تفسير سورة طه

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة طه من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ طه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(طه) : قَدْ ذُكِرَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْقَوْلِ الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ حُرُوفًا مُقَطَّعَةً. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ ; مُنَادًى. وَقِيلَ: «طَا» فِعْلُ أَمْرٍ، وَأَصْلُهُ بِالْهَمْزِ، وَلَكِنْ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، وَ «هَا» ضَمِيرُ الْأَرْضِ.
وَيُقْرَأُ: طَهْ، وَفِي الْهَاءِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي أَرَقْتُ، فَقِيلَ: هَرَقْتُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، ثُمَّ حَذَفَهَا لِلْبِنَاءِ، وَأَلْحَقَهَا هَاءَ السَّكْتِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَذْكِرَةً) : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; أَيْ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً ; أَيْ لِلتَّذْكِرَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ ; أَيْ لَكِنْ ذَكَّرْنَا بِهِ تَذْكِرَةً ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ لِأَنْزَلْنَا الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ لَهُ، وَهُوَ «لِتَشْقَى» فَلَا تَتَعَدَّى إِلَى آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا «لِتَشْقَى» لِفَسَادِ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: «تَذْكِرَةً» مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَنْزِيلًا) : هُوَ مَصْدَرٌ ; أَيْ أَنْزَلْنَاهُ تَنْزِيلًا. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولُ يَخْشَى، وَ «مِنْ» مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ.
وَ (الْعُلَا) : جَمْعُ الْعُلْيَا.
قَالَ تَعَالَى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ ; أَوْ تَكُونُ «مَا» مَرْفُوعَةً بِالظَّرْفِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْغُلَاةِ: «مَا» فَاعِلُ «اسْتَوَى»، وَهُوَ بَعِيدٌ. ثُمَّ هُوَ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ فِي التَّأْوِيلِ ; إِذْ يَبْقَى قَوْلُهُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ) كَلَامًا تَامًّا، وَمِنْهُ هَرَبَ، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَاتٌ أُخَرُ لَا يَدْفَعُهَا الْإِعْرَابُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَخْفَى) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَأَخْفَى السِّرَّ عَنِ الْخَلْقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا ; أَيْ وَأَخْفَى مِنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ رَأَى) :«إِذْ» ظَرْفٌ لِـ «حَدِيثُ»، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ ; أَيِ اذْكُرْ.
(لِأَهْلِهِ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا ; وَقَدْ ذُكِرَ. وَمَنْ ضَمَّ أَتْبَعَهُ مَا بَعْدَهُ.
وَ (مِنْهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِآتِيكُمْ، أَوْ حَالًا مِنْ «قَبَسٍ».
وَالْجَيِّدُ فِي «هُدًى» هُنَا أَنْ يُكْتَبَ بِالْأَلِفِ، وَلَا تُمَالَ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ بَدَلٌ مِنَ التَّنْوِينِ فِي الْقَوْلِ الْمُحَقِّقِ ; وَقَدْ أَمَالَهَا قَوْمٌ ; وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ أَلِفَ التَّنْوِينِ بِلَامِ الْكَلِمَةِ ; إِذِ اللَّفْظُ بِهِمَا فِي الْمَقْصُورِ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ تُبْدَلْ مِنَ التَّنْوِينِ شَيْئًا فِي النَّصْبِ، كَمَا جَاءَ:
وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عَصُمْ وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عَلَى رَأْيِ مَنْ وَقَفَ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ إِبْدَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُودِيَ) : الْمَفْعُولُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ مُضْمَرٌ ; أَيْ نُودِيَ مُوسَى. وَقِيلَ: هُوَ الْمَصْدَرُ ; أَيْ نُودِيَ النِّدَاءَ. وَمَا بَعْدَهُ مُفَسِّرٌ لَهُ. وَ «يَا مُوسَى» : لَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ.
(إِنِّي) : يُقْرَأُ بِالْكَسْرِ ; أَيْ فَقَالَ إِنِّي، أَوْ لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ. وَبِالْفَتْحِ ; أَيْ نُودِيَ بِأَنِّي، كَمَا تَقُولُ: نَادَيْتُهُ بِاسْمِهِ.
وَ (أَنَا) : مُبْتَدَأٌ، أَوْ تَوْكِيدٌ، أَوْ فَصْلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طُوًى) : يُقْرَأُ بِالضَّمِّ وَالتَّنْوِينِ، وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ لِلْوَادِي، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا، أَيْ هُوَ طُوًى.
وَيُقْرَأُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ مُؤَنَّثٌ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْدُولٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَعْدُولِ عَنْهُ، فَكَأَنَّ أَصْلَهُ «طَاوِي» ; فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَجُمَعٍ وَكُتَعٍ.
وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ مِثْلَ عِنَبٍ فِي الْأَسْمَاءِ، وَعَدَا وَسِوَى فِي الصِّفَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) : عَلَى لَفْظِ الْإِفْرَادِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَهُ.
وَيُقْرَأُ: وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ، عَلَى الْجَمْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنَّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ، فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِاسْتَمِعْ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّى ; أَيْ بِأَنِّي أَنَا رَبُّكَ، وَبِأَنَّا اخْتَرْنَاكَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِذِكْرَى) : اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِأَقِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: عِنْدَ ذِكْرِكَ إِيَّايَ. فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: إِلَى الْفَاعِلِ ; أَيْ لِذِكْرِي إِيَّاكَ، أَوْ إِيَّاهَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُخْفِيهَا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ; وَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَسْتُرُهَا ; أَيْ مِنْ نَفْسِي ; لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَخْلُوقًا. وَالثَّانِي: أُظْهِرُهَا ; قِيلَ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.
وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ ; أَيْ أُزِيلُ خَفَاءَهَا.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَمَعْنَاهُ: أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ، أَيْ أَظْهَرْتُهُ.
(لِتُجْزَى) : اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِأُخْفِيهَا. وَقِيلَ: بِآتِيَةٍ ; وَلِذَلِكَ وَقَفَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَقْفَةً يَسِيرَةً إِيذَانًا بِانْفِصَالِهَا عَنْ «أُخْفِيهَا» وَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ كَيْ، وَتَقْدِيرُهُ الْقَسَمُ ; أَيْ لَتُجْزَيَنَّ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الَّذِي ; أَيْ تَسْعَى فِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَرْدَى) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَرَفْعًا ; أَيْ فَإِذَا أَنْتَ تَرْدَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تِلْكَ) :«مَا» مُبْتَدَأٌ، وَ «تِلْكَ» خَبَرُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى هَذِهِ.
وَ (بِيَمِينِكَ) : حَالٌ يَعْمَلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِشَارَةِ.
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الَّذِي ; فَيَكُونُ بِيَمِينِكَ صِفَةً لَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَصَايَ) : الْوَجْهُ فَتْحُ الْيَاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ ; وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِاسْتِثْقَالِهِ عَلَى الْيَاءِ.
وَيُقْرَأُ عَصَىَّ، وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
وَ (أَتَوَكَّأُ) : وَمَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ. وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ حَالٌ مِنَ الْيَاءِ، أَوْ مِنَ الْعَصَا. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ «هِيَ» وَعَصَايَ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: هِيَ خَبَرٌ. وَ «أَتَوَكَّأُ» خَبَرٌ آخَرُ.
وَ (أَهُشُّ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ; أَيْ أَقُومُ بِهَا عَلَى الْغَنَمِ، أَوْ أُهْوِلُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَاءِ ; أَيْ أَكْسِرُ بِهَا عَلَى غَنَمِي عَادِيَتِهَا، مِنْ قَوْلِكَ: هَشَشْتُ الْخُبْزَ ; إِذَا كَسَرْتُهُ بَعْدَ يُبْسِهِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَسِينٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ ; مِنْ قَوْلِكَ: هَسَّ الْغَنَمَ يَهُسُّهَا ; إِذَا سَاقَهَا. وَعُدِّيَ بِعَلَى ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَقُومُ بِهَا، أَوْ أُهْوِلُ.
وَ (أُخْرَى) : عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَلَوْ قَالَ: أُخَرُ، لَكَانَ عَلَى اللَّفْظِ.
(تَسْعَى) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا.
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ، فَالْعَامِلُ فِيهَا «تَسْعَى» أَوْ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سِيرَتَهَا الْأُولَى) : هُوَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ ; لِأَنَّ مَعْنَى سِيرَتِهَا: صِفَتُهَا، أَوْ طَرِيقَتُهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا ; أَيْ فِي طَرِيقَتِهَا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إِلَى سِيرَتِهَا.
وَ (بَيْضَاءَ) : حَالٌ.
وَ (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (تَخْرُجُ)، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ (بَيْضَاءَ)، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي (بَيْضَاءَ). وَ (آيَةً) : حَالٌ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ ; فِي بَيْضَاءَ ; أَيْ تَبْيَضَّ آيَةً، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ. وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً، أَوْ أَتَيْنَاكَ آيَةً.
وَ (لِنُرِيَكَ) : مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ آيَةٌ ; أَيْ دَلَلْنَا بِهَا لِنُرِيَكَ. وَلَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ آيَةٍ، لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ.
وَ (الْكُبْرَى) : صِفَةٌ لِآيَاتٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ «مَآرِبُ». وَلَوْ قَالَ الْكُبَرُ لَجَازَ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكُبْرَى نَصْبًا بِـ «نُرِيَكَ» وَ «مِنْ آيَاتِنَا» حَالٌ مِنْهَا ; أَيْ لِنُرِيَكَ الْآيَةَ الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِنَا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسِّرْ لِي) : يُقَالُ: يَسَّرْتُ لَهُ كَذَا، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَيَسَّرْتُهُ لِكَذَا ; وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).
وَ (مِنْ لِسَانِي) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِاحْلُلْ، وَأَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِعُقْدَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَزِيرًا) : الْوَاوُ أَصْلٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوِزْرِ وَالْمُوَازَرَةِ.
وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ ; لِأَنَّ الْوَزِيرَ يَشُدُّ أَزْرَ الْمُوَازِرِ، وَهُوَ قَلِيلٌ. وَفَعِيلٌ هُنَا بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، كَالْعَشِيرِ وَالْخَلِيطِ.
وَفِي مَفْعُولَيْ «اجْعَلْ» ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا «وَزِيرًا، وَهَارُونَ»، وَلَكِنْ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي ; فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ «لِي» بِاجْعَلْ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ وَزِيرٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «وَزِيرًا» مَفْعُولًا أَوَّلَ، وَ «لِي» الثَّانِي ; وَ «هَارُونَ» بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ
وَ
«أَخِي» كَذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي «مِنْ أَهْلِي» وَ «لِي» تَبْيِينٌ ; مِثْلَ قَوْلِهِ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وَ «هَارُونَ أَخِي» عَلَى مَا تَقَدَّمَ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ (هَارُونَ) بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; أَيِ اضْمُمْ إِلَيَّ هَارُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اشْدُدْ) : يُقْرَأُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ. (وَأَشْرِكْهُ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَجَزْمِهَا عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ، وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى مُوسَى، وَيُقْرَآنِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ.
قَالَ تَعَالَى: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَثِيرًا) : أَيْ تَسْبِيحًا كَثِيرًا، أَوْ وَقْتًا كَثِيرًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦)). وَالسُّؤَالُ وَالسُّؤْلُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، مِثْلَ الْأُكْلِ بِمَعْنَى الْمَأْكُولِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (٤٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَوْحَيْنَا) : هُوَ ظَرْفٌ لِمَنَنَّا.
(أَنِ اقْذِفِيهِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً بَدَلًا مِنْ (مَا يُوحَى)، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: هُوَ أَنِ اقْذِفِيهِ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: أَيْ. (فَلْيُلْقِهِ) : أَمْرٌ لِلْغَائِبِ. وَ (مِنِّي) : تَتَعَلَّقُ بِأَلْقَيْتُ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِـ «مَحَبَّةً». وَ (لِتُصْنَعَ) : أَيْ لِتُحَبَّ وَلِتُصْنَعَ.
وَيُقْرَأُ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ ; أَيْ لِيَصْنَعَكَ غَيْرُكَ بِأَمْرِي.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ ; أَيْ لِتَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِمَرْأًى مِنِّي.
(إِذْ تَمْشِي) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «إِذْ» الْأُولَى ; لِأَنَّ مَشْيَ أُخْتِهِ كَانَ مِنَّةً عَلَيْهِ ; وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إِذْ تَمْشِي.
وَ (فُتُونًا) : مَصْدَرٌ مِثْلَ الْقُعُودِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، تَقْدِيرُهُ: بِفُتُونٍ كَثِيرَةٍ، أَيْ بِأُمُورٍ تُخْتَبَرُ بِهَا. وَ (عَلَى قَدَرٍ) : حَالٌ ; أَيْ مُوَافِقًا لِمَا قُدِّرَ لَكَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَفْرُطَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا مِنْهُ قَوْلٌ ; فَأَضْمَرَ الْقَوْلَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ:
فَرَطَ مِنِّي قَوْلٌ. وَأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ فِرْعَوْنَ، كَمَا كَانَ فِي «يَطْغَى».
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى) : أَيْ وَهَارُونُ، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبَ الْإِخْبَارَ مِنْ مُوسَى وَحْدَهُ ; إِذْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِي». وَ (خَلْقَهُ) : مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَ (كُلَّ شَيْءٍ) : ثَانٍ ; أَيْ أَعْطَى مَخْلُوقَهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ خَلْقَهُ ; أَيْ هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَهُ. وَيُقْرَأُ «خَلَقَهُ» عَلَى الْفِعْلِ ; وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عِلْمُهَا) : مُبْتَدَأٌ، وَفِي الْخَبَرِ عِدَّةُ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: «عِنْدَ رَبِّي»، وَ «فِي كِتَابٍ» عَلَى هَذَا مَعْمُولُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «عِنْدَ». وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ «فِي كِتَابٍ»، وَ «عِنْدَ» حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الظَّرْفُ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ. وَقِيلَ: يَكُونُ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي «عِلْمُهَا». وَقِيلَ: يَكُونُ ظَرْفًا لِلظَّرْفِ الثَّانِي. وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِلْعِلْمِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الظَّرْفَانِ خَبَرًا وَاحِدًا، مِثْلُ هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «فِي كِتَابٍ» مُتَعَلِّقًا بِعِلْمِهَا، وَ «عِنْدَ» الْخَبَرُ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَ خَبَرِهِ.
(لَا يَضِلُّ) : فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِكِتَابٍ، وَفِي التَّقْدِيرِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: لَا يُضِلُّ رَبِّي عَنْ حِفْظِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَضِلُّ الْكِتَابُ رَبِّي ; أَيْ عَنْهُ ; فَيَكُونُ (رَبِّي) مَفْعُولًا.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ ; أَيْ [لَا] يُضِلُّ أَحَدٌ رَبِّي عَنْ عِلْمِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبِّي فَاعِلًا ; أَيْ لَا يَجِدُ الْكِتَابَ ضَالًّا ; أَيْ ضَائِعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) [الْإِسْرَاءِ: ٦٧].
وَمَفْعُولُ «يَنْسَى» مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَلَا يَنْسَاهُ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ ; أَيْ لَا يُنْسِي أَحَدٌ رَبِّي أَوْ لَا يُنْسَى الْكِتَابُ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَهْدًا) : هُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَاتَ مَهْدٍ.
وَيُقْرَأُ (مِهَادًا) مِثْلَ فِرَاشٍ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مَهْدٍ. (شَتَّى) : جَمْعُ شَتِيتٍ، مِثْلَ مَرِيضٍ وَمَرْضَى، وَهُوَ صِفَةٌ لِأَزْوَاجٍ، أَوْ لَبِنَاتٍ.
وَ (النَّهْيُ) : جَمْعُ نُهْيَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مُفْرَدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَنَأْتِيَنَّكَ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِينَ.
(فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا) : هُوَ هَاهُنَا مَصْدَرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا) أَيْ فِي مَكَانٍ. وَ (سِوًى) بِالْكَسْرِ: صِفَةٌ شَاذَّةٌ، مِثْلُهُ قَوْمٌ عِدًا. وَيُقْرَأُ بِالضَّمِّ، وَهُوَ أَكْثَرُ فِي الصِّفَاتِ، وَمَعْنَاهُ: وَسَطٌ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَكَانًا»
مَفْعُولًا ثَانِيًا لِاجْعَلْ، وَمَوْعِدًا عَلَى هَذَا مَكَانٌ أَيْضًا ; وَلَا يَنْتَصِبُ بِمَوْعِدٍ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ. وَقَدْ قُرِئَ: سِوَى - بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، عَلَى إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ) : هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَ «يَوْمُ الزِّينَةِ» بِالرَّفْعِ الْخَبَرُ. فَإِنْ جَعَلْتَ مَوْعِدًا زَمَانًا، كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ جَعَلْتَ مَوْعِدًا مَصْدَرًا، كَانَ التَّقْدِيرُ: وَقْتُ مَوْعِدِكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ. وَيُقْرَأُ «يَوْمَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ «مَوْعِدًا» مَصْدَرًا، وَالظَّرْفُ خَبَرٌ
عَنْهُ ; أَيْ مَوْعِدِكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَ الزِّينَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) : مَعْطُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَوْمَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ; فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ; أَيْ مَوْعِدُكُمْ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ. وَيُقْرَأُ «تَحْشُرَ» عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ ; أَيْ فِرْعَوْنَ، وَالنَّاسُ نَصْبٌ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيُسْحِتَكُمْ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا، وَالْمَاضِي سَحَتَ وَأَسْحَتَ، لُغَتَانِ، وَانْتَصَبَ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَيْنِ) : يُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ إِنَّ، وَبِالْيَاءِ فِي هَذَيْنِ ; وَهِيَ عَلَامَةُ النَّصْبِ.
وَيُقْرَأُ (إِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ، وَهَذَانِ بِالْأَلِفِ ; وَفِيهِ أَوْجُهٌ ; أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى نَعَمْ، وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَالثَّانِي: إِنَّ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفًا، وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْضًا. وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ مِنْ أَجْلِ اللَّامِ الَّتِي فِي الْخَبَرِ ; وَإِنَّمَا يَجِيءُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: لَهُمَا سَاحِرَانِ، فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَلِفَ هُنَا عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَهِيَ لُغَةٌ لِبَنِي الْحَارِثِ ; وَقِيلَ: لِكِنَانَةَ.
وَيُقْرَأُ (إِنْ) بِالتَّخْفِيفِ، وَقِيلَ: هِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى «مَا» وَاللَّامُ بِمَعْنَى «إِلَّا» وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ) : أَيْ يَذْهَبَا طَرِيقَكُمْ ; فَالْبَاءُ مُعَدِّيَةٌ، كَمَا أَنَّ الْهَمْزَةَ مُعَدِّيَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَجْمِعُوا) : يُقْرَأُ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَهُوَ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّفْرِيقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه: ٦٠] وَالْكَيْدُ بِمَعْنَى مَا يُكَادُ بِهِ.
وَيُقْرَأُ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي جَمَعَ ; قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: عَلَى كَيْدِكُمْ.
وَ (صَفًّا) : حَالٌ ; أَيْ مُصْطَفِّينَ وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ ; أَيِ اقْصُدُوا صَفَّ أَعْدَائِكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ [الْأَعْرَافِ: ١١٥].
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا) : هِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ.
وَ (حِبَالُهُمْ) : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ إِذَا ; فَعَلَى هَذَا «يُخَيَّلُ» حَالٌ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ «يُخَيَّلُ» الْخَبَرَ.
وَ (يُخَيَّلُ) - بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى السَّعْيِ ; أَيْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ سَعْيُهَا ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْحِبَالِ ; وَذُكِّرَ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، أَوْ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ يُخَيَّلُ الْمُلْقَى. وَ (أَنَّهَا تَسْعَى) : بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ ; أَيْ تُخَيَّلُ الْحِبَالُ ذَاتَ سَعْيٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَفِيهِ ضَمِيرُ الْحِبَالِ، وَ «أَنَّهَا تَسْعَى» بَدَلٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهَا ذَاتُ سَعْيٍ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ ; أَيْ تُخَيِّلُ الْحِبَالُ إِلَيْهِمْ سَعْيَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَلْقَفْ) : يُقْرَأُ بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ «مَا» وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعَصَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِتَسَبُّبِهِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْعَصَا، أَوْ مِنْ مُوسَى ; وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَتَشْدِيدُ الْقَافِ وَتَخْفِيفُهَا قِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى.
وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْقَافِ فَعَلَى تَقْدِيرِ: تَتَلَقَّفْ ; وَقَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي مَوَاضِعَ.
(إِنَّ مَا صَنَعُوا) : مَنْ قَرَأَ «كَيَدُ» بِالرَّفْعِ فَفِي «مَا» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالثَّانِي: مَصْدَرِيَّةٌ.
وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ تَكُونَ «مَا» كَافَّةً، وَإِضَافَةُ «كَيْدٍ» إِلَى «سَاحِرٍ» إِضَافَةُ الْمُصَدِّرِ إِلَى الْفَاعِلِ.
وَقُرِئَ كَيْدُ سِحْرٍ ; وَهُوَ إِضَافَةُ الْجِنْسِ إِلَى النَّوْعِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) :«فِي» هُنَا عَلَى بَابِهَا ; لِأَنَّ الْجِذْعَ مَكَانٌ لِلْمَصْلُوبِ وَمُحْتَوٍ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى عَلَى.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي فَطَرَنَا) : فِي مَوْضِعِ جَرٍّ ; أَيْ: وَعَلَى الَّذِي. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ.
(مَا أَنْتَ قَاضٍ) : فِي «مَا» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي ; أَيِ افْعَلِ الَّذِي أَنْتَ عَازِمٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: هِيَ زَمَانِيَّةٌ ; أَيِ اقْضِ أَمْرَكَ مُدَّةَ مَا أَنْتَ قَاضٍ.
(هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) : هُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْضِي، وَ «مَا» كَافَّةٌ ; أَيْ تَقْضِي أُمُورَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. فَإِنْ كَانَ قَدْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرُ إِنَّ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا أَكْرَهْتَنَا) : فِي «مَا» وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي مَعْطُوفَةً عَلَى الْخَطَايَا. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مُسْقَطٌ أَوْ مَحْطُوطٌ.
وَ (مِنَ السِّحْرِ) : حَالٌ مِنْ «مَا» أَوْ مِنَ الْهَاءِ.
وَالثَّانِي: هِيَ نَافِيَةٌ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ، تَقْدِيرُهُ: لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا مِنَ السِّحْرِ وَلَمْ تُكْرِهْنَا عَلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (٧٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ) : الضَّمِيرُ هُوَ الشَّأْنُ وَالْقِصَّةُ.
قَالَ تَعَالَى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : هِيَ بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هِيَ جَنَّاتٌ ; لِأَنَّ «خَالِدِينَ فِيهَا» حَالٌ ; وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ مَا يَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ الِاسْتِقْرَارَ، أَوْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا) : التَّقْدِيرُ: مَوْضِعَ طَرِيقٍ ; فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) [الشُّعَرَاءِ: ٦٣] وَهُوَ مِثْلَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا ; وَقِيلَ: ضَرَبَ هُنَا بِمَعْنَى جَعَلَ وَشَرَعَ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ضَرَبْتُ لَهُ بِسَهْمٍ.
وَ (يَبَسًا) بِفَتْحِ الْبَاءِ: مَصْدَرٌ ; أَيْ ذَاتَ يَبَسٍ، أَوْ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً. وَأَمَّا الْيُبْسُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فَصِفَةٌ بِمَعْنَى الْيَابِسِ.
(لَا تَخَافُ) : فِي الرَّفْعِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ;
أَحَدُهَا: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ. وَالثَّانِي: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «اضْرِبْ» وَالثَّالِثُ: هُوَ صِفَةٌ لِلطَّرِيقِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ وَلَا يَخَافُ فِيهِ.
وَيُقْرَأُ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، أَوْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.
وَأَمَّا «لَا تَخْشَى» فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى هُوَ مَرْفُوعٌ مِثْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَنْتَ لَا تَخْشَى.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ هُوَ حَالٌ ; أَيْ: وَأَنْتَ لَا تَخْشَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَاضْرِبْ لَهُمْ غَيْرَ خَاشٍ.
وَقِيلَ: الْأَلِفُ فِي تَقْدِيرِ الْجَزْمِ، شُبِّهَتْ بِالْحُرُوفِ الصِّحَاحِ.
وَقِيلَ: نَشَأَتْ لِإِشْبَاعِ الْفَتْحَةِ لِيَتَوَافَقَ رُءُوسُ الْآيِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِجُنُودِهِ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ; وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ ; أَيْ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ عِقَابَهُ وَمَعَهُ جُنُودُهُ. وَقِيلَ: أَتْبَعَ بِمَعْنَى اتَّبَعَ ; فَتَكُونُ الْبَاءُ مُعَدِّيَةً.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَانِبَ الطُّورِ) : هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ ; أَيْ إِتْيَانَ جَانِبِ الطُّورِ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا ; لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ.
(فَيَحِلَّ) : هُوَ جَوَابُ النَّهْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ ; فَيَكُونُ نَهْيًا أَيْضًا، كَقَوْلِهِمْ لَا تَمْدُدْهَا فَتَشُقَّهَا.
وَ (
مَنْ يَحْلِلْ) : بِضَمِّ اللَّامِ ; أَيْ يَنْزِلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) [الرَّعْدِ: ٣١].
وَبِالْكَسْرِ بِمَعْنَى يَجِبُ ; كَقَوْلِهِ: وَ (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [الزُّمَرِ: ٤٠].
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا أَعْجَلَكَ) :«مَا» اسْتِفْهَامٌ، مُبْتَدَأٌ، وَ «أَعْجَلَكَ» الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمْ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (أُولَاءِ) بِمَعْنَى الَّذِي. (عَلَى أَثَرِي) صِلَتُهُ ; وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ) [الْبَقَرَةِ: ٨٥].
قَالَ تَعَالَى: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعْدًا حَسَنًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَلْكِنَا) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لُغَاتٌ، وَالْجَمِيعُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمَّ مَصْدَرُ «مَلِكَ» يُقَالُ مَلِكٌ بَيَّنُ الْمُلْكِ. وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ ; [أَيْ بِإِصْلَاحِ مَا يَمْلِكُ. وَالْكَسْرُ مَصْدَرُ مَالِكٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ أَيْضًا] ; وَإِذَا جُعِلَ
مَصْدَرًا كَانَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ; أَيْ بِمَلْكِنَا أَمْرَنَا، أَوِ الصَّوَابَ، أَوِ الْخَطَأَ.
(حُمِّلْنَا) : بِالتَّخْفِيفِ. وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ; أَيْ حَمَّلَنَا قَوْمُنَا.
(فَكَذَلِكَ) : صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ إِلْقَاءً مِثْلَ ذَلِكَ.
وَفَاعِلُ «نَسِيَ» مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ ضَمِيرُ السَّامِرِيِّ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ لَا يَرْجِعُ) : أَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَ «لَا» كَالْعِوَضِ مِنِ اسْمِهَا الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ قُرِئَ «يَرْجِعَ» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ تَكُونَ «أَنْ» النَّاصِبَةَ ; وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ «يَرْجِعُ» مِنْ أَفْعَالِ الْيَقِينِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ) [الْمَائِدَةِ: ٧١].
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ لَا تَتَّبِعَنِ) : لَا زَائِدَةٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ) [الْأَعْرَافِ: ١٢] وَقَدْ ذُكِرَ.
وَ (يَا ابْنَ أُمَّ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ.
(لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي) : الْمَعْنَى لَا تَأْخُذْنِي بِلِحْيَتِي ; فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ، وَفَتْحُ اللَّامِ لُغَةٌ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا) : يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ ; فَإِنْ جِئْتَ بِالْهَمْزِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ ; كَفَرِحَ، وَأَفْرَحْتَهُ. وَيَبْصُرُوا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، يَعْنِي قَوْمَ مُوسَى. وَبِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُ مُوسَى وَحْدَهُ ; وَلَكِنْ جَمَعَ الضَّمِيرَ ; لِأَنَّ قَوْمَهُ تَبَعٌ لَهُ.
وَقُرِئَ بَصِرْتُ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَتَبْصَرُوا بِفَتْحِهَا ; وَهِيَ لُغَةٌ.
(قَبَضْتُ) بِالضَّادِ بِمِلْءِ الْكَفِّ، وَبِالصَّادِ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ.
وَ (قَبْضَةً) : مَصْدَرٌ بِالضَّادِ وَالصَّادِ ; وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ، فَتَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ.
وَيُقْرَأُ قُبْضَةً بِضَمِّ الْقَافِ ; وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا مِسَاسَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ مَاسَّهُ ; أَيْ لَا أَمَسَّكَ وَلَا تَمَسَّنِي.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ ; أَيْ لَا تَمَسَّنِي. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلْخَبَرِ ; أَيْ لَا يَكُونُ بَيْنَنَا مُمَاسَّةٌ.
(لَنْ تُخْلَفَهُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ ; أَيْ لَا تَجِدُهُ مُخْلَفًا، مِثْلَ أَحْمَدْتُهُ وَأَحْبَبْتُهُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَيَصِلُ إِلَيْكَ ; فَكَأَنَّهُ يَفِي بِهِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَيُقْرَأُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ اللَّامِ ; أَيْ لَنْ نُخْلِفَكَهُ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ظَلْتَ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ ; وَالْأَصْلُ ظَلِلْتَ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى، فَحُذِفَتْ وَنُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إِلَى الظَّاءِ. وَمَنْ فَتَحَ لَمْ يَنْقُلْ.
(لَنُحَرِّقَنَّهُ) : بِالتَّشْدِيدِ ; مِنْ تَحْرِيقِ النَّارِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ: حَرَقَ نَابُ الْبَعِيرِ ; إِذَا وَقَعَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى لَنُبَرِّدَنَّهُ، وَشَدَّدَ لِلتَّكْثِيرِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي حَرْقِ نَابِ الْبَعِيرِ.
(لَنَنْسِفَنَّهُ) - بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا ; وَهُمَا لُغَتَانِ قَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسِعَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ السِّينِ وَالتَّخْفِيفِ.
وَعِلْمًا تَمْيِيزٌ ; أَيْ وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالْمَعْنَى: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ; وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَظَّمَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَظِيمٍ، كَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَى بَسَطَ ; فَيَكُونُ عِلْمًا تَمْيِيزًا.
(كَذَلِكَ) : صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ قَصَصًا كَذَلِكَ ; أَيْ نَقُصُّ نَبَأً مِنْ أَنْبَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَالِدِينَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «يَحْمِلُ» وَحُمِلَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى لَفْظِ «مَنْ» فَوَحَّدَ، وَ «خَالِدِينَ» عَلَى الْمَعْنَى فَجَمَعَ.
وَ (حِمْلًا) : تَمْيِيزٌ لِاسْمِ «سَاءَ»، وَ «سَاءَ» مِثْلَ: بِئْسَ ; وَالتَّقْدِيرُ: وَسَاءَ الْحِمْلُ حِمْلًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَسَاءَ الْوِزْرُ ; لِأَنَّ الْمُمَيَّزَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ لَفْظِ اسْمِ بِئْسَ.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنْفَخُ) بِالْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَبِالنُّونِ وَالْيَاءِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ.
وَ (زُرْقًا) : حَالٌ. وَ (يَتَخَافَتُونَ) : حَالٌ أُخْرَى بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي زُرْقًا.
قَالَ تَعَالَى: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيَذَرُهَا) : الضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ ; وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ الْجِبَالَ تَدُلُّ عَلَيْهَا.
وَ (قَاعًا) : حَالٌ.
وَ (لَا تَرَى) : مُسْتَأْنَفٌ ; وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْضًا، أَوْ صِفَةً لِلْحَالِ.
(لَا عِوَجَ لَهُ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الدَّاعِي، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ) :«مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «تَنْفَعُ».
وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ; أَيْ إِلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ ; فَهُوَ بَدَلٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ خَابَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا يَخَافُ) : هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، فَمَنْ رَفَعَ اسْتَأْنَفَ، وَمَنْ جَزَمَ فَعَلَى النَّهْيِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ) : الْكَافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ إِنْزَالًا مِثْلَ ذَلِكَ.
(وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) : أَيْ وَعِيدًا، وَهُوَ جِنْسٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ «مِنْ» زَائِدَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُقْضَى) : عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَ «وَحْيُهُ» : مَرْفُوعٌ بِهِ. وَبِالنُّونِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَوَحْيَهُ نَصْبٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمَا ١١٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ عَزْمًا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ «نَجِدْ» بِمَعْنَى: نَعْلَمْ. وَأَنْ يَكُونَ عَزْمًا مَفْعُولَ «نَجِدْ» وَيَكُونَ بِمَعْنَى: نُصِبْ.
وَ «لَهُ» : إِمَّا حَالٌ مِنْ عَزْمٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِنَجِدْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَبَى) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ [الْبَقَرَةِ: ٣٤].
قَالَ تَعَالَى: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَشْقَى) : أَفْرَدَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ لِتَتَوَافَقَ رُءُوسُ الْآيِ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ ; لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمُكْتَسِبُ، وَكَانَ أَكْثَرَ بُكَاءً عَلَى الْخَطِيئَةِ مِنْهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنَّكَ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ «أَلَّا تَجُوعَ» وَجَازَ أَنْ تَقَعَ «أَنَّ» الْمَفْتُوحَةُ مَعْمُولَةً لِأَنْ لَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ لَكَ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ وَالَكِنَّ.
وَيُقْرَأُ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوِ الْعَطْفِ عَلَى «إِنَّ» الْأُولَى.
قَالَ تَعَالَى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ) : عُدِّيَ «وَسْوَسَ» بِإِلَى ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَسَرَّ ; وَعَدَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاللَّامِ ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى ذَكَرَ لَهُ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى لِأَجْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَغَوَى) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْأَلِفِ، وَهُوَ بِمَعْنَى فَسَدَ وَهَلَكَ.
وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْيَاءِ وَكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ مِنْ غَوِيَ الْفَصِيلُ، إِذَا بَشِمَ عَلَى اللَّبَنِ، وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ضَنْكًا) : الْجُمْهُورُ عَلَى التَّنْوِينِ، وَأَنَّ الْأَلِفَ فِي الْوَقْفِ مُبْدَلَةٌ مِنْهُ، وَالضَّنْكُ: الضِّيقُ.
وَيُقْرَأُ: ضَنْكَى، عَلَى مِثَالِ سَكْرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَحْشُرُهُ) : يُقْرَأُ بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَبِسُكُونِهَا إِمَّا لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، أَوْ أَنَّهُ مَجْزُومٌ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ جَوَابِ الشَّرْطِ ; وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّ لَهُ».
وَ (أَعْمَى) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ; أَيْ حَشَرْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ فَعَلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِتْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ جَزَاءً مِثْلَ إِعْرَاضِكَ، أَوْ نِسْيَانًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَهْدِ لَهُمْ) : فِي فَاعِلِهِ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ; أَيْ أَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ لَهُمْ، وَعَلَّقَ «بَيَّنَ» هُنَا ; إِذْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَعْلَمُ، كَمَا عَلَّقَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) [إِبْرَاهِيمِ: ٤٥] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَهْلَكْنَا ; أَيْ إِهْلَاكُنَا، وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ.
وَيُقْرَأُ بِالنُّونِ.
وَ (كَمْ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «أَهْلَكْنَا» أَيْ كَمْ قَرْنًا أَهْلَكْنَا ; وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الْبَقَرَةِ: ٢١١].
(يَمْشُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي «لَهُمْ» أَيْ أَلَمْ يَبِنْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالِ مَشْيِهِمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي أَهْلَكْنَا ; أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «كَلِمَةٌ» أَيْ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ الْعَذَابُ لَازِمًا. وَاللِّزَامُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ لَازِمٍ، مِثْلَ قَائِمٍ وَقِيَامٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِسَبِّحِ الثَّانِيَةِ.
(وَأَطْرَافَ) : مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى «قَبْلَ».
وَوَضَعَ الْجَمْعَ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ ; لِأَنَّ النَّهَارَ لَهُ طَرَفَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) [هُودٍ: ١١٤].
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ النَّهَارُ جِنْسًا جَمَعَ الْأَطْرَافَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَطْرَافِ السَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ).
(لَعَلَّكَ تَرْضَى) : وَ (تَرْضَى) وَهُمَا ظَاهِرَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَهْرَةَ) : فِي نَصْبِهِ أَوْجُهٌ ; أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ: «مَتَّعْنَا» أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ زَهْرَةَ... وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَوْضِعِ «بِهِ».
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَزْوَاجٍ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَوِي زَهْرَةٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ زَهْرَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ ; وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأَنَّهُ
مَعْرِفَةٌ وَأَزْوَاجًا نَكِرَةٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الذَّمِّ ; أَيْ أَذُمُّ، أَوْ أَعْنِي. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ «مَا» اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِنَفْتِنَهُمْ) مِنْ صِلَةِ مَتَّعْنَا ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْأَجْنَبِيِّ.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْهَاءِ، أَوْ مِنْ «مَا» وَحَذَفَ التَّنْوِينَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَجَرَّ الْحَيَاةَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «مَا» اخْتَارَهُ مَكِّيٌّ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ تَمْيِيزٌ لِـ «مَا» أَوْ لِلْهَاءِ فِي بِهِ ; حُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) : أَيْ لِذَوِي التَّقْوَى، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ عَلَى لَفْظِ الْبَيِّنَةِ، وَبِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ.
وَقُرِئَ «بَيِّنَةٌ» بِالتَّنْوِينِ، وَ «مَا» بَدَلٌ مِنْهَا، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ «مَا» وَ «بَيِّنَةَ» حَالٌ مُقَدَّمَةٌ.
وَ (الصُّحُفِ) : بِالتَّحْرِيكِ وَالْإِسْكَانِ.
(فَنَتَّبِعَ) : جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ.
وَ (نَذِلَّ وَنَخْزَى) : عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَتَرْكِ تَسْمِيَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ أَصْحَابُ) :«مَنْ» مُبْتَدَأٌ، وَ «أَصْحَابُ» خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا تَكُونُ «مَنْ» بِمَعْنَى الَّذِي ; إِذْ لَا عَائِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْفَرَّاءِ.
(الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) : فِيهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ: الْأُولَى: عَلَى فَعِيلٍ. أَيِ الْمُسْتَوِي.
وَالثَّانِيَةُ: السَّوَاءُ ; أَيِ الْوَسَطُ. وَالثَّالِثَةُ السَّوْءُ - بِفَتْحِ السِّينِ - بِمَعْنَى الشَّرِّ. وَالرَّابِعَةُ: السُّوأَى، وَهُوَ تَأْنِيثُ الْأَسْوَأِ، وَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الصِّرَاطِ أَيِ الطَّرِيقَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ). وَالْخَامِسَةُ: السُّوَيُّ عَلَى تَصْغِيرِ السَّوْءِ.
وَ (مَنْ أَصْحَابُ) : بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ جَرٍّ ; أَيْ وَأَصْحَابُ مَنِ اهْتَدَى ; يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا كَالْأَوَّلِ.
Icon