تفسير سورة الأنبياء

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

هذا تنبيه من الله عزَّ وجلَّ على اقتراب الساعة ودنوها. وأن الناس في غفلة عنها، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها، روي عن النبي ﷺ ﴿ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ قال :« في الدنيا ». وقال تعالى :﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ]. وقال أبو العتاهية :
الناس في غفلاتهم... ورحا المنية تطحن
وروي عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله ﷺ، فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله ﷺ واداياً في العرب، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر : لا حاجة لي في قطعيتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا :﴿ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله، والخطابُ مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ ﴾ أي جديد إنزاله ﴿ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾، كما قال ابن عباس : مالكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرَّفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرأونه محضاً لم يُشَب. وقوله ﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ ﴾ أي قائلين فيما بينهم خفية ﴿ هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ يعنون رسول الله ﷺ يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم، ولهذا قال ﴿ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب ﴿ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض ﴾ : أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السماوات والأرض.
وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ السميع العليم ﴾ أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد، وقوله :﴿ بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه ﴾، هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحراً، وتارة يجعلونه شعراً، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٨ ]، وقوله :﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون ﴾ يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى، وقد قال الله :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية : ولهذا قال تعالى :﴿ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نبيها فآمنوا بها بل كانوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا، بل ﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ] هذا كله، وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله ﷺ، ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ ﴾ أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٩ ]. وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم لأنهم أنكروا ذلك فقالوا :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام ﴾ أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام، كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] : أي قد كانوا بشراً من البشر، يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً كما توهمه المشركون في قولهم :﴿ وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ٧ ]. وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾ أي في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ] وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزَّ وجلَّ تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله :﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد ﴾ أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين، صدقهم الله وعده وفعل ذلك، ولهذا قال ﴿ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ ﴾ أي أتباعهم من المؤمنين، ﴿ وَأَهْلَكْنَا المسرفين ﴾ : أي المكذبين بما جاءت به الرسل.
يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ قال ابن عباس : شرفكم، وقال مجاهد : حديثكم، وقال الحسن : دينكم ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ : أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ﴾ هذه صيغة تكثير، كما قال :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ]، وقال تعالى :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا... ﴾ [ الحج : ٤٥ ] الآية، وقوله :﴿ وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ أي أمة أخرى بعدهم، ﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ ﴾ أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم ﴿ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ أي يفرون هاربين، ﴿ لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ﴾ هذا تهكم بهم نزراً، أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة، قال قتادة : استهزاء بهم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ : أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم. ﴿ قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، ﴿ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ﴾ : أي ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هِجيَراهم حتى حصدناهم حصداً، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً.
يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق أي بالعدل والقسط، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، كما قال :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقوله تعالى :﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِين ﴾، قال مجاهد : يعني من عندنا، يقول : وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً. وقال الحسن وقتادة ﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً ﴾ اللهو : المرأة بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي ﴿ لاَّتَّخَذْنَاهُ ﴾ من الحور العين. وقال عكرمة والسدي : والمراد باللهو هاهنا الولد، وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى :﴿ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار ﴾ [ الزمر : ٤ ] فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة ﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الإسراء : ٤٣ ]، وقوله ﴿ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ قال قتادة والسدي : أي ما كنا فاعلين، وقال مجاهد : كل شيء في القرآن « إن » فهو إنكار. وقوله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل ﴾ أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال :﴿ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ أي ذاهب مضمحل، ﴿ وَلَكُمُ الويل ﴾ أي أيها القائلون لله ولد ﴿ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً، فقال :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾ يعني الملائكة ﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ : أي لا يستنكفون عنها كما قال :﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون ﴾ [ النساء : ١٧٣ ]، وقوله :﴿ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ أي لا يتبعون ولا يملون، ﴿ يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً مطيعون قصداً وعملاً، قادرون عليه كما قال تعالى :﴿ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ]. وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له : أرأيت قول الله تعالى للملائكة :﴿ يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال : من هذا الغلام؟ فقالوا : من بني عبد المطلب، قال : فقبّل رأسي ثم قال : يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال ﴿ أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ ﴾ أي يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات والأرض، فقال ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله ﴾ أي في السماوات والأرض ﴿ لَفَسَدَتَا ﴾، كقوله تعالى :﴿ مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ]، وقال هاهنا :﴿ فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي عما يقولون إن له ولداً أو شريكاً. وقوله :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه، وعدله ﴿ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ أي وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢-٩٣ ].
يقول تعالى :﴿ أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ ﴾ أي دليلكم عل ما تقولون، ﴿ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ يعني القرآن، ﴿ هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ﴾ يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، ناطق بأنه ﴿ لاَ إله إِلاَّ الله ﴾ [ الصافات : ٣٥ ] ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه؛ ولهذا قال :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾، كما قال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
يقول تعالى راداً على من زعم أن له ولداً من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب إن الملائكة بنات الله فقال :﴿ سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾ أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده، في منازل عالية ومقامات سامية. وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً، ﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية، ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾، وقوله ﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى ﴾، كقوله :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ] في آيات كثيرة في معنى ذلك ﴿ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ ﴾ أي من خوفه ورهبته ﴿ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ ﴾ أي ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله، ﴿ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين ﴾ أي كل من قال ذلك وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه كقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ [ الزخرف : ٨١ ].
يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا ﴾ أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هوالمستقل بالخلق المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السماوات والأرض ﴿ كَانَتَا رَتْقاً ﴾ أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق، متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه فجعل السماوات والأرض سبعاً، وفصل بين السماء والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً. وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
عن عكرمة قال، سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار؟ فقال : أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلاّ ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عمر : أن رجلاً أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؟ قال : اذهب إلى ذلك الشيخ، فاسأله، ثم تعالى فأخبرني بما قال لك، قال، فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس : نعم، كانت السماوات رتقاً لا تمطر وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر، قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتي في القرآن علماً، وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقاً تمطر فأمطرت وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت، وقال سعيد بن جبير : كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال الحسن وقتادة : كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء، وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ أي أصل كل الأحياء. عن أبي هريرة قال، قلت : يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال :« كل شيء خلق من ماء » قال، قلت : أنبئني عن أمرٍ إذا علمت به دخلت الجنة؟ قال : أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام «.
وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً أرسى الأرض بها وثقلها لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها، لأنها غامرة في الماء إلاّ مقدار الربع، فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء، وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات، ولهذا قال ﴿ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾ : وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ﴾ أي ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً، من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا، ولهذا قال :﴿ لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾، وقوله ﴿ وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ أي على الأرض وهي كالقبة عليها، كما قال :
1633
﴿ والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ]، وقال :﴿ أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ [ ق : ٦ ]، والبناء هو نصب القبة كما قال رسول الله ﷺ :« بني الإسلام على خمس » أي خمسة دعائم وهذا لا يكون إلاّ في الخيام كما تعهده العرب، ﴿ مَّحْفُوظاً ﴾ أي عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد : مرفوعاً، وقوله :﴿ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ كقوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ] أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها، من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليله، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثم قال منبهاً على بعض آياته ﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار ﴾ أي هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر، ﴿ والشمس والقمر ﴾ هذه لها نو يخصها وحركة وسير خاص. وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر، ﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ أي يدورون. قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلاّ بالفلكة ولا الفلكة إلاّ بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلاّ به ولا يدور إلاّ بهن، كما قال تعالى :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ].
1634
يقول تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ أي يا محمد ﴿ الخلد ﴾ أي في الدنيا بل ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمن : ٢٦-٢٧ ]، وقوله :﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ ﴾ أي يا محمد ﴿ فَهُمُ الخالدون ﴾ ؟ أي يؤملون أن يعيشوا بعدك! لا يكون هذا بل كلُّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ﴾ وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين :
تمنى رجال أن أموت وإن أمُتْ فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأْ لأخرى مثلها فكأن قد
وقوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى. فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابن عباس : ونبلوكم يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء. والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، وقوله :﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ أي فنجازيكم بأعمالكم.
يقول تعالى لنبيّه صلوات الله وسلامه عليه :﴿ وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا ﴾ يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾ أي يستهزئون بك وينتقصونك، يقولون ﴿ أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ ؟ يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم، قال تعالى :﴿ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ [ الفرقان : ٤١ ] ؟ وقوله :﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ كقوله :﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ أي في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا، أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك، فقال الله تعالى ﴿ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ ﴾ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر، ولهذا قال :﴿ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي ﴾ أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ﴾.
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم، تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً فقال :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؟ قال الله تعالى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ﴾ أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا. ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ﴾ [ الزمر : ١٦ ]، وقال في هذه الآية، ﴿ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ﴾، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ أي لا ناصر لهم، كما قال :﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، وقوله :﴿ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً ﴾ أي تأتيهم النار بغتة أي فجأة، ﴿ فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ أي تذعرهم فيستسلمون لها، حائرين لا يدرون ما يصنعون ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ﴾ أي ليس لهم حيلة في ذلك، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
يقول تعالى مسلياً لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب ﴿ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ] ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام، فقال :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن ﴾ أي بدل الرحمن يعني غيره، وقوله تعالى :﴿ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه، ثم قال :﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا ﴾ استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الامر كما توهموا، لا، ولا كما زعموا، ولهذا قال :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم، وقوله :﴿ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ قال ابن عباس : أي يجارون. وقال قتادة : لا يصحبون من الله بخير، وقال غيره ﴿ يُصْحَبُونَ ﴾ يُمنعون.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال : أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعّموا. وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء؛ ثم قال واعظاً لهم :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ ﴾ اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفناه في سورة الرعد، وأحسن ما فسر بقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٧ ]، وقال الحسن البصري يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر. والمعنى : أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه؟ وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين؟ ولهذا قال :﴿ أَفَهُمُ الغالبون ﴾ يعني بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي ﴾ أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلاّ عما أوحاه الله إليَّ ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه، ولهذا قال :﴿ وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾، أي ولئن مسَّ هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله، ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا، وقوله :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال المرزونة فيه، وقوله :﴿ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، وقال :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، وقال لقمان :﴿ يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [ لقمان : ١٦ ].
وقال رسول الله ﷺ :« كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم »، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله عزَّ وجلَّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال : لا يا رب، قال : أفلك عذر أو حسنة؟ قال : فبهت الرجل، فيقول : يا رب، فيقول : بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول : أحضروه، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول : إنك لا تظلم، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم »
1639
، وقال الإمام أحمد، عن عائشة، « أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه فقال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله ﷺ :» يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك «، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ﷺ :» ما له لا يقرأ كتاب الله ﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيدة - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم «.
1640
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان ﴾، قال مجاهد : يعني الكتاب، وقال قتادة : التوراة حلالها وحرامها وما فرق الله بين الحق والباطل، وقال ابن زيد : يعني النصر، وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام وعلى ما يحصل نوراً في القلوب، وهداية وخوفاً، وإنابة وخشية، ولهذا قال :﴿ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ ﴾ أي تذكيراً لهم وعظة، ثم وصفهم فقال :﴿ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب ﴾، كقوله :﴿ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ [ ق : ٣٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الملك : ١٢ ]، ﴿ وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ ﴾ أي خائفون وجلون، ثم قال تعالى :﴿ وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ﴾ يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴿ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه كما قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ]، والمقصود أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل أي من قبل ذلك، وقوله :﴿ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ أي وكان أهلاً لذلك، ثم قال :﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عزّ وجلّ، فقال :﴿ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ : أي معتكفون على عبادتها، قال ابن أبي حاتم : مرَّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها، ﴿ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال :﴿ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم ﴿ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين ﴾ ؟ يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أو محقاً فيه فإنها لم نسمع به قبلك. ﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ ﴾ أي ربكم الذي لا إله غيره وهو الذي خلق السماوات والأرض وما حوت من المخلوقات، الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء ﴿ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين ﴾ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم، أي ليحرضن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين أي إلى عيدهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه، قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا، فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم، فجعلوا يمرون عليه لأعجبك ديننا، فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم، فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون : مه، فيقول : إني سقيم، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم، قال :﴿ تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾، فسمعه أولئك. وقال إني إسحاق، عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم وقد كان بالأمس قال :﴿ وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ﴾ فسمعه ناس منهم، وقوله :﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ﴾ أي حطاماً كسرها كلها ﴿ إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ﴾ يعني إلا الصنم الكبير عندهم، كما قال :﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين ﴾ [ الصافات : ٩٣ ]، وقوله :﴿ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها. ﴿ قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين ﴾ ؟ أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم، من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها، وعلى سخافة عقول عابديها، ﴿ قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين ﴾ أي في صنيعه هذا، ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم ﴿ سَمِعْنَا فَتًى ﴾ أي شاباً يذكرهم يقال له إبراهيم. عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية :﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾. وقوله :﴿ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس ﴾ أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس وقلة عقلهم، في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضراً ولا تملك لها نصراً، فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟ ﴿ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ﴾ يعني الذي تركه لم يكسره، ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ ﴾، وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.
وفي « الصحيحين »، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال :« إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله، قوله :﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ﴾، وقوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [ الصافات : ٨٩ ]. قال : وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه ( سارة ) إذ نزل منزلاً. فأتى الجبار رجل فقال : إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاءه، فقال : ما هذه المرأة منك؟ قال : أختي، قال : فاذهب فارسل بها إليّ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأُخِذَ أخذاً شديداً، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فأهوى إليها فتناولها، فأخذ بمثلها أو أشد، ففعل ذلك ثانية، فأخذ، فذكر مثل المرتين الأوليين، فقال : ادعي الله فلا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته وقال : مَهيم، قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر فأخدمني هاجر »
1643
، قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : تلك أمكم يا بني ماء السماء.
1644
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال :﴿ فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ ﴾ أي بالملامة، فقالوا ﴿ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون ﴾، أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها، ﴿ ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ ﴾ أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ ﴾، قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ ﴾، وقال السدي ﴿ ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ ﴾ : أي في الفتنة، وقول قتادة أظهر في المعنى لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزاً، ولهذا قالوا له ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ ﴾ فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون وأنت تعلم أنها لا تنطق، فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ ﴾ ؟ أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فلم تعبدونها من دون الله؟ ﴿ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟! أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر؟ فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها، ولهذا قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] الآية.
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم فقالوا :﴿ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ فجمعوا حطباً كثيراً جداً، قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم، ثم جعلوه في جَوَبة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد، فلما ألقوه قال : حسبي الله ونعم الوكيل، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا :﴿ إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ]، وروى الحافظ أبو يعلى، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال : اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك »، ويروى لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك؛ وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا، وأما من الله فلي. ويروى عن ابن عباس قال : لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله، قال : فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله :﴿ يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ ﴾ قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت، وقال كعب الأحبار : لم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه، وقال ابن عباس : لولا أن الله عزّ وجلّ قال ﴿ وسلاما ﴾ لآذى إبراهيم بردها، وقال أبو هريرة : إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة : لم يأت يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوَزَغ. وقال الزهري : أمر النبي ﷺ بقتله وسماه فويسقا، وعن عائشة أن رسول الله ﷺ قال :« إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم »، فأمرنا رسول الله ﷺ بقتله. وقوله :﴿ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين ﴾، أي المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً، فكادهم الله ونجاه ن النار فغلبوا هنالك، وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه فأحرقته مثل الصوفة.
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم، أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم، مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها، عن أبي بن كعب قال : هي الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة، وقال قتادة : كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض يزيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين، وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام وبها يهلك المسيح الدجال، وقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ النافلة : ولد الولد يعني أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ]، وقال عبد الرحمن بن أسلم : سأل واحداً فقال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين ﴾ [ الصافات : ١٠٠ ] فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة، ﴿ وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾ أي الجميع أهل خير وصلاح، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ﴾ أي يقتدى بهم ﴿ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ﴾ أي يدعون إلى الله بإذنه، ولهذا قال :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة ﴾ من باب عطف الخاص على العام، ﴿ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ ﴾ : أي فاعلين لما يأمرون الناس به، وكان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه، كما قال تعالى :﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم ﴾ [ العنكبوت : ٢٦ ] فآتاه الله حكماً وعلماً وأوحى إليه وجعله نبياً وبعه إلى ( سدوم ) وأعمالها فخالفون وكذبوه، فأهلكهم الله ودمر عليهم كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز، ولهذا قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصالحين ﴾.
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه. ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ]، وقال نوح :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي الذين آمنوا به، كما قال :﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [ هود : ٤٠ ]، وقوله :﴿ مِنَ الكرب العظيم ﴾ أي من الشدة والتكذيب والأذى فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل على خلافه، وقوله :﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم ﴾ أي ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم ﴿ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، أي أهلكهم الله بعامة، ولم يبق على وجه الأرض نهم أحد كما دعا عليهم نبيهم.
قال ابن عباس : النفش الرعي، وقال قتادة : النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابن مسعود في قوله :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم ﴾ قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم. فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله، قال : وما ذاك؟ قال : تدفع الكلم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صحابها، فذلك قوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ وروى ابن أبي حاتم، عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود فأعطاهم رقابها، فقال سليمان : لا، بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطي أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم وكرمهم.
وقوله تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ قال ابن أبي حاتم : إن ( إياس بن معاوية ) لما استقضي أتاه الحسن فبكى، فقال : ما يبكيك؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة، فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود، ثم قال الحسن : إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً : لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحداً ثم تلا :﴿ ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]، وقال :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ [ المائدة : ٤٤ ]. وفي « صحيح البخاري » عن عمرو بن العاص أنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر »، وفي « السنن » : القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :
1649
« بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال : هاتوا السكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى ».
وقوله تعالى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير ﴾ الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان ذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويباً، ولهذا لما مرّ النبي ﷺ على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جداً، فوقف واستمع لقراءته، وقال :« لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود »، قال : يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتًه لك تحبيراً، وقوله :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ يعني صنعة الدروع، قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد * أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ [ سبأ : ١٠-١١ ] أي لا توسع الحلقة فتفلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال :﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ يعني في القتال، ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم، وقوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً ﴾ أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة ﴿ تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ يعني أرض الشام ﴿ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾، وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمل وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزلوتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ ص : ٣٦ ]، عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ألف كرسي فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحملهم ﷺ. وقوله :﴿ وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ ﴾ أي في الماء يستخرجون اللآلئ، والجواهر وغير ذلك، ﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك ﴾ أي غير ذلك كما قال تعالى :﴿ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ [ ص : ٣٧-٣٨ ]، وقوله :﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت فهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال :﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ [ ص : ٣٨ ].
1650
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء من ماله وولده وجسده؛ وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره. وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل، حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السلام : ما أدري ما تقول غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق. قال ابن عباس : ورد عليه ماله عياناً ومثلهم معهم، وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه قال : فقيل له : يا أيوب أما تشبع؟ قال : يا رب ومن يشبع من رحمتك » وقوله :﴿ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾ قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا علهي بأعينهم، وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته ( رحمة ) ويقال ( ليا ) نبت يعقوب عليه السلام، وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم، قال : لا بل أتركهم في الجنة، فتركوا له في الجنة، وعوض مثلهم في الدنيا، وقوله :﴿ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به ﴿ وذكرى لِلْعَابِدِينَ ﴾ أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله، وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذا إدريس عليه السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال آخرون : إنما كان رجلاً صالحاً وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً؛ وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم. قال مجاهد في قوله :﴿ وَذَا الكفل ﴾ قال : رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي ذا الكفل. وقال ابن أبي حاتم، عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان - يعني في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل.
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي الصافات وفي سورة ن، وذلك أن ( يونس بن متى ) عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، ثم تضرعوا إلى الله تعالى، وجأروا إليه فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ].
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة، فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا فوقعت عليه أيضاً، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين ﴾ [ الصافات : ١٤١ ]، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه حوتاً يشق البحار، حتى جاء فالتقم ( يونس ) حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً، وإنما بطنك تكون له سجناً، وقوله :﴿ وَذَا النون ﴾ يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة، وقوله :﴿ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً ﴾ قال الضحّاك : لقومه ﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ أي نضيّق عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي : أي نقضي عليه، فإن العرب تقول : قدر وقدّر بمعىن واحد. ومنه قوله تعالى :﴿ فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [ القمر : ١٢ ] : أي قدّر، وقوله :﴿ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ ﴾ قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك قال :﴿ لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾، وقيل : مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله :﴿ فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم ﴾ أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات ﴿ وكذلك نُنجِي المؤمنين ﴾ أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا. قال ﷺ :« دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت » :﴿ لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء إلى استجاب له « وفي الحديث :» من دعا يونس استجيب له «، قال أبو سعيد يريد به ﴿ وكذلك نُنجِي المؤمنين ﴾. وعن سعيد بن أبي وقاص. وقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» اسم الله الذي دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى « قال : قلت يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال :» هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله تعالى :﴿ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين * فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين ﴾، فهو شرط من الله لمن دعاه به «
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً، ﴿ إِذْ نادى رَبَّهُ ﴾ أي خفية عن قومه ﴿ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً ﴾ أي ولا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين ﴾ دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال الله تعالى :﴿ فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ أي امرأته، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت عاقراً لا تلد فولدت. وقال عطاء : كان في لسانها طول، فأصلحها الله، وفي رواية : كان في خلقها شيء فأصلحها الله، والأظهر من السياق؛ الأول، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات ﴾ : أي في عمل القربات وفعل الطاعات ﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾ قال الثوري : رغباً فيما عندنا، ورهباً مما عندنا ﴿ وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ﴾، قال ابن عباس : أي مصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد : مؤمنين حقاً، وقال أبو العالية : خائفين، وقال الحسن وقتادة والضحّاك ﴿ خاشِعِينَ ﴾ : أي متذللين لله عزّ وجلّ، وكل هذه الأقوال متقاربة. وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عزّ وجلّ أثنى على زكريا وأهل بيته فقال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ﴾.
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، فيذكر أولاً قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم، لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم، وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، قال تعالى :﴿ والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَ ﴾ يعني مريم عليها السلام، كما قال في سورة التحريم :﴿ وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ [ الآية : ١٢ ]، وقوله :﴿ جَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي دلالة على أن الله على كل شيء قديرِ، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا كقوله ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ [ مريم : ٢١ ] قال ابن عباس في قوله :﴿ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ قال : العالمين الجن والإنس.
قال ابن عباس ﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ يقول : دينكم دين واحد، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقال رسول الله ﷺ :« نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد »، يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ [ المائدة : ٤٨ ]، وقوله :﴿ وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال :﴿ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ أي يوم القيامة فيجازى كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ أي قلبه مصدق وعمل عملاً صالحاً ﴿ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾، كقوله :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٣٠ ] أي لا يكفر سعيه وهو عمله، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال :﴿ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾ أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.
يقول تعالى :﴿ وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ ﴾ قال ابن عباس : وجب، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وفي رواية عن ابن عباس أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، والقول الأول أظهر والله أعلم، وقوله :﴿ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ﴾ قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد ( يافث ) أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، ﴿ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ أي يسرعون في المشي إلى الفساد، والحدب هو المرتفع من الأرض. وهذه صفتهم في حال خروجهم، كأن السامع الشاهد لذلك ﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٤ ] هذا إخبار الذي يعلم غيب السماوات والأرض لا إله إلا هو، وقال ابن جرير : رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد. عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله ﷺ يقولك « تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كما قال الله عزّ وجلّ :﴿ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان هاهنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء، قال : ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك بعث الله عزّ وجلّ دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه. فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو، قال : فينحدر رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل، فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي : يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزّ وجلّ قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط ».
وفي حديث الدجال :« فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم، فحرر عبادي إلى الطور فيبعث الله عزّ وجلّ يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى :﴿ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزّ وجلّ، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه، فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزّ وجلّ، فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البُخْت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله »
1657
، قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال : فتطرحهم بالمهيل. قال ابن جابر، فقلت : يا أبا يزيد وأين المهيل؟ قال : مطلع الشمس، قال :« ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بركتك، قال : فيومئذٍ يأكل النفر من الرمانة، فيستظلون بقحفها ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت، قال : فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عزّ وجلّ ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة ».
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق، وعن أبي سعيد قال، قال رسول الله ﷺ :« ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج » وقوله :﴿ واقترب الوعد الحق ﴾ يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت، قال الكافرون : هذا يوم عسر، ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام، ﴿ ياويلنا ﴾ أي يقولون يا ويلنا ﴿ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا ﴾ أي في الدنيا ﴿ بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
1658
يقول تعالى : مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ قال ابن عباس : أي وقودها، يعني كقوله :﴿ وَقُودُهَا الناس والحجارة ﴾ [ البقرة : ٢٤ ]. وفي رواية قال :﴿ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ يعني حطب جهنم. وقال الضحّاك ﴿ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ : أي ما يرمى به فيها، والجميع قريب، وقوله :﴿ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ : أي داخلون، ﴿ لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ﴾ يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها، ﴿ وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ : أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون، ﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ﴾ كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى ﴾، والزفير : خروج أنفاسهم، والشهيق ولوج أنفاسهم ﴿ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ﴾، قال ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد الله :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ﴾، وقوله :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى ﴾ قال عكرمة : الرحمة، وقال غيره : السعادة ﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾. لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا كما قال تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ]، وقال :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ]، فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب، فقال :﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ﴾ أي حريقها في الأجساد، عن أبي عثمان ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ﴾ قال : حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال حس حس، وقوله :﴿ وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن عباس :﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق، ويبقى الكفّار فيها جثياً، فهذا مطابق لما ذكرناه. وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين، وخرج منهم عزير والمسيح كما قال ابن عباس ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾، ثم استثنى، فقال :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى ﴾ فيقال : هم الملائكة وعيسى نحو ذلك مما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى ﴾ قال : نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد ﴿ أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ قال : عيسى وعزير والملائكة، وقال الضحّاك : عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها، ولهذا قال :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده؟ وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن ( ما ) لما لا يعقل عند العرب.
1659
وقوله :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾ قيل : المراد بذلك الموت، قاله عطاء : وقيل : المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير في تفسيره. وقيل : حين يؤمر بالعبد إلى النار، قاله الحسن البصري؛ وقيل : حين تطبق النار على أهلها، قاله سعيد بن جبير وابن جريج، وقوله :﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خجروا من قبورهم ﴿ هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ أي فأملوا ما يسركم.
1660
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] عن ابن عمر، عن رسول الله ﷺ قال :« إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه » وعن ابن عباس قال : يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة. وقوله :﴿ كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ ﴾ قيل : المراد بالسجل الكتاب، وقيل : المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة؛ فعلى هذا يكون معنى الكلام؛ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، أي على الكتاب بمعنى المكتوب كقوله :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [ الصافات : ١٠٣ ] أي على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم. وقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك، ولهذا قال :﴿ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾. عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال :« إنكم محشورين إلى الله عزّ وجلّ حفاة عراة غرلاً، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين »، وذكر تمام الحديث، قال ابن عباس في قوله ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ قال : يهلك كل شيء كما كان أول مرة.
يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ] وقال :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ]، وقال :﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ ﴾ [ النور : ٥٥ ]، وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر ﴾. قال مجاهد : الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن :﴿ الزبور ﴾ الذي أنزل على داود و ﴿ الذكر ﴾ التوراة، وعن ابن عباس : الذكر والقرآن. وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء، وقال مجاهد : الزبور الكتب، والذكر أم الكتاب عند الله، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله، وكذا قال زيد بن أسلم هو الكتاب الأول، وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد ﷺ الأرض، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال ابن عباس ﴿ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون ﴾ قال : أرض الجنة، وقال أبو الدرداء : نحن الصالحون، وقال السدي : هم المؤمنون. وقوله ﴿ إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد ﷺ ﴿ لَبَلاَغاً ﴾ لمنفعة وكفاية ﴿ لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ وهم الذين عبدوا الله فيما شرعه وأحبه ورضيه وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ﷺ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، من ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار ﴾ [ إبراهيم : ٢٨-٢٩ ].
وقال تعالى في صفة القرآن :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]. وقال مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين، قال :« إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة »، وفي الحديث الآخر :« إنما أنا رحمة مهداة »، وفي الحديث الذي رواه الطبراني :« إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء : أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب ».
1662
وفي الحديث رواه الإمام أحمد :« إيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة »، فإن قيل : فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ قال : ومن آمن بالله واليوم الآخر يكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
1663
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين ﴿ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ ؟ أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تركوا ما دعوتهم إليه ﴿ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ ﴾ أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم براء مني، كقوله :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقال :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ]، أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء وهكذا هاهنا ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ ﴾ أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك، وقوله :﴿ وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾ أي إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في إجهارهم وإسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله :﴿ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ﴾ أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى. ﴿ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ﴾ أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق، قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون :﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ]، وأمر رسول الله ﷺ أن يقول ذلك. وعن مالك، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله ﷺ إذا شهد غزاة قال :﴿ قَالَ رَبِّ احكم بالحق ﴾، وقوله :﴿ وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾ أي على ما يقولون ويتفرون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك.
Icon