصله. وذكر سبحانه (٣) الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه في الخارج يكون كذلك كثيرًا، ومثله في قوله سبحانه: ﴿جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾؛ أي: وفي الأرض زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون غذاء للإنسان والحيوان. ﴿و﴾ فيها ﴿نخيل صنوان﴾ جمع صنو؛ أي: نخيل مجتمعات يجمعها أصل واحد، وتتشعب فروعها منه؛ أي: تثبت من أصلٍ واحد ثلاث نخلات فأكثر؛ أي: مجتمع أصول الأربعة في أصل واحد. قال أبو عبيدة: صنوان جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدًا، ثم يتفرع فيصير نخيلًا، ثم يحمل عليه، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير. ﴿و﴾
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وقرأ الحسن وقتادة وهو شاذ أيضًا بفتحها، وبالفتح هو اسم للجمع كالسعدان، ولا فرق في تثنيته وجمعه إلا بكسر النون في المثنى وبما يقتضيه الإعراب في الجمع. ﴿يُسْقَى﴾ كل واحد مما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل ﴿بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾ في الطبع، لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار. والماء (٢) ضابطه: هو جسم رقيق مائع به حياة كل نام. وقيل في حده: هو جوهر سيال به قوام الأرواح، ومعنى ﴿بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾: ماء مطر، أو ماء بحر، أو ماء نهر، أو ماء عين، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض. ﴿و﴾ مع وجود أسباب التشابه ﴿نفضل﴾ بمحض قدرتنا ﴿بَعْضَهَا﴾؛ أي: بعضًا منها ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾ آخر ﴿فِي الْأُكُلِ﴾؛ أي: في الثمر المأكول منها، فيكون (٣) طعم بعضها حلوًا، والآخر حامضًا، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق، مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه؛ لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا لسببين؛ إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تُسقى به، فإذا كان المكان متجاورًا وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحدًا.. لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المفضل من أحوال القطع والجنات ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات كثيرة ظاهرة {لِقَوْمٍ
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن علي ويعقوب (٢): ﴿يُسْقَى﴾ - بالياء -؛ أي: يسقى ما ذكر، وباقي العشرة بالتاء، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة، أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم، ولقوله: ﴿وَنُفَضِّلُ﴾ بالنون. وحمزة والكسائي بالياء وابن محيصن بالياء في ﴿يُسْقَى﴾ وفي ﴿نُفَضِّلُ﴾. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث شذوذًا: ﴿ويفضل﴾ - بالياء وفتح الضاد - ﴿بعضها﴾ - بالرفع -. قال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أول من نقط المصاحف، وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها، و ﴿الْأُكُلِ﴾ - بضم الهمزة - المأكول، كالنقض بمعنى المنقوض، وبفتحها المصدر.
٥ - ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ﴾ بتحقيق الباء وإدغامها في الفاء قراءاتان سبعيتان كما في "الخطيب". والعجب: تغير النفس برؤية المستبعد في العادة. وقال القرطبي: العجب: تغير النفس بما تخفي أسبابه، وذلك في حق الله تعالى محال، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون. اهـ. "كرخي"؛ أي: وإن تعجب يا محمَّد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين ﴿فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾؛ أي: فأعجب منه تكذيبهم بالبعث وقولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا﴾؛ أي: أنبعث إذا كنا ترابا؟ {أَإِنَّا
(٢) البحر المحيط.
وقيل المعنى (١): أي إن عجبت يا محمَّد إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السموات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة، فقولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ عجب؛ أي: عجب يعجب منه الخلق؛ لأن الإعادة في معنى الابتداء.
وقيل المعنى (٢): أي وإن تعجب يا محمَّد من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد، فعجب قولهم؛ أي: فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾؛ أي: أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بدأة ذي بدء، وتصويرهم في الأرحام، وتدبير شوؤنهم حالًا بعد حال. وقد تكرر هذا الاستفهام الإنكاري في أحد عشر موضعًا في تسع سور من القرآن، في الرعد والإسراء في موضعين، والمؤمنون والنحل والعنكبوت والسجدة والصافات والواقعة والنازعات، وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستعباد.
وفي "الفتوحات": يجوز (٣) في هذه الجملة الاستفهامية وجهان:
أحدهما: وهو الظاهر: أنها منصوبة المحل لحكايتها بالقول.
والثاني: أنها في محل رفع بدلًا من قولهم، وبه بدأ الزمخشري، وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم، ويكون بدل كل من كل؛ لأن هذا هو نفس قولهم: و ﴿إِذَا﴾ هنا ظرف محض، وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها مقدر يفسره: ﴿لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ تقديره: أئذا كنا ترابًا نبعث أو نحشر، ولا يعمل فيها ﴿خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾؛ لأن ما بعد ﴿إن﴾ وكذا ما بعد أداة الاستفهام لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها أيضًا ﴿كُنَّا﴾؛ لإضافتها إليها، والتقدير: أنبعث في خلق جديد وقت كوننا ترابًا.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
ثم وصف أولئك المنكرين للبعث بأوصاف ثلاثة، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعدما عاينوا الآيات الباهرة وكذبوا رسوله هم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾؛ أي: تمادوا على عنادهم وكفرهم بربهم، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له؛ لأن الإله لا يكون عاجزًا؛ أي: هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه ﴿وَأُولَئِكَ﴾ الكفار ﴿الْأَغْلَالُ﴾ كائنة ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ يوم القيامة عند العرض للحساب، توضع الأغلال في أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢)﴾. والأغلال: جمع غل؛ وهو طوق تشد به اليد إلى العنق يغلون بها يوم القيامة. وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق، والمعنى عليه: وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر في الحق، واتباع طريق الهدى، والبعد عن الهوى كما قال:
(٢) الفتوحات.
كَيْفَ الرَّشَادُ وَقَدْ خُلِّفْتُ فِيْ نَفَرٍ | لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأقْيَادُ |
٦ - وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول - ﷺ - في إنكار عذاب يوم القيامة.. ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له: جئنا به وائتنا وطلبوا منه إنزاله، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ الاستعجال (٢): طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته؛ أي: يطلب مشركو مكة منك يا محمَّد العجلة ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾ والعقوبة التي هددتهم بها إن لم يؤمنوا، وسميت العقوبة سيئة؛ لأنها تسوؤهم ﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ متعلق بالاستعجال؛ أي: قبل العافية والإحسان إليهم بالإمهال؛ أي: يطلبون منك الإتيان بالعقوبة المهلكة لهم قبل انقضاء الزمان المقدر لعافيتهم وسلامتهم.
وذلك أنه - ﷺ - كان يهدد مشركي مكة تارة بعذاب يوم القيامة، وتارة بعذاب الدنيا، وكلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وقالوا: متى تجيئنا به، فيطلبون العقوبة والعذاب والشر بدل العافية والرحمة والخير استهزاء منهم، وإظهارًا أن الذي يقوله لا أصل له، ولذا قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ والله تعالى صرف عن هذه الأمة عقوبة الاستئصال، وأخر
(٢) روح البيان.
واعلم: أن (١) استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة هو استعجالهم بالكفر والمعاصي قبل الإيمان والطاعات، فإن منشأ كل سعادة ورحمة هو الإيمان الكامل والعمل الصالح، ومنشأ كل شقاوة وعذاب هو الكفر والشرك والعمل الفاسد.
وجملة قوله: ﴿وَقَدْ خَلَتْ﴾ حال من واو ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ﴾؛ أي: يستعجلونك بالعقوبة حالة كونهم قد خلت ومضت ﴿مِنْ قَبْلِهِمُ﴾؛ أي: من قبل هؤلاء المشركين ﴿الْمَثُلَاتُ﴾؛ أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين لرسلهم كالخسف والمسخ والرجفة، فما لهم لم يعتبروا بها، فلا يستهزئوا، جمع مَثُلَه بفتح الثاء وضمها؛ وهي العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه، وهو الجريمة. وفي "التبيان": ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ﴾؛ أي: العقوبات المهلكات يماثل بعضها بعضًا.
والمعنى: أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين، فمن أمة مسخت قردة، وأخرى أهلكت بالرجفة، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك. وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْمَثُلَاتُ﴾ - بفتح الميم وضم الثاء - ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عمير في رواية الأعمش وأبو بكر بضمهما، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء، وكل هذه القراءة عدا قراءة الجمهور شاذ.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم حالة كونهم ﴿عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾؛ أي: ظالمين أنفسهم بالمعاصي، أو المعنى: وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده، فتارك فضيحته بها في يوم القيامة، ولولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال:
(٢) البحر المحيط.
أي: وإن ربك (١) يا محمَّد ليعاقب في الآخرة عقابًا شديدًا لمن يجترح السيئات، وهو متمادٍ في غوايته سادر (٢) في آثامه، وقد يعجل له قسطًا منه في الدنيا، ويكون جزاءً له على ما سولت له نفسه، كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف، ومرض مزمن، وفقر مدقع، وذل وهوان بين الناس. وفي المقامرين من خراب عاجل وإفلاس في المال والذل بعد العز. وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيستوفي قطه هناك نارًا تكوى بها الجباه والجنوب، وتبدل الجلود غير الجلود، وقد قرن المغفرة بالعقاب في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم؛ ليعتدل الرَّجاء والخوف كقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾ إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ...﴾ إلخ. قال رسول الله - ﷺ -: "لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدًا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد".
٧ - وبعد (٣) أن ذكر طعنهم في نبوة محمَّد - ﷺ - لقوله بالحشر والمعاد، ثم طعنهم فيه؛ لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال.. ذكر أنهم طعنوا فيه؛ لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبينة كما فعل الرسل من قبله، فقال: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مكة تعنتًا وجحودًا ﴿لَوْلَا﴾؛ أي: هلَّا ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على محمَّد - ﷺ - ﴿آيَةٌ﴾؛ أي: علامة دالة على صدقه ونبوته ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ إن كان صادقًا فيما
(٢) قوله سادر: المتحير وهو أيضًا الذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع اهـ مختار.
(٣) المراغي.
ولما كان (٢) النبي - ﷺ - راغبًا في إجابة مقترحاتهم حُبًّا في إيمانهم.. بين وظيفته التي أرسل لأجلها، فقال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿مُنْذِرٌ﴾؛ أي: رسول مرسل للإنذار والتخويف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون، ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات، ولو أجيبوا إلى ما اقترحوا لأدى ذلك إلى إتيان ما لا نهاية له؛ لأنه كلما أتى بمعجزة طلبها واحد منهم.. جاء آخر منهم، فطلب منه معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء.
والمعنى: أن (٣) وظيفتك التي بعثت لها هي الإنذار من سوء مغبة - عاقبة - ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
والمعنى: إنما عليك الإنذار يا محمَّد، والهادي هو الله تعالى يهدي من يشاء. والقول الأول مروي عن عكرمة في رواية أبي الضحى، والمعنى عليه: إنما أنت منذر وأنت هادٍ.
وحاصل المعنى: أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبيل الخير فطره الله تعالى على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة في كل زمان كي لا يترك الناس سدى، وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل، ويؤيده - ﷺ -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
ووقف ابن كثير (٣) على ﴿هَادٍ﴾ و ﴿واقٍ﴾ حيث وقعا، وعلى ﴿وَالٍ﴾ هنا،
(٢) الخازن بتصرف.
(٣) البحر المحيط.
٨ - ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى﴾؛ أي: الشيء الذي تحمله كل أنثى في بطنها من حين العلوق إلى الولادة من علقة أو مضغة، ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، صبيح أو قبيح، شقي أو سعيد، طويل العمر أو قصيره، كما قال سبحانه: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ وقال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾.
﴿و﴾ يعلم سبحانه وتعالى ﴿ما تغيض الأرحام﴾ من الغيض؛ وهو النقص؛ أي: يعلم سبحانه ما تنقصه الأرحام ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾؛ أي: وما تزيده في الجثة والمدة والعدد، واختلفوا في ذلك، فقيل: المراد نقص خلقة الحمل وزيادته، كنقص أصبع أو زيادتها. وقيل المراد: نقص مدة الحمل عن تسعة أشهر أو زيادتها، وقيل المراد: نقص في عدد الولد وزيادته، فقد يكون الولد واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة. قال أهل التفسير (١): غيض الأرض الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصانًا في الولد؛ لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم، فإذا خرج الدم نقص الغذاء، فينقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم. وقيل: إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء، وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة، فإن رأت خمسة أيام دمًا.. وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل. وقيل: النقصان السقط، والزيادة تمام الخلق.
وقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك (٢): أن الولد عند استكماله سبعة أشهر تحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس، فإن خرج عاش، وإن لم يخرج استراح في البطن عقيب تلك الحركة المضعفة له، فلا يتحرك في الشهر الثامن، لذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر، فإذا تحرك للخروج وخرج، فقد ضعف غاية الضعف، فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه، وعلى فرض أن يعيش يكون مغلولًا لا ينتفع بنفسه، وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس، وهو طبع الموت. والأرحام: جمع رحم، وهو مبيت للولد في البطن ووعاؤه. واعلم أن رحم المرأة عضلة وعصب وعروق، ورأس عصبها في الدماغ، وهي على هيئة الكيس، ولها فم بإزاء قبلها، ولها قرنان شبه الجناحين تجذب بهما النطفة، وفيها قوة الإمساك لئلا ينزل من المني شيء. وقد أودع الله تعالى في ماء الرجل قوة الفعل، وفي ماء المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة الممتزجة باللبن.
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة من الزيادة والنقصان، وخروج الولد والمكث ﴿عِنْدَهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: في علمه ﴿بِمِقْدَارٍ﴾؛ أي: مقدر بقدر وحدٍّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه لقوله تعالى: {إِنَّا
(٢) روح البيان.
٩ - ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تعالى عالم كل ما يطلق عليه اسم الغيب؛ وهو ما غاب عن الحس، فيدخل فيه المعلومات والأسرار الخفية والآخرة. وقال بعضهم (١): كل ما ورد في القرآن من إسناد الغيب إلى الله تعالى إنما هو بالنسبة إلينا، إذ لا غيب بالنسبة إلى الله تعالى؛ أي (٢): هو تعالى عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثًا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة، بل ترى بالمنظار المعظم - التليسوب - ومنها الجراثيم - المكروبات - التي تولد كثيرًا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها، أو يتعذر في كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفي بعد حين كجراثيم الجدري والحصبة ونحوها، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾.
﴿و﴾ عالم ﴿الشهادة﴾؛ أي: كل ما يطلق عليه اسم الشهادة؛ وهو ما حضر للحس، فيدخل فيه الموجودات المدركة والعلانية والدنيا؛ أي: عالم كل ما تشاهدونه وترونه بأعينكم ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
﴿الْكَبِيرُ﴾؛ أي: هو تعالى العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء الذي يجل عما وصفه به الخلق من صفات المخلوقين، أو الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه ﴿الْمُتَعَالِ﴾؛ أي: المستعلي على كل شيء بقدرته وجبروته، وهو وحده له التصرف في ملكوته. وفي "الكواشي" المترفع عن صفات المخلوقين وقول المشركين. وفي هذا (٣) إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
١٠ - ولما ذكر تعالى أنه عالم الغيب والشهادة على العموم.. ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين، فقال: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ﴾ في نفسه، فلم يظهره على أحد ﴿وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾؛ أي: أظهره لغيره. وقال ابن (١) عباس: أي: سواء ما أضمرته القلوب وما أظهرته الألسنة، فهو تعالى يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير أو شر، فإسرار القول ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره.. فـ ﴿من﴾ (٢) مبتدأ خبره ﴿سواء﴾، و ﴿مِنْكُمْ﴾ حال من ضمير ﴿سَوَاءٌ﴾؛ لأنه بمعنى مستو، ولم يثن الخبر مع أنه خبر عن شيئين، وهما الشخصان المرادان بـ ﴿من﴾. والمعنى: مستو في علم الله تعالى من أضمر القول في نفسه، ومن أظهره بلسانه منكم أيها الناس؛ أي: من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفظ به، أو جهر به وأظهره؛ فهو سواء عند الله تعالى يسمعه ولا يخفى عليه شيء منه، كما قال: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)﴾ وقال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾؛ أي: وسواء في علم الله تعالى من هو مختف مستتر بظلمة الليل ﴿وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾؛ أي: ومن هو ماشٍ في سربه وطريقه ظاهر بضوء النهار، فكلاهما في علم الله تعالى سواء. وروي عن ابن عباس في تفسير
(٢) روح البيان.
١١ - ﴿لَهُ﴾؛ أي: لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب، أو لعالم الغيب والشهادة، أو لكل إنسان ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾؛ أي: ملائكة حفظة يتعاقبون عليه ويتناوبون به، يعقب وينوب بعضهم بعضًا في المجيء إلى من ذكر، وحفظه من المضار وكتب أعماله ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾؛ أي: من قدام ذلك الإنسان ومن ورائه حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضار، ويراقبون أحواله لا يفارقونه، كما يتعاقب عليه ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلان حافظان وكاتبان كما جاء في الحديث الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون".
وإذ علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصي عليه أعماله كان حذرًا من وقوعه في المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون، ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات، كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحيي منه من البشر، وهو أيضًا إذا علم أن كل عمل له في كتابٍ مدخر يكون ذلك رادعًا له داعيًا إلى تركه. وقال الصاوي: وهذه الآية من تدبرها وعمل بمقتضاها أورثته الإخلاص في أعماله، فيستوي عنده إسرار العبادة وإظهارها ليلًا أو نهارًا، والمراقبة؛ لأنه إذا علم أن هذه الأشياء مستوية عنده ولا يخفى عليه شيء منها.. فلا يستطيع أن يقدم على ما نهي عنه ظاهرًا ولا باطنًا انتهى. وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل
والمعنى: له (١) ملائكة يتعاقب بعضهم بعضًا كائنون من أمام الإنسان ووراء ظهره؛ أي: يحيطون به من جوانبه ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: يحفظون من ذكر؛ أي: من بأسه ونقمته إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب من ذنبه أو ينيب، أو يحفظونه من المضار التي أمر الله بالحفظ منها. قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما يأتيه منهم شيء يريده إلا قال: وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. أو المعنى: هم يحفظونه (٢) بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فـ ﴿من﴾ بمعنى الباء، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابًا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته حكمته، فجعل الجفن سببًا لحفظ العين مما يدخل فيها فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابًا، فجعل الملائكة أسبابًا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح. وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كرامًا كاتبين، وإن كنا لا ندري ما قلمهم وما مدادهم،
(٢) المراغي.
وقرأ عبيد بن زياد على المنبر (١): ﴿له المعاقب﴾، وهي قراءة أبيّ وإبراهيم. وقال الزمخشرى: وقرىء: ﴿له معاقيب﴾. قال أبو الفتح: هو تكسير ﴿معْقب﴾ - بسكون العين وكسر القاف - كمطعم ومطاعم ومقدم ومقاديم، وكأن معقبًا جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء عوضًا عن الهاء المحذوفة في معاقبة. وقرىء: ﴿له معتقبات﴾ من اعتقب. وقرأ أبي من بين يديه ورقيب من خلفه. وقرأ ابن عباس: ﴿ورقباء من خلفه﴾ وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ له: ﴿معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه﴾. وينبغي حمل هذه القراءات على التفسير لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون فهي كلها شاذة. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة وزيد بن علي وجعفر بن محمَّد: ﴿يحفظونه بأمر الله﴾. وتدل هذه القراءة الشاذة على كون ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء السببية في قراءة: ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ من العافية والأمن والنعمة والرزق، ولا يزيله عنهم ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أى: حتى يتركوا ما يلزمهم من الشكر، وينقلبوا من الأحوال الجميلة إلى القبيحة. وعبارة "البيضاوي": أن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة.
والمعنى (٢): أن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية، فيزيلها عنهم ويذهبها حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم، فعند ذلك تحل نقمته بهم، وهو
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنه ليس من الحكمة في شيء أن يستعجلوا ذلك، ولما (١) كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله: ﴿سُوءًا﴾ وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئًا منها.. فلا مرد له، فذكر السوء مبالغة في التخويف.
﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: وما لهؤلاء القوم الذين أراد الله هلاكهم من دون الله سبحانه وتعالى ﴿مِنْ وَالٍ﴾؛ أي: وال يلي أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئًا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلًا عن دفعه عن غيرها. والوالي من أسمائه تعالى، وهو من ولي الأمور وملك الجمهور، والولاية: تنفيذ القول على الغير شاء الغير أم لا، ولله در الأعرابي الذي رأى صنمًا يبول عليه الثعلب، فثارت به حميته، فأمسكه وكسره إربًا إربًا، وقال:
أَرَبٌّ يَبُوْلُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسَهَ | لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ |
﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿المر﴾ قد تقدم الكلام في هذه الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وإن قلنا إنه اسم للسورة فهو مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه السورة اسمها آلمر، وعلة بنائه شبهه بالحرف شبهًا وضعيًّا، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير: آلمر هذا المذكور بقولنا: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾. ﴿تِلْكَ﴾: اسم إشارة يشار به إلى آيات هذه السورة في محل الرفع مبتدأ. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿وَالَّذِي﴾: (الواو): عاطفة. ﴿الذي﴾: مبتدأ. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: متعلق أيضًا بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿الْحَقُّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَلَكِنَّ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك. ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: اسمها ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿رَفَعَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾: جار ومجرور ومضاف حال من ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿تَرَوْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿عَمَدٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿اسْتَوَى﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَفَعَ﴾. ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾: فعل ومفعول. ﴿وَالْقَمَرَ﴾: معطوف على ﴿الشَّمْسَ﴾ وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿مَدَّ الْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿مَدَّ﴾، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾؛ لأنه بمعنى خلق. ﴿رَوَاسِيَ﴾: مفعول به بـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَأَنْهَارًا﴾: معطوف على ﴿رَوَاسِيَ﴾. ﴿وَمِنْ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿من كل الثمرات﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ المذكور بعده. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿زَوْجَيْنِ﴾: مفعول لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿اثْنَيْنِ﴾: صفة مؤكدة لـ ﴿زَوْجَيْنِ﴾، وجملة ﴿جَعَلَ﴾: معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾ الأول. ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ﴾: فعل ومفعول أول. ﴿النَّهَارَ﴾: مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، أو حال من ضمير الفاعل في الأفعال التي قبله، أعني: رفع وسخر، ويدبر ويفصل، ومد وجعل كما ذكره أبو البقاء. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿قِطَعٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿مُتَجَاوِرَاتٌ﴾: صفة لـ ﴿قِطَعٌ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَجَنَّاتٌ﴾: معطوف على ﴿قِطَعٌ﴾. ﴿مِنْ أَعْنَابٍ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتٌ﴾. ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾: معطوفان على ﴿قِطَعٌ﴾. ﴿صِنْوَانٌ﴾: صفة لـ ﴿نَخِيلٌ﴾ مرفوع بالضمة الظاهرة؛ لأنه جمع تكسر لـ ﴿صنو﴾. ﴿وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾: معطوف على ﴿صِنْوَانٌ﴾ على كونه صفة لـ ﴿نخيل﴾. ﴿يُسْقَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على المذكور من ﴿جنات﴾ وما بعدها. ﴿بِمَاءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُسْقَى﴾. ﴿وَاحِدٍ﴾: صفة لـ ﴿ما﴾، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿جنات﴾ وما بعدها، أو حال منها. ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: متعلق به، وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿فِي الْأُكُلِ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر، واللام حرف ابتداء. ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة لـ ﴿آيَاتٍ﴾، وجملة ﴿يَعْقِلُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾.
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿تَعْجَبْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿فَعَجَبٌ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، ﴿عَجَبٌ﴾: خبر مقدم. ﴿قَوْلُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر، ولا بد من حذف صفة لتتم الفائدة؛ أي: فعجب؛ أي: عجب قولهم، ويجوز أن يكون عجب مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة حينئذٍ ما ذكرته من الوصف المقدر، ولا يضر
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿الْأَغْلَالُ﴾: مبتدأ ثان. ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للأول، وجملة الأولى مع خبره معطوفة على جملة قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾. ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على جملة ﴿أُولَئِكَ﴾ الأولى. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾. ﴿خَالِدُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦)﴾.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ﴾، أو حال من ﴿السَّيِّئَةِ﴾. ﴿وَقَدْ خَلَتْ﴾: (الواو): حالية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾: فعل
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾: مقول محكي لـ ﴿يقول﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿آيَةٌ﴾: نائب فاعل لـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿يقول﴾. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿هَادٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه مجرور بالفتحة المقدرة؛ لأنه اسم لا ينصرف لألف التأنيث المقصورة، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تحمله كل أنثى. ﴿وَمَا﴾: معطوف على
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)﴾.
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾: خبر المبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف على ﴿الْغَيْبِ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿الْكَبِيرُ﴾: صفة لـ ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾، أو خبر لمحذوف. ﴿الْمُتَعَالِ﴾: صفة لـ ﴿الْكَبِيرُ﴾ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة للوقف؛ لأنه رأس آية، ولولا ذلك لكان الجيد إثباتها، ذكره أبو البقاء، وحذفت في الخط تبعًا للفظ. ﴿سَوَاءٌ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في ﴿سَوَاءٌ﴾؛ لأنه بمعنى مستو. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. ﴿أَسَرَّ الْقَوْلَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَمَنْ جَهَرَ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿جَهَرَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والتقدير: من أسر القول ومن جهر به مستويان في علمه تعالى حالة كونهما كائنين منكم. ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿هُوَ مُسْتَخْفٍ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿بِاللَّيْلِ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْتَخْفٍ﴾، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿وَسَارِبٌ﴾: معطوف على ﴿مُسْتَخْفٍ﴾. ﴿بِالنَّهَارِ﴾: متعلق به، والتقدير: ومن هو مستتر بظلام الليل، ومن هو ظاهر بضوء النهار مستويان في علمه تعالى.
﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾. ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾: معطوف عليه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف صفة لـ ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾، ويجوز أن يتعلق بـ ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾؛ أي: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. فإن قلت: كيف يتعلق حرفان متحدان لفظًا ومعنىً بعامل واحد، وهما ﴿مِنْ﴾ الداخلة على ﴿بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ و ﴿مِنْ﴾ الداخلة على ﴿أَمْرِ اللَّهِ﴾؟.. فالجواب أن ﴿مِنْ﴾ الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما مر، وسيأتي في مبحث الصرف. اهـ. "سمين". ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾، أو حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُغَيِّرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿بِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى. ﴿مَا﴾: مفعول به. ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، والجار والمجرور متعلق بقوله: ﴿لَا يُغَيِّرُ﴾. ﴿وَإِذَا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَرَادَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرطها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿بِقَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَرَادَ﴾. ﴿سُوءًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَرَادَ﴾. ﴿فَلَا﴾: (الفاء): رابطة لجواب إذا وجوبًا، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿مَرَدَّ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، والجملة الاسمية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: مستأنفة. ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ الواوا: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية أو تميمية. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿مَا﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ العمد: السواري والأساطين، واحدها عمود كأدم وأديم، وقرىء: ﴿عُمُد﴾ - بضمتين - فيكون جمع عماد كشهب وشهاب، وكتب وكتاب، أو جمع عمود كرسل ورسول هذا في الكثرة، ويجمعان في القلة على أعمدة كما في "البحر".
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾ والتسخير: التذليل والطاعة. ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ والتدبير: التصريف للأمور على وجه الحكمة.
﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ والتفصيل: التبيين، والآيات هي الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر. ﴿تُوقِنُونَ﴾ واليقين: العلم الثابت الذي لا شك فيه.
﴿مَدَّ الْأَرْضَ﴾؛ أي: بسطها طولًا وعرضًا. قال الأصم: المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه.
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ والراسي: الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل، واحدها راسية؛ لأن الأرض ترسو وتثبت بها، وتمسكها من الاضطراب.
﴿وَأَنْهَارًا﴾: واحدها نهر؛ وهو المجرى الواسع من الماء؛ أي: مياهًا جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد: جعل فيها مجاري الماء.
﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾، ﴿زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ والثمرات: جمع ثمرة، والثمرة: غلة الشجر ومنافعه، والعرب تسمي الاثنين زوجين، والواحد من الذكور زوجًا لأنثاه، والأنثى زوجًا وزوجة لذكرها؛ أي: جعل من كل نوع من أنواع الثمرات
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾؛ أي: يستر النهار بالليل، ومعنى تغطية هذا بذلك: الإتيان به مكانه؛ أي: الإتيان به بدله، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية، وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرًا باعتبار أن ظهوره في الأرض، فإن الليل إنما هو ظلها، وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلًا. اهـ. "أبو السعود".
﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، والفكر: هو تصرف القلب في طلب الأشياء. وقال صاحب "المفردات" الفكر: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك الإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب، ولهذا روي: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله؛ إذ الله منزه أن يوصف بصورة. اهـ. "خازن".
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ﴾؛ أي: بقاع جمع قطعة. ﴿مُتَجَاوِرَاتٌ﴾؛ أي: متقاربات. ﴿وَنَخِيلٌ﴾ والنخل والنخيل بمعنى، والواحد نخلة. اهـ. "مختار". لكن النخل يذكر ويؤنث، والنخيل مؤنث لا غير كما في "المصباح".
﴿صِنْوَانٌ﴾ جمع كثرة لصنو، وجمعه في القلة أصناء كحمل وأحمال، والعامة على كسر الصاد. والصنو الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو ومنه الحديث: "عم الرجل صنو أبيه" وجمعه في لغة الحجاز صَنوان - بفتح الصاد - وهو اسم جمع لا جمع تكسير؛ لأنه ليس من أبنيته، فالصنوان: هي النخلات يجمعها أصل واحد، وتتشعب فروعها ذكره في "البحر".
﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ - بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف - المأكول. اهـ. "مصباح". والمراد به هنا الثمر والحب، فالثمر من النخيل والأعناب، والحب من الزرع.
﴿الْأَغْلَالُ﴾ جمع غُل بالضم، وهو طوق من حديد يجعل في العنق. اهـ. "خازن".
﴿الْمَثُلَاتُ﴾ - بفتح فضم - جمع مثلة - بفتح فضم - كسَمُرة؛ وهي العقوبة التي تترك في المعاقب أثرًا قبيحًا كصلم أذن، أو جدع أنف، أو سمل عين.
﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ والغفر هنا: الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة.
﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ والمراد بالآية هنا الآيات الحسية، كقلب عصا موسى حية وناقة صالح.
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ والهادي: القائد الذي يقول الناس إلى الخير، كالأنبياء والحكماء والمجتهدين.
﴿وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ﴾ الغيض: النقصان، يقال: غاض الماء وغضته كما قال: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾.
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ والمراد بالعندية؛ عندية علم يعني: أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه. اهـ. "خازن".
﴿بِمِقْدَارٍ﴾؛ أي: بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، والغائب: ما غاب عن الحس، والشاهد: الحاضر المشاهد ﴿الْكَبِيرُ﴾: العظيم الشأن. وفي "الخازن": الكبير: الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه. والمتعالى: المستعلي على كل شيء بقهره وجبره ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ﴾؛ أي: مستو منكم.
﴿مَنْ أَسَرَّ﴾ أسرَّ الشيء إذا أخفاه في نفسه، والمستخفي المبالغ في
وفي "المصباح": سرب في الأرض سروبًا - من باب قعد - ذهب، وسرب الماء سروبًا وسرب المال سربًا من باب قتل، رعى نهارًا بغير راع؛ فهو سارب، وسرب تسمية بالمصدر، والسرب أيضًا: الطريق، ومنه يقال: حل سربه؛ أي: طريقه. والسرب - بالكسر - النفس، وهو واسع السرب؛ أي: رخي البال، ويقال: واسع الصدر بطيء الغضب. والسَرَب - بفتحتين - بيت في الأرض لا منفذ له؛ وهو الوكر. اهـ.
﴿مُعَقِّبَاتٌ﴾؛ أي: ملائكة تعتقب في حفظه، وكلاءته، واحدها معقبة من عقبة؛ أي: جاء عقبه. وفي "السمين": وفي معقبات احتمالان:
أحدهما: أن يكون جمع معقبة بمعنى معقب، والتاء للمبالغة كعلَّامة ونسَّابة؛ أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات ونسابات.
والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف كجمل وجمَّال وجمالات. اهـ.
﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾؛ أي: قدامه. ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾؛ أي: من ورائه.
﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمره وإعانته، و ﴿مِنْ﴾ بمعنى الباء السببية.
﴿فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾؛ أي: فلا ردَّ، فهو مصدر ميمي بمعنى الراد.
﴿مِنْ وَالٍ﴾؛ أي: ناصر فـ ﴿من﴾ زائدة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي؛ للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها.
ومنها: الدلالة على التفخيم بإدخال آل على الكتاب؛ أي: تلك آيات
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾؛ لأنه كناية عن تذليلهما لما يراد منهما؛ وهو انتفاع الخلق بهما حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ينوران لهم في الليل والنهار، ويدرآن الظلمات، ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ شبه إحداث ظلمة الليل في الجو الذي هو مكان الضوء بإغشاء الأغطية الحسية على الأشياء الظاهرة بجامع الستر في كل، فأطلق اسم الإغشاء والإلباس على ذلك الإحداث، فاشتق منه يغشي بمعنى يحدث على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿اثْنَيْنِ﴾؛ لأنه تأكيد لزوجين.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ لأن في الكلام حذفًا على ما قيل؛ أي: قطع متجاورات وغير متجاورات كما في قوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد.
ومنها: الاستفهام الإنكاري المفيد لكمال الاستبعاد في قوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا﴾.
ومنها: تكرير الهمزة في قوله: ﴿لَفِي خَلْقٍ﴾: لتأكيد الإنكار بالبعث.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾، وفي قوله: ﴿أَإِنَّا﴾.
ومنها: تقديم الظرف في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ﴾، وقوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ لأن توسيط ضمير الفصل وتقديم ﴿فِيهَا﴾ يفيد الحصر؛ أي: هم الموصوفون بالخلود في النار لا غيرهم، وإن خلودهم إنما هو في النار لا في غيرها، فثبت أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، ذكره في "روح البيان".
ومنها: الطباق في قوله: ﴿تَغِيضُ﴾ و ﴿تَزْدَادُ﴾، وفي قوله: ﴿الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾، وفي قوله: ﴿أَسَرَّ﴾ و ﴿جَهَرَ﴾، وفي قوله: ﴿مُسْتَخْفٍ﴾ و ﴿وَسَارِبٌ﴾؛ لأن السارب الظاهر، وكلها من المحسنات البديعية اللفظية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) خوف عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم، فلا يدفعه أحد.. أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينًا، وتشبه العذاب والنقم حينًا آخر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن كل من في السماوات والأرض خاضع لقدرته منقاد لإرادته بالغدو والآصال، وفي كل وقت وحين، طوعًا أو
قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ضرب مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر.. ضرب مثلين للحق في ثباته وبقائه، وللباطل في اضمحلاله وفنائه، ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء، وما أعد لكل منهما يوم القيامة، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعي تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم والعقل الراجح والفكر الثاقب.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) النسائي والبزار عن أنس - رضي الله عنه - قال بعث رسول الله - ﷺ - رجلًا من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تعالى فقال: إيش ربك الذي تدعوني إليه؟ أمن حديد، أم من نحاس، أو من فضة، أو من ذهب؟ فأتى النبي - ﷺ -، فأخبره فأعاد الثانية والثالثة، فأرسل الله عليه صاعقة، فأحرقته، ونزل هذه الآية: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ...﴾ إلى آخرها.
وروي في أسباب نزولها: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله - ﷺ - بالمدينة، وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر، فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله: أما والله لأملأنها عليك خيلًا جردًا، ورجالًا مردًا، فقال له رسول الله: "يأبى الله عليك وابنا قيلة" - الأنصار من الأوس والخزرج - ثم أنهما همّا بالفتك برسول الله - ﷺ -، فجعل أحدهما يخاطبه، والآخر
التفسير وأوجه القراءة
١٢ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ أيها الكفار المكذبون لرسولنا، وهو لمعان يظهر من خلال السحاب، وأسند (١) الإراءة إلى ذاته؛ لأنه الخالق في الأبصار نورًا يحصل به الرؤية للخلائق حالة كونكم ﴿خَوْفًا﴾؛ أي: خائفين (٢) من وقوع الصواعق، وخراب البيوت بالمطر ﴿و﴾ حالة كونكم ﴿وَطَمَعًا﴾؛ أي: طامعين في نزول الغيث وحصول بركته، أو حالة كون البرق ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له في نفع كالحراث. فإن (٣) المطر يكون لبعض الأشياء ضررًا ولبعضها رحمة، فيخاف منه المسافر ومن في خزينته التمر والزبيب، ومن له بيت لا يكف المطر، ويطمع فيه المقيم وأهل الزرع والبساتين، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر، فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل، وبالمطر يحصل الوطر.
والمعنى: أنه (٤) سبحانه وتعالى يسخر البرق، فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن في جرينه التمر والزبيب للتجفيف، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقي زرعه، وهكذا حال كل شيء في الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه في أوانه، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه ﴿و﴾ هو الإله الذي ﴿يُنْشِئُ﴾؛ أي: يخلق ويوجد ﴿السَّحَابَ﴾ ويرفع الغمام المنسحب في الجو؛ أي: يبتدىء إنشاء السحاب؛ أي: خلقه. وفيه دلالة على أن السحاب
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
والمعنى: وهو الذي يوجد السحاب منشأة جديدة ممتلئة ماء، فتكون ثقيلة قريبة من الأرض
١٣ - ﴿و﴾ هو سبحانه وتعالى الإله الذي ﴿يُسَبِّحُ الرَّعْدُ﴾؛ أي: يسبحه وينزهه، ويقدسه من النقائص، ملك الرعد حالة كونه ملتبسًا ﴿بِحَمْدِهِ﴾ سبحانه وتعالى. قيل: الرعد: اسم ملك موكل بالسحاب، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح، يسوق بصوته السحاب كما يسوق الحادي الإبل بحداثه، فإذا
(٢) روح البيان.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن اليهود سألت النبي - ﷺ - عن الرعد ما هو؟ فقال: "ملك من الملائكة موكل بالسحاب، ومعه مخاريق؛ أي: آلات من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله"، قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: "زجره السحاب" أخرجه الترمذي وغيره وصححه. وقيل: الرعد: صوت السحاب، وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى.
وعن ابن عباس (١) - رضي الله عنهما - أنه قال: من سمع صوت الرعد، فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابه صاعقة فعلى دينه، وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وكان يقول: إن الوعيد لأهل الأرض شديد.
وفي الحديث: "البرق والرعد وعيد لأهل الأرض، فإذا رأيتموه فكفّوا عن الحديث وعليكم بالاستغفار".
والخلاصة: أي أن (٢) في صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه عن الشريك والعجز، كما يدل صوت المسبح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير. ونحو الآية قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان رسول الله - ﷺ - إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول: "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك". وأخرج ابن مردويه عن أبي
(٢) المراغي.
﴿و﴾ هو سبحانه وتعالى الإله الذي تسبح جميع ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ الكرام ﴿مِنْ خِيفَتِهِ﴾؛ أي: من خوفه سبحانه وتعالى وهيبته وجلاله، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد والأنداد. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ معطوف على ﴿الرَّعْدُ﴾ عطف عام على خاص، وإنما (١) أفرد ﴿الرَّعْدُ﴾ بالذكر مع دخوله في ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ تشريفًا له على غيره من الملائكة، فهو كقوله: ﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل﴾؛ أي: ويسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وهيبته وجلاله، وذلك لأنه إذا سبح الرعد - وتسبيحه ما يسمع من صوته - لم يبق ملك إلا رفع صوته بالتسبيح، فينزل المطر والملائكة خائفون من الله تعالى، وليس خوفهم كخوف بني آدم، فإنه لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره، ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء أصلًا.
﴿وَ﴾ هو سبحانه وتعالى الإله الذي ﴿يُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ﴾ وينزلها من السماء ﴿فَيُصِيبُ بِهَا﴾؛ أي: بتلك الصواعق ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إصابته بها من عباده فيهلكه. والصواعق (٢) جمع صاعقة؛ وهي نار لا دخان لها تسقط من السماء وتتولد في السحاب، وهي أقوى نيران هذا العالم، فإنها إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان تحت البحر، والصاعقة تصيب المسلم وغيره ولا تصيب الذاكر. يقول الفقير: لعل وجهه أن الصاعقة عذاب عاجل، ولا يصيب إلا الغافل، وأما الذاكر فهو مع الله ورحمته، وبين الرحمة والغضب تباعد. وقولهم: تصيب المسلم - يشير إلى أن المصاب بالصاعقة على حاله من الإيمان والإسلام، ولا أثر لا فيه كما في اعتقاد بعض العوام.
(٢) روح البيان.
﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى ﴿شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾؛ أي: شديد (١) المماحلة والمكايدة والمعاقبة لأعدائه؛ أي: شديد الأخذ بالعقوبة يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابًا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه، ولا قوة على رده، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقضيه الحكمة كما صح في الحديث: "إن ربك لا يهمل ولكن يمهل" ومثل الآية قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾، وقوله: ﴿ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين﴾.
قال ابن جرير في تفسير ذلك (٢): والله شديد في عقوبة من طغى عليه، وعتا وتمادى في كفره؛ أي (٣): شديد المكر والكيد لأعدائه يهلكهم من حيث لا يحتسبون، من محل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف في استعمال الحيلة واجتهد فيه، فالجملة حال من الجلالة. وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ -، فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آيةً.. سلاه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوة، بل تخطوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء، وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول
(٢) الطبري.
(٣) روح البيان.
١٤ - ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾؛ أي: له سبحانه وتعالى لا لغيره، وتقديم (٢) الخبر لإفادة التخصيص، دعوة الحق؛ أي: الدعاء الحق على أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، والدعوة بمعنى العبادة، والحق بمعنى الحقيق اللائق الغير الباطل، والمعنى: إن الدعوة التي هي التضرع والعبادة قسمان: ما يكون حقًّا وصوابًا، وما يكون باطلًا وخطأ. فالتي تكون حقًّا منها مختصة به تعالى لا يشاركه فيها غيره، أو له الدعوة المجابة على أن يكون الحق بمعنى الثابت الغير الضائع الباطل، فإنه الذي يجيب لمن دعاه دون غيره. قال في "المدارك": المعنى: إن الله يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطي السائل الداعي سؤاله، فكانت دعوة ملابسة لكونه حقيقًا بأن يوجه إليه الدعاء بخلاف ما لا ينفع دعاؤه.
وعبارة الشوكاني هنا: إضافة (٣) الدعوة إلى الحق للملابسة؛ أي: الدعوة الملابسة للحق والصدق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه، كما يقال كلمة الحق، والمعنى: إن له تعالى دعوة مجابة واقعة في موقعها، لا كدعوة من دونه. وقيل: هو الله سبحانه وتعالى.
والمعنى: إن لله سبحانه دعوة المدعو الحق، وهو الذي يسمع فيجيب. وقيل: المراد بدعوة ها هنا: كلمة التوحيد والإخلاص والمعنى: لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له، وإنه شرعها وأمر بها. وقيل: دعوة الحق، دعاؤه سبحانه عند الخوف، فإنه لا يدعى فيه سواه، كما قال تعالى: ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾. وقيل: الدعوة: العبادة، فإن عبادة الله هي الحق والصدق انتهت. وفي هذا (٤)
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ مبتدأ، خبره جملة قوله: ﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾؛ أي: والأصنام الذين يدعوهم المشركون ويتضرعون إليهم من دونه تعالى متجاوزين إليهم، فحذف العائد، أو والكفار الذين يدعون الأصنام من دونه تعالى، فحذف المفعول لا يجيبونهم؛ أي: لا يجيب الأصنام. وعبر عن الأصنام بضمير العقلاء؛ لمعاملتهم إياها معاملة العقلاء؛ أي: لا تجيب الأصنام لداعيها بشيء مما يريدونه من نفع أو ضر. والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ﴾ استثناء مفرغ من عام المصدر؛ أي: لا يستجيبونهم استجابةً إلا استجابةً مثل استجابة الماء لمن يبسط ويمد يديه إليه ﴿لِيَبْلُغَ﴾ الماء ﴿فَاهُ﴾؛ أي: يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ليصل إلى فمه ﴿وَمَا هُوَ﴾؛ أي: الماء ﴿بِبَالِغِهِ﴾؛ أي: ببالغ فيه؛ لأنه جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فيه، وكذا ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم، ففي الكلام تشبيه مركب تمثيلي، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
والمعنى: أنه تعالى شبه من يعبد الأصنام بالرجل العطشان الذي يرى الماء بعينه من بعيد، فهو يشير بكفيه إلى الماء ويدعو بلسانه، فلا يأتيه أبدًا، هذا معنى قول مجاهد - وعن عطاء: كالعطشان الجالس على شفير البئر، فلا يبلغ إلى قعر البئر ليجر الماء ولا الماء يرتفع إليه، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء، ودعاؤه له، ولا هو يبلغه. اهـ "خازن".
﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ لأصنامهم ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: إلا (١) في ضياع وخسار وبطلان؛ لأن الآلهة لا تقدر على إجابتهم، وأما دعاؤهم له تعالى فالمذهب جواز استجابته، وقد أجاب الله دعاء إبليس وغيره، ألا ترى أن فرعون كان يدعو الله في مكانٍ خال عند نقصان النيل فيستجيب الله دعاؤه ويمده، فإذا كان الله لا
١٥ - ثم بين عظيم قدرته تعالى، فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿يَسْجُدُ﴾ حقيقة بوضع الجبهة على الأرض ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الملائكة وأرواح الأنبياء والمؤمنين ﴿و﴾ من في ﴿الأرض﴾ من الملائكة والمؤمنين من الثقلين ﴿طَوْعًا﴾؛ أي: حالة كونهم طائعين مختارين في حالة السعة والرخاء ﴿و﴾ حالة كونهم ﴿كرها﴾؛ أي: كارهين حالة الشدة والضرورة. أو المعنى: والله يعبد من في السماوات ومن في الأرض من الملائكة وبعض المؤمنين من الثقلين حالة كونهم طائعين بسهولة ونشاط، وحالة كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين. وقوله: ﴿كَرْهًا﴾ راجع لمن ﴿فِى الْأَرْضِ﴾ فقط. ﴿و﴾ يسجد لله سبحانه وتعالى ﴿ظلالهم﴾؛ أي: ظلال من في السماوات والأرض بالعرض؛ أي: تبعًا لذي الظل؛ أي: ظلال من له ظل منهم، وهو الإنس لا الجن ولا الملك؛ إذ لا ظل لهما. ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾؛ أي: في البكر والعشايا، فالباء بمعنى في الظرفية متعلقة بـ ﴿يَسْجُدُ﴾، ويجوز أن يراد بالسجود معناه المجازي، وهو انقيادهم لأحداث ما أراده الله فيهم شاؤوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص، ونقلها من جانب إلى جانب، فالكل مذلل ومسخر تحت الأحكام والتقدير، والغدو: جمع غداة؛ وهي البكرة. والآصال: جمع أصيل؛ وهو العشي من حين زوال الشمس إلى غيبوبتها كما في "بحر العلوم". وقال في "الكواشي" وغيره الأصيل: ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ أي: يسجد في هذين الوقتين، والمراد بهما الدوام؛ لأن السجود سواء أريد به حقيقته، أو الانقياد والاستسلام لا اختصاص له بالوقتين، وتخصيصهما - مع أن انقياد الظلال
فصل
وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة. وقد سبق (٢) في آخر الأعراف ما يتعلق بسجدة التلاوة، فارجع إليه إن شئت. وأما سجدة الشكر؛ وهي أن يكبر ويخر ساجدًا مستقبل القبلة، فيحمده تعالى ويشكره، ويسبح ثم يكبر، فيرفع رأسه. وقال الشافعي: يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم كحدوث ولد، أو نصر على الأعداء ونحوه، وعند دفع نقمة كنجاة من عدو أو غرق ونحو ذلك. وعن أبي حنيفة ومالك: أن سجود الشكر مكروه، ولو خضع فتقرب لله تعالى بسجدة واحدة من غير سبب فالأرجح أنه حرام. قال النواوي: ومن هذا ما يفعله كثير من الجهلة الضالين من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعًا بكل حال، سواء كان إلى القبلة، أو لغيرها، وسواء قصد السجود لله، أو غفل، وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر كذا في الفتح القريب. وقرأ أبو مجلز: ﴿والإيصال﴾. قال ابن جنّي هو مصدر أصل؛ أي: دخل في الأصيل، كما تقول: أصبح؛ أي: دخل في الإصباح.
(٢) روح البيان.
وقيل (٢): لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه، وقال: أحب أنت، فأمره الله أن يجيبهم بقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾؛ أي: قل يا محمد الله خالقهما وربهما. وقيل: إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة؛ لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي - ﷺ - بقوله: ﴿اللَّهُ﴾، فكأنهم قالوا ذلك أيضًا، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله: ﴿قُلِ﴾ يا محمد للمشركين ﴿أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ وآلهة يعني الأصنام، فالهمزة فيه للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعلمتم أن ربهما هو الذي ينقاد لأمره من فيهما كافة، فاتخذتم من دونه تعالى أصنامًا ﴿أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ﴾ أولئك الأولياء ﴿لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾؛ أي: لا يستطيعون لأنفسهم جلب نفع إليها ولا دفع ضرر عنها، وإذا عجزوا عن جلب النفع إلى أنفسهم، ودفع الضرر عنها.. كانوا عن نفع الغير ودفع الضرر عنه أعجز، ومن هو كذلك، فكيف يعبد ويتخذ وليًّا وهذا تجهيل لهم وشهادة على غباوتهم وضلالتهم التي ليس بعدها ضلال. وفي "روح البيان" الهمزة (٣) للإنكار، والفاء للاستبعاد؛ أي: أبعد إقراركم هذا وعلمكم بأنه تعالى
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وخلاصة ذلك (١): أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم تتخذون من دونه أولياء هم غاية في العجز، وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببًا في الاعتراف بالوحدانية، وهو علمكم بذلك سببًا في إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾.
ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا للمشركين الذين يعبدون الأصنام، والمؤمنين الذين يعترفون بأن لا رب غيره ولا معبود سواه، وأمر رسوله - ﷺ - أن يقوله لهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾ في دينه وهو الكافر ﴿وَالْبَصِيرُ﴾ فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه، والثاني عالم بذلك، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ. والكلام على التشبيه (٢)؛ أي: فكما لا يستوي الأعمى والبصير في الحس، كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه، وقدرته مع الموحد العالم بذلك.
والمعنى: أي قل لهم (٣) مصوِّرًا سخيف آرائهم مفنِّدًا قبيح معتقداتهم: هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئًا ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل، والبصير الذي يهدي الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتبعه، ويعرف الهدى فيسلكه لا يستوي هو وإياكم، وأنتم لا تعرفون حقًّا ولا تبصرون رشدًا.
ثم ضرب مثلًا للكفر والإيمان بقوله: ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ﴾ و ﴿أَمْ﴾ هنا
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
أهْلٌ رَأوْنَا بِوَادِيْ | الفَقْرِ ذِيْ الأكَمِ |
و ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت بها، فقال: ﴿قُلِ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين مبيِّنًا لهم وجه الحق ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأجسام والأعراض، لا خالق غير الله فيشاركه في العبادة؛ أي: الله خالقكم وخالق أوثانكم، وخالق كل شيء مما يصح أن يكون
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْوَاحِدُ﴾؛ أي: الفرد الذي لا ثاني له ﴿الْقَهَّارُ﴾؛ أي: الغالب على كل شيء سواه، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع.
١٧ - ثم ضرب سبحانه مثلًا آخر للحق وذويه وللباطل ومنتحليه، فقال: ﴿أَنْزَلَ﴾ سبحانه ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من السحاب ﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا كثيرًا، والتنوين (١) فيه للتكثير أو للنوعية ﴿فَسَالَتْ﴾؛ أي: فجرت بذلك الماء ﴿أَوْدِيَةٌ﴾؛ أي: أنهار كثيرة ﴿بِقَدَرِهَا﴾؛ أي: بحسب مقدار تلك الأودية في الصغر والكبر، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع الوادي كثر الماء. والأودية جمع وادٍ كنادٍ وأندية، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. وفي قوله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ توسع؛ أي: سال ماؤها، ومعنى بقدرها؛ أي: بقدر مائها؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها.
وفي "روح البيان": ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ينحدر منها إلى السحاب، ومنه إلى الأرض، وهو رد لمن زعم أنه يأخذه من البحر ومن زعم أن المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء، فينعقد هناك من شدة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، وعن ابن (٢) عباس - رضي الله عنهما - أن تحت العرش بحرًا ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء الدنيا، ويوحي إلى السحاب أن غربله فيغربله، فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل
(٢) روح البيان.
شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر (١)؛ إذ نفع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب؛ إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ﴾؛ أي: حمل ورفع السيفُ الجاري في الوادي ﴿زَبَدًا﴾؛ أي: غشاء ﴿رَابِيًا﴾؛ أي: منتفخًا مرتفعًا فوق الماء طافيًا عليه. والزبد: اسم لكل ما علا وجه الماء من رغوة وغيرها، سواء حصل بالغليان والاضطراب أو بغيره، وهذا هو المثل الأول ضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر.
والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء، فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل.
والمعنى (٢): أي أنزل من السحاب مطرًا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها في الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدًا عاليًا مرتفعًا فوقه طافيًا عليه، وقد تم المثل الأول. ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني، فقال: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ خبر مقدم لقوله: زبد مثله، و ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُوقِدُونَ﴾، والإيقاد: جع النار تحت الشيء ليذوب، و ﴿فِي النَّارِ﴾ حال من الضمير في ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: ومما يوقد الناس عليه من جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد، حالة كونه ثابتًا في النار ليذوب ويخلص عن الخبث. وقوله: ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ مفعول لأجله؛ أي: لأجل طلب اتخاذ زينة من حليٍّ كالسوار والطوق، أو اتخاذ متاع كالأواني والقدور وغيرها من آلات الحرب والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال ﴿زَبَدٌ﴾؛ أي: وسخ وخبث ﴿مِثْلُهُ﴾؛ أي: مثل زبد الماء ووسخه في أن كلًّا منهما شيء من الأكدار، المعني؛ أي: وزبد مثل زبد السيل كائن وناشىء من الجواهر التي
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أي فأما الزبد الذي يعلو السيل.. فيذهب مرميًّا في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر، وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الحديد والنحاس والذهب والفضة يذهب ولا يرجع منه شيء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة.. فيمكث في الأرض، فالماء نشربه ونسقي به الأرض، فينبت جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان. والذهب والفضة نستعملهما في الحلي وصك النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها في متاعنا من الحرث والحصد، وفي المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
واعلم: أن وجه (٢) المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل، والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة: أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدًا رابيًا فوقه، وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة، فإنَّ أصله من المعادن التي تنبت في الأرض، فيخالطها التراب، فإذا أذيب صار
(٢) الشوكاني.
وقال الزجاج: مثلُ المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الذهب والفضة وسائر الجواهر؛ لأنها كلها تبقى منتفعًا بها. ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. اهـ.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الضرب العجيب ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: يبين الله أمثال الحق والباطل، فيجعلها في غاية الوضوح؛ أي: ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم، وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والكفر والإيمان نضرب لهم الأمثال، ونبين لهم الأشباه في كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى، فيسلكوها، وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا بين الناس كما قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به".
وروى أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم عن النار: هلم عن النار، فتغلبوني فتقتحمون فيها".
١٨ - ولما فرغ سبحانه وتعالى (٢) من بيان شأن كل من الحق والباطل في الحال والمآل وأتم البيان.. شرع يبين حال أهلهما مآلًا ترغيبًا فيهما، وترهيبًا وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير، وتنفيرًا عن سلوك طرق الباطل والشر، فقال: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ﴾؛ أي: للمؤمنين الذي أجابوا ربهم في الدنيا إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله ﴿الْحُسْنَى﴾؛ أي: المثوبة الحسنة في الآخرة والمنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة المقرونة بالإجلال؛ وهي الجنة، وسميت بذلك؛ لأنها في نهاية الحسن؛ أي: للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنصب؛ الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال والآية بمعنى قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)﴾.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ سبحانه وتعالى دعوته إلى التوحيد؛ أي: والأشقياء الذين لم يجيبوا دعوته تعالى إلى التوحيد على لسان رسوله - ﷺ -، ولم يطيعوه ولم يمتثلوا أوامره، ولم ينتهوا عما نهى عنه، وعاندوا الحق واستمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه. ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من
(٢) المراغي.
والحال: أن للذين لم يستجيبوا لربهم أنواعًا من العذاب:
الأول منها: أنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما في الأرض جميعًا ومثله معه فديةً لأنفسهم.. لفعلوا، ولو فادوا به.. لم يقبل منهم، فإن المحبوب أولًا لكل إنسان هو ذاته، وما سواها فيحبه لكونه وسيلةً إلى مصالحها، فإذا كان مالكًا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه؛ وفي هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم في ذلك اليوم ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.
والثاني منها: ما ذكره بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ المعاندون الذين لم يستجيبوا لربهم ﴿لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: قبيح الحساب وشديد المناقشة؛ فيناقشون على الجليل والفقير والحقير، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الحساب السيء، وهو أن يحاسب الرجل على كل ما عمل من الذنوب، ولا يغفر له شيء منه، والمناقشة في الحساب أن يستقصي فيه بحيث لا يترك منه شيء، يقال: ناقشه الحساب إذا عاسره فيه واستقصى فلم يترك قلبي، ولا كثيرًا. وفي الحديث: "من نوقش الحساب عذب". وقال النواوي: هذا لمن لم يحاسب نفسه في الدنيا، فيناقض بالصغيرة والكبيرة، فأما من تاب وحاسب نفسه.. فلا يناقش كما في "الفتح القريب" ذلك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرىء الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون
والثالث منها: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾؛ أي: مقرهم في الآخرة بعد المناقشة والحساب ﴿جَهَنَّمُ﴾؛ أي: نار جهنم. فإن قلت: هلا قيل: ومأواهم النار؟ قلت: لأن في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعًا، ويحتمل أن يكون جهنم هي أبعد النار قعرًا، من قولهم: بئر جهنم بعيدة القعر. قال بعضهم: جهنم: لفظ معرب، وكأنه في الفرس: جَهْ نم. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾؛ أي: وبئس المسكن مسكنهم في الآخرة، والمخصوص بالذم هي؛ أي: جهنم وقيل المهاد: الفراش، يعني: وبئس الفراش يفرش لهم في جنهم، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم، وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا في لذاتهم، فحقت عليهم كلمته ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾. ونزل في حمزة - رضي الله عنه - وأبي جهل كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -
١٩ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وأبي جهل بن هشام، فالأول هو حمزة أو عمار رضي الله عنهما، والثاني أبو جهل، وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصًا كما في "الخازن". والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري الاستبعادي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف كما هو مذهب الزمخشري، والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر، فمن يعلم ويصدق أن القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق كحمزة بن عبد المطلب أو عمار رضي الله عنهما كمن هو أعمى قلبه، فينكر القرآن كأبي جهل؛ أي: لا يستوي من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من عنده هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء، ومن لا يعلم ذلك فهو أعمى لا يهتدي إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرًا في ظلمات الجهل وغياهب الضلالة. قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء قوم كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله. اهـ.
والمعنى: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأن الأعمى لا يهتدي لرشد وربما وقع في
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: إنما يتعظ ذوو العقول السليمة الصحيحة، وهم الذين ينتفعون بالمواعظ والأذكار؛ أي: ما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها ويصل إلى لبها وسرها إلا أولو العقول السليمة والأفكار الرجيحة. والمعنى: لا يقبل نصح القرآن ولا يعمل به إلا ذوو العقول الصافية من معارضة الوهم.
الإعراب
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾: فعل ومفعولان؛ لأنه من رأى البصرية تعدى بالهمزة إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود إلى الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: حالان من الكاف في ﴿يُرِيكُمُ﴾؛ أي: حال كونكم خائفين وطامعين، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشري؛ لعدم اتحاد الفاعل يعني: أن فاعل الإراءة وهو الله تعالى غير فاعل الخوف والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل العلة، وهذا يمكن أن يجاب عنه بأن المفعول في قوة الفاعل، فإن معنى يريكم: يجعلكم رائين فتخافون وتطمعون. اهـ. "سمين". ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ﴾: فعل ومفعول. ﴿الثِّقَالَ﴾: صفة لـ ﴿السَّحَابَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرِيكُمُ﴾ على كونها صلة الموصول.
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)﴾.
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِحَمْدِهِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الصلة، والعائد ضمير ﴿بِحَمْدِهِ﴾. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾: معطوف على ﴿الرَّعْدُ﴾. ﴿مِنْ خِيفَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يسبح﴾ أيضًا. ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة.
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤)﴾.
﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والأصنام الذين يدعونهم. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾ أو حال من الضمير المحذوف. ﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿بِشَيْءٍ﴾: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من عام المصدر. ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله. ﴿إِلَى الْمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿باسط﴾ الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لا يستجيبون لهم استجابةً إلا استجابةً مثل استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه. ﴿لِيَبْلُغَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿يبلغ فاه﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود إلى ﴿الْمَاءِ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره؛ لبلوغ الماء فاه، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿باسط﴾. ﴿وَمَا﴾: (الواو): حالية. ﴿ما﴾: نافية، أو حجازية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، أو اسمها. ﴿بِبَالِغِهِ﴾: خبر المبتدأ، أو خبرها، والباء زائدة، والجملة الاسمية في محل
وفي "السمين": ﴿وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ في ﴿هو﴾ ثلاثة أوجه:
أحدما: أنه ضمير ﴿الْمَاءِ﴾، والهاء في ﴿بِبَالِغِهِ﴾ للفم؛ أي: وما الماء ببالغ فيه.
والثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في ﴿بِبَالِغِهِ﴾ لـ ﴿الْمَاءِ﴾؛ أي: وما الفم ببالغ الماء؛ إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال، فنسبة الفعل إلى كل واحد وعدمها صحيحان.
والثالث: أن يكون ﴿هُوَ﴾ ضمير ﴿الباسط﴾، والهاء في ﴿بِبَالِغِهِ﴾ لـ ﴿الْمَاءِ﴾؛ أي: وما باسط كفيه إلى الماء يبلغ الماء. اهـ. ﴿وَمَا﴾: (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿فِي ضَلَالٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْجُدُ﴾. ﴿يَسْجُدُ مَنْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾: حالان من ﴿مَن﴾ الموصولة، ولكنه في تأويل مشتق؛ أي: حالة كونهم طائعين وراضين بالسجود، وحال كونهم كارهين؛ أي: غير راضين به. ﴿وَظِلَالُهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿بِالْغُدُوِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْجُدُ﴾، والباء بمعنى في الظرفية. ﴿وَالْآصَالِ﴾: معطوف على ﴿الغدو﴾.
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام التقريري في محل الرفع خبر مقدم وجوبًا للزومها صدر الكلام. ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾،
﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري ﴿هَلْ﴾: حرف تحقيق بمعنى قد. ﴿تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ﴾: فعل وفاعل. ﴿وَالنُّورُ﴾: معطوف على ﴿الظُّلُمَاتُ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة.
فائدة: وقال في "الفتوحات": قوله: ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي﴾ هذه ﴿أَمْ﴾ المنقطعة، فتقدر ببل والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم، وقد تقدم ذلك محررًا وقد يتقوى بهذه الآية من يرى تقديرها ببل فقط بوقوع هل بعدها، فلو قدرناه ببل والهمزة.. لزم اجتماع حرفي معنى واحد، فنقدرها وحدها، ولقائل أن يقوله: لا نسلم أن ﴿هَلْ﴾ هذه استفهامية، بل هي بمعنى قد، وإليه ذهب جماعة، فقد ثبت مجيؤها بمعنى قد إن لم تجامعها الهمزة، كقوله تعالى: {هَلْ
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾.
﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿مَاءً﴾: مفعول به. ﴿فَسَالَتْ﴾: (الفاء): حرف عطف وتفريع. ﴿سالت أودية﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنزَلَ﴾. ﴿بِقَدَرِهَا﴾: متعلق بـ ﴿سالت﴾ أو صفة لـ ﴿أَوْدِيَةٌ﴾. ﴿فَاحْتَمَلَ﴾: (الفاء): حرف عطف وتفريع. ﴿احتمل السيل﴾ فعل وفاعل. ﴿زَبَدًا﴾؛ مفعول به. ﴿رَابِيًا﴾: صفة لـ ﴿زَبَدًا﴾، والجملة مفرعة معطوفة على جملة ﴿سالت﴾.
﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾.
﴿وَمِمَّا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿مما﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿يُوقِدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿فِي النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُوقِدُونَ﴾، أو حال من الضمير في ﴿عَلَيْهِ﴾. ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ﴾: مفعول لأجله، ومضاف إليه. ﴿أَوْ مَتَاعٍ﴾: معطوف على ﴿حِلْيَةٍ﴾. ﴿زَبَدٌ﴾: مبتدأ مؤخر.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْبَاطِلَ﴾: معطوف على ﴿الْحَقَّ﴾، والتقدير: يضرب الله الحق والباطل ويبينهما ضربًا مثل ضرب الأمور الأربعة: الماء والجوهر والزبدين، وتبيينًا مثل تبيينها، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿فَأَمَّا﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت الأمثال والأمور المذكورة، وأردت بيان عاقبتها.. فأقول لك أما، ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل. ﴿الزَّبَدُ﴾: مبتدأ. ﴿فَيَذْهَبُ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾، ﴿يذهب﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الزَّبَدُ﴾. ﴿جُفَاءً﴾: حال من ضمير الفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: جواب ﴿أما﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة أما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وأمَّا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَنْفَعُ النَّاسَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾. ﴿فَيَمْكُثُ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿يمكث﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الصلة. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والتقدير: ضربًا مثل هذا الضرب العجيب يضرب الله سبحانه وتعالى أمثال الحق والباطل ويبينها، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتأكيد جملة قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾.
﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ﴾.
﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿اسْتَجَابُوا﴾: فعل وفاعل صلة
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم للمبتدأ الثاني. ﴿سُوءُ الْحِسَابِ﴾: مبتدأ ثان مؤخر عن خبره، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول في محل الرفع خبر ثان لقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾. ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثالث لقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾. ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالذم المحذوف وجوبًا تقديره: وبئس المهاد هي؛ أي: جهنم، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر، ﴿من يعلم﴾: ﴿من﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله
التصريف ومفردات اللغة
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾: البرق (١): ما يرى من النور لامعًا خلال السحاب، من برق الشيء بريقًا إذا لمع.
﴿الرَّعْدُ﴾: هو الصوت المسموع خلال السحاب. وفي "المصباح": رعدت السماء رعدًا - من باب قتل - ورعودًا لاح منها الرعد. اهـ. وسببهما على ما بين في العلوم الطبيعية أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفتي الكهربائية حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما، فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوي شديد، فذلك النور هو البرق، والصوت هو الرعد الذي نشاء من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها.
﴿الصَّوَاعِقَ﴾: جمع صاعقة، وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية، والأرض بكهربائية أخرى، والهواء يفصل بينهما، فإذا قاربت السحب وجه
﴿السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ والسحاب (١) اسم جنس واحده سحابة، فلذلك وصف بالجمع، وهو الثقال جمع ثقيلة ككريمة وكرام.
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾: من المجادلة، وأصلها من الجدل، وهو شدة الخصومة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله كأن المجادلين يقتل كل منهما الآخر عن رأيه. ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾؛ أي: شديد المماحلة والمكايدة لأعدائه، يقال: محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك، وتمحل إذا تكلف في استعمال الحيلة، ولعل أصله المحل بمعنى القحط. وقيل (٢): فعال من المحال بمعنى القوة، فالميم أصلية. وقيل: أصله مفعل من الحول، أو الحيلة أُعل على غير قياس، ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال. اهـ. "بيضاوي". وقوله: وقيل مفعل؛ أي: والميم على هذا زائدة، وقوله: أعل على غير قياس؛ إذ القياس فيه صحة الواو كمحور ومرود ومقود؛ لأنا شرط قلب الواو ألفًا فتح ما قبلها. اهـ. "شهاب". وفي "القاموس" (٣): والمِحال - ككتاب - الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والعذاب والعقاب والعداوة، والمعادلة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، ومحل به - مثلث الحاء محلًا ومحالًا - كاده بسعاية إلى السلطان، وماحله مماحلةً ومِحالًا قاواه حتى يتبين أيهما أشد. اهـ.
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ من إضافة (٤) الموصوف لصفته؛ أي: الدعوة الحق المطابقة للواقع. اهـ. شيخنا.
﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ﴾؛ أي: لا يجيبون، فالسين والتاء زائدتان.
﴿وَظِلَالُهُمْ﴾ والظلال: جمع ظل؛ وهو الخيال الذي يظهر للجرم، فسجود (٥) الظلال ميلها من جانب إلى جانب بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، يقال: سجدت
(٢) البيضاوي.
(٣) القاموس.
(٤) الفتوحات.
(٥) القرطبي.
﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ والغدو: جمع غداة كقني جمع قناة، وهي البكرة أول النهار. والآصال: جمع أصيل، والأُصل: جمع أَصيل: وهو ما بين العصر إلى الغروب.
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ الأودية: جمع وادٍ؛ وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء، والفرجة بين الجبلين، وقد يراد به الماء الجاري فيه. قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلًا جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل، فجمع على أفعلة مثل: جريب وأجربة، كما أن فعيلًا حمل على فاعل فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر.
﴿بِقَدَرِهَا﴾؛ أي: بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرًا وكبرًا. قال الواحدي: والقدر: مبلغ الشيء، والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع كثر.
﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ﴾؛ أي: حما فافتعل هنا بمعنى المجرد. ﴿زَبَدًا رَابِيًا﴾ والزبد: ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالحبب، وما يعلو القدر عند غليانها، والرابي: العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه.
﴿يُوقِدُونَ عَلَيْهِ﴾ وفي "المصباح": وقدت النار وقدًا - من باب وعد - ووقودًا، والوَقود - بالفتح -: الحطب، وأوقدتها إيقادًا، ومنه على الاستعارة ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾؛ أي: كلما دبروا مكيدة وخديعة أبطلها، وتوقدت النار: اتقدت. والوَقَد - بفتحتين -: النار نفسها، والموقد: موضع الوقود مثل المجلس لموضع الجلوس، واستوقدت النار استوقدتها يتعدى ولا يتعدى. وفي "الخازن": الإيقاد: جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء المذوب. اهـ.
﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ﴾ والحلية (١): ما يعمل للنساء مما يُتزين به من الذهب
﴿جُفَاءً﴾ قال ابن (١) الأنباري: والجفا: المتفرق، يقال: جفأت الريح السحاب؛ أي: قطعته وفرَّقته، وقيل: الجفاء ما يرمي به السيل، ويقال: جفأت القدر بزبدها تجفأ من باب قطع، وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام وفي همزة جفاء وجهان:
أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة كما رأيت.
والثاني: أنها بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء، وفي نظر؛ لأن مادة جفا يجفو لا يليق معناها هنا، والأصل عدم الاشتراك. اهـ. "سمين". فالمراد بالجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه.
﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى﴾؛ أي: أجابوا في الدنيا إلى التوحيد، فالسين والتاء فيه زائدتان. والحسنى مؤنث الأحسن، كالفضلى مؤنث الأفضل، وهو صفة الموصوف محذوف؛ أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وسميت بذلك؛ لأنها في نهاية الحسن.
﴿لَافْتَدَوْا بِهِ﴾؛ أي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب.
﴿لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ﴾؛ أي: لهم الحساب السيء، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة، وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ قيل المراد بهؤلاء الملائكة أعوان ملك السحاب، جعل الله تعالى مع الملك الموكل بالسحاب المسمى بالرعد أعوانًا من الملائكة، وقيل: المراد جميع الملائكة، وهو أولى. اهـ. "خازن".
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ﴾ على قراءة ﴿والذين تدعون﴾ - بالتاء الفوقية - وحق العبارة لا يستجيبون لكم، وإن كانت هذه القراءة شاذة.
ومنها: التشبيه (١) المركب التمثيلي في قوله: ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ شبه حال الأصنام مع من دعاهم من المشركين؛ وهو عدم استجابتهم دعاء المشركين، وعدم فوز المشركين من دعائهم الأصنام شيئًا من الاستجابة والنفع بحال الماء الواقع بمرأى من العطشان الذي يبسط إليه كفيه يطلب منه أن يبلغ فاه وينفعه من احتراق كبده، ووجه الشبه عدم استطاعة المطلوب منه إجابة الدعاء، وخيبة الطالب عن نيل ما هو أحوج إليه من المطلوب، وهذا الوجه كما ترى منتزع من عدة أمور.
ومنها: إسناد السجود إلى الظلال في قوله: ﴿وَظِلَالُهُمْ﴾ تبعًا لصاحبها.
ومنها: الطباق بين الغدو والآصال في قوله: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ وفيه أيضًا إطلاق الطرفين وإرادة الكل.
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ وفيه أيضًا الجناس المغاير.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ لأن المعنى: هل يستوي من هو كالأعمى ومن هو كالبصير؛ أي: فكما (١) لا يستوي الأعمى والبصير في الحس، كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه وقدرته مع الموحد العالم بذلك. وكذا قوله: ﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ وارد (٢) على التشبيه أيضًا؛ أي: فكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي الشرك والإنكار والتوحيد والمعرفة. وقيل: فيه الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنه استعار لفظ الظلمات والنور للكفر والإيمان، وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل، والبصير للمؤمن العاقل.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾؛ أي: الله خالق السماوات والأرض.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ الآية. شبه تعالى الحق والباطل بتشبيه رائع يسمى التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه فيه منتزع من متعدد، فمثل الحق بالماء الصافي الذي يستقر في الأرض، والجوهر الصافي من المعادن الذي به ينتفع العباد، ومثل الباطل بالزبد والرغوة التي تظهر على وجه الماء، والخبث من الجوهر الذي لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ من إسناد ما للحال إلى المحل، كما يقال: جرى النهر، والأصل: جرت المياه في الأودية.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
ومنها: تعريف السيل في قوله: ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ﴾؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو ﴿فَسَالَتْ﴾، وهو لو ذكر لكان نكرةً، فلما أعيد... أعيد بلفظ التعريف، نحو رأيت رجلًا، فأكرمت الرجل. اهـ. "سمين".
ومنها: السلف والنشر المشوش في قوله: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ فإنه يرجع إلى الباطل الذي ذكر أخيرًا في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ وفي قوله: ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ فإنه راجع إلى الحق المذكور أولًا.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ فإن فيه تفخيمًا لشأن هذا التمثيل وتأكيدًا لقوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ شبه الجهل والكفر بالعمى بجامع عدم الاهتداء في كلٍّ، فاشتق من العمى بمعنى الجهل والكفر أعمى بمعنى الجاهل الكافر على سبيل الاستعارة التبعية.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)﴾ إلى قوله: ﴿فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ضرب الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه وسار في سبل الضلالة لا يلوي على شيء، ولا يقف لدى غاية.. بين أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحي الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أوصاف المتقين وما أعد لهم
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه، ولم يقر بوحدانيته، وأنكر نبوة محمد - ﷺ -؛ فهو ملعون في الدنيا ومعذب في الآخرة.. بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر، على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسَّع على الكافر استدراجًا، وضيَّق على المؤمن زيادةً في أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر في القرآن تردادها، وهي طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آيةً دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم في جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر طلبهم من رسوله - ﷺ - الآيات، كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهما من النبيين والمرسلين، وبين أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد الله هدايتهم، فلا يجديهم ذلك فتيلًا ولا قطميرًا.. ذكر هنا أن محمدًا ليس ببدع من الرسل، وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعًا، وأصبحوا معه كأمس الدابر، ولو أن كتابًا تسير به الجبال على أماكنها، أو تشقق به الأرض، فتجعل أنهارًا وعيونًا.. لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي: قال: قالوا للنبي - ﷺ -: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله - ﷺ -: إن كنت نبيًّا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها - إسمي الجبلين - هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سير بالقرآن الجبال، قطع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
وقال الزبير بن العوام (٢): قالت قريش لرسول الله - ﷺ -: ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، ويفجر لنا الأرض أنهارًا فنزرع، أو يحيي لنا موتانا فنكلمهم، أو يصير هذه الصخرة ذهبًا، فتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فقد كان للأنبياء آيات، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢٠ - ﴿الَّذِينَ﴾ الموصولات موصلاتها مبتدآت خبرها قوله الآتي: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى
(٢) المراغي.
والمعنى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾؛ أي: الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم في هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعًا من القرآن عناية بأمره واهتمامًا بشأنه ﴿وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾؛ أي: العهد الذي وثقوه وأكدوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل. وفي الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب".
٢١ - ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ﴾ مفعوله محذوف تقديره: ما أمرهم الله ﴿بِهِ﴾ من الإيمان والرحم وغيرهما، وقوله: ﴿أَنْ يُوصَلَ﴾ بدل من الضمير المجرور؛ أي: أمرهم بوصله، ومعنى وصل الإيمان (٢): أن يؤمنوا بجميع الكتب والرسل ولا يفرقوا بين أحد منهم. وفي "المراح" وصل ما أمر الله به (٣): هو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان
(٢) الخازن.
(٣) المراح.
وهذه الآية يندرج فيها أمور (١):
الأول: صلة الرحم، واختلف في حدّ الرحم التي يجب صلتها، فقيل: كل ذي رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات، وقيل: هو عام في كل ذي رحم محرمًا كان أو غير محرم، وارثًا كان أو غير وارث، وهذا القول هو الصواب. قال النواوي: وهذا أصحّ، والمحرم من لا يحل له نكاحها على التأبيد لحرمتها، فقولنا: على التأبيد احتراز عن أخت الزوجة، وقولنا: لحرمتها احتراز عن الملاعنة، فإن تحريمها ليس لحرمتها، بل للتغليظ.
والثاني: الإيمان بكل الأنبياء عليهم السلام، فقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض قطعٌ لما أمر الله به أن يوصل.
والثالث: موالاة المؤمنين، فإنه يستحب استحبابًا شديدًا زيارة الإخوان والصالحين والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي للزائر أن تكون زيارته على وجه لا يكرهون، وفي وقت يرتضون، فإن رأى أخاه يحب زيارته ويأنس به أكثر زيارته والجلوس عنده، وإن رآه منشغلًا بعبادة أو غيرها، أو رآه يحب الخلوة يقل زيارته حتى لا يشغله عن عمله، وكذا عائد المريض لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يأنس به المريض، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة كما مر آنفًا.
واعلم (٢): أن قطع الرحم حرام، والصلة واجبة، ومعناها: التفقد بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل، وعدم النسيان، وأقله التسليم وإرسال السلام والمكتوب، ولا توقيت فيها في الشرع، بل العبرة بالعرف والعادة كذا في "شرح الطريقة" وصلة الرحم سبب لزيادة الرزق. وزيادة العمر، وهي أسرع أثرًا كعقوق الوالدين، فإن العاق لهما لا يمهل في الأغلب، ولا تنزل الملائكة على قوم فيهم قاطع رحم.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في صلة الرحم وقطيعتها
عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: قال الله تبارك وتعالى: "أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، أو قال: "بتته". أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يُنْسَأ له في أثره، فليصل رحمه". أخرجه البخاري، صلة الرحم: ميرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم، وضدُّه: القطع.
(٢) روح البيان.
أحدهما: أن يبارك الله له في عمره، فكأنما قد زاد فيه.
والثاني: أن يزيده في عمره زيادة حقيقية، والله يفعل ما يشاء.
وعن جبير بن مطعم أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا يدخل الجنة قاطع". متفق عليه. زاد في رواية: قال سفيان: يعني قاطع رحم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ليس الواصل بالمكافىء، الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها". أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر". أخرجه الترمذي.
﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾؛ أي: وعيده عمومًا، والخشية (١): خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. والمعنى: إنهم يخشون ربهم خشيةً تحملهم على فعل المأمورات واجتناب المنهيات، ويخافونه خوف مهابة وإجلال. ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾؛ أي: استقصاءه خصوصًا، فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا؛ أي: ويخافون مناقشة ربهم إياهم في الحساب وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم، فهم لرهبتهم جادون في طاعته محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه، و ﴿سُوءَ الْحِسَابِ﴾؛ أي: شديده: وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش الحساب عذب، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا.
٢٢ - ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على ما تكرهه النفوس من أنواع المصائب ومخالفة الهوى من مشاق التكاليف؛ أي: والذين صبروا (٢) على فعل العبادات وعلى ثقل
(٢) المراح.
وإنما (١) قيد الصبر بقوله: ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾؛ لأن الصبر ينقسم إلى نوعين:
الأول: الصبر المذموم؛ وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل، وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر، فليس ذلك داخلًا تحت قوله: ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ لأنها لغير الله تعالى.
النوع الثاني: الصبر المحمود؛ وهو أن يكون الإنسان صابرًا لله تعالى راضيًا بما نزل به من الله طالبًا في ذلك الصبر ثواب الله محتسبًا أجره على الله، فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله: ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ يعني: صبروا على ما نزل بهم تعظيمًا لله تعالى، وطلبًا لرضوانه سبحانه، وجاءت (٢) الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصولين قبل بلفظ المضارع في قوله: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، وقيل: إن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائمًا، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين وما عطف عليهما؛ لأن حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها؛ ولذلك لم تأت صلة الصبر في القرآن إلا بصيغة الماضي؟ إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم.
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة؛ أي: داوموا على إقامتها؛ أي: أدوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله تعالى مع تمام أركانها
(٢) البحر المحيط.
وقال الحسن (٢): والمراد بهذا الإنفاق الزكاة المفروضة، فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة، فالأولى أن يؤديها سرًّا، وإن كان متهمًا بترك أداء الزكاة، فالأولى أن يؤديها علانية، وقيل: إن المراد بالسر: ما يخرج من الزكاة بنفسه، والمراد بالعلانية: ما يؤديه إلى الإمام، وقيل: المراد بالسر: صدقة التطوع، وبالعلانية: الزكاة الواجبة، وحَمْلُهُ على العموم أولى كما فسرنا ذلك آنفًا، وانتصابهما (٣) على الحال؛ أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين، أو على الظرف؛ أي: وقتي سر وعلانية، أو على المصدر؛ أي: إنفاق سر وعلانية كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
واعلم: أن الله تعالى أسند الإنفاق إليهم، وإعطاء الرزق إلى ذاته تعالى، تنبيهًا على أنهم أمناء الله فيما أعطاهم ووكلاؤه، والوكيل دخيل في التصرف لا أصيل، فينبغي له أن يلاحظ جانب الموكل لا جانب نفسه ولا جانب الخلق، وقد قالوا: من طمع في شكر أو ثناء فهو بياع لا جواد؛ لأنه اشترى المدح بماله، والمدح لذيذ مقصود في نفسه، والجود. هو بذل الشيء من غير غرض. ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ أي: يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه، كما في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء، أو يدفعون الشر بالخير، أو المنكر بالمعروف، أو الظلم بالعفو، أو
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
قال عبد الله بن المبارك (١): هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية.
قلت: إنما هي تسع خلال، فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الخلال من أعمال البر.. ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية في الشرف والكمال هم الذين ﴿لَهُمْ﴾ ﴿عُقْبَى الدَّارِ﴾؛ أي: العقبى الحسنة والمرجع الحسن والمسكن الطيب في الدار الآخرة، وسميت الدار الآخرة عقبى؛ لأنها عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. والعقبى: مصدر (٢) كالعاقبة، والمراد بالدار الدنيا وعقباها الجنة، وقيل: المراد بالدار: الدار الآخرة وعقباها الجنة للمطيعين، والنار للعاصين.
٢٣ - ثم بين هذه العقبى، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ بدل من ﴿عُقْبَى الدَّارِ﴾؛ أي: لهم جنات عدن، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: تلك العقبى هي جنات عدن وإقامة مؤبدة، والعدن: أصله الإقامة، ثم صار علمًا لجنة من الجنان، ولكن المراد به هنا المعنى العام، وجملة قوله: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ صفة لـ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾؛ أي: تلك العقبى جنات عدن يدخلونها؛ أي: يدخل هؤلاء الموصوفون بالصفات السابقة تلك الجنات، ويخلدون فيها لا يخرجون منها بعد الدخول أبدًا.
ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين، فقال: ﴿وَمَنْ صَلَحَ﴾ معطوف على الضمير المرفوع في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ وإنما ساغ للفصل بالضمير؛ أي: يدخل تلك الجنات هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة، ويدخلها معهم من صلح وآمن معهم كما آمنوا ﴿مِنْ آبَائِهِمْ﴾؛ أي: من أصولهم، وإن علوا ذكورًا كانوا أو إناثًا. قال في "بحر (٣) العلوم" وآبائهم: جمع أبوي كل
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحًا لتقرَّ بهم أعينهم، ويزدادوا سرورًا برؤيتهم حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم في الدنيا، فيشكرون الله على الخلاص منها. وفي الآية إيماء (١) إلى أنه في ذلك اليوم لا تجدي الأنساب إن لم يسعفها العمل الصالح، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم، فقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ من أبواب المنازل التي يسكنونها في قدر (٢) كل يوم وليلة ثلاث مرات بالهدايا وبشارات الرضا؛ أي: وتدخل عليهم الملائكة من ها هنا وهنا للتسليم عليهم والتهنئة بدخول الجنة والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والمرسلين.
٢٤ - وجملة قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ محكية لقول محذوف تقديره: أي: قائلين لهم سلام عليكم؛ أي: أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم ﴿بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ متعلق بـ ﴿عَلَيْكُمْ﴾، أو بمحذوف؛ أي: هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات وترك المحرمات وعلى المحن والمتاعب والآلام التي لاقيتموها في دار الحياة الدنيا ﴿فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾؛ أي: نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها، والمخصوص بالمدح الجنة؛ أي: فنعمت الجنة التي أعقبت وعوضت لكم عن الدار التي عملتم فيها هذه الأعمال الصالحة وهي دار الدنيا.
(٢) النسفي.
٢٥ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات.. ذكر بعده أحوال الأشقياء وما لهم من العقوبات، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ مبتدأ خبره قوله الآتي: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾؛ أي: والكفار الذين يخلفون عهد الله سبحانه وتعالى ويتركون وفاء عهده المأخوذ عليهم بالطاعة والإيمان ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾؛ أي: من بعد توكيد ذلك العهد بالإقرار والقبول في عالم الذر، وهو العهد الذي جرى بينهم؛ إذا أخرجهم من ظهر آدم وعاهدهم على التوحيد والعبودية، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾.
ونقضه (٢): إما بأن لا ينظروا فيه، فلا يمكنهم العمل بموجبه، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته، ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته. وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾؛ أي: من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾؛ أي: ويتركون وصل ما أمر الله سبحانه بوصله من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاؤوا بالحق، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وقطعوا الرحم وموالاة المؤمنين، وكانوا حربًا على المؤمنين وعونًا للكافرين، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين، كما جاء في الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"،
(٢) المراغي.
ولم يتعرض هنا لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة (١)؛ لدخولها في النقض والقطع ﴿وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ﴾ بظلمهم لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى، وبظلمهم لغيرهم بدعوتهم إلى الشرك وانتهاب أموالهم واغتصابها بلا حق، وتهييج الفتن بين المسلمين، وإثارة الحرب عليهم وإظهار العدوان لهم.
وفي الحديث (٢): "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" وهي إيقاع الناس في الاضطراب والاختلال والاختلاف والمحنة والبلية بلا فائدة دينية، وذلك حرام؛ لأنه فساد في الأرض وإضرار للمسلمين وزيغ وإلحاد في الدين.
فمن الفتنة أن يغري الناس على البغي والخروج على السلطان، وذلك لا يجوز وإن كان ظالمًا؛ لكونه فتنة وفسادًا في الأرض، وكذا معاونة المظلومين إذا أرادوا الخروج عليه، وكذا المعاونة له لكونه إعانة على الظلم، وذلك لا يجوز.
ومنها: أن يقول للناس ما لا تصل عقولهم إليه، وفي الحديث: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم". ومنها أن يذكر للناس ما لا يعرفه بكنهه ولا يقدر على استخراجه، فيوقعهم في الاختلاف والاختلال، والفتنة والبلية، كما هو شأن بعض الوعاظ في زماننا.
ومنها: أن يحكم أو يفتي بقول مهجور أو ضعيف أو قوي يعلم أن الناس لا يعلمون به، بل ينكرونه أو يتركون بسببه طاعة أخرى كمن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء: لا تجوز الصلاة بدون التجويد وهم لا يقدرون على التجويد، فيتركون الصلاة رأسًا، وهي جائزة عند البعض، وإن كان ضعيفًا فالعمل به واجب.
وكمن يقول للناس: لا يجوز البيع والشراء والاستقراض بالدراهم والدنانير
(٢) روح البيان.
ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسوا به أنفسهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات الذميمة ﴿لَهُمُ﴾ بسبب تلك الصفات المذكورة ﴿اللَّعْنَةُ﴾ في الآخرة؛ أي: الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى ورضوانه ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾؛ أي: الدار السيئة القبيحة، وهي جهنم دار البوار جزاء وفاقًا لما اجترحوه من السيئات وأتوا به من الشرور والآثام، فاللعنة وسوء العاقبة لاصقان بهم لا يعدوانهم إلى غيرهم، وفيه تنفير للمسلمين عن هذه الخصال الثلاث، وأن لا ترفع همتهم حول ذلك الحمى.
٢٦ - ولما كان (١) كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى وحده هو الذي ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسعه في الدنيا ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ بسطه وتوسيعه عليه ﴿وَيَقْدِرُ﴾؛ أي: يضيق الرزق على من يشاء من عباده، ويعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء. كأنه قيل (٢): لو كان من نقض عهد الله ملعونين في الدنيا ومعذبين في الآخرة.. لِمَ فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا. فقيل: إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو متعلق بمجرد مشيئة الله، فقد يضيق على المؤمن امتحانًا لصبره
(٢) روح البيان.
والمعنى: الله (١) سبحانه وتعالى يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق في جمع المال وله من الحيلة في الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان ولا كفر، ولا صلاح ومعصية، ويقدر على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة، وليس بالحُوَّل (٢) القُلَّب في استنباط أسبابه ووسائله، وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البر والفاجر، كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.
ثم ذكر أن مشركي مكة بطروا بغناهم، فقال: ﴿وَفَرِحُوا﴾؛ أي: وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق من مشركي مكة وغيرهم ﴿بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: ببسط الرزق عليهم في الحياة الدنيا، وعدوه أكبر متاع لهم، وأعظم حظوة عند الناس. والفرح (٣): لذة في القلب لنيل المشتهى؛ أي: فرحوا بها فرح بطر وأشر، لا فرح شكر وسرور بفضل الله وأنعامه عليهم. وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام. قال في "شرح الحكم" عند قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ إنما لم يؤمر العبد برفض الفرح جملة؛ لأن ذلك من ضرورات البشر التي لا يمكن رفعها، بل ينبغي صرفها للوجه اللائق بها، وكذا جميع الأخلاق كالطمع والبخل والحرص والشهوة والغضب لا يمكن تبدلها، بل يصح أن تصرف إلى وجه لائق بها حتى لا تنصرف إلا فيه انتهى. وقيل: في هذه الآية تقديم
(٢) قوله بالحول القلب: الحُوَّل بوزن سُكَّر، أي: بصير بتحويل الأمور وتدبيرها وتقليبها وهو حُوَّل قُلَّب اهـ مختار.
(٣) روح البيان.
وأخرج الترمذي عن المستورد قال (٢): قال رسول الله - ﷺ -: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع"، وأشار بالسبابة.
وأخرج الترمذي عن ابن مسعود وصححه قال: نام رسول الله - ﷺ - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال: "ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
قال في "الحكم العطائية" (٣): إن أردت أن لا تعزل، فلا تتول ولايةً لا تدوم لك، وكل ولايات الدنيا كذلك، وإن لم تعزل عنها بالحياة عزلت عنها بالممات، قال: وقد جعل الله الدنيا محلًا للأغيار ومعدنًا لوجود الأكدار تزهيدًا لك فيها حتى لا يمكنك استناد إليها ولا تعريج عليها. وقد قيل: إن الله تعالى
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
فغاية (١) متاع الدنيا أنها مثل القصعة والقدح والقدر ينتفع بها، ثم تذهب، والعاقل لا يفرح بما يفارقه عن قريب ويورثه حزنًا طويلًا، وإن حدثته نفسه بالفرح به يكذبها. قال الشاعر:
وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لاَ يَرَى مَا يَسُوْؤُهُ | فَلاَ يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدَا |
والمعنى (٢): أي ويقول الذي كفروا من أهل مكة هلَّا أنزل على محمَّد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين، كسقوط السماء عليهم كسفًا، أو تحويل الصفا ذهبًا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجًا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابرتهم قد ادعو أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان، أو التي لا تقبل شكًّا ولا جدلًا، ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له في هداية ولا ضلال، بل الأمر كله بيده، فقال: ﴿قل﴾ يا محمَّد لهؤلاء الكفرة المعاندين ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾
(٢) المراغي.
والمعنى (٢): أي إنه لا فائدة لكم في نزول الآيات إن لم يُرد الله تعالى هدايتكم، فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده، وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيىء لكم من أمره رشدًا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه؛ لتظفروا بالحسنى في الدارين.
والخلاصة: أن في القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها، وكان لكم فيه مرشدًا أيما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين في الضلالة لا تلوون على شيء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح؛ لسوء استعدادكم وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدي ولو جاءته كل آية كما قال: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾ وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)﴾.
٢٨ - أما (٣) من أقبلوا إلى الله وتأملوا في دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
وقيل (١): المراد بالذكر هنا الطاعة، وقيل: بوعد الله، وقيل: بذكر رحمته، وقيل: بذكر دلائله الدالة على توحيده. ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا من غفلتكم واعلموا أنه ﴿بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿تَطْمَئِنُّ﴾. وتستأنس ﴿اَلقُلُوبُ﴾؛ أي: قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها؛ أي: ألا بذكر الله وحده لا بغيره تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهي بمعنى قوله في الآية الأخرى: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
فإن قلت (٢): أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ والوجل استشعار الخوف وحصول الاضطراب، وهو ضد الطمأنينة، فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة، وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحدة؟
قلت: إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة إنما تكون عند ذكر الوعد والثواب، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه
(٢) الخازن.
٢٩ - ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم، فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الذين جمعوا بين الإيمان بالقلب والعمل الصالح بالجوارح، وهو مبتدأ خبره ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾؛ أي: لهم عند ربهم في الآخرة حالة طيبة وعيشة طيبة ومثوبة حسنى وفرح وسرور، وقيل: طوبى: شجرة في الجنة، وقيل: هي الجنة. ﴿و﴾ لهم ﴿حسن مآب﴾؛ أي: ولهم عند ربهم مآب حسن ومرجع حسن ومنقلب طيب ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهو الجنة.
وفي هذا من الترغيب في طاعته والتحذير من معصيته ومن شديد عقابه ما لا خفاء فيه.
وخلاصة ذلك: أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء في الحديث: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقرأ بكرة الأعرابي شذوذًا (٢): ﴿طِيبى﴾ - بكسر الطاء - لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنه فعلًا كحمر. وقرىء شذوذًا: ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ - بفتح النون ورفع مآب - فـ ﴿حسن﴾: فعل ماضٍ أصله، وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح، أو الذم، كما قالوا: حسن ذا أدبًا. وقرأ الجمهور: ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ بالرفع على أنه معطوف على ﴿طُوبَى﴾. وقرأ عيسى الثقفي بالنصب، وخرَّج ذلك ثعلب على أنه معطوف على ﴿طُوبَى﴾ وأنها في موضع نصب على المصدرية كسَقْيًا
(٢) البحر المحيط.
٣٠ - ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل إرسالنا الرسل إلى أممهم قبلك وإعطائنا إياهم كتبًا تتلى عليهم ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ وبعثناك يا محمَّد ﴿فِي أُمَّةٍ﴾؛ أي: إلى جماعة كثيرة. فـ ﴿فِي﴾ (١) هنا بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾. وفي "بحر العلوم" وإنما عدى الإرسال بـ ﴿فِي﴾ وحقه أن يعدى بإلى؛ لأن الأمة موضع الإرسال؛ أي: أرسلناك إلى أمة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت وتقدمت ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾؛ أي: من قبل هذه الأمة التي أرسلناك إليها، فالضمير عائد على أمة باعتبار لفظها ﴿أُمَمٌ﴾؛ أي: قد مضت من قبل هذه الأمة أمم كثيرة وقرون عديدة قد أرسلنا إليهم رسلنا من قبلك، فليس ببدع إرسالك إلى أمتك، فكيف ينكرون رسالتك، ثم علل الإرسال، فقال: ﴿لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: على أمتك، فالضمير راجع إلى ﴿أُمَّةٍ﴾ باعتبار معناها، ولو عاد إلى لفظها، لقال: لتتلو عليها؛ أي: أرسلناك إليهم لكي تقرأ على تلك الأمة الكتاب العظيم ﴿الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ وهو القرآن وما فيه من شرائع الإِسلام وتزينهم بحلية الإيمان، فإن المقصود (٢) من نزول القرآن هو العمل بما فيه، وتحصيل السيرة الحسنة لا التلاوة المحضة والاستماع المجرد، فالعامي المتعبد راجل سالك، والعالم المتهاون راكب نائم. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ حال من ﴿أُمَّةٍ﴾؛ أي: أرسلناك إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، والحال أنهم؛ أي: أن أمتك يكفرون وينكرون باللهِ الواسع الرحمة، ولا يعرفون قدر رحمته وإنعامه عليهم بإرسالك وإنزال الكتاب العظيم عليهم، والضمير في ﴿وَهُمْ﴾ عائد على ﴿أُمَّةٍ﴾ من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لكان التركيب: وهي تكفر بالرحمن. اهـ. "سمين".
والمعنى: أي كما (٣) أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلًا فكذبوهم، كذلك أرسلناك في هذه الأمة لتبليغهم رسالة الله إليهم، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وخلاصة ذلك: أننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك، وأعطيناهم كتبًا تتلى عليهم أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم، فلماذا يقترحون غيره ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾؛ أي: والحال أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه ووسعت كما شيء رحمته، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾.
وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتًا، أو أثبتوا له الشركاء. وروي أنَّ أبا جهل سمع النبي - ﷺ - وهو في الحجر يدعو ويقول "يا الله يا رحمن"، فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمدًا يدعو إلهين يدعو الله، ويدعو آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعني به: مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة؟ وهي بلدة في البادية، فنزلت هذه الآية. ﴿قُل﴾ لهم يا محمَّد ﴿هُوَ﴾؛ أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته ﴿رَبيِّ﴾؛ أي: خالقي ومتولي أموري. وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر بعد خبر؛ أي: هو جامع لهذين الوصفين من الربوبية والألوهية، فلا مستحق للعبادة سواه. ومعنى: ﴿لَاَ إلَهَ إلَّا هُوَ﴾ هو الواحد المختص بالإلهية، فلا يستحق العبادة له والإيمان به سواه.
والمعنى: قل لهم يا محمَّد إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقي ومتولي أمري ومبلغي مراتب الكمال، لا رب غيره ولا معبود سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله - ﷺ - زمن الحديبية حين صالح قريشًا كتب في الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، قال: "لا اكتبوا كما يريدون" اهـ.
﴿عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدت في جميع أموري، وإليه أسندت أمري في العصمة من شركم والنصرة عليكم ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى
وفي هذا (٢): بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطف سبيل؛ إذا أمر بها عليه السلام وهو منزه عن اقترات الذنوب، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر.
٣١ - ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا﴾؛ أي: ولو ثبت أن كتابًا من الكتب السماوية ﴿سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾؛ أي: نقلت بتلاوته عن أماكنها، وأذهبت عن وجه الأرض بقرائته عليها، كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام ﴿أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾؛ أي: أو شقت الأرض بتلاوته عليها، وجعلت أنهارًا وعيونًا، كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾؛ أي: أو كلم أحد به الموتى في قبورهم بأن أحياهم بقرائته عليهم، فتكلم معهم كما وقع لعيسى عليه السلام، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره: لو ثبت أمر من هذه الأمور الثلاثة لكتاب من الكتب السماوية لثبت لهذا الكتاب العظيم، ولهذا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله في الأنفس والآفاق، ولما اشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم في الدار الفانية والدار الباقية، واشتمل عليه من قوانين العمران التي تكون خيرًا لمتبعيها وفوزًا لسالكيها، ويجعل منهم خير أمة أخرجت للناس.
أو التقدير: لو ثبت أمر من هذه الأمور الثلاثة لكتاب من الكتب السماوية.. لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى،
(٢) المراغي.
خلاصة ذلك (١): لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة؛ لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدوه آية، واقترحوا غيره. ولا يخفى ما في هذا من تعظيم شأنه الكريم، ووصفهم بسخف العقل وسوء التدبير والرأي، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغي أن يؤبه لها ولا يلتفت إليها؛ لأنها صادرة عن التشهي والهوى والتمادي في الضلال، والمكابرة والعناد، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح، وتأمل في حقائقها، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار.
ويجوز أن يكون المعنى: لو أن كتابًا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة.. لما آمنوا به لفرط عنادهم وعلوهم في مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾.
﴿بَلْ لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْأَمْرُ﴾ الذي يدور (٢) عليه فلك الأكوان ﴿جَمِيعًا﴾ وجودًا وعدمًا إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، فله التصرف في كل شيء، وله القدرة على ما أراد، وهو قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك؛ لعلمه بأنه لا تنفعهم الآيات، وأن قلوبهم لا تلين بذلك، ولا يجدي هذا فائدة في إيمانهم.
والمعنى: بل مرجع الأمور كلها بيد الله تعالى ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ومن يضلل فلا هادي له، ومن يهد فما له من مضل. وهذه الجملة إضراب (٣) عن ما تضمنته لو من معنى النفي؛ أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له
(٢) المراح.
(٣) البيضاوي.
وحاصله: أن في معنى الآية قولين:
أحدهما: أن يئس بمعنى علم.
والقول الثاني: أنه من اليأس المعروف، وتقدير القولين ما تقدم. ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالرحمن وهم كفار مكة ﴿تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا﴾؛ أي: بسبب ما صنعوا وفعلوا من كفرهم وأفعالهم الخبيثة ﴿قَارِعَةٌ﴾؛ أي: داهية ومصيبة تقرعهم وتفجأهم، وتفزعهم من القتل والأسر والحرب والجدب. وأصل القرع: الضرب والصدع.
وتلخيصه (٢): ولا يزال كفار مكة معذبين بقارعة من البلايا والرزايا ﴿أَوْ تَحُلُّ﴾ القارعة؛ أي: تنزل ﴿قَرِيبًا﴾؛ أي: مكانًا قريبًا ﴿مِنْ دَارِهِمْ﴾ مكة فيفزعون فيها، ويقلعون ويتطاير عليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها، ويجوز أن يكون ﴿تَحُلُّ﴾ خطابًا للنبي - ﷺ -، فإنه حل بجيشه قريبًا من دارهم حيث حاصر أهل الطائف، وحيث حل بالحديبية في عامها. وقيل هذا وعيد للكفار على العموم، لا خصوص أهل مكة ﴿حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾؛ أي: حتى ينجز الله سبحانه وتعالى وعده الذي وعدك فيهم بظهورك عليهم وفتحك أرضهم وقهرك إياهم بالسيف
(٢) روح البيان.
وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري (٢)، وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره: وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو زيد المزني وعلي بن نديمة وعبد الله بن يزيد: ﴿أفلم يتبين﴾ من بينت كذا إذا عرفته وهه قراءة شاذة وليست متواترة، وتدل هذه القراءة الشاذة على أن معنى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب، وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول - ﷺ -. وقرأ مجاهد وابن جبير: ﴿أو يحل﴾ بالياء على الغيبة وهي قراءة شاذة أيضًا، واحتمل أن يكون عائدًا على معنى القارعة، وهو أوضح، راعى فيه التذكير؛ لأنها بمعنى البلاء أو العذاب، أو تكون الهاء في ﴿قَارِعَةٌ﴾ للمبالغة فهو بمعنى قارع، واحتمل أن يكون عائدًا على الرسول - ﷺ -؛ أي: أو يحل الرسول قريبًا. وقرىء شذوذًا أيضًا: ﴿من ديارهم﴾ بالجمع وهي واضحة.
الإعراب
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ مع ما عطف عليه: مبتدأ أول، خبره جملة قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، أو بدل من ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، أو نعت له، وجملة قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾: مستأنفة. ﴿يُوفُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة
(٢) البحر المحيط.
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول معطوف على الموصول الأول. ﴿يَصِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿أَمَرَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، ومفعوله محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُوصَلَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من ضمير به، والتقدير: والذين يصلون ما أمر الله بوصله. ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَصِلُونَ﴾. ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَصِلُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾: يجوز أن يكون مفعولًا له، وهو الظاهر، وأن يكون حالًا؛ أي: مبتغين، والمصدر مضاف لمفعوله. اهـ. "سمين". ولكن الكلام على حذف مضاف؛ أي: ابتغاء ثوابه ورضاه. ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿صَبَرُوا﴾. ﴿وَأَنْفَقُوا﴾: فعل وفاعل معطوف ﴿صَبَرُوا﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْفَقُوا﴾. ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف الذي قدرناه آنفًا. ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾: حالان من فاعل ﴿وَأَنْفَقُوا﴾، ولكنه على تأويله بالمشتق تقديره: وأنفقوا حالة كونهم مسرين ومعلنين، أو على المصدرية؛ أي: إنفاق سر وعلانية، أو على الظرفية؛ أي: وقتي سر وعلانية. ذكره في "روح البيان" كما تقدم. ﴿وَيَدْرَءُونَ﴾: فعل وفاعل
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)﴾.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي جنات عدن، والجملة في محل الرفع بدل من ﴿عُقْبَى الدَّارِ﴾، أو عطف بيان منه. ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّاتُ﴾، ولكنها سببية. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ للمعية ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على المرفوع في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾، وإنما ساغ العطف بلا توكيد، لوجود الفصل بالضمير المنصوب. ﴿صَلَحَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ آبَائِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿صَلَحَ﴾. ﴿وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾: معطوفان على ﴿آبَائِهِمْ﴾. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾: مبتدأ. ﴿يَدْخُلُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، وكذا قوله: ﴿مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾: يتعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو الجملة الاسمية مستأنفة.
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)﴾.
﴿سَلَامٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل ﴿يَدْخُلُونَ﴾، والتقدير: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب حالة كونهم قائلين: سلام عليكم. ﴿بِمَا﴾: (الباء): حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية: ﴿صَبَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بسبب صبركم في الدنيا على مشاق
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر مبتدأ أول. ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَنْقُضُونَ﴾. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَنْقُضُونَ﴾. ﴿أَمَرَ الله﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿أَنْ يُوصَلَ﴾: ناصب وفعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من الضمير المجرور. ﴿وَيُفْسِدُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَنْقُضُونَ﴾. ﴿في الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم لما بعده. ﴿اللَّعْنَةُ﴾: مبتدأ ثالث، والجملة من المبتدأ الثالث في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول معطوفة على جملة قوله: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾: ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على جملة قوله: ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾.
﴿الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (٢٦)﴾.
﴿الله﴾: مبتدأ. ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره:
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧)﴾.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿آيَةٌ﴾: نانب فاعل. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾؛ أي: آية كائنة من ربه، والجملة من الفعل المغير ونائب فاعله في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللهَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُضِلُّ مَنْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهَ﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يشاء إضلاله. ﴿وَيَهْدِي﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُضِلُّ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهَ﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَهْدِي﴾. ﴿أَنَابَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)﴾.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿طُوبَى﴾: مبتدأ ثان، وجاز الابتداء به: إما لأنه علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل له. اهـ. "سمين". ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر للمبتدأ الثاني. ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾: معطوف على ﴿طُوبَى﴾، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة.
﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿في أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور متعلق به، والتقدير: أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالًا مثل إرسالنا الرسل السالفة إلى أممهم، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتْ﴾: فعل ماض. ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿أُمَمٌ﴾: فاعل ﴿خَلَتْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿أُمَّةٍ﴾، ولكنها صفة سببية. ﴿لِتَتْلُوَ﴾: (اللام): حرف جر وتعليل. ﴿تَتْلُوَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة؛ لأنه فعل معتل الواو، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿تَتْلُوَ﴾، وجملة ﴿تَتْلُوَ﴾: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لتلاوتك عليهم الذي أوحينا إليك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾.
﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ رَبِّي﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هُوَ رَبِّي﴾: مبتدأ وخبر أول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسم ﴿لَا﴾، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف جوازًا تقديره: موجود. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿تَوَكَّلْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثالث للمبتدأ، أو مستأنفة. ﴿وَإِلَيْهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَتَابِ﴾: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة مناسبة لياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾.
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
﴿وَلَوْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿قُرْآنًا﴾: اسمها. ﴿سُيِّرَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿الْجِبَالُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾. ﴿أَوْ قُطِّعَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿الْأَرْضُ﴾: نائب فاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿سُيِّرَتْ﴾. ﴿أَوْ كُلِّمَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بِهِ﴾: متعلق به. ﴿الْمَوْتَى﴾: نائب فاعل والجملة معطوفة على
﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿تُصِيبُهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿بِمَا﴾: (الباء): حرف جر وسبب. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿صَنَعُوا﴾: فعل وفاعل صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ (الباء) تقديره: تصيبهم بسبب صنعتهم القبيحة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُصِيبُهُمْ﴾. ﴿قَارِعَةٌ﴾: فاعل ﴿تُصِيب﴾، وجملة
التصريف ومفردات اللغة
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠)﴾ والفرق بين العهد والميثاق أن العهد (١): جميع ما عهد الله عليهم من أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده على ألسنة الرسل وفي الكتب السماوية، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه. والميثاق: هو ما أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ...﴾ الآية.
﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحساب﴾ قال أبو هلال العسكري (٢): الفرق بين الخوف والخشية أن الخوف: يتعلق بالمكروه نفسه وبمنزل المكروه، يقال: خفت زيدًا وخفت المرض، كما قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، وقال ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ والخشية: تتعلق بمنزل المكروه، فتقول: خشيت الله، ولا يسمى
(٢) روح البيان بزيادة.
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا﴾، والصبر: حبس النفس على أنواع البلايا والمصائب وعلى مخالفة الهوى بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
واعلم أن مواد الصبر كثيرة:
منها: الصبر على العمى، وفي الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - أي العينين، وسميتا بذلك؛ لأنهما أحب الأشياء إلى الشخص - فصبر على البلاء راضيًا بقضاء الله تعالى عوضته منهما الجنة" والأعمى: أول من يرى الله تعالى يوم القيامة.
ومنها: الصبر على الحمَّى وصداع الرأس وموت الأولاد والأحباب، وغير ذلك من أنواع الابتلاء.
ومنها: الصبر على الصوم، فإن فيه صبرًا على ما تكرهه النفس من حيث أنها مألوفة بالأكل والشرب والصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله عليه السلام: "الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان" ذكره في "روح البيان".
﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ والابتغاء: كناية عن الإخلاص، وهو إخلاص العمل للخالق عن ملاحظة المخلوق رياءً وسمعةً وعجبًا وزينةً.
﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾؛ أي: يدفعونها بها، فيجازون الإساءة بالإحسان، أو يتبعون السيئة بالحسنة، فتمحوها. اهـ."بيضاوي". وقوله: يدفعونها بها كدفع (١) شتم غيرهم بالكلام الحسن، وإعطاء من حرمهم، وعفو من ظلمهم، ووصف من قطعهم. اهـ. "زادة".
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ فيه ذكر الموصوف مع حذف صفته (٢)، والإضافة فيه
(٢) الفتوحات بتصرف.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ في "المصباح": عدن بالمكان عدنًا وعدونًا - من بابي ضرب وقعد - إذا أقام فيه، ومنه جنات عدن؛ أي: جنات إقامة، واسم المكان معدن، وزان مجلس؛ لأن أهله يقيمون عليه الصيف والشتاء، أو لأن الجوهر الذي خلقه الله فيه عدن ربه اهـ.
﴿وَأَزْوَاجِهِمْ﴾: جمع زوج، ويقال للمرأة الزوج والزوجة، والزوج أفصح.
﴿الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ يقال: قَدَر زيد إذا قتر وضيق على عياله، وفي "المصباح": وقدر الله الرزق يقدره من باب ضرب، ويقدره من باب نصر. وقرأ السبعة بكسر الدال فهو أفصح.
﴿إِلَّا مَتَاعٌ﴾؛ أي: متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء. وقيل: المتاع (١) واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما. وقيل: المعنى شيء قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع، فلا بد له من زوال. وقيل: زاد كزاد الركب يتزود به منها إلى الآخرة.
﴿قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾؛ أي: رجع عن العناد، وأقبل على الحق. وفي "القاموس": ناب إلى الله تعالى كأناب، والإضلال (٢) خلق الضلالة في العبد، والهداية خلق الاهتداء، والدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب مطلقًا، وقد يسند كل منهما إلى الغير مجازًا بطريق السبب، والقرآن ناطق بكلا المعنيين، فيسند الإضلال إلى الشيطان في مرتبة الشريعة، وإلى النفس في مرتبة الطريقة، إلى الله في مرتبة الحقيقة كذا ذكره في "روح البيان".
(٢) روح البيان.
﴿طُوبَى لَهُمْ﴾؛ أي: لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور، فهو مصدر من الطيب كبشرى ورجعى وزلفى، فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى. وقولنا: من الطيب فيه دلالة على أنه يائي، وأصله طيبى، قلبت الياء واوًا لوقوعها ساكنة إثر ضمة، كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر. اهـ. "شيخنا".
﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾، والمآب: المرجع والمنقلب.
﴿قَدْ خَلَتْ﴾؛ أي: مضت. ﴿مَتَابِ﴾؛ أي: توبتي ومرجعي. ﴿قُطِّعَتْ﴾؛ أي: شققت.
﴿يَيْأَسِ﴾؛ أي: يعلم، وهو لغة هوازن. وفي "المختار": واليأس: القنوط، وقد يئس من الشيء من باب فهم، وفيه لغة أخرى يئس ييئس - بالكسر فيهما -، وهو شاذ، ويئس أيضًا بمعنى علم في لغة النخع، ومنه قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. اهـ. وفيه أيضًا أيس من الأمر لغة في يئس، وبابهما فهم. اهـ
﴿قَارِعَةٌ﴾؛ أي: رزية تقرع القلوب وتفجؤها، أو تقرعهم؛ أي: تهلكهم وتستأصلهم. وفي "المختار": قرع الباب من باب قطع، والقارعة الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد في قوله: ﴿وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾؛ لأن عطفه على ما قبله من قبيل التوكيد، كما في "الجمل"؛ لأن عدم النقض يستلزمه الوفاء.
ومنها: الطباق بين ﴿سِرًّا﴾ ﴿وَعَلَانِيَةً﴾، وبين ﴿الْحَسَنَةِ﴾ و ﴿السَّيِّئَةَ﴾، وبين ﴿يَبْسُطُ﴾ و ﴿وَيَقْدِرُ﴾، وبين ﴿يُضِلُّ﴾ و ﴿وَيَهْدِي﴾ للتضاد بين كل من اللفظين منها، وبين ﴿الدُّنْيَا﴾ و ﴿الْآخِرَةِ﴾ أيضًا.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿إِلَّا مَتَاعُ﴾ لحذف الأداة ووجه الشبه فيه؛ أي: إلا مثل المتاع الذي يستمتع به الإنسان في الحاجات المؤقتة في سرعة الزوال.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾؛ لأن حق العبارة ألا به تطمئن، وفيه أيضًا التكرار.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ وفي قوله: ﴿إِلَّا مَتَاعُ﴾.
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ﴾ إفادة للتجدد والاستمرار؛ لأن الطمأنينة تتجدد بعد الإيمان حينًا بعد حين. اهـ. "شهاب". وفي الكرخي المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه الآية. اهـ.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما كان الكفار يسألون النبي - ﷺ - هذه الآية على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه، ويتأذى منه.. أنزل الله تسليةً له على سفاهة قومه قوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) ما أعده للكافرين من العذاب
وخلاصة الجواب: أن محمدًا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك في رسالاتهم، وكقولهم: إنه لو كان رسولًا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوض إلى الله، إن شاء أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه. وقولهم: إن ما يخوفنا من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد، فليس بنبي ولا صادق فيما يقول، فأجيبوا عن ذلك بقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾؛ أي: لكل حادث وقتًا معينًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدعون.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ...﴾ الآيات. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به، وطلبوا استعجال السيئة التي توعَّدهم بها، وكان - ﷺ - يتمنى وقوع بعض ما توعدوا؛ ليكون زاجرًا لغيرهم.. ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء، فعلينا حسابهم، وهل هم في شك من حصول ما توعدناهم به، وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها، وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم في خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال.
ثم بين أن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم، ولم
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ...﴾ قال الكلبي (١): عيرت اليهود رسول الله - ﷺ -، وقالت: ما نرى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيًّا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً...﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٣٢ - وقوله: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾.. إلخ. تسلية (٢) لرسول الله - ﷺ -، ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه بالآيات، والتنكير في ﴿رُسُلٍ﴾ للتكثير، والإملاء (٣): الإمهال، وأن يترك ملاوة من الزمان؛ أي: مدة طويلة منه في دعة وراحة وأمن كالبهيمة في المرعى؛ أي: وعزتي وجلالي لقد استحقر واستهين وأوذي وكذب برسل كثيرة من قبلك؛ أي: استهزأ بهم قومهم كما أن قومك يا محمَّد استهزؤوا؛ أي: إن (٤) يستهزىء بك هؤلاء المشركون من قومك، ويطلبوا منك الآيات تكذيبًا لما جئتهم به.. فاصبر على أذاهم، وامض لأمر ربك، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم. ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين، فقال: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: فأمهلت للمستهزئين الذين كفروا بالله وبرسله، وأطلت لهم مدة من الزمان في أمن وسعة وراحة؛ أي: فتركتهم ملاوة؛ أي: مدة من الزمان في أمن ودعة وراحة، كما يملي للبهيمة في المرعى ﴿ثُمَّ﴾ بعد الإملاء
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
والمعنى: كيف (٢) رأيت يا محمَّد ما صنعت بمن استهزأ برسلي، ولم ير النبي - ﷺ - عقوبتهم إلا أنه علم بالتحقيق، فكأنه رأى عيانًا. وفي "بحر العلوم": فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم، فتشاهدون أثر ذلك، وهذا تعجيب من شدة أخذه لهم؛ سلى رسول الله - ﷺ - عن استهزائهم به وأذاهم وتكذيبهم واقتراحهم الآيات بأن له في الأنبياء أسوة، وأن جزاء ما يفعلون به ينزل بهم كما نزل بالمستهزئين بالأنبياء جزاء ما فعلوا. وفيه إشارة إلى أن من أمارات الشقاء الاستهزاء بالأنبياء والأولياء.
والخلاصة (٣): أي ثم أحللت بهم عذابي ونقمتي حين تمادوا في غيهم وضلالهم، فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم، ألم أذقهم أليم العذاب، وأجعلهم عبرة لأولي الألباب؟ وقد صدق الله وعده ونصر رسوله على عدوه، فدخل في دين الله من دخل، ومن أبى قتل، ودانت العرب كلها له، وانضوت تحت لوائه، وحقت عليهم كلمة ربك.
٣٣ - وفي هذا: تعجيب مما حلّ بهم، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى. ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الحجاج عليهم، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، وكيف أنها وصلت إلى حدّ لا ينبغي لعاقلٍ أن يقبله ولا يرضى به، فقال: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري داخلة (٤) على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) الصاوي.
ومعنى القيام (٢): التولي لأمور خلقه والتدبير للأرزاق والآجال، وإحصاء الأعمال للجزاء، يقال: قام فلان بفلان إذا كفاه وتولاه.
والمعنى: أي أفمن هو (٣) قائم بحفظ أرزاق الخلق، ومتولي أمورهم، وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر، ولا يعزب عن شيء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرًّا ولا تجلب لهم نفعًا.
وخلاصة ذلك: أنه لا عجيب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأي العين كمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن اتخاذه ربًّا يُرجى نفعه أو يُخشى ضره.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ، فقال: ﴿قل﴾ لهم يا محمَّد ﴿سَمُّوهُمْ﴾ أي: بينوا (٣) شركاءكم بأسمائهم وصفوهم بصفاتهم، فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة، يشير إلى أن الأسماء مأخذها من الصفات، فإن لم تروا منهم شيئًا من صفات الله، فكيف تسمونهم!؟.
وفي هذا: تبكيت لهم وتوبيخ؛ لأنه إنما يقال هذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه، فيقال: سمه إن شئت يعني: أنه أحقر من أن يسمى. وقيل: إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون، فيكون ذلك تهديدًا لهم. وقيل: سموهم من هم وما أسماؤهم، فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، فإنما يسمى من ينفع ويضر.
و ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ﴾ منقطعة تقدر ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري؛
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
وخلاصة حجاجه على المشركين (٢): نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على أحقية عبادتها، فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ زاد ذلك إيضاحًا، فقال: وليتهم إذا أشركوا بربهم - الذي لا ينبغي أن يشرك به - أشركوا به من له حقيقة واعتبار، ومن ينفع ويضر، لا من لا اسم له فضلًا عن المسمى، بل من لا يعرف له وجود في الأرض ولا في السماء، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه، ثم زاد على ذلك، فقال: وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل، وما هي إلا أصوات جوفاء كثيرة المباني خالية عن المعاني، وما هي إلا كالألفاظ المهملة التي هي أجراس لا تدل على مكان، ولا يتكلم بها عاقل تنفرًا منها واستقباحًا.
(٢) المراغي.
وقرأ الحسن شاذًا (٣): ﴿تنبئونه﴾ من أنبأ. وقرأ مجاهد شذوذًا أيضًا: ﴿بل زَيَّن﴾ على البناء للفاعل ﴿مكرهم﴾ بالنصب. والجمهور: ﴿زُيِّنَ﴾ على البناء للمفعول ﴿مَكْرُهُمْ﴾ بالرفع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿وصدوا﴾ هنا وفي غافر بضم الصاد مبنيًّا للمفعول فالفعل متعدٍ. وقرأ باقي السبعة بفتحها فاحتمل التعدي واللزوم؛ أي: صدوا أنفسهم أو غيرهم، وقرأ ابن وثاب: ﴿وصِدوا﴾ - بكسر الصاد - وهي كقراءة ﴿رِدت إلينا﴾ - بكسر الراء -، كلاهما شاذ. وفي "اللوامح": نسب الكسائي لابن يعمر ﴿وصِدوا﴾ بالكسر لغة وأما في المؤمن فالبكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق شاذًا أيضًا: ﴿وصدٌ﴾ بالتنوين
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٣٤ - ثم بين سبحانه ما يستحقونه، فقال: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لهؤلاء المشركين ﴿عَذَابٌ﴾ شاق ﴿في﴾ هذه ﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: ولتعذيب الله سبحانه إياهم في الدار الآخرة ﴿أَشَقُّ﴾؛ أي: أشد من تعذيبه إياهم في الدنيا، وأصعب لشدته ودوامه. ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم، فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ﴾؛ أي: من عذابه ﴿مِنْ وَاقٍ﴾؛ أي: حافظ ومانع حتى لا يعذبوا، فـ ﴿مِنْ﴾ الثانية زائدة، والأولى متعلقة بـ ﴿وَاقٍ﴾؛ أي: وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره.
٣٥ - ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى.. ذكر ما أعده للمؤمنين، فقال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ مبتدأ خبره محذوف؛ أي: صفة الجنة والبساتين التي وعد الله بها المتقين بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له كائنة هي فيما قصصنا وقرأنا عليك يا محمَّد حالة كونها ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل؛ أي: مقدرًا جريان أنهارها تحتها؛ أي: صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل كائنة فيما نقصه ونتلوه ونقرؤه عليكم. وقوله: ﴿تَجْرِي﴾.. إلخ تفسير (٢) لذلك المحذوف، وقيل: إن قوله: ﴿تَجْرِي﴾ هو نفس الخبر. اهـ. من "البيضاوي". ووجه الأخير أن المثل هنا بمعنى الصفة، فهو كقولك: صفة زيد أنه طويل، ويجوز أن يكون ﴿تَجْرِي﴾ مستأنفًا. اهـ. من "السمين". وقرأ علي وابن مسعود: ﴿مثال الجنة﴾ على الجمع؛ أي: صفاتها وفي "اللوامح": علي السلمي: ﴿أمثال الجنة﴾ جمع: مثل ذكره أبو حيان وكلتا القراءتين شاذتان.
(٢) الفتوحات.
٣٦ - ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين: فئة فرحت بنزول القرآن، وفرقه أنكرته وكفرت ببعضه، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ﴾ وأعطيناهم ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة والإنجيل يريد المسلمين من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلًا: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة ﴿يَفْرَحُونَ﴾ ويسرون ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: بجميع ما أنزل إليك وهو القرآن كله؛ لأنه من فضل الله ورحمته على العباد، ولا شك أن المؤمن الموقن يسره ما جاء إليه من باب الفضل والإحسان، لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾. ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾؛ أي: ومن أحزابهم وجماعتهم الذين تحزبوا وتجمعوا واتفقوا على رسول الله - ﷺ - بالعداوة ككعب بن الأشرف وأتباعه، والسيد
فإن قلت: إن (١) الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله، فكيف قال: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾. ؟
قلتُ: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته؛ لأنه قد ورد فيه آيات دالة على توحيد الله وإثبات قدرته لا ينكرون ذلك أبدًا. والقول الثاني: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون كما مر فرحوا بالقرآن، لكونهم آمنوا به وصدقوه ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ يعني: بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين ﴿مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾. وقيل: كان ذكر الرحمن قليلًا في القرآن في الابتداء، فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظة الرحمن في القرآن.. فرحوا بذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ يعني: مشركي مكة ﴿مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ وذلك لما كتب رسول الله - ﷺ - كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي﴾ وإنما قال: ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن.
ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب في شأنه - ﷺ -.. بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين، فقال: ﴿قُل﴾ يا محمَّد في جواب المنكرين ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ﴾؛ أي: إنما أمرت (٢) فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وأوحده ولا أشرك به شيئًا، وهو العمدة في الدين، لا سبيل لكم إلى إنكاره،
(٢) روح البيان.
وقد اتفق (١) القراء على نصب ﴿وَلَا أُشْرِكَ بِهِ﴾ عطفًا على ﴿أَعْبُدَ﴾. وقرأ أبو خليد عن نافع: ﴿وَلَا أُشْرِكَ﴾ بالرفع على القطع؛ أي: وأنا لا أشرك به، وجوز أن يكون حالًا؛ أي: أن أعبد الله غير مشرك. والمعنى: أي (٢): قل لهم صادعًا بالحق، ولا تكترث بمن ينكره: إني أمرت فيما أنزل إلي بأن أعبد الله وحده، ولا أشرك به شيئًا سواه، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره، وأطبقت عليه الشرائع والكتب، كما قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾. وذلك ما دلت الدلائل التي في الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له، والاعتراف به، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته وإخلاص العبادة له وحده، لا إلى غيره ﴿أَدْعُو﴾ الناس أو أخصه بالدعاء والنداء إليه في جميع مهامي ﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده ﴿مَآبِ﴾؛ أي: مآبي ومرجعي ومصيري ومرجعكم للجزاء لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء، فأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم، فلا معنى لإنكار المخالف فيه.
وهذه الآية جامعة لشؤون النشأة الأولى والآخرة، فقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ﴾ توحي إلى ما جاء به التكليف، وقوله: ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو﴾ تشير إلى مهام الرسالة، وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة،
٣٧ - ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلًا بلغات أقوامهم، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: وكما أرسلنا من قبلك المرسلين
(٢) المراغي.
وروي أنه لما كان المشركون يدعونه - ﷺ - إلى اتباع ملة آبائهم المشركين، وكان اليهود يدعونه إلى الصلاة إلى قبلتهم؛ أي: بيت المقدس بعد ما حول عنها.. نزل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لئن اتبعت يا محمَّد أهواء هؤلاء الأحزاب من اليهود والمشركين التي يدعونك إليها لتقرير دينهم ابتغاء مرضاتهم، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم في شيء مما يعتقدونه جعل ما يدعونه إليه من الدين الباطل، والطريق الزائغ هوى، وهو ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد والاشتهاء من غير سند مقبول ودليل معقول؛ لكونه هوى محضًا. ﴿بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الذي علمه الله إياه والدين المعلوم صحته بالبراهين ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من عذابه ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يلي أمرك وينصرك ﴿وَلَا﴾ من ﴿وَاقٍ﴾ يفيك ويحفظك من عذابه، والخطاب لرسول الله - ﷺ - تعريضًا لأمته.
والمعنى (٣): أي ليس لك من دون الله ولي ولا ناصر ينصرك، فينقذك منه إن هو أراد عقابك، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك، فاحذر أن تتبع أهوائهم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٣٨ - ونزل لما عابت (١) اليهود رسول الله - ﷺ - بكثرة النساء، فقالوا: لو كان نبيًّا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا رسلًا بشرًا مثلك ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمَّد ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾؛ أي: نساء وأولاد كما هي لك، فإذا جاز ذلك في حقهم، فلم لا يجوز مثله أيضًا في حقك؟ وهو جواب لقول اليهود ما نرى لهذا الرجل همةً إلا في النساء والنكاح، ولو كان نبيًّا لاشتغل بالزهد والعبادة، وقد كان لمحمد - ﷺ - سبعة أولاد؛ أربع إناث، وثلاثة ذكور.
والمعنى: أي وكما أرسلناك رسولًا بشريًّا كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات ويولد لهم.
وفي "الصحيحين" أن رسول الله - ﷺ - قال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفية التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين، وناهيك بأم المؤمنين عائشة، وفيها يقول رسول الله - ﷺ -: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء". ومن ثمَّ كانت أكثر من حدّث عن رسول الله - ﷺ - بعد أبي هريرة، وأكثر من حدّث عن شمائله وأخلاقه في السر والعلن، ومنها علم المسلمون كثيرًا من أحكام دينهم، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا، وكانت تحاجهم وتجادلهم وتلزمهم الحجة، ولا يجدون معدلًا عن التسليم لرأيها.
وروي (٢): أنه كان لداود عليه السلام مئة امرأة منكوحة وثلاث مئة سرية،
(٢) روح البيان.
أي: وما (١) كان في وسع رسول من الرسل أن يأتي من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن في الإتيان بها حكمًا ومصالح لعباده، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر، وغناء لمن تفكر وتدبر، ولكنهم أبوا إلا التمادي في الغواية والضلال. والآيات المقترحة لا تأتي إلا على مقتضى الحكمة في أزمان يعلمها الله، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس، ولا صلاح فيما اقترحوه، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره، وأن يجعل له مهد ينام فيه، كذلك لا حكمة في إنزال الآيات التي اقترحوها، وهذا إيضاح قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ﴾ ووقت ﴿كِتَابٌ﴾؛ أي: حكم (٢) مكتوب مفروض فيه يليق بصلاح حال أهله، فإن الحكمة تقتضي اختلاف الأحكام على حسب اختلاف الأعصار والأمم، وهو جواب لقولهم: لو كان نبيًّا ما نسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل. وقال الشيخ في "تفسيره".. أي: لكل شيء قضاه الله تعالى وقت مكتوب معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه، أو لا يتقدم ولا يتأخر عنه. اهـ.
ففي الكلام تقديم وتأخير؛ أي: لكل (٣) كتاب أجل؛ أي: لكل أمر كتبه الله
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتبت أعماله ووضعت عماله في حجر معينة، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة في أوقات معينة، ولهم مناهج يتبعونها، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل، فالدنيا قد جعل الله لها نظامًا على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلق بها علمه، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب، وظهر النبات والحيوان، وتعاقب الموت والحياة، وظهرت نجوم وفنيت أخرى، ونبت زرع وحصد آخر، ومات نبي وقام آخر، وامتد دين وانتشر وتقلص دين ونسخ.
٣٩ - وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى، وذلك تابع لما في المنهج الأصلي، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها، كما ينسخ زرع بزرع وليل بنهار، وقوم بقوم ودين نبي بآخر في ميقاته المعين في علمه تعالى، وهذا ما عناه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ محوه ﴿وَيُثْبِتُ﴾ ما يشاء إثباته، فينسخ (١) ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما هو خير منه أو مثله، ويترك ما تقتضيه حكمته غير منسوخ، أو يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها.
١ - قال الحسن: يمحو الله أو جاء أجله، ويثبت أو بقي أجله.
٢ - وقال عكرمة والسدي: يمحو الله القمر ويثبت الشمس، كما قال تعالى: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾.
٣ - وقال الربيع: يقبض الله الأرواح بين النوم، فيميت أو يشاء ويمحوه، ويرجع من يشاء فيثبته.
٤ - وقال آخرون: يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ولا يبدله.
٥ - وقال آخرون: يمحو الله المحن والمصائب بالدعاء. وقيل: يمحو الآباء ويثبت الأبناء. وقيل: يمحو ما يشاء منو القرون، ويثبت ما يشاء منها. وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة.
وظاهر النظم القرآني (٢): العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وهذا القول أولى كما تفيده ما في قوله: ﴿مَا يَشَاءُ﴾ من العموم.
﴿وَعِنْدَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: أصله (٣) الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، وهو العلم الأزلي الأبدي السرمدي القائم بذاته، وقد أحاط بكل شيء علمًا بلا زيادة ولا نقصان، وكل شيء عنده بمقدار. وقيل: ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي: أصله (٤) وهو اللوح المحفوظ، فالمراد أو الآية أنه يمحو
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم (١): ﴿وَيُثْبِتُ﴾ مخففًا من أثبت، وباقي السبعة مثقلًا من ﴿ثَبَت﴾.
٤٠ - ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب في حياتك، والجواب محذوف تقديره: فذاك شافيك من أعدائك، ودليل على صدقك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾؛ أي: نقبضنك قبل أن نريك ذلك. وهذه الجملة شرط ثان لعطفه على الشرط قبله، وجوابه أيضًا محذوف تقديره: فلا تقصير منك ولا لوم عليك. وقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ تعليل لهذا المحذوف؛ أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم، والبلاغ اسم مصدر أقيم مقام التبليغ ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ لا عليك؛ أي: أن نحاسبهم يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم، فننتقم منهم أشد الانتقام، فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.
والمعنى: أي إن أريناك (٢) أيها الرسول في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين باللهِ من العقاب على كفرهم، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك لا طلب صلاحهم ولا فسادهم، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)﴾. وهذا تسلية من (٣) الله سبحانه وتعالى لرسوله - ﷺ - وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته.. فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك. والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أأنكر أولئك
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
والخلاصة: أي أشك (٣) أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات ولم يروا أنا نأتي الأرض، فنفتحها لك أرضًا بعد أرض، ونلحقها بدار الإِسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء، أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله ونذيرًا بما سيحل بهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة لو تدبروا، فما لهم عن التذكرة معرضين،
٤١ - ونحو الآية قوله: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ وقرأ الضحاك: ﴿ننقِّصها﴾ مثقلًا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم.
﴿وَاللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحْكُمُ﴾ في خلقه ما يشاء من الأزل إلى الأبد (٤)، فيرفع هذا ويضع هذا، ويحيي هذا ويميت هذا، ويغني هذا ويفقر هذا، وقد حكم بعزة الإِسلام وعلوه على الأديان. وجملة قوله: ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾؛ أي: لا لراد لحكمه في محل النصب على الحال؛ أي: والله يحكم حالة كونه نافذًا حكمه خاليًا عن المعارض والمناقض. ومعنى المعقب: الذي يعقب الشيء بالرد والإبطال.
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس، وذلك كائن لا يمكن تغييره. وقيل: جملة ﴿لَا﴾ معترضة. ﴿وَهُوَ﴾
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
٤٢ - ثم بين أن قومه ليسوا ببدع في الأمم، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فقال: ﴿وَقَدْ مَكَرَ﴾ الكفار ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل، فكادوهم وكفروا بهم، فنمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى كما مكر أولئك بك في دار الندوة حيث أرادوا قتلك، ثم دارت الدائرة على الظالمين وأهلك الله الظالمين. والمكر: إيصال المكروه للممكور به خفية من حيث لا يشعر.
وفي هذا تسلية لرسول الله - ﷺ - وتصبير بأن العاقبة له لا محالة حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم، وأن المكر كله لله، فقال: ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ﴾ لا اعتداد بمكر غيره، وهذا تعليل لمحذوف تقديره: فلا عبرة بمكرهم ولا تأثير له. ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره، فقال: ﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه ﴿مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ من خير وشر، فيجازيها على ذلك، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها.. كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم أو حيث لا يشعرون. وقال الواحدي: إن مكر الماكرين مخلوق، فلا يضر إلا بإرادته. اهـ. فإثباته لهم باعتبار الكسب، ونفيه عنهم باعتبار الخلق، فلا يَرد كيف أثبت لهم مكرًا ثم نفاه عنهم بقوله: ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾؛ وفيه تسلية للنبي - ﷺ - وأمان له من مكرهم. اهـ. "كرخي". ومكر الله سبحانه وتعالى صفة ثابتة له تعالى نثبته ولا نعطله، لا نمثله ولا نكيفه. وقيل: مكر (٢) الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.
والمعنى: يعلم (٣) سبحانه وتعالى ما تكسب كل نفس، فيعصم أولياءه
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (٢): ﴿الكافر﴾ بالإفراد والمراد به الجنس. وقرأ الباقون: ﴿الْكُفَّارُ﴾ بالجمع جمع تكسير، وابن مسعود شاذًا: ﴿الكافرون﴾ جمع سلامة. وأبي شاذًا أيضًا: ﴿الذين كفروا﴾. وقرأ جناح بن حبيش: ﴿وسيعلم الكفار﴾ مبنيًّا للمفعول من أعلم؛ أي: وسيخبر وهي شاذة أيضًا.
٤٣ - وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم على رسول الله - ﷺ - أسقف من اليمن، فقال له عليه السلام: "هل تجدني في الإنجيل رسولًا"؟ قال: لا، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ويقول المشركون أو جميع الكفار ﴿لَسْتَ﴾ يا محمد ﴿مُرْسَلًا﴾ من عند الله إلى الناس. أي: ويقول الجاحدون لنبوتك الكافرون برسالتك: لست مرسلًا من عند الله، أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان، وتصلح حال المجتمع البشري، وتمنع عنه الظلم والفساد، فأمر الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿كَفَى بِاللهِ﴾ سبحانه وتعالى من جهة كونه ﴿شَهِيدًا﴾؛ أي: شاهدًا ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ فهو يعلم صحة رسالتي وصدق دعوتي، ويعلم كذبكم.
أي: قل حسبي الله شاهدًا بتأييد رسالتي وصدق مقالتي؛ إذ أنزل علي هذا
(٢) البحر المحيط.
و ﴿مَنْ﴾ في قراءة (٢) الجمهور في موضع خفض عطفًا على لفظ ﴿الله﴾، أو موضع رفع عطفًا على موضع ﴿الله﴾؛ إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولًا، ونحو هذا مما يدل عليه لفظة ﴿شَهِيدًا﴾ ويراد بذلك الله تعالى. وقرىء شذوذًا (٣): ﴿بمن﴾ بدخول الباء على ﴿من﴾ عطفًا على ﴿بِاللهِ﴾. وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمر وابن أبي إسحاق ومجاهد والحكم والأعمش: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ بجعل ﴿من﴾ حرف جر وجر ما بعده به، وارتفاع ﴿علم﴾ بالابتداء، والجار والمجرور في موضع الخبر. وقرأ علي أيضًا وابن السميقع والحسن بخلاف عنه: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ بجعل ﴿من﴾ حرف جر، ﴿علِم الكتاب﴾ بجعل ﴿عُلِمَ﴾ فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و ﴿الكتاب﴾ رفع به. وقرىء شذوذًا أيضًا: ﴿ومِنْ عندِه﴾ بحرف جر، ﴿عُلِّم الكتاب﴾ مشددًا مبنيًّا
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
ولما (١) أمر الله سبحانه نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته، ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن، ولا يعلم العبد كون القرآن معجزًا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره.. بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله تعالى.
خلاصة ما في هذه السورة (٢)
ترى مما تقدم في تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية:
١ - إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السماوات والأرض، والجبال والأنهار، والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله، وهذا تفصيل لما أجمله في السورة قبلها من قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾.
٢ - إثبات البعث ويوم القيامة، والتعجب من إنكارهم له.
٣ - استعجالهم العذاب من الرسول - ﷺ -، وبيان أنه واقع بهم لا محالة، كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.
٤ - بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه، وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله.
٥ - ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابي.
٦ - بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم
(٢) المراغي.
٧ - بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون في الأرض، وبيان مآلهم.
٨ - إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله.
٩ - وصف الجنة التي وعد بها المتقون، وبيان أنها مآل المتقين، ومآل الكافرين النار وبئس القرار.
١٠ - بيان أن كثيرًا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن؛ إذ يرون فيه تصديقًا لما بين أيديهم من الكتاب.
١١ - بيان مهمة الرسول، وأن خلاصة ما جاء به عبادة الله وحده وعدم الشرك به، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر، وأن إليه تعالى المرجع والمآب.
١٢ - بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه؛ ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.
١٣ - تحذير الرسول - ﷺ - وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.
١٤ - أن جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان لهم أزواج وذرية.
١٥ - أن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا، وإنما هي بإذن الله وإرادته.
١٦ - بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هي محو وإثبات، وموت وحياة، فيزيل الله قومًا ويوجد آخرين، وكل ذلك محفوظ في علم الله الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
١٧ - أن مهمة الرسول إنما هي التبليغ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله تعالى، ولا يعني الرسول أن يحصل في زمنه أو بعد وفاته.
١٨ - أو انتقام الله من المكذبين قد بدأ حياة الرسول بقتل أعدائه
١٩ - أن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم، وكان النصر حليف المتقين، ونكل الله بالقوم الظالمين.
٢٠ - إلحاف الكافرين في إنكار رسالته - ﷺ -، مع أن الله تعالى شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته - ﷺ - في كتبهم وتبشيرها بها.
الإعراب
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾.
﴿وَلَقَدِ﴾ (الواو): استئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿اسْتُهْزِئَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بِرُسُلٍ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رُسُلٍ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿فَأَمْلَيْتُ﴾: ﴿الفاء﴾): عاطفة. ﴿أَمْلَيْتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتُهْزِئَ﴾. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿أَخَذْتُهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أمليت﴾. ﴿فَكَيْفَ﴾: (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت استهزاءهم بالرسل فإملائي لهم فأخذي إياهم.. فأقول لك يا محمد: كيف كان عقابي إياهم، هل هو واقع محله أم لا؟. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي مع التقريع لهم في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليه وجوبًا. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عِقَابِ﴾: اسمها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة الممنوعة بسكون الوقف: ﴿عِقَابِ﴾: مضاف وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ في الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾.
﴿بَل﴾: حرف ابتداء وإضراب. ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مَكْرُهُمْ﴾: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَصُدُّوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿زُيِّنَ﴾. ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾: متعلق به. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾): استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُضْلِلِ اللهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرطٍ لها، والرابط محذوف تقديره: ومن يضلله الله. ﴿فَمَا﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿ما﴾: تميمية أو حجازية. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ، أو لـ ﴿مَا﴾ الحجازية. ﴿مَنْ﴾ زائدة. ﴿هَادٍ﴾: مبتدأ مؤخر، أو اسم ﴿ما﴾ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿هادٍ﴾ بثبوت الياء وحذفها وقفًا سبعيتان، وفي الرسم محذوفة لا غير كالوصل.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.
﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فِي الْحَيَاة﴾: جار ومجرور صفة لعذاب الدنيا، صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾: (الواو): عاطفة. (اللام): حرف ابتداء، ﴿عَذَابُ الْآخِرَة﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿أَشَقُّ﴾: خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَمَا﴾: (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَاقٍ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿وَاقٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والتقدير: وما واقٍ أو عذاب الله كائن لهم، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾.
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿الْجَنَّةِ﴾. ﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف
﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: (الواو): استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان صلة الموصول. ﴿يَفْرَحُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَفْرَحُونَ﴾. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿أُمِرْتُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي. ﴿أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: إنما أمرت بعبادة الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أُمِرْتُ﴾. ﴿وَلَا أُشْرِكَ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿أَعْبُدَ﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والتقدير: أمرت بعبادة الله وعدم الإشراك به. ﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَدْعُوْ﴾. ﴿أَدْعُو﴾: فعل
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والتقدير: وأنزلنا هذا القرآن عليك إنزالًا مثل إنزالنا الكتب السالفة على الرسل المتقدمة عليك، والجملة مستأنفة. ﴿حُكْمًا﴾: حال موطئة من ضمير المفعول، ولكنه في تأويل حاكمًا. ﴿عَرَبِيًّا﴾: صفة لـ ﴿حُكْمًا﴾. ﴿وَلَئِنِ﴾: (الواو): اسئنافية، و (اللام): موطئة للقسم. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿بَعْدَمَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اتَّبَعْتَ﴾. ﴿جَاءَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾: حال من فاعل ﴿جَاءَكَ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَلِيٍّ﴾. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿وَلِيٍّ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَلَا وَاقٍ﴾: معطوف على ﴿وَلِيٍّ﴾ والتقدير: ما ولي ولا واق من الله كائن لك، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره، وإن اتبعت أهوائهم بعد ما جاءك من العلم.. فما لك من الله من ولي ولا واق، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾.
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يشاءه. ﴿وَيُثْبِتُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَمْحُو﴾. ﴿وَعِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿مَا﴾: زائدة. ﴿نُرِيَنَّكَ﴾: فعل مضارع ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بَعْضَ الَّذِي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه. ﴿نَعِدُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ والتقدير: أأنكروا نزول ما وعدناهم، أو شكوا في ذلك ولم يروا أنا نأتي الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿نَأْتِي الْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى تقديره: أولم يروا إتياننا الأرض حالة كوننا ننقصها. ﴿نَنْقُصُهَا﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ أَطْرَافِهَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿نَأْتِي﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْكُمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿مُعَقِّبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لِحُكْمِهِ﴾: متعلق به، وخبرها محذوف تقديره: موجود، وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَحْكُمُ﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة.
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾.
﴿وَقَدْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿مَكَرَ الَّذِينَ﴾: فعل
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿كفى بالله﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾: فعل وفاعل، و (الباء): زائدة. ﴿شَهِيدًا﴾: تمييز لفاعل ﴿كَفَى﴾، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾. ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف عليه. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على فاعل ﴿كَفَى﴾. ﴿عِنْدَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ﴾ ومعنى الاستهزاء (١): الاستحقار والاستهانة، والأذى
﴿فَأَمْلَيْتُ﴾ والإملاء: الإمهال وأن يترك ملاءة من الزمان؛ أي: مدة طويلة منه في دعة وراحة وأمن، كالبهيمة في المرعى؛ أي: أطلت لهم المدة في أمن وسعة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية. ﴿ثُمَّ﴾ بعد الإملاء والاستدراج أخذتهم بالعقوبة.
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ﴾؛ أي: رقيب ومتول للأمور.
﴿تُنَبِّئُونَهُ﴾؛ أي: تخبرونه. ﴿بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾؛ أي: بباطل منه لا حقيقة له في الواقع.
﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ بتخيلهم أباطيل، ثم ظنهم إياها حقًّا والمكر (١): صرف الغير عما يقصده بحيلة، والحيلة (٢): ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي.
﴿وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ﴾ والصد: المنع، والسبيل: هو سبيل الحق وطريقه؛ أي: منعوا عن طريق الهدى. وقرىء بفتح الصاد؛ أي: منعوا الناس عنه. وقد يستعمل صد لازمًا بمعنى أعرض؛ أي: أعرضوا عنه.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وأصل العذاب (٣) في كلام العرب من العذب، وهو المنع، يقال: عذبته عذبًا إذا منعته، وسمي الماء عذبًا؛ لأنه يمنع العطش، وسمي العذاب عذابًا؛ لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره من مثل فعله.
﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ﴾؛ أي: أشد وأصعب لدوامه، وهو عذاب النار، وعذاب نار القطيعة وألم البعد وحسرة التفريط في طاعة الله وندامة الإفراط في الذنوب والمعاصي، والحصول على الخسارات والهبوط من الدرجات ونزول الدركات.
(٢) قسطلاني على البخاري.
(٣) روح البيان.
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ المثل: الصفة والنعت. قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال: مثلت لك كذا؛ أي: صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها. اهـ. "الشوكاني".
﴿أُكُلُهَا﴾ والأكل - بضمتين - ما يؤكل من طعامها. ﴿دَائِمٌ﴾؛ أي: لا ينقطع ولا يمنع منه بخلاف ثمر الدنيا، والمراد بدوام الأكل: الدوام بالنوع لا الدوام بالجزء والشخص، فإنه إذا فنى منه شيء جيء ببدله، وهذا لا ينافي الهلاك لحظة، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ على أن دوامه مضاف إلى ما بعد دخول الجنة كما يقتضيه سوق الكلام عند هلاك كل شيء قبل الدخول لا ينافي وجوده وبقاءه بعده.
﴿وَظِلُّهَا﴾ دائم، والظل: واحد الظلال، والظلول والأظلال.
﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ والعقبى: مصدر كالبشرى والرجعى؛ أي: مآلهم ومنتهى أمرهم.
﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ والأحزاب واحدهم حزب: وهو الطائفة المتحزبة؛ أي: المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك. والمآب: المرجع. الواقي: الحافظ.
﴿لِكُلِّ أَجَلٍ﴾ والأجل: الوقت والمدة. ﴿كِتَابٌ﴾ والكتاب: الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة، والمراد بالأجل: أزمنة الموجودات، فلكل موجود زمان يوجد فيه محدود ولا يزاد عليه ولا ينقص، والمراد بالكتاب: صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ. والمحو:
﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أصله: وهو علم الله تعالى، أو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. والأم (١): أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمًّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، والعندية عندية علم، والكتاب هو المذكور أولًا بقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ على القاعدة المشهورة عند البلغاء أن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.
﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ﴾ مضارع أرى البصرية تعدى إلى مفعولين بالهمزة، وأكد بالنون الثقيلة.
﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ والبلاغ: اسم مصدر لبلغ تبليغًا أقيم مقام المصدر، كالأداء مقام التأدية؛ أي: تبليغ الرسالة وأداء الأمانة لا غير.
﴿مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ والأطراف: الجوانب. ﴿لَا مُعَقِّبَ﴾ والمعقب: الذي يكر على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق: معقب؛ لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب.
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ والمكر: إرادة المكروه في خفية.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ﴾؛ لأن حق العبارة، وجعلوا له، فأقيم الظاهر مقام المضمر تقريرًا للألوهية وتصريحًا بها.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ﴾.
قال الطيبي (٢): في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان:
(٢) الفتوحات.
ثانيهما: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ من وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه.
ثالثها: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾؛ أي: عينوا أسماءهم، فقولوا: فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني، كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجودًا فسمه؛ لأن المراد بالاسم العلم.
رابعها: ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ﴾ احتجاج من باب نفي الشيء أعني: العلم بنفي لازمه، وهو المعلوم، وهو كناية.
خامسها: ﴿أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾ احتجاج من باب الاستدراج، والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكر. المعنى: أتقولون بأفواهكم من غير روية وأنتم الباء، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.
سادسها: التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها.. كان الاحتجاج المذكور مناديًا على نفسه بالإعجاز، وأنه ليس من كلام البشر. اهـ.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولا في السماوات، وإنما خص الأرض، بنفي الشريك عنها، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض؛ لأنهم ادعوا له شريكًا في الأرض.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾؛ أي: وظلها دائم حذف منه الخبر بدليل السياق.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا﴾.
ومنها: تنكير ﴿رُسُلًا﴾ للدلالة على الكثرة.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ وفي قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ وكلاهما قصر إضافي من باب قصر الموصوف على الصفة؛ أي: ليس لك من الصفات إلا صفة التبليغ.
ومنها: التهييج (١) والإلهاب والبعث للسامعين على الثبات على الدين، والتصلب فيه، لئلا يزل زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة في قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ وإلا فالرسول معصوم من اتباع أهوائهم؛ لأنه - ﷺ - كان من شدة الشكيمة بمكان.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ﴾؛ أي: يأتيها أمرنا وعذابنا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ﴾ من التكلم إلى الغيبة لما في (٢) بناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة، وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة.
فائدة: فسر بعضهم قوله تعالى: ﴿نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أن نقصانها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير والصلاح، وهذا مروي عن مجاهد وابن عباس في رواية عنه، وأنشد بعضهم (٣):
(٢) أبو السعود.
(٣) ابن كثير.
الأرَضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا | مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ |
كَالأرْضِ تَحْيَا إَذَا مَا الْغَيثُ حَلَّ بِهَا | وإِنْ أَبَى عَادَ في أَكْنَافِهَا الْتَلَفُ |
* * *
سورة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مكية كلها، كما (١) أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وأخرجه ابن مردويه أيضًا عن الزبير، وحكاه القرطبي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها مدنيتين. وقيل: إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله - ﷺ - وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار﴾. وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس قال: وهي مكية إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، وهي: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾.. الآيتين. نزلتا في قتلى بدر من المشركين.
التسمية: سميت بسورة إبراهيم (٢)؛ لذكر قصته فيها. فإن قلت: إن قصة إبراهيم قد ذكرت في غير هذه السورة: الأنبياء والبقرة.
قلت: إن علة التسمية لا تقتضي اطراد التسمية، بل التسمية أمر توقيفي. وآياتها إحدى، أو اثنتان، أو أربع، أو خمس وخمسون آية، ففي آياتها أربعة أقوال. وكلماتها (٣) ثمان مئة وإحدى وستون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وأربع مئة وأربعة وثلاثون حرفًا.
المناسبة: ومناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها من وجوه (٤):
١ - أنه قد ذكر سبحانه في السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكمًا عربيًّا، ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.
٢ - أنه ذكر في السورة السالفة قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وهنا ذكر أن الرسل قالوا: ﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
(٢) الصاوي.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
٤ - اشتملت تلك السابقة على تمثيل الحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضًا.
٥ - ذكر هناك رفع السماء بغير عمد، ومدّ الأرض، وتسخير الشمس والقمر، وذكر هنا نحو ذلك.
٦ - ذكر هناك مكر الكفار، وذكر مثله هنا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك.
الناسخ والمنسوخ: وقال أبو (١) عبد الله محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة إبراهيم عند جميع المفسرين محكمة ليس فيها منسوخ إلا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فإنه قال: فيها آية منسوخة، والجمهور على خلاف قوله، وهي قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} نسخت بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في سورة النحل آية (١٨) انتهى.
فضلها: ومن فضائلها ما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال (٢): "من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد" رواه ابن مردويه والثعلبي والواحدي، وهو موضوع كما ذكره العراقي.
والله أعلم
* * *
(٢) الخازن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)﴾.المناسبة
مناسبة أول هذه السورة للسورة قبلها واضح جدًّا (١)؛ لأنه ذكر في السورة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما بين أنه أرسل نبيه محمدًا - ﷺ - إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن في هذا الإرسال نعمة له ولقومه.. أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء، وتفصيل ما لاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد؛ لما في ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد: وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه (٢) لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله.. ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقم الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾... الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما ذكر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة، ورفع عنهم من نقمة، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر ووعيده بالعذاب لمن كفر، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم، وأنه غني عن حمدهم، وحمد من في الأرض جميعًا، يذكرهم بأيام الله فيمن قبلهم من الأمم السالفة والأجيال البائدة بأسلوب طلبي ومقال
(٢) البحر المحيط.