تفسير سورة طه

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة طه من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة طه عليه السلام (١)
[مكية، وآيها مئة وخمس وثلاثون آية] (٢)، وحروفها: خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفًا، وكلمها ألف وثلاث مئة وإحدى وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿طه (١)﴾ [طه: ١].
[١] ﴿طه﴾ قرأ أبو عمرو، وورش بخلاف عنه: بفتح الطاء وإمالة الهاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بإمالتهما جميعًا، وقرأ الباقون: بفتحهما (٣)، وأبو جعفر: بتقطيع الحروف على أصله (٤)، ولم يُمِل أحد الطاء مع فتح الهاء، و (طه) اسم من أسماء محمد - ﷺ -، وقيل: معناه بالسريانية: يا رجل، وقيل: هو قسم أقسم الله
(١) "عليه السلام" زيادة من "ت".
(٢) ما بين معكوفتين بياض في "ش".
(٣) في "ت": "بفتحها".
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١١١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٦٧).
بطَوْله وهدايته، وقيل: هو أمر من الوطء، والهاء كناية عن الأرض؛ أي: اعتمد على الأرض بقدميك.
...
﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)﴾ [طه: ٢].
[٢] ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ أي: لم ننزله عليك لتتعب به.
نزلت لما أطال رسول الله - ﷺ - القيام في الصلاة وبالغ فيه حتى قام على إحدى رجليه بعد نزول القرآن، فأمره الله أن يخفف على نفسه؛ شفقة عليه، وإكرامًا له (١). أمالَ رؤوسَ آي هذه السورة: ورش عن نافع، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف (٢).
...
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)﴾ [طه: ٣].
[٣] ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن نزلناه عظة وتذكيرًا بالأحكام.
﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾ اللهَ تعالى.
...
﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤)﴾ [طه: ٤].
[٤] ﴿تَنْزِيلًا﴾ بدل من قوله: (تَذْكِرَةً).
(١) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٦٩).
﴿مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ صفة أقامها مقام الموصوف، والعلى: جمع العليا.
...
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾ [طه: ٥].
[٥] ﴿الرَّحْمَنُ﴾ رفع بالابتداء ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ استواء يليق بعظمته بلا كيف، وهذا من متشابه القرآن، نؤمن به، ولا نتعرض لمعناه، وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لرجل مسألة عن الاستواء، فقال له مالك: "الاستواء معلوم -يعني: في اللغة-، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني"، فأدبر الرجل وهو يقول: يا أبا عبد الله لقد سألت فيها أهل العراق وأهل الشام، فما وفق فيها أحد توفيقك (١).
وسئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقال: "هو كما أخبر، لا كما يخطر للبشر".
وتقدم الكلام على ذلك مستوفىً (٢) في سورة الأعراف.
...
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦)﴾ [طه: ٦].
[٦] ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من جميع المخلوقات.
(١) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (٣/ ٣٩٨)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٦/ ٣٢٥ - ٣٢٦).
(٢) "مستوفًى" ساقطة في "ت".
﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ التراب الندِيّ تحت الظاهر.
...
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)﴾ [طه: ٧].
[٧] ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ﴾ ترفع صوتك به.
﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ ما أسره لغيره.
﴿وَأَخْفَى﴾ هو ما أسر في نفسه.
...
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)﴾ [طه: ٨].
[٨] ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وَحَّدَ نفسه سبحانه.
﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ يريد: التسميات التي تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن، وتقدم ذكر الأسماء الحسنى، والكلام عليها في سورة الأعراف عند قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٨٠].
...
﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩)﴾ [طه: ٩].
[٩] ﴿وَهَلْ﴾ أي: وقد ﴿أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ استفهام بمعنى التقرير.
...
﴿إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)﴾ [طه: ١٠].
[١٠] ﴿إِذْ رَأَى نَارًا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عن هشام وأبي بكر: (رَأَى) بإمالة الراء تبعًا للهمزة، وأمال
أبو عمرو الهمزة فقط (١)، وملخص القصة: أن موسى استأذن شعيبًا -عليهما السلام- في الخروج بزوجته، فأذن له، فخرج بها سائرًا على غير الطريق غيرة نحو الطور الأيمن الغربي في ليلة شاتية باردة، فأخذ امرأتَه الطلقُ، فقدح زنده مرارًا فلم يورِ، فأبصر نارًا من بعيد.
﴿فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ أقيموا. قرأ حمزة (لِأهْلِهُ امْكُثُوا) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بكسرها فيه (٢).
﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أبصرت ﴿نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ بشعلة نار في طرف عود أو فتيلة. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (إِنِّيْ آنَسْتُ)، و (لَعَلِّيْ آتِيكُمْ) بإسكان الياء فيهما، وافقهم ابن عامر في الأول، والباقون: بفتح الياء فيهما (٣)، ولم يقل: (آتيكم) بلا (لعلي)؛ لأنه لم يكن متيقنًا الوفاء بالوعد ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ أي: هاديًا يدلني على الطريق.
...
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (١١)﴾ [طه: ١١].
[١١] ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ رأى شجرة خضراء من العَوْسَج من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد، وسمع (٤) تسبيح الملائكة، وأُلقيت عليه السكينة، فثَمَّ ﴿نُودِيَ يَامُوسَى﴾.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٠).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧١).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧١).
(٤) في "ت": "تسمَّع".
﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢)﴾ [طه: ١٢].
[١٢] ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (أَنِّي) بفتح الهمزة؛ أي: بأني، وأبو عمرو: يدغم الياء في الياء في قوله (نُودِي يَّا مُوسَى)، والباقون: بكسرها؛ أي: نودي موسى، فقيل إني (١)، فنافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: يفتحون الياء، والباقون: يسكنونها، روي أنه لما سمع هذا النداء، فقال: من المتكلم؟ فقال تعالى: (أَنَا رَبُّك).
﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ أي: ألقهما؛ لأنهما كانا من جلد حمار ميت.
﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾ المطهر. وقف يعقوب: (بِالْوَادِي) بإثبات الياء (٢) ﴿طُوًى﴾ فخلعهما وألقاهما، ورأى الوادي. قرأ الكوفيون، وابن عامر: (طُوًى) بالتنوين، على أنه اسم الوادي، وقرأ الباقون: بغير تنوين، على أنه اسم البقعة، واتفقوا على ضم الطاء (٣).
وعن ابن عباس: "قيل له: (طوى)؛ لأن موسى طواه بالليل إذ مر به، فارتفع إلى أعلى الوادي" (٤)، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه؛ كأنه قال: إنك بالواد الذي طويته طوى؛ أي: تجاوزته فطويته بسيرك.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٢).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٢).
(٤) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٥٦٠).
﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣)﴾ [طه: ١٣].
[١٣] ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ قرأ حمزة: (وَأَنَّا) بتشديد النون (اخْتَرْنَاكَ) بالنون مفتوحة وألف بعدها على الخبر عن نفسه، بلفظ الجمع في الكلمتين؛ تعظيمًا لله تعالى، وقرأ الباقون: (وَأَنَا) بتخفيف النون (اخْتَرْتُكَ) بتاء مضمومة من غير ألف (١)، على لفظ الواحد فيهما على الخبر عن نفسه في اللفظ، ومعناه: إني اصطفيتك برسالاتي ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ إليك.
...
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤)﴾ [طه: ١٤].
[١٤] ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنَّنِيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ لعبادتي؛ لأن الصلاة مشتملة على قراءة، والقراءة مشتملة على أذكار. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِذِكْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
...
﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥)﴾ [طه: ١٥].
[١٥] ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾ القيامة ﴿آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ أُسِرُّها، ولا أقول:
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٠ - ١٥١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٤).
(٣) المصادر السابقة.
هي آتية؛ أي: أسترها عن العباد، ولا أذكرها لهم؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى قيامها، كانوا على وَجَلٍ منها في كل وقت ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ بعملها من خير وشر.
...
﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)﴾ [طه: ١٦].
[١٦] ثم نهى تعالى موسى - ﷺ -، والمراد: غيره بقوله: ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا﴾ أي: عن الإيمان بها ﴿مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا﴾ من الكفار.
﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ في عبادة غير الله ﴿فَتَرْدَى﴾ فتهلك إن انصددت عنها.
...
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (١٧)﴾ [طه: ١٧].
[١٧] ﴿وَمَا تِلْكَ﴾ أي: وما التي ﴿بِيَمِينِكَ﴾ في يدك اليمنى ﴿يَامُوسَى﴾ سؤال تقرير، والحكمة فيه تنبيهه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية، علم أنه معجز عظيم، وهذا على عادة العرب، يقول الرجل لغيره: هل تعرف هذا، وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه.
ويروى أن (١) عصا موسى هي التي هبط بها آدم من الجنة، وأنها من ورق آس من أحد الخطوط المستطيلة في وسط الورقة، وأن طولها اثنا عشر ذراعًا بذراع موسى عليه السلام، وكانت العصا شعبتين، وفي أسفلها سنان، ولها محجن.
(١) في "ت": "أنه".
﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨)﴾ [طه: ١٨].
[١٨] ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ﴾ فقيل: ما تصنع بها؟ قال: ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ أعتمد عليها عند الوثبة، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ أي: أضرب بها الأغصان ليسقط ورقها، فترعاه الغنم، (وَأَهُسُّ) بالمهملة: أزجر بها (١)، والتلاوة بالأول.
﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ﴾ جمع مأربة -بضم الراء وفتحها-؛ أي: حوائج ﴿أُخْرَى﴾ على تأنيث الجمع في المعنى، وأراد بالمآرب: ما يستعمل فيه العصا في السفر، فكان يحمل بها الزاد، ويشد بها الحبل فيستقي الماء من البئر، ويحارب بها السباع، وتماشيه وتحدثه، ويركزها فتورق، وتحمل أي ثمرة أحب له (٢)، وتضيء له شعبتاها (٣) في الليل كشمعتين، وتطرد عنه الهوام، وغير ذلك (٤). قرأ ورش، وحفص: (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٥).
(١) وهي قراءة عكرمة، انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١١٧).
(٢) "له" ساقطة من "ت".
(٣) في "ت": "شعبتها".
(٤) قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ١٤٦): "وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعبانًا، فما كان يفر منها هاربًا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية".
(٥) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٧).
﴿قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (١٩)﴾ [طه: ١٩].
[١٩] ﴿قَالَ﴾ الله تعالى: ﴿أَلْقِهَا يَامُوسَى﴾ انبذها.
...
﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠)﴾ [طه: ٢٠].
[٢٠] قال وهب: ظن موسى أنه يقول: ارفضها، ﴿فَأَلْقَاهَا﴾ على وجه الرفض (١)، ثم حانت منه نظرة، ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ﴾ عظيمة ﴿تَسْعَى﴾ تمشي مسرعة على بطنها، قال هنا: (حَيَّة)، وفي غيره (جَانّ)، وهو الخفيف من الحيات، و (ثعبان)، وهو عظيمها؛ لأن الحية تعم الذكر والأنثى، والصغير والكبير.
...
﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١)﴾ [طه: ٢١].
[٢١] فلما رآها لا تمر بحجر إلا ابتلعته، ولا شجر إلا اقتلعته، ويُسمع لأنيابها صريف شديد، ولى مدبرًا وهرب، ثم ذكر ربه، فوقف استحياء منه، ثم نودي: أن يا موسى! أقبل، ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف ﴿قَالَ﴾ تعالى: ﴿خُذْهَا﴾ بيمينك.
﴿وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ أي: سنردها عصا كما كانت، فأدخل موسى يده في كمه ليأخذها، فسمع النداء: أرأيت لو أذن لها أن تضربك كان يغنيك؟! فكشف يده وأدخلها في فيها؛ فإذا هي عصا كما
(١) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: ٦١)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٩/ ٢٨٤٧).
كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ، وأري ذلك موسى عند المخاطبة؛ لئلا يجزع إذا انقلبت حية لدى فرعون.
...
﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢)﴾ [طه: ٢٢].
[٢٢] ثم نبه على آية أخرى فقال: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ أي: اجمعها إلى جيبك ما بين أسفل العضد إلى الإبط، وأصله من جناح الطير؛ لأنه يجنح به؛ أي: يميل، فكأن الإنسان يجنح بجانبيه عند العطفات والالتفات، المعنى: أدخلها تحت عضدك.
﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ برص، فكان ليده نور ساطع يضيء كضوء الشمس والقمر.
﴿آيَةً أُخْرَى﴾ دلالة على صدقك.
...
﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣)﴾ [طه: ٢٣].
[٢٣] ﴿لِنُرِيَكَ﴾ المعنى: فعلنا ذلك لنريك.
﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ الآية ﴿الْكُبْرَى﴾ العظمى (١)، وكانت يده أكبر آياته.
...
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤)﴾ [طه: ٢٤].
[٢٤] ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ ترفَّع وعلا وتجاوز الحد في الكفر.
...
(١) "العظمى" زيادة من "ت".
﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥)﴾ [طه: ٢٥].
[٢٥] ﴿قَالَ﴾ موسى:
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ وسِّعه لتحمل الحق والمشاق، ورديء أخلاق فرعون وجنده.
...
﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)﴾ [طه: ٢٦].
[٢٦] ﴿وَيَسِّرْ﴾ سَهِّل ﴿لِي أَمْرِي﴾ لأبلِّغ الرسالة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧)﴾ [طه: ٢٧].
[٢٧] ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً﴾ رثة ﴿مِنْ لِسَانِي﴾ حدثت بسبب إلقائي الجمرة في فيَّ، وذلك أن موسى في صغره لطم فرعون لطمة عظيمة، وأخذ بلحيته، فأراد قتله، فقالت آسية؛ أيها الملك! إنه صغير لا يعقل، جرِّبْه إن شئت، فجعل في طست جمرًا، وفي آخر جوهرًا، ووضعتهما لدى موسى، فأراد أخذ الجوهر، فأخذ جبريل يده ووضعها على الجمر، فأخذ جمرة ووضعها في فيه، فاحترق، فصار بلسانه لُكْنة منها (٢).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٩).
(٢) قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ١٥٤): "رواه النسائي في "السنن الكبرى"، وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم في "تفسيريهما"، كلهم من حديث =
﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾ [طه: ٢٨].
[٢٨] ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ أي: احلل العقدة كي يفقهوا كلامي، والفقه لغةً: الفهم.
...
﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩)﴾ [طه: ٢٩].
[٢٩] ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا﴾ معينًا ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ والوزير: من الوزر: الثقل؛ لأن الوزير يتحمل أثقال الملك، ويعتمد عليه.
...
﴿هَارُونَ أَخِي (٣٠)﴾ [طه: ٣٠].
[٣٠] وكان هارون أجمل شكلًا، وأفصح لسانًا من موسى، فلذلك قال: ﴿هَارُونَ أَخِي﴾.
...
﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)﴾ [طه: ٣١].
[٣١] ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ قَوِّ به ظهري.
...
= يزيد بن هارون، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس -رضي الله عنهما- مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا".
﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)﴾ [طه: ٣٢].
[٣٢] ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ الذي حَمَّلْتني. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر بخلاف عن الثاني: (أَخِي أَشْدُدْ) بفتح الألف في الوصل والقطع، (وأُشْرِكْه): بضم الألف، وسكَّنا الياء من (أَخِيْ)، فهما خبر من موسى (١)، فـ (أَشْدُدْ) جزم جواب الطلب كجواب الشرط، (وأُشْرِكْهُ) عطف عليه، المعنى: أعتضد به أنا، وأجعله أنا شريكي، وقرأ الباقون: بوصل همزة (اشدد)، وتبتدأ (٢) بالضم، وبفتح همزة (أَشْرِكْهُ) دعاء من موسى، المعنى: افعل أنت اللهم ذلك به، وفتحَ الياء من (أَخِيَ): أبو عمرو، وابن كثير، وسكَّنها الباقون، وهم: نافع، والكوفيون، ويعقوب (٣)، وقرأ ابن كثير: (وَأَشْرِكْهُو فِي أَمْرِي) بإشباع الهاء ووصلها بواو في الدرج، والباقون باختلاس ضمتها (٤).
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و "تفسير البغوي" (٣/ ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٩ - ٨٠).
(٢) في "ش": "تتبدل".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٩).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٠).
﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣)﴾ [طه: ٣٣].
[٣٣] ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ﴾ تسبيحًا ﴿كَثِيرًا﴾.
...
﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤)﴾ [طه: ٣٤].
[٣٤] ﴿وَنَذْكُرَكَ﴾ ذكرًا ﴿كَثِيرًا﴾ فإن التعاون يهيج الرغبات، ويؤدي إلى تزايد الخير.
...
﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥)﴾ [طه: ٣٥].
[٣٥] ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ تعلم أحوالنا. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (نُسَبِّحَك كَّثيرًا وَنَذْكُرَك كَّثيرًا إِنَّك كُّنْتَ) بإدغام الكاف في الكاف من الأحرف الثلاثة (١).
...
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (٣٦)﴾ [طه: ٣٦].
[٣٦] ﴿قَالَ﴾ الله تعالى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ﴾ طِلْبتك.
﴿يَمُوسَىَ﴾ مِنَّةً عليك.
...
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧)﴾ [طه: ٣٧].
[٣٧] ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ قبل هذه المرة.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٠).
﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨)﴾ [طه: ٣٨].
[٣٨] ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ﴾ ألهمناها ﴿مَا يُوحَى﴾ ما يُلْهَم.
...
﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩)﴾ [طه: ٣٩].
[٣٩] ثم فسر الإلهام فقال: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ﴾ اجعليه ﴿فِي التَّابُوتِ﴾ فأخذت قطنًا محلوجًا، ووضعته في التابوت، وألقت موسى فيه، وشدت عليه وأحكمته؛ لئلا يصل إليه الماء، وكان يدخل من النيل نهر إلى دار فرعون ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ بحر النيل.
﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ أي: الجانب، وسمي ساحلًا؛ لأن الماء يسحله؛ أي: يقشره.
﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ وهو فرعون، وهذا إخبار لأم موسى بصيغة الأمر لليم، فألقته فيه، فدخل دار فرعون، فبصر به، فأمر بإخراجه، فأُخرج، وفتحوا التابوت، فإذا فيه صبي أحسن الناس وجهًا، فأخذه فرعون وأحبه هو وآسيا حبًّا شديدًا؛ بحيث لا يصبران عنه، يصدق ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ قال ابن عباس: "أحبه وحببه إلى الناس" (١)، والواو بعد عاطفة على محذوف تقديره: ألقيت عليك محبة لتحب.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٢١)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٥/ ٢٨٤)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ١٩٦).
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ لتربى على حفظي ورعايتي. قرأ أبو جعفر: (وَلْتُصْنَعْ) بإسكان اللام وجزم العين، فيجب له إدغامها، وقرأ الباقون: بكسر اللام ونصب العين (١)، وأبو عمرو ورويس: يدغمان العين في العين على أصلهما في إدغام المتماثلين، وفتح نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو الياء من (عَيْنِيَ)، وسكنها الباقون (٢).
...
﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (٤٠)﴾ [طه: ٤٠].
[٤٠] ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ ظرف (لتصنع)؛ لأن أخته مريم خرجت متعرفة خبره، فجاءتهم، وكان لا يقبل ثدي مرضعة ﴿فَتَقُولُ﴾ أي: فقالت: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ أي: امرأة تحضنه وترضعه ويقبل ثديها؟ قالوا: نعم، من هي؟ قالت: أمي، قالوا: لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، فجاءت بالابن (٣)، فقبل ثديها.
فذلك قوله تعالى: ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بلقائك ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ ليزول حزنها ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ هو القبطي، فاغتممت خوفًا من الله تعالى
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨١).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨١).
(٣) في "ت": "بالأم".
﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾ بأن غفر لك، وأُنجيت من فرعون.
﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ مصدر؛ أي: اختبرناك اختبارًا بإيقاعك في المحن، وتخليصك منها ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ عند شعيب، قال وهب: لبث عنده ثمانيًا وعشرين سنة: عشر مهر ابنته، وأقام عنده ثماني عشرة سنة حتى ولد له. وتقدم اختلاف القراء في الإدغام والإظهار من (لَبِثْتَ) في سورة الكهف [الآية: ١٩]، ومدين: بين مصر ومكة، مسافتها عن مصر نحو اثني عشر يومًا، وهي منزلة للحجاج، تعرف في هذه الأزمنة بمغارة شعيب، تقدم ذكرها في سورة الأعراف.
﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ﴾ موعد مقدر في علمي ﴿يَامُوسَى﴾ أنك تجيء، وأستنبئك فيه، وكان مجيؤه على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء.
...
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)﴾ [طه: ٤١].
[٤١] ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ﴾ أي: اصطفيتك ﴿لِنَفْسِي﴾ بأن جعلتك نبيًّا.
...
﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢)﴾ [طه: ٤٢].
[٤٢] ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ﴾ هارون إلى الناس ﴿بِآيَاتِي﴾ التسع.
﴿وَلَا تَنِيَا﴾ تفتُرا.
﴿فِي ذِكْرِي﴾ التسبيح والتقديس والالتجاء إلي.
***
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣)﴾ [طه: ٤٣].
[٤٣] ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ بإدعائه الربوبية. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (لِنَفْسِيَ اذْهَبْ) (ذِكَرِيَ اذْهَبَا) بفتح الياء فيهما، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)﴾ [طه: ٤٤].
[٤٤] ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ سهلًا، أي: ارفقا به، ولا تعنِّفاه، وكَنِّياه، لما له من حق التربية، وكان يكنى بأبي مصعب.
﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ يتعظ ﴿أَوْ يَخْشَى﴾ الله، فيسلم، قالوا: تذكر فرعون وخشي، وروي أنه أحب اتباع موسى، فشاور هامان، فقال: كنت أرى لك رأيًا وعقلًا، أنت الآن ربٌّ تريد أن تكون مربوبًا؟! وأنت منا الآن تُعبد، تريد الآن أن تَعبد؟! فقلبه عن رأيه (٢).
...
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥)﴾ [طه: ٤٥].
[٤٥] وكان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي بهارون، وأوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة، وأخبره بما أوحي إليه.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٢ - ٨٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٢٣)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٥/ ٢٨٨).
﴿قَالَا﴾ يعني: موسى وهارون: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ يعجل عقوبتنا ﴿أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ يجاوز الحد في الإساءة إلينا.
...
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦)﴾ [طه: ٤٦].
[٤٦] ﴿قَالَ﴾ الله: ﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ بعوني.
﴿أَسْمَعُ﴾ ما يقول ﴿وَأَرَى﴾ ما يصدر منه.
...
﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧)﴾ [طه: ٤٧].
[٤٧] ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا﴾ فأتياه فقالا (١): ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ أرسلَنا إليك.
﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى الشام ﴿وَلَا تُعَذِّبْهُمْ﴾ بأشغالك الشاقة.
﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ﴾ حجة على صدقنا ﴿مِّن رَّبِّكَ﴾ لأن الرسالة لا تثبت إلا بحجة ظاهرة، قال فرعون: وما هي؟! فأخرج موسى يده لها شعاع كشعاع الشمس، ﴿وَالسَّلَامُ﴾ المنجِّي من سخط الله تعالى.
﴿عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ التوحيد.
...
﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)﴾ [طه: ٤٨].
[٤٨] ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ﴾ بما جئنا به.
﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض عنه.
(١) في "ت": "فَأْتياه فقولا" بصيغة الأمر، والصواب "فأَتياهُ فَقَالا" بصيغة الماضي.
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (٤٩)﴾ [طه: ٤٩].
[٤٩] ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى﴾ خاطبهما أولًا، ثم خص موسى بالنداء؛ لأنه الأصل، وهارون تابعه.
...
﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)﴾ [طه: ٥٠].
[٥٠] ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ﴿ثُمَ هَدَى﴾ أي: عَرَّفَ كيف يُرتفق بما أعطى.
...
﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١)﴾ [طه: ٥١].
[٥١] ﴿قَالَ﴾ فرعون: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ سؤال عن حال الأمم الماضية.
...
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢)﴾ [طه: ٥٢].
[٥٢] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿عِلْمُهَا﴾ محفوظ.
﴿عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ اللوح المحفوظ.
﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾ أي: لا يخطئ ﴿وَلَا يَنْسَى﴾ شيئًا، فلا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا من وَحَّده حتى يجازيَه.
***
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣)﴾ [طه: ٥٣].
[٥٣] ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ قرأ الكوفيون: (مَهْدًا) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، مصدر وصف به، أي: كالمهد يتمهدونها، وقرأ الباقون: (مِهَادًا) بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها (١)، وهو اسم ما يمهد كالفراش، المعنى: وَطَّأَ لكم الأرض لتسكنوها.
﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ أي: جعل لكم فيها طرقًا لتسلكوها.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني: المطر، ثم الإخبار عن موسى -عليه السلام-، ثم أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن نفسه بقوله:
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ أصنافًا ﴿مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ مختلفة النفع والطعم واللون، جمع شتيت؛ كمرضى جمع مريض.
...
﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤)﴾ [طه: ٥٤].
[٥٤] ﴿كُلُوا﴾ من النبات ﴿وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ أسيموها فيه؛ أي: أخرجنا مبيحين لكم الأكل ورعي الدواب.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكرت ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ لذوي العقول جمع نهية؛ لأنها تنهى صاحبها عن القبيح.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٥).
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)﴾ [طه: ٥٥].
[٥٥] ثم عرفهم أن الأرض أصلهم ومصيرهم، فقال: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ لأنكم من آدم، وآدم من التراب ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ مقبورين بعد الموت ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ﴾ عند البعث ﴿تَارَةً أُخْرَى﴾ كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم.
...
﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦)﴾ [طه: ٥٦].
[٥٦] ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ يعني: فرعون ﴿كُلَّهَا﴾ يعني: الآيات التسع، ﴿فَكَذَّبَ﴾ بها ﴿وَأَبَى﴾ الإسلام.
...
﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (٥٧)﴾ [طه: ٥٧].
[٥٧] ﴿قَالَ﴾ يعني: فرعون: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا﴾ مصر ﴿بِسِحْرِكَ يَامُوسَى﴾ هذا تعلل وتحير، ودليل على أنه علم كونه محقًا حتى خاف منه على ملكه؛ فإن ساحرًا لا يقدر أن يخرج ملكًا مثله من أرضه.
...
﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)﴾ [طه: ٥٨].
[٥٨] ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾ أي: بسحر يماثله ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا﴾ أي: فاضرب بيننا وبينك ميقاتًا، والموعد بمعنى: الوعد؛ لقوله:
﴿لَا نُخْلِفُهُ﴾ لا نجاوزه ﴿نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾ فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان. قرأ أبو جعفر (نُخْلِفْهُ) بإسكان الفاء جزمًا جواب الأمر، فتمتنع الصلة، وقرأ الباقون: بالرفع والصلة (١).
﴿مَكَانًا سُوًى﴾ يعني وسطًا بين الموضعين؛ أي: نتواعد مكانًا، فتستوي مسافته على الفريقين. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، ويعقوب، وخلف: (سُوًى): بضم السين، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (٢)، وروي عن أبي بكر إمالة (سُوًى) حالة الوقف؛ وفاقًا لمن قرأ بالإمالة، وروي عنه الفتح أيضًا (٣).
...
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)﴾ [طه: ٥٩].
[٥٩] ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة.
﴿وَأَنْ يُحْشَرَ﴾ أن يُجمع ﴿النَّاسُ ضُحًى﴾ ضحوةً نهارًا؛ ليكون أبعد من الريبة، وأبينَ لكشف الحق.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٢٧). و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٦).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٧).
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠)﴾ [طه: ٦٠].
[٦٠] ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ مكره وسحرته، وكانوا اثنين وسبعين، وقيل: أكثر من ذلك، وحضر أهل دولته، وجاء موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل معه.
﴿ثُمَّ أَتَى﴾ الموعد.
...
﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١)﴾ [طه: ٦١].
[٦١] ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى﴾ يعني: للسحرة: ﴿وَيْلَكُمْ﴾ وهذه مخاطبة محذور، وندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، ولا يباهتوا بكذب.
فقال: ﴿لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ﴾ أي: يهلككم ﴿بِعَذَابٍ﴾ عظيم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَيُسْحِتكمْ) بضم الياء وكسر الحاء، والباقون: بفتحهما، ومعناهما واحد (١).
﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ على الله تعالى. قرأ حمزة (خَابَ) بالإمالة حيث وقع، واختلف عن ابن ذكوان (٢).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و"الكشف" المكي (٢/ ٩٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٨).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٤ - ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨٨).
﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢)﴾ [طه: ٦٢].
[٦٢] ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ يعني: السحرة تناظروا في أمر موسى، وقالوا: إن كان ساحرًا، سنغلبه، وإن كان (١) ما يأتي به من السماء، فله أمره.
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ أخفوا كلامهم من فرعون.
...
﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣)﴾ [طه: ٦٣].
[٦٣] ﴿قَالُوا﴾ تفسير لـ ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾:
﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ يعني: موسى وهارون. قرأ أبو عمرو: (إِنَّ) بتشديد النون (هَذَيْنِ) بالياء على الأصل، وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: (إِنْ) بتخفيف النون (هَذَانِ) بالألف، فابن كثير يشدد النون من (هَذَانِّ)، وحفص يخففها؛ أي: ما هذان إلا ساحران؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ﴾ [الشعراء: ١٨٦]، أي: ما نظنك إلا من الكاذبين، وقرأ الباقون: (إِنَّ) بتشديد النون كأبي عمرو، و (هَذَانِ) بالألف وتخفيف النون من (هَذَانِ) كحفص، فيكون (إِنَّ) بمعنى: نعم، و (هَذَانِ) مبتدأ، و (سَاحِرَانِ) خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة، تقديره: هذان لهما ساحران، أو (هذان) مبتدأ، (ساحران) خبره، واللام زائدة (٢)، قال
(١) "كان" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٨ - ١٢٩)، =
الكواشي: والقراءة بتشديد (إِنَّ) ونصب (هَذَيْنِ) زعموا أنها مخالفة لخط المصحف، وزعم بعضهم أنما حمله على ذلك خشية اللحن، وهذا طعن في عدالة أبي عمرو وعلمه؛ لأنه هو الذي قرأها؛ لأن هذا يشعر أنه قرأها من تلقاء نفسه، لم يأخذها متواترة عن النبي - ﷺ -، وأنه غير عالم بتعليل (إِنَّ هَذَانِ) بالرفع وتشديد (إِنَّ)، وكيف يجوز اعتقاد مثل هذا بمن شهد له بالعدالة والبراعة في علم العربية، حتى زعموا أنه قال: إني لأستحي من الله أن أقرأ: (إِنَّ هَذَانِ) يعنون: بالرفع وتشديد (إِنَّ)، وكيف يجوز أن يعتقد بأحد من المسلمين أنه يستحيي من قراءة ما صح وتواتر عن النبي - ﷺ -، مع أن أبا عمرو وغيره من الأئمة كانوا ينشدون ويسمعون الأشعار المنحولة والغريبة، ولا يؤخذ ذلك عليهم، انتهى.
﴿يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ مصر ﴿بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ﴾ بدينكم وشريعتكم ﴿الْمُثْلَى﴾ تأنيث الأمثل، وهو الأعدل.
...
﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤)﴾ [طه: ٦٤].
[٦٤] ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو: (فَاجْمَعُوا) بوصل الهمزة وفتح الميم من جَمَع: لمّ؛ أي: لا تتركوا منه شيئًا. وقرأ الباقون: بالقطع وكسر الميم (١)؛ من أجمع: أحكم؛ أي: أحكموا ما تكيدون به موسى، واعزموا كلكم على كيده مجتمعين له، ولا تختلفوا فينحل أمركم.
= و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٠).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩١).
﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ أي: مصطفين؛ ليكون أهيب في صدور الناس، فجاؤوه في سبعين صفًا، كل صف ألف، فثَمَّ رغبهم فرعون في غلب موسى بما هو اعتراض فقال: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ﴾ فاز بالمطلوب ﴿مَنِ اسْتَعْلَى﴾ غلب.
...
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥)﴾ [طه: ٦٥].
[٦٥] ﴿قَالُوا﴾ يعني: السحرة تأدبًا: ﴿يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ عصاك ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾.
...
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦)﴾ [طه: ٦٦].
[٦٦] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿بَلْ أَلْقُوا﴾ ما معكم؛ احتقارًا لهم، وليظهر الحق من الباطل، فألقوه.
﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ جمع العصا ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ﴾ قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر، وروح عن يعقوب: (تُخَيَّلُ) بالتاء مضمومة على التأنيث مع فتح الياء لتأنيث جماعة الحبال والعصي، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (١)، ردوه إلى الكيد أو السحر.
(١) انظر: "تفسير الطبري" للطبراني (٧/ ١٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٢).
﴿أَنَّهَا تَسْعَى﴾ روي أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، ولطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه وإلى الناس أنها تسير وتتحرك، وكانت قد أخذت ميلًا من كل جانب.
...
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧)﴾ [طه: ٦٧].
[٦٧] ﴿فَأَوْجَسَ﴾ أضمر ﴿فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ ظنًّا منه أنها تقصده كعادة البشر.
...
﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)﴾ [طه: ٦٨].
[٦٨] ﴿قُلْنَا﴾ لموسى: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ أي (١): الغالب القاهر لهم.
...
﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩)﴾ [طه: ٦٩].
[٦٩] ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ من العصا ﴿تَلْقَفْ﴾ تبتلع ﴿مَا صَنَعُوا﴾ بقدرة الله تعالى. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (تلْقَفُ) برفع الفاء على الحال والاستئناف، وقرأ حفص عن عاصم: بإسكان اللام مع تخفيف القاف والجزم، وقرأ الباقون: بتشديد القاف والجزم جواب (وَأَلْقِ)، فالفاعل موسى، نسب إليه التلقف؛ لأنه كان بسببه، والبزي عن ابن كثير:
(١) "أي" ساقطة من "ت".
على أصله في تشديد التاء من (تّلَقَّفْ) وصلًا؛ كأنه أراد: تتلقف، فأدغم (١).
﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ﴾ مكر ﴿سَاحِرٍ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سِحْرٍ) بكسر السين [وإسكان الحاء من غير ألف؛ أي: حيلة سحر، وقرأ الباقون: بالألف وفتح السين] (٢) وكسر الحاء، بإضافة الكيد إلى الفاعل، وهي أولى من إضافته إلى الفعل، وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية (٣) ﴿وَلَا يُفلِحُ﴾ لا يسعد ﴿السَّاحِرُ﴾ المراد: الجنس ﴿حَيْثُ أَتَى﴾ من الأرض.
...
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)﴾ [طه: ٧٠].
[٧٠] فألقى موسى عصاه، فالتقمت ما جاؤوا به، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله ومعجزاته ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ شكرًا لله على الهداية، روي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في سجودهم، ثم رفعوا رؤوسهم.
و ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ قدم هارون؛ لكبر سنه.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٣).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٣١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٤).
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)﴾ [طه: ٧١].
[٧١] ﴿قَالَ﴾ فرعون: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ قرأ حفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير بخلاف عنه: (أَمَنْتُمْ) بهمزة واحدة على الخبر، والباقون: بهمزتين على الاستفهام، فحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف، وروح عن يعقوب يقرؤون بتحقيق الهمزتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، ولم يدخل أحد منهم ألفًا بين الهمزة المحققة والمسهلة في هذا المحل؛ كما أدخلها من أدخلها منهم في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وبابه، لكراهية اجتماع ثلاث ألفات بعد الهمزة (١)، وأبو عمرو يدغم التاء في السين من قوله: (السَّحَرَة سُّجَّدًا) (٢)، ومعنى الكل إنكارة أي: أصدقتم لموسى، وآمنتم بربه من غير أمري إياكم.
﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾ لرئيسكم ومعلمكم.
﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وأنتم تواطأتم على ما فعلتم.
﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ اليد اليمنى والرجل اليسرى، و (مِنْ) لابتداء الغاية؛ لأن القطع مبتدأ من مخالفة العضو العضو؛ أي:
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٦٨ - ٣٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٥).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٥).
لأقطعنها مختلفات، وابتداء الغاية داخلها (١) بالاتفاق، لا انتهاؤها عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعن أبي بكر من أصحاب أحمد: إن كانت الغاية من جنس المحدود كالمرافق، دخلت، وإلا، فلا، وعند الحنفية: إن قامت الغاية بنفسها، لم تدخل؛ كبعتك من هنا إلى هنا، وإن تناوله صدر الكلام، فالغاية لإخراج ما وراءه؛ كالمرافق، والغاية في الخيار، ومنع أبو حنيفة دخول العاشر في قوله: من درهم إلى عشرة ونحوِه، وأدخله صاحباه.
﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ أي: عليها ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا﴾ يريد: نفسه وربَّ موسى عليه السلام ﴿أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ وأدوم عقابًا.
﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢)﴾ [طه: ٧٢].
[٧٢] ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ لن نختارك ﴿عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ الدلالات على صدق موسى ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ أي: ولن نؤثرك على الله الذي فطرنا، فالواو في قوله: (وَالَّذِي) عاطفة، وقيل هي واو قسم، و (فَطَرَنا) معناه: خلقنا واخترعنا.
﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ فافعل يا فرعون ما شئت. روي عن يعقوب وقنبل: الوقف بالياء على (قَاضِي) (٢) ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ إنما
(١) في "ت": "داخل".
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٧٢).
تحكم فينا مدة حياتنا؛ فإن سلطانك في الدنيا، وسيزول عن قريب.
...
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)﴾ [طه: ٧٣].
[٧٣] ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾ ولما رأوا موسى تحرسه عصاه وهو نائم، قالوا: ليس بساحر؛ لأن الساحر يبطل سحره إذا نام، فكرهوا معارضته خوفَ الفضيحة، فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر، فذلك قوله:
﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ و (ما) موصولة منصوبة عطف على (خَطَايَانَا) أي: ليغفر خطايانا، والذي أكرهتنا عليه ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ﴾ عطاءً منك إذا أُطيع ﴿وَأَبْقَى﴾ عقابًا منك إذا عُصي، وهذا جواب لقوله: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)﴾ [طه: ٧١].
...
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤)﴾ [طه: ٧٤].
[٧٤] ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ﴾ أي: يأت موعدَ ربه.
﴿مُجْرِمًا﴾ أي: مشركًا، والمجرم: من اكتسب الخطايا والجرائم.
﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا﴾ فيستريح ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ حياة ينتفع بها.
قالت فرقة: هذه الآية بجملتها هي من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة: بل هي من كلام الله تعالى لمحمد - ﷺ -؛ تنبيهًا على قبح مافعل فرعون، وحسنِ ما فعل السحرة، وموعظة وتحذيرًا.
﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥)﴾ [طه: ٧٥].
[٧٥] ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا﴾ أي: مات على الإيمان.
﴿قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾ في الدنيا.
﴿فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ هي القرب من الله تعالى. قرأ السوسي عن أبي عمرو: (يَأْتِهْ) بإسكان الهاء، (مُومِنًا) بإسكان الواو بغير همز، وقرأ أبو جعفر، وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: باختلاس كسرة الهاء، بخلاف عنهم، إلا رويس، وقرأ الباقون: بإشباع الهاء، وكلها لغات (١).
...
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)﴾ [طه: ٧٦].
[٧٦] ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ أي: أطاع الله، وأخذ بأزكى الأمور.
...
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)﴾ [طه: ٧٧].
[٧٧] ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ أي: سر بهم ليلًا من أرض مصر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (أَنِ اسْرِ) بوصل الألف، من
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٩ - ٣١٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٧).
سرى، ويكسرون النون من (أن) للساكنين وصلًا، ويبتدئون بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مفتوحة؛ من أسرى، ومعناهما واحد، وهو سير الليل، وحمزة يسكت على الساكن قبل الهمزة (١).
﴿فَاضْرِبْ﴾ أي: اجعل ﴿لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ﴾ بالضرب بالعصا ﴿يَبَسًا﴾ يابسًا، ليس فيه ماء ولا طين، وذلك أن الله أيبس له الطريق في البحر، وتقدم ذكر القصة في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (٥٠)﴾ [البقرة: ٥٠].
﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا﴾ لحاقًا. قرأ حمزة: (لاَ تَخَفْ) بالجزم على النهي، وقرأ الباقون: بالألف والرفع على النفي (٢)؛ لقوله: ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ المعنى: لا تدرَك وأنت آمن.
...
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨)﴾ [طه: ٧٨].
[٧٨] ﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾ فلحقهم ﴿فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ وكان هو فيهم.
﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ فغطاهم ﴿مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ ما غرقهم، وهو إبهام أهول من النص.
...
(١) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ٥٣٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٧).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٨).
﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩)﴾ [طه: ٧٩].
[٧٩] ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾ من أول أمره وإلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله:
﴿وَمَا هَدَى﴾ مقابلة لقول فرعون ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩)﴾ [غافر: ٢٩].
...
﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠)﴾ [طه: ٨٠].
[٨٠] ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ﴾ فرعون.
﴿عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ لما جاءه موسى، وإنزال التوراة عليه.
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ظاهر هذه الآية أن القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدَّد الله عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث.
...
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١)﴾ [طه: ٨١].
[٨١] ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ لذائذه ﴿وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾ لا تجاوزوا حد الله لكم فيه؛ كالسرف والبطر والمنع عن المستحق.
﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ فيلزمكم (١) عذابي.
(١) في "ت": "فليلزمكم".
﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ هلك. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (أَنْجَيْتكُمْ) (وَوَعَدْتُكُمْ) (مَا رَزَقْتكمْ) بالتاء المضمومة على لفظ الواحد من غير ألف في الثلاثة، وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (وَعَدْنَاكُمْ) بالنون مفتوحة وبعدها ألف؛ من الوعد، وقرأ الباقون، وهم نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر: (وَاعَدْنَاكُمْ) بألف بين الواو والعين؛ من المواعدة (١)، وقرأ الكسائي: (فَيَحُل عَلَيْكُمْ) بضم الحاء، (وَمَنْ يَحْلُلْ) بضم اللام الأولى؛ أي: ينزل، وقرأ الباقون: بكسر الحاء واللام منهما (٢)، أي: يجب، والحرف الثالث مجمَع عليه، وهو الآتي قريبًا.
...
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)﴾ [طه: ٨٢].
[٨٢] ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ من الشرك.
﴿وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أدى الفرائض.
﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾ لزم السنة.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٣٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٠ - ١٠١).
﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (٨٣)﴾ [طه: ٨٣].
[٨٣] ولما سار موسى بسبعين رجلًا لمناجاة ربه وللإتيان بالتوراة، فلما قرب من الطور، أسرع المسير نحوه شوقًا إلى مناجاة ربه.
فقال تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ﴾ أي: أيُّ شيء أوجب سبقك وعجلتك.
﴿عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى﴾؟
...
﴿قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤)﴾ [طه: ٨٤].
[٨٤] واقتضى السؤال عن السبب السؤال عن العذر، فقدم العذر اعترافًا منه بالنقص تأدبًا مع الله تعالى ﴿قَالَ هُمْ أُولَاءِ﴾ بالقرب مني يأتون.
﴿عَلَى أَثَرِي﴾ ما تقدمتهم إلا بخطا يسيرة لا يُعتد بها عادة، ثم ذكر موجب العجلة فقال:
﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ فإن المسارعة إلى امتثال أمرك توجب مرضاتك. قرأ رويس عن يعقوب: (إِثْرِي) بكسر الهمزة وإسكان الثاء، والباقون: بفتحها (١).
...
﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)﴾ [طه: ٨٥].
[٨٥] ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ﴾ أي: ابتلينا الذين خلفتهم مع
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٢).
هارون، وكانوا ست مئة ألف، فافتتنوا بالعِجْل غير اثني عشر ألفًا من بعد انطلاقك إلى الجبل.
﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ بصياغته له؛ لأنه كان سبب ذلك، وكان منافقًا من طائفة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة أظهروا الإسلام.
...
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)﴾ [طه: ٨٦].
[٨٦] ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ شديد الغضب.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ أي: صدقًا، وهو أربعون ليلة.
﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ أي: مدة ذهابي عنكم.
﴿أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ﴾ يجب.
﴿عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾ عهدي.
...
﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)﴾ [طه: ٨٧].
[٨٧] ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ أي: باختيارنا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم: (بِمَلْكِنَا) بفتح الميم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضمها، والباقون: بكسرها، وكلها لغات بمعنى واحد (١)، وقيل: ضم
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٥)، و"النشر في =
الميم معناه: لم يكن لنا ملك، فنخلف موعدك بقوته وسلطانه، وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، وفتح الميم من (مَلْك)، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وُفِّقنا له، بل غلبتنا أنفسُنا، وكسر الميم قد أكثر استعماله فيما تحوزه اليد، ومعناها كالتي قبلها.
﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب: (حَمَلْنَا) بفتح الحاء والميم مخففة؛ أي: حملنا نحن. وقرأ الباقون: بضم الحاء وكسر الميم مشددة مجهولًا (١)؛ أي: حَمَّلَنا غيرُنا.
﴿أَوْزَارًا﴾ أثقالًا ﴿مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ من حلي قوم فرعون كانوا استعاروها بسبب عرس، فبقيت عندهم، وكانت معهم حين خرجوا من مصر.
﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ أي: طرحنا الحلي في حفيرة.
﴿فَكَذَلِكَ﴾ أي: إلقاءً مثلَ إلقائهم.
﴿أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ ما معه من الحلي.
...
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨)﴾ [طه: ٨٨].
[٨٨] ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ﴾ من تلك الحلي المذابة.
= القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٣ - ١٠٤).
(١) المصادر السابقة.
﴿عِجْلًا جَسَدًا﴾ جسدًا ﴿لَهُ خُوَارٌ﴾ صوت يُسمع.
﴿فَقَالُوا﴾ أي: السامري وأتباعه ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ أي: تركه موسى هاهنا، وذهب يطلبه، تلخيصه: غلبنا بسبب كيد السامري.
...
﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩)﴾ [طه: ٨٩].
[٨٩] ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ﴾ أي: يعلمون.
﴿أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا﴾ لا يرد عليهم جوابًا.
﴿وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ لأنه عاجز عن ذلك، فكيف يتخذ إلهًا؟! هذا غاية الجهل.
...
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)﴾ [طه: ٩٠].
[٩٠] ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ﴾ قبل أن يرجع إليهم موسى:
﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ﴾ أي: بالعجل محنةً واختبارًا، فلا تعبدوه.
﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ لا شريك له.
﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ على ديني في عبادة الله ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ الذي أمركم به.
...
﴿قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١)﴾ [طه: ٩١].
[٩١] ﴿قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾ أي: لا نزالُ نعبدُه.
﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ فاعتزلهم هارون بمؤمنيه.
﴿قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢)﴾ [طه: ٩٢].
[٩٢] فلما رجع موسى، وسمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما بصر بهارون، أخذ شَعره بيمينه، ولحيته بشماله، و ﴿قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا﴾ بعبادة العجل.
...
﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)﴾ [طه: ٩٣].
[٩٣] ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ (لا) زائدة، المعنى: أي شيء صدَّكَ عن قتالهم وصدّهم واللحوق بي؟ أثبت نافع وأبو عمرو الياء في (تتَّبِعَنِي) وصلًا، وأثبتها في الحالين: أبو جعفر، وابن كثير، ويعقوب، وفتحها أبو جعفر وصلًا، وحذفها الباقون في الحالين (١).
﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ بالصلابة في الدين والمحاماة عليه؟
...
﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)﴾ [طه: ٩٤].
[٩٤] ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي﴾ أي: بشعر رأسي، وكان قد أخذ ذؤابته. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"الكشف" لمكي (٢/ ١٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٥).
عاصم: (يَبْنَؤُمِّ) بكسر الميم على حذف الياء تخفيفًا، والباقون: بفتحها (١)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (بِرَأْسِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ﴾ إذا قاتلت أحدَ الفريقين بالآخر.
﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ لم تحفظ وصيتي حين قلت لك: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، أي: ارفق بهم.
...
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (٩٥)﴾ [طه: ٩٥].
[٩٥] ثم أقبل موسى على السامري ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ﴾ أي: ما طلبك.
﴿يَاسَامِرِيُّ﴾ وما الذي حملك على فعلك؟
...
﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)﴾ [طه: ٩٦].
[٩٦] ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا﴾ أي: علمت ما لم يعلموا ﴿بِهِ﴾.
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (تَبْصُرُوا) بالتاء على الخطاب، والباقون: بالغيب على الخبر (٣).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٦).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٧)، =
﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ أخذت ملء كفي من تراب موطئ فرس جبريل عليه السلام.
﴿فَنَبَذتُهَا﴾ ألقيتها في فم العجل المصاغ. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب: (فَنَبَذْتُهَا) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (١)، فإن قيل: كيف عرفَ جبريلَ ورآه من بين سائر الناس؟ قيل: لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيه البنون، وضعته في كهف حذرًا عليه، فبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما حدثتك ﴿سَوَّلَتْ﴾ زينت.
﴿لِي نَفْسِي﴾ وحسنته في.
...
﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧)﴾ [طه: ٩٧].
[٩٧] ﴿قَالَ﴾ له موسى ﴿فَاذْهَبْ﴾ من بيننا طريدًا ﴿فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ﴾ طول عمرك. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير،
= و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٧).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٨ - ٩ و ١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٨).
321
وعاصم، ويعقوب، وخلف عن حمزة: (فَاذْهَبْ فَإِنَّ) بإظهار الباء عند الفاء، والباقون: بالإدغام (١).
﴿أَن تَقُولَ لَا مسَاسَ﴾ لا مخالطة مع أحد، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحدًا، أو مسه أحد، حُمَّا جميعًا، فكان إذا رأى أحدًا قال: لا مساس؛ أي: لا تقربني، وفر منه، عاقبه الله بذلك، وروي أن ذلك موجود في أولاده إلى الآن.
﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ يا سامري ﴿مَوْعِدًا﴾ أي: لعذابك يوم القيامة.
﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بكسر اللام؛ من أخلفتُ الموعدَ: غبت عنه؛ أي: لن تتخلف أنت عن الإتيان إلى الموعد، وهو الحشر، بل تصل إليه، وقرأ الباقون: بفتح اللام (٢)؛ أي: لن تخلف الموعد، بل تبعث إليه.
﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ بزعمك.
﴿الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾ أي: دمت عليه مقيمًا.
﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ قراءة الجمهور: بضم النون وفتح الحاء وكسر الراء مشددة؛ من الإحراق بالنار، وقرأ أبو جعفر: بضم النون وإسكان الحاء وكسر الراء خفيفة، ومعناه كالأول، وروي عنه وجه ثان: بفتح النون وإسكان الحاء وضم الراء خفيفة، وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله
(١) المصادر السابقة.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠٩).
322
عنه (١)؛ أي: لنبردنه، ومنه قيل للمبرد: المحرق.
﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ لنذرينه ﴿فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ لا يصادف منه شيء.
روي أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم؛ لأنه كان قد صار لحمًا ودمًا، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، وروي أنه ذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في البحر (٢)، وتقدم ذكر القصة في سورة البقرة [الآية: ٥٢].
...
﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨)﴾ [طه: ٩٨].
[٩٨] ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إذ لا أحدَ يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة.
﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ تمييز؛ أي: وسع علمه كل شيء.
...
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩)﴾ [طه: ٩٩].
[٩٩] ﴿كَذَلِكَ﴾ مخاطبة للنبي - ﷺ -؛ أي: مثل ما ذكرناه لك من أخبار بني إسرائيل ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ﴾ أخبار.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٣٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٣٨)، "زاد المسير" لابن الجوزي (٤/ ٣٢١)، و"تفسير القرطبي" (٧/ ٢٩٢)، و"تفسير اللباب" لابن عادل (٢/ ٣٧٧).
﴿مَا قَدْ سَبَقَ﴾ من أخبار الأمور الماضية والأمم؛ تبصرة لك، وزيادة في علمك.
﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ يعني: القرآن، وقيل: ذكرهًا جميلًا، وصيتًا عظيمًا بين الناس.
...
﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠)﴾ [طه: ١٠٠].
[١٠٠] ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾ عن القرآن، فلم يؤمن به.
﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ إثما ثقيلًا، ووحد الضمير في (فإنه) ردًّا إلى لفظ (مَنْ).
...
﴿خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١)﴾ [طه: ١٠١].
[١٠١] ﴿خَالِدِينَ فِيهِ﴾ في عقاب الوزر، والجمع في (خالدين) نظرًا إلى المعنى، ونصبه حال من ضمير (يحمل).
﴿وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾ بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرًا بالقرآن.
...
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢)﴾ [طه: ١٠٢].
[١٠٢] ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ القرن. قرأ أبو عمرو: (ننفُخُ) بنون مفتوحة وضم الفاء إخبارًا عن الله تعالى؛ لقوله: (وَنَحْشُرُ)، وقرأ الباقون:
بالياء وضمها وفتح الفاء مجهولًا (١) ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ المشركين.
﴿يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ زرق العيون من العطش.
...
﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣)﴾ [طه: ١٠٣].
[١٠٣] ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾ يتسارون ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ويتكلمون خفية؛ لهول ذلك اليوم قائلين: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ في الدنيا، وقيل: في القبور؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها.
﴿إِلَّا عَشْرًا﴾ ليالي. وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في الإدغام والإظهار من (لَبِثْتُمْ) عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ﴾ [طه: ٤٠].
...
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤)﴾ [طه: ١٠٤]
[١٠٤] قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ أي: يتسارون بينهم.
﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾ أعقلهم وأعدلهم وأوفرهم رأيًا:
﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة.
...
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٢).
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥)﴾ [طه: ١٠٥].
[١٠٥] ولما سئل رسول الله - ﷺ -: ما يُصنع بالجبال يوم القيامة؟ أنزل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ (١) يقلعها من أصلها، ويجعلها كالرمل.
...
﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦)﴾ [طه: ١٠٦].
[١٠٦] ثم يرسل الرياح عليها ﴿فَيَذَرُهَا﴾ أي: يترك أماكنها.
﴿قَاعًا﴾ مستويًا من الأرض ﴿صَفْصَفًا﴾ أملس لا نبات فيه.
...
﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)﴾ [طه: ١٠٧].
[١٠٧] ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا﴾ أودية ﴿وَلَا أَمْتًا﴾ ارتفاعًا.
...
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨)﴾ [طه: ١٠٨].
[١٠٨] ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ المنادي للحشر، وهو إسرافيل -عليه السلام- حين ينادي: أيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة! هلمي إلى عرض الرحمن، فيأتون سريعًا.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٣٩)، و"تفسير النسفي" (٣/ ٦٧).
﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾ أي: لا يعوج مدعو عن صوته، بل يتبعه من غير انحراف عننه.
﴿وَخَشَعَتِ﴾ هو خفيت وذلت ﴿الْأَصْوَاتُ﴾ أي: أربابها.
﴿لِلرَّحْمَنِ﴾ هيبة وإجلالًا.
﴿فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ صوتًا خفيًّا؛ من هميس الإبل، وهو صوت أقدامها إذا مشت، المعنى: لا تسمع إلا مشي الأقدام بخفاء إلى المحشر خوفًا.
...
﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩)﴾ [طه: ١٠٩].
[١٠٩] ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ لأحد من الناس ﴿إِلَّا﴾ شفاعة.
﴿مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ أن يشفع فيشفع.
﴿وَرَضِيَ لَهُ﴾ للمشفوع فيه ﴿قَوْلًا﴾ بأن قال: لا إله إلا الله.
...
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: ١١٠].
[١١٠] ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي: يعلم تعالى جميع أحوالهم؛ يعني: الذين يتبعون الداعي.
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ﴾ تعالى ﴿عِلْمًا﴾ لا يدركونه، ولا يعلمون ما هو صانع بهم، ونصب (علمًا) تمييز.
...
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)﴾ [طه: ١١١].
[١١١] ﴿وَعَنَتِ﴾ خضعت ﴿الْوُجُوهُ﴾ وجوه العصاة.
﴿لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ أي: خسر من أشرك بالله، والظلم: الشرك.
...
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢)﴾ [طه: ١١٢].
[١١٢] ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ﴾ قرأ ابن كثير: (فَلاَ يَخَفْ) مجزومًا على النهي جواب (١) لقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ) نهى المؤمن الصالح أن يخاف، وقرأ الباقون: (فَلاَ يَخَافُ) مرفوعًا استئنافًا (٢)؛ أي: فهو ليس يخاف.
﴿ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ نقصًا من حسناته.
...
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣)﴾ [طه: ١١٣].
[١١٣] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: وكما بيناه في هذه السورة.
﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي: هذا الكتاب.
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي: بلسان العرب.
﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ﴾ كررنا في القرآن ﴿مِنَ الْوَعِيدِ﴾ وعيدًا.
(١) في "ت": "جوابًا".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٤١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٣).
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الشرك ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ﴾ الوعيد.
﴿ذِكْرًا﴾ اعتبارًا وعظة بهلاك من تقدمهم.
...
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)﴾ [طه: ١١٤].
[١١٤] ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ عما يقول المشركون.
﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ أي: بقراءته.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ قراءته؛ أي: تثَبَّتْ حتى يفرغ جبريل من قراءته، ثم اقرأه؛ لأنه كان - ﷺ - يسابق جبريل خوفَ النسيان (١). قرأ يعقوب: (نَقْضِيَ) بالنون مفتوحة وكسر الضاد وفتح الياء نصبًا على تسمية الفاعل (وَحْيَهُ) بالنصب، وقرأ الباقون: (يُقْضَى) بالياء مضمومة وفتح الضاد، ورفع (وَحْيُهُ) (٢).
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ بالقرآن؛ أي: حفظًا وفهمًا.
...
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)﴾ [طه: ١١٥].
[١١٥] ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ﴾ أوصيناه ألا يأكل من الشجرة.
(١) ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/ ١٤٢)، وأخرج نحوه ابنُ أبي حاتم عن السُّدي، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٣٥ - ٣٦).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٤٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٤).
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل هذا الزمان ﴿فَنَسِيَ﴾ العهد ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ صبرًا عما نُهي عنه.
وعطف قصة آدم على قوله: ﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ في النسيان، قال ابن عباس: "إنما سمي الإنسان إنسانًا؛ لأنه عُهد إليه، فنسي" (١).
...
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦)﴾ [طه: ١١٦].
[١١٦] ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ أن يسجد.
قرأ أبو جعفر: (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا) بضم التاء حالة الوصل إتباعًا، وروي عنه: إشمام كسرتها الضم، والوجهان صحيحان عنه (٢)، وتوجيه قراءته مستوفًى في سورة البقرة [الآية: ٣٤].
...
﴿فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧)﴾ [طه: ١١٧].
[١١٧] ﴿فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ حواء.
(١) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (٣/ ١٩)، والطبراني في "المعجم الصغير" (٩٢٥)، وأبو الشيخ في "العظمة" (٥/ ١٥٤٥)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٧/ ٣٧٥).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٠ - ٢١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٥).
﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ فتتعب في الدنيا بتحصيل ما يُحتاج إليه منها؛ كمأكل ومشرب وملبس، وخص آدم بالشقاء؛ لأن طلب المكاسب غالبًا يكون بالرجال.
...
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨)﴾ [طه: ١١٨].
[١١٨] ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾.
...
﴿وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩)﴾ [طه: ١١٩].
[١١٩] ﴿وَأَنَّكَ﴾ قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (وَإِنَّكَ) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بالفتح نسقًا على قوله: (أَلَّا تَجُوعَ) (١).
﴿لَا تَظْمَأُ﴾ تعطش ﴿فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾ تبرز للشمس؛ لأنه ليس في الجنة شمس، وأهلها في ظل ممدود.
...
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠)﴾ [طه: ١٢٠].
[١٢٠] ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾ فأنهى إليه وسوسة.
﴿قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ أي: من أكل منها لا يموت.
﴿وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ لا يفنى.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٦).
﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١)﴾ [طه: ١٢١].
[١٢١] ﴿فَأَكَلَا﴾ يعني: آدم وحواء ﴿مِنْهَا﴾ وسارعت إلى ذلك حواء، فلما رآها آدم قد أكلت، أكل، فطارت عنهما ثيابهما.
﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ أي: عوراتهما.
﴿وَطَفِقَا﴾ جعلا ﴿يَخْصِفَانِ﴾ يلصقان.
﴿عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ ويضمان شيئًا إلى شيء يستتران بالورق، وهو ورق التين.
﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ بأكل الشجرة ﴿فَغَوَى﴾ أي: ضلَّ عن المطلوب منه.
...
﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢)﴾ [طه: ١٢٢].
[١٢٢] ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة؛ من جبيت الشيء: قربته إلي، وجمعته بي.
﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ قبِلَ توبته ﴿وَهَدَى﴾ هداه إلى المداومة على التوبة.
...
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣)﴾ [طه: ١٢٣].
[١٢٣] ﴿قَالَ اهْبِطَا﴾ يا آدم وحواء ﴿مِنْهَا﴾ ثم أخبرهما أن إبليس والحية يهبطان معهما بقوله: ﴿جَمِيعًا بَعْضُكُمْ﴾ يا ذرية آدم وإبليس ﴿لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ إلى يوم القيامة، و (عدو) يوصف به الواحد والاثنان والجمع.
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ يا آدم وحواء، وجُمعا؛ لأنهما أصل البشر ﴿مِنِّي هُدًى﴾ دعاء شرعي، وقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ شرط، وجوابه في قوله:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ رسولي وكتابي. قرأ الدوري عن الكسائي: (هُدَايَ) بالإمالة (١).
﴿فَلَا يَضِلُّ﴾ في الدنيا ﴿وَلَا يَشْقَى﴾ في الآخرة.
...
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)﴾ [طه: ١٢٤].
[١٢٤] ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أي: القرآن، وكفر به.
﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ ضيقًا ونكدًا شاقًّا من العيش.
﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ البصر، وقيل: أعمى عن الحجة.
...
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥)﴾ [طه: ١٢٥].
[١٢٥] ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ بحجتي، أو بالعين، روي أنه يحشر من قبره بصيرًا، فإذا سيق إلى الموقف، عمي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (حَشَرْتنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
...
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٨).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٩).
﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)﴾ [طه: ١٢٦].
[١٢٦] ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ما ﴿أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ تركت العمل بها.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ومثل تركك آياتنا ﴿الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ أي: تترك في النار كالمنسي.
...
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧)﴾ [طه: ١٢٧].
[١٢٧] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ومثل جزائنا المعرضَ عن آياتنا.
﴿نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾ أشرك.
﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾ وهو حشره أعمى أبدًا.
﴿أَشَدُّ﴾ مما يعذب به في الدنيا والقبر.
﴿وَأَبْقَى﴾ أدومُ ضرًّا من ضيق العيش في الدنيا.
...
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)﴾ [طه: ١٢٨].
[١٢٨] ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ أي: يبين الله لهم. قرأ زيد عن يعقوب: (نَهْدِ) بالنون، والباقون: بالياء (١)، والمراد: كفار مكة.
(١) ذكرها القرطبي في "تفسيره" (١١/ ٢٦٠) من قراءة ابن عباس والسَّلمي.
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ أي: الأمم.
﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ ديارهم ومنازلهم إذا سافروا، والخطاب لقريش، كانوا يسافرون إلى الشام، فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ لذوي العقول.
...
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)﴾ [طه: ١٢٩].
[١٢٩] ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ﴾ أي: حكمة.
﴿سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بتأخير العذاب.
﴿لَكَانَ لِزَامًا﴾ أي: لازمًا لهم في الدنيا.
﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ مضروب، وهو يوم القيامة، معطوف على (كَلِمَةٌ) فيه تقديم وتأخير تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان لزامًا.
...
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)﴾ [طه: ١٣٠].
[١٣٠] ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ فيك، وهذا منسوخ بآية القتال ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي: صل ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي: وأنت حامد؛ بأن وُفِّقت للتسبيح.
﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ هي صلاة الفجر ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ وهي صلاة العصر.
﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ ساعاته جمع أَنِيّ؛ كنجِيِّ، وإنًا؛ كمِعًى ﴿فَسَبِّحْ﴾ والمراد: صلاة المغرب والعشاء ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ صلاة الظهر، سميت طرفًا؛ لأنها في آخر الطرف الأول من النهار، وأول الطرف الآخر منه، فهو في طرفين منه؛ أي: سبحه في جميع الأوقات.
﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (تُرضَى) بضم التاء مجهولًا؛ أي: يرضاك ربك، وقرأ الباقون: بفتحها؛ أي: ترضى بما تُعطى من الثواب يا محمد (١).
...
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)﴾ [طه: ١٣١].
[١٣١] ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ لا تنظر ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ﴾ أعطينا ﴿أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ أي: أصنافًا من الكفرة ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قراءة العامة: بجزم الهاء؛ أي: زينتها، وقرأ يعقوب: بفتح الهاء (٢)؛ أي: نور النبات.
﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ لنجعل فتنتهم فيما أعطيناهم.
﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾ ثوابه في الميعاد.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٥)، "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢١).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٤٨). و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢٢).
﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ مما رزقوا.
...
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢)﴾ [طه: ١٣٢].
[١٣٢] ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ﴾ أي: أهل بيتك ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ مع ائتمارك بها ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ أنت وهم ﴿عَلَيْهَا﴾ على الإتيان بها؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾ لا نكلفك رزق نفسك ولا غيرك.
﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ وإياهم.
﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ المحمودة ﴿لِلتَّقْوَى﴾.
روي أنه - ﷺ - كان إذا أصاب أهلَه ضرٌّ، أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية.
...
﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣)﴾ [طه: ١٣٣].
[١٣٣] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: المشركين.
﴿لَوْلَا﴾ أي: هَلَّا ﴿يَأْتِينَا﴾ محمد.
﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ كموسى وعيسى.
﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ﴾ قرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وابن جماز عن أبي جعفر: (تَأْتِهِمْ) بالتاء؛ لتأنيث البينة، وقرأ الباقون:
بالياء على التذكير (١)؛ لتقدم الفعل، ولأن البينة هي البيان، فرد إلى المعنى.
﴿بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ أي: ما في الكتب المتقدمة من أخبار الأمم التي أهلكت لما اقترحوا الآيات، فأتتهم، فلم يؤمنوا بها.
...
﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)﴾ [طه: ١٣٤].
[١٣٤] ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبل محمد.
﴿لَقَالُوا﴾ يوم القيامة.
﴿رَبَّنَا لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ يدعونا.
﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ﴾ بالقتل والسبي في الدنيا.
﴿وَنَخْزَى﴾ بالعقاب يوم القيامة.
...
﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)﴾ [طه: ١٣٥].
[١٣٥] ﴿قُلْ كُلٌّ﴾ منا ومنكم ﴿مُتَرَبِّصٌ﴾ منتظر، نحن نتربص بكم العذاب، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ فانتظروا.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٤٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢٣).
338
﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ وإذا جاء أمر الله، وقامت القيامة.
﴿مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾ الطريق المستقيم ﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾ من الضلالة، أي: ستعلمون من هذا (١)، والله سبحانه أعلم.
...
(١) "من هذا" زيادة من "ت".
339
Icon