تفسير سورة طه

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة طه من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية. وفيها من جليل المواعظ والأخبار والعبر ما فيه مزدجر. هذه هي سورة طه. السورة العجيبة بألفاظها وأنغامها وأجراسها وحروفها ذات الإيقاع الثاقب والرنين المجلجل، الذي يثير الوجدان ويشْدَهُ الحس والمشاعر شدْها. فلا عجب أن يتلوها عربي بليغ كعمر بن الخطاب حتى تلج في الصميم من جنانه المرهف فتهزه هزا، وتميط عن فطرته السليمة الكريمة أغشية صفاقا من الغفلة والنسيان فيبادر الإعلان عن إسلامه والتحرر من كابوس الجاهلية وأوهامها وطغيانها. لقد أسلم عمر لما مست شغاف قلبه وعميق وجدانه أسرار هذا النظم الباهر، بكلماته الفريدة المصطفاة، ونفحاته الندية الخفية، وإشراقه الساطع المؤنس، وأسلوبه المميز العذب، الذي يزجي بكامل الدليل على أن هذا القرآن معجز، وأنه من لدن خالق العالمين.
ونجزم في يقين أنه لو خُلّي بين البشرية وهذا الكتاب الحكيم لاستحوذ عليها هذا أيما استحواذ، ولملك عليها القلوب والمشاعر والألباب، ولسيق الناس جميعا إلى منهج الله، منهج الإسلام. لكن البشرية قد تنكب عن هذا القرآن لما حيل بينها وبينه من أغشية كثاف من المعوقات المصطنعة والحملات الخبيثة التي برعت في ترسيخها خطط الحاقدين والمتربصين من شياطين البشر أعداء القرآن.
ونمضي في تفسير هذه السورة لنبين أنها تقص علينا قصة نبي الله موسى وقيادته لبني إسرائيل ببسط وتفصيل. فتقص علينا الآيات ولادة هذا النبي الكريم وتنجيته وقومه من ظلم فرعون وجنوده في قتل الأطفال من بني إسرائيل، ثم رحلته إلى مدين هاربا من كيد فرعون، فلبث بضع سنين ثم كرّ راجعا إلى مصر مارا بالواد المقدس طوى حيث أنزل الله عليه الوحي وأمره وأخاه هارون أن يذهبا إلى فرعون لدعوته إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل من ظلمه وبطشه. لكن فرعون عصى وتولى مستكبرا.
وتقص السورة أيضا باقتضاب خبر آدم عليه السلام وتكريمه بسجود الملائكة له باستثناء إبليس. هذا الكائن اللعين الشرير الذي أضل من ذرية آدم خلْقا عظيما.
إلى غير ذلك من الأخبار والقصص والمشاهد. وذلك كله في أسلوب رباني عجيب ومؤثر ليس له في النظم كله نظير.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ طه ( ١ ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( ٢ ) إلا تذكرة لمن يخشى ( ٣ ) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى ( ٤ ) الرحمان على العرش استوى ( ٥ ) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( ٦ ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( ٧ ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ( ٨ ) ﴾.
( طه )، من الحروف المقطعة التي مرّ ذكرها في كثير من السور، مثل :( الم ) ( المص )، ( الر ). وقيل :( طه )، يعني يا رجل
﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ﴾ فقد ذُكر أن فريقا من رؤساء المشركين كأبي جهل والنضر بن الحارث وغيرهما قالوا لرسول الله ( ص ) : إنك لتشقى بترك ديننا، فنزلت الآية. والمعنى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركون المبطلون. فما يكون القرآن سببا لتعب رسول الله ( ص ) وشقائه ؛ بل أنزله الله إليه ليطمئن به قلبه وتسعد به روحه سعادة لا يدركها الجاهلون والغافلون والمفرطون. فما يعبأ رسول الله ( ص ) بعد أن يبلغ الناس رسالة ربه ولا يبخعُ نفسه من فرط التأسف على كفرهم أو شدة التحسر من إعراضهم وعتوهم.
فما أنزل الله إليه القرآن ﴿ إلا تذكرة لمن يخشى ﴾ ( تذكرة ) منصوب على الاستثناء المنقطع ؛ أي ما أنزلنا القرآن لشقائك لكن تذكيرا لمن يخشى الله فيتأثر بالموعظة ويستجيب لنداء الحق، وينصت مدّكرا لكلام الله النافذ إلى القلوب.
قوله :﴿ تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى ﴾ ( تنزيلا ) مصدر لفعل محذوف وتقديره : نزل تنزيلا ممن خلق. وقيل :( تنزيلا )، بدل من تذكرة إذا جعل حالا ؛ وقيل غير ذلك ؛ فقد أنزل القرآن ( ممن خلق الأرض والسماوات العلى ) وذكر هذه الصفة من الخلق يراد به تعظيم القرآن وتفخيم شأنه ؛ إذ هو منسوب لله الكبير المتعال الذي خلق كل شيء. وفي ذلك تنبيه للعقول لكي تتفكر، وزجر للنفوس عن التشبث بالباطل بكل صوره وأشكاله.
قوله :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾ ( الرحمان )، خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هو الرحمان. والعرش بناء كوني هائل ورفيع تحمله الملائكة، ولا يدري بحقيقته ومدى اتساعه وامتداده سوى الله ؛ فقد استوى سبحانه على هذا الخلق العظيم، أي استولى. ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات في هذا الكون، دلالة على عظمة الخالق في بالغ قدرته ومطلق إحاطته. وقيل : العرض معناه الملك والسلطان ؛ فالله له ملكوت كل شيء. وما من شيء من ملكوته إلا هو في قبضة قدرته وإحاطته.
قوله :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ﴾ الله جل جلاله مالك كل شيء. فما من شيء، عظيم أو صغير في هذا الوجود، الواسع إلا هو مملوك لله سبحانه. وما من شيء حوته السموات والأرض وما بينهما من الخلائق إلا هو مندرج في ملكوت. وكذلك ما ( تحت الثرى ) توكيد لقوله :( وما في الأرض ) أي ما هو في باطن الأرض.
قوله :﴿ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ﴾ ( السر )، ما يسرّه المرء إلى غيره، أو ما حدّث به الإنسان غيره في خفاء. هكذا عرفه ابن عباس. ( وأخفى )، منه ما حدث به المرء نفسه ولم يعلمه. وقيل : ما أضمره الإنسان في نفسه مما لم يحدث به غيره. وقيل غير ذلك. فذلك كله في علم الله سواء ؛ أي يستوي عند الله في إحاطته بكل شيء، كل من الجهر وهو الظاهر من منظور أو مسموع، أو السر، أو ما كان أخفى منه.
قوله :﴿ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ﴾ ليس لله شريك بل الله وحده الخالق، وإن اختلفت أسماؤه، وذلك ردّ لقول المشركين : إن محمدا ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمان. والمراد : اعبدوا الله وحده دون ما سواه من الآلهة، ولله الأسماء الحسنى. والحسنى تأنيث الحسن١.
١ - روح المعاني جـ١٦ ص ١٥٤، ١٥٥ وتفسير القرطبي جـ١١ ض ١٦٣ والبحر المحيط جـ ٦ ص ٢١٤..
قوله تعالى :﴿ وهل أتاك حديث موسى ( ٩ ) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ( ١٠ ) فلما أتاها نودي يا موسى ( ١١ ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ( ١٢ ) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ( ١٣ ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى ( ١٤ ) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( ١٥ ) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( ١٦ ) ﴾.
الاستفهام في قوله :( وهل أتاك ) استفهام إثبات وإيجاب، المقصود منه تقرير الجواب في قلبه، والمعنى : أليس قد أتاك. وقيل : معناه وقد أتاك، وهو قول ابن عباس.
شرع الرحمان جل وعلا في بيان قصة موسى عليه السلام لما ابتدأه الوحي بعد ما قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره شعيب ثم سار بأهله ميمما شطر مصر عقب غياب استمر عشر سنوات، فضل وزوجته الطريق وكان ذلك في ليلة مظلمة شاتية حتى رأى من جانب الجبل نارا فاستأنس بها وذلك هو قوله سبحانه :
( إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا ) إذ، ظرف. أي حين رأى نارا قال لأهله : أقيموا في مكانكم فقد ( آنست نارا ) من الإيناس، والاستئناس وهو رؤية شيء يستأنس به في مثل هذا الظرف الموحش حيث الظلمة والانقطاع والشتاء المنهمر. فقد استأنس موسى بوجدان هذه النار. فرجا أن يأتي أهله بجذوة منها. وهو قوله :( لعلي آتاكم منها بقبس ) القبس، شعلة من نار ؛ فقد بنى موسى الأمر على الرجاء وليس القطع ؛ فقد رجا أن يأتي أهله بشعلة من نار ( أو أجد على النار هدى ) وقد رجا كذلك أن يجد هاديا أو قوما يهدونه الطريق.
قوله :﴿ فلما أتاها نودي يا موسى ( ١١ ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ( ١٢ ) ﴾ لما أتى موسى النار ووجدها تتوقد في شجرة ولم يجد عندها أحد، حينئذ ناداه ربه من جهة الشجرة المتوقدة المضيئة. وما نريد هنا أن نطيل في الحديث عن ماهية النداء الذي سمعه موسى أو حقيقته وكيفية حصوله. فإن الطمع في مثل هذه المعلومات غير ذي جدوى. لكن المهم في مثل هذه المسألة أن موسى قد سمع الصوت الرباني الكريم المذهل. الصوت الذي يفيض جلالا ومهابة ورحمة.
إذ يناديه ربه ليبين له أنه الله وليخلع نعليه في هذه البقعة المباركة الطهور. وهو قوله :﴿ فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ﴾ أي الواد المطهر. و ( طوى )، اسم علم للوادي وهو بدل منه١ ؛ أي انزعهما فإنك في بقعة مباركة طاهرة، فما ينبغي أن تطأها بنعلين فانزعهما. أو أمره بنزعهما على سبيل التواضع لله والمبالغة في الخضوع له والإحساس بالذل أمام عظمته وجبروته.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٣٩..
قوله :﴿ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ﴾ بمعنى اصطفيتك للرسالة وتبليغ الناس دعوة الحق، فاستمع لما أوحيه إليك. ومن مقتضى الاستماع سكون الجوارح وحسن الإصغاء بالسمع في اهتمام ووعي وحضور للقلب والعزم على الطاعة والعمل.
قوله :( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) وهذا بيان من الله لكليمه موسى عليه السلام عن أعظم حقيقة يجب عليه أن يقف عليها ويعمل بمقتضاها وهي أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا إله غيره، فعليه أن يعبده وحده، وذلك بالخضوع لجلاله والاستسلام لأمره.
قوله :( وأقم الصلاة لذكرى ) أي صل لكي تذكرني ؛ فإن الصلاة تشمل على الأذكار. أو لأجل أن أذكر بالثناء، وقيل : إذا نسيت الصلاة فتذكرت، صل، وهذا الراجح، لما روي في الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله ( ص ) : " من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا لك " وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ( ص ) قال : " من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها " والأمر هنا للوجوب. وهذا دليل على وجوب القضاء على كل من النائم أو الساهي، والغافل، سواء كانت الصلاة الفائتة كثيرة أو قليلة. وقد ذهب إلى ذلك عامة العلماء. وحكي خلاف ذلك مما هو شاذ لا يُعتد به ؛ فقد ذكر أن ما زاد على خمس صلوات لا يجب أن يقضى. وهو قول بغير دليل فلا ينظر إليه.
وعلى هذا لو فاتته صلاة يجب أن يقضيها. وقيل : يقضيها على الترتيب فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الإمام الشافعي. ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة ؛ فإن كان ثمة سعة في الوقت استحب أن يبدأ بالصلاة الفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز، أما إن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة ؛ فإنه يفوته الوقت، وجب أن يبدأ بصلاة الوقت كيلا تفوت. ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت ؛ أتمها ثم قضى الفائتة، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها من غير وجوب. هذا جمله مذهب الشافعية في المسألة١.
أما المالكية : فجملة مذهبهم أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى ؛ فإنه يبدأ بالتي نسيها إذا كان خمس صلوات فأدنى. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها. ويشبه هذا مذهب الحنفية والثوري والليث، إلا الحنفية قالوا : الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت فإن خشي فوات الوقت بدأ بها. أما إن زاد على صلاة يوم وليلة ؛ لم يجب الترتيب.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :( وأقم الصلاة لذكرى ) أي لتذكرها. واللام بمعنى عند. فيكون المعنى : أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها. وذلك يقتضي رعاية الترتيب. واستدلوا كذلك بالخبر : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " والفاء للترتيب، واستدلوا من الأثر بما رواه جابر بن عبد الله قال : " جاء عمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما ) إلى النبي ( ص ) يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس، فقال النبي ( ص ) : " وأنا والله ما صليتها بعد " قال : فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس، ثم صلى المغرب بعدها. وهذا يدل على لزوم البداءة بالفائتة قبل الحاضرة.
أما ترك الصلاة عمدا، فيجب فيه القضاء على التارك وإن كان عاصيا وعليه التوبة والاستغفار عند كل قضاء وهو قول الجمهور.
والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، وهو حطّ الإثم عن الأخيرين، أما الأول وهو المتعمد فهو آثم فلزمه الاستغفار. لكن الجميع يلزمهم القضاء لقوله تعالى :( وأقيموا الصلاة ) وذلك من غير فرق بين أن يكون ذلك في وقتها أو بعدها. ولئن ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي وكان ذلك في حقهما واجبا مع أنهما غير آثمين ؛ فإن العامد أولى بوجوب القضاء. ٢
١ - تفسير الرازي جـ٢٢ ض ٢٠..
٢ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ١٧٧، ١٧٨ وتفسير الرازي جـ٢٢ ص ٢٠..
قوله :﴿ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ أي أن الساعة جائية أو قائمة لا محالة ( أكاد أخفيها ) أي لا أظهر عليها أحدا غيري ؛ فقد أخفاه الله من الملائكة الأطهار والنبيين المقربين. وقيل : أخفيها، من الأضداد ؛ أي أظهرها أو أسترها عن العباد لما في تعمية وقتها عنهم من الحكمة. فعند المجهول يشيع الوجل ويزداد السعي من أجل النجاة. وذلك ( لتجزى كل نفس بما تسعى ) أي لتثاب كل نفس بما قدمته من خير وشر أو طاعة ومعصية.
قوله :( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه ) أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة من يكذب بها واتبع هوى نفسه وخالف أمر ربه ( فتردى ) في موضع نصب على أنه جواب النهي بالفاء. أي فتهلك١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ١١٤- ١١٦ والبيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٠..
قوله تعالى :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ( ١٧ ) قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ( ١٨ ) ﴾ ما، في موضع رفع، مبتدأ. و ( تلك )، خبره. ( بيمينك )، في موضع نصب على الحال١ والسؤال، للتنبيه على وقع المعجزة أو لتوطين نفسه كيلا يتزعزع من هول المنظر لدى انقلاب العصا حية.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٠..
فأجاب موسى عليه السلام في أدب بالغ وخضوع جم ( هي عصاي أتوكؤا عليها ) أي أعتمد عليها، وأتحامل عليها في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء١.
قوله :( وأهش بها على غنمي ) أهش بها أي أخبط الورق بالعصا ليتحات٢ والمراد " أن موسى عليه السلام كان يضرب بعصاه أغصان الشجر ليسقط منها الورق فتأكله الغنم.
قوله :( ولى فيها مآرب أخرى ) ( مآرب )، جمع ومفرده مأربة وهي الحاجة ؛ أي كانت لموسى في عصاه منافع وحوائج أخرى غير الاعتماد عليها. ومن منافعه وحوائجه المستفادة من العصا : أن يصلها بالرشا فيخرج بها الماء من البئر. وإذا أصابته شمس غرزها في الأرض وألقى عليها شيئا فاستظل به. وكذلك فإنه يقتل بها ما يجده من هوام الأرض، أو يقاتل بها السباع عن الغنم وغير ذلك من الحاجات والفوائد التي أجملها القول الرباني العذب بإيقاعه المستلذ ونغمه الذي تشتهيه النفس وهو قوله :( ولي فيها مآرب أخرى ).
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٣٤٨..
٢ - مختار الصحاح ص ٦٩٥..
قوله تعالى :﴿ قال ألقها يا موسى ( ١٩ ) فألقاها فإذا هي حية تسعى ( ٢٠ ) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ( ٢١ ) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ( ٢٢ ) لنريك من آياتنا الكبرى ( ٢٣ ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( ٢٤ ) قال رب اشرح لي صدري ( ٢٥ ) ويسر لي أمري ( ٢٦ ) واحلل عقدة من لساني ( ٢٧ ) يفقهوا قولي ( ٢٨ ) واجعل لي وزيرا من أهلي ( ٢٩ ) هارون أخي ( ٣٠ ) اشدد به أزري ( ٣١ ) وأشركه في أمري ( ٣٢ ) كي نسبحك كثيرا ( ٣٣ ) ونذكرك كثيرا ( ٣٤ ) إنك كنت بنا بصيرا ( ٣٥ ) ﴾.
قال الله لكليمه موسى :( ألقها ) أي اطرحها، والمراد العصا.
﴿ فإذا هي حية تسعى ﴾ انقلبت العصا في الحال حية عظيمة تمشي بسرعة وتضطرب كالجان. قال ابن عباس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه موسى يبتلع كل شيء خافه وولى منه مدبرا. ثم نودي موسى بعد ذلك ليأخذها فلا تؤذيه بأمر الله. وهو قوله :﴿ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ﴾
﴿ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ﴾ شرح الله صدر موسى عليه السلام وأذهب عنه ما أصابه من خوف لرؤية الحية العظيمة، فلما أمسكها بيده تنفيذا لأمر الله له بذلك، أعادها الله عصا كما كانت من قبل. وقيل : بلغ موسى من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها وهو قوله سبحانه :( سنعيدها سيرتها الأولى ) ( سيرتها ) منصوب بالفعل ( سنعيدها ) بتقدير حذف حرف جر. وتقديره : سنعيدها إلى سيرتها الأولى، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه.
و ( سيرتها )، من السيرة وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان، سواء كانت فطرية أو مكتسبة. وهي في الأصل كما قال الزمخشري من السير كالركبة من الركوب. يقال : سار فلان سيرة حسنة. ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة. والمعنى : سوف نردها عصا كما كانت. وقيل : أراه الله ذلك عند المخاطبة توطينا لنفسه كيلا يفزع منها إذا انقلبت حية عند فرعون. وهذه معجزة عظيمة أوتيها موسى تثبيتا لقلبه وتنبيها لفرعون لعله يخشى أو يتدبر أو يزدجر.
ثم أتاه الله معجزة أخرى وذلك في قوله :﴿ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ﴾ ( إلى جناحك ) يعني إلى جنبك ؛ أي تحت عضدك. وجناحا الإنسان جنباه. والأصل المستعار منه، جناحا الطائر وقد سميا جناحين ؛ لأنه يجنحهما ؛ أي يمليهما عند الطيران. والمعنى. ضم يدك أو أدخلها تحت عضدك ( تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ) أي تخرج يدك ولها شعاع كشعاع الشمس من غير مرض كبرص ونحوه. و ( بيضاء )، منصوب على الحال من ضمير تخرج. و ( آية )، منصوب على الحال بدلا من ( بيضاء ) ١ فهذه معجزة ثانية أوتيها موسى غير معجزة العصا، زيادة في تثبيت فؤاده وتصديقه أمام الطاغية فرعون.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤١..
قوله :﴿ لنريك من آياتنا الكبرى ﴾ ذلك تعليل لما أوتيه موسى من الآيات الكبرى كانفلاق العصا وإخراج اليد من الجنب أو من تحت العضد لتصبح كأنما هي مصباح يضيء. والمعنى : فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى.
قوله :﴿ اذهب إلى فرعون إنه طغى ﴾ أمره ربه أن يذهب إلى فرعون مبلغا وناصحا وهاديا، فقد طغى ؛ أي أفرط في العصيان والاستكبار ومجاوزة الحد ؛ إذ خرج عن حد العبودية إلى دعوى الربوبية. وهذه مغالاة فظيعة وإفراط بالغ في النكر لا يبلغه إلا الأخسرون من رؤوس الشياطين في هذه الدنيا من أمثال الطاغية فرعون.
عندئذ أحس موسى بثقل الوجيبة الهائلة التي أنيطت به. وهي أمانة التبليغ لدعوة الله وإيصالها لهذا الشقي الكنود، المغالي في الجحود والكفران. فدعا ربه أن يشرح له صدره ؛ أي يجعله واسعا فيحتمل المشاق ورديء الأخلاق من هذا الظالم المتجبر. ودعا ربه أيضا أن يفتح ما بلسانه من عجمة أو رتة في الكلام كانت فيه من الجمرة التي وضعها على لسانه في صباه. وذلك لما أخذ موسى لحية فرعون ولطمه بشدة وهو صغير، فأراد فرعون أن يقتله، فقالت له امرأته الصالحة الفضلى آسيا : إنه صغير لا يعقل فأتت بطستين، في أحدهما جمر، وفي الآخر جوهر. فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة منها فوضعها في فيه على لسانه فكانت هذه الرتة١
١ - الرتة: بص. أرته الله فرت؛ إذا تعتع في التاء. والأرث، الألتغ، والرتى: للتغاء. انظر القاموس المحيط جـ١ ص ١٥١ والمعجم الوسيط جـ١ ص ٣٢٧..
وذلك كله مقتضى قوله سبحانه :﴿ قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ﴾ أي يفهموا ما أقوله لهم. فلا تبقى لهم بعد ذلك أيما معذرة أو احتجاج. وقد استجاب الله دعاء موسى. إذ شرح صدره لدعوة الحق والنور.
وجعلها له سهلة وميسورة، ومكنه من السعي والعمل في يسر لتبليغها دون تردد أو تثاقل.
وأزال الرتة التي أصابت لسانه. وقيل : أزيلت الرتة كلها من لسان لقوله تعالى :( قد أوتيت سؤلك ) وقيل : لم تزل العقدة كلها بل بقي في لسانه شيء من الاستمساك بدليل قوله تعالى حكاية عن فرعون ( ولا يكاد يبين ).
قوله :﴿ واجعل لي وزيرا من أهلي ﴾ الوزير، أو الموازر من الوزر ؛ أي الثقل. سمي بذلك ؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره ؛ أي ثقله. أو من الموازرة وهي المعاونة١ ؛ فقد سأل موسى ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ( معينا ) ويتكلم عنه بما لا يفصح به لسانه وهو قوله لربه :
١ - مختار الصحاح ص ٧١٨..
﴿ هارون أخي ﴾ ( هارون ) منصوب على البدل من قوله :( وزيرا ) وهو اسم غير منصرف للعجمة والتعريف، و ( أخي )، عطف بيان. أو بدل١ وقيل : نبئ هارون ساعتئذ. وهو قول ابن عباس. وقيل : أنفع أخ لأخيه في الدنيا، موسى حين سأل لأخيه هارون النبوة فاستجاب له ربه.
وخير ما يؤتاه السلطان في حياته الوزير الصالح، يكون له خير معوان في الملمات والنائبات، فينصح له ويشير عليه بما هو أنفع وأصلح. وفي ذلك أخرج البخاري بسنده أن رسول الله ( ص ) قال : " ما بعث من نبي ولا اتسخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله ".
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤١..
قوله :﴿ اشدد به أزري ﴾ الأزر، القوة، وآزره ؛ أي عاونه. فقد دعا ربه أن يشدّ بأخيه هارون أزره ؛ أي ظهره. وقد كان هارون أكبر من موسى بسنة وقيل أكثر. وكان أفصح منه لسانا وقد مات قبله بثلاث سنين.
قوله :﴿ وأشركه في أمري ﴾ أي اجعله شريكي في أمر النبوة والرسالة ؛ فيكون معي مبلغا لدعوتك ومبشرا بدينك.
﴿ كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ﴾ ( كثيرا )، منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. وتقديره نسبحك تسبيحا كثيرا١ والمعنى : لكي نعظمك بالتسبيح كثيرا. أو ننزهك عما لا يليق به.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٢..
وكذلك نذكرك باللسان وفي القلب ذكرا كثيرا.
﴿ إنك كنت بنا بصيرا ﴾ إنك يا ربنا عليم بخفايا الأمور، وأنت عليم بنا وبأحوالنا، فأعنا على حمل هذه الرسالة، ويسر لنا سبيل الدعوة لها١.
١ - تفسير الطبي جـ١٦ ص ١٢١ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٦٢ وتفسير الرازي جـ٢٢ ص ٣٠ وتفسير القرطبي جـ١١ ص ١٩٢- ١٩٤..
قوله تعالى :{ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ( ٣٦ ) ولقد مننا عليك مرة خرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقدفيه
أخرى ( ٣٧ ) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ( ٣٨ ) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر ياموسى ( ٤٠ ) واصطنعتك لنفسي ( ٤١ ) اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكرى ( ٤٢ ) }.
أجابه ربه ( أوتيت سؤلك يا موسى ) السؤال، أو السول بغير همز، ما يسأله الإنسان. أو هو الطلبة، بكسر الطاء، أي أعطيت ما سألته وهو شرح الصدر وتيسير الأمر وغير ذلك مما سأله ربه.
قوله :﴿ ولقد مننا عليك مرة أخرى ﴾ أي أنعمنا وتفضلنا عليك يا موسى كرة أخرى قبل هذه. وكان الله قد حفظه من شر الأعداء ؛ إذ كانوا يذبحون البنين من بني إسرائيل.
ثم شرع يبين منته عليه وذلك في قوله :﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ﴾ إذ ظرف للفعل مننا. والمراد بالوحي هنا الإلهام ؛ أي ألهمها الله إلهاما حين ولدت موسى.
ثم فسر إلهامه لها بقوله :( أن اقذفيه في التابوت ) أي ألقيه في التابوت ( فاقذفيه في اليم ) أي اطرحيه في البحر، والمراد به هنا نهر النيل ( فليلقه اليم بالساحل ) الساحل، المنطقة من اليابس التي تجاور بحرا أو مسطحا مائيا كبيرا١. وهذا جزاء أخرج مخرج الأمر كأن اليمّ هو المأمور. ففعلت أم موسى ذلك ؛ إذ طرحته في النهر، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. فبينما هو جالس مع زوجته آسية ؛ إذ بالتابوت، فأمر به فأخرج فإذا صبي صبيح الوجه، مليح الناس وأعظمهم ملاحة فأحبه حبا شديدا وذلك هو قوله :( وألقيت عليك محبة مني ) لقد أسبغ الله على موسى وهو رضيع فيضا من الجمال وحسن المنظر. فما كان من أحد يراه إلا أحبه. قوله :( ولتصنع على عيني ) أي لتربى على مرأى مني فإني حافظك وراعيك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به.
١ - المعجم الوسيط جـ١ص ٤٢٠..
قوله :( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ) ( إذ يمشي )، بدل من قوله :( إذ أوحينا ) وأخته اسمها مريم ؛ فقد خرجت تتعرف خبر أخيها موسى، وكان موسى في رعاية فرعون وقد طلبت له آسية المراضع لكنه أبى كل مرضعة حتى أشارت عليهم أخته أن ثمة امرأة ترضعه وهي ذات لبن، تريد بذلك أمها. فلما جاءته قبل ثديها فارتضع منها. وذلك من فضل الله وتوفيقه ومنته على موسى ؛ إذ أعاده إلى أمه وهم لا يدرون بحقيقة الأمر. وهو قوله سبحانه :( فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ) رد الله على أم موسى ولدها لتقر عينها بلقائه ولا تحزن على فراقه. وكان من لطف الله أيضا أن تنتفع أم موسى ومعها ولدها بطيب العيش في دار فرعون مع الأمن من القتل الذي كان يخشى منه على عامة الصغار البنين من بني إسرائيل، فكانا كلاهما كأنهما من أهل بيت فرعون من حيث الأمان والراحة والسعة ورغد العيش.
قوله :( وقتلت نفسا فنجيناك من الغم ) وهذه منة أخرى من منن الله على عبده موسى ؛ إذ قتل قبطيا كافرا من آل فرعون وكان قتله خطأ، فنجاه الله من الغم وهو القتل قصاصا، وأذهب عنه الخوف من طغيان فرعون أن يظفر به فمكنه الله من الخروج فرارا بنفسه إلى مدين.
قوله :( وفتناك فتونا ) أي بلوناك وامتحناك بأشياء قبل أن تبعث في الناس. ومنها ولادته في زمن كان فرعون يذبح فيه الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم تناوله الجمرة ليضعها فوق لسانه، ثم قتله القبطي من آل فرعون، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقب. قوله :( فلبثت سنين في أهل مدين ) مدين : هي بلدة شعيب عليه السلام، إلى الشمال من مصر على عدة مراحل ؛ فقد لبث عنده موسى عشر سنين وهي أتم الأجلين وقيل : لبث عنده ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته. والبقية أقامها عند شعيب حتى ولد له أولاد.
قوله :( ثم جئت على قدر يا موسى ) أي جئت على موعد قدرنا لك أن تجيء فيه. أو جئت في الوقت الذي أردنا أن نرسلك فيه.
قوله :﴿ واصطنعتك لنفسي ﴾ أي اصطفيتك لوحيي ورسالتي، وهو قول ابن عباس.
قوله :( اذهب أنت وأخوك بآياتي ) أمره الله وأخاه هارون أن يبادرا إلى الذهاب بآيات الله، وهي معجزاته التي أنزلها على موسى، وحذرهما من الإبطاء والتقصير وهو قوله :( ولا تنيا في ذكري ) تنيا من الونى وهو الضعف والفتور والكلال والإعياء نقول : تواني في حاجته ؛ فهو وان ؛ أي مقصر١، فقد نهاهما الله عن الضعف والفتور في حمل الرسالة وتبليغها للقوم٢.
١ - مختار الصحاح ص ٧٣٧..
٢ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ١٢٦- ١٢٩ وتفسير القرطبي جـ١١ ص ١٩٧-١٩٩..
قوله تعالى :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ( ٤٣ ) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ( ٤٤ ) ﴾ كرر الأمر بالذهاب للتأكيد. على أن الأمر الأول مطلق فهو يقتضي الذهاب إلى الناس عامة. وأما الثاني فهو مقيد ؛ إذ يقتضي الذهاب إلى فرعون خاصة ؛ لأنه ( طغى ) أي جاوز الحد ؛ إذ عتا وتجبر وغالى في العصيان والكفران بادعائه الإلهية. ولهذا أمرهما الله أن يذهبا إلى هذا الظالم المتجبر.
فيقولا :( له قولا لينا ) أي يخاطباه بالرفق واللين. ومن مقتضى القول اللين : حسن الخطاب، ولطف الحديث والأسلوب. وذلك في رفق وتواضع ورحمة عسى أن يجد من قلب المخاطب رقة وميلا للحق وخشية من ذلك. خصوصا إن كان المخاطب ذا مكانة أو وجاهة وشرف في قومه. لا جرم أن فظاظة القول وفحش الخطاب يثير في نفس المخاطب النفور والغضب وركوب الحماقة والعناد.
قوله تعالى :﴿ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ( ٤٥ ) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ( ٤٦ ) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ( ٤٧ ) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ( ٤٨ ) ﴾ سأل موسى وهارون ربهما أن يربط على قلبيهما وأن يحوطهما بكلاءته وتوفيقه في وجه هذا الطاغوت المتجبر لما يعلمان فيه من فداحة العتو والطغيان، فخاطبا ربهما شاكيين إليه مستعينين به ( ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) ( يفرط علينا )، أي يعجل في عقوبتنا ( أو أن يطغى ) أي يجاوز الحد في العدوان علينا أو الإساءة إلينا.
لكن الله جل جلاله، نصير المستضعفين، ومجير المظلومين، ومجيب المكروبين والمضطرين من عباده العاملين المخلصين ؛ فهو يدفع عنهم الشر والضر، وهو يُبطل كيد المجرمين المتربصين من الحاقدين والماكرين.
قال لهما قوله الرباني الودود الذي يملأ عليهما القلب شرحا وراحة وطمأنينة ويثير فيهما بالغ الحماسة والنشاط ورباطة الجأش ﴿ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ﴾ لقد أذهب الله عنهما عادية من عوادي الأذى والتثبيط وهي عادية الخوف والجزع فاطمأنا وسكنا ثم أخبرهما ربهما أنه معهما فهو أقرب إليهما من أنفسهما إنه أقرب إليهما من حبل الوريد. فهو بذلك ناصرهما و مؤيدهما و مثبتهما. وهو كذلك يسمع كلام المتخاطبين من الفريقين، فريق الهدى، موسى وأخيه، وفريق الضلال، فرعون وجنوده. وهو سبحانه يرى ما يجري ويدور بينهما.
وفي ذلك من تسليتهما وتثبيتهما ما لا يخفى قوله :﴿ فآتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ﴾ أمرهما ربهما أن يأتيا فرعون فيبلغاه أنهما مرسلان إليه من الله، وأن يقولا له :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا نعذبهم ﴾ أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر والإستعباد ﴿ ولا نعذبهم ﴾ فقد كان فرعون يسوم بني إسرائيل العذاب ؛ إذ كان يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم و يستعملهم للسخرة والشقاء، ويكلفهم من العمل في الطين و بناء المدائن ما لا يطاق.
قوله :﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾ أي جئناك بدلالة أو برهان على صدق ما نقوله و ندعوك إليه. ولما سألهم فرعون عن هذه الدلالة أراهم موسى العصا و اليد ؛ إذ صارت العصا حية عظيمة تسعى. وخرجت يده من جيبه بيضاء تتلألأ لسطوع شعاعها وضوئها.
قوله :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ أي من اتبع هدى الله وسار على طريقه المستقيم سلم من عذاب الله في الدارين. دار الدنيا حيث البلاء والهلاك جزاء المعصية والجحد. ثم دار الآخرة حيث العذاب الواصب الذي لا ينقطع ؛ إذ الخلود في النار وبئس القرار.
قوله :﴿ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ﴾ ذلك إخبار من الله يخوف به فرعون لعله يخشع أو يتذكر أو يزدجر، وهو أن عذابه في الدنيا والآخرة لاحق بمن كذب برسله، وأعرض عن الإيمان بدينه، وما جاء به النبيون المبعوثون من رب العالمين١.
قوله تعالى :﴿ قال فمن ربكما يا موسى ( ٤٩ ) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( ٥٠ ) قال فما بال القرون الأولى ( ٥١ ) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( ٥٢ ) ﴾.
قال فرعون مخاطبا موسى خطاب الجاحد المستنكر ؛ إذ ﴿ قال فمن ربكما يا موسى ﴾ يعني من هو ربكما الذي تدعواني إليه ؟ فإني لا أعرفه. وهو فوق جحوده هذا يزعم لنفسه الإلهية –والعياذ بالله- فأجابه الله حكاية عن نبيه موسى و هارون.
﴿ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ أي الله الذي خص كل مخلوق بهيئته و صورته، فأعطاه شكله الذي يناسب ما أنيط به من منفعة ؛ فقد أعطى العين الهيئة التي تناسب الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذا الأنف و اليد والرجل ما يناسب كل واحد من هذه الأعضاء من الهيئة أو الشكل ليطابق المنفعة المنوطة به ﴿ ثم هدى ﴾ أي أعطى كل شيء صورته و صلاحه و هداه لما يصلحه.
قوله :﴿ قال فما بال القرون الأولى ﴾ سأل فرعون موسى وأخاه هارون عن الأمم الخالية و الأجيال الغابرة الذين مضوا ولم يؤمنوا برسالات النبيين فما حالهم وما مصيرهم.
فأجابه موسى :﴿ علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ ﴿ علمها ﴾، مرفوع ؛ لأنه مبتدأ. وخبره :﴿ في كتاب ﴾. وعند ربي ظرف متعلق بالخبر. وقيل :﴿ عند ربي ﴾، في موضع نصب على الحال. والمعنى : أن أعمال الأمم السابقة محفوظة عند الله مضبوطة عليهم، و علمها في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ. فالله لا ينسى و لا يغفل ولا يفوته من علم الكون شيء، صغيرا أو كبيرا.
قوله تعالى :﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( ٥٣ ) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( ٥٤ ) منها خلقناكم و فيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ( ٥٥ ) ﴾ ﴿ الذي ﴾، صفة لقوله :﴿ ربي ﴾ أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو الذي. أو منصوب بمضمر تقديره : أعني. والمهد، ما يبسط و يفرش ؛ أي جعل لكم الأرض مفترشا و قرارا تستقرون عليها، وجعل لكم فيها طرقا تسلكونها فتقضون حوائجكم وأشياءكم في سهولة ويسر، وأنزل عليكم من السماء مطرا فيه غيثكم ورزقكم ؛ إذ يخرج الله لكم به أصنافا مختلفة من أنواع النبات. و ﴿ شتى ﴾، فعله : شت شتا ؛ أي تفرق. والاسم الشتات. وشيء شتيت ؛ أي متفرق، وقوم شتى ؛ أي متفرقون. وشتان بينهما ؛ أي بعد.
قوله :﴿ كلوا وارعوا أنعامكم ﴾ أمر إباحة. أي سخر الله لكم نعمة الأرض والماء والحرث لتأكلوا من النبات والزرع، ولترعى أنعامكم الكلأ. وذلكم فضل من ربكم امتنّ به عليكم لتكونوا في حياتكم راغدين مستقرين.
قوله :( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) أي أصحاب العقول والنهى، جمع نهية، بضم النون. وسميت النهى ؛ لأنها تنهى عن فعل القبائح.
والمعنى : أنه فيما ذكر من النعم والمنن لَأعظَم الحجج والبراهين التي يستند إليها أولو العقول النيرة للوقوف على قدرة الله الخالق الصانع.
قوله :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ﴾ ذلك تقدير رباني عظيم كتبه الله على آدم وذريته من بعده، وهو خلْقهم من تراب. والمراد هنا آدم أبو البشر ( وفيها نعيدكم ) أي إذا متم تدفنون في الأرض، وهذه عودتهم إليهم ( ومنها نخرجكم ) أي نخرجكم من قبوركم التي في الأرض للبعث والحساب ( تارة أخرى ) مرة أخرى. يعني : أخرجناكم من الأرض ونخرجكم منها بعد الموت مرة ثانية.
وفي هذه الحقيقة المريعة، من بالغ العظة ما يديم التذكر في نفس الإنسان. التذكر الذي لا ينقطع والذي يظل يخالج النفس والذهن ؛ ليظل الإنسان مشدود اليقظة والتنبه، مستديم الحرص والازدجار، وهو يذكر أنه صائر لا محالة إلى نهايته المحتومة المنتظرة في التراب حيث الرقدة الطويلة إلى يوم البعث.
قوله تعالى :﴿ ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ( ٥٦ ) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ( ٥٧ ) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ( ٥٨ ) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ( ٥٩ ) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ( ٦٠ ) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ( ٦١ ) ﴾ لقد عاين فرعون الحجج والآيات كلها وهي تسع، هي : العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل.
لقد رأى ذلك كله فرعون معاينة لا إخبار. ومع ذلك جحد الآيات وأعرض مستكبرا معاندا. وذلك هو ديدن الطغاة المتجبرين من طواغيت البشر وأشرارهم ؛ فإنهم لا يؤمنون البتة، ولو رأوا كل آية أو برهان. وذلك لفرط عنادهم وعتوهم، وشدة استمساكهم وتشبثهم بمنافع الدنيا من جاه وسلطان ومال.
ثم قال فرعون لموسى جاحدا مكابرا. ﴿ أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ﴾ وبذلك يزعم فرعون أن ما جاء به موسى من الآيات سحر. الهمزة للإنكار ؛ أي جئتنا لتوهم الناس أنك نبي مرسل، وأنك آتيهم بمعجزات لكي يؤمنوا ويتبعوك فتكاثرنا بهم وتنقلب علينا فتخرجنا من مملكتنا وأرضنا.
قوله :( فلنأتينك بسحر مثله ) أي فلنعارضنك بسحر مثل سحر ؛ لنبين للناس أنك ساحر، وأن ما أتيتهم به ليس من عند الله ( فاجعل بيننا وبينك موعدا ) أي وعدا. أو يوما نجتمع فيه ( لا نخلفه نحن ولا أنت ) أي لا نخلف ذلك الوعد أو الوقت ( مكانا سوى ) ( مكانا )، منصوب على أنه بدل من قوله :( موعدا ) و ( سوى )، بضم السين وكسرها صفة لمكان١ وهو من الاستواء ؛ أي وسطا عدلا بيننا وبينك، أو مكانا مستويا يتبين للناس فيه ما نبينه لهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٣..
قوله :( قال موعدكم يوم الزينة ) ( موعدكم ) مبتدأ. وخبره ( يوم الزينة ). وهو يوم عيد لهم كانوا قيه يتزينون ويتنزهون ويفرحون. وقيل : يوم النيروز ( وأن يحشر الناس ضحى ) معطوف على ( يوم الزينة ). والتقدير : موعدكم وقت يوم الزينة. وموعدكم وقت حشر الناس ( ضحى ) أي وقت الضحوة. وضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى، وهي حين تشرق الشمس١ وفي هذا الميعاد يجتمع الناس ليقفوا على الحقيقة بعد أن يحصحص الحق ويزهق الباطل.
١ - مختار الصحاح ص ٣٧٧..
قوله :﴿ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ﴾ انصرف فرعون مدبرا من هذا المقام ليجمع كيده وهو مكره وحيله وسحره ثم أتى للميعاد. والمراد أن فرعون جمع السحرة من أهل مصر ليعارضوا الحق الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام. واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون. والناس في ذلك بين مقلّ ومُكثر. فقد قيل : كانوا اثنين وسبعين. وقيل : أربعمائه. وقيل : أربعة عشر ألفا. وقيل : كانوا ثمانين ألفا، وقيل : كانوا أكثر من ذلك، مما لا يخلو من الإسرائيليات. والمقصود أن فرعون جمع سائر السحرة في مصر وكانوا كثرا، ليكيدوا لموسى وما جاءهم به من الآيات والمعجزات.
ولما جيء بهم ( قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ) دعا عليهم موسى بالويل فخاطبهم محذرا : لا تختلقوا الكذب على الله، ولا تقولوا لما جئت به من المعجزات إنها سحر ( فيسحتكم بعذاب ) أي يهلككم الله بعذاب من عنده وهو الاستئصال.
قوله :( وقد خاب من افترى ) أي هلك وباء بالخيبة والخسران وسوء العاقبة من كذب على الله واختلق من الباطل ما لم يأذن به الله١.
١ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٥٧ وتفسير القرطبي جـ١١ ص ٢١٣- ٢١٥ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٧١..
قوله تعالى :﴿ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ( ٦٢ ) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ( ٦٣ ) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ( ٦٤ ) ﴾ لقد تشاور السحرة فيما بينهم وتجاذبوا أطراف الكلام ليروا رأيهم في أمر موسى وأخيه. وهذه هي النجوى ؛ إذ قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه. وقيل : النجوى هي قولهم :( إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما )
( إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ) ( إن )، مخففة من الثقيلة فهي غير عاملة. وقيل : إن، المشددة. وهي بمعنى نعم. وتقدير الآية : نعم هذان لساحران١. والمعنى : أن السحرة تناجوا فيما بينهم قائلين : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه، أي موسى وهارون، ساحران خبيران بصناعة السحر. وهما إنما يريدان بسحرهما أن يغلباكم في هذا اليوم ليستوليا على البلاد ويخرجاكم من مصر ( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) ( المثلى )، مؤنث الأمثل. مثل الفضلى والأفضل٢ والمراد ( بطريقتكم المثلى )، سنتكم وشريعتكم الصحيحة المستقيمة. يريدون بذلك صنعة السحر ؛ فقد كانت هذه سببا لتعظيمهم وظهورهم لدى الناس، وكذا جمع المال ليكونوا أهل شرف وكبرياء. فإن ظهر موسى وأخوه عليهم ذهب كيانهم وعزهم وزالت مكانتهم وسطوتهم ببطلان سحرهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٥..
٢ - مختار الصحاح ص ٦١٥..
قوله :( فأجمعوا كيدكم ) أي اجعلوا كيدكم أو مكركم مجمعا عليه، واعزموا على إتيانه ولا تختلفوا ( ثم ائتوا صفا ) ( صفا )، مصدر في موضع الحال١ ؛ أي ائتوا ما جاءكم به موسى مصطفين ؛ لأن ذلك أهيب في أعين الناظرين وقد فاز اليوم من غلب٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٧..
٢ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٥٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٧٣..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن تكون أول من ألقى ( ٦٥ ) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيتهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( ٦٦ ) فأوجس في نفسه خيفة موسى ( ٦٧ ) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ( ٦٨ ) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ( ٦٩ ) فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ( ٧٠ ) قال آمنتم له قبل أن آذان لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ( ٧١ ) ﴾.
قال السحرة لموسى : إما أن تلقي عصاك قبلنا، أو نحن نلقي ما معنا قبلك وإن، وما بعدها في محل نصب بفعل مضمر ؛ أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا. أو في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف ؛ أي الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا
فأجابهم موسى ( بل ألقوا ) أمرهم أن يلقوا ما معهم أولا، حتى يظهر للناس زيفهم وينكشف افتراؤهم وباطلهم وسوء ما يأفكون وأن ما جاءوا به كيد سحرة أشرار ( فإذا حبالهم وعصيتهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) ذكر أن السحرة لطخوا حبالهم وعصيهم بالزئبق. وهذه المادة شديدة التمدد بارتفاع الحرارة. فلما ألقيت الحبال والعصي في وهج الشمس الحارقة ؛ إذ الحرارة عالية، تمدد الزئبق تمددا ظاهرا، فاضطربت بتمدده الحبال والعصي وتحركت واهتزت حتى خُيل إلى موسى أن الأرض حيات تسعى على بطونها مسرعة. فكل يخيل للناظرين ؛ إذ ذاك أن هذه حيات تسعى باختيارها وما كان ذلك إلا زيف ساحرين، وحيلة اصطنعها دجاجلة أفاكون ليخدعوا بها الناس طمعا في الحظوة عند فرعون.
قوله :( فاوجس في نفسه خيفة موسى ) ( أوجس )، من الوجس وهو الصوت الخفي. والواجس معناه الهاجس ( وأوجس ) أي أضمر١ و ( موسى )، في موضع رفع على أنه فاعل أوجس. و ( خيفة )، منصوب ؛ لأنه مفعول للفعل أوجس٢.
لقد أحس موسى في نفسه الخوف مما رآه من الحيات المتخيلة والحية واحدة من كبرى الهوام المؤذية التي تضر الإنسان بلدغها المسموم. والإنسان بفطرته البشرية قد جبل على التهيب من هذا الكائن المؤذي. وعلى هذا يحتمل أن موسى قد خشي هذه الحيات على نفسه. أو أنه خاف أن يفتتن الناس بهذا المنظر العجيب فيذهلوا عما جاءهم به من الحق.
١ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٢٦٦ ومختار الصحاح ص ٧١٠..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٧..
فأوحى الله إليه بما يطمئنه ويذهب عنه الخوف ﴿ لا تخف إنك أنت الأعلى ﴾ أي لا تخش كيد هؤلاء السحرة وما صنعوه من مكر وحيلة ؛ فأنت الغالب المؤيد بتوفيق الله ورعايته وكلاءته وهم المهزومون المخذولون.
( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ) أي اطرح عصاك لتبلع ما صنعوه من حيلة هزيلة محتقرة. وهي اصطناع الحبال والعصي ( إنما صنعوا كيد ساحر ) الكيد معناه المكر والخدعة. والمعنى : أن الحبال والعصي التي خُيّل للناظرين سعْيها، إنما ذلك مكر ساحر وخداعه مما يصطنعه للناس ليضلهم عن دين الله وعن منهجه الحق.
قوله :( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) المراد بالساحر جنس السحرة ؛ فإنهم لا يفوزون في صنعهم وما فعلوه ولا يظفرون به بما راموه حيثما كانوا. ولا يأتون بخير البتة ؛ فهم فريق مهزوم ومخادع من الناس يعيش على التوهيم والغش والاحتيال وبذلك فإن السحر جرم عظيم وإفك مبين ؛ فهو والشرك صنوان، وما جزاء الساحر بعد ذلك إلا ضرب عنقه بالسيف، للخبر : " حد الساحر ضربة بالسيف ".
قوله :( فألقى السحرة سجدا ) بعد ما طرح موسى عصاه فانقلبت حية هائلة وابتلعت كل حبالهم وعصيهم أذهلهم ذلك وغشيهم ما غشيهم من العجب والدهش لما رأوا من المعجزة الكبرى فخروا لله ساجدين غير مترددين ولا متوانين ( قالوا آمنا برب هارون وموسى ) لقد آمن السحرة إيمانا صادقا مخلصا، لما رأوا من صدق المعجزة اليقينية المذهلة. وذلك هو ديدن الأسوياء من عباد الله، أولي الفطر السليمة غير المعوجة ولا المعطوبة ولا السقيمة ؛ فإنهم إذا عاينوا البراهين والدلائل بادروا في الحال، إلى التصديق والإيمان. ولا يتردد أو يخاصم بعد ذلك إلا المبطلون من مرضى الفطرة والنفوس.
قوله :( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ) الاستفهام للإنكار التوبيخي ؛ أي كيف آمنتم له أو به- أي بموسى دون إذن مني لكم ( إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ) أي إن موسى لعظيمكم ورئيسكم في صناعة السحر ؛ فهو الذي علمكم ذلك. وفرعون موقن في قرارة نفسه انه مفتر وأنه ظالم، وأنهم لم يتعلموا السحر من موسى وما كان موسى إلا صدوقا. وإنما يبتغي فرعون بذلك توهيم الناس والتلبيس عليهم ليرتابوا فيما جاءهم به موسى فلا يؤمنوا به ولا يصدقوه. ثم شرع بعد ذلك في التوعد والتهديد بإنزال العقاب الأليم بهم وهو التقطيع من خلاف والتصليب على جذوع النخل. وهو قوله :( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ) والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) أي يجعلهم مصلوبين على جذوع النخل بعد تقطيعهم من خلاف زيادة في تعذيبهم والتمثيل بهم حتى يموتوا ( ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ) أي لتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أم موسى. وذلك على سبيل التهكم والسخرية والاستعلاء. وأبقى، يعني أدوم.
لقد فعل فرعون الأثيم فعلته البشعة النكراء ؛ إذ قتل هؤلاء المؤمنين وهم ألوف. قتلهم ظلما وعدوانا ؛ فواجهوا ربهم شهداء، وأفضوا إلى الفوز بالخلود في الجنة.
وهكذا يفعل الطغاة المتجبرون والعتاة المتسلطون الذين يتحكمون في رقاب العباد ؛ إذ يعوزهم المنطق الظاهر والحجة السليمة ؛ فإنهم حينئذ لا يجدون غير البطش والتنكيل بخصومهم سبيلا١.
١ - تفسير الطبري ١٤٢ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٧٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٥٨..
قوله تعالى :﴿ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ( ٧٢ ) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ( ٧٣ ) إنه من يأتي ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ( ٧٤ ) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ( ٧٥ ) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ( ٧٦ ) ﴾ أجاب السحرة عقب إيمانهم برسالة موسى قائلين لهذا الظالم المتجبر فرعون : لن نختارك على ما جاءنا من الحق واليقين، أو من الحجج والبراهين القاطعة على صدق موسى ( والذي فطرنا ) ( الذي ) مجرور بالعطف على ( ما جاءنا ) وقيل : مجرور على القسم١.
قوله :( فاقض ما أنت قاض ) أي فاصنع ما أنت صانع. أو افعل ما شئت أن تفعله من القتل والصلب ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) هذه في موضع نصب على الظرف ؛ أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا، أو وقت هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا، صفة لهذه٢.
١ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ١٤٩..
٢ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ١٤٩..
قوله :( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ) هذا تأكيد من السحرة لفرعون بأنهم آمنوا بموسى وصدقوه فيما جاءهم به من الحق ليغفر لهم الله ما تلبّسوا به من الكفر وخطيئة السحر قبل إيمانهم.
قوله :( وما أكرهتنا عليه من السحر ) ما، في موضع نصب بالعطف على، ( خطايانا ) ١، أي آمنا بالله ليغفر لنا ما كنا فيه من الشرك، ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر لتعارض به موسى ( والله خير وأبقى ) الله خير لنا منك، وجزاؤه أدوم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٩..
قوله :﴿ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ الضمير في ( إنه ) يرجع إلى الأمر والشأن. وهذا من تمام ما قاله السحرة لفرعون، يحذرونه من عذاب الله وانتقامه فإن أخذه أليم شديد. والمعنى : أن من يليق ربه يوم القيامة على الكفر، فلسوف يبوء بالويل والخسران وأن مصيره إلى العذاب البئيس في جهنم. وهو ؛ إذ يتعذب فيها محترقا ( لا يموت فيها ولا يحيى ) أي لا يأتي عليه الموت في النار فيستريح ولا يحيى حياة ينتفع بها.
قوله :﴿ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ﴾ أي، والذي يلقى الله يوم القيامة على الإيمان والطاعة وقد عمل ما أمر الله به وانتهى عما نهى عنه ( فأولئك لهم الدرجات العلى ) ( العلى ) جمع العليا ؛ أي أولئك المؤمنون الصالحون يجزون المنازل الرفيعة في الجنة.
( جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ) ( جنات )، مرفوع على البدل من الدرجات١ وهذا هو جزاء المؤمنين الصالحين ؛ إنهم يجزون الإقامة في جنات الخلد، وهي نعيمها دائم لا ينقطع ( خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) ( خالدين ). منصوب على الحال. وهذا من قول السحرة لما آمنوا ؛ فقد ألهمهم الله هذا القول إلهاما فأنطقهم به. وهو أن المؤمنين الصالحين المتطهرين من الشرك ودنس المعاصي، جزاؤهم الجنات، لابثين ماكثين في نعيمها لا يأتي عليهم فناء ولا زوال٢.
١ - - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٤٩..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٣٧٦ وتفسير القرطبي جـ١١ ص ٢٢٥- ٢٢٧..
قوله تعالى :﴿ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ( ٧٧ ) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ( ٧٨ ) وأضل فرعون قومه وما هدى ( ٧٩ ) ﴾.
هذه آيات قصار وقلائل يتدفق من خلالها الإعجاز الظاهر المستعذب. إعجاز ندي وكريم يستشرفه القارئ بفطرته السليمة ليجد فيه من حلاوة النغم وعذوبة الإيقاع ما يثير الوجدان والخاطر، ويملأ القلب والخيال بهجة وسكينة، لفرْط ما يتجلى في هذا النظم العجيب من جمال الكلم، بألفاظه المميزة المصطفاة، وحروفه الشجية الندية التي تفيض على الجو والخيال ظلالا من النسائم الروحية العطرة. فلكأن القارئ الذي يعشق مثل هذا النظم الباهر يستشعر في أعماقه بنُقلة روحية ونفسية وذهنية يتملاها الخيال ويعشقها الحس. فيا لله لهذا الكلام الرباني العجيب.
أما المعنى للآية : فإنه لما قضى الله أن يهلك فرعون وجنوده الظالمين أمر رسوله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلا فيأخذ بهم طريق البحر. ولما وصل موسى وبنو إسرائيل البحر، وفرعون يتبع أثرهم بجنوده حتى إذا تراءى الجمعان، أصاب بني إسرائيل الهلع والذعر ؛ إذ ظنوا حينئذ انه لا منجاة لهم ولا ملجأ، يفرون إليه، فالبحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من ورائهم، لكن الله نصير المؤمنين الصابرين ومغيث المكروبين المظلومين، ومعز رسله الأبرار الطاهرين، قد أمر نبيه وكليمه موسى أن يضرب للبحر بعصاه. وهو قوله :( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) يبسا منصوب على أنه صفة لقوله :( طريقا ) وهو مصدر. نقول : يبس يبسا ويُبسا أي لا ماء فيه ولا طين.
لقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق منه اثنا عشر طريقا يابسا لا ماء فيه ولا طين وبين كل طريقين ماء قائم كالجبال وهو قوله في آية ثانية ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) أي الجبل الكبير. فأخذ كل سبط من بني إسرائيل طريقا يمشي فيه آمنا سالما من كل مكروه، لا جرم أن هذا من أعظم المعجزات التي امتنّ الله بها على بني إسرائيل.
قوله :( لا تخاف دركا ) الجملة الفعلية في موضع نصب على الحال. والتقدير : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ؛ أي غير خائف إدراك فرعون١ والدرك والإدراك بمعنى اللحاق.
قوله :( ولا تخشى ) أي لا تخشى من البحر أن يغشاكم. فلا فرعون يدرككم ولا البحر مغرقكم أو مطبق عليكم. ولكنكم آمنون سالمون وستمضون وسط البحر فوق اليبس في منجاة من كل سوء أو مكروه.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٠..
قوله :( فأتبعهم فرعون بجنوده ) أي اتبعهم، أو خرج خلفهم فرعون ومعه جنوده ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) لفظة ما، تفيد الإبهام. وفي ذلك ما يشير إلى تعظيم الشأن وهول ما حصل. فيكون ذلك أبلغ في التخويف والتهديد. أي أصاب فرعون وجنوده من هول البحر وهوان التغريق ما لا يعلم فداحته وفظاعته. أي أصاب فرعون وجنوده من هول البحر وهوان التغريق ما لا يعلم فداحته وفظاعته إلا الله١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٢ ص ٩٣ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ١٦٠..
قوله :﴿ وأضل فرعون قومه وما هدى ﴾ لقد أضل فرعون قومه بطغيانه وكبريائه وفرط غروره وحماقته. أضلهم ؛ إذا استخفهم وساقهم إلى الهلاك والخسران بعد أن خدعهم وكذب عليهم وأثار في خيالاتهم الواهمة السقيمة أنه مجيرهم فيرد عنهم كل المكاره والعوادي، وأنه صائر بهم إلى النجاة والرشاد ؛ فقد أضلهم هذا الطاغوت الشقي بسوقهم إلى سوء المصير في الدنيا حيث التغريق، وفي الآخرة حيث التحريق. فما أرشدهم إلى سداد ولا صواب. وذلك هو شان الطغاة والظلمة من الساسة والحاكمين الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والذين يستكثرون من حولهم المنافقين والمستغفلين والخائرين حتى إذا جاء أمر لله، سيق الظالم المتجبر وأعوانه المنافقون والمستخفون والخائنون إلى حيث الخزي والافتضاح وانكشاف السوءات في هذه الدنيا، ثم يوم القيامة يردون إلى جهنم وبئس المصير.
قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ووعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ( ٨٠ ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( ٨١ ) وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( ٨٢ ) ﴾ يذكر الله بني إسرائيل بما منّ عليهم من نعم عظام ؛ إذ أنجاهم من عدوهم العاتي فرعون وأقرّ أعينهم منه لما رأوه وجنوده يغرقون جميعا في البحر. يذكرهم بنعمه وفضله عليهم ليشكروه ويطيعوه وينيبوا إليه.
قوله :( ووعدناكم جانب الطور الأيمن ) ( جانب الطور )، منصوب على أنه مفعول ثان للفعل و ( وواعدناكم ) التقدير : وعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف١ و ( الأيمن ) منصوب ؛ لأنه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال بل كان الجبل على يمين موسى إذا أتاه. وذلك أن الله وعد موسى أن يأتي هذا المكان، ويختار من قومه سبعين رجلا يحضرون معه لنزول التوراة. وإنما نسب المواعدة إليهم ؛ لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم، فرجعت منافعها إليهم.
قوله :( ونزلنا عليكم المن والسلوى ) ( المن ) حلوى كانت تنزل على بني إسرائيل من السماء. و ( السلوى ) طائر يسقط عليهم فيأخذون منه بقدر حاجتهم، رحمة من الله بهم وتفضلا منه عليهم ؛ إذ رزقهم ذلك وهم في التيه حيث الحر والعُطاش وانقطاع الماء والغذاء.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥١..
فقال لهم :( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) رزقهم الله في التيه هذا الرزق المستطاب الحلال ليأكلوا منه هانئين مستمرئين ( ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي ) ( تطغوا ) من الطغيان وهو تجاوز الحد. أو المجاوزة إلى ما لا يجوز. والمراد أن لا تتعدوا حدود الله فيما رزقكم بأن تجحدوا نعمته فلا تشكروها وتنفقوها في المعاصي والإسراف ؛ فإنكم إن فعلتم ذلك نزل بكم غضبي ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) أي من نزل به غضب الله فقد صار على الهاوية من قعر جهنم.
قوله :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ ١ ( صالحا ) صفة لموصوف ؛ أي عمل عملا صالحا٢ هذا بلاغ كريم من الله لعباده عن عظيم مغفرته لهم وإحسانه إليهم ؛ فهو سبحانه يتجاوز عن خطايا التائبين عن الشرك هو أفدح الخطايا. وهو قوله عز وعلا :( وإني لغفار لمن تاب ) أي تاب عن الشرك وآمن بالله وحده وصدّقه فيما أنزله من رسالة ودين ( وعمل صالحا ) أي أطاع الله فعمل بمقتضى دينه وشرعه ولم يخالفه فيما أمر ( ثم اهتدى ) أي استقام وثبت على دين الله ومنهجه الحق دوام حياته حتى لقي الله وهو على ذلك٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٢..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٢..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٦١..
قوله تعالى :( وما أعجلك عن قومك يا موسى ( ٨٣ ) قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى ( ٨٤ ) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( ٨٥ ) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ( ٨٦ ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ( ٨٧ ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( ٨٨ ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( ٨٩ ) ).
ما، في محل رفع بالابتداء. والخبر ( أعجلك ) يعني أي شيء أعجلك ؟ ١ والاستفهام للإنكار. وبيان ذلك : أن موسى قد استجاب لأمر ربه فسارع مبادرا إلى الطور من أجل المناجاة وتلقي التوراة عن رب العالمين، وقد استخلف أخاه هارون لقيادة بني إسرائيل حال غيابه عنهم. ولهذا قال سبحانه :( وما أعجلك عن قومك يا موسى ) يعني أي شيء عجّل بك وحملك على أن تسبق السبعين الذين اخترتهم لميقات الله على الطور. وذلك أن موسى مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم مسرعا لفرط شوقه للقاء ربه والاستماع لكلامه. وقد أمرهم أن يتبعوه.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٢..
( قال هم أولاء على أثري ) أي ها هم خلفي لاحقون بي وليس بيني وبينهم غير مسافة قصيرة. ثم بين ما دعاة إلى هذا الاستعجال وهو قوله :( وعجلت إليك رب لترضى ) أي جئت مسرعا إلى الموعد لتزداد عني رضا.
قوله :﴿ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ﴾ أي ابتلينا قومك من بعدك واختبرناهم وأوقعناهم في محنة بعد انطلاقك من بينهم ( وأضلهم السامري ) ( السامري ) نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة في بلاد الشام ؛ فقد دعاهم هذا إلى عبادة العجل فأجابوه.
( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) الأسف : أشد الحزن. وأسف عليه، أي غضب١.
قوله :( قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ) ( وعدا ) منصوب على المصدر. وقيل : منصوب على أنه مفعول ثان للفعل ( يعدكم ) ٢.
والمعنى : أما وعدكم الله خير الدنيا والآخرة ؛ إذ نصركم الله وأظهركم على عدوكم بإهلاكه في البحر غرقا، ومنّ عليكم بأياديه الكثيرة في التيه، من المن والسلوى والغمام وإنزال التوراة عليكم وما فيها من نور وحكمة ومما يصير بكم إلى الفوز بالجنة ( أفطال عليكم العهد ) الاستفهام للتوبيخ ؛ أي أفنسيتم لطول العهد. والعهد هنا الزمان. والمراد مفارقته إياهم لدى ذهابه إلى الطور للمناجاة وتلقي التوراة، أو طالت مدة انتظارهم لما وعدهم الله فنسوا.
قوله :( أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) الغضب، معناه السخط وإرادة الانتقام٣ والمعنى : أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سببا لنزول الغضب من الله بكم ( فأخلفتم موعدي ) فقد وعدوه أن يقيموا على طاعة الله حتى عودته من الميثاق وألا يفرطوا في غيابه لكنهم أخلفوه ما وعدوه باتخاذهم العجل.
١ - مختار الصحاح ص ١٦..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٢..
٣ - المعجم الوسيط جـ٢ ص ٦٥٤..
قوله :( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ) بكسر الميم، وهو مصدر ملك يملك ملكا، أي ما اخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا. ولو ملكنا أمرنا لما أخلفنا موعدك، ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده لنا. أو ما أخلفنا موعدك عن قدرتنا واختيارنا ( ولكن حملنا أوزارا من زينة القوم ) أي حملنا أثقالا من حلي القبط، كانوا قد استعاروها منهم ليلة الخروج من مصر محتجين بأن لهم غدا عيدا. وقيل : هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسموها أوزارا ؛ لأنها كانت آثاما. إذ لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم.
قوله :( فقذفنها فكذلك ألقى السامري ) لما ثقل عليهم حمل هذه الحلي قذفوها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ؛ إذ أمرهم هو بطرحها فيها. وقد قيل : إن السامري قال لهم حين استبطأوا موسى : إنما احتبس عليكم موسى بسبب ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول جبريل عليه السلام فصار عجلا جسدا له خوار. وهذا قوله سبحانه :( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار )
قوله سبحانه :( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) الخوار صوت البقر. وقيل : كان خواره بالريح ؛ لأنه كان قد عمل فيه خروقا فإذا دخلت في جوفه الريح خار ولم يكن فيه حياة.
قوله :( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) القائلون ذلك، هم السامري ومن تبعه من المشركين الميالين للتشبيه. ونسي، بمعنى ترك، وفاعل نسي السامري ؛ أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان بالله وحده ومجانبة عصيانه والإشراك به.
قوله :﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ﴾ المقصود العجل. والمعنى : أفلا يرى هؤلاء الضالون أن ما عبدوه- وهو العجل- لا يجيبهم ولا يكلمهم، وهو أعجز عن أن ينفعهم أو يضرهم. فكيف يكون إلها ؟ وكيف يتخذونه معبدوا١ ؟.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٦٢ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٨٠..
قوله تعالى :﴿ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( ٩٠ ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( ٩١ ) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( ٩٢ ) ألا تتبعن أفعصيت أمري ( ٩٣ ) قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( ٩٤ ) ﴾.
قال هارون لبني إسرائيل قبل رجوع موسى إليهم من الميقات : إنما فتنتم بالعجل إذ أضلكم به السامري، وإنما الله هو ربكم ومعبودكم فاتبعوني في عبادته وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله وحده لا شريك له.
قوله :﴿ قالوا لن نبرح عليك عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ﴾ أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل ( حتى يرجع إلينا موسى ) فننظر هل يعبده كما عبدناه، وهل يصدق السامري كما صدقناه.
قوله :﴿ قال يا هارون ما منعك إذا رأيتهم ضلوا ﴾ لما رجع موسى إلى قومه، هاله ما رآه من عبادتهم العجل، فاستشاط بذلك غضبا، وألقى ما كان في يده من الألواح الربانية وأخذ برأس أخيه هارون ولحيته يجره إليه لفرط ما غشيه من الأسف والغضب ثم قال له : ما منعك حين رأيت القوم قد تاهوا وزاغوا إلى الشرك والعصيان.
( ألا تتبعن )، لا زائدة أي مامنعك ؛ إذ ذاك أن تلحق بي فتخبرني عن زيغهم وتفريطهم وضلالهم بعبادة العجل ( أفعصيت أمري ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي هل خالفت ما أمرتك به من دوام على طاعة الله وثبات على دينه وذب عن شرعه ؟.
قوله :﴿ قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ﴾ أخذ موسى برأس هارون في يد، وبلحيته في يده الأخرى، وأخذ يجره إليه لشدة ما غشيه من الغيرة والأسف، فخاطبه هارون وهو شقيقه لأبويه- خاطبه في رفق وتودد ( يبنؤم ) لقد ترقق له بذكر الأم على سبيل الاستعطاف والترفق ؛ لأن ذكر الأم أبلغ في إثارة الرأفة والحنو ( إني خشيت أن تقول فرقت بين إسرائيل ) خشيت إن فعلت بهم ما تريده من زجرهم ومقاتلة بعضهم الذين ضلوا، أو الخروج عنهم واتباعك فيتبعني فريق منهم ويتبع آخرون السامري- أن تقول : إني فرقت بين القوم ( ولم ترقب قولي ) أي خشيت كذلك أن تقول لي : إنك لم تراع ما أمرتك به وهو أن تخلفني في القوم حال غيابي. ١
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٦٣ وتفسير البيضاوي ص ٤٢١..
قوله تعالى :﴿ قال فما خطبك يا سامري ( ٩٥ ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( ٩٦ ) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( ٩٧ ) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ( ٩٨ ) ﴾ أقبل موسى على السامري يوبخه توبيخا. وهو قوله :( فما خطبك يا سامري ) أي ما شأنك وما الذي حملك على ما فعلت ؛ إذ فتنت بني إسرائيل وأغويتهم فعبدوا العجل. وقيل : إن السامري كان منافقا في بني إسرائيل وليس منهم بل من قبيلة يقال لها سامرة. وكان يعلم أن بني إسرائيل يميلون إلى عبادة العجل فاتخذه لهم وأغواهم بعبادته.
فأجاب السامري ﴿ بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ﴾ أي علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل ؛ فقد رأيت جبريل على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثر فرسه قبضة، وهي ملء الكف ( فنبذتها ) أي طرحتها في الحلي المذاب، والمسكوب على هيئة العجل و ( كذلك سولت لي نفسي ) الكاف، صفة لمصدر محذوف ؛ أي ومثل ذلك التسويل ( سولت لي نفسي ) أي زينت لي نفسي أن أفعل ذلك اتباعا لما هويته. وهذا اعتراف منه بالخطأ.
قوله :( قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ) قال موسى للسامري : اذهب من بيننا طريدا ( فإن لك في الحياة ) أي ما حييت ( أن تقول لا مساس ) أي تقول لمن أراد مخالطتك " لا يمسسني أحد ولا أمسّه طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. وقال الحسن البصري : جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له، ولما كان منه إلى يوم القيامة. وقيل : كان يهيم في البرية يصيح : لا مساس
( وإن لك موعدا لن تخلفه ) بفتح اللام، وضمير المخاطب في محل رفع نائب فاعل. والهاء في ( تخلفه ) في محل نصب مفعول ثان١ يعني : إن لك وعدا من الله بعذاب ينجزه لك يوم القيامة، ولن يخلفك الله وعده، جزاء فعلتك التي فعلتها وهي فتنة الناس وإغواؤهم بعبادة العجل.
قوله :( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ) ( ظلت ) أصلها ظللت، حذف اللام الأولى للتخفيف ؛ أي انظر إلى معبودك العجل الذي أقمت على عبادته ملازما ( لنحرقنه ) بتشديد الراء، نقول : حرّقه يحرّقه بتشديد الراء للإكثار من الحرق بالنار ( ثم لننسفنه ) من النسف، وهو الاقتلاع والتفريق والتذرية٢ أي لنذرينه أو لنطيرنه لتذروه الرياح في البحر.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٤..
٢ - المصباح المنير جـ٢ ص ١٤٢..
قوله :( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ) ليس من إله إلا الله، وكل ما سوى الله من آلهة مزعومة ومصطنعة، محض افتراء وباطل ؛ بل الله وحده الخالق المعبود ( وسع كل شيء علما ) علما تمييز منصوب ؛ أي وسع علمه كل شيء١.
١ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٢٣٩-٢٤٣..
قوله تعالى :﴿ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ( ٩٩ ) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ( ١٠٠ ) خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ( ١٠١ ) يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ( ١٠٢ ) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ( ١٠٣ ) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ( ١٠٤ ) ﴾ الكاف في قوله :( كذلك ) في محل نصب صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ما قصصنا عليك خبر موسى وفرعون ( نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) أي نقص عليك من أخبار النبيين والأمم من السابقين لما في هذا القصص من تسلية وتثبيت لفؤادك وشهادة لك بأنك نبي صادق ( وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) أي أعطيناك من عندنا ذكرا وهو القرآن. وهو خير ما يعطاه أحد من العالمين ؛ فهو كلام الله الحق الذي جمع كل ظواهر الكمال وحسن المزايا في الحق والعدل والسداد والصلاح. وفيه من المعاني والأخبار والأحكام والمواعظ ما ليس له في كتب العالمين والنبيين نظير.
قوله :﴿ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ﴾ من تولى مدبرا عن هذا القرآن فجحده ولم يؤمن به ونأى عنه بقلبه وفكره وهواه، أو لم يعبأ بما فيه من أوامر وأحكام فلم يعمل بها ؛ فلسوف يجازى يوم القيامة ( وزرا ) أي عقابا ثقيلا يحمله قسرا ولا يطيقه لفظاعته وشدة هوله.
( خالدين فيه ) أي ماكثين لابثين في هذا الجزاء المرير، لا يتحولون عنه ولا يبرحونه ( وساء لهم يوم القيامة حملا ) أي بئس الحمل الذي حملوه يوم القيامة.
قوله :﴿ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ﴾ ( يوم ) بدل من ( يوم القيامة ) أي حينئذ ينفخ في الصور لبعث الخليقة من قبورهم ورفاتهم ثم جمعهم للحشر ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ) ( المجرمين ) أي الضالين المكذبين الذين أعرضوا عن الذكر الحكيم وهو القرآن و ( زرقا ) حال منصوب ؛ أي عميا. وقيل : عطاشا قد أزرقت عيونهم من شدة العطش. وقيل : الزرقة، شخوص البصر من شدة الخوف.
قوله :( يتخافتون بينهم ) من الخفت وهو الإسرار في المنطق، أو خفض الكلام١. والمعنى أنهم يبعثون يوم القيامة يتسارون فيما بينهم ؛ إذ يقول بعضهم لبعض في كتمان واستسرار ( إن لبثتم إلا عشرا ) أي ما لبثتم في الدنيا، أو في القبور أمواتا سوى عشر ليال ؛ فهم بذلك يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا لهول ما يجدونه من شدائد يوم القيامة.
١ - مختار الصحاح ص ١٨١..
قوله :( نحن أعلم بما يقولون ) الله عليم بما يتناجون فيه، وهو سبحانه عليم بالمدة التي مكثوها.
قوله :( إذ يقول أمثالهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ) حينئذ يقول أعدلهم قولا وأوسطهم رأيا وأكملهم عقلا : ما لبثتم في الدنيا إلا يوما واحدا، وذلك لإحساسه البالغ بهوان الدنيا الفانية واستقصار مدتها يوم القيامة١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٦٥..
قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ( ١٠٥ ) فيذرها قاعا صفصفا ( ١٠٦ ) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ( ١٠٧ ) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا ( ١٠٨ ) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قول ( ١٠٩ ) ا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( ١١٠ ) وعنت الوجوه للحي لقيوم وقد خاب من حمل ظلما ( ١١١ ) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ( ١١٢ ) ﴾.
هذه صورة شاخصة مثيرة تتجلى فيها أحداث القيامة الجسام وأهوالها الفظيعة العظام. القيامة بفظائعها وقواصمها ودواهيها المريعة تتبدى للذهن والخيال من خلال هذه الكلمات الربانية المذهلة، على طريقة القرآن في أسلوبه العجيب المصور وعباراته وألفاظه الندية النفاذة، وحروفه المميزة العذاب ذات الإيقاع الموحي والجرس الشجي بما يثير في نفس المتدبر البصير مزيجا من إحساسات فياضة شتى من البهجة والارتياع والوجوم والذعر في آن. كل ذلك تثيره هذه الآيات الحافلة العجاب في خيال القارئ المدّكر وهو يرددها مرات ومرات فلا يعتريه مَلال ولا سآمة. وليس أدل من ذلك على أن القرآن يفوح منه سرّ مستعذب يدركه القارئ الخبير فيستيقن أنه معجز وأنه من لدن إله حكيم. قوله :( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ) سألوا رسول الله ( ص ) عن حال الجبال ؛ يوم القيامة وما يُصنع بها، وقيل : إن سألوك عن الجبال. فقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم الله ( ينسفها ربي نسفا ) النسف، معناه القلع من الأصل. ونسف الجبال ؛ أي دكها دكا وذرّاها١. والمراد : أن الجبال يقلعها الله يوم القيامة من أصولها ثم يصيّرها رملا تذروه الرياح ثم تصير بعد ذلك كالعهن المنفوش وهو الصوف فتطيره الرياح في كل جهة ومكان.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ٢٠٦..
قوله :﴿ فيذرها قاعا صفصفا ﴾ القاع، المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان١ وكذا الصفصف، معناه المستوي من الأرض٢. فالمعنى واحد في القاع والصفصف. وقيل : الصفصف ما كان مستويا أملس ؛ أي يترك أماكن الجبال أو مواضعها التي كانت فيها أرضا مستوية ملساء لا نبات فيها ولا بناء.
١ - مختار الصحاح ص ٥٥٦..
٢ - المصباح المنير جـ٢ ص ٣٦٧..
قوله :﴿ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ﴾ العوج : الانخفاض. والأمت : المكان المرتفع. وقيل : التلال الصغار. والمعنى : أن الأرض من مواضع الجبال تكون يوم القيامة مستوية فلا انخفاض فيها ولا ارتفاع، ولا وادي ولا رابية.
قوله :( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ) يوم القيامة يتبعون صوت المنادي وهو الملك العظيم إسرافيل ؛ إذ ينادي الخليقة إلى المحشر ( لا عوج له ) أي لا يزيغون عن ندائه بل يبادرون مسرعين إليه وجلين غير ناكصين ولا هاربين.
قوله :( وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا ) أي سكنت الأصوات حينئذ للرحمن لعظيم مهابته وجلاله ( فلا تسمع إلا همسا ) الهمس، الصوت الخفي، أو هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر فلا يُسمع للناس نطق ولا كلام إلا الصوت الخفي الهامس. وذلك مما يغشاهم من أهوال الساعة وقوارعها الرهيبة.
إن هذه الكلمات الربانية بهذه الحروف الهامسة الندية وأنغامها النفاذة الحسان تثير في الخيال ظلالا من العجب والذهول والرهبة.
وهذه المزية القرآنية لا تتيسر ولا تتجلى بمثل هذا القدر في غير القرآن. إنها ألفاظ وحروف قرآنية تنشر في الذهن والخيال صورة جلية محسّة عما يقع من فظائع في يوم القيامة. وما يكاد المرء يقرأ هذه الكلمات والحروف حتى تراوده صورة البعث الهائل، والحشر الحاشد، والقيامة بمشاهدها المرعبة الجسام.
قوله :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا ﴾ أي في هذا اليوم الحافل تغيب الشفاعات والمقامات والجاهات التي كانت معتبرة لدى الناس في الدنيا فلا تجدي حينئذ شفاعة الشافعين إلا الشفاعة ممن أذن له الله وكان من المؤمنين الصالحين، وكانت شفاعتهم مما يرضى عنها الرحمان.
قوله :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ﴾ أي أن الله يعلم ما يصير إليه الناس من أمر الساعة حيث الثواب والعقاب ويعلم ما خلفهم، وهو ما تركوه وراءهم في الدنيا.
قوله :﴿ وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ﴾ ( وعنت ) أي خضعت وذلت. والعاني الأسير. يقال : عنا فلان فيهم أسيرا ؛ أي أقام على إساره فهو عان، وقوم عُناة. ونسوة عوان١ و ( القيوم ) الدائم بتدبير الخلق ؛ وذلك كائن يوم القيامة، حين يأتي الناس خاشعين مستسلمين أذلة، وقد غمرتهم داهية الساعة بعظمائها المذهلة، وغشيت قلوبهم ووجوههم غواش كثاف من الذل والذعر والاستسحار ؛ فهم حينئذ خاضعون واجمون حيارى من هول المعاينة ومما يجدونه من جلل الخطوب والمشاهد. كل هاتيك المعاني من الرعب واليأس والاستسلام والخشوع يتجلى في هذه العبارة القرآنية الفذة. العبارة القصيرة الوجيزة ذات الكلمات الموحية المؤثرة، والتي تشْدَهُ الحس والخاطر، وتنفذ إلى الصميم من الوجدان والمشاعر. فما يتملى القارئ هذه الآية حتى يقفز به الخيال في نقلة عجيبة مذهلة إلى واقع مميز جديد، واقع القيامة بغواشيها وعظائمها وعرصاتها. وذلك دليل ظاهر من أدلة كاثرة على أن هذا الكلام من نظم الإله القادر ( وقد خاب من حمل ظلما ) أي خسر ويئس من أتى ربه يوم القيامة بظلم وهو الشرك. وفي الصحيح : " إياكم والظلم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك ؛ فإن الله تعالى يقول :( إن الشرك لظلم عظيم ).
١ - مختار الصحاح ص ٤٥٩..
قوله :﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ﴾ لا قيمة للطاعات وفعل الصالحات بغير إيمان. وإنما الإيمان شرط ظاهر يتحقق بموجبه قبول الطاعات ؛ فالمؤمن الطائع لربه، العامل للصالحات ( لا يخاف ظلما ولا هضما ) لا يخاف ظلما، أي نقصانا من ثوابه ولا زيادة في سيئاته ( ولا هضما ) من الهضم وهو الانتقاص من الحق١ هضمه حقه ؛ أي نقصه٢.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٣١٢..
٢ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٢٤٦- ٢٤٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٨٦-٣٨٧..
قوله تعالى :﴿ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ( ١١٣ ) فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ( ١١٤ ) ﴾ ( وكذلك أنزلناه ) معطوف على قوله :( كذلك نقص عليك ) أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه. والمراد به القرآن ؛ فقد أنزله الله عربيا ؛ أي بلسان عربي ليفهموه ويتدبروه ( وصرفنا فيه من الوعيد ) أي بينا فيه من ضروب الوعيد كالتخويف والتهديد، لعلهم يخشون ربهم فيجتنبون نواهيه من شرك وآثام ( أو يحدث لهم ذكرا ) أي عظة. وذلك أن يتذكروا ما توعدهم الله به من الانتقام فيخافوا ويزدجروا. وقيل : الذكر بمعنى الشرف.
قوله :( فتعالى الله الملك الحق ) أي تنزه الله عن كل النقائص والعيوب التي يتلبس بها البشر ( الملك ) الله مالك العالمين وله ملكوت كل شيء وهو سبحانه ملك الملوك وهو عز وعلا ( الحق ) الثابت في ذاته وصفاته.
قوله :( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) ذلك تعليم من الله لنبيه الكريم كيف يتلقى القرآن عن الوحي ؛ فقد كان النبي ( ص ) يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا منه على الحفظ، وخشية على القرآن من النسيان، فنهاه الله عن ذلك وهو قول ابن عباس. قال الزمخشري في تأويل الآية : لما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليه ريثما يُسمعك ويُفهمك. ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك. ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته ونحوه قوله تعالى :( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) وقيل معناه : لا تُبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان ( وقل رب زدني علما ) يعلم الله نبيه حسن التواضع والتأديب وهو أن يسأله الزيادة من العلم. لا جرم أن الاستزادة من اعلم خير ما يرجوه المؤمن ويدعو ربه أن يمكنه من الظفر به١.
١ - الكشاف للزمخشري جـ٢ ص ٥٥٥ وتفسير البيضاوي ص ٤٢٣..
وقوله تعالى :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( ١١٥ ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ( ١١٦ ) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ( ١١٧ ) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ( ١١٨ ) وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ( ١١٩ ) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( ١٢٠ ) فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ( ١٢١ ) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( ١٢٢ ) ﴾ أوحى الله إلى آدم من قبل وجود ذريته، أو من قبل أن يأكل من الشجرة لكنه خالف أمره إلى ما نهى عنه. والذي عهد إلى آدم هو أن لا يأكل من الشجرة ( فنسي ) أي نسي العهد أو الأمر ؛ إذ تركه. وقيل : إنما سمي الإنسان ؛ لأنه عهد إليه فنسي وهو قول ابن عباس.
قوله :( ولم نجد له عزما ) العزم معناه التصميم والتصلب، والمراد : لم نجد له عزما على التحفظ والاحتراز عن الغفلة. على أن هذه الآية ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله. وقيل : وجه تعلقه بما قبله : أنه لما عُهد إلى محمد رسول الله ( ص ) ألا يعجل بالقرآن فقد مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي وهو آدم.
قوله :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ﴾ أي واذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود تكريما لآدم فأذعنوا جميعا باستثناء إبليس ؛ فإنه لم يسجد بل استكبر. وذكرنا سابقا أقوال العلماء في حقيقة إبليس، وبينا أن القول الراجح في ذلك كونه من غير جنس الملائكة الأطهار ؛ بل كان من أصل الجن وقد خلقوا من لسان من نار.
قوله :( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك ) إبليس مجبول على الخبيث والشر وسوء الطوية ؛ فهو بذلك لا يبغي لبني آدم غير الإضلال والتخسير وسوء المصير. على أن إبليس يكن بالغ العداوة قبل كل شيء لأبي الخلق آدم وزوجه ؛ إذ كان آدم سببا فيما لحقه من اللعن، فيريد من أجل ذلك أن يخرجهما من الجنة بعصيانهما أمر ربهما في الشجرة ؛ ليفرغ بعد ذلك لإضلال ذريتهما من بعدهما.
قوله :( فتشقى ) أي يحل عليكما وعلى ذريتكما الشقاء في الدنيا. والمراد بذلك : شقاء البدن في السعي الكديد لطلب الرزق أو القوت. إلى غير ذلك من وجوه الشقاء والعناء ومقارعة المشكلات والأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يجد منها الإنسان الهموم ويكابد بسببها الشدائد.
قوله :﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ﴾ ( ألا تجوع ) الجملة في موضع نصب اسم إن١. يحبّب الله آدم بالمكث في الجنة ؛ فهو إن حفظ الوصية والتزم العهد بطاعة الله لبث في الجنة فلا يجد فيها جوعا ولا عُريا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٤..
ولا عطشا ( ولا تضحى ) أي لا يصيبك حر الشمس ؛ إذ ليس في الجنة شمس ولا حر. وإنما أهلها آمنوا راغدون في عيش هانئ محمود وظل كريم ممدود.
قوله :( فوسوس إليه الشيطان ) أي ألقى إليه الشيطان وحدثه أو أسر إليه. وهو قوله :( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ) هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين فلا يأتي عليك موت ( وملك لا يبلى ) أي مُلّكت ملكا لا يفنى.
( فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما ) أكل آدم وزوجه حواء من الشجرة المنهي عن الأكل منها، فانكشفت لهما عوراتهما وكانت مستورة عن أعينهما ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) طفق بمعنى جعل١. و ( يخصفان ) من الخصف وهو الخرْز والإلزاق٢. أي جعلا يزلقان بعض الورق ببعض ليسترا به عورتهما. وقيل : الورق من روق التين.
قوله :( وعصى آدم ربه فغوى ) العصيان معناه وقوع الفعل على خلاف ما أمر الله ونهى. وقد يكون عمدا فيكون ذنبا وقد لا يكون عمدا فيكون زلة. وما وقع لآدم كان على جهة الخطأ والنسيان ولا يخل ذلك من قدره وجليل نبوته ( فغوى ) أي خالف أمر ربه فتعدى إلى ما ليس له أن يتعدى إليه وهو الأكل من الشجرة. وقيل : غوى بمعنى فسد عليه عيشه بالنزول إلى الدنيا حيث العناء والشقاء والمكابدة.
١ - مختار الصحاح ص ٣٩٤..
٢ - مختار الصحاح ص ١٧٧..
قوله :( ثم اجتباه ربه ) أي اصطفاه وقربه إليه ( فتاب عليه ) أي قبل توبته عقب أكله من الشجرة وإحساسه بالندم فاستغفر الله وسأله التوبة والرحمة ( وهدى ) هداه ربه إلى الثبات على العصمة. وقيل : هداه إلى الاعتذار والاستغفار١.
١ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ١٦١-١٦٣ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٦٨ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٤٩..
قوله تعالى :﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( ١٢٣ ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ( ١٢٤ ) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ( ١٢٥ ) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( ١٢٦ ) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ( ١٢٧ ) ﴾ أراد بقوله :( اهبطا منها جميعا ) ذرية آدم وحواء وإبليس ؛ فقد أهبط الله هذه الأصول الثلاثة من الجنة إلى الأرض ليكون بعضهم لبعض عدوا والمراد ذرية كل منهم. وقيل : المراد آدم وزوجه حواء ؛ إذ أهبطهما الله من الجنة إلى الأرض لتكون ذريتهما بعضهم لبعض عدو، ذلك بالمباغضات والتحاسد والاختلاف في الدين والمصالح والأهواء مما يفضي إلى النزاع والخصام والاقتتال.
قوله :( فإما يأتينكم مني هدى ) أي بيان من الله ورشد ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) من اتبع منهج الله وهداه وسار على محجته المستقيمة ؛ فإنه لا يزيغ ولا يتعثر في حياته الدنيا بل يرشد ويستقيم حاله وشأنه ويأمن البوائق والشرور بعون الله وتوفيقه ( ولا يشقى ) أي لا يخسر الآخرة بل يكون من أهل النجاة والسعادة.
قوله :( ومن أعرض عن ذكري ) أي أعرض عن القرآن وما فيه من عظيم الأحكام وجليل الفضائل فأدبر عن منهج الله واتبع ما يهواه من ملل الضلال والباطل ( فإن له معيشة ضنكا ) الضنك والضناكة والضنوكة بمعنى الضيق من كل شيء. وأصل ذلك في اللغة الضيق والشدة ويستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث والجمع١، وهذا نذير للناس يتوعد الله به المخالفين عن أمره، المعرضين عن دينه ومنهجه، المقبلين على الهوى والكفر والضلال- يتوعدهم بالمنكود من العيش المتكدّر الذي يُسام فيه الفاسقون الشاردون عن شريعة الله سوء العيش وكَدر الحياة ليجدوا فيهما من ضروب الكروب والاغتمام والتنغيص والجشع ما يؤرق فيهم الأعصاب والمشاعر ويذيقهم القلق والرهق والشقاء.
وهذه هي حال الناكبين عن منهج الله، التاركين لدينه القومي ؛ فإن الله مبتليهم في حياتهم الدنيا قبل الآخرة بألوان البلاء والأسقام والعلل النفسية والاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك من وجوه البلاء والمضانكة فلا تتيه البشرية في الضلال والعصيان والتفريط عن منهج الله الحق لتستعيض عنه بنظم وضعية كافرة حيث الآثام والمعاصي والفواحش والرذائل والإباحية، حتى يبتليهم الله بويلات الدنيا وتعسها وأخطارها قبل أن يرحلوا إلى دار القرار الأخرى ليلاقوا هنالك ما هو أشد وأنكى. وهو قوله :( ونحشره يوم القيامة أعمى ) أي أعمى البصر، زيادة في التنكيل بهؤلاء المعرضين عن ذكر الله وهو قرآنه المجيد ومنهجه الحق، الإسلام وقيل : أعمى عن الحجة.
١ - لسان العرب جـ ١٠ ص ٤٦٢ وتاج العروس جـ٧ ص ١٥٧..
قوله :﴿ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ﴾ أي كنت في الدنيا ذا بصر ؛ فهو يسأل ربه هذا السؤال واهما أنه عوقب من غير جرم فعله.
( قال كذلك ) أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسره بقوله :( أتتك آياتنا فنسيتها ) أي أتتك منا الدلائل الواضحة فلم تتدبرها، ولم تعتبر بها ؛ بل تركتها وأعرضت عنها ( فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) أي مثل ذلك النسيان منك في الدنيا تنسى اليوم ؛ أي تترك فيما أحاط بك من العمى والعذاب.
قوله :( وكذلك نجزي من أسرف ) ( أسرف ) من الإسراف، وهو تجاوز الحد ؛ أي مثل ذلك الجزاء نجزي من أعرض عن الذكر وهو القرآن، وعن التفكر في آيات الله ودلائله، وجاوز الحد في المعصية.
قوله :( ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) ذلك تأكيد من الله بأن العذاب في الآخرة أفظع وأنكى وأدوم مما يلاقيه العصاة في الدنيا من ضناكة العيش ؛ فإن شدة العيش وضيقه في الدنيا يمر ويزول لكن عذاب الله في الآخرة لا يزول ولا يحول١.
١ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٦٩ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٩٢..
قوله تعالى :﴿ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( ١٢٨ ) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( ١٢٩ ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ( ١٣٠ ) ﴾.
فاعل ( يهد ) هو المصدر. وتقديره : أو لم يهد لهم الهدى أو الأمر. و ( كم )، في موضع نصب مفعول مقدم للفعل. ( أهلكنا ) وتقديره : كم قرية أهلكنا١.
والمراد في الآية أهل مكة. والمعنى : أفلم يتبين لهؤلاء المشركين خبر الذين أهلكهم الله من الأمم السابقة الخاوية كقوم عاد وثمود وقوم لوط ؛ فهم يمشون في مساكنهم حال سفرهم وترحالهم فيعاينون آثار هلاكهم وتدميرهم. أفلا يخشون أن يحل بهم من العذاب والهلاك ما حل بأولئك الغابرين.
قوله :( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) ( النهى )، جمع ومفرده النّهية وهي العقل ؛ لأنها تنهى عن القبيح٢ يعني : فيما حصل لأولئك الغابرين الهلكى أوضح الدلائل والعبر لأولي العقول، إذا تدبروا واعتبروا وعلموا أن سبب استئصال أولئك الهلكى هو كفرهم وعصيانهم. وذلك كيما يتعظوا ويزدجروا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٤..
٢ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٣٠١..
قوله :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ﴾ ( أجل ) معطوف على قوله :( كلمة ) وتقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لزاما ؛ أي لازما لهم١. والمعنى : لولا الكلمة التي سبقت من الله بتأخير العذاب عن أمة محمد ( ص )، وأجل مسمى وهو القيامة ؛ لكان العذاب لازما لهم فلا يتأخر عنهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٥..
قوله :( فاصبر على ما يقولون ) ذلك تكليف من الله لرسوله المصطفى ( ص ) ؛ إذ ابتلاه بهؤلاء المشركين المعاندين، بأن يصبر على أذاهم وما يقولونه فيه من زور مكذوب وافتراء مستهجن ؛ إذ قالوا عنه ؛ إنه ساحر، إنه كاهن، إنه مجنون. وغير ذلك من الأقاويل الظالمة المفتراة التي كان المشركون يهذون بها على خير الأنام، ومبدد الكابوس والطغيان وديجور الظلام وحامل لواء الهداية والنور والإسلام. لقد أمره الله أن يصبر على هؤلاء العتاة السفهاء وما يجترونه من سقط الكلام اجترارا.
قوله :( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائي الليل فسبح وأطراف النهار ) ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بهذه الآية الصلوات الخمس. فقبل طلوع الشمس، إشارة إلى صلاة الفجر. وقبل غروبها، إشارة إلى صلاة الظهر والعصر. ومن آناء، إشارة إلى صلاة العشاء الآخرة. والآناء جمع ومفرده إني بكسر الهمزة وقصر الألف، وهي الساعة، والآناء الساعات.
وقوله :( فسبح ) أي صل ( وأطراف النار ) إشارة إلى صلاة المغرب وقيل غير ذلك.
قوله :( لعلك ترضى ) أي لعلك تجزى على ذلك بما ترضى به١.
١ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٢٦٠ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٩٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٥..
قوله تعالى :﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( ١٣١ ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ( ١٣٢ ) ﴾.
روي عن أبي رافع مولى رسول الله ( ص ) فدعاني فأرسلني إلى رجل من اليهود يبيع طعاما، يقول لك محمد رسول الله ( ص ) : نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي نصلحه، فبعني كذا وكذا من الدقيق أو سلفني إلى هلال رجب. فقال اليهودي : لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن. قال : فرجعت إليه فأخبرته. قال : والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، ولو أسلفني وباعني لأديت إليه، احمل إليه درعي الحديد. ونزلت هذه الآية تعزية لرسول الله ( ص ) ١.
قوله :( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) أزواجا مفعول لقوله :( متعنا ) ويعني أصنافا من الكفرة المترفين الغافلين.
أي لا تنظر إلى هؤلاء الفاسقين الذين أترفناهم في الحياة الدنيا وزينا لهم فيها من ضروب الترف والبذخ ما رضوه واطمأنوا به، فغرهم ذلك وأذهلهم عن طاعة الله والتزام منهجه القويم.
قوله :( زهرة الحياة الدنيا ) ( زهرة )، منصوب بفعل مضمر وهو جعلنا ؛ أي وجعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا. وقيل : منصوب على الحال. وقيل : منصوب على البدل من الهاء في قوله :( به ) ٢.
والمراد بزهرة الحياة الدنيا، زينتها وبهجتها ( لنفتنهم فيه ) أي لنبتليهم بها حتى يستحقوا العذاب بسبب كفرهم وإعراضهم.
والمعنى : لا تعبأ بزينة الحياة الدنيا وما ينعم به هؤلاء اللاهون الغافلون ؛ فليس ذلك كله إلا حطاما داثرا ما يلبث أن يمضي ويزول.
قوله :( ورزق ربك خير وأبقى ) رزق ربك : عطاؤه من نعمة الإسلام وما ادخره لعباده الصالحين من حسن الجزاء في الآخرة ؛ فهو أفضل وأنفع وأدوم.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٥..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٥..
قوله :( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) يأمر الله نبيه الكريم ( ص ) بأمر أمته عامة، وأهل بيته على التخصيص بأداء الصلاة ؛ فإنها عماد الدين كله، ولا قوام لهذا الدين من دون الصلاة. ويأمره كذلك أن يصطبر على أداء هذه الفريضة العظمى بامتثالها والمحافظة عليها معهم.
قوله :( لا نسألك رزقا نحن نرزقك ) لا نسألك أن ترزق نفسك وأهلك فلا تعبأ بأمر الرزق فإنه مكفول لك ولهم ولكل المؤمنين المتوكلين. وفي هذا روى ابن ماجه بسنده عن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " من كانت الدنيا همه : فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته : جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ".
قوله :( والعاقبة للتقوى ) المراد بالعاقبة ههنا الجنة ؛ أي العاقبة المحمودة لأهل التقوى١.
١ - الكشاف جـ٢ ص ٥٦٠ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٧١..
قوله تعالى :( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ( ١٣٣ ) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( ١٣٤ ) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( ١٣٥ ) }.
قال المشركون لرسول الله ( ص ) : هلا تأتينا يا محمد بآية ظاهرة نحسها ونلمسها كمعجزة الناقة والعصا وغير ذلك من المعجزات الحسية التي أوتيها النبيون السابقون.
قوله :( أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) المراد بالصحف الأولى : الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل. وذلك جواب من الله يرد به ما سأله المشركون المعاندون. والمعنى : أو لم تأتكم آيات الكتب السابقة وفيها من المعجزات ما يحمل على التصديق والتيقن والاستقامة.
وقيل : أو لم تأتكم الآيات في الكتب السابقة وفيها البشرى بنبوة محمد ( ص ) وأنه مرسل من ربه إلى الناس. لكنكم مع ذلك كله كذبتم وجحدتم وأبيتم إلا الإعراض والعصيان.
قوله :( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ) أي لو أننا أهلكنا هؤلاء المكذبين المتعنتين قبل أن نرسل إليهم محمدا ( ص ) أو قبل أن ننزل عليهم القرآن العظيم لكانوا قد قالوا : ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تهلكنا ( فنتبع آياتك ) نتبع، منصوب على جواب الاستفهام بالفاء ؛ أي نتبع ما أنزلته إلينا من الآيات ( من قبل أن نذل ونخزى ) أي نسأم الذل والخزي بالعذاب ودخول النار والافتضاح على رؤوس الأشهاد يوم المعاد.
قوله :( قل كل متربص فتربصوا ) التربص، الانتظار١ ؛ أي كل واحد منا ومنكم منتظر لمن سيؤول الأمر والعاقبة فانتظروا ( فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ) ( من )، استفهامية في موضع رفع ؛ لأنها مبتدأ. و ( أصحاب الصراط )، خبر المبتدأ. والجملة في محل نصب مفعول لقوله :( فستعلمون ) ٢ سوف تعلمون من هم أصحاب الطريق المستقيم والمنهج الحكيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج، ومن هو منا المهتدي إلى الحق والصواب٣.
١ - مختار الصحاح ص ٢٢٩..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٦..
٣ - تفسير الطبري جـ١٦ ص ١٧٠، ١٧١ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٧١..
Icon