تفسير سورة طه

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة طه من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته.
روي عن ابن عباس قال :﴿ طه ﴾ يا رجل، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك، وأسند القاضي عياض في كتابه « الشفاء » عن الربيع بن أنَس، قال : كان النبي ﷺ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله تعالى :﴿ طه ﴾ يعني طأ الأرض يا محمد ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ ثم قال : ولا يخفى ما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة، وقوله :﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ قال الضحّاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله ﷺ قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلاّ ليشقى، فأنزل الله تعالى :﴿ طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى ﴾ فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه العلم فقد أراد به خيراً كثيراً، كما ثبت في « الصحيحين » عن معاوية قال، قال رسول الله ﷺ :« من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني، عن ثعلبة بن الحكم، قال، قال رسول الله ﷺ :« يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده، إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلاّ وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي » وقال مجاهد في قوله ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى ﴾ هي كقوله :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة : لا والله ما جعله شقاء ولن جعله رحمة ونوراً، ودليلاً إلى الجنة ﴿ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى ﴾ أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر أنزل الله في حلاله وحرامه، وقوله :﴿ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى ﴾ أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السماوات العلى في ارتفاعها ولطافتها، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره، أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبعد ما بينها، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
وقوله تعالى :﴿ الرحمن عَلَى العرش استوى ﴾ المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنّة من غير تكييف ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وقوله :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى ﴾ أي الجميع ملكه وفي قبضته، وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه، وإلهه لا إله سواه، وقوله ﴿ وَمَا تَحْتَ الثرى ﴾ قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة، ﴿ وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسماوات العلى الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى :
1584
﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ الفرقان : ٦ ]، قال ابن عباس ﴿ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ قال : السر ما أسره ابن آدم في نفسه، ﴿ وَأَخْفَى ﴾ ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك، وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة، وهو قوله :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]. وقال الضحّاك ﴿ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ قال : السر ما تحدث به نفسك، وأخفى ما لم تحدث نفسك به بعد. وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم، ولا تعلم ما تسر غداً، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً، وقال مجاهد ﴿ وَأَخْفَى ﴾ يعني الوسوسة، وقال أيضاً ﴿ وَأَخْفَى ﴾ أي ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه، وقوله :﴿ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ : أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلاّ هو ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.
1585
من هاهنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه، وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله : قيل قاصداً بلاد مصر بعد ا طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ومعه زوجته، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم ﴿ إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ ﴾ أي شهاب من نار، وفي الآية الأخرى ﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار ﴾ وهي الجمر الذي معه لهب ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [ النمل : ٧ ] دل على وجود البرد، وقوله :﴿ بِقَبَسٍ ﴾ دل على وجود الظلام، وقوله :﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى ﴾ أي من يهديني الطريق، دل على أنه قد تاه عن الطريق كما قال ابن عباس في قوله ﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى ﴾ قال : من يهديني إلى الطريق وكانوا شاتين وضلوا الطريق، فلما رأى النار، قال : إن لم أجد أحداً يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.
يقول تعالى ﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا ﴾ أي النار واقترب منها ﴿ نُودِيَ ياموسى ﴾، وفي الآية الأخرى :﴿ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين ﴾ [ القصص : ٣٠ ]، وقال : هاهنا :﴿ إني أَنَاْ رَبُّكَ ﴾ أي الذي يكلمك ويخاطبك ﴿ فاخلع نَعْلَيْكَ ﴾ قيل : كانتا من جلد حمار غير ذكي، وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة، قال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل غير ذلك، والله أعلم. وقوله ﴿ طُوًى ﴾ قال ابن عباس : هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، وقيل : عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، والأول أصح كقوله ﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى ﴾ [ النازعات : ١٦ ]، وقوله :﴿ وَأَنَا اخترتك ﴾، كقوله :﴿ إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ] أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه، وقد قيل : إن الله تعالى قال : يا موسى أتدري لم اختصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال : لا، قال : لأني لم يتواضع إليَّ أحد تواضعك، وقوله :﴿ فاستمع لِمَا يوحى ﴾ أي واستمع الآن ما أقول لك، وأوحيه إليك ﴿ إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ ﴾، هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وقوله ﴿ فاعبدني ﴾ أي وحّدني وقم بعبادتي من غير شريك، ﴿ وَأَقِمِ الصلاة لذكري ﴾ قيل معناه : صلّ لتذكرني، وقيل معناه : وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قد قال : وأقم الصلاة لذكري » وفي « الصحيحين » عن أنس قال، قال رسول الله ﷺ :« من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاّ ذلك ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الساعة آتِيَةٌ ﴾ : أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها. وقوله ﴿ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ قال ابن عباس : أي لا أطلع عليها أحداً غيري، وقال السدي : ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلاّ قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود : إني أكاد أخفيها من نفسي، يقول : كتمتها من الخلائق، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفس لفعلت. قال قتادة : لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين، قلت وهذا كقوله تعالى :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله ﴾ [ النمل : ٦٥ ]، وقال :﴿ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض. وقوله سبحانه وتعالى :﴿ لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى ﴾ أي أقيمها لا محالة؛ لأجزي كل عامل بعمله ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ]، ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٦ ]، وقوله :﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا ﴾ الآية. المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر ﴿ فتردى ﴾ : أي تهلك وتعطب، قال الله تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى ﴾ [ الليل : ١١ ].
هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلاّ الله عزَّ وجلّ، وأنه لا يأتي به إلاّ نبي مرسل، وقوله ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى ﴾ قال بعض المفسرين إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له؛ وقيل وإنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن، ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى ﴾ ؟ استفهام تقرير، ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ﴾ أي اعتمد عليها، في حال المشي، ﴿ وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي ﴾ أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود، فهذا الهش ولا يخبط، وقوله :﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى ﴾ أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك.
وقوله تعالى :﴿ أَلْقِهَا ياموسى ﴾ أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها، ﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾ أي صارت في الحال حية عظيمة : ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، ﴿ تسعى ﴾ أي تمشي وتضطرب عن ابن عباس ﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى ﴾، ولم تكن قبل ذلك حية. فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، ونودي أن يا موسى خذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين، فأخذها. وقال وهب بن منبه : ألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يدب يلتمس كأنه يبغي شيئاً يريد أخذه، يمر بالصخرة فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال ﴿ خُذْهَا ﴾ بيمينك ﴿ وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى ﴾ وعلى موسى حينئذٍ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها، إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى ﴿ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى ﴾ أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى. وهاهنا عبر عن ذلك بقوله :﴿ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ ﴾، وقال في مكان آخر :﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ [ القصص : ٣٢ ]، وقال مجاهد :﴿ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ ﴾ : كفك تحت عضدك؛ وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر. وقوله ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء ﴾ أي من غير برص ولا أذى، ومن غير شين، وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزّ وجلّ، ولهذا قال تعالى :﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى ﴾، وقال وهب، قال له ربه : أدنه، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر، وذهبت عنه الرعدة، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه. وقوله ﴿ اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى ﴾ : أي اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خرجت فاراً منه وهارباً، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه برهان عليّ وسقط من عيني، ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي، إني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي وحذره من نقمتي وبأسي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني.
﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجل، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هذا وقد مكث موسى في داره وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم، هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عزّ وجلّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال :﴿ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي ﴾ أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلاّ فلا طاقة لي بذلك ﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾.
1589
وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه، وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلاّ بحسب الحاجة، ولهذا بقيت. قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال ﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [ الزخرف : ٥٢ ] أي يفصح بالكلام، وقال الحسن البصري ﴿ واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴾ قال : حلّ عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي، وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، ويكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما يفصح له لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه.
وقوله تعالى :﴿ واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ﴾، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، قال ابن عباس : نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنزلت بعض الأعراب فسمعت رجلاً يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا : لا ندري، قال أنا والله أدري! قالت، فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قال :( موسى ) حين سأل لأخيه النبوة، فقلت : صدق والله. وقوله ﴿ اشدد بِهِ أَزْرِي ﴾ قال مجاهد : ظهري، ﴿ وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي ﴾ أي في مشاورتي، ﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ﴾ قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، وقوله :﴿ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ﴾ أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك.
1590
هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام، فيما سأل من ربه عزّ وجلّ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه، فيما كان من أمر أمه، حين كانت ترضعه وتحذر عليه، من فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم الله - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلاّ على فراش فرعون، ويغذى بطعامه وشرابه، مع محبته وزوجته له، ولهذا قال تعالى :﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمه بن كهبل ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ قال : حببتك إلى عبادي، ﴿ وَلِتُصْنَعَ على عيني ﴾ : تربى بعين الله، وقال قتادة : تغذى على عيني، وقال ابن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة. وقوله :﴿ إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ﴾، وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قال الله تعالى :﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ ﴾ [ القصص : ١٢ ]، فجاءت أخته، وقالت :﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [ القصص : ١٢ ] تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا، وفي الآخرة أعظم وأجزل، ولهذا جاء في الحديث :« مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها »، وقال تعالى هاهنا :﴿ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ ﴾ أي عليك، ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْساً ﴾ يعني القبطي ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم ﴾ وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقوله :﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾.
( حديث الفتون ) : روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعي النسائي في سننه، عن سعيد بن جبير، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام :﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾، فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا أبا جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أبناء وملوكاً، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلاّ ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً.
1591
فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لم يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون، وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به.
فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إليَّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فملا فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلاّ من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم : أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله ﷺ :« والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك » فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها، فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً، حي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهو إلى جنبه، وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
1592
فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابن ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه. فلما رأت ما يصنع بها، قالت : امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئاً حبه قط، قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيني وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهببه إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز وعده، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قد قضى فيه. فلم يزل بنو إسرائيل، وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلاّ استقبل ابني اليوم بهديه وكرامة، لأرى ذلك، وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير. بعد كل بلاء ابتلي به. وأريد به فتوناً، فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، فقالت : اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين، ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغاً فيه أمره.
1593
فلما بلغ أشده، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلاّ إنما من الرضاع، إلاّ أم موسى، إلاّ أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلاّ الله عزَّ وجلَّ والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين، ثم قال :﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ [ القصص : ١٦ ]، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم. فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبن كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين، أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلاّ حسن ظنه بربه عزّ وجلّ، فإنه قال :
1594
﴿ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ ﴾ [ القصص : ٢٢-٢٣ ] يعني بذلك حابستين غنمهما، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإنما نسقي من فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة، وقال :﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [ القصص : ٢٤ ]، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما، بغنمهما حفلاً بطاناً، فقال : إن لكما اليوم لشأناً، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه، قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته، فقالت إحداهما :﴿ ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ [ القصص : ٢٦ ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته، وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة فإنه نظر إليَّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلاّ وهو أمين فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت، فقال له : هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج. فإن أتممت عشراً فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين، ففعل، فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت سنتان عدة فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً. قال سعيد بن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك، فقال : أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً، ويعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت : أجل وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا :
1595
﴿ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾ [ مريم : ١٩ ]، قال : فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن، قال : ما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، قال : أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل، فأبى عليه، فقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له : اجمع لهما السحرة، فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبناه؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى.
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. لما اجتمعوا في صعيد واحد، قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين ﴾ [ الشعراء : ٤٠ ] يعنون موسى وهارون، استهزاء بهما ﴿ قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى ﴾ [ طه : ٦٥ ]، ﴿ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ﴾ [ الشعراء : ٤٤ ]، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحيال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلاً إلاّ ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عزَّ وجلَّ، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون ﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١١٩ ]، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى.
1596
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه : الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياً لله. فلما تراءى الجمعان وتقاربا، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعده موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر؛ فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ﴿ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨-١٣٩ ] الآية : قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً، وقال : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه، ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقالله ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان! قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلاّ وفمي طيب الريح، قال : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع فصم عشراً. ثم ائتني. ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أرى أنكم تحتسبون مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا.
1597
فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته، فقال : لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا. فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون، فقال له هارون عليه السلام : يا سامري إلاّ تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، لا ألقيها لشيء إلاّ أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال : أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار! قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً؛ فقالت : فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، قالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا، فإنا نتبع قول موسى. وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون :﴿ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي ﴾ [ طه : ٩٠ ]، قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً، ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، ﴿ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ [ طه : ٨٦ ]، فقال لهم : ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم ﴿ فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً ﴾ [ طه : ٩٦-٩٧ ]. ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالو لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال :
1598
﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] ؟ وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٦-١٥٧ ]، فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف ولا يبالي في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي أمرهم على موسى وهارون، واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي به أن يبلغهم من الوظائف. فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق الله عليهم البجل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا : يا موسى! إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون : قيل ليزيد هكذا قرأت؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه، قالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أناس : إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون بنو إسرائيل :﴿ قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذٍ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
1599
يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام : إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه، يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال :﴿ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى ﴾ قال مجاهد : أي على موعد، وقال قتادة : على قدر الرسالة والنبوة، وقوله :﴿ واصطنعتك لِنَفْسِي ﴾ أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء، روى البخاري عند تفسيرها عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« التقى آدم وموسى، فقال موسى أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال : نعم، قال : فوجدته مكتوباً عليّ قبل أن يخلقني؟ قال : نعم، فحج آدم موسى » وقوله ﴿ اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ﴾ أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي ﴿ وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾ قال ابن عباس : لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث :« إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه »، وقوله ﴿ اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى ﴾ أي تمرد وعتا، وتجبر على الله وعصاه، ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وعن الحسن البصري ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾ أعذر إليه، قولا له : إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ]، وقوله ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، أو يخشى - أي يوجد طاعة من خشية ربه - كما قال تعالى :﴿ لمن أراد أن يتذكر أو يخشى ﴾ فالتذكر الرجوع عن المحذور، والخشية تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري :﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه.
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام : أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه ﴿ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى ﴾ يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك، قال عبد الرحمن بن زيد ﴿ أَن يَفْرُطَ ﴾ يعجل، وقال مجاهد يسلط علينا، وقال ابن عباس ﴿ أَوْ أَن يطغى ﴾ يعتدي ﴿ قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى ﴾ أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلاّ بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي. ﴿ فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ﴾ قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس، أنه قال : مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وقوله ﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي بدلالة ومعجزة من ربك، ﴿ والسلام على مَنِ اتبع الهدى ﴾ أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول الله ﷺ إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله « بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين »، ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون ﴿ والسلام على مَنِ اتبع الهدى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى ﴾ أي قد أخبرنا الله فيما أحاه إلينا من الوحي المعصوم، أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى :﴿ فَأَمَّا مَن طغى * وَآثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٣٧-٣٩ ]، وقال تعالى :﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى ﴾ [ الليل : ١٤-١٦ ] وقال تعالى ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٢١-٢٢ ] أي كذب بقلبه وتولى بفعله.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون، أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق ﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى ﴾ أي الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت من إله غيري ﴿ قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ قال ابن عباس : يقول خلق لكل شيء زوجه، وعنه : جعل الإنسان إنساناً والحمار حماراً والشاة شاة. وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورته، وسوّى خلق كل دابة. وقال سعيد بن جبير في قوله ﴿ أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ قال : أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح، ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى ﴾ ؟ أصح الأقوال في معنى ذلك؛ أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله، هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي الذين لم يعبدوا الله، أي فما بالهم إذ كان الأمر كذلك، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره، فقال له موسى في جواب ذلك : هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار، ﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾ أي لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان « أحدهما عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك.
هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عزّ وجلّ، حين سأله فرعون عنه فقال :﴿ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً ﴾ أي قراراً تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها، ﴿ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ]، ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى ﴾ أي من أنواع النباتات من زروع وثمار، ومن حامض وحلو ومر، وسائر الأنواع، ﴿ كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ ﴾ أي شيء لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً، ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ أي لدلالات وحججاً وبراهين، ﴿ لأُوْلِي النهى ﴾ أي لذوي العقول السليمة المستقيمة، ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى ﴾ أي من الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ومنها نخرجكم تارة أخرى، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٣ ]. وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٥ ]، وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله ﷺ حسر جنازة؛ فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال : منها خلقناكم، ثم أخذ أحرى وقال : وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى ﴾، يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات، وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً، كما قال تعالى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ] الآية.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، فقال : هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحراً مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه، ﴿ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ﴾ أي يوماً تجتمع نحن وأنت فيه فتعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك ﴿ قَالَ ﴾ لهم موسى ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة ﴾، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جميعهم، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال :﴿ وَأَن يُحْشَرَ الناس ﴾ أي جميعهم ﴿ ضُحًى ﴾ أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، كل أمهرم بيّن واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل : ليلاً، ولكن نهاراً، ضحى، قال ابن عباس : وكان يوم الزينة، يوم عاشوراء، وقال السدي : كان يوم عيدهم. قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده. كما ثبت في « الصحيح »، وقال وهب بن منبه، قال فرعون : يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى : لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى الله إلى موسى : أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون اجعله إلى أربعين يوماً ففعل، وقال مجاهد وقتادة ﴿ مَكَاناً سُوًى ﴾ منصفاً، وقال السدي عدلاً، وقال عبد الرحمن بن زيد : مستوٍ من الناس، وما فيه لا يكون صوت ولا شيء، يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوٍ حين يرى.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين، تولى : أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً، كما قال تعالى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [ يونس : ٧٩ ]، ثم أتى : أي اجتمع الناس، لميقات يوم معلوم : وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى ﷺ متوكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقفت السحرة بين يدي فرعون صفوفاً وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون ﴿ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين ﴾ [ الشعراء : ٤١-٤٢ ]. قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها، وإنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله ﴿ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾ أي يهلككم بعقوبة هلاكاً له بقية له، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى * فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ قيل : معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول : ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول : بل هو ساحر، وقيل غير ذلك، والله أعلم. وقوله :﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى ﴾ : أي تناجوا فيما بينهم، ﴿ قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ ﴾ وهذه لغة لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ ﴿ إن هذين لساحران ﴾، والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه، ويخرجاكم من أرضكم، وقوله :﴿ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى ﴾ أي ويستبدأ بهذه الطريقة وهي السحر، فإنهم كانوا معظمين بسببها، لهم أموال وأرزاق عليها، يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله ﴿ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى ﴾ يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، وعن علي في قوله ﴿ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى ﴾ قال : يصرفا وجوه الناس إليهما، وقال مجاهد ﴿ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى ﴾ قال : أولو الشرف والعقل والأسنان :﴿ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً ﴾ أي اجتمعوا كلكم صفاً واحداً، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه، ﴿ وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى ﴾ أي منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك، العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى ﴿ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ ﴾ : أي أنت أولاً، ﴿ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ ﴾ : أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا ﴿ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ﴾ [ الشعراء : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ]، وقال هاهنا :﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى ﴾.
وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه، وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضهاً بعضاً، وقوله :﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى ﴾ أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم، ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلاّ تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى ﴾، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر ورطقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلاّ الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، ولهذا قال ابن عباس : كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة، قال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفاً، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفاً، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً. قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها. قال وذكر عن سعيد بن جبير قوله ﴿ فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً ﴾ قال : رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم.
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه، ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة، والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وقال ﴿ آمَنتُمْ لَهُ ﴾ أي صدقتموه ﴿ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾ أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عليّ في ذلك، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر ﴾ أي انتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٣ ]، ثم أخذ يتهددهم فقال :﴿ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل ﴾ أي لأجعلنكم مثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم. ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى ﴾ أي أنتم تقولون أني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عزَّ وجلَّ ﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات ﴾ أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين ﴿ والذي فَطَرَنَا ﴾ يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت ﴿ فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ ﴾ أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك ﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ ﴾ أي إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار، ﴿ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ﴾ أي ما كان منا من الآثام، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيّه. عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر ﴾ قال : أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء، وقال علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا :﴿ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر ﴾. وقوله :﴿ والله خَيْرٌ وأبقى ﴾ أي خير لنا منك ﴿ وأبقى ﴾ أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وقال محمد بن كعب القرظي ﴿ والله خَيْرٌ ﴾ : أي لنا منك إن أطيع ﴿ وأبقى ﴾ : أي منك عذاباً إن عصي، والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله، ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا ﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ﴾ أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم ﴿ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى ﴾، كقوله :﴿ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]. عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله ﷺ :« أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً وأذن في الشفاعة جيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، فيقال : يا أهل الجنة اقبضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل »، فقال رجل من القوم : كأن رسول الله ﷺ كان بالبادية. وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات ﴾ أي ومن لقي ربه يوم المعاد، مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله، ﴿ فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى ﴾ أي الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات والمساكن الطيبات، عن النبي ﷺ قال :« الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس »، وفي « الصحيحين » :« إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم - قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء؟ قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين »، وفي السنن وإن أبا بكر وعمر لمنعهم وأنعما، وقوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين بداً ﴿ وذلك جَزَآءُ مَن تزكى ﴾ أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خير وطلب.
يقول تعالى مخبراً : أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا دع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند له بلدانه، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أي عند طلوع الشمس، ﴿ تَرَاءَى الجمعان ﴾ [ الشعراء : ٦١ ] : أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر، ﴿ قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٦١-٦٢ ] ووقف ببني إسرائيل أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه :﴿ فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً ﴾ فضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي الجبل العظيم، فأرسل الله الريح على أرض البحر، فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض، فلهذا قال ﴿ فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً ﴾ : أي من فرعون ﴿ وَلاَ تخشى ﴾ يعني من البحر أن يغرق قومك، ثم قال تعالى ﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم ﴾ : أي البحر ﴿ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور كما قال تعالى :﴿ والمؤتفكة أهوى * فَغَشَّاهَا مَا غشى ﴾ [ النجم : ٥٣-٥٤ ].
يذكر تعالى نعمه - على بني إسرائيل - العظام، ومننه الجسام، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه، وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما قال :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٥٠ ]. عن ابن عباس قال :« لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا : هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال :» نحن أولى بموسى فصوموه «، ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون، جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه الله تعالى عليه وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هنالك، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل، كما يقصه الله تعالى قريباً، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء، والسلوى طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم، ولهذا قال تعالى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي ﴾ أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ولا تطغوا في رزقي، فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به، ﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾ أي أغضب عليكم، ﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى ﴾ أي فقد شقي، وقوله ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ﴾ أي كل من تاب إليَّ تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تاب تعالى على عبد العجل من بني إسرائيل، وقوله تعالى ﴿ تَابَ ﴾ أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، قوله ﴿ وَآمَنَ ﴾ أي بقلبه، ﴿ وَعَمِلَ صَالِحَاً ﴾ أي بجوارحه، وقوله :﴿ ثُمَّ اهتدى ﴾ عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك، وقال سعيد بن جبير ﴿ ثُمَّ اهتدى ﴾ : أي استقام على السنة والجماعة، وقال قتادة ﴿ ثُمَّ اهتدى ﴾ : أي لزم الإسلام حتى يموت، و ﴿ ثُمَّ ﴾ هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البلد : ١٧ ] ﴿ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ البقرة : ٢٥ ].
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشر فتمت أربعين ليلة، أي يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى * قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي ﴾ أي قادمون ينزلون قريباً من الطور، ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى ﴾ أي لتزداد عني رضا، ﴿ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري ﴾، أخبر تعالى نبيّه موسى بما كان بعده من الحدث في بني سرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، وقوله ﴿ فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ أي رجع بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، والأسف : شدة الغضب، وقال مجاهد ﴿ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ ؛ أي جزعاً، وقال قتادة والسدي : أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده، ﴿ قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ﴾ أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أيادي الله، ﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد ﴾ أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه ﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ « أم » هاهنا بمعنى بل، هي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني؛ كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا - أي بنو إسرائيل، في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم - ﴿ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ أي عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر، ﴿ فَقَذَفْنَاهَا ﴾ أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أن يكون عجلاً، فكان عجلاً ﴿ لَّهُ خُوَارٌ ﴾ أي صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً ولهذا قال :﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾.
عن ابن عباس، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور، فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم، وقال السدي : كان يخور ويمشي، فقالوا : أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه ﴿ هاذآ إلهكم وإله موسى ﴾ أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، وعن ابن عباس ﴿ فَنَسِيَ ﴾ أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ أي العجل، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أي في دنياهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة!.
يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً. ذو العرش المجيد الفعّال لما يريد، ﴿ فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي ﴾ : أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، ﴿ قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى ﴾ أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال :﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ﴾ أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ : أي فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله :﴿ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ] ترفق له بذكر الأم مع أنه قيقه لأبويه، لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال :﴿ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ الآية. هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال ﴿ إِنِّي خَشِيتُ ﴾ أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم، ﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ : أي وما راعيت ما أمرتك به، حيث استخلفتك فيهم، قال ابن عباس : وكان هارون هائباً مطيعاً له.
يقول موسى عليه السلام للسامري : ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ عن ابن عباس قال : كان السامري رجلاً من أهل باجر، وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه ( موسى بن ظفر )، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان، وقال قتادة : كان من قرية سامرا، ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾ : أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول ﴾ اي من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، أو أكثرهم، وقال مجاهد : من تحت حافر فرس جبريل، قال : والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد : نبذ السامري، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه فهو خواره. وقال ابن أبي حاتم، عن عكرمة : إن السامري رأى الرسول فألقى في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلى آل فرعون، فقال لهم السامري : إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري، فألقي في روعه : أن لو قذفت هذه القبضة في هذه، فقلت كن فكان، فقذف القبضة وقال : كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال ﴿ هاذآ إلهكم وإله موسى ﴾ [ طه : ٨٨ ]، ولهذا قال ﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾ أي ألقيتها مع من ألقى، ﴿ وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ : أي حسنته وأعجبها إذ ذاك ﴿ قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ﴾ : أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس، أي لا تماس الناس ولا يسمونك، ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً ﴾ أي يوم القيامة ﴿ لَّن تُخْلَفَهُ ﴾ أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة ﴿ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ﴾ قال : عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس : وقوله ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ ﴾ قال الحسن : لن تغيب عنه. وقوله ﴿ وانظر إلى إلهك ﴾ أي معبودك ﴿ الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾ أي أقمت على عبادته يعني العجل، ﴿ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ﴾ قال السدي : سحلة بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة استحال العجل من الذهب لحماً ودماً، فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال :﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً ﴾. وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ يقول لهم موسى عليه السلام. ليس هذا إلهكم إنما إلهكم الله الذي لا سيتحق ذلك على العباد إلاّ هو، ولا تنبغي العبادة إلاّ له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له، وقوله :﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ أي هو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ] والآيات في هذا كثيرة جداً.
يقول تعالى لنبيّه محمد ﷺ : كما قصصنا خبر عليك خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا ﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ﴾ أي من عندنا ﴿ ذِكْراً ﴾ وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي لم يعط نبي من الأنبياء كتاباً مثله، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن منه، وقوله تعالى :﴿ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً، وابتغى الهدى من غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، ولهذا قال :﴿ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً ﴾ أي إثماً، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم، كما قال :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع، فن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة، ولهذا قال ﴿ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ ﴾ أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، ﴿ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً ﴾ أي بئس الحمل حملهم.
ثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ سئل عن الصور فقال :« قرن ينفخ فيه » وجاء في الحديث :« كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له »، فقالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال :« قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا »، وقوله ﴿ وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾، قيل معناه زرق العيون، من شة ما هم فيه من الأهوال، ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ قال ابن عباس : يتسارون بينهم، أي يقول بعضهم لبعض ﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ﴾ أي في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها. قال الله تعالى :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ : أي في حال تناجيهم بينهم، ﴿ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ﴾ : أي العاقل الكامل فيهم ﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾ : أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد، لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد، وكان غرضهم درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] الآية. وقال تعالى :﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين ﴾ [ المؤمنون : ١١٢-١١٣ ] ولو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف.
ول تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال ﴾ أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾ أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً ﴿ فَيَذَرُهَا ﴾ أي الأرض ﴿ قَاعاً صَفْصَفاً ﴾ أي بساطاً واحداً، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم، ولهذا قال :﴿ لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً ﴾ لا ترى في الأرض يومئذٍ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وغير واحد من السلف ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ ﴾ : أي يوم يرون هذه الأحوال، يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم كما قال تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، وقال ﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع ﴾ [ القمر : ٨ ] وقال محمد القرظي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فذلك قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ ﴾. وقال قتادة : لا عوج له لا يميلون عنه، وقال أبو صالح : لا عوج له لا عوج عنه، ﴿ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن ﴾ قال ابن عباس : سكنت، وكذا قال السدي، ﴿ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني وطء الأقدام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ﴾ الصوت الخفي، وقال سعيد بن جبير : الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين، وهو محتمل، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٥ ].
يقول تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ : أي يوم القيامة ﴿ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة ﴾ أي عنده ﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ﴾، كقوله :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]. وقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ]، وقال :﴿ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾. وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« آتي تحت العرش وأخر لله ساجداً، ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع، قال : فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود »، فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي يحيط علماً بالخلائق كلهم ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ كقوله :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]، وقوله :﴿ وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم ﴾. قال ابن عباس وغير واحد : خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلاّ به وقوله ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ﴾ : أي يوم القيامة فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وفي الحديث :« يقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم » وقوله :﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ﴾ لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم : النقص.
يقول تعالى : ولما كان يوم المعاد والجزاء واقعاً لا محالة أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين ﴿ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش ﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾ وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات، ﴿ فتعالى الله الملك الحق ﴾ أي تنزه وتقدس الملك الحق، الذي وعده الحق ووعيده حق، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، وقوله :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾، كقوله تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٧ ] وثبت في « الصحيح » عن ابن عباس : أن رسول الله ﷺ كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه، من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٧ ] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٨-١٩ ]، وقال في هذه الآية :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ أي بل انصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ أي زدني منك علماً، ولم يزل ﷺ في زيادة حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ، وكان رسول الله ﷺ يقول :« اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال ».
عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي، وقال مجاهد والحسن : ترك، وقوله :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ ﴾ يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً، ﴿ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى ﴾ أي امتنع واستكبر، ﴿ فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ يعني حواء عليهما السلام، ﴿ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى ﴾ أي إياك أن تسعى في إخراجك منها، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك ها هنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة، ﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى ﴾ إنما قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر، ﴿ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى ﴾ وهذان أيضاً متقابلان، فالظمأ حر الباطن وهو العطش، والضحى حر الظاهر. وقوله :﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى ﴾ قد تقدم أنه دلاهما بغرور ﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ]، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة، فلما يزل بهما إبليس حتى أكلا منها. وقوله :﴿ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ﴾، روي أن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلقة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فناداه الرحمن : قال : يا رب لا ولكن استحياء، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال : نعم، فذلك قوله :﴿ فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٣٧ ].
وقوله تعالى :﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة ﴾، قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما، وقوله :﴿ وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى ﴾، روى البخاري، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« حاجَّ موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني، أو قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله ﷺ : فحج آدم موسى »، وفي رواية لابن أبي حاتم :« احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك! قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاماً، قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال : نعم، قال : أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله ﷺ : فحجَّ آدمُ موسى ».
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس اهبطوا منها جميعاً : أي من الجنة كلكم ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله :﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان، ﴿ فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى ﴾ قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي ﴾ أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غير هداه، ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له وله انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلالة وإن تنعّم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابن عباس ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ قال : الشقاء. وعنه : إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك. وقال الضحّاك : هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان بن عيينة، عن أبي سعيد في قوله ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه.
عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره، كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :« عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنبناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون » وروى البزار، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ في قول الله عزَّ وجلَّ ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ﴾ قال :« المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمة حتى تقوم الساعة » وقوله :﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى ﴾ قال مجاهد والسدي : لا حجة له، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلاّ جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً كما قال تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] الآية، ولهذا يقول :﴿ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ﴾ ؟ أي في الدنيا ﴿ قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى ﴾ أي لما أعرضت عن آيات الله وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، ﴿ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا ﴾ [ الأعراف : ٥١ ] فإن الجزاء من جنس العمل، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلاّ لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم ».
يقول تعالى : وهكذا نجازي المسرفين، المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة ﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، ولهذا قال :﴿ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى ﴾ أي أشد ألماً من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله ﷺ للمتلاعنين :« إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ».
يقول تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ ﴾ لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية، التي خلفوهم فيها يمشون فيها، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى ﴾ أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة، كما قال تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [ الحج : ٤٦ ]، وقال :﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ الآية؛ ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾ أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة، ولهذا قال لنبيّه مسلياً له :﴿ فاصبر على مَا يَقُولُونَ ﴾ أي من تكذيبهم لك، ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس ﴾ يعني صلاة الفجر ﴿ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾ يعني صلاة العصر، كما جاء في « الصحيحين » :« إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا » ثم قرأ هذه الآية، وقال رسول الله ﷺ :« لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » وفي الحديث الصحيح :« أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين » وقوله :﴿ وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ ﴾ : أي من ساعته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء، ﴿ وَأَطْرَافَ النهار ﴾ في مقابلة آناء الليل ﴿ لَعَلَّكَ ترضى ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ﴾ [ الضحى : ٥ ] وفي « الصحيح » :« يقول الله تعالى : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ».
يقول تعالى لنبيّه محمد ﷺ : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد ﴿ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ﴾ : يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال :﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى ﴾. وفي « الصحيح » « أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله ﷺ في تلك المَشْرُبة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير، وليس في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول الله ﷺ :» ما يبكيك يا عمر؟ « فقال : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه! فقال :» أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا «، فكان ﷺ أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال :»
إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا «، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال :» بركات الأرض « وقال قتادة والسدي ﴿ زَهْرَةَ الحياة ﴾ : يعني زينة الحياة الدنيا : وقال قتادة ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ لنبتليهم، وقوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا ﴾ أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ [ التحريم : ٦ ]. وقوله :﴿ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ]، ولهذا قال :﴿ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾، وقال الثوري : لا نسألك رزقاً : أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عن ثابت قال : كان النبي ﷺ إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا، صلوا. قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. وقال رسول الله ﷺ :» يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك « وعن زيد بن ثابت قال، سمعت رسول الله ﷺ سيقول :» من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة «، وقوله ﴿ والعاقبة للتقوى ﴾ : أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن التقى الله، وفي » الصحيح « أن رسول الله ﷺ قال :» رأيت الليلة كأنا في دار ( عقبة بن رافع ) وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب «.
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم ﴿ لَوْلاَ ﴾ أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه؟ أي بعلامة دالة على صدقة في أنه رسول الله. قال الله تعالى :﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى ﴾ يعني القرآن العظيم الذي أنزله عليه الله وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٥١ ]. وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ما من نبي إلاّ وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ». وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن، وإلاّ فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر، ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾ أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا ﴿ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾ قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، كما قال :﴿ فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى ﴾، يبيّن تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون ﴿ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٧ ]، كما قال تعالى :﴿ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٥ ]، وقال :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] الآيتين؛ ثم قال تعالى :﴿ قُلْ ﴾ : أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده ﴿ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ﴾ أي منا ومنكم، ﴿ فَتَرَبَّصُواْ ﴾ : أي فانتظروا، ﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي ﴾ : أي الطريق المستقيم، ﴿ وَمَنِ اهتدى ﴾ إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٤٢ ]، وقال :﴿ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ [ القمر : ٢٦ ].
Icon