تفسير سورة الأنبياء

جهود القرافي في التفسير
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب جهود القرافي في التفسير .
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

٨٤٩- أي : " لا تأتيهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم "، فقد قصد إلى حالة اللهو والإعراض بالإثبات، ولغيرها من الأحوال بالنفي. ( الفروق : ٣/٦٨. والعقد المنظوم : ٢/٣٠٠ ).
٨٥٠- تقديره : ما يأتيهم إلا هذه الحالة متعينة له منهم من جميع الحالات.
وقوله تعالى :﴿ إلا استمعوه ﴾ يتعين أن يكون المراد به الفعل المضارع حتى يكون حالا بنفسه. والفعل الماضي لا يكون حالا إلا مع " قد " وليس في الآية، ولأنه مرتب المضارع الذي قبله، والمرتب على المضارع الأولى أن يكون مضارعا، فيكون التقدير :" إلا هو يستمعونه وهم يلعبون " فيكون " استمعوه " خبر مبتدأ مضمر والجملة في موضع نصب على الحال، أو يكون المضارع وحده هو الحال في ذلك. ( الاستغناء : ٥٥٠ ).
٨٥١- يجوز النصب في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ إذ لاحظنا معنى النفي، لأن " لو " معناها الامتناع، والامتناع نفي، فإن معنى قولك : " لو جاءني زيد لأكرمته " أن الإكرام منفي لانتفاء المجيء. ( نفسه : ٢٩٠ ).
٨٥٢- ﴿ إلا الله ﴾ أي : غير الله. ( الذخيرة : ٤/٣١ ).
٨٥٣- لا يمكن أن تكون " إلا الله " بدلا كما في قولك : " ما فيهما إلا الله " لأن " لو " وجوابها بمنزلة الموجب، والبدل لا يكون في الموجب، وإنما كانت بمنزلة الموجب لأنها شرط فيما مضى، كما " إن " شرط فيما يستقبل ؛ وهم لا يقولون : " إن قام أحد إلا زيد فعاقبه " فكذلك هاهنا. وأيضا لو جعلته بدلا لوجب أن يحل محل الأول، ولو حل محله لفسد المعنى، لأنه كان يكون الكلام : " لو كان فيهما الله لفسدتا " تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال الرماني في شرح سيبويه " : " ولا يجوز في الآية البدل، لأن الذي قبله موجب، ولكن يصلح في مثل الاستثناء بالنصب كالاستثناء من موجب، وذلك على قياس " سار القوم إلا زيد " معناه : سار القوم غير زيد " ويجوز : " إلا زيدا " على الاستثناء، ويمتنع البدل. ( الاستغناء : ٢٤٨- ٢٤٩ ).
٨٥٤- السؤال الأول : على من يجوز النصب فيها من النحاة كما سبق نقله، وذلك أن النصب إنما يجوز على الاستثناء عن الإخراج، وهو قضاء في الإيجاب على ما بعد " إلا " يسلب الحكم السابق على المشهور من مذاهب العلماء أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي ثبوت، فيصير معنى الكلام : " لو كان فيهما آلهة ليس الله تعالى معهم موجودا فيهما لفسدتا " فيقتضي الكلام بطريق اللزوم أن الله تعالى لو كان مع الآلهة لم يحصل الفساد، وهو مقصود المشركين، فإنهم لم يقولوا : " الله تعالى ليس مع الآلهة، بل الجميع موجود "، فيفسد معنى الاحتجاج على المشركين. بخلاف إذا قلنا : إن معناها الصفة، ورفعنا، فيصير معنى الكلام : " لو كان فيهما آلهة غير الله تعالى لفسدتا ". وليس في هذا ما يقتضي القضاء بالسلب في جهة الله تعالى، لأنك إذا قلت : لو كان في الدار رجل غير زيد لسرقت.
الظاهر في عرف الاستعمال أن زيدا في الدار، وإن كانت اللغة تقتضي أن زيدا لم تتعرض له بالنفي ولا الثبوت وقد تقدم تقرير هذا في قولنا : جاءني غير زيد، هل زيد جاء أم لا ؟ وكلام سيبويه فيه، فظهر الفرق وأن الفساد يلزم النصب دون الرفع وأن الرفع متعين.
فإن قلت : الله تعالى لا يوصف بكونه في السماوات ولا في الأرض، لأن ذلك من خصائص الأجسام، فالواقع حينئذ أن الله تعالى فيهما على كل تقدير بضرورة العقل. فما يكون جوابا عن هذا السؤال هو الجواب عن النفي اللازم من الاستثناء والنصب.
قلت : المراد " فيهما " هاهنا ليس التحيز والإحاطة حتى يلزم السؤال، بل " فيهما " بالاعتبار والتعظيم واستحقاق العبادة، فالكون بهذه الصفات هو المراد ولا الكون بالتحيز والتجسيم. وإذا كان هذا الكون المجازي هو المراد، فهو كما في قوله تعالى :﴿ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ﴾١. فاستثنى الله تعالى نفسه ممن في السماوات والأرض بصيغة بمعنى المجاز، لا بمعنى الحقيقة اللغوية، فكذلك هاهنا، فإذا كانت هذه الفيئية هي المراد لا فيئية التحيز فالاستثناء بعدها يقتضي سلبها، لأن الاستثناء من الثبوت نفي، كذلك الثبوت كيف مجازا أو حقيقيا، فيلزم السؤال، وما لزمنا النفي اللازم من جهة العقل باعتبار التحيز، فإنه لم يبن الكلام على ثبوته حتى يلزم السؤال.
السؤال الثاني : أن الآية وردت بصيغة الجمع لقوله تعالى :﴿ آلهة ﴾ ومقصود هذا الدليل إنما هو نفي ما عدا الله تعالى عن اعتبار الأهمية فيه ولا يلزم من نفي الجمع نفي التثنية، فضلا عن الواحد. فلو كانت الآية بصيغة الإفراد لزم من نفيه الوحدانية، وأما ما عدا الواحد إذا انتفى لا تلزم الوحدانية وقد ورد هذا النفي بصيغة الإفراد في قوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر ﴾٢. بصيغة الإفراد، وهو كثير في القرآن، وكذلك الولد لم يأت قط إلا بصيغة الإفراد كقوله :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ﴾٣ وفي الآية الأخرى :﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾٤.
ولم يأت جمع قط، فلا جرم لزم من نفي الواحد نفي مطلق الولد، بخلاف لو نفي الولد بصيغة الجمع والتثنية لم يلزم من نفي المجموع نفي جزئه، ولا من نفي الجماعة نفي المفرد وهذا سؤال قوي.
السؤال الثالث : لِم ورد الكلام في نفي الآلهة بصيغة الجمع ولم يرد في نفي الولد بصيغة الجمع ؟ فهل بينهما فرق أو ذلك كله صحيح والخيرة في ذلك كله للمتكلم ؟.
السؤال الرابع : أن في هذه الآية مفهومها أن الشريك يستحيل على الله تعالى، ثم بين ذلك بأنه لو كان موجودا فسد العالم، والدليل هو ملازمة، ملزومها الشريك، ولازمها فساد السماوات والأرض، ولزم من نفي اللازم الذي هو الفساد نفي الملزوم الذي هو الشريك، فهذا وجه الحجة من الآية. لكن السماوات والأرض أمور ممكنة، وكل ممكن فهو قابل للفساد والبقاء بالضرورة، وإلا كان واجب الوجود لا ممكن الوجود، فنفي هذا اللازم حينئذ ممكن، وعدم نفيه ممكن.
وإذا كان اللازم جائز الثبوت وجائز الانتفاء كان الملزوم أيضا كذلك إذا كان موجب نفيه نفي لازمه، فليزم أن يكون الشريك ممكن الوجود، والمقصود أنه مستحيل لوجود فكيف تتحصل استحالة الوجود من دلالة الآية ونظمها ؟
وهذا السؤال يتجه في كل كلام قصد به استحالة أمر، وثبتت تلك الاستحالة بنفي شرط ممكن أو على تقدير ممكن، فإن ذلك التقدير أو ذلك الشرط لما كان ممكنا انتفاء ذلك الذي قصد نفيه على ذلك التقدير أو انتفاء الشرط ممكنا، وما نفيه ممكن لا يكون مستحيل بل ممكنا.
ومن إثبات الاستحالة على تقدير ممكن قول جماعة من المتكلمين في برهان الوحدانية : لو فرض إلهان فأراد أحدهما سكون زيد أو أراد الآخر تحريكه، فأما أم ينفد مرادهما أو لا ينفد مرادهما أو أحدهما دون الآخر. والقسمان الأولان باطلان، تعين الثالث، فالذي ينفذ مراده هو الله تعالى، والذي لا ينفد مراده عاجز لا يصلح للإلهية، فتعينت الوحدانية، فيثبتون الاستحالة على تقدير تعلق الإرادة بما يمكن أن تتعلق ويمكن ألا تتعلق به.
فإن الإرادة القديمة لا يتعين لها أن تتعلق بسكون ولا حركة، بل هي في ذاتها قابلة للأمرين. فحينئذ هذا التقدير ممكن والمنفي على تقدير ممكن لا يتعين نفيه، بل يجوز أن لا ينتفي، فما تعينت الاستحالة التي هي المقصود، بل لا ينبغي أن تنبني الاستحالة على تقدير متعين حتى تكون تلك الاستحالة أو ذلك النفي متعينا وهذا من الأسئلة الجليلة أيضا الدقيقة الخفية على كثير ممن يشتغل بالعلم، وسيأتي الجواب عن الجميع إن شاء الله تعالى.
السؤال الخامس : هذه الآية إنما دلالتها بسبب تضمنها لبرهان التمانع، فإن الفساد إنما يلزم من الشريك على تقدير التمانع وإلا فلا فساد حينئذ، لكن التمانع إنما يحصل بين إلهين تامين كل واحد منهما له مثل للآخر من صفات التأثير، والعلم التام، والقدرة التامة، والإرادة الشاملة، وجميع ما يتعلق بكمال الإلهية في التأثير.
أما ناقص تبع لم يلزم منه فساد ولا تمانع، لأن الكامل حينئذ هو المتصرف الخالق البارئ الفعال لما يريد، والآخر بعيد عن ذلك ؛ فلا يلزم تمانع ولا فساد.
وإذا تقرر هذا، فالعرب لم تدع في الأصنام الكمال ولا الخلق ولا الإيجاد، بل قالوا : " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى "، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم يعترفون باستقلال الله تعالى بقوله تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾٥. وفي الآية الأخرى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾٦.
وما علمنا أن أحدا ادعى إلها مع الله مثل الله تعالى من كل وجه، بل ناقصا على ما تقدم، فكيف تقوم الحجة على هذا التقدير على هؤلاء بهذه الآية، إنما هي حجة على غيرهم إن وجدوا، لكن المقصود المهم من هذه الآية إنما هو العرب ولم يكن ذلك معتقدهم.
وهذا أيضا سؤال مشكل، وكان الشيخ الإمام حبر الإسلام عز الدين بن عبد السلام يستشكله، ولم أكن أعلم عنده جوابا عنه حتى فتح الله تعالى بعد ذلك من فضله وكرمه.
السؤال السادس : قوله تعالى : " فيهما " يقتضي مفهومه أن الإله الثاني لو كان في غرهما أو أحدهما لم يحصل الفساد، وليس كذلك، بل الفساد يحصل مطلقا.
الإجابة عن السؤال الأول : الجواب عن السؤال الأول الاعتراف بصحته من حيث المعنى وإنما شبهه من أجاز النصب أنه لاحظ أن اللفظ إيجاب من حيث الجملة، فإن ' " لولا " تقتضي نفيا، بل ربطا بين جملتين، وذلك أن الربط إيجاب، وكل إيجاب من حيث الجملة يحسن فيه النصب على الاستثناء، هذا إطلاق النحاة، واعتمد عليه هذا القائل ولم يلاحظ خصوص هذه المادة، فإن المنع من النصب إن جاء من خصوصها، لا من جهة أنه إيجاب ولا استثناء بل من جهة ما جهة ما يتعلق بخصوص الربوبية الذي لا يشبهه خصوص، فمن هو مع قواعد النحو من حيث هو نحو، ولم يعرج على غيره فدخل عليه الداخل. ومن لاحظ خصوص هذه المادة مع كل المنع، فالمنع والجواز بجبهتين واعتبارين.
الإجابة عن السؤال الثاني : والجواب عن الثاني : أن روح السؤال أنه مبني على أن الكلام نفي وليس كذلك، بل الكلام ثبوت صرف، ولزوم وربط بين الآلهة والفساد، ولكن الإثبات يلزمه النفي في ضد المثبت ونقيضه بالضرورة، كما أن الكلام يكون نفيا فيلزمه الثبوت، وهكذا كل قضية. والعمدة في أحكام الاستثناء وغيره إنما هي ما يدل اللفظ عليه مطابقة، لا على ما يلزم مدلول اللفظ.
فإذا قلنا : ما قام القوم، قلنا : " إلا زيد "، بالرفع بناء على النفي، وإن كان يلزمه أنهم قعدوا– وهو ثبوت- وكذلك، إذا قلنا : قام القوم، منعنا البدل، لأنه إيجاب وإن كان فهو يلزمه النفي، وهو أنهم ما قعدوا، فالمعتبر إنما هو ما يدل عليه مطابقة دون لوازم المدلول. ولفظ الآية إيجاب صرف يلزم منه النفي، فيلزم من الشريك الفساد، وهذا إيجاب يلزم منه نفي، وهو أن نفي الفساد يلزم منه نفي الآلهة، فالنفي لازم أصل.
إذا تقرر أنه ليس نفيا، بل قول السائل أنه لا يلزم من نفي الجمع، نفي التثنية، ولا من الكل نفي الجزء، ورجع البحث إلى جهة أخرى وهو أن الجمع بلسان العرب كلية لا كل، والكلية هي القضاء على كل واحد واحد بذلك الحكم والكل، والقضاء على المجموع من حيث أنه مجموع، فإذا قلنا : " كل رجل يشبعه رغيفان غالبا "، صدق ذلك باعتبار الكلية وهو الحكم على كل واحد واحد، وكذب باعتبار الكل، فإن المجموع لا يشبعه رغيفان. وإذا قلنا : " كل رجل يشيل هذه الصخرة العظيمة "، صدق باعتبار الكل، وكذب باعتبار الكلية.
إذا تقرر الفرق بينهما فاعلم أن غالب استعمال العرب إنما هو باعتبار الكلية دون الكل، فإذا قلنا : " لو جاءني الزيدون لأكرمتهم "، فمعناه : " لأكرمت كل واحد منهم "، وليس المراد المجموع، وكذلك الزيدون قاموا. أو قال لعبيده : قوموا، فالأمر متوجه لكل واحد دون المجموع، وكذلك قوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾٧ و﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾٨ و﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾٩ و﴿ قاتلوا المشركين ﴾$$
١ - سورة النمل: ٦٥..
٢ - سورة المؤمنون: ١٧٧..
٣ - سورة مريم: ٨٨..
٤ - سورة البقرة: ١١٦..
٥ - سورة الزخرف: ٩..
٦ - سورة الزخرف: ٨٧..
٧ - سورة البقرة: ٤٣..
٨ - سورة آل عمران: ٩٧..
٩ - سورة البقرة: ١٨٥..
٨٥٥- لله عز وجل أن يفعل الأصلح لعباده، وله أن يفعل ذلك :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾ ( الذخيرة : ١٣/٢٣٢ ).
٨٥٦- تقديره : " ما أرسلنا من رسول إلا تعينت له هذه الحالة دون أضدادها ونقائضها من الحالات ".
و " نوحي " فعل مضارع مؤول باسم الفعل تقديره : " إلا موحين إليك ذلك ". ( الاستغناء : ٥٥٠ ).
٨٥٧- أي : وهم لا يعملون إلا بأمره١. ( تنقيح الفصول " مع الذخيرة " : ١/٦٤ ).
١ - هنا تقديم الجار والمجرور على "يعملون" يفيد الحصر. ن: البحر المحيط: ٦/٣٠٧..
٨٥٨- الجذاذ : التقطيع، قال الله تعالى :﴿ فجعلهم جذاذا ﴾. ( الذخيرة : ١٢/٢٠١ ).
٨٥٩- النفش : رعي الليل. والهمل : رعي النهار بلا راع١. ( نفسه : ٤/١٨٧ ).
٨٦٠- شهد في لسان العرب له ثلاثة معان : " شهد " بمعنى " علم "، ومنه قوله تعالى :﴿ وكنا لحكمهم شاهدين ﴾ و﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾٢ أي : عليم. وبمعنى : " أخبر " ومنه شهد عند الحاكم، أي : أخبر، وقوله تعالى :﴿ قالوا نشهد إنك لرسول الله ﴾٣، و﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾٤ إن فسر بمعنى : أخبر. وشهد بمعنى : " حضر "، ومنه شهدنا صلاة العيد، وشهد بدرا، وشهود القضاء : تجتمع فيهم الثلاثة، لأنهم يعلمون ويخبرون عند الحاكم. ( نفسه : ١٠/١٥١ ).
٨٦١- قوله تعالى :﴿ وكنا لحكمهم شاهدين ﴾ " حكم " عائد على : الحكمين، والمحكوم له، والمحكوم عليه، فهم أربعة، والمصدر كما يضاف للفاعل، يضاف للمفعول فأضيف للجميع. ( شرح التنقيح : ٢٣٦ ).
٨٦٢- فوائد في قوله تعالى :﴿ وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ﴾.
الأولى : دخل على إياس بن معاوية الحسن فوجده يبكي، فسأله عن ذلك فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار " ٥. فذكر منهم رجلا جهل فأخطأ، فقال الحسن : " إن فيما أنزل علينا لرحمة، فذكر الآية، فقال : أثنى الله تعالى على سليمان، ولم يذم داود، بل أثنى عليه باجتهاده ". قال الحسن : فلولا هذه الآية لكان الحكام قد هلكوا.
قال صاحب المقدمات : " والمخطئ إنما يكون له أجر إذا كان من أهل الاجتهاد، وإلا فهو آثم لجرأته على الله بغير علم ".
الثانية : قال صاحب المقدمات : " معنى الآية : عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما : دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعلى الأنبياء أجمعين، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فادعى إرسال الآخر غنمه في حرثه ليلا، فلم يترك منه شيئا، فقضى له بالغنم كلها، فمر صاحب الغنم بسليمان، فأخبره بقضاء داود عليه الصلاة والسلام، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبي الله، إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال : وكيف ؟ فقال : إن الحرث لا يخفي على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث. فقال له داود : قد أصبت ".
وقال غيره : الحرث كان كرما٦، فعلى هذا تدل الآية على أن المصيب واحد، كما قاله الشافعي وأبو حنيفة، ونقله القاضي عبد الوهاب عن مذهب مالك. وحكى عنه صاحب المقدمات : تصويب الجميع، وأجاب بقوله تعالى :﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾ فلو أخطأ ما أوتي حكما وعلما. وجوابه : أن الحكم المؤتى ومالق٧ من هذه القضية.
الثالثة : أن حكم داود عليه السلام لو وقع في شرعنا أمضيناه، لأن قيمة الزرع يجوز أن يؤخذ فيها غنم لأن صاحبها فلس، أو غير ذلك، وحكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا ما أمضيناه لأنه إيجاب القيمة مؤجلة، ولا يلزم ذلك صاحب الحرث، وإحالته له على أعيان لا يجوز بيعها الآن، وما لا يباع لا يعاوض به في القيم، فيلزم أحد الأمرين : إما أن لا تكون شريعتنا أتم في المصالح وأكمل في الشرائع، أو يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان. وهذا موضع يحتاج للكشف والنظر حتى يفهم المعنى فيه.
والجواب : أن مصلحة زمانهم كانت تقتضي أن لا يخرج عين مال الإنسان من بلده إما لقلة الأعيان، وإما لعظم ضرر الحاجة، أو لعدم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان، أو لغير ذلك، وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتم، فيعتبر الحكم، كما هو قولنا في حكم النسخ باعتبار اختلاف المصالح في الأزمان٨، فقاعدة النسخ تشهد لهذا الجواب.
الرابعة : قوله تعالى :﴿ وكنا لحكمهم شاهدين ﴾ المراد بالشهادة هاهنا : العلم، فما فائدته ؟ والتمدح به هاهنا بعيد لأنه تعالى لا يمتدح بحرفي٩، وليس السياق عن هذا أيضا حتى يعلم.
والجواب : أن هذه القصص إنما ذكرت لتقرير أمر رسول الله عليه السلام، لقوله تعالى في صدر السورة :﴿ هل هذا إلا بشر مثلكم، أفتاتون السحر وأنتم تبصرون ﴾١٠ فبسط الله القول في هذه القصص ليبين أنه عليه السلام ليس بدعا من الرسل، وأنه يفضل من يشاء من البشر وغيره، ولا يخرج شيئا١١ عن حكمنا، ولا تدخل ذلك غفلة، بل عن علم، ولذلك ما فهمها سليمان دون داود عن غفلة، بل نحن عالمون، فهو إشارة إلى ضبط التصرف وأحكامه لا إلى غير ذلك، كما يقول الملك العظيم : " أعرضت عن زيد وأنا عالم بحضوره "، وليس مقصود سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد المكافأة كقوله تعالى :﴿ قد يعلم ما أنتم عليه ﴾١٢ فيكشف أيضا التمدح بالعلم، بل أحكام التصرف في ملكه، وكذلك هاهنا. ( الذخيرة : ١٠/١٣-١٤-١٥ ).
٨٦٣- إن داود عليه السلام قضى بتسليم الغنم لأرباب الزرع قبالة زرعه، وقضى سليمان عليه السلام بدفعها لهم ينتفعون بدرها ونسلها وخراجها حتى يخلف الزرع وينبت زرع آخر١٣. ( الفروق : ٤/١٨٦ ).
٨٦٤- مسألة : إن أرسلت الماشية بالنهار للرعي أو انفلتت فأتلفت فلا ضمان، وإن كان صاحبها معها، وهو يقدر على منعها فلم يمنعها ضمن. ووافقها الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما. وإن انفلتت بالليل وأرسلها مع قدرته على منعها ضمن. ( الفروق : ٤/١٨٦ ).
١ - قال شريح والزهري وقتادة: "النفش لا يكون إلا بالليل، زاد قتادة: والهمل بالنهار" تفسير ابن كثير: ٣/٢٩٧..
٢ - سورة المجادلة: ٦..
٣ - سورة المنافقون: ١..
٤ - سورة آل عمران: ١٨..
٥ - رواه ابن ماجة في القضاء. والقصة أوردها ابن كثير في تفسيره: ٣/٢٩٨..
٦ - وهو مروي عن ابن مسعود وشريح ومسروق وغيرهم. ن: تفسير ابن كثير: ٣/٢٩٧-٢٩٨..
٧ - قال المحقق: كذا في الأصل..
٨ - يقول الإمام القرافي: "معنى النسخ أنه سبحانه علم في الأزل أن تحريم الشحوم مثلا مصلحة للمكلفين في الزمن الفلاني مفسدة للمكلفين في الزمن الفلاني، ويعلم في الأزل أنه تعالى يشرعه في وقت المصلحة وينسخه وقت المفسدة... بل الأحكام تابعة لمصالح الأوقات، واختلاف الأمم...". ن: الأجوبة الفاخرة: ٢٠١..
٩ - قال المحقق: كذا في الأصل..
١٠ - سورة الأنبياء: ٣..
١١ - هكذا نقله المحقق من الأصل..
١٢ - سورة النور: ٦٤..
١٣ - ن: مختلف الروايات في هذا الموضوع في تفسير ابن كثير: ٣/٢٩٨..
٨٦٥- الفصيح في المرأة : الزوج، بغير " هاء ". قال الله تعالى :﴿ وأصلحنا له زوجه ﴾ والثانية شاذ. ( الذخيرة : ١٠/٣٣٥ ).
٨٦٦- قوله تعالى :﴿ يدعوننا رغبا ورهبا ﴾ أي : رجاء وخوفا. ( الاستغناء : ٥١٦ ).
٨٦٧- قيل : رجاء الخير وخوفا من الشر. ( الذخيرة : ٢٢١ ).
٨٦٨- لما نزل قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ قال ابن الزعبرى١ : " لأخصمن محمدا " ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أليس قد عبدت الملائكة ؟ أليس قد عبد المسيح ؟ ٢. تمسك بعموم " ما " وهو عربي وفهمه، وقوله حدة في اللغة. ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى نزل قوله تعالى :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾٣.
وهذا يقتضي أنها للعموم، فإن هذه الآية الثانية جرت مجرى الاستثناء، ولولا تقرير السؤال وحصول الاندراج لما احتيج إلى صرف اللفظ عمن سبقت له الحسنى. ( العقد المنظوم : ٢/٢٣-٢٤ ).
١ - هو أبو سعيد عبد الله بن الزعبرى بن قيس السهمي القرشي (ت: ١٥هج) كان شديدا على المسلمين بنفسه ولسانه إلى أن فتحت مكة فهرب إلى نجران. قال فيه حسان أبياتا، فلما بلغته عاد إلى مكة فأسلم واعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم. ن: أسد الغابة: ٣/١٤٥. الإصابة: ٢/٣٠٠. طبقات ابن سلام: ١/٢٣٥..
٢ - ن: لباب النقول: ١٣٣، وفيه: قال ابن الزعبي" عبدوا الشمس والقمر والملائكة وعزيز، فكل هؤلاء في النار مع آلهتنا..."..
٣ - سورة الأنبياء: ١٠٠..
٨٦٩- لما نزلت :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾١ قال ابن الزبعرى : لأخصمن اليوم محمدا، فقال : يا محمد، قد عبدت الملائكة وعبدت المسيح، فنزل قوله تعالى :﴿ إن الذين سبقت لهم منها الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾ فهذا تخصيص وبيان لم يتقدم فيه بيان إجمالي ولا تفصيلي. ( شرح التنقيح : ٢٨٤ ).
١ - الأنبياء: ٩٧..
٨٧٠- في هذه الآية من الأسئلة : ما معنى الرحمة هاهنا ؟ وهل هي عامة للكافر والمؤمن أو المراد بها المؤمن ؟ وكيف معنى حصر إرساله في الرحمة مع اشتمال إرساله على معان أخرى ؟ وهل الرحمة هاهنا منصوبة على الحال أو المفعول من أجله، أو غير ذلك ؟ وهل ﴿ العالمين ﴾ باق على عمومه أم لا ؟
والجواب : الرحمة في حق الله تعالى باعتبار الحقيقة اللغوية، لأنها ميل الطبع، والطبع وعوارضه على الله تعالى محال، فاختلف العلماء في المجاز الذي تحمل عليه.
فقال القاضي أبو بكر : تحمل على الإحسان، لأنه من لوازم الرحمة في حق البشر لأن من رق طبعه على شخص أحسن إليه.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : تحمل على إرادة الإحسان، فإن من رق طبعه أراد الإحسان. فلإحسان وإرادته كلاهما يمكن التجوز إليه عن محل الحقيقة. ومجاز الشيخ أرجح، لأن إرادة الإحسان قبل الإحسان قبل الإحسان، وقد تقع الإرادة ولا يقع الإحسان. فالإرادة أكثر وألزم للحقيقة وأقرب، فيكون التجوز إليها أرجح.
وقال العلماء : للكافر من هذه الرحمة حظ. وذلك الحظ هو تأخير العذاب عنه إلى يوم القيامة بسبب إرساله عليه السلام. ومن رحمة الله تعالى التي جعلها في إرسال نبيه ضرب الجزية على الكافر حتى يسلم تائبهم، وينيب منيبهم، ويخرج من ذراريهم في أخر الزمان من يوحد الله تعالى. ولو يعجل لهم العذاب لبطل ذلك كله.
وأما حصر إرساله في الرحمة مع اشتمالها على الوعيد وإقامة الحجة على الكفار وتدميرهم وهلاكهم بسبب تكذيبه عليه السلام، وقد قال الله تعالى في القرآن :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ﴾١، فالقرآن لمن لا يؤمن به سبب حسرة وهلاك. والميت في زمن الجاهلية من الكفار أسعد حالا ممن أدرك رسول الله عليه السلام ولم يؤمن به، وآذاه، وشنع وحزب عليه الأحزاب، وعامله بالقبيح.
فهذه أمور كلها نشأت عن الرسالة، فكيف يبقى الحصر ؟ فتوجيه الحصر أن الإرسال من حيث هو إرسال إنما فيه الرحمة والإحسان للخلق، وإنما جاءت هذه المكاره من أسباب أخر من العوائد الفاسدة وحب الرياسة وإتباع الآباء والأهوية، وغير ذلك من أسباب الفساد هي المقتضية لفساد حتى لو سلم الإرسال من هذه العوارض لم يترتب على الإرسال إلا رحمة وخير وأسلم الخلق كلهم، كما قال الله تعالى :﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴾٢ وكقوله تعالى :﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾٣، فمقتضى الإرسال مع الطباع السليمة الرحمة فقط، فالحصر ثابت باعتبار الإرسال وهو صحيح. وإذا سمي رحمة صرفة لا يقدح فيه كون غيره سبب الفساد.
وأما نصب " الرحمة " فيحتمل المفعول من أجله، أي : " ما أرسلناك لسبب من الأسباب إلا بسبب الرحمة ". ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال من الفاعل، أي : راحمين للناس، أو من المفعول، تقديره : " وما أرسلناك إلا مرحوما بك الناس " ويحتمل أن يكون منصوبا على المصدر، لأن نفس الإرسال رحمة فلاقى الفعل في المعنى، فينتصب على المصدر، أي : على الصفة للمصدر، تقديره : " إلا إرسالا رحمة ". فهذه أربعة أوجه، والمتبادر هو الأول.
وأما " العالمين "، فقال أهل اللغة : العالم : كل طائفة من الموجودات عالم وقد ورد في الحديث : " إن الله يرحم بالرجل الصالح البلاد والعباد والدواب والشجر " ٤ فيسقى به الغيث، فيصل إلى كل من هذه الأمور رحمة بحسبه. والرجل الفاجر بفعله يقطع بسببه الغيث، فيحدث لكل واحد من هذه فسادا بحسبه.
فبهذه الطريق أمكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالمين فيكون على عمومه. ( الاستغناء : ٥٠٦ وما بعدها ).
١ سورة فصلت: ٤٤..
٢ - سورة الروم: ٣٠..
٣ - سورة البقرة: ٢١٣..
٤ - لم أعثر على هذا الحديث في مظان الحديث النبوي ومعاجمه..
Icon