هي جديرة باسمها، لأن فيها قصصا من أخبار النبيين، وهو غير مكرر مع ما ذكر في غيرها من القصص، فكل قصة لست جزءا من القصة هو عبرة في موضعها غير مكرر مع غيره، وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وضربنا المثل بقصة بدء خلق الإنسان، والمفارقات.
وسورة الأنبياء سورة مكية وآياتها اثنتا عشرة آية ومائة.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر الساعة وقربها وما وراءها من حساب على ما قدمت أيديهم، ﴿ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ١ ﴾ ويأخذون الحياة لعبا ولهوا حتى ما يكون تذكيرا باليوم الآخر﴿ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ٢ لاهية قلوبهم... ٣ ﴾ وقالوا لكل رسول جاءهم﴿... هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ٣ ﴾، واتهموا كل رسول يرسل إليهم بأن كلامه أضغاث أحلام وأن كلامه افتراء على الله تعالى، ﴿... بل هو شاعر فليأتنا بآية... ٥ ﴾ ويذكر العبرة في حال من سبقوا ﴿ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكنا أفهم يؤمنون ٦ ﴾، ويخاطب نبيه فيقول :﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٧ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ٨ ﴾.
ولقد كفر أقوامهم فصدق الله تعالى وعده لأنبيائه فأنجاهم وأهلك الكافرين لأنهم أسرفوا في الضلال، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مذكور في الكتب قبله، وأن الكتاب الذي أنزله الله إليكم فيه ذكركم ورفعتكم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه أهلك الذين من قبلهم لضلالهم، ﴿ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ١١ ﴾، وقد أحسوا الهلاك النازل بهم عند نزوله ﴿ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ١٢ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ١٣ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ١٤ فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ١٥ ﴾.
وقد بين سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض ودلالتها على وحدانية الخالق، وأنه مالك السماوات والأرض ﴿ وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ١٩ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ٢٠ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ٢١ ﴾.
ولقد جاء إثبات الوحدانية بدليل يجمع يين البلاغة وأعلى درجات المنطق فقال تعالى :﴿ لو كان فيهما آية آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ٢٢ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ٢٣ ﴾، ولقد تحداهم سبحانه أن يأتوا بما يدل على ألوهية غيره سبحانه فقال :﴿ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ٢٤ ﴾.
وقد أشار سبحانه من بعد إلى أنه قد أرسل رسلا من قبلكم وكانت دعوتهم التوحيد الخالص ونفى سبحانه عن ذاته العلية اتخاذ الولد ﴿ وقالو اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ٢٨ ﴾. ونفى سبحانه أن يقول أحد ممن ادعوا أنهم أبناء الله، ومن يقل بذلك يجزيه جهنم وكذلك يجزى الله الظالمين.
وقد أتى سبحانه بقضية كونية لم يصل إليها العلم إلا في العصور المتأخرة، وهو أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا فقال :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ٣٠ ﴾، وبين بعد ذلك ما في الأرض من جبال راسيات، ومن مهاد، ومن فجاج وسبل، وجعل السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وبين سبحانه أنه خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون، وأن نهاية النفوس جميعا إلى الموت ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ٣٥ ﴾، ثم أشار سبحانه إلى استهزاء المشركين يقولون عند رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ٣٦ ﴾، وقد أشار سبحانه إلى ما في الإنسان في طبيعته من الاستعجال، ويستعجلون العذاب ﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ٣٨ ﴾، ثم بين سبحانه حال الكافرين ﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ٣٩ بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ٤٠ ﴾، ولقد ذكر الله تعالى لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعله السابقون من السخرية برسلهم وحاق بالذين سخروا ما كانوا به يستهزئون.
ثم نبه سبحانه إلى ما أنعم به عليهم من نعم وهي دائمة ﴿ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هو عن ذكر ربهم معرضون ٤٢ ﴾، وليس لهم من يمنعهم من الله، وأنه سبحانه متّع هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم وظنوا أنه لا حساب، وقد وجدوا عقاب الله تعالى لمشركي مكة بالحرب التي كانت تنقص عليهم الأرض من أطرافها.
ولقد أشار سبحانه إلى موسى وهارون وقد آتاهم ما أضاء الحق وذكّر المتقين، وما كان فرقانا بين الهدى والضلال، وهذا ذكر مبارك وهو القرآن، أفأنتم معشر المشركين له منكرون.
ذكر بعد ذلك شيئا من مجاوبة إبراهيم لعُبّاد الأوثان قائلا لهم :﴿... ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ٥٢ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ٥٣ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ٥٤ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ٥٥ قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ٥٦ وتالله لأكيدن أصناكم بعد أن تولّوا مدبرين ٥٧ ﴾. وحطم أصناكم ووضع الفأس التي حطمها بها في عنق كبيرهم، ثم جاءوا وتحروا فوقعت الظنة على إبراهيم فأرادوا أن يحرقوه بالنار فجعلها الله تعالى بردا وسلاما على إبراهيم، وهذا القدر من قصة إبراهيم لم يذكر في أي سورة أخرى، مما يدل على أنه لا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا ذلك بظاهر الأمر لمن لم يفحص مرامي القصص وموضع العبرة فيه، وقد جرت بين الشاب وبينهم مجادلات في عبادة الأوثان، حتى انتهى إلى قوله لهم :﴿ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ٦٧ ﴾.
ونجى الله من كيدهم إبراهيم كما نجى الله تعالى لوطا.
وذكر سبحانه بعد ذلك ما وهبه له من إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعله الله من الصالحين وجعلهم أئمة يهدون بأمره، ويقول سبحانه :﴿... وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ٧٣ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ٧٤ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ٧٥ ﴾.
ثم ذكر نوحا :﴿... إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ٧٦ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ٧٧ ﴾.
وذكر سبحانه داود وسليمان، وقضايا سليمان وما فهمه سبحانه وتعالى من الحُكم فيها وما علمه لداود من صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون، وما مكن سبحانه وتعالى لسليمان، وقال :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين٨١ ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ٨٢ ﴾.
وقص سبحانه قصة نبي الله تعالى أيوب وما أصابه من ضر وصبره لما أصابه.﴿.... إذ نادى ربه أني مسّني الضّرّ وأنت أرحم الراحمين ٨٣ ﴾، وقد استجاب له الله تعالى، وكشف ما به من ضر وقال سبحانه :﴿.... وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ٨٤ ﴾.
وأشار سبحانه وتعالى إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وكل من الصابرين، وقال سبحانه :﴿ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ﴾، ثم ذكر سبحانه قصة ذي النون فقال :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ٨٧ فاستجبنا له ونجّيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ٨٨ ﴾.
وذكر خبر زكريا، ونداءه ربه ﴿ رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ٨٩ ﴾، وقد استجاب الله تعالى له ووهب له يحيى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى خبر مريم فقال :﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ٩١ ﴾.
ثم أأشار سبحانه إلى أن الناس جميعا أمة واحدة دعيت إلى دين واحد، فقال :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ٩٢ ﴾.
وأشار سبحانه إلى أنه مع هذه الوحدة الجامعة تفرقوا حول الأنبياء الذين دعوا إلى عبادة الله تعالى :﴿ وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ٩٣ ﴾.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أحوال يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، وبين سبحانه أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد اقتربت لأن كل آت قريب، وأشار إلى أحوال الناس عند هذه الساعة، وبين أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، وبين لنا أن الذين سبقت لهم من الله الحسنى أولئك عن جهنم مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وذكر سبحانه وتعالى ما يكون للكون يوم القيامة، وما كتبه الله في كتبه السماوية أن الأرض يرثها الصالحون، وأمر نبيه أن يقول للمشركين الذين كفروا برسالته :﴿ قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ١٠٨ فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ١٠٩ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ١١٠ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ١١١ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ١١٢ ﴾.
وبهذا تنتهي السورة الشريفة، وفيها كما يرى القارئ من هذا العرض أنها تشتمل على إشارات من قصص النبيين، وصلبها الدعوة إلى التوحيد، وما لقيه النبيون في سبيل هذه الدعوة التي هي الحق، وضل من يعاندها.
معاني السورة
ﰡ
﴿ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ١ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ٢ لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ٣ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ٤ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ٥ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ٦ ﴾.
ابتدأ الله تعالى السورة الكريمة بذكر القيامة، وأعظم ما في القيامة أثرا هو الحساب الذي يعقب التوجه إلى النعيم، أو التوجه إلى الجحيم، ابتدأ به، لأن كل ما يذكر من إعراض عن ذكر الله تعالى في دعوات الأنبياء الذين أشارت إلى قصصهم سببه الغفلة عن ذكر الله وعدم إدراك معاني التوحيد، والإعراض عن دعوات التوحيد التي تجددت الدعوة إليه على لسان كل نبي من الأنبياء الذين بعثوا إلى الناس عصرا بعد عصر، حتى جاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس في قوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ قيل عن ابن عباس رضي الله عنه إنهم المشركون، لأنهم الذين غفلوا عن يوم البعث، وأعرضوا عما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الظاهر أنهم الناس كافة الذين توالت عليهم النذر وخصوصا غير المؤمنين في أي جيل من الأجيال، بدليل ما تجئ به الآية بعد هذه الآية من قوله تعالى :﴿ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ نقول : إن معنى الاقتراب تأكد الوقوع كقوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ١ ﴾ ( القمر ) إذ إن كل أمر مؤكد الوقوع يصح أن يقال عنه إنه مقترب، وإن الأزمان بالنسبة للقرب والبعد عند الله سواء، فالقرب والبعد بالنسبة للحوادث لا بالنسبة إلى واجب الوجوب، ورب البرية، ولأن هذه الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان مبعثه على قرب من القيامة، كما رُوي عنه أنه قال :"بعثت في نسم الساعة"١ و( اقترب ) : صيغة افتعال من ( قَرُب ) وهي تدل على شدة الاقتراب، واقتراب الحساب هو اقتراب الساعة التي يكون فيها الحساب وعبر عنها بالحساب، لأن الحساب كما أشرنا هو الفصل بين الخلائق يوم القيامة لأنه هو الذي يعين مصائرهم، إما إلى الجنة أبدا وإما إلى النار وإما إلى النار أبدا، فذكرت القيامة بأعظم ما فيها، وهو ما يحدد مآل الناس، ولأن ذكره فيه ترهيب للناس وتنبيه لهذا اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما كسبت، فذكره تنبيه للغافلين.
والتعدية باللام في قوله تعالى :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ إنها لتوكيد الحساب، وتنبيه الأفهام، وتقدير القول : اقترب حساب الناس، فكأن النص السامي أبهم الحساب، بأن الاقتراب للناس، ثم بين أنه ليس لذواتهم، بل لحسابهم، وفي التوضيح بعد الإبهام فضل توكيد للمعنى، وزيادة في الترهيب بالإشارة إلى أن الاقتراب منهم.
ويلاحظ أن الاقتراب يتعدى ب"إلى"، فيقال : اقترب إليه، وب"من" فيقال : اقترب منه، فلماذا كان التعدي في الاقتران باللام ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : إن التعدية ب"إلى" أو "من" ربما تدل على المحبة والمودة، وهما لا يصلحان في هذا المقام، فالاقتراب اقتراب مدة لا قرب رفق ومودة، ويقال في قرب المبارزة، اقترب المبارز لخصمه، ولا يقال اقترب إليه أو منه، ولأن "اللام" تفيد الاختصاص، فالاقتراب للحساب يخصّهم ويملكهم.
وقال تعالى :﴿ وهم في غفلة معرضون ﴾ الجملة حالية، وقد وصفوا فيها بوصفين : الأول : أنهم في غفلة عن هذا الحساب إذ هم لا يؤمنون بالبعث بسبب غشاوة جاءت على أعينهم، وقلوبهم غلف، فهم غافلون عن ذلك اليوم مأسورون بالحس، لا يعرفون ما وراءه، وأول مظاهر اليقظة النفسية تعرّف ما وراء الحس، فيتساءلون لماذا خلق الإنسان وما غايته ؟ وما نهايته ؟ ويدركون أنه لم يخلق عبثا، وهذا فرق ما بين الإنسان والحيوان.
فهم في غفلة عن هذا، وإذا جاء مذكر موقظ لعقولهم من رسول أو نبي أعرضوا عنه، فكان في أوصافهم أمران أولهما : غفلة نفسية لا تدرك بذاتها، والثاني أنهم إذا جاء من يذكرهم أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم، وقال تعالى :﴿ معرضون ﴾ بالوصف يدل الفعل للإشارة إلى أن الإعراض ملازمهم ملازمة الغفلة لهم، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ٢ لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ٣ ﴾.
والضمير في ﴿ استمعوه ﴾ يعود إلى الذكر، وهذا من باب الترشيح للمجاز في تسمية الرسول بالذكر لما ذكرنا، ويجوز أن نقول كما قال كثير من المفسرين : إن الذكر بمعنى الكتاب الذي جاء به الرسول، أو أريد به القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى ﴿ محدث ﴾ هو تجدد نزول آياته آية بعد آية مجددة التذكير الذي يهدي الضال ولكن الظالمين لا يهتدون.
وقد كانت نتيجة تآمرهم قولهم :﴿ هل هذا إلا بشر مثلكم ﴾ الاستفهام هنا للإنكار، والمعنى : ما هذا إلا بشر مثلكم، وهذا تسويغ لإنكارهم، لأنهم لا يعتقدون أن الرسول لا يكون من جنس البشر بل يكون من الملائكة، فهم يريدون أن يلقوا في روع الناس أن هذا مثلهم، فلا يمكن أن يكون نبيا مرسلا، والاستفهام الذي يدل على النفي فيه تنبيه لهم، وكأن النفي من السامع لا من المتكلم.
وقد بينوا أن إيمانهم به إيمان بالسحر، فقالوا :﴿ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ﴾ "الفاء" عاطفة على فعل محذوف تقديره أتصدقونه فتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومعنى إتيانهم السحر حضوره ومشاهدته فكأنهم هم الذين أتوه، ﴿ وأنتم تبصرون ﴾ أي لم يموه على أبصاركم فسحر عيونكم، بل أنتم تدركون بكامل بصركم وترون الأشياء والوقائع.
وفي هذا حكم على القرآن بأنه سحر، لأنه يعمل السحر، ولم يجدوا طريقا لإدخال إفكهم على الناس إلا بهذا الادعاء الباطل، وإذا كانوا قد ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم في إسرار نجواهم فالله تعالى يعلم ما تناجوا به، وما ائتمروا عليه، ولا يهمه صلى الله عليه وسلم أن يعلم ما يتآمرون عليه من قول، وما يدبرونه من صد عن سبيل الله، ولذا قال تعالى :
﴿ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ﴾.
﴿ قال ربي ﴾ الذي أرسلني ويقوم على حماية رسالتي ﴿ يعلم القول في السماء والأرض ﴾ والقول يشمل السر والجهر، وهو يفيد عموم علم الله تعالى لكل قول خفي أو جهير، في سر أو في علن، وهو راد كيدهم في نحورهم ومبطل تدبيرهم، وذكر ﴿ السماء والأرض ﴾ لعموم علمه بكل قول سواء أكان من ملك كريم أم كان من شيطان رجيم، فهو سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وختم سبحانه وتعالى الآية بوصفه سبحانه بوصف الكمال، بقوله تعالى :﴿ وهو السميع العليم ﴾ أي أنه يعلم الأقوال كلها جهرها وسرها، وهو محيط بعلمه بكل شيء وذكر ﴿ السميع ﴾ لأن موضوع العلم في الآية القول الذي دبروا به كيدهم، وما كيدهم إلا في ضلال، وقال تعالى عما دبروا من قول يصدون به من آمنوا عن سبيل الحق :
﴿ بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ﴾.
ثم انتقلوا من هذا الادعاء إلى ادعاء آخر أوغل منه في الرد في زعمهم، فقالوا ﴿ بل افتراه ﴾، أي اخترعه من عنده اختراعا فهو قول مفتري، وهذا هو لب تكذيبهم، وإن لم يقصدوا إليه ابتداء، فهم مكذبون له في كل الأحوال، ثم انتقلوا إلى ادعاء أنه قول ساحر، ولم يقولوا إنه شعر لأنهم يعلمون الشعر في حقيقته، ويفرقون بذوقهم البياني بين القرآن والشعر ولقد ادعوا أن محمدا شاعر، وأنه من أفانينه، وإن لم يكن شعرا، والشاعر يتفنن في القول نثرا أو سجعا أو شعرا، وكل هذا باطل، وذلك التردد في القول دليل على حيرتهم في الرد، ودليل على لجاجتهم في الجحود، فقالوا مرة : ساحر، ومرة : أضغاث أحلام، ومرة : افتراه، ومرة : إنه شاعر.
وهنا يجئ سؤال : أليسوا في كل أقوالهم يدعون الافتراء، فلماذا خص الافتراء بالذكر ؟ ونقول إنهم في الثلاثة الأخر غير الافتراء يتكلمون في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الافتراء يتجهون إلى القرآن نفسه، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري :"هم أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام يفترى، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج والمبطل متحير، رجّاع غير ثابت على قول واحد، ويجوز أنه يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، والرابع أفسد من الثالث".
وهذا الذي اخترناه، ونحن رأينا ابتداء أن هذه الإضرابات الانتقالية حكاية من الله تعالى لغيهم.
وخلاصة أقوالهم أنهم لا يعدون القرآن آية دالة على أنه رسول من عند الله، ولذا طلبوا آية حسية كالأنبياء السابقين فقال :﴿ فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ﴾ "الفاء" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فرتب على جحودهم بالقرآن آية، قولهم : ليأتنا بآية حسية باهرة قاهرة حسية، كما أرسل الأولون بآيات حسية، التشبيه بين ما يريدون من آيات وآيات الرسل الأولين.
إذا كانوا يطلبون آيات كالآيات التي كانت للأولين التي طلبوها هم أيضا، فما آمنوا بعد أن أجيب طلبهم، وقد عاهدوا الله تعالى على أن يؤمنوا إذا جاءتهم، فلما جاءتهم نكثوا في أيمانهم، فحلّ الهلاك بهم، فإذا كنتم تقايسون بين الآيات تطلبونها وآيات الذين سبقوا، ففكروا في نتائج آياتهم، وهي ذات النتيجة التي تكون منكم، فلن تؤمنوا كما لم يؤمنوا، لأن الجاحد لا ينفعه دليل ولا تقنعه حجة.
قوله تعالى :﴿ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ﴾ القرية المدينة العظيمة، أو الإقليم، والمعنى : ما آمنوا، بل كذبوا وهلكوا فاعتبروا بهم، ولقد قال تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ١٠٩ ﴾ ( الأنعام ).
ولذا قال تعالى :﴿ أفهم يؤمنون ﴾ الفاء تفصح عن شرط تقديره : أإذا جاءتهم الآية هم يؤمنون ؟ والاستفهام إنكاري، والمعنى أنهم لا يؤمنون، كما أنه لم يؤمن من كانوا قبلهم، فالجحود، لا يعالجه الدليل وكثرته، إنما يعالجه العقاب وصرامته.
وسياق الآيات الكريمات أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا من البشر، ثم واصلوا إنكارهم فادعوا الافتراء، وقالوا في شخصه ساحر، وأن ما جاء به أضغاث أحلام، وأنه مفتر وأنه شاعر، ثم قالوا من بعد منكرين للآية الدالة على رسالته، ولم يعقلوا بعقلهم الجحود المنكر أن يكون القرآن معجزة، وإن عجزوا عن الإتيان بمثله بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعضه ولو مفترى.
والحقيقة أن الجحود هو الذي أملى الاعتراض عليه، وهو أنسب معجزة لخاتم النبيين، لأنه باق متجدد الإعجاز لا تبلى جدته، وهذا يناسب رسالة باقية ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٧ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ٨ ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ٩ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ١٠ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ١١ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ١٢ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ١٣ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ١٤ فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ١٥ ﴾.
قال المشركون منكري رسالة النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ هل هذا إلا بشر مثلكم ٣ ﴾ ( الأنبياء )، أي ليس هذا إلا بشرا مثلكم فكيف نؤمن بأنه رسول يوحى إليه ؟ فرد الله تعالى قولهم بقوله تعالى :
﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾.
فما اعتمدوا عليه في تغرير الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم بين الله تعالى بطلانه، فهو حجة داحضة، لأن الرسل جميعا ليسوا إلا رجالا، كما قال الله تعالى في آية أخرى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى... ١٠٩ ﴾ ( يوسف ) وقال تعالى :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل... ٩ ﴾ ( الأحقاف ).
فسنة الله تعالى أن يرسل رسله من البشر، ليأنس بهم المدعون، وليأتلفوا معهم، ولأن الملك لا يمكن أن يخاطب البشر إلا إذا صار كالرجل كما قال تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ٩ ﴾ ( الأنعام ). وقد نبههم سبحانه إلى أن تلك سنة الله تعالى فيمن يبعثهم، وبين أيديهم ما يعلمون فيه سنة الله في رسله، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسماعيل ابنه كانا من الأنبياء، وإبراهيم عزهم ومناط فخرهم حيث كان رسولا من أولي العزم من الرسل- كان من الرجال ولم يكن من الملائكة، وبني البيت الحرام الذي كان حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، بناه بقوته البشرية لا بالروح الملكية.
ومع ذلك طلب الله تعالى أن يسألوا من يشايعونهم من اليهود الذين كانوا يناوئون الإسلام كما يناوئونه هم، ويؤذون النبي صلى الله عليه وسلم كما يؤذيه المشركون على سواء ولقد قال تعالى :﴿... ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا... ١٨٦ ﴾ ( آل عمران ) فقال سبحانه :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ "الفاء" واقعة في جواب شرط محذوف دل عليه ما بعده، وأهل الذكر هم أهل العلم بالرسالات، وأهل العلم هم كل من عنده علم بالرسالات الإلهية والرسل المهديين. وفي هذا النص رمى لهم بالجهل، وأن الذين يدّعون العلم بأنه لا رسول إلا من الملائكة غير عالمين، ومفسدون، وفي هذا إذلال لهم، ورمى لهم بالجهل المطبق، مع الإرشاد إلى الحق والاحتجاج بعلم أهل الكتاب الذين يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم.
﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ﴾.
الضمير يعود إلى الرسل، لأنهم مذكورون في الآية السابقة بعبارة تفيد العموم بذكر الرجال ﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا ﴾ والنفي داخل على الجسد الذي لا يأكل الطعام فمن طبيعة الجسد أن يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، وهذا رد على من زعم أن الرسل ليسوا من البشر، وتجاهلوا ذلك أو جهلوه، ورد على الذين قالوا من المشركين : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾، وقد رد الله تعالى :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ٢٠ ﴾ ( الفرقان ).
نفى الله تعالى بهذه الآيات أن يكونوا جسدا لا يأكلون بل هم أجساد حية تحتاج إلى الغذاء كما يحتاج الجسد في قوله تعالى :﴿ وما جعلناهم جسدا ﴾ لأن الجسد يدل على الجنس، والجنس يفيد العموم، ولأن الإفراد ملاحظ أيضا، فالمعنى :﴿ وما جعلنا أي رسول جسدا لا يأكل الطعام ﴾ وإن الطعام يعوض الجسم البشري ما يفقد منه يوميا حتى إذا ضعف الجسم عن الغذاء كان الموت، ولذا قال تعالى بعد ذلك :﴿ وما كانوا خالدين ﴾ لأنه إذا كان الرسول جسدا فإنه تعروه عوامل الفناء الجسدي، حتى يكون البعث يوم القيام، كما قال تعالى :﴿ كما بدأكم تعودون ٢٩ ﴾ ( الأعراف ) فقوله تعالى :﴿ وما كانوا خالدين ﴾ تأكيد لمعنى الجسدية التي تأكل الطعام، وقد توهموا من معنى الملائكة أنهم لا يموتون فأكد الله سبحانه وتعالى نفي الملكية عنهم بذكر أنهم ليسوا خالدين كما تزعمون في أن الرسل من الملائكة لا يفنون، وهكذا أبطل الله تعالى دعواهم أن الرسل لا يكونون من البشر، وأثبت سبحانه بالاستقراء والتتبع أن الرسل لا يمكن أن يكونوا إلا من البشر الذين يوحى إليهم.
﴿ ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ﴾.
الضمير في ﴿ صدقناهم ﴾ يعود إلى الأنبياء الذين مر ذكرهم في الآيات السابقة، وصدق الوعد معناه الوفاء به بأنه يجئ العمل موافقا للعهد، ومن ذلك قول الرسل صدق، وقوله تعالى :﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ٢٣ ﴾ ( الأحزاب ).
وقوله تعالى :﴿ ثم صدقناهم الوعد ﴾ العطف ب"ثم' يفيد أنه بين الوعد وصدقه شدائد كثيرة نزلت بالأنبياء من رد وعناد واستهزاء وسخرية وإيذاء، كما قال تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنُجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ١١٠ ﴾ ( يوسف ) فكان العطف ب"ثم" مشيرا إلى هذه الشدائد، وأنه لم يتبين صدق الوعد إلا بعد شدائد ذاقوها، ولم تهز إيمانهم، ولم توجد في قلوبهم يأسا من صدق وعد الله.
ثم قال تعالى :﴿ فأنجيناهم ﴾ "الفاء" تدل على أنه يجئ فور صدق الوعد الإنجاء للرسل، والإنجاء يشير إلى تضافر القوي ضدهم، ﴿ ومن نشاء ﴾ هم التابعون للأنبياء آمنوا بما جاءوا، وقد أشار الله تعالى إيمانهم لأنهم اختاروا الهدى، وقد عبر الله تعالى عنهم بقوله ومن نشاء للإشارة إلى أنهم آمنوا، لأن الله تعالى شاء لهم الإيمان، وكل شيء في محيط مشيئته وإرادته، فلا يقع شيء إلا إذا تعلقت به مشيئة الله ولا يخرج شيء في الوجود عن إرادته.
{ وأهلكنا المسرفين وهم الذين خالفوا النبيين وعاندوهم ولم يؤمنوا، وكفروا بأنعم الله، وعبر الله عنهم بالمسرفين، لأنهم أسرفوا على أنفسهم، وأوقعوها في الضلال بكفرهم برسالة الله، وإسرافهم في العناد وإيذاء المؤمنين وإسرافهم في ضلال العقل وعدم الإذعان لأي حجة أو برهان، وإسرافهم في المعاصي، وهي إفساد، والله لا يحب المفسدين.
وإن الله تعالى أهلك بالمسرفين المفسدين دائما، ولكن بعد أن يرسل النذر، وقريش اختصت بكتاب فيه علمهم وذكرهم وشرفهم، ولذا قال عز من قائل :
﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ﴾.
ويقول الزخشري : إن الذكر هنا هو الشرف، أي أن هذا الكتاب فيه شرف لكم لأنه يشرف من ينزل إليهم، ومن يشيع علمه بينهم، كما قال تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك... ٤٤ ﴾ ( الزخرف ).
ونقول : إذا كان العرب يتفاخرون بقصيدة يقولها شاعر في قبيلة فتكون فخرا لها فإن القرآن أعلى كلام في الوجود، وأبلغه، وما قاله بشر، بل قاله الله تعالى وهو تنزيل من عزيز حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لا يعرف قدره إلا من يعلو في البيان إلى تدبر معانيه، وفصاحة مبانية، وبلاغة كلامه ومقتضيات الأحوال، ولذا قال تعالى :﴿ أفلا تعقلون ﴾ "الفاء" عاطفة على فعل محذوف بقدر يقدّر بما يناسب المقام فيقدر مثلا : أتردونه فلا تعقلون، فلا تدركون بعقولكم حقيقة ما تردون، ويعود بالخير عليكم شرفا وهداية وإرشادا ومواعظ وعبرا، والتنكير في ( كتاب ) لبيان شرفه أي كتاب أيَّ كتاب.
﴿ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ﴾.
هذه الآية الكريمة مفصلة بعض التفصيل لما تضمنه هلاك المسرفين في الآية السابقة ﴿ وكم ﴾ بمعنى الكثير، وهي مفعول ل﴿ قصمنا ﴾، والقصم هو التكسير والتهشيم، والذي تنفصل فيه الأجزاء عن بعضها، وهي تدل على الغضب، والهلاك يكون لأهل القرية، والمعنى وكم قصمنا أهل قرية كانت ظالمة، وإني أرى كما أرى بعض المفسرين أن القصم كان في القرية نفسها، كما حدث لقوم لوط، إذ جعل عالي الأرض سافلها، وكما حصل لثمود، إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية دمرتهم وكما حدث لعاد... إلى آخره، وقوله :﴿ كانت ظالمة ﴾، أي أهلها ظالمون فالظلم لا يقع من البناء والأحجار، ولكن من الذين يحلون في القرية، فأسند الفعل إلى المحل وأريد الحال.
وقوله تعالى :﴿ وأنشأنا بعدها قوما آخرين ﴾ أي أن هذه القرية التي قصمت وحطم بنيانها وأزيلت من الوجود أنشأ بعدها قرية أخرى غير ظالم أهلها يسكنها قوم آخرون، وهنا أمران يوجبان الالتفات.
أولهما – أن الحديث عن القرية ولكنه سبحانه قال إنه لا ينشئ القرية مرة أخرى، إنما ينشئ قوما آخرين، وإنشاء قوم آخرين ينشئ قرية، وليس الأمر أمر البنيان، وإنما الأمر أمر من يسكنون البنيان، ووصفوا ب ﴿ آخرين ﴾ لبيان تباينهم عن الأولين.
الأمر الثاني- التعبير ب ﴿ أنشأنا ﴾، والتعبير بقوله ﴿ بعدها ﴾، فالذكر للبَعدية بالنسبة للقرية مع أن الإنشاء للأقوام الآخرين، وكان ذلك لأن الحديث عن قصم القرية، وتكسيرها وتهشيمها وهو المظهر الحسي لهلاك الأقوام بهلاك قراهم وأماكنهم التي كانوا بها يعيشون.
"الفاء" للتفصيل، ﴿ أحسوا بأسنا ﴾ معناها بدت بوادر البأس الشديد والهلاك العتيد، وعلموها بحسهم وقرب نزوله﴿ إذا هم منها يركضون ﴾ "إذا" للمفاجأة أي أنهم فاجئوا من حولهم بركضهم، والركض هو السرعة، وهو مأخوذ من ضرب الدابة برجلها، وقد شبهوا في سرعة سيرهم وضربهم في الأرض بضرب الدابة في الأرض، وذلك تصوير لفزعهم وهربهم مسرعين لا يلوون،
هذا تصوير جيد لحال المترفين الذين ينعمون بنعيم الدنيا والسلطان، ويكون معنى ﴿ تسألون ﴾ على أن الكلام من الملائكة بأمر الله تعالى، فيكون قوله :﴿ لعلكم تسألون ﴾ فيه توبيخ أبلغ توبيخ. وعلى نظرنا الذي نقول فيه أنهم هم الذين حدثوا أنفسهم بالنهي عن الركوض في هذا الهول، فيكون لقوله :﴿ لعلكم تسألون ﴾ تصوير لما كانوا عليه من عز ورفاهية تجعلهم مقصودين بالسؤال فهم في حيرة بين الاستجابة لفزعهم بالفرار وبين حرصهم بالبقاء، ومهما تكن هذه الحيرة فهم يحسون بالمرارة الشديدة والهم الأكبر، ويحسون بأنهم كانوا ظالمين ولذا :
﴿ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ﴾.
وإنهم يستمرون على الشعور بالويل وندائه والإحساس بالظلم إلى الموت.
ولذا قال تعالى :﴿ فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ﴾.
الذي جف عوده شيئا فشيئا حتى يصير حطاما لانقطاع سبب الحياة عنه، وهذا فيه تشبيه لحالهم بحال الزرع المحصود الملقى المقطوع عن أسباب الحياة، كما انقطعت أسباب الحياة عنهم، وهذا تصوير لحلال هلاكهم ونزول الويل الشديد بهم، وأكد حالهم بقوله تعالى :﴿ خامدين ﴾، والوصفان كناية عن موتهم وهمودهم، وأصل الخمود من قولهم خمدت النار خمودا طفئ لهيبها، ومنه استعير خمدت الحمى، وكأن هناك تشبيها آخر بعد تشبيههم بالزرع المحصود، شبههم أيضا بالنار الذي أطفئ لهيبها، وفي ذلك إشارة إلى ما كانوا يشعلونه من إيذاء، وما يوقدون من حروب مفرقة تجمح فيها النفوس عن مواطن الاطمئنان، وليس هنا ثلاثة مفعولات ل ( جعلنا )، إنما هنا مفعولان، فقط، و﴿ خامدين ﴾ حال، وليست مفعولا ثالثا، وأضاف سبحانه وتعالى الفعل إليه الصيغة التي تليق بعظمته ﴿ جعلناهم ﴾ إرهابا وإفزاعا، والإشارة بأن الذي يتولى هلاكهم هو الله جل جلاله، وتقدست ذاته وأفعاله.
﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ١٦ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ١٧ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ١٨ وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ١٩ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ٢٠ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ٢١ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ٢٢ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ٢٣ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ٢٤ ﴾.
اللعب هو الفعل الذي لا مقصد له، ويقال لعب فلان إذا كان فعله لا مقصد له أو ما قصد به قصدا جديا له غاية تليق بالحكماء، وأصله كما قال الراغب في مفرداته من اللعاب وهو البزاق السائل الذي لا يكون إلا ممن لا يملك قوة مانعة منه، وغير العقلاء، والله سبحانه وتعالى منزه عن أن يفعل فعلا لغير مقصد صحيح، وإن كان لا يسأل عما يفعل، ولذا قال تعالى :
﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ﴾.
﴿ السماء ﴾ هي كما نعلم طبقات النجوم وأبراجها من شمس وقمر وكواكب ونجوم كل في مداراتها، تربط بينها نواميس الكون التي تسمى أحيانا بالجاذبية، والقصور الذاتي، ﴿ والأرض ﴾ هي التي نعيش على سطحها، وتشمل الماء الذي يقدر بثلاثة أرباعها، واليابس مما في ظاهرها من جبال هي رواسيها، ووهاد، وأرض مبسوطة، وفيها المزارع الكبيرة، وفي باطنها فلزات وأحجار، وما لا يمكن زرعه ملأه الله تعالى بالخيرات في باطنه، من معادن سائلة وجامدة.
وفي البحار جواهر ولحم طري من الأسماك وغيرها من ساكنات الماء حتى كان ما فيها من عوالم الأحياء لا يقل عما هو في اليابس من حيوان متبدٍّ ومستأنس.
﴿ وما بينهما ﴾ هو الفضاء الذي سخر للإنسان، وفيه السحاب المثقل بالماء ينزل ليروى الحرث والغراس، ويقول سبحانه :﴿ لاعبين ﴾ أي على غير مقصد صحيح نافع هاد ومرشد، فهو خلق هذا كله لحكم أرادها ومقاصد قصدها، وذكر اللعب لبيان نزاهة الله تعالى عن العبث، كما قال سبحانه :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا... ١١٥ ﴾ ( المؤمنون )، ولأن ما ليس له مقصد نافع صحيح يعد لعبا، والعقلاء بعيدون عنه، فالله جل جلاله منزه عنه بالأولى، ولقد صرح سبحانه وتعالى بأنه خلق هذه الأمور لمعرفة الإنسان، وتعريفه بطبائع الوجود وليعرف منها خالقه، وكماله، ونزاهته عن أن يكون كالحوادث، إذ هو خالقهم، ولذا قال تعالى :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا... ٧ ﴾ ( هود ) وقال تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ ( الذاريات )، وقد بين سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالت كلماته :
﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ﴾.
ويقول سبحانه :﴿ لهو ﴾ أي ما يلهينا، وذلك مستحيل، لأن الله جل جلاله لا يفعل إلا ما هو كمال، أو يؤدي إلى الكمال وكله خير، وهو معلم الخير، وجواب الشرط﴿ لاتخذناه من لدنا ﴾ أي لكان ذلك صادرا عن ذاتنا العليا وصفات الكمال، واللهو لا يمكن أن يصدر عن ذاتنا العليا وصفات الكمال، واللهو لا يمكن أن يصدر عن ذاتنا المتصفة بكل كمال، والمنزهة عن صغائر الخصال، فكيف يصدر عنا، و﴿ لدنا ﴾ بمعنى "عندنا" ولكنها أخص من "عند"، لأنها تدل على الابتداء لنهاية، أي أن اللعب من لدنا مبتدئ، وذلك لا يسوغ ولا يجوز.
وقال تعالى :﴿ إن كنا فاعلين ﴾ إن هذه الجملة شرطية وجواب الشرط محذوف دلت عليه الشرطية التي قبلها﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا ﴾ وفي ذلك تكلف التقدير، ونحس أنه غير متسق مع النص الأول، وإني أرى أن ﴿ إن ﴾ نافية، وتكون تأكيد للنفي الثابت بقوله :﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ﴾ ويكون : ما كنا فاعلين ذلك، لأنه لا يليق بالذات الكريمة ولا يتصور أن يكون منها، والله أعلم.
وقد بين سبحانه وتعالى المقصد الأسمى من خلق السماوات والأرض.
﴿ بل ﴾ للإضراب النافي لما قبله، لا مجرد الإضراب الانتقالي، والقذف الرمي من بعيد، والرمي من بعيد يكون مؤثرا في المرمى عليه أكثر من القريب، ويكون أدل على شدة الرمي، و"بل" التي للإضراب تدل أشد الدلالة على نفي اللعب عن أفعاله فوق النفي السابق، سبحانه وتعالى عما تتصف به الحوادث من لعب، وتزجية الأوقات فهو القادر القهار الذي خلق كل شيء.
وفي قوله تعالى :﴿ نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ﴾ تشبيه للحق بالجسم الصلب القوي الشديد، والباطل أمامه بأنه هش ضعيف، وذلك لبقاء الحق وسلامته وصلابته، و﴿ فيدمغه ﴾ معناه يصيبه في دماغه، ويقال : دمغه إذا أصابه في دماغه أو كسر دماغه، ووصل إلى تجاويف رأسه حتى يصيب مخه فيقتله، وفي ذلك أيضا تشبيه، فشبه سبحانه وتعالى إصابة الحق للباطل بإصابة الدماغ ووراء إصابة الدماغ الموت، ولذا قال تعالى :﴿ فإذا هو زاهق ﴾ و'الفاء" و"إذا" للمفاجأة، والمراد من المفاجأة سرعة الإبطال، و﴿ زاهق ﴾ معناها ميت، لأن زهق معناه خرجت روحه، وفي هذا الكلام أيضا تشبيه للباطل إذا زال وذهبت دولته بالنفس إذا خرجت ومات صاحبها، وفي ذلك إشارة إلى أن الباطل لا يبقى، والحق باق إلى يوم الخلود، وما يرمونه من باطل فهو ميت فان، وما يثبت من حق باق خالد.
وبعد أن قرر سبحانه ذلك مؤكدا خلق السماوات والأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل، التفت بالخطاب للمشركين، فقال عز من قائل منذرا لهم :﴿ ولكم الويل مما تصفون ﴾ أي لكم الهلاك الذي يصحبه أنين وألم يستمر ﴿ مما تصفون ﴾ "ما" موصول حرفي، والمعنى من الوصف الذي تصفونه به، و"من" سببية أي بسبب الوصف الذي تصفونه وأن له شركاء يعبدون، وإنهم يكونون شفعاء عنده، وهذه أوصاف لا تليق بالذات العلية، وهم يقولون باطلا﴿... ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ٣ ﴾ ( الزمر ).
هذا النص مؤيد لمعنى الآية السابقة، وأنه لا أحد يشاركه في ملكه، فهو وحده المالك للسماوات والأرض، وما فيهما ومن فيهما، والعندية هي عندية المنزلة، لا عندية المكان، لأن الله تعالى ليس له مكان حتى يكون في هذا المكان أحد، إنما العندية هي العندية المعنوية، وهي المكان، وأولئك هم الملائكة، وهم أزواج مطهرة ليس لها مكان نعرفه وهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وذكر العندية كما يفيد ما ذكرنا من أنها عندية معنوية وقرب من الله تعالى، ويفيد أيضا تشريفهم ومكانتهم عنده، ومع هذه المكانة ﴿ لا يستكبرون عن عبادته ﴾، أي أنهم خاضعون له تعالى خضوع العبودية له سبحانه، كما قال تعالى :﴿ لن يستكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون... ١٧٢ ﴾ ( النساء ) وإذا كان الملائكة لا يستكفون عن عبادته وهم المقربون فأولى بكم أيها الناس ثم أولى أن تكونوا له عابدين، وهم في عبادتهم مستمرون لا يكلون ولا يضجرون، ولذا قال تعالى نافيا الكلام :﴿ ولا يستحسرون ﴾ وهو افتعال من الحسر بمعنى انكشاف قواهم، وظهور مللهم، وكان النفي بصيغة الافتعال الدالة على قوة الكلال مع أن المقام يقتضي نفي أصله لا نفي الكلال القوى منه، إذ إن نفي القوى من أمر لا يقتضى نفس الضعيف منه، ولكن نقول كان نفى القوي من أمر لا يقتضى نفس الضعيف منه، ولكن نقول كان نفي القوى للإشارة إلى أنهم في حال كلال قوي، وكان يمكن أن يكلوا، ومع ذلك استمروا دائبين في عبادتهم مع شدة التعب، ولكن لا تعب في أمر ما داموا يرضون ربهم، وهنا يسأل سائل لماذا أفردوا بالذكر مع أنهم داخلون في ملكية الله تعالى، ولما ذكر أنهم عنده ؟ ونقول في الجواب عن ذلك : أفردوا لتعظيمهم ولقربهم من الله تعالى، ولأن بعض الناس كان يقدسهم، بل يعبدهم، فكان ذكرهم فيه عبرة لمن يعبدون الله تعالى، وذكر أنهم عنده لما ذكرنا تشريفا لهم، وللإشارة إلى قربهم من الله كما هو الشأن في الملوك، وقال الملا أبو السعود، إنهم عند الله تعالى بمنزلة المقربين من الملوك، ولله تعالى المثل الأعلى، وهو تقريب ليدركوا معاني القرآن. وقال تعالى في أوصاف الملائكة وأعمالهم :
﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ﴾.
﴿ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ﴾.
"أم" هي المنقطعة وهي تتضمن الإضراب الانتقالي، فانتقل النص القرآني بهم من إنكارهم الرسل وإنكارهم الآيات، وكل هذه أمور باطلة ولكنها سلبية في ذاتها تعدت إلى أمر إيجابي منهم، وهو باطل كالأمور السلبية على سواء، بل أشد وأعنف، وهو الباعث على إنكار ما أنكروا معه الرسل والآيات، والمعنى اللفظي للنص السامي، بل اتخذوا آلهة من الأرض، وكان الله يواجههم بإفكهم وافترائهم في عبادتهم، والاستفهام إنكاري منصب على ثلاثة أمور :
أولها – اتخاذ آلهة غير الله تعالى، فهو في ذاته ظلم مستنكر وبهتان عظيم.
والثاني- أنها آلهة من الأرض، وفي ذكر الأرض مقابلة بين هذه الآلهة المزعومة والعباد عند الله الذين لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحون ليلا ونهارا لا يفترون، والأرض التي اتخذت منها آلهتهم دون من عند الله فكيف يعبدونها، وفي ذكر الأرض استنكار آخر، وهو أن هذه الآلهة المزعومة من حجر من الأرض أو من جماد منها، لا يعقلون ولا يفكرون فكيف تكون آلهة، ومهما يكن فإن ما يكون متخذا من الأرض دون ما عند الله، من عند الله يعبدونه.
والأمر الثالث – أنكر عليهم أيضا بالاستفهام، وهو استفهام جديد وأحسب أنه لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع، فهم لم يقولوه، وهو في قوله تعالى :﴿ هم ينشرون ﴾ أن يحيون الموتى، وأصل نشر من نشر الثوب، ونشر الله تعالى الموتى فيه كشف لهم، وإخراج لهم من قبورهم أحياء، ولا شك أنهم لا يقولون بالنشر والبعث لهم، فهم يحسبون أنه لا يكون قط، ولكن النص أثبت عجز من زعموهم آلهة عنه، والله تعالى الذي يشركون به هذه الأحجار قادر على ذلك وعلى كل شيء، كما قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون ٢٩ ﴾ ( الأعراف ) وفي هذا توبيخ على عدم إيمانهم بالبعث مع ادعاء الألوهية لمن يصلح أن يكون إلها لأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا يجلب نفعا أو يرفع ضررا.
وقد بين سبحانه بعد ذلك استحالة الشرك بالدليل الفعلي الذي لا يزال حجية التوحيد فقال عز من قائل :
﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ﴾.
و﴿ إلا ﴾ هنا للوصف بمعنى "غير"، لأن الاستثناء في المستغرق يجب أن يكون المستثنى مستغرقا في المستثنى منه، ولا يمكن ذلك للغيرية المطلقة بين الاثنين، فلا ارتباط حتى يجعل أحدهما مستثنى من الآخر، فما قبلها لا يشمل ما بعدها بأي نوع من الشمول، والاستثناء المنقطع فيه نوع قرب وشمول بين المستثنى والمستثنى منه من وجه، والدليل مع أنه استثناء رفع لفظ الجلالة، إذ لو كان منقطعا لكان منصوبا، فدل على أنه لا استثناء قط، وعلى ذلك تكون "لا" وصفا بمعنى "غير".
والمعنى أنه امتنع التالي في هذه الشرطية، وهو الفساد، وإذا بطل التالي لأنه يخالف الحس، والوجود كله قائم شاهد بالصلاح، فالسماء والأرض كل قائم به الصلاح بدل الفساد، فالسماء بأبراجها وكواكبها ونجومها، والشمس سائرة في أبراجها ومساراتها بانتظام، والشمس والقمر كل في فلك يسبحون مما يدل على أن مدبرا للكون يدبره وينظمه، والشمس والقمر كل في فلك يسبحون مما يدل على أن مدبرا للكون يدبره وينظمه، ولا يمكن أن يكون كل ذلك بالمصادفة، والمصادفة لا يفرضها إلا إذا ثبت أنه ليس ثمة موجد منشئ، وذلك باطل، وإن إثبات الوحدانية بهذا الدليل العقلي الذي جاء به القرآن هو أقوى دليل جاء به المتكلمون لإثبات الوحدانية، وهو الذي يسمى عندنا بدليل التمانع، وقبل أن نقرره كما جاء في القرآن نقول : إن ذكر الآلهة لذكرها من قبل في قوله تعالى :﴿ أم اتخذوا آلهة ﴾ في الآية السابقة، فليس الدليل لمنع آلهة مع الله، بل هو لمنع أي إله مع الله تعالى العلي القدير.
وما يقرره علماء الكلام مقتبسين من استدلال القرآن أنهم يقولون : لو كان فيهما إلهان لتعارضت إرادتهما، فإن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر، وتوالي ذلك فهو الإله دون الثاني، وإن توافقت إرادتهما على الدوام فهو إله واحد، والاتفاق على الدوام غير ممكن لأن كل واحد منهما له إرادة مستقلة عن إرادة الآخر، فإن لم تخالف في كل أمر بالتخالف لا محالة ثابت في بعض الأمور، وفوق ذلك عند التوافق، فهو يؤدي إلى أن يكون العقل الواحد يتوارد عليه فاعلان، وذلك مستحيل، إذن فلا بد من فرض التخالف، والتخالف يؤدي إلى تحقق أمرين متضادين، وذلك محال فما أدى إليه محال أيضا، وإن نفذت الإرادتان بعد التسليم بذلك المحال، فسد الوجود، وهو الصلاح كله، وإذا بطل الفساد بطل ما أدى إليه، فكان الله واحدا أحدا فردا صمدا، وقد قال تعال :﴿ فسبحان الله رب العرش عما يصفون ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي يترتب على بطلان التعدد أن يكون الله تعالى هو وحده الواحد، فتنزيها له وتقديسا عما يصفون من الإشراك به، وقد وصف الله تعالى ذاته بقوله :﴿ رب العرش ﴾ أي أن العرش له وحده لا شريك له.
وقد بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل فقال :
﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾.
أم هنا كالسابقة للإضراب والاستفهام، وهو إضراب انتقالي من اتخاذهم آلهة ليس لها قدرة في شيء، وأنه لو كان التعدد لكان الفساد. انتقل من هذا بالإضراب إلى بيان أن اتخاذ شريك لله تعالى لا يؤيده العقل بل يخالفه وينكره، وكل دعوى لا بد لها من دليل، ودليلها نقلي أو عقلي، فأين الدليل وقد طالبهم النص السامي والاستفهام الذي تتضمنه "أم" لإنكار الواقع أي لتوبيخهم على اتخاذهم آلهة غير الله تعالى، و﴿ من دونه ﴾ يعني غيره مع قيام الدليل العقلي على أن ذلك لا يجوز بدليل التمانع في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ ومع هذا التوبيخ طالبهم الله تعالى بأن يأتوا ببرهان على صحة ما يدعون، وما يفتاتون، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بالبرهان :﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾ وكانت هذه المطالبة من الرسول صلى الله عليه وسلم لإفحامهم ولبيان عجزهم عن أي دليل، وأي مبرر معقول أو غير معقول، وإلا فكيف يستطيع العاقل أن يجد دليلا أو مبررا يبرر به عبادته لحجر لا ينفع ولا يضر، أو لإنسان خلقه الله تعالى كما خلق كل شيء.
وليس لديهم أي دليل عقلي، ومع ذلك ليس عندهم دليل من النقل، بل الدليل النقلي، وما عليه الرسل يناقض ما يقول، ولذا قال الله حكاية عن تنبيه :﴿ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ﴾ "ذكر" بمعنى "تذكير" وهو هنا من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أي هذا تذكير الذين فيهم وهم من معه، وهو القرآن ليس فيه إلا التوحيد الخالص والشرائع النزهة الطاهرة عن كل ما فيه شرك بالله ﴿ وذكر من قبلي ﴾ أي هذا تذكير من كان قبلي من الناس لقد ذكرهم رسلهم بالتوحيد، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية والغاية واحدة، لأن القرآن يكون فيه الذكر لمن معه، والتوراة والإنجيل والزبور فيها الذكر لمن كان قبله صلى الله عليه وسلم.
فقد كان الانتقال من طلب الدليل المثبت إلى تقديم الدليل مما ادعوه واتخذوه من عبادة الأوثان، ثم قال تعالى :﴿ بل أكثرهم لا يعلمون الحق ﴾ والإضراب ب"بل" هنا للإشارة إلى أنهم طمس الله على بصيرتهم فصاروا لا يعلمون الحق ولا يدركونه، ولا يعرفون السبيل إليه، لأن قلوبهم غلف، ولا سبيل لأن يعرفوا الحق بها ويرشدهم ﴿ فهم معرضون ﴾ "الفاء" هنا للسببية أي أن ذلك بسبب أنهم معرضون، فهم حائرون بائرون، لا يرشدون بعقولهم، ولا يستمعون إلى مرشد يرشد، بل يعرضون عنه إعراضا.
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ٢٥ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ٢٧ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ٢٨ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ٢٩ ﴾.
هذه الآيات متصلة بما قبلها، فهي بيان إيجابي يعلم الناس أن النبيين جميعا كانت رسائلهم تدعو إلى التوحيد، وما جاءوا إلا لبيانه، فهو تأكيد للدليل النقلي الذي أشار إليه قول النبي :﴿ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ﴾.
يقول تعالى مؤكدا هذا المعنى الخاص بالتوحيد :
﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾.
هنا نفى وإثبات، وهو نفي مستغرق استغراقا كاملا، ف "من" الثانية لاستغراق الرسل وقوله :﴿ من قبلك ﴾ أي الذين سبقوك، فما كنت بدعا من الرسل إذا دعوت إلى التوحيد، فهو لب الرسالات كلها، وما عداه لا يمكن أن يكون دينا، بل هو أوهام باطلة لا تقوم على دعائم من حق أو عقل فالعقل يمنعها، والحق يجافيها.
﴿ إلا نوحي إليه ﴾ بيان أن هذا التوحيد هو أمر من الله، ووحي من عنده، والعرب يعرفون الله تعالى بأنه الخالق الذي يلجأون إليه في شدائدهم، ولا يعرفون غيره إذا أحيط بهم، فهو الذي أمرهم بالتوحيد على لسان كل الرسل :﴿ لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾، الضمير "أنا" في محل رفع، ولذا جاء بضمير الرفع، وقوله تعالى ﴿ فاعبدون ﴾ "الفاء" تفيد أن ما بعدها مسبب على ما قبلها، فإذا كان لا إله إلا هو فلا يعبد غيره، ولا يعد قد عبد الله تعالى إلا إذا عبده وحده، فالاشتراك على أي صورة من صوره ليس فيه عبادة لله تعالى.
ولقد بين سبحانه وتعالى بطلان الذين يعبدون الأشخاص، كما بين بطلان عبادة الذين يعبدون الأوثان، فإن الجميع مشركون في العبادة، بيد أن الذين يعبدون الأشخاص يسرفون على أنفسهم فيدعون أنهم أبناء الله :
﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ﴾ أي جعل له ولدا، وكلامهم ينبني عن احتياجه سبحانه إلى ولد، لأن الاتخاذ لا يكون إلا عن حاجة، وقوله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي تنزه وتقدس عن ذلك ﴿ بل ﴾ إضراب وردّ لقولهم، ﴿ عباد مكرمون ﴾، أي كرمهم الله تعالى وهم عباده، فعيسى عبد الله، ولا يستنكف أن يكون عبدا، والملائكة المقربون لا يستنكفون أن يكونوا عبيدا له.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حالهم فقال عز من قائل :
﴿ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ﴾.
﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾.
ذكر الله تعالى أنهم في قبضته، وهو عالم بكل أحوالهم ﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾، وهذا يكنى به عن حاضرهم، لأنه بين أيديهم يفعلونه ويدورون فيه تحت سلطان إرادته، وعلى مقتضى علمه، وجميع ما يفعلون وما يفكرون تحت عين الله وفي رقابته ﴿ وما خلفهم ﴾ ويعلم سبحانه ما هو خلف أعمالهم، أي ما يجيء في المستقبل، ى فهو يعلم حالهم في حاضرهم وفي قابلهم الذي يخلف حاضرهم، فهم في سلطان الله تعالى مع تقريبهم وتفضيلهم وتكريمهم. وليس ذلك شأن من يتخذه ولدا، بل هو شأن من يكون من عباده.
﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ أي لا يشفعون لأحد إلا إذا كان مرتضى لله، ورضي الله أن يشفع كما قال تعالى :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ٢٥٥ ﴾ ( البقرة )، وكما قال تعالى :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من إذن له الرحمن ورضي له قولا ١٠٩ ﴾ ( طه )، فهم في شفاعتهم لا يسبق قولهم قول ربهم إنما قول الله تعالى هو السابق، وهو الذي يأذن لهم بالقول شفاعة أو غيرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا ثالثا، وهو حال دائمة مستمرة لهم فقال :﴿ وهم من خشية مشفقون ﴾ الخشية الخوف مع التعظيم والضراعة والاستسلام لله عز وجل، فهم في شفاعتهم لا يسبق قولهم قول ربهم إنما قول الله تعالى هو السابق، وهو الذي يأذن لهم بالقول شفاعة أو غيرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا ثالثا، وهو حال دائمة مستمرة لهم فقال :﴿ وهم من خشيته مشفقون ﴾ الخشية الخوف مع التعظيم والضراعة والاستسلام لله عز وجل، ولذا اختصت بالذين يعلمون عظمة الله تعالى وجلاله، فقال تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ٢٨ ﴾ ( فاطر )، الذين علموا الله تعالى وعرفوه حق معرفته.
والإشفاق : الخوف مع توقع ما يخافونه، فهو خوف مع عناية بما يجئ به الزمن، وإن ذلك الإشفاق يكون من كمال العلم بالله واستشعار عظمته، وامتلاء النفس بمهابته، وذلك شأن من كانوا خاضعين، وليس شأن من زعموهم آلهة مع الله مناظرين، وإن هذه حال من قربوا من الله فهم أدرك لعظمته، وأكثرهم علما بقدرته، وحكمته وكماله.
وإن هذا التعبير الكريم يدل على دوام هذه الحال، لأن الجملة حالية أولا، ولأن الجملة اسمية تدل على الاستمرار ومؤكدة بالضمير، والله سبحانه أعلم بحالهم، فهم المقربون.
ولكنهم مع قربهم من الله تعالى، وأنهم المكرمون، لو انحرفوا عن الطريق لنالهم جزاء الضالين المضلين، ولذا قال تعالى :
﴿ ومن يقل منهم إني إله من دونك فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ﴾.
وفي هذا النص إشارة واضحة إلى أن الذين يعبدون المقربين كعيسى ابن مريم، وكالملائكة المقربين لا يغضبون الله وحده، بل يغضبون من يعبدونهم ويخالفونهم، فالذين يقولون عيسى ابن الله أو الرب أو إله يعصون أول ما يعصون عيسى عليه السلام، وكذلك الذين يعبدون الملائكة المقربين.
والظلم المذكور في الآية هو ظلم الإشراك، وظلم المعصية، وظلم تضليلهم، وانهواء عقولهم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ٣٠ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ٣١ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ٣٢ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ٣٣ ﴾.
هذا كلام موصول لبطلان الشركاء لله تعالى ببيان إبداعه في خلقه، سواء أكان أولئك الشركاء المزعومون أحجارا أم تماثيل أم تماثيل أم أوثانا، أم ادّعوا أن الله بديع السماوات والأرض اتخذهم أبناء، وذلك البطلان ببيان عظمة خلقه.
﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانت رتقا ﴾ "الواو" عاطفة، وتقدمها الاستفهام، وتقدير القول : وألم ير الذين كفروا، والاستفهام له الصدارة دائما، والاستفهام، وتقدير القول : وألم ير الذين كفروا، والاستفهام له الصدارة دائما، والاستفهام لإنكار الوقوع أي أنهم لم يروا وكان حقهم أن يروا، والرؤية ليست رؤية البصر، ولكن رؤية العلم والبصر والإدراك، لأن أحدا لا يرى السماوات والأرض رتقا، والرتق : الضم والالتحام خلقة كان أو صنيعة، وقد قال الأصفهاني في مفرداته : كانتا رتقا أي منضمتين، والمتتبع لآيات القرآن في بيان خلق السماوات يرى أن النصوص تتضافر على أنهما كانتا شيئا واحدا كان كالدخان، أو هو ما يعبر عنه علماء الكون بالسديم، لأنه مثل الدخان، وقد ذكرت شيئا مثل ذلك في تفسير ستة الأيام التي جاءت في عدة سور، وقلنا إنها ستة أدوار، وليست أدوار، وليست ستة أيام زمنية، لأن الأيام التي جاءت في عدة سور، وقلنا إنها ستة أدوار، وليست ستة أيام زمنية، لأن الأيام مقدرة بالليل والنهار وهما كانا بعد خلق السماوات والكواكب والنجوم والشمس والقمر، واقرأ قوله تعالى :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ٩ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ١٠ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ١١ فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ١٢ ﴾ ( فصلت ).
فإن هذه الآيات تشير إلى أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا، وكانت السماء ومعها الأرض دخانا، وهو ليس الدخان الذي نعرفه، لأن الدخان الذي نعرفه هو الناتج من اشتعال نار من حطب أو نحوه من أي حطام، وما كان ذلك قبل السماء والأرض، فإذا قلنا إنه الذي سماه علماء الكون السديم، لا نكون مباعدين، بل نكون مقربين غير مدعين على القرآن ما ليس فيه، وتكون الأرض قد خلقت في ستة أيام أي أدوار في التكوين بتدبير الله العزيز العليم، فخلق الله الأرض في يومين هما دور انفصالها عن الكتلة الشمسية، وتكوين طبقتها الأرضية الظاهرة، وبقاء باطنها ملتهبا كأصلها، ويبدو أحيانا شيء منه في براكين تقذف بالحمم والسعير، وبعد أن تكونت القشرة الأرضية كانت أربعة أدوار أخرى، فيها تكونت الجبال الرواسي، والسبل الفجاج، وتكون السحاب والمياه العذبة، والإنسان والحيوان والزروع والثمار، وكانت الأرض، هذا المهاد والفراش، وانتهى أمر الله بأن جعل من الماء كل شيء حي، فكان النبات والحيوان من الماء العذب، وكانت البحار موطنا ومحيا للسمك اللحم الطري.
﴿ ففتقناهما ﴾ "الفاء" عاطفة للترتيب والتعقيب، وكان التعقيب لأنه لم يكن بين الرتق والفتق أمر كوني آخر، وكل شيء من فعل الله تعالى يكون بقوله تعالى :"كن فيكون" ولا فاصل من الزمان بين قول الله "كن" وما يكون.
وقوله :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ كان فيه أدوار أربعة، كما قدر العزيز الرحيم، ثم قال تعالى :﴿ أفلا يؤمنون ﴾ "الفاء" لترتيب التوبيخ بعدم الإيمان على ما قبلها، و"الفاء" مؤخره عن تقديم، والمعنى : فألا تؤمنون، والاستفهام لإنكار الواقع وهو عدم الإيمان، وإنكار الواقع بمعنى التوبيخ والتعجب من الكفر مع قيام الأدلة على وجوب الإيمان، فالفاء لترتيب التوبيخ على ما بين الله تعالى من خلق السماوات والأرض من خلق الأرض من السماء وخلق الأرض في ستة أيام.
﴿ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ﴾.
الرواسي هي الجبال، وهي جمع راس، وفواعل تكون جمعا لما فيه التاء، وتكون جمعا للخالي من التاء، إذا كان وصفا لا يعقل، وهي هنا وصف للجبال.
قوله تعالى :﴿ وجعلنا في الأرض رواسي ﴾ وهنا ذكر الوصف وحذف الموصوف، أي جبالا رواسي أي ثابتة، والجعل خلق لأمر موصوف بوصف معين، والخلق مجرد الإنشاء، أما الجعل فهو خلق لأمر أراده الله تعالى في التكوين، وهو أن يكون لأمر نافع للعباد، كما قال تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين... ١٢ ﴾ ( الإسراء ) وعلل الله كونه خلق الجبال وجعلها رواسي بقوله تعالى :﴿ أن تميد بهم ﴾ والميد الاضطراب الشديد والحركة التي لا يكون معها قرار وثبات، ويتحقق أن تكون فراشا، وأن تكون مهادا، ومستقرا، وتقديرا القول كما قال البصريون : كراهة أن تميد فتضطرب، ولا يكون لها قرار تثبت النفوس فيها وتطمئن وتسكن، وقال الكوفيون : إن معنى ﴿ أن تميد بهم ﴾ : لئلا تميد بهم، وهو تقدير لفظي اختلف فيه، ولا يغير من المعنى اختلاف الآراء، بل المعنى في التقدير أن الجبال رواسي، فلا تضطرب الأرض وتكون فراشا وقرارا ومهادا.
وقال تعالى :﴿ وجعلنا فيها فجاجا سبلا ﴾ الضمير في "فيها" قيل يعود إلى الجبال، والمعنى جعلنا في الجبال فجاجا فيما بينها، وهي الشُّعب التي تكون بين الجبال أو في الجبال نفسها، فمع أنها راسيات تكون فيها طرق يستطيع السائر أن يسير فيها في علوها، كما ترى في جبال الأطلس في الجزائر وتونس والمغرب.
ولكنا نرى أن الضمير يعود إلى الأرض، أي جعلنا في الأرض فجاجا أي طرقا واسعة، فالفج هو الطريق الواسع، وهو في أصل وصفه للطريق بين الجبلين كأنه شق بينهما شقا، وتوسع فيه حتى صار يشمل كل طريق، جاء في المفردات : الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع، وجمعه فجاج، قال تعالى :﴿ من كل فج عميق ٢٧ ﴾ ( الحج ).
وقد اخترنا – كما ذكرنا- معنى الطريق لأمرين أولهما : أنه سبحانه وصف الفجاج بأنها سبل أي سبل معبدة، وثانيهما : أنه سبحانه وصفها بأن الغاية منها أن تكون طريقا للهداية والتعرف لمسالك الأرض في غير ضلال في متاهاتها، وهذا أنسب لمعنى الطريق الواسع.
قوله تعالى :﴿ لعلهم يهتدون ﴾ أي لتدركوا الهداية في طرائق الأرض، وألا تتيهوا في متاهاتها، وإنه بهذه الفجاج لعلكم ترجون الهداية، فهم إذا أدركوا أن الله تعالى جعل لهم الفجاج سبلا ليهتدوا إلى مصالحهم في معاشرهم وعامة أمورهم ولكيلا تتيهوا في ضلالها، عساهم يهتدون لوحدانيته رب العالمين.
أي خلقنا السماء خلقا، وجعلناها محفوظة من أن تنتثر نجومها، إذ تبدو متفرقة غير متماسكة، وهي متماسكة مترابطة بجاذبية كأنها أرسان١ تربطها بعضها ببعض، فلا ينفصل نجم عن مدار بالنسبة لنجم آخر، وهذا كقوله تعالى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن نزولا... ٤١ ﴾ ( فاطر ) وإمساكهما أن يكون كل منهما في مكانه، ولقد قال تعالى :﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ٦٥ ﴾ ( الحج )، وإنها لمحفوظة من كل شيطان، كما قال تعالى :﴿ وحفظناها من كل شيطان رجيم ١٧ ﴾ ( الحجر ) وحفظها سبحانه بأبراجها، وبعلوها، وكما قال تعالى :﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها... ٢ ﴾ ( الرعد ) وكما قال تعالى :﴿ والسماء ذات الحبك ٧ ﴾ ( الذاريات ) وهي زينة الوجود جديرة بأن تحفظ، وجعلها الله تعالى محفوظة. كما قال تعالى :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ٦ ﴾ ( ق ).
﴿ وهم عن آياتها معرضون ﴾ وفي السماء آيات متكاثرة، فالبروج والنجوم المتلألئة، والكواكب السيارة، وكل منها مسخر بأمره، فالشمس وما تكون بها من حرارة ودفء وضياء وأشعة تنبت الزرع وتنمّيه، وما يكون في دورة الشمس من فصول السنة من صيف وشتاء وما فيها، والقمر من آيات يعرف بها الحساب، وكما قال الله تعالى :﴿ وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ٥ ﴾ ( يونس )، وهذه كلها آيات تدل على الخبير، وأنه واحد أحد فرد صمد لا إله إلا هو لكنهم عن كل هذا معرضون.
ومن كان معرضا عن آيات السماء ذات البروج فهو في أعظم الجهل.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك أمرا محسوسا يحسونه، وهو من آيات السماء فقال :
﴿ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ﴾.
و﴿ كل في فلك يسبحون ﴾ التنوين هنا عوض عن المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر في فلك أي في مدار ﴿ يسبحون ﴾ وهنا شبه جريانها بالسبح، يسبح في اليم، لأنه يجري في فلكه بقدرة أودعها فيه، وبنظام ثابت، والضمير عاد ضمير العاقل ترشيحا للاستعارة، لأن السابح عاقل يدخل في العقلاء عادة، فلما جاء التعبير بالسبح جاء معه وصف من يكون فيه عادة.
وكان الضمير ضمير الجمع للإشارة إلى طوالع الشمس والقمر المتكرر الذي جعلهما جمعا، ولأن الطوالع تختلف معها الشمس، فتكون الشمس قريبة من الأرض في أحد مطالعها وتكون بعيدة عنها في مطلع آخر، والقمر يبدو في النظر هلالا، ثم يكبر حتى يصير بدرا، ولذلك كانت الشمس والقمر بمطالعهما متعددين، فصح أن يعود إليهما الضمير ضمير الجمع.
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأين متّ فهم الخالدون ٣٤ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ٣٥ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ٣٦ خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ٣٧ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ٣٨ ﴾.
كان المشركون يتمنون موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويعيرونه بأنه بشر يموت، وإذا مات فإن آلهتهم تنجو من سبه وتعييبهم، فبين الله تعالى أنه سيموت، وهم يموتون، كما قال تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ٣٠ ﴾ ( الزمر )، ولذا قال تعالى :﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ﴾ وإن كونك بشرا يقتضي أن تموت وتبعث ككل البشر، فما قدرنا لبشر من قبلك الخلد والبقاء، والجعل هنا التقدير، أي ما جعلنا الخلد لأحد قبلك من آدم إلى عصرك، ولست بدعا من بين البشر، وإذا كانوا يتمنون موتك، فليعلموا أنهم أيضا ميتون، ولا يعلم إلا الله تعالى، من يموت قبلا، ولذا قال تعالى :﴿ أفإن مت فهم الخالدون ﴾ "الفاء" لترتيب ما بعدها مع قبلها، أي إذا كنت ستموت لا محالة فهل هم خالدون ؟ فالاستفهام الذي في حيزه الفاء مترتب على نفي الخلود عنه صلى الله عليه وسلم، والاستفهام داخل على مضمون الشرطية، وهو استفهام إنكاري فيه نفي الوقوع، والجملة الشرطية محطها الجواب، والمعنى إن مت لا يخلدون بل ينتهون أيضا، فلا يصح أن يتمنوا موتك، ولا يصح أن تشمتوا فالموت حق على كل نفس، ولذا قال تعالى مؤكدا موتهم وموته صلى الله عليه وسلم :
﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾.
و﴿ فتنة ﴾ مفعول مطلق، لأنه مصدر في معنى "نبلوكم" وإن لم يكن بلفظه، فالإنسان في موضع اختبار في النفع والضر، فإن أعطى الخير فشكر، فله الجزاء، وإن كان حرمان فصبر فله الجزاء ويختبر بفتنة الضر، فيلقى إليه الضر ويراه محبوبا، والشهوات لينزع عنها، فيكون في ابتلاء، إن صبر أجر، وإن رتع فيها رتعا جوزي بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والصبر على النعمة بشكرها فيه الثواب، والصبر على النقمة باحتمال آلامها من غير أنين ولا ضجر يستحق به الثواب، ويقول سبحانه :﴿ وإلينا ترجعون ﴾ تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أي ترجعون إلينا وحدنا، ويكون الملك يومئذ لله فيكون الحساب ثم الجزاء للطائعين والعقاب للعصاة، وفي هذا إنذار للذين لا يطيعون أمر الله تعالى، وقد صور سبحانه وتعالى إعراضهم في استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم للحق فقال عز من قائل :
﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ﴾.
و﴿ يذكر آلهتكم ﴾فيها معنى إعلاء آلهتهم، وتصغير شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومثلهم كمثل فرعون من موسى ﴿... هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ٥٢ ﴾ ( الزخرف ) فهو استفهام للتعجب والاستغراب من أن هذا للتواضع، والتواضع عند أهل الفساد ضعة، لأن مقياس الخير والشر عندهم القوة، وقاعدتهم : من لا يظلم الناس يُظلم.
﴿ وهم بذكر الرحمن هم كافرون ﴾، و﴿ بذكر الرحمن ﴾ أي تذكير الرحمن لهم فهو من إضافة المصدر إلى فاعله ﴿ كافرون ﴾ أي جاحدون، وهنا أمران يجب الإشارة إليهما :
أولهما – تقديم ﴿ بذكر الرحمن ﴾ على ﴿ كافرون ﴾ وهو يدل على التخصيص، أي هم بذكر الرحمن وحده كافرون فهم كافرون بالوحدانية.
الأمر الثاني- ذكر الله تعالى موصوفا بصفة الرحمن، وفي ذلك إشارة إلى أن بعث الرسل وخصوصا محمدا صلى الله عليه وسلم هو من الرحمة كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ١٠٧ ﴾ ( الأنبياء ) ونقول : إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن مهينا، وإن كان متواضعا وديعا، متطامنا موطأ الكنف ولكنه كان ذا هيبة إذا اشتدت سخريتهم، يروى عبد الله بن عمروا بن العاص عن يوم من أشد الأيام التي لقيها النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت والملأ من قريش بفناء البيت، فكان إذ مر بهم وهو يطوف غمزوا بالقول، فبدا أثر ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتم الطواف التفت غمزوا بالقول، فبدا أثر ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتم الطواف التفت إليهم وقال :"شاهت هذه الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس، يا معشر قريش لقد جئت بالذبح"، فما كان إلا من يقول يرفؤه بأحسن القول، ويقول : اذهب أبا القاسم موفورا ما علمنا عنك إلا خيرا ١فكان عليه السلام مهيبا، ولم يكن مهينا، ولكن تطامن ليدخل الناس في الدعوة مختارين اختيار كاملا لا رهبة فيه.
العجل هو العجل والتسرع والسبق إلى مخاطر الأمور من غير تفكير، ومعنى أنه خلق من عجل، المبالغة في عجلته كما يقال خلق من كرم مبالغة في الكرم، وكما قال تعالى :﴿... خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة... ٥٤ ﴾ ( الروم ) وقوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ نظيره ومؤداه ﴿.... وكان الإنسان عجولا ١١ ﴾ ( الإسراء ) وهذا التعبير فيه تأكيد في عجلته، وكأنه يكون من عجلة، وهذا كناية عن استعجاله للأمور، وفيه مجاز بتشبيه في عجلته وكونها طبعا له غير منفصل عن ذاته بأنه خلق منها طبعا له لا تنفصل عنه، وهم يستعجلون دائما ما أوعد من عذاب، كما قال :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات... ٦ ﴾ ( الرعد ) فهم يستعجلون العذاب كأنهم يتحدون الله، والله أمهلهم لحكمة يعلمها، وكل شيء عنده بمقدار، وإذا كانوا يتحدون مستعجلين فالله تعالى ينذرهم ويخبرهم بأنه آتيهم لا ريب فيه، ويقول سبحانه :﴿ سأريكم آياتي فلا تستعجلون ﴾ الآيات هي آيات القدرة والقهر بالنذر التي تومئ، بغلبة محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به، وبالريح العاصف التي غلب بها محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، هذه آيات بينات على ما ينزل بالكافرين لكفرهم ونصرة الحق عليهم، و"السين" هنا لتأكيد الفعل في المستقبل، وإسناد الفعل إلى الله تعالى فيه تأكيد الوقوع، ورؤيتهم لهذه الآيات هي رؤية معاينة لا رؤية علم ونظر فقط ﴿ فلا تستعجلون ﴾ أي لا تطلبون العجلة من أمر هو واقع فيكم لا محالة، واستأنوا فإن ما تطلبون نازل.
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾.
أي يقولون مستعجلين وعد الله تعالى بالهلاك إن استمروا على كفرهم، ووعد الله المؤمنين بالغلب والقدرة، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، يقولون ذلك إنكارا وتحديا وإعناتا، لأنهم مأسورون بالحاضر لا يدركون شيئا وراءه، فهم لا يتصورون أن يكون هؤلاء الضعاف الذين يستذلونهم ويفرضون عليهم الذل ويؤذونهم سيكون لهم الغلب يوما من الأيام، لا يتصورون أن يجلس عبد الله بن مسعود فوق أبي جهل ويحز رقبته، وأن يقتل بلال من كان سيدا له في مكة، وهو من سادات قريش، لا يتصورون ويستبعدون أيضا عذاب يوم القيامة لهم دون المؤمنين، ويظنون أنه إن كان بعث أو عذاب، فلن يكونوا هم وقودها، بل يقيسون الآخرة على الدنيا، ويبلغ بهم التحدي بعد استطالتهم أمد العذاب فيقولون :﴿ إن كنتم صادقين ﴾ والمخاطب محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه الكرام، أو المخاطب الدعاة إلى الله من رسل وأتباعهم، ويتجهمون ويتحدون الله، ولكنهم ضالون، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ٣٩ بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردّها ولا هم ينظرون ٤٠ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ٤١ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ٤٢ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصبحون ٤٣ بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ٤٤ ﴾.
استطالوا الزمن واستعجلوا العذاب، وتحدوا الله ورسوله أن يأتوا بالعذاب إن كانوا صادقين فبين الله تعالى هوله إذا جاءهم وأنه لا يأتيهم يوم القيامة إلا بغتة، وأنه بعده عذاب لا يتصورونه ولا يدركونه، وإن المشركين كانوا يتحدون الرسول أن يأتي بما وعد به من عذاب إن كان صادقا، فبين سبحانه أن ذلك التحدي من جهلهم، ثم بين مآلهم من عذاب يلقونه، وأن القيامة التي يكون وراءها العذاب تأتيهم بغتة وذكر العذاب قبل القيامة مع أنه بعدها وبعد الحساب فقال :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ﴾ أي يحيط بهم، وذكر الوجه والظهر لأنه إذا أحاط بهما أحاط بالجانبين لا محالة فلا يصل إلى الظهر إلا إذا أحاط بالشمال واليمين، فالنار تحيط بهم، ولا يستطيعوا كفها وذلك العجز عن كفها لأنه يقتضى الإحاطة بهم، كما قال تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش... ٤١ ﴾ ( الأعراف ) وكما قال تعالى :﴿ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ٥٠ ﴾ ( إبراهيم )، وكما قال تعالى :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل... ١٦ ﴾ ( الزمر ).
و﴿ لو يعلم الذين كفروا ﴾ العلم هنا بمعنى المعرفة، وهي الجزم المطابق للواقع، وعبر بالمضارع لتصوير حالهم عندما يعاينون العذاب، وينزل بهم العذاب الشديد، وجواب الشرط محذوف يدل على عظيم الهول وتقديره لرأوا هولا لم يدركوا كنهه، ولم يعرفوا أمره، كما في قوله تعالى :﴿... ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب... ١٦٥ ﴾ ( البقرة )، وعبر تعالى بقوله :﴿ الذين كفروا ﴾ للإشارة إلى أن الكفر هو سبب ذلك الهوان العظيم، ﴿ ولا ينصرون ﴾ أي أن العذاب ينزل بهم، لا يستطيعون كفه ولا يوجد من ينصرهم، ويكف عنهم، هذا ما يستعجلونه، ويتحدون أن يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تحدوا أن يذكر لهم متى هذا الوعد، وهو يوم القيامة، وقد بادر سبحانه بذكر ما يكون لهم في هذه مما لا يسوغ لهم أن يستعجلوه، ثم ذكر لهم أنه لا يأتي في وقت معلوم، بل يأتي فجأة فقال :
﴿ بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردّها ولا هم ينظرون ﴾.
و﴿ بل ﴾ هنا للإضراب الانتقالي وتضمن الرد على طالبي ميعاد للوعد، وقد استبطأوه، والمعنى بل تأتيكم بغتة أي فجأة على غير ترقب وتوقع وانتظار منكم ﴿ فتبهتهم ﴾ أي تفاجئهم فتدهشهم وتحيرهم، وتحيط بهم ﴿ فلا يستطيعون ردّها ﴾ أي لا يستطيعون دفعها، بل إنها الواقعة التي لا مناص منها، ولا خلاص ولا انفكاك عنها، ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ لا يمهلون، فلا يستطيعون تأجيلها فيه محدودة، بميقات معلوم عند الله سبحانه وتعالى.
كان الني صلى الله عليه وسلم إذا عرض عليهم الدعوة إلى التوحيد ردوها، وإذا مر بهم استهزأوا ساخرين، وإذا رأوه استصغروه، وهو القوى، فواساه الله تعالى بذكر أن الاستهزاء شأن الكافرين، وهو دليل عجزهم، وإن استطالوا بألسنتهم وأفعالهم.
ولذا قال تعالى :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبل فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ﴾.
وإنهم محاسبون على استهزائهم، لقد حسبوه لغوا من الأقوال والأفعال، وهو عند الله عظيم، لأنه كفر وعناد وخسة، ولذلك كان له عقابه في الدنيا والآخرة، وقال تعالى :﴿ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾.
"الفاء" تدل على أن ما بعدها مسبب لما قبلها، وقد صرح بهذه السببية، فخص سبحانه وتعالى نزول العذاب أو العقاب بالذين سخروا منهم، فذكر الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، وكان الإظهار في مقام الإضمار، لبيان هذه السببية، و( حاق ) معناها نزل بهم وأصابهم، وقد خص الساخرين بعقاب خاص لأنهم في معارضتهم بهذا النوع من المعارضة كانوا أخساء في ذات أنفسهم، فمن ذا الذي يجعل أبا جهل في معارضته للإيمان كأبي سفيان، فالأول خسيس والثاني فيه شرف، ولقد قال وهرقل يسأله عن محمد بن عبد الله : لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت.
وقال تعالى :﴿ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ والمراد عذاب الاستهزاء لا ذات الاستهزاء، ولكنه سبحانه عبر بأن الاستهزاء ذاته هو الذي يحيق للإشارة إلى الجزاء وفاق للجريمة فهو هي، لبيان المساواة العادلة، و﴿ ما ﴾ في قوله ﴿ ما كانوا به يستهزؤون ﴾ مصدرية، أي استهزاءهم.
والجزاء الذي ينزل بهم هلاك في الدنيا، وقد جاء قصص القرآن بهلاكهم في آيات كثيرة، وعذاب أليم في الآخرة.
﴿ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ﴾.
هنا التفات، فقد كان الكلام في استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاء من كانوا قبلهم بالأنبياء السابقين، ثم التفت القول إلى المستهزئين من قريش، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :﴿ قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ﴾ أي قل يا رسول الله : من يحميكم ويبقيكم ﴿ من الرحمن ﴾ أي من عذابه وعقابه الدنيوي، والكلاءة بكسر الكاف مصدر كلأ هي الحماية والتبقية، وقد قال الأصفهاني في مفرداته : والكلاءة، حفظ الشيء وتبقيته يقال كلأك الله وبلغ بك أكلأ العمر.
والنص السامي يفيد أمورا ثلاثة :
أولها- بيان نعمة الله تعالى عليهم في حفظهم وتبقيتهم مع عظيم جرائمهم في مأوى يسكنون فيه، ويقيهم الحر والبرد، ويمدهم بالغذاء والكساء لحفظ أنفسهم من الموت. ولتبقيتهم إلى أن يقضي أمرا كان مفعولا، فهم في كلاءة الله تعالى المستمرة حتى ينزل بهم ما هم أهل له.
الثاني : ما يضمنه من إنذار شديد لهم، وأن الله تعالى الذي كلأهم هو مسيطر عليهم منزل بهم ما يستحقون، فهو يمهل ولا يهمل.
الثالث- أن هذه الوقاية من الرحمن أي عذابه، ووصف سبحانه ذاته العلية بالرحمن، للإشارة إلى أن نزول العذاب بهم بعد هذا الاستهزاء من دواعي رحمته، لأن عذاب المجرمين من الرحمة، لأنه إذا كان عذابا للفجار فهو رحمة بالأبرار، فمن الرحمة ألا يسوى بين المحسن والمسيء.
﴿ بل هم عن ذكر ربهم معرضون ﴾ الإضراب هنا إضراب انتقالي من وصف إلى وصف للمشتركين، فهم يستهزئون ويجهلون ولا ينتبهون مع وجود المنبه المرشد الذي يرشدهم إلى ربهم، وبذكره لهم، وأثبت أنهم معرضون عن ذكر ربهم أي تذكره، ف ﴿ ذكر ربهم ﴾ من إضافة المصدر للمفعول، وهم في غفلة مستمرة عنه، مع أنه خالفهم وحافظهم وفي كل حياتهم ما يُذكّرهم، والجملة الاسمية مؤكدة لاستمرار الإعراض، وقلوبهم غلف لا تفتح لذكره سبحانه وذكر آلائه ونعمه، وهنا أمران بيانيان :
أولهما – أن الله تعالى في ذكر نعمة الكلاءة من عذاب الرحمن، وقد ذكر الليل قبل النهار، لأن المفاجآت بالعذاب تكون فيه أكثر، ووقعها أشد، ولأن الليل حيث يكون الاطمئنان فالمباغتة تكون فيه أشد.
ثانيهما- أن الاستفهام هنا للتذكير والتنبيه، إلى ما هم فيه من نعم واقية، وإيجابية، والله تعالى أعلم.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيهم من العذاب الذي يستحقونه لا آلهتهم، ولذا قال :
﴿ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصبحون ﴾.
وكان الضمير على الأوثان ضمير العقلاء مجاراة لهم في عبادتهم، وليس اعترافا بأنها تعقل. الوصف الثاني، وصف المشركين، وهو قوله تعالى :﴿ ولا هم منا يصبحون ﴾ أي يجارون، وهذا تفسير ابن عباس الذي رواه عنه مجاهد، واختاره الطبري، ونحن نوافقه في هذا الاختيار، والمعنى على هذا لا تنصرهم أوثانهم، والله لا يصحبهم بجوار يمنعهم لأنهم مشركون، ولا جوار من الله لمن يشرك به ولا يعبده وحده.
ولقد أشار سبحانه إلى السبب في إصرارهم على الشرك، ومعاندتهم لدعوة التوحيد، فقال عز من قائل :
﴿ بل متعنا هؤلاء وآبائهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾.
متعوا بكل ذلك، والمتعة من غير إيمان تغرى بالشر، واستمرارها يؤدي إلى طمس النفس عن المعارف الدينية، ولقد كانت هذه المتع تتسلسل فيها الأنباء عن الآباء، ولذا قال تعالى :﴿ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر ﴾، و﴿ بل ﴾ هنا للإضراب الانتقالي، بأن انتقل من المظاهر التي بدت في شركهم وإعراضهم عن الله تعالى إلى بيان الحال النفسية التي كانوا عليها حتى أغرتهم بالتطاول على الله وعلى الحق، وسيطرت عليهم الأوهام، وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى تحجرت عليها قلوبهم، وصارت قلوبهم غلفا، وصاروا صما عن سماع الحق بكما عن المنطق به وركبتهم الطغواء، حتى صاروا لا يرون ما هو واقع، ولا يتوقعون إلا ما يتفق مع أهوائهم، ولا يعرفون أن الأمور التي استكنها الغيب لهم لا ترضيهم، ولذا قال تعالى :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرفها ﴾.
"الفاء" مؤخرة عن تقديم، وهي تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى فألا يرون أن الأرض تنقص عليهم ومن أطرافها، والسورة مكية، ولمن يكن الجهاد قد قام، واشتجرت السيوف وسار الإسلام من نصر إلى نصر حتى أحيط بهم. وأسند الإتيان إلى الله تعالى في قوله :﴿ نأتي الأرض ﴾ للإشارة إلى أن ذلك بإرادة الله تعالى الذي ينصر من يشاء ويعز من يشاء، وإذا كان الله تعالى هو يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، فإن جنده هم الغالبون، ولذلك كان الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى :﴿ أفهم الغالبون ﴾ "الفاء" فاء الإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كان الله هو الذي ينقص الأرض من أطرافها فأهم الغالبون، و"الفاء" مؤخرة عن التقديم، أي ليسوا هم الغالبون، وقد أكد النفي المفهوم من الاستفهام، وهذه الآية في معناها ظاهرها أنها نزلت بالمدينة، وإن التمتع لهم ولآبائهم يجعلها أقرب إلى أن تكون مكية، ولعلها نزلت بمكة، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة، وقد جوز العلماء ذلك.
﴿ قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ٤٥ ولئن مسّتهم نفحة من عذاب ربّك ليقولنّ يا ويلنا إنا كنّا ظالمين ٤٦ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ٤٧ ﴾.
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الإنذارات في الآيات السابقة بين سبحانه أن الإنذار بوحي من الله، وأنه ليس من عند محمد الذي يستهزئون به، إنما هو من عند الله خالق السماوات والأرض، الذي يلجئون إليه عندما يحاط بهم ويضرعون إليه إذا مسهم الضر، ومن كان ملجأ لهم في شدائد هو منزل العذاب في كفرهم، ولذا قال تعالى :
﴿ قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره سبحانه بأن يقول لهم ﴿ إنما أنذركم بالوحي ﴾، ﴿ إنما ﴾ أداة للقصر، والمعنى لا أنذركم إلا بوحي من الله تعالى، فلا أنذركم من عندي، إنما أنذركم من عند الله تعالى، وإن ذلك يوجب عليكم ألا تستهزئوا بالإنذار، لأنكم لا تستهزئون بي إنما تستهزئون بالله العلي العظيم الذي تلجأون إليه في شدائدكم في البر والبحر، وفي ذلك توكيد للإنذار، لأنه صادر عن الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.
ثم بين سبحانه وتعالى إذ لا يسمعون النذر يكونون كالصم إذا ما ينذرون، فشبه الله تعالى المشركين عند سماع النذر بالصم، لأن كلاهما لا يسمع، فالصم في الآية هم المشركون، وهم لا يسمعون إذا أنذروا، والصم جمع والمراد بهم المشركون بالله، والمعنى لا يسمع المشركون الذين شبهوا بالصم لعدم السماع في كل ما ينذرون و﴿ ما ﴾ لتأكيد الشرطية في الشرط.
والدعاء : النداء بصوت عال قوي مرتفع صادع، والمشركون لا تجدي فيهم النذر، وهي من عند الله تعالى العلي القدير، الحكيم العليم.
ومع أنهم يصمون آذانهم عن النذر هم في أشد الهلع والفزع إذا عاينوا العذاب، أو جاءتهم منه نفحة، ولذا قال تعالى :
﴿ ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ﴾.
﴿ يا ويلنا إنا كنا ظالمين ﴾ أي أنهم إذا أصابتهم نفحة قليلة من العذاب يفزعون، وينادون الويل والعذاب والهلاك يقولون يا ويلنا أقبل فهذا وقتك، ويدركون ظلمهم، ويؤكدونه فيقولون :﴿ إنا كنا ظالمين ﴾، فقد أكدوا ظلمهم بثلاثة مؤكدات : بوصفهم بالظلم أولا، وب "إن" المؤكدة ثانيا، وب "كان" الدالة على ظلمهم المستمر ثالثا، ولقد قال الزمخشري في معنى هذه الآية :"ولئن مستهم في هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامّوا وأعرضوا، وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأن النفحة في معنى القلة والنزارة، يقال نفحته الدابة وهو رمح يسير، ونفحه بعطية، رضخه، ولبناء المرة"١.
ونقول إن المس إصابة غير غامرة، بل هو لمسة.
وظلمهم هو ظلم لأنفسهم، وبشركهم، وبفسادهم، وبإعناتهم للرسل وصدهم عن سبيل الله تعالى، وإن ذكر هذه النفحة من العذاب تمهيد لذكر القيامة، وما يكون فيه من عذاب الجحيم، ولذا قال تعالى :
﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ليوم القيامة ﴾ "للام" هنا بمعنى "في"، كقول القائل فعلته لخمس خلون من ذي الحجة، أو جاهدت لعشر خلون من رمضان وبعضهم قدر مضافا محذوفا، أي لأهل يوم القيامة، والأول أوضح وأبين، ووضع الميزان في قوله تعالى :﴿ الموازين القسط ﴾ هو وضع معنوي، أي رصدنا الأعمال رصدا وحسبناها حسابا بخيرها وشرها، للإنسان أو عليه، ويصح أن يكون هناك محسوس يوم القيامة توزن به الأعمال، ولكنا نميل إلى التفسير الأول، ولقد ذكر ابن عباس أن كل ما يكون يوم القيامة هو من جنس مثله في الدنيا، ولكنه غيره، وذكره تقريب للعقول، ولا مانع أن يكون محسوسا، ولكنه غير الموازين التي نراها في الدنيا، وذكرها تقريب لما عندنا، والله اعلم.
ووزن الأعمال يكون بما هو مذكور في كل كتاب للمكلف، فتوزن صحائفه في خيره وفي شره، أو تكون الأعمال في علم الله في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى :﴿ الموازين القسط ﴾ أي الموازين التي هي القسط، وهو العدل، وفي هذا مبالغة في وصف الموازين بالعدالة، كأنها العدالة ذاتها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ولقد قال تعالى :﴿ وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ﴾ إن كان العمل صغيرا يساوي وزنه وزن مثقال حبة من خردل، أي كان الوزن في ذاته قليلا، وكان الموزون في ذاته ليس ذا خطر وشأن فإنه يؤتى به ويحاسب عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشرا، ولا يغيب عن علم الله تعالى شيء، ولا عن الحساب شيء من غير جزاء، ولقد حكى سبحانه في وصية لقمان لابنه :﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ١٦ ﴾ ( لقمان ).
وإن المحاسب هو الله الذي يعلم كل شيء، ولذا قال تعالى :﴿ وكفى بنا حاسبين ﴾ أي وكنا حاسبين فلا حساب بعد حساب الله ولا أدق منه ولا أعدل.
﴿ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ٤٨ الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ٤٩ وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ٥٠ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين ٥١ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ٥٢ قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين ٥٣ قال لقد كنتم أنتم وآباءكم في ضلال مبين ٥٤ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ٥٥ قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين ٥٦ وتالله لأكيدن أصناكم بعد أن تولوا مدبرين ٥٧ فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ٥٨ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ٥٩ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ٦٠ قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ٦١ قالوا أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ٦٢ قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون ٦٣ فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ٦٤ ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ٦٥ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ٦٦ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ٦٧ قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ٦٨ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ٧٠ ﴾.
هاتان قصتان لاثنين من الرسل، قصة موسى وهارون وهما كرسول واحد، وقصة إبراهيم أبى الأنبياء، ويلاحظ :
أولا- أنه ليس فيهما تكرارا لما ذكر منهما في سور أخرى وآيات أخر، فقصة موسى وأخيه هارون تكلمت الآيات الكريمات فيهما بإشارة لامحة لا تفصيل فيها، وقصة إبراهيم كانت في تحطيمه للأصنام والكيد لعبدتها، ومحاولة إحراقه بالنار، ومعجزة الله تعالى في أن أطفأها وقال لها :﴿... كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾ ( الأنبياء ) وذلك لم يذكر من قبل ولا من بعد، فدل هذا أنه لا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا لمن لا يمحصون الحقائق غير ذلك.
ثانيا – أنه سبحانه ذكر قصة موسى عليه السلام قبل قصة إبراهيم مع أنه جده الأعلى، وذلك لأنه صاحب شريعة دونت في كتاب، وأنه أتى بهذا الكتاب وأخذ به حتى في النصرانية التي جاءت من بعده، والقرآن ليس كتاب تاريخ حتى ترتب أخباره ترتيبا زمنيا، كترتيب كتب التاريخ، إنما قصصه عبرة وذكرى لأولى الألباب، وإنما تذكر بمواضع العبرة، ومواطن الموعظة.
ثالثا- أنه كان تفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام، لأنه أبو العرب الذي كانوا يعتزون ويفتخرون به، ويقولون إنهم ضئضئ ١إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا يعبدون الأوثان، كما كان الذين بعث فيهم إبراهيم يعبدونها هم وآباؤهم، وإن إبراهيم عليه السلام أثبت بالعمل أنهم لا يضرون، ولا يدفعون عن أنفسهم ضررا.
﴿ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ﴾.
"الواو" واصلة ما بعدها بما قبلها، ﴿ آتينا ﴾ أي أعطيناه ومكناه منه، و﴿ الفرقان ﴾ هو التوراة لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين قوم ليس لهم سلطان وقانون يحكمهم في ماضيهم وأن صاروا من بعدها لهم قانون يحكمهم وسلطانهم من أنفسهم، كما قال تعالى منعما عليهم :﴿... وجعلكم ملوكا... ٢٠ ﴾ ( المائدة ) أي مستقلين سلطانكم من أنفسكم.
وقال بعضهم : إن الفرقان هو نجاتهم في البحر، إذ فرق الله البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وفي الحق : إن الفرقان يشمل بعمومه كل فارق بين أمرين، فأتاه الله تعالى أن انفلق البحر بعصاه، وأخرج بني إسرائيل من الذل والهوان إلى العزة والقوة، وأن يطبقوها، ويتحملوا واجباتها وتبعاتها حتى اضطر موسى لأن يتركهم يتيهون في الأرض أربعين سنة ليتعودوا حياة البأس والقوة، ومهما يكن فإن الله تعالى آتى موسى كل ذلك، ولعل ذلك هو السر في قوله :﴿ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ﴾ ولم يقل تعالى :( وأنزلنا الفرقان ) وقال :﴿ وضياء وذكرا للمتقين ﴾ الضياء النور الهادي المرشد، وهو هنا المعجزات التسع التي بعث الله تعالى موسى عليه السلام بها، والتعبير عنها بالضياء من قبيل الاستعارة فشبهت بالضياء، لأنها مرشدة هادية معرفة كالضياء وهي نور، وهي ذات الضياء، وسماها سبحانه وتعالى ﴿ ذكرا ﴾ لأنها مذكرة بالحق دائما، ولكن بشرط أن تكون قلوب متفتحة للحق، ولذا قال تعالى :﴿ للمتقين ﴾ أي الذين امتلأت قلوبهم بالتقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى، ولذا قال في أوصافهم :
﴿ الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ﴾.
الوصف الثاني : أنهم يعرفون أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا، بل لهم بعث وحساب وعقاب، وهم يستشعرون الخوف من نتيجة الحساب، ولذا قال تعالى :﴿ وهم من الساعة مشفقون ﴾ أي والثواب، فهم يغلبون الخوف على الرجاء، والساعة هي يوم القيامة، وعبر بالساعة، لأنها ساعة شديدة، فهم يخافون الحساب لأنهم يستصغرون حسناتهم ويستكثرون سيئاتهم.
هذا شأن الفرقان الذي آتى موسى فيه تذكير للمتقين الذين لهم هذه الأوصاف، ولم يكن بنو إسرائيل على تلك الأوصاف، ولكنه مع ذلك ضياء وذكر للمتقين الذين ربما يوجدون من بعدهم حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ﴾.
وسط الله سبحانه بين قصة موسى وهارون، وقصة إبراهيم حاطم الأوثان بالإشارة إلى القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، الذي أزال الأوثان من البلاد العربية، لأن القرآن أكمل كتاب للشرائع التي فصلت بعضها التوراة، ونسخ القرآن بعضها، فأخذ شرعه من شرع موسى بعضه، ولكنه خالد دائم لا يعروه نسخ ولا تبديل، ولأن محمدا صلى الله عليه وسلم أزال دولة الأوثان في مستقرها.
و﴿ هذا ﴾ الإشارة إلى القرآن يسمعون تلاوته، ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزون، ويتحدى الخليقة كلها أن تأتي بمثله فلا تستطيع. ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ٨٨ ﴾ ( الإسراء ).
والإشارة تتضمن كل ما فيه رأوه متلوا، وعلموه معجزا، وعاينوا آثاره في إيمان المؤمنين، وقد عرفه الله تعالى بأنه ﴿ ذكر مبارك ﴾، أي مذكر بالعذاب والثواب، وفيه تذكير بالله تعالى إذا امتلأت القلوب به كان فيها ذكر دائم، وبه تطمئن القلوب، وتذهب الوساوس، ولا تضطرب، ولا تفزع ولا تهلع ولا تجزع، ووصفه سبحانه بأنه ﴿ مبارك ﴾، البركة : الخير الدائم المستمر الكثير الخيرات، ووصف القرآن بذلك أولا لأنه دائم للخير والثمرات المرشدة ما دامت السماوات والأرض، وهو خالد بخلود خاتم النبيين، ولأنه قد اشتمل على كل شيء يتعلق بالمواعظ والهداية، ولأنه مشتمل على الشريعة الباقية إلى يوم القيامة.
وقد رأى العرب المدركون فيه كل ذلك، ولكن المعاندون لم يدركوه، لأنه طمس على قلوبهم ولقد قال تعالى من بعد :﴿ أفأنتم له منكرون ﴾ "الفاء" ترتب الاستفهام الدال على استنكار الواقع وهو عدم الإيمان في الوقت الذي كان يجب الإيمان به، والفاء مقدم عن تأخير لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير : فأنتم له منكرون، أي أنه يترتب على هذه الحقيقة الثابتة للقرآن، وهو مذكر ومبارك سؤالهم أأنتم له منكرون، وقلنا إن الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فالثابت أنهم منكرون، وتلك جريمة عقلية وهو جحود بما قام الدليل عليه وإشراك، حيث قام الدليل على التوحيد، وإنكار لمعجزة القرآن حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.
اختص هذا الجزء من قصة إبراهيم عليه السلام بمجابهته لقومه، وحطمه أوثانهم ويظهر أنه كان في شبابه الباكر أو في أول بعثته، ولا ندري على وجه التحديد كم كان سنه.
قال تعالى :﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ﴾.
أكد سبحانه وتعالى ما آتاه لإبراهيم، ب "اللام" و"قد"، والرشد هو العلم والإدراك والنفاذ إلى الحقائق كما رأينا تعرفه لله تعالى في وسط الجهالة التي كانت غمامة على العقول منعتها من الإدراك السليم، وكيف تعرف في نجم فرآه قد أفل، ثم في القمر فرآه أيضا أفل، ثم رأى الشمس بازغة، فقال هذا حتى انتهى إلى الوحدانية.
هذا كله رشد وإدراك سليم انتهى إلى الإدراك الكامل لمعنى الألوهية المنزهة عن المشابهة للحوادث في أفولها وظهورها، وفي فنائها وبقائها.
وقوله :﴿ من قبل ﴾ أي من قبل موسى عليه السلام، وهو أسبق منه، وكان تقديمه لما ذكرنا من أنه جاء بشريعة مفصلة وإن نسخ بعضها وبقي الآخر، وقوله تعالى :﴿ وكنا به عالمين ﴾ أي عالمين كيف ربيناه، وكيف صنع على أعيننا، وربينا فيه روح الحق وتتبعه والوصول إليه.
﴿ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾.
"إذ" هنا للوقت الماضي، وهي مفعول لفعل محذوف تقديره "ذكر"، والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والمعنى اذكر لقومك من مشركي العرب الذين يفخرون به نسبا، ويدعون أتباعه كيف جاهد قومه في هذا الشرك، وذكر أباه لأنه داع للحق، وداعي الحق لا يفرق في دعوته بين قريب وغيره، بل يبتدئ بالقريب لأنه أقرب إجابة، ولأن الدعوة إلى الحق خير، فأولى به الداني، وإبراهيم كان أبوه دانيا إلى قلبه وذكر بعد أبيه قومه، ومما قاله لهم هو :﴿ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة المجسمة للإنسان أو للحيوان، وأكثر ما يكون الآلهة لصورة إنسان، وكانت التماثيل عند اليونان والرومان وكانوا يعدونها أو يسمونها آلهة، فيقولون : إله الحب، وإله الزرع، وإله العدالة، والعكوف : الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له وعبادته.
والاستفهام منصب على سؤاله عن هذه الأصنام التي عكفوا عليها يعظمونها، ويعبدونها، وهو يتضمن أولا الاستهانة بها وتحقيرها بالإشارة، لأن الإشارة تتضمن أنها حجارة محسوسة لا تضر ولا تنفع، ويتضمن ثانيا استنكار العكوف عليها وعبادتها، والاستفهام ليس عن الماهية، بل عن أوصافها، وتنبيه إلى أنها لا تضر ولا مسوغ لعبادتها لأنها ليس فيها صفات الألوهية التي توجب العبادة.
﴿ قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين ﴾.
لم يجدوا مسوغا عقليا ولا نقليا إلا التقليد للآباء، كما قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿... قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ١٧٠ ﴾ ( البقرة ) أي أن المسوغ أنا وجدنا آبائنا لها عابدين، أي استمروا على عبادتها : وما استمروا عليه فهو حق، ولا دليل عندنا سوى ذلك، ودل النص على استمرار آبائهم بالوصف ب ﴿ عابدين ﴾، لأنه دليل على استمرار عبادتهم لها وحدها، والدليل على استمرار عبادتهم لها وحدها تقديم الجار والمجرور على اسم الفاعل، وهذا الكلام يدل على أنهم لا يعرفون الله، أو يعرفونه ويشركون معه هذه التماثيل من غير حجة ولا برهان.
﴿ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ﴾.
الضلال : السير في طريق لا يعرف نهايته، وليس موصلا لغايته، وأطلق على السير في الباطل والوصول إلى مداه، فإنه تكون في مثارات مختلفة من مثارات الشيطان، و﴿ مبين ﴾ معناه : واضح، وكان واضحا لأنه لا يستند إلى دليل علمي ولا يناقض بدائه العقول، لأن المعبود يجب أن يكون أعلى وأقوى من عابده، فهل في تمثال قوة وعلو على الإنسان، فأي ضلال أبين من هذا وأضل عقلا وفكرا.
وأكد سبحانه على لسان إبراهيم ضلالهم ب"اللام، و"قد"، و"كان" الدالة على الدوام والاستمرار، وبضمير الفصل المؤكد، وإن إبراهيم جمع بين ضلالهم وضلال آبائهم، فكان جامعا بين ضلال المقلِّد والمقلَّد.
أجابوا عن ذلك الكلام الجاد بقولهم :
﴿ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ﴾
انتقل بهم خليل الله من مرتبة الاستنكار إلى مرتبة الإيجاب، لأن التخلية قبل التحلية، فبين لهم مَن الله الذي يعبده وتجب عبادته.
﴿ بل ﴾ للإضراب والرد، وإبطال عبادتهم وبيان أن التماثيل ليست أربابا، بل الرب واحد وهو رب السماوات والأرض الذي قام عليهن، وربهما وهو الحي القيوم ﴿ الذي فطرهن ﴾ الذي خلقهن من عدم وأنشأهن في هذا الوجود، وعبر بقوله :﴿ فطرهن ﴾ بدل خلقهن للإشارة إلى أنه شق أرض من السماء، أو شق الوجود كله من وحدة كانت تجمعه، كما قال تعالى من قبل في هذه السورة :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانت رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ٣٠ ﴾. ( الأنبياء ) وقد ذكرنا هذا المعنى في هذه الآية.
وقد أكد- عليه السلام – أن هذا هو ربهم، وليست تلك التماثيل بأنه يعلم ذلك، ويؤكد لهم علمه فقال الخليل عليه السلام :﴿ وأنا على ذلكم من الشاهدين ﴾ هذا تأكيد لعلمه بذلك وهو الثقة فيهم والمرشد الأمين عندهم وأنه لا يكذبهم فيما يقول :﴿ وأنا على ذلكم من الشاهدين ﴾ يلاحظ فيها أمور ثلاثة :
أولها – أنه قدم الجار والمجرور ﴿ على ذلكم ﴾ على متعلقها ﴿ من الشاهدين ﴾ لأهمية هذه الشهادة.
ثانيها – التعبير بالجمع في الخطاب، لأن المخاطبين جمع لا فرد، وكذلك كلما كان اسم الإشارة يخاطب به جمع، وإذا لم تكن كذلك بأن كان الخطاب للواحد لا تجئ الميم، وقد حسب بعض الكتاب أن الأمرين جائزان، وذلك غير صحيح، إنما تكون إذا كان المخاطب جمعا، وتكون فيما عدا من غير الميم، لأنه إذا لم يكن جمعا كان المخاطب محمد صلى الله عليه وسلم.
والثالث – أن ﴿ من الشاهدين ﴾ معناها من العالمين علما يشبه علم المشاهدة والمعاينة فالدليل عنده يثبت اليقين كالمعاينة التي يراها ويشهدها.
اعتزم بعد ذلك إبراهيم أن يثبت لهم بالعيان كالعلم الذي أوتيه بأن يحطم أوثانهم فلا ترد له كيدا، فقال :
﴿ وتالله لأكيدن أصناكم بعد أن تولوا مدبرين ﴾.
"الفاء" مبينة نوع الكيد، والجذاذ : الفتات، من جذ بمعنى كسر، والجذاذ بالضم أفصح من الكسر، أي أخذ الفأس وأخذ يضرب، كما قال تعالى :﴿ فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ٩١ ما لكم لا تنطقون ٩٢ فراغ عليهم ضربا باليمين ٩٣ فأقبلوا إليه يزفون ٩٤ قال أتعبدون ما تنحتون ٩٥ والله خلقكم وما تعملون ٩٦ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في جحيم ٩٧ فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ٩٨ ﴾ ( الصافات )، جعلهم إبراهيم عليه السلام فتاتا متكسرا، أي أزال هذه الصور وجعلها شيئا مطروحا تطؤه الأقدام ﴿ إلا كبيرا لهم ﴾، أي كبيرا لهذه الأصنام ﴿ لعلهم إليه يرجعون ﴾ لعل الأصنام ترجع إليه، أو لعل الناس يرجعون إليه يسألونه عن بقية الحجارة التي صارت فتاتا متكسرا فما مآلها، وماذا أصابها، ويلاحظ أن الضمير كان يعاد دائما بضمير الجمع العاقل مجاراة لزعمهم الفاسد، وعندما عادوا ورأوا آلهتهم فتاتا متكسرا هالهم الأمر، وقوله :﴿ لعلهم إليه يرجعون ﴾ تعبير للتهكم عليهم والسخرية بآلهتهم.
جزعوا وأحسوا بضعف آلهتهم وضعف عبادتهم لها، وأخذوا يسألون مستفهمين متعجبين هلعين ﴿ من فعل هذا بآلهتنا ﴾ متحسرين على ما أصاب هذه التماثيل من الحطم والتفتيت وجعلها فتاتا متكسرا، وقالوا :﴿ إنه لمن الظالمين ﴾ أكدوا ظلمه بإن وباللام، وبوصفه بأنه ظالم مؤكد ظلمه، معدود في عداد الظالمين مترب في بيتهم راضع من لبان الظلم مترب فيه.
﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾.
أي تقاولوا الأمر فيما بينهم حتى قال قائلون منهم﴿ سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾، وعبر عن إبراهيم بقوله ﴿ فتى ﴾، لأنه كان أقرب إلى الشباب والفتوة، و﴿ يذكرهم ﴾ معناه يذكرهم بالاستنكار بعبادتها، وإنكار أن تكون آلهة، وأن الله هو وحده الرب الذي يعبد في السماوات والأرض، لأنه الذي خلقهم، وهو وحده المعبود، وفهم ذلك من "يذكر"، فإنه في هذا المقام الذي تجري فيه شبهة اتهامه بتكسيرها، وتحطيمها لا بد أن يكون الذكر بغير ما يوافقهم في عبادتها، ولذلك اتجه الاتهام إليه، وأرادوا الإثبات.
كانت غيرتهم على آلهتهم شديدة أصابتهم فعلة إبراهيم بحسرة، ثم بلوعة، ثم بحب النقمة والتحفز بها، فاشتدت عزيمتهم على إنزال الأذى، فاجتمعت جموعهم وقالوا :﴿ فأتوا به على أعين الناس ﴾، اعرضوه على الأعين، لتركب صورته على عقولهم، وفوق أعينهم، وفي ذلك مجاز بتشبيه رؤيتهم المدققة المرددة كرتين بالشيء الذي ركب عليها لكيلا تنساه وتنزل في قلوبهم الحانقة الغاضبة ﴿ لعلهم يشهدون ﴾ أي يحضرون ويشاهدوا جريمته في زعمهم، وينزلوا به من العذاب جزاء المعتدي على فعله الأثيم في زعمهم، وهو عين الحق عند الله، جئ به، وشاهدوه، وقالوا له :
﴿ قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ﴾.
ولكن إبراهيم كان ثبتا صابرا مطمئنا قار النفس.
إن إبراهيم هو الذي حطم الأصنام، وجعلها فتاتا متكسرا، ووضع آلة الحطم والكسر في رأس الكبير منها، فكيف يقول :﴿ بل فعله كبيرهم هذا ﴾، و﴿ بل ﴾ للإضراب عن قولهم الذي يومئ إلى أنه الفاعل، وإن لم يكن صريحا، قال بعض المؤولين من علماء الكلام : إن الضمير في ﴿ فعله ﴾ يعود إلى إبراهيم، وإن كان هو المتكلم، كأنه بإيماء القول جرد من نفسه شخصا آخر يخبر عنه، والمعنى أنه فعل، استؤنف كلام بعد ذلك هو هذا كبيرهم، ولقد دفع بعض المتكلمين إلى هذا التكلف الذي ينافي السياق أنهم لا يريدون أن ينسبوا كذبة إلى أبى الأنبياء، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكذب والخيانة والظلم، قبل النبوة وبعدها، ولكن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب إلى إبراهيم ثلاث كذبات أولاها هذه، والثانية أنه قال : إني سقيم، والثالثة أنه قال عن زوجه سارة : إنها أخته١.
ونحن نرى أن قوله :﴿ بل فعله كبيرهم هذا ﴾ ليس فيه كذب، بل فيها تهكم عليهم وسخرية بآلهتهم ولولا الأثر لقطعنا بهذا، ولكنه احتمال نذكره، ولعل الأثر عده كذبة على أساس مظهر القول لا على أساس المقصد لإبراهيم، لأن ظاهر القول أنه كذب والدليل على أنه سيق للتهكم والسخرية بهم وبآلهتهم قوله بعد ذلك ﴿ فاسألوهم إن كانوا ينطقون ﴾ "الفاء" عاطفة على إخبارهم بأن رئيسهم الذي فعل، أو "الفاء" للإفصاح، أي إذا كان الفاعل هو أو غيرهم فاسألوهم، وذلك فيه تهكم واضح عليهم، لأنهم لا ينطقون فكيف يعبدون، وفي التهكم أخذ اعتراف منهم بأنهم لا ينطقون، وأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا برهان قاطع على ضلالهم وبطلان ما يعبدون.
متفق عليه، رواه مسلم(٦٠٩٨)١٥ /١٠٥، والبخاري: كتاب الأنبياء – قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (٣٢٩٣). وراجع اللؤلؤ والمرجان١/٧٣٦..
﴿ فرجعوا إلى أنفسكم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ﴾ أي تراجعوا الأمر فيما بينهم وتقاولوا ما بين مستنكر الفعل أي الكسر والحطم، وما بين مسترشد بالحق وقد لاح نوره، وانتهى بأن قالوا :﴿ إنكم أنتم الظالمون ﴾ مؤكدين أنهم هم الظالمون، أي أنهم الظالمون وحدهم، وقد تأكد الحكم ب"إن" وب "أنتم"، وبالقصر، أي أنتم الظالمون وحدكم لا أحد غيركم، لأن تعريف الطرفين أوجب الحكم بالظلم وأكده، ولكن ما هذا الظلم يحتمل الظلم أو الظلم في عدم حراسة آلهتهم، ويرجح أنه الظلم في العبادة، ولذلك أكدوه في سورة حق، ولكنه كان كغشاء ظاهر عار عن صميم القلوب. ولذا قال تعالى :
﴿ ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾.
ولما نكسوا على رءوسهم نكس أيضا قولهم في المجادلة، فقالوا :﴿ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾ مؤكدين أنه يعلم أن هؤلاء التماثيل لا تنطق، وليس من شأنها أن تنطق لأنها ليست كائنا حيا فضلا عن أن يكون إنسانا ينطق، وأكدوا أنه يعلم ذلك ب "اللام" وب "قد"، وبالنفي ب"ما" الدالة على النفي بالماضي، وهي واقعة على المضارع المصور لعدم نطقهم في الحاضر، فهم لا ينطقون في الماضي ولا ينطقون في الحاضر ولا القابل، وإن هذا ما نطقوا به معترفين بعجز هذه الأحجار عن النطق في كل الأحوال، وأي دليل ينفي ألوهيتهم أكثر من هذا ؟ إنها أعجز من الإنسان فكيف يعبدها الإنسان وهي لا تنفع ولا تضر، ولذا قال خليل الله :
﴿ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ أفتعبدون ﴾ "الفاء" تدل على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، لأنه ترتب على قولهم ﴿ ما هؤلاء ينطقون ﴾ أنهم يكونوا يعبدون ما لا يمك ضرا ولا نفعا، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، وهم به جديرون، فأي عاقل يعبد ما دونه، وهو حي وهذا جماد لا يضر ولا ينفع.
وقد ترتب على هذا أن تأفف منهم، فدل هذا التأفف على النفور منهم عقلا، فهي أحجار ولو كانت تماثيل منحوتة نحتا جميلا، فهي أحجاز لا تزيد على ذلك، وعقلا لأنها تعبد ممن هو خير منها خلقا وتكوينا، وكان التأفف أيضا ممن يعبدونها، لأنهم حطوا عقولهم عن مستوى التفكير، بل عن مستوى الإنسانية المدركة التي تقدر الأشياء وتعرف النافع والضار، ولذا قال عنه عز من قائل :
﴿ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ﴾.
وإن المعرض عن الحق كلما جاء الدليل أعرض ونأي بجانبه ويزداد لجاجة في باطله، هذا إبراهيم الخليل عليه السلام قد حطم أصنامهم، ورأوها جذاذا حطاما، وتبين أن هؤلاء لا ينطقون، وكان حقا عليهم أن يذعنوا للحق إذ جاءهم، ولكنهم لجوا في الفتنة والضلال وعتوا عتوا كبيرا، وأرادوا إحراق الناطق بالحق.
أخذوا الأمر أمر ممانعة ومغالبة، وهو وحده والله معه، والحق بحججه يصرخ به في أوساطه لا يباليهم، لأنه يبالي الله وحده، ولا يبالي أحدا سواه، وهم بتماثيلهم وعددهم وقوتهم المادية الغاشمة وملكهم الغاشم، فلما حطم إبراهيم –بتأييد الله تعالى ومعونته – أصنامهم حسبوا بقانون المغالبة أنه غلب أصنامهم، فلا بد أن ينتصروا لها، ولا بد ينصروا كأنها شيء يحس ويغالب ويغلب، وكذلك سولت لهم أنفسهم، وكذلك يدخل الضلال العقول، ويذهب برشدها.
﴿ قالوا حرقوه ﴾ التحريق المبالغة في الإحراق وإكثار حطبه، وقد جعلوا ذلك التحريق في مقابل ما قام به من تكسير وتحطيم لأصنامهم، حتى جعلها جذاذا فتاتا متكسرا تفرقت أجزاؤها، ولذا قالوا :﴿ وانصروا آلهتكم ﴾، أي خذوا بثأرهم عن الحطم الذي صغر به أمرهم، وأضعف به شأنهم، وقال قائلهم المتحدث في جمعهم عنهم :﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ أي إن كنتم تريدون الثأر لآلهتكم فأحرقوه، وإلا فالمهانة والعار والشنار، وإن ذلك يدل على أنه كان في بعضهم تردد أو عطف، أو عدم إيمان حازم بما هم فيه من الضلال.
ولكن إبراهيم المؤمن بالله وبالحق لم يعرهم التفاتا، ولم يفزع من تهديدهم، لأنه يعلم أن الحق أبقى، ومن لا يفتدي الحق بنفسه لا يستحقه، فلا بد فيه من فداء وقد عرف أبو الأنبياء من بعد بالفداء والبلاء فقد قبل أن يذبح ابنه لرؤيا صادقة رآها، حتى فداه الله بذبح عظيم.
ألقوا بإبراهيم خليل الله في النار، وهو الصابر الراضي بحكم الله، ألقوه في أتون النيران، وقد بنى لها بناء تضطرم فيه، ولكن أمر الله تعالى كان فوق أمرهم وقدرته قاهرة عليهم، فألقى إبراهيم في النار وتلقفته في ساعتها رحمة رب العالمين :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ﴾.
ومساق الكلام لا يدل على أنها أطفئت بريح شديدة، ولا مطر انهمر عليها، ولكنها المعجزة أنها بقيت متوهجة ولم تحرقه، فالله تعالى أزال عنها خاصة الحرق بالنسبة لإبراهيم، ومنعت من أن يصل أذاها إليه، كأن بجسمه موانع مانعة وحائلا يحول بينه وبينها.
نجا إبراهيم عليه السلام بهذه المعجزة الباهرة، وكان فيها معنى التحدي لأنهم أرادوا الغلب والانتصار لآلهتهم فلم يؤذ ولا هابها، وكان ذلك إعجازا لهم، وكان حقا عليهم من قبل ومن بعد أن يذعنوا، ولكن غلبت عليهم شقوتهم.
الكيد هنا هو الإضرار الشديد الذي يكون نتيجة الكيد والتدبير الخبيث، فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب وهو الضرر، وكيدهم كان في مغالبتهم له ومجادلتهم، فكانوا هم الخاسرين، ولذا قال :﴿ فجعلناهم الأخسرين ﴾ في هذا المغالبة، والأخسرون جمع أخسر، والمراد من بلغوا أقصى درجات الخسران.
﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ٧١ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ٧٢ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ٧٣ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ٧٤ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ٧٥ ﴾.
كان لوط ذا قرابة بإبراهيم عليه السلام، ولذا اقترن به في الذكر، وإنه لما جاء الملائكة مبشرين إبراهيم وامرأته بالولد، ذهبوا من عنده إلى لوط فدكوا قريته دكا لأنها كانت تعمل الخبائث، ما سبقهم بها أحد من العالمين، ولذا قرن نجاة إبراهيم عليه السلام بنجاته، وأنه أخذه معه إلى الأرض المباركة، وقال تعالى :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾.
أي نجينا إبراهيم من النار، ولوطا من الدمار، أي نجاهما وأخذهما إلى الأرض المباركة وهنا أمران نذكرهما :
أولهما- التكلم من الله تعالى العلي الأعلى بضمير المتكلم المعظم، لبيان أنها كبيرة تليق بكبر المتكلم، فإخراج من النار أو جعلها عليه باردة وجعلها أمنا لا فزع منها، وإهلاك قرية الفسق بجعل عاليها سافلها، وإرسال عليها حجارة من سجيل منضود.
الأمر الثاني – ما الأرض التي باركها، وانتهى خليل الله وذو قرابته لوط إليها، روى عن أبي بن كعب أنها الشام، لأنه كان فيها النبيون من بعده فهي مباركة، وروى ابن عباس ترجمان القرآن وغيره، أنها مكة المكرمة، لأن إبراهيم هو الذي رفع بناءها وإسماعيل، ولأنه بها أول بيت وضع للناس، ولأنها سارت حرما آمنا، ولأنها كانت مباركة بدعاء إبراهيم عليه السلام، ولأن الله وصف بيتها بأنه مبارك، فقال تعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ ﴾ ( آل عمران )، وقوله :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾ الجار والمجرور متعلق ب"نجيناه"، أي حفظناهما إلى أن وصلا إلى الأرض المباركة، وهذا دليل على أنهما في هجرتهما إلى الأرض المباركة لاقى عنف الصحراء موماة١ حتى وصلا سالمين، وهو يدل على أن لوطا قد وصل إلى البيت الحرام وإن لم يكن له ذكر فيه، والبركة ثبوت الخير واستمراره، وقد كانت بركة مكة للعالمين، لكل الناس كانت للعرب حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء، وكانت كذلك للناس أجمعين ففي بطحائها ولد وظهر خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ﴾.
أشار سبحانه إلى هبة الله لإبراهيم ولده إسماعيل، بالإشارة إلى نجاته إلى الأرض المباركة مكة وما حوت، وما حولها من منى وعرفات والمشعر الحرام، وهنا يصرح بأنه وهب لإبراهيم إسحاق، ومن ورائه يعقوب، وجعلهما معا مع أن إسحاق أب ويعقوب ابنه، لأنهما كانا نبيين، وأن نبوتهما هبة الله، وتوالت النبوة والدعوة إلى هدم الأوثان ابنا عن أب عن جد، ليقتلعوا عبادة الأوثان من الرءوس التي استمكنت فيها، والنافلة ولد الوالد، و﴿ نافلة ﴾ وصف ليعقوب لأنه ولد ولده، أي وهبناه لك هبة زائدة فوق الولد، لأن إبراهيم دعا ربه، وقال :﴿ رب هب لي من الصالحين ١٠٠ ﴾ ( الصافات ).
وهكذا نرى أن الله تعالى أراد لإبراهيم أن تتوارث فيه الدعوة إلى هدم الأوثان، لتذهب روعتها الكاذبة من نفوس الناس، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بعده قاوم الوثنية وحده، ولم يكن أحد من ذريته من قاومها، ولكن كان من أصحابه والتابعين من قاومها، حتى روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ١وقال تعالى :﴿ وكلا جعلنا صالحين ﴾ التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل واحد من الجد وابنه وحفيده جعلناه من الصالحين، أي المستقيمين في طريقهم إلى الحق، وذكر أنهم صالحون مع أنهم من المصلحين في طريق الحق والهداية إليه، وذلك لأن الصالح في ذات الحق لا بد أن يكون مصلحا، لأنه لا يتم الصلاح إلا إذ جعلنا مصلحا هاديا مرشدا داعيا إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، ولذا قال تعالى :
﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ﴾.
﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ أي وجعنا إبراهيم وذريته أئمة أي رؤساء يوجهون ويرشدون، ويقتدي بهم، ويكونون قوة للخير والهداية ﴿ يهدون بأمرنا ﴾، أي يدعون بدعاية الله، وإضافة الهداية إلى أمر الله للإشارة إلى طاعتهم أولا، ولبيان صواب ما يدعون إليه وأنه الحق لا ريب فيه﴿ وأوحينا إليهم فعل الخيرات ﴾ أي ألهمنا نفوسهم وقلوبهم فعل الخيرات وهديناهم إليها، بما أوحينا به لرسلهم الذين جاءوا رسولا بعد رسولا، كما قال تعالى :﴿ ثم أرسلنا رسلنا تترا... ٤٤ ﴾ ( المؤمنون ) أي رسولا بعد رسول، وكل أولئك في ذرية إبراهيم عليه السلام والخيرات جمع خير، وهو كل ما فيه نفع للناس، ويقصد به فعله لنفعه للناس، ولإرضاء الله تعالى ثم قال سبحانه :﴿ وإقام الصلاة ﴾ أي أدائها على وجه أكمل من خضوع وخشوع واستحضار لذات الله كأنهم يرونه، وإذا لم يرونه يحسون بأنهم في حضرته يرجون رحمته ويخافون عذابه ويطلبون محبته ورضوانه، ﴿ وإيتاء الزكاة ﴾ ليكون المجتمع كله متعاونا بارا يبر بعضه بعضا ﴿ وكانوا لنا عابدين ﴾ أي كانوا في كل أحوالهم وأعمالهم عابدين لله تعالى، وكل عمل فيه عبادة إذا قصد بإتقانه إرضاء الله وحده ومحبته سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله }١.
وفي قوله تعالى :﴿ وكانوا لنا عابدين ﴾ تقديم الجار والمجرور، وهذا يفيد الاختصاص أي لنا وحدنا لا يشركون بي شيئا، والجملة تدل على استمرار العبادة أولا، لوجود "كان" الدالة على الاستمرار، وثانيا الوصف ﴿ عابدين ﴾ أي مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم في عبادة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار.
﴿ ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ﴾.
﴿ ولوطا ﴾ منصوب بفعل محذوف تقديره : واذكر لوطا، وخص لوطا بالذكر، ولم يذكر قوم لوط لحقارتهم ومهانتهم وسوء أفعالهم، وخبيثة نفوسهم حتى انحطوا عن مرتبة الحيوانية في شذوذ الفطرة، وفي ذكر لوط منفردا عن قومه تنويه بشأنه، ورفعة لذكره، وبيان أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قومه مفسدين غير مهديين، فإنه جاء لهداية الضال وإصلاح الفاسد، فإن لم يصلحوا دمر الله عليهم وأنشأ قوما آخرين.
﴿ أتيناه حكما ﴾ الحكم هنا الحكمة والحلم والصبر على معاشرة المفسدين، وإلا فأي حكمة أوتيها ذلك النبي الكريم الذي استطاع بها أن يعاشر أولئك الشواذ من الإنسانية يدعوهم ويأخذهم بالهداية والإرشاد والرفق في القول ويستمر في رعايتهم هاديا مرشدا من غير سأم ولا ملال، حتى إذا جاءه ملائكة الله يبدو سوء نفوسهم ويظهر حتى يداريهم ليسكتوا فلا يسكتون. ﴿ وعلما ﴾ وهو علم النبوة وبعثه، وما أجدت دعوته فحقت عليهم كلمة العقاب وحقت للوط النجاة، كما تنجو الفضيلة من ردغة١ الرذيلة على أقبح صورها، ولذا قال تعالى :﴿ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ﴾ أي نجيناه سالما طاهرا مطهرا ﴿ من القرية ﴾ أي المدينة العظيمة، أو المدائن العظيمة، وذكرت بالمفرد لإرادة جنس هذه القرية الموصوفة بذلك الوصف المشئوم البغيض، ﴿ التي كانت تعمل الخبائث ﴾، وهي جمع خبيثة، ولا يمكن أن توصف إلا بهذا الوصف أو ما يشبهه، ولقد قال تعالى فيها :﴿... أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ٨٠ ﴾ ( الأعراف ) ووصفت القرية بأنها كانت تأتي الخبائث مع أن الذي يفعلها آحادها، ولكن لأنها عمت وطمت كأنما صارت الأرض ذاتها تفعلها، ولقد قال تعالى بعد ذلك :﴿ إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ﴾ أعيد الضمير على أهل القرية لأنهم الذين فعلوا ما فعلوا حتى صاروا عار هذه القرى الظالمة، وهذه الجملة السامية :﴿ إنهم كانوا ﴾ في مقام سبب ما فعلوا ويفعلون من خبائث. و"السوء" ما يسوء ويؤذي النفس والطبائع السليمة، ﴿ فاسقين ﴾ شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان.
وأكد سبحانه وصفهم بالسوء والفسق أولا، ب ﴿ كانوا ﴾ أي استمروا عليه، وإضافتهم إلى السوء، كأنما هو أهله لا يخرجون عن حيزه، ولا يخرج عنهم ثانيا، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى :﴿ فاسقين ﴾ والجملة الاسمية وتصديرها ب"إن"، والله عليم بخلقه وشئونه.
﴿ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ﴾.
رحمة الله التي شرفها بالنسبة إليه سبحانه، هي هجرته منهم، ونجاته من الهلاك الذي كتب لهم وإيتاؤه حظه في الآخرين، والتجاؤه له سبحانه كما قال تعالى :﴿ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي... ٢٦ ﴾( العنكبوت )، وقال تعالى :﴿ إنه من الصالحين ﴾ وهذا بيان لاستحقاقه رحمته سبحانه، وقد شرفه سبحانه بأن وصفه من بأنه من الصالحين.
هذا وصل للكلام السابق من أخبار إبراهيم ولوط والأنبياء من ذرية إبراهيم عليهم السلام، وفي قصصهم عبرة لأولى الألباب، وتسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم عن سوء ما يرتكبه معه المشركون من شطط في القول، وإسراف في استهزاءهم، والله مستهزئ بهم، قوله :﴿ ونوحا ﴾ منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر، أي اذكر نوحا وإيذاء قومه، وقد تشابهت أقوالهم مع أقوال المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، لتشابه القلوب والمقاومة وطرائقها، فالناس أولاد الناس، ﴿ إذ نادى من قبل فاستجبنا له ﴾ نادى ربه مستغيثا بالله وذلك في قوله :﴿... رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ٢٦ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ٢٧ ﴾ ( نوح ) دعا نوح ربه ذلك الدعاء، أو ناداه ذلك النداء فأجابه سبحانه فقال :﴿ فاستجبنا له ﴾، "الفاء" للترتيب والتعقيب، والمراد بالتعقيب تأكيد الإجابة، وقد قال تعالى :﴿ فاستجبنا له ﴾ الاستجابة شدة الإجابة، لأن السين والتاء للطلب، أي أن الطلب طلب الإجابة وأرادها له، ولذا كانت التعدية ب "اللام" مع أن "أجاب" تتعدى بنفسها، ولكن كانت "اللام" لشدة الإجابة، لأنها بطلب الله، وتشدده في الطلب لأجل نوح عليه السلام، وأنه إذ استجاب له سبحانه ونجاه وأهله من الكرب العظيم، وقال سبحانه :﴿ فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ﴾ حيث أرادوا إيذاءهم، وحيث كان كرب الطوفان، إذ أحاط بهم الماء من كل جانب، وركب في السفينة من أراد الله إنجاءه.
و( نصرنا ) معناها انتصرنا له من القوم الذين كذبوا، ف "نصرناه" متضمنة انتصرنا، لأن "انتصر" تتعدى ب"من"، وكانت له محذوف دلت عليها ﴿ له ﴾ في قوله تعالى :﴿ فاستجبنا له ﴾ والمعنى انتصفنا له منهم إذ ظلموه بالعناد والسخرية والتحدي والإنكار المستمر، والمجادلة بالباطل حتى يئس من إيمانهم، وقال الله تعالى له :﴿... لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ٣٦ ﴾ ( هود ) وقد بين سبحانه استحقاقهم لما نزل بهم، فقال :﴿ إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ﴾ هذا بيان لاستحقاقهم ذلك الإغراق وإزالتهم من الوجود، وألا يبقى من ذريتهم أحد إذ لا يلدون إلا فاجرا كفارا، والسوء : هو ما يسوء الناس ويؤذيهم، وأضيف السوء إليهم، لأنهم لا يصدر عنهم إلا ما يسوء، وبسبب ذلك أغرقهم لله أجمعين، ولم يبق إلا من حملته السفينة المباركة.
﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ﴾.
"الواو" وصلة الأخبار في قصص النبيين، و"داود" منصوب بفعل محذوف تقديره "ذكر"، والمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم تسوية له في الشدائد والكروب التي كان فيها وهي تسرية فيها أخبار جدية تبين أحكاما لنظام الحق وإدراكه، فهي ليست تسرية بلهو، بل هي أخبار فيها طرافة، وفيها تنبيه لتنظيم العدالة والتفكير.
﴿ إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ﴾، ﴿ إذ ﴾ الأولى تتعلق بالفعل المحذوف "اذكر"، و﴿ إذ ﴾ الثانية متعلقة ب ﴿ يحكمان ﴾، ﴿ الحرث ﴾ : الأرض المزروعة، سميت بمصدر حرث يحرث وهو قلب الأرض، ويطلق "الحرث" على الأرض المحروثة وعلى الزرع نفسه، و﴿ نفشت فيه غنم القوم ﴾ أي انتشرت فيه الغنم فأتلفته، وأصبح غير ذي قيمة، وقد تحاكم الخصمان صاحب الحرث وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام.
وجاءت الروايات بأن داود عليه السلام حكم بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم في مقابل ما أتلفت الغنم من الحرث، وكانت القيمتان متقاربتين.
ولكن سليمان – عليه السلام – رأى أن خيرا من هذا أن يأخذ صاحب الحرث الغنم تدر عليه لبنها ويستولي على منافعها، ويأخذ الآخر الأرض يحرثها، وكأن أجرة الأرض تكون هي منافع الغنم وردها.
دل هذا القول على أن حكم سليمان كان بإلهام من الله، ويومئ إلى أنه كان الحق، وإن لم يكن حكم داود كان باطلا، فقد بذل فيه سبيل الاجتهاد، وكان مقاربا، ولم يكن مناقضا للحق، والأحكام تبنى في الدنيا على المقاربة، ولو كان القاضي نبيا جعله الله تعالى خليفة في الأرض ما دام الحكم لا شطط فيه، ولذا قال تعالى :﴿ وكلا آتينا حكما وعلما ﴾ أما العلم فعلم النبوة، وأما الحكم فقالوا إن الحكمة والقدرة على فهم الأمور ودراستها من كل جوانبها، ويصح أن نقول : إن المراد بالحكم أهلية الفصل بين الخصوم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه كان شاهدا مقرا لحكمهم.
ويلاحظ هنا أن الحكم الذي أقره الله تعالى أو كان عليه شاهدا، وهو حكم داود عليه السلام حكم ابنه سليمان هو جزاء مشتق من ذات الاعتداء ولو بالتسبب، فإن صاحب الغنم تركها من غير أن يراقبها ويحفظها فنفشت في الحرث، فكان الجزاء من ذات موضع الاعتداء، فقدره داود بأن تؤخذ الغنم في نظير الزرع لأن قيمتها كانت تساوي الزرع، وبذلك كان الجزاء من جنس الاعتداء وهو مقارب، وأفهم الله تعالى سليمان أن يجعل الاعتداء جزاءه مماثلا ولو في الظاهر لموضع الاعتداء فكان أن يترك صاحب الحرث لصاحب الغنم يحرثها ويزرعها، حتى إذا علا واستغلظ أو صار كالأول سلمه ورد الغنم إلى صاحبها وكان صاحب الحرث قد أخذ عوض التأخير بدر الغنم ومنافعها.
وفي هذا الجزاء مقاربة للعدالة والمساواة وفيه تعاون، وفيها فائدتان :
الأولى : أن يكون فضل تعاون، والثانية : أنه مساواة أو مقاربة من المساواة. وقد أثبت علماء البحث في العصر الحاضر أن أقرب الجزاء إلى تهذيب النفوس أن يكون العقاب من جنس الاعتداء، لأنه يجعل الجاني أو المهمل يحس بالجزاء وهو بقع في الجريمة أو الخطأ، فيكون ذلك أدعى إلى الامتناع أو التوقي.
وإن قصة هذا الحكم إرشاد للحكام إلى أقرب الطرق إلى تحقيق العدالة في هذه الدنيا، وقال تعالى فيما مكن الله به لداود، فقال عز من قائل :
﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ﴾ كرم الله تعالى داود بأمرين : أولهما : أنه سخر له الجبال تتحرك بإرادته وتسكن، وتسبح بأمره عليه السلام، ولسنا نستغرب شيئا من ذلك لأننا نؤمن بالقوة الغيبية يبثها الله، ولا يماري فيها إلا الذين لا يؤمنون إلا بالمادة وظواهرها، وكذلك سخر الله تعالى له الطير، وروى أن الجبال كانت تجاوبه في تسبيحه، وكذلك الطير، ولا غرابة فقد قال الله :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض... ١ ﴾ ( الجمعة ) وقال تعالى :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة... ١٣ ﴾ ( الرعد ) وقال الله في داود :﴿... يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ١٠ ﴾ ( سبأ )، أي أن هذه إرادة الله، ولا مشاحة١ له فيما يريد، وقال تعالى :
﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ﴾.
وإن ذلك يوجب شكر الله تعالى، وقد دعا سبحانه إلى ذلك فقال :﴿ فهل أنتم شاكرون ﴾ "الفاء" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب تلك النعم التي أسداها لكم من هذا التدبر المحكم بأن هيأ لكم الدواء عند الداء، والدفع عند احتمال الاعتداء. والاستفهام للحض على الشكر، ولذا قال علماء البلاغة إن هذا التعبير أدل تعبير على الطلب، والله تعالى المنعم ذو الجلال والإكرام أن تشكر ولكنا نكفر.
وأخبر تعالى عن نبي الله داود الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها، وأفهمه الله تعالى هذه الصناعة، وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبا، إنما العيب أن يكون كلا على الناس وهو القادر على العمل، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه : هذه الآية في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا، وقيل سقاء، فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر، وفي الحديث :﴿ إن الله يحب المؤمن الضعيف المتعفف، وببغض السائل الملحف ﴾١.
﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ﴾.
﴿ الريح ﴾ منصوبة بفعل العطف، أي : وسخرنا لسليمان الريح، كما سخرنا لداود الجبال وقلنا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد، وكذلك سخرنا لسليمان الريح أي جعلناها له ذلولا، فأبوه كانت رواسي الجبال مسخرة له، وهو كانت عواصف الرياح مسخرة له، ومذللة له، الرياح العاصفة هي الريح الشديدة في هبوبها، بحيث تقوض القائم، وقد وصف الله الريح بهذا الوصف للإشارة إلى أنها في قسوة هبوبها وعصفها لا تذر شيئا أتت عليه إلا أزالته، زللها الله تعالى لسليمان، فكانت تجري بأمره رخاء، وقال تعالى :﴿ تجري بأمره ﴾ مع عنفها تهدأ له، وتسري بأمره ﴿ إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾، وهي هنا مدينة "أورشليم" إذ استردها داود من أيدي التتر١، وكان الحاكم فيها وجاء من بعده سليمان عليهما السلام، وإن ذلك كله بإرادة الله تعالى وعلمه، ولذا قال :﴿ وكنا بكل شيء عالمين ﴾ وقدم الجار والمجرور للاهتمام بعموم علمه سبحانه، والجملة السامية تدل على استمرار علمه سبحانه، وأنه لا يغيب عنه شيئا في السماء ولا في الأرض، ويدل على استمرار الوصف ﴿ عالمين ﴾ وتقديم الجار والمجرور، الجملة الاسمية المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار.
"الواو" عاطفة والمعنى وسخرنا له من الشياطين ﴿ من يغوصون له، أي أن الله تعالى كما سخر الرياح العاصفة فتجري بأمره رخاء حيث أصاب، كذلك سخر له من الشياطين من يغوصون له، أي يغوصون في أعماق البحر ليستخرجوا منها اللآلئ والأحجار الكريمة والعنبر وغيرها من منافع الماء، وقد أعطى الله سليمان ملك اليمن التي تمتلئ بحارها باللآلئ وثروات البحر، فكانت الشياطين تغوص فيها، وتخرجها له، وسيجيء ذلك في سورة النمل إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى :{ يغوصون له ﴾ أي يغوصون لأجله وبأمره ومنافع غوصهم له، ﴿ ويعملون عملا دون ذلك ﴾، أي غير ذلك، وليس المعنى أقل من ذلك بل كلا العلمين فيه خير، ولذا قال تعالى :﴿ والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد ٣٨ ﴾ "ص" وقال تعالى :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب... ١٣ ﴾ ( سبأ ).
﴿ وكنا لهم حافظين ﴾ أي كنا لهم حافظين مما في جوف البحر، ومؤيدين لأعمالهم ونحب أن نقول : إن الشياطين هنا لا نعتقد أنهم إخوان إبليس أو من ذريته، لأن إبليس وذريته متمردون على ربهم فكيف لا يتمردون على سليمان، إنما هم من خلق طائعين، وكانوا مؤيدين من الله، وهو حافظ لهم.
ولو اعتقد بعض الناس أنهم من الشياطين الإنس الذين كانوا من شطار الأرض سخرهم الله لسليمان وهو بعيد، والله أعلم.
﴿ وأيوب إذ نادى ربه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين ٨٣ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ٨٤ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ٨٥ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ٨٦ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ٨٧ فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ٨٨ وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ٨٩ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ٩٠ ﴾.
من أخبار النبيين السابقين في هذه السورة كانت أخبار أولي العزم من الرسل، وجهادهم الشرك، وبيان لمجاهدتهم الكفر، وتعرضهم لأذى الشرك وصبرهم، وكيف صبروا حتى أدوا رسالات ربهم، وذلك تسرية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتحريض له على تبليغ الرسالة، وبيان أنه سبحانه ناصره كما نصرهم ولن يضيعه الله تعالى بخذلان أبدا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشدائد من شأنها أن تلقى بالرجال في هم وغم فالذي أصابه يوم ذهب إلى الطائف بثقيف، فأغروا به صبيانهم وشبابهم، ولذا ساق الله تعالى أخبار من أصيبوا بضرر أو غم، وكيف أنقذهم الله تعالى ورفع عنهم. وقد ابتدأ سبحانه من أخبار هؤلاء بخبر أيوب عليه السلام فقال تعالى :﴿ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ﴾ ﴿ أيوب ﴾ منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف ﴿ اذكر ﴾، والمخاطب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتقديره اذكر يا محمد وتذكر أيوب، و﴿ الضر ﴾ هو ما يصيب الإنسان في جسمه أو نفسه وأحبائه، وقد أصيب أيوب عليه السلام في جسمه فأصيب بمرض عضال، قيل إنه الجذام، وقد ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فقد جاء فيه :"ذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلى في جسده، يقال الجذام في كل بدنه، ولم يبق منه شيء سليم سوى قلبه ولسان يذكر بهما الله تعالى، حتى عافه الجليس، وانفرد في ناحية في البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجه كانت تقوم بأمره، ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس لأجله.
ومع هذا المرض الممض المنفر، ومع الانفراد كان صابرا، كما قال الله تعالى :
﴿... إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ٤٤ ﴾ ( ص ) ولم يشك لأحد غير الله، والشكوى لله لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه الأنين والشكوى للناس، قال لربه :﴿ مسني الضر ﴾، هذه الجملة الهادية، أي أصاب نفسي وحسي، قال ذلك طالبا رفع الضرر، فقال :﴿ وأنت أرحم الراحمين ﴾ لم يطلب من الله بصريح اللفظ، ولكنه ذكر حاله وكفى، وهو بها عليم، وإن ذكر الرحمة ينبئ عن الطلب، وهو أن يرحمه سبحانه، ولكن لم تتعين الرحمة الكاشفة عن الضر، فقد يكون الضر من الرحمة، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :"يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابه زيد في بلائه )١ وصف الله تعالى بأنه ﴿ أرحم الراحمين ﴾، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لا رحم يقارب رحمته، وإنما يفسر على أنه سبحانه وتعالى بلغ في رحمته أعلى درجاته.
"الفاء" للترتيب والتعقيب، أي كان الكشف فور الضراعة له سبحانه وتعالى، وذكر رحمته، وكشف الضر : إزالته، وخصوصا إذا كان الكشف إزالة هذا المرض الذي شوه جسمه، ونفر الناس منه، ولم يكن كشف إلا بإرادة، ولا يتعذر شيء إزاء إرادة الله، ولو كان جذاما لا يشفى في عادة الناس وطبهم، ولقد قال تعالى في بيان كيف كشفه :﴿ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ٤١ اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ٤٢ ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألباب ٤٣ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ٤٤ ﴾ ( ص ) إن أخبار أيوب عليه السلام تفيد أن كل الناس نفروا منه حتى أهله، وذلك أشد على النفس من وقع الحسام المهند، فكان ألم مرضه مع ألم فراق الأحبة، ولذا قال سبحانه في منته على أيوب ﴿ وآتيناه أهله ﴾ أي أعطيناه أهله الذين نفروا وكان عودتهم عطاء من الله غير مجذوذ، وجاء معهم مثلهم من محبين وموادين، أي أقبل عليه الناس بعد طول نفور، وذلك ﴿ رحمة منا ﴾، وأضافها سبحانه إلى ذاته العلية، فيه رحمة تليق بذاته الكريمة وهو الرحمن الرحيم﴿ وذكرى للعابدين ﴾ أي تذكيرا دائما للعابدين، بأن الله معهم دائما وإنه معهم لا يتركهم أبدا، يثيبهم في البلاء، ويرفع عنهم، "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيرا، وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيرا"١، كما روى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تذكرة لا يدركها إلا العابدون الذين ذاقوا حلاوة العبادة ولو في أشد الضرر.
هؤلاء أنبياء ثلاثة، أو نبيان ورجل صالح وهو "ذو الكفل"، وكل هؤلاء امتازوا بالصبر، ﴿ إسماعيل ﴾ مفعول لفعل محذوف، وهو "اذكر"، والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبار الصابرين تلهم بالصبر والإقتداء بهم، وأولهم إسماعيل كان عبدا صبورا عندما أراد أن يذبحه أبوه لرؤيا رآها، قال له أبوه :﴿ يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ١٠٢ ﴾ ( الصافات ) فكان الصبر من الأب والابن عظيما، فالصبر من الأب بأن يرضى بذبح ولده البكر، وقد وهبه له ربه على الكبر هو أخاه إسحاق.
﴿ وإدريس ﴾، ويقولون إنه أكبر من نوح عليهما السلام، وقد ذكر الله تعالى أنه من الصابرين، ولم يذكر موضع أو دليل صبره.
﴿ وذا الكفل ﴾، فهم ابن كثير أنه نبي من وجوده في أخبار الأنبياء، وقال بعض المفسرين السلفيين إنه كان رجلا صالحا، ومهما يكن من أمره فهو من الصابرين الذين جاهدوا للحق، وجاهدوا أنفسهم وقمعوها عن شهواتها، فإن ذلك يقتضى أثر الصبر، ولذا قال تعالى :﴿ كل من الصابرين ﴾ أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين.
﴿ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ﴾.
رحمة الله تعالى تتناول أولا : محبته ورضاه فهي رحمة لا ينعم بها إلا الأبرار المصطفون الأخيار، وثانيا : اطمئنان نفوسهم ورضاهم عن أفعالهم وذكرهم لربهم، ﴿... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ٢٨ ﴾ ( الرعد ) وثالثا : جنات الخلد التي لهم فيها نعيم مقيم، وقد ذكر سبحانه السبب في ذلك فقال :﴿ إنهم من الصالحين ﴾ الذين استقامت قلوبهم وصلحت أعمالهم، وطابت أقوالهم، وكانوا نافعين قد استنارت قلوبهم، والله هو الهادي إلى الرشاد.
﴿ وذا النون ﴾، معطوف على ما قبلها، وهي مفعول لفعل محذوف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم تقديره :"اذكر"، أي اذكر قصة ذي النون الذي غضب، وليس من شأن النبي الهادي أن يغضب، وقد عاقبه الله تعالى بضيق لتبرمه بقومه وغضبه عليهم لكفرهم، ولم يكن رفيقا بهم يأخذهم بالهوادة، وذو النون هو يونس صاحب الحوت، والحوت اسمه النون، ﴿ إذ ذهب مغاضبا ﴾ "إذ" متعلق بحال ذي النون، واذكر يونس في وقت ذهابه مغاضبا، أي متبادلا الغضب مع قومه لأجل الله تعالى، لأنه دعاهم إلى الله وإلى التوحيد فلم يستجيبوا له، فغاضبهم، وذهب عنهم معرضا، وذلك ليس شأن الداعي، إن المدعوين جهلاء، والداعي هو النبي فلا يجوز أن يخاصمهم ويغاضبهم وإلا زادهم نفورا، فالرفق يدني، والغضب يبعد، وهو بهذه المغاضبة خالف ربه، وقد حسب أن النبوة أمر هين لين، بل أشق أعمال البشر.
وقال تعالى :﴿ فظن أن لن نقدر عليه ﴾ هنا تأويلان لمعنى ﴿ أن لن نقدر عليه ﴾، أولهما : أن نقدر في معنى فقدر عليه رزقه، أي نضيق عليه، فالمعنى : فظن أنه لن نضيق عليه، وحسب أن النبوة ليس فيها ضيق، وقد عاقبه الله تعالى بأن التقمه الحوت ﴿ فنادى في الظلمات ﴾ أي ظلمات جوف الحوت ﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك ﴾ أي تنزهت ذاتك، وفي هذا القول معنى الضراعة الكاملة والالتجاء إلى الله وطلب نصرته، وإنقاذه والاستغاثة به، ولذا قال بعد :﴿ فاستجبنا له ﴾.
التأويل الثاني : أن معنى قوله تعالى :{ أن لن نقدر عليه، أي لا نقدر اليسر والفرح، وأحسب أن التأويل الأول أكثر ملائمة للآية الكريمة ولمقامه.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما :
أولهما – أنه حذف من القول ما أنبأ به سياق الكلام، فلم يذكر التقام الحوت له، ولكن أشير إلى ندائه في ظلمات جو ف الحوت ودل على التقامه والشدة الشديدة التي كان فيها يونس، وأنه كان في ظلمات لا يعرف لها نهاية ولا غاية، وذلك من الإيجاز بالحذف الحكيم.
الأمر الثاني – في العطف بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، وإضافة النجاة والاستجابة إليه سبحانه للدلالة على أنهما مؤكدان برحمته سبحانه وفضله.
﴿ زكريا ﴾ معطوف على ما سبق من أخبار النبيين، وسبقت قصة زكريا عليه السلام للدلالة على أن الله تعالى لا يتقيد في خلقه وإرادته بالأسباب العادية ومسبباتها، ففي الأسباب العادية لا يأتي الولد من امرأة عاقر، وفي الخبر تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصص النبي وتوقع نصره، وإعلاء كلمته على المشركين، وإن كانت ظواهر الأمور لا تنبئ عن ذلك، فالأمر كله لله، ﴿ وزكريا إذ نادى ربه ﴾ قال ﴿ رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ﴾ فردا أي مفردا عن قريب أدنى يرثني، ولقد كان في ندائه بالغا أقصى درجات الأدب في جنب الله، فهو لا يجعل وراثة ذي القرابة القريبة أولى من وراثة الله فقال :﴿ وأنت خير الوارثين ﴾ وأفعل التفضيل ليس على بابه، بل المعنى ووراثتك أعلى درجات الوراثة وأبقاها.
وهذا التعبير الموجز في معناه قوله تعالى :﴿ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤ وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ٥ يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ٦ ﴾ ( مريم ).
وقد أجابه تعالى بقوله هنا :
﴿ فاستجبنا له ووهبا له يحيى وأصلحنا له زوجه ﴾.
وقوله ﴿ له ﴾ "اللام" معناها لأجله وتكريما له، وعناية به واستجابة لدعائه، وكان زكريا ويحيى خيرا خالصا، وكذلك الأنبياء السابقون جميعا، ولذا قال تعالى في أوصافهم :﴿ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ﴾ أن يتسارعون إلى الخيرات، كأنهم يتسابقون، وكانت التعدية ب ﴿ في ﴾ للإشارة إلى أنهم يسارعون يسابق بعضهم بعضا في دائرة الخيرات لا يخرجون عنها، فالخيرات أحاطت بهمه إحاطة الدائرة، و﴿ الخيرات ﴾ الأعمال النافعة التي قصد بها وجه الله والعبادة الخالصة له سبحانه، ﴿ ويدعوننا رغبا ورهبا ﴾، الرغب معناه السعة، والمعنى يدعون ربهم في حال السعة والرخاء، والرهب الخوف مع الاضطراب والانزعاج، والمعنى يدعونه سبحانه وتعالى في حال رخائهم، وحال شدتهم وانزعاجهم، فهم يدعونه في كل الأحوال، لا كأولئك المشركين الذين يدعون الله في الشدة، فإذا ذهبت إذا هم يشركون، ﴿ وكانوا لنا خاشعين ﴾ أي خاضعين خائفين راجين الرحمة.
﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ٩١ ﴾.
عطف على ما سبق من النبيين، وهي مريم البتول التي اصطفاها ربها على نساء العالمين حتى قيل إنها نبي أوحي إليها، وذكر الله تعالى أجل وصف للمرأة وأكمله، فقال :﴿ أحصنت فرجها ﴾، أي صانته وحفظته، وكانت هذه الصيانة ليكون فيه الوديعة التي أودعها الله تعالى فقال :﴿ فنفخنا فيها من روحنا ﴾ أي بسبب إحصانها لفرجها، وأنها طاهرة مطهرة اختارها الله تعالى ليودعها عيسى عبده ورسوله، و﴿ روحنا ﴾ هو جبريل عليه السلام، فهو الذي نفخ فيها ولم ينفخ بظاهر الآية في فرجها، بل نفخ كما قال المفسرون :"في بعض ثيابها" وقد قال تعالى في تصوير النفخ فقد قال تعالى :﴿ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ١٧ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ١٨ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ١٩ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ٢٠ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ٢١ ﴾ ( مريم ).
هذا هو نفخ الله تعالى من روحه جبريل الروح القدس الأمين، وقال تعالى :﴿ وجعلنا وابنها آية للعالمين ﴾ أي آية دالة على كمال قدرته، وأنه الفاعل المختار لا تقيده الأسباب والمسببات، بل هو فاعل مختار، فكانت أمة آية في خرق الأسباب، إذ حملت من غير بعل، وكان ابنها آية إذ خلقه الله تعالى من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم.
﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ٩٢ وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ٩٣ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ٩٤ وحرام على قرية أهلكنا أنهم لا يرجعون ٩٥ ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى طائفة من الرسل الذين دعوا إلى الوحدانية، وإن إجابة الناس كانت واحدة، منهم مؤمنون وهو قليل، ومنهم كفروا وعاندوا وهم كثير، وإن الذين أشركوا وعاندوا كانوا يستهزئون بالذين آمنوا، وكانوا يقولون هم أراذلنا بادي الرأي، وكانوا ينكرون البعث، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، وكانت المادة تأسرهم، ولا يؤمنون بالغيب، والنبيون يجاهدون في الدعوة إلى الله والحق ويصابرونهم، ويبالغون في الدعوة ليعذروا لأنفسهم عند ربهم، ومن العصاة من يرتكبون أفحش الفواحش سائرين وراء شهواتهم المنحرفة، بعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى وحدة البشرية، ووحدة الرسالة، ولذا قال عز من قائل :
﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ﴾.
الإشارة ب﴿ هذه ﴾ إلى الجماعات الماضية رسلا مبشرين ومنذرين وأقوام بعثوا إليهم وعاندوهم أو وافقوهم، والخطاب للذين بعث فيهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، و﴿ أمة ﴾ حال باعتبار الوصف بالوحدة، والمعنى إن هذه الجماعات التي مضت برسلها المصطفين الأخيار حالة كونها أمة واحدة هي أمتكم معشر لمخاطبين والمعنى أن الناس جميعا أمة واحدة في كونهم مؤمنين، وكافرين، ومستقيمين ومنحرفين، وأمة واحدة فيما طبعه الله تعالى عليها، وجبلها على الصفات الإنسانية الواحدة، ما بين ملهمين التقوى وملهمين الفجور، والرسل المختارون يدعون الأبرار والفجار، فيستقيم على الطريقة المثلى الأبرار، وينحرف عن الجادة الأشرار، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ كان الناس أمة واحدة... ٢١٣ ﴾ ( البقرة ).
وبعد أن بين سبحانه وحدة البشرية في الطبائع والجبلات بين وحدة الرسالة، ووحدة الألوهية والربوبية، فقال عز من قائل :﴿ وأنا ربكم فاعبدون ﴾ أي أنا خالقكم والقائم عليكم والكالئ لكم ﴿ فاعبدون ﴾ الفاء فاء السببية أي بسبب هذه الربوبية الخالصة المبدعة – اعبدوني، هنا ياء المتكلم محذوفة مع تقديرها في الكلام.
وإنه نتج عن هذه الوحدة في الجبلة، وتنوع الغرائز وتضاربها وتغالبها، وتنازع الأهواء والشهوات أن تنازع الناس، وإن اختلفت منازعهم ما بين مهتد رشيد، ومنحرف عنيد، ولذا قال تعالى :
﴿ وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ﴾.
كذلك هنا كانت وحدة الأمة الإنسانية في أصول الغرائز وينابيع النفس سببا في الاختلاف وتقطع الأمر وتفرقه، وعبر سبحانه عن تفرق الإنسانية ب "تقطع" للإشارة إلى أن الجسم الإنساني واحد وقد تقطع أجزاء، فهو تأكيد لأصل الوحدة، وقوله تعالى :﴿ أمرهم ﴾ أي الأمر الجامع بينهم، وهو أصل الوحدة ووحدة الغرائز وجماعتهم الجامعة، قطعوها بين غالب ومغلوب ومسيطر ومسيطر عليه، ومهتد وضال.
ثم بين سبحانه وتعالى أنه كما ابتدأوا وحدة يعودون إلى الله تعالى مجتمعين في المحشر، ولذا قال تعالى :﴿ كل إلينا راجعون ﴾ فتقديم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي راجعون إلينا وحدنا لا إلى غيرنا.
ثم ذكر سبحانه جزاء الأبرار، ثم جزاء الفجار، فقال عز من قائل :
﴿ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ﴾.
وإنما ذكر بعض الصالحات، لأنه ليس في الطاقة الإنسانية القيام بكل الصالحات، وكل ميسر لما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ويصح أن تكون ﴿ من ﴾ بيانية، أي ومن يعمل الصالحات بما في طاقته ﴿ فلا كفران لسعيه ﴾ "الفاء" واقعة في جواب الشرط، والكفران الستر، وكفران النعمة سترها، وكفران السعي عدم الجزاء عليه، والسعي هو العمل النافع الذي يكون فيه القرب إلى الله تعالى.
وعبر سبحانه عن عدم الجزاء بالكفران، إكراما للساعي وتأكيدا بأنه لن يهمل جزاءه، ومعاذ الله تعالى أن يفعل، كما قال تعالى ﴿.... أني لا أضيع عمل عامل منكم... ١٩٥ ﴾ ( آل عمران ) وقوله تعالى :﴿... إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ٣٠ ﴾ ( الكهف ).
وبين سبحانه، أن هذا السعي مكتوب قد أحصاه الله تعالى فقال :﴿ وإنا له كاتبون ﴾ أي قد أحصيناه إحصاء، وذكر الكتابة للدلالة على أنه غير ضائع أبدا، والله بكل شيء عليم، وقدم الجار والمجرور لكمال العناية بمن يعمل عملا صالحا، أي كل عامل يقيد له عمله بخاصة، ويحصي لك ما يخصه.
هذا جزاء الأبرار، أما غيرهم فقد قال سبحانه في جزائهم :
﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ﴾.
والقرية الجماعة المجتمعة في مدائن عظيمة أو مدائن متقاربة، وقوله تعالى :﴿ أهلكناها ﴾ إشارة إلى عقاب الدنيا الذي ينال الضالين، وهو الهلاك والدمار، كما أغرق قوم نوح، وأهلك قوم عاد، وكالريح الصرصر العاتية التي أهلكت ثمود.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هلاك الآثمين في الدنيا، وقال تعالى :﴿ كل إلينا راجعون ﴾ أي أوجب الله على نفسه أن يرجعوا، كما أوجب سبحانه وتعالى الرحمة على نفسه للمتقين الأبرار.
قوله :﴿ أنهم لا يرجعون ﴾ تقديم الجار والمجرور في معنى الاختصاص، أي أنهم لا يرجعون إلا إليه وحده ليتولاهم بعذابه في الآخرة كما تولاهم بالهلاك في الدنيا جزاء ما قدمت أيديهم، فرجوعهم سبحانه وتعالى إليه وحده إنذار بعذابهم على ما اجترموا في جنب الله العزيز الحكيم.
﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ٩٦ واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ٩٧ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ٩٨ لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ٩٩ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ١٠٠ ﴾.
هذا بيان مما أعد للكافرين يوم القيامة، وقد ذكر أنهم إلى الله وحده راجعون وسيحاسبهم على ما أجرموا في حق الله سبحانه، وظلمهم لعباده، وفي هذه الآية يذكر الكافرين بيوم القيامة، وما يختبر به عباده من قوم أشرار يعيثون في الأرض فسادا، وربما يهديهم الله سبحانه وتعالى، ويخف بالهداية شرهم، وهم يأجوج ومأجوج، وقد استغاث الناس بالإسكندر ذي القرنين، فقالوا له :﴿ إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ ﴾ ( الكهف ).
وقد هيأ الله تعالى أن أتم ما وعد، وقد تكلمنا في تفسير هذه في سورة الكهف.
ويظهر أنه فتح لهم جانب من السد١، وقال تعالى :
﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ﴾.
﴿ حتى ﴾ للتفريع من قوله تعالى :﴿ أنهم لا يرجعون ﴾ وفي ذلك إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج الذين عرفوا في التاريخ بالمغول، أو التتار، وهما في أصلهما واحد، ثم انشعبا من بعد ذلك وكانوا عنصرا واحدا.
وقد ظهر هؤلاء في القرن السادس، وانسابوا في الشرق، حتى وصلوا إلى وسط أوربا، وتلقت البلاد الإسلامية صدمتهم، وقد كانوا يسيرون فاتحين مسرعين في فتحهم حتى إنهم ليقطعون في حروبهم أبعد المسافات فتحا بمقدار سيرهم لا يقف أمامهم شيء، حتى إذا كان القرن السابع تولتهم الجيوش المصرية، فهزمتهم في عين جالوت، ولأول مرة عرفت السيوف مواضعها من أقفيتهم، وقد انحدروا كالصخرة من أعلى الصين، وما زالت تسير لا تلوى على شيء إلا جعلته كالرميم، حتى وصلت إلى فيينا، وكانت الحبالى تجهض من سماع أخبارهم.
وقد ذكر القرآن الكريم ذلك من أخبارهم فقال تعالى :﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدهم ولم يعد مانعهم، وعبر عن فتحته ب { فتحت ﴾ بالبناء للمجهول، أي فتح لهم لأمر يعلمه الله تعالى، وعبر بالبناء للمجهول، وأضيف ( الفتح ) إليهم للدلالة على هولهم، وكأنهم نيران أو حجارة فتحت على الناس، وكأنهم جهنم الدنيا﴿ من كل حدب ﴾ أي نشز٢ من الأرض ﴿ ينسلون ﴾ يسرعون، مشتق من نسلان الذئب أي سرعته.
هذا أمر وقع، ورآه التاريخ، واستمر يشغل الأرض الإسلامية القرن الثامن الهجري، وإن الإخبار به قبل يوم القيامة يدل على أمرين : أولهما أنه يكون على مقربة من القيامة، وأنهم هلاك للناس في الدنيا، وثانيهما أنه معجزة من إعجاز القرآن، لأنه سبحانه أخبر عن أمر يقع في المستقبل، فوقع كما أخبر سبحانه، فكان ذلك دليلا على أنه من علم الله تعالى علام الغيوب، وأنه من قوله الحكيم.
٢ : الحدب الأكمة، والنشز ما ارتفع من الأرض. وروى مسلم في صحيحه (٧٣٢٢) عن النواس بن سمعان حديثا ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدجال، إلى أن قال:... فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم. فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق. بين مهرودتين. واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات. ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب ولد. فيقتله ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه. فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة. فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي، لا يدان لأحد بقتالهم. فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج. (وهم من كل حدب ينسلون)..
﴿ واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنّا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ﴾.
﴿ الوعد الحق ﴾، هو الوعد بالبعث، وما وراءه من قيامة وحساب، وهو حق لأنه صادق وثابت لا يرتاب فيه إلا المبطلون، و"الواو" عاطفة على ﴿ فتحت يأجوج ومأجوج ﴾، وهذا دليل على اقتران فتح ما سُدّ على يأجوج ومأجوج بالوعد الحق، وذلك لأن الدنيا تكون قد فسدت واضطربت فيها موازين، واستحكم الشر، فمنذ الغزوات المغولية، والعالم يموج بالشر، ويمرج بالفساد، فجاءت بعده الغزوات الصليبية الشرسة، ومن بعدها تكون شذاب العالم١ في القارتين الأمريكيتين، وأعطيت الشمالية علم إبليس وعقله، وخلقه الشرير، واتخذت الذرائع التي يمكن بها إبادة العالم، ولا ضمير وعقله، وخلقه الشرير، واتخذت الذرائع التي يمكن بها إبادة العالم، ولا ضمير يمنع، ولا زاجر يردع، وهي من وقت لآخر تهدد بالفناء، حتى صار العالم قاب قوسين من أن ينزل به أشد الخراب بفعل الإنسان، ولعل قيام القيامة يكون بإرادة من الله، ويسخر لها عملا من أعمال الإنسان، وقد ابتدأ الخراب بفتح السدود أمام يأجوج ومأجوج، وختم بإخوانهم الأمريكان الذين لم يدعوا قائما من الأخلاق والفضيلة حتى قوضوه.
وقد صور حال الناس عند البعث وقيام القيامة، وقد اضطرب الوجود، ﴿ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ﴾ "الفاء" واقعة في جواب شرط مقدر، أي إذ جاء الوعد الحق فإذا... ف"الفاء" و"إذا" الفجائية جواب هذا الشرط المقدر وهي للحال، أي فإذا الحال شاخصة أبصار الذين كفرا، أي واقفة أعينهم لا تتحرك، فمعنى شخوص العين أنها تفتح فلا تطرف، وذلك يكون في حال الفزع والهلع، وهذا تصوير لحالهم من الفزع فقد شبهت حالهم بحال من تكون أبصارهم شاخصة هلعا وفزعا، والجامع بينهم الفزع.
وذكر الموصول ﴿ الذين كفروا ﴾ للإشارة إلى أن سبب فزعهم كفرهم، فهو فزع لا يعرف له نهاية لسوء ما قدموا، ولسان حالهم يقول :﴿ يا ويلنا ﴾ فهذا مقول لقول محذوف مفهوم من حالهم، فهم قائلون بلسان الحال : يا ويلنا، ينادون ويلهم، كأنهم ينادون الهلاك، لأن هذا وقته، فهم بهذا يتوقعون الهلاك وينادونه كأنهم يستعجلونه، إذ إن من يكون في حال فزع وهلع يرون أن تزول هذه الحال، ولو بنزول الهلاك العاجل، لأن حال الانتظار أشد على النفس وقعا وبقائها مريم مع الهم الشديد.
﴿ قد كنا في غفلة من هذا ﴾ أي ربنا كنا غافلين عن هذا البعث، وما كنا نحسب أنه سيكون، وإذا كان لا يكون بهذا الهول العظيم والكرب الشديد، ثم أقروا بظلمهم ﴿ بل كنا ظالمين ﴾ لأنفسنا ولاعتدائنا على المؤمنين، وبكفرنا بالرسل، ومعاندتنا لهم، وقد أكدوا ظلمهم بالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم وبالإضراب بقولهم :﴿ بل ﴾ أي أنهم يُضربون عن قول ويصفون أنفسهم بالظلم المؤكد المستمر، لأن ﴿ كنا ﴾ للاستمرار في ظلمهم في الدنيا.
﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾.
الضمير للمشركين ومن تبعهم وخدع بأقوالهم وصار مثلهم، ﴿ وما تعبدون ﴾ من أوثان وأحجار، وعقلاء رضوا أن يكونوا معبودين كالفراعنة وأشباههم ممن عدوا أنفسهم آلهة في الأرض ﴿ من دون الله ﴾ أي غير الله ﴿ حصب جهنم ﴾ أي أنهم يلقون في النار كما يلقى الحصب فيها ليزيد اشتعالها، فتشبههم في إلقائهم في النار بالحصب إذ يرمي فيها ليزيدها اشتعالا ويهيجها.
وهنا يرد سؤال : إن النصارى عبدوا المسيح، ومن المشركين من عبدوا الملائكة، فهل يعاقب المسيح وعزير والملائكة بسبب عبادة المشركين لهم، ولا ذنب لهم وقد نهوهم ؟ والجواب عن ذلك : إنه لا يدخل في هؤلاء العقلاء من عباد الله الأبرار، إنما يدخل فقط الأوثان، وهنا يرد سؤال آخر : هذه الأوثان لا تعقل فكيف تعذب، وهي لا تحس عذابا ولا نعيما ؟ والجواب عن ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم من هذه الحجارة تنفعهم وتشفع لهم، فالله تعالى بين أنها لا قوة لها، وأنها تلقى في النار مثلهم، وإن كانت لا تحس، وإذا كانت لا تنقذ نفسها من النار فأولى ألا تنقذهم.
ثم أكد سبحانه دخولهم في النار فختم الآية الكريمة بقوله :﴿ أنتم لها واردون ﴾ الضمير في ﴿ لها ﴾ يعود لآلهتهم، أي أنتم لأجلها واردون النار أي داخلون فيها، أي أنتم لأجل الأوثان واردون النار وهي بئس الورد المورود، والورود : الدخول.
﴿ لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ﴾.
هذا دليل شرطي مشتق من الوقائع يوم القيامة، أي لو كانت هذه الأحجار مستحقة للعبادة ما وردت النار وما دخلتها، لأنها تكون مسيطرة قوية لا سلطان لأحد عليها حتى يُدخلها النار، ولكنها دخلتها مع من عبدوها فلم تكن آلهة، ﴿ وكل فيها خالدون ﴾ التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل من العابد بالباطل والمعبود خالدين فيها، أي الأحجار التي عبدت والمشركون، كلهم خالدون في النار، الأحجار إذ تحمى عليها النار فتكون حجارة ملتهبة، والمشركون إذ تزداد التهابا يصلون بنارها، والنار خالدة، وهم فيها خالدون، فهو عذاب مقيم دائم.
ثم وصف الله تعالى حالهم فيها فقال :
﴿ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ﴾.
أي أنهم يحسون ولكن ليس لهم من حواسهم منافذ تسري عنهم من مناظر تسري عنهم أو أحاديث يسمعونها تروّح لنفوسهم، أو يتكلمون بكلمات يشكون بها حالهم وألمهم، لا يرجعون قولا ولا يرددون فكرا.
﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ١٠١ لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ١٠٢٢ لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ١٠٣ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ١٠٤ ﴾.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وأنهم يجزون سيئات ما فعلوا، ذكر سبحانه جزاء الأبرار، فقال عز من قائل :
﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾.
﴿ الحسنى ﴾ مؤنث، أي سبقت لهم في علم وحكمة الخصلة التي هي في أعلى درجات الحسن، وهي تقوى الله تعالى ومخافة عقابه ورجاء ثوابه، و﴿ سبقت ﴾ أي سبقت في علم الله تعالى وقدرها لهم، وسلكوا سبيلها، واهتدوا إلى طريقها، فأخذ الله تعالى بأيديهم، فهداهم إلى الطريق الأمثل، لأن من سلك طريق الخير وطلبه وفقه الله وهداه، ومن تنكّب طريق الخير أضله الله وأراده، والله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب.
﴿ أولئك عنها مبعدون ﴾ الإشارة إلى أهل التقوى موصوفين بهذه الصفة، وهي سبب نجاتهم من النار وبعدهم عنها، أي إن تقواهم أبعدتهم عن النار وجحيمها وشقائها والتهاب حصبها، حتى يكون جمرات موقدة، وقدم الجار والمجرور لمزيد تأكيد البعد عنها، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
الحسيس حركة النار وحسها، أي أنهم يبعدهم الله تعالى عن النار بحيث لا يسمعون صوت اندلاعها واصطلاء أهلها بها، ولكنهم يعلمون أين هم، وهذا تأكيد لما جاء في آخر الآية السابقة ﴿ أولئك عنها مبعدون ﴾ فهم مبعدون عنها بحيث لا يسمعونها، وإذا كانوا مبعدين عن النار، فهم﴿ في ما اشتهت أنفسهم خالدون ﴾ والذي تشتهيه نفوسهم نعيم مقيم، وجنات تجري من تحتها الأنهار وغير ذلك مما ذكره الله تعالى فيما اشتملت عليه الجنة، وما تشتهيه أنفسهم اطمئنان وقرار، وبُعد عن اللغو، وحور عين، وأعظم ما تشتهيه أنفسهم رضوان الله تعالى، فهو أكبر من اللذائذ، بل هو لذة أهل الإيمان الأولى.
وفي التعبير بقوله :﴿ في ما اشتهت أنفسهم ﴾ إشارة إلى أنهم حرموا من شهوات الدنيا الآثمة فنالوها في الآخرة حلالا طيبا.
وهنا ملاحظتان بيانيتان :
أولاهما – أنه عبر عن نيلهم ما يشتهون بجعل ما يشتهون ظرفا لوجودهم، فما يشتهون أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه فهم يعيشون في دائرة ما يشتهون، لا يخرجون عن دائرة إجابة رغائبهم، فلا يحرمون من شيء يرغبونه.
ثانيتهما- أن الله أكد تمكنهم من رغائبهم فيها، أكده ب﴿ هم ﴾، وبتقديم ﴿ في ما اشتهت أنفسهم ﴾ للاهتمام والعناية، والله سبحانه يجزي كل نفس ما كسبت وهو العليم الحكيم.
الفزع الأكبر هو يوم ينفخ في الصور فتكون أنظار الذين كفروا شاخصة من شدة الهول، إذ يصيبها الفزع، ويقولون :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ١٧٢ ﴾ ( الأعراف )، ولذلك يصابون بالحزن الشديد لأنهم لم يتوقعوه ولم يؤمنوا به، بل أنكروه وكانوا عنه غافلين.
أما أهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى، فإنه لا يحزنهم هذا الفزع، بل هو فزع بالنسبة لغيرهم، لأنهم توقعوه قبل أن يقع، بل آمنوا بأنه سيقع لا محالة.
وقد يقول قائل : كيف يسمى الفزع الأكبر بالنسبة لهم وهم لم يفزعوا منه ؟ والجواب عن ذلك، ذلك إنه في ذات أمر مفزع، إذ إن الوجود كله يضطرب، فالشمس تتكور، والسماء تنفطر، والجبال تصير هباء منبثا، وكل الدنيا تضطرب بما فيها، فهو في ذاته فزع، فهو يروعهم بأحداثه ولكن لا يلقى في قلوبهم حزنا لأنه يوم جزائهم.
وإنه من بعد هذا اليوم المروع في ذاته، ﴿ وتتلقاهم الملائكة ﴾ أي أنهم مع اطمئنانهم، وبعدهم عن الحزن والغم تتلقاهم الملائكة تلقي الكرماء لضيفانهم وكأنهم ينزلون في مضيف لا في دار حساب وجزاء، وذلك يؤكد أمنهم وسلامتهم، والتلقي بالتحية المباركة يزيل كل ما من شأنه حزنهم أو جزعهم، أو غرابة حياتهم الجديدة التي كانوا يتوقعونها و يؤمنون بها ﴿ هذا يومكم الذي كنتم توعدون ﴾ قدر المفسرون القول، أي قول الملائكة، والمعنى تتلقاهم الملائكة قائلين لهم هذا يومكم.... ونحن نرى أن قوله تعالى :﴿ هذا يومكم ﴾ هذا بيان للتلقي، لأنه تحية لهم، وتصديق لما اعتقدوا من قبل.
وقوله تعالى :﴿ الذي كنتم توعدون ﴾ بيان لوعد الله تعالى بالبعث والجزاء والجنة والنعيم والرضوان، وقد ذكر سبحانه ذلك بعبارة تفيد التكرار، واستمرار التذكير، فالتعبير بالمضارع ﴿ توعدون ﴾ فيه إشارة إلى الوعد المتكرر على ألسنة الرسل رسولا رسولا، وقوله تعالى :﴿ كنتم ﴾ تفيد استمرار هذا التذكير لمن كان يتذكر، وهم المؤمنون الأبرار.
﴿ يوم ﴾ هذه متعلقة ب﴿ الفزع الأكبر ﴾، فهو ظرف مبين لنوع الفزع الأكبر، وما يكون فيه من أهوال هائلة إذ تطوى السماء كطي السجل للكتب، ويصح أن تنول إن ﴿ يوم ﴾ متعلق بقوله تعالى :﴿ توعدون ﴾ وأميل إلى الأول، لأنه مناسب للفزع الأكبر، والطي معناه درج المكتوب، ويتضمن إخفاءه وطمسه أو التعمية أو محوه، والمعنى أن السماء بكواكبها ونجومها تطوي فتنكدر كواكبها وشموسها ونجومها، كما قال تعالى :﴿ إذا الشمس كورت ١ وإذا النجوم انكدرت ٢ ﴾ ( التكوير )، وكما قال تعالى :﴿ إذا السماء انفطرت ١ وإذا الكواكب انتثرت ٢ وإذا البحار فجّرت ٣ وإذا القبور بعثرت ٤ علمت نفس ما قدمت وأخرت ٥ ﴾ ( الانفطار )، وكما قال تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه... ٦٧ ﴾ ( الزمر ) و﴿ السّجلّ ﴾ هو الصك، وأصلها من السجل، وهو الدلو ويقال : ساجل الرجلُ الرجلَ إذا نزع كل واحد دلوا في نظير دلو الآخر، ثم استعير للمكاتبات، وقال تعالى بعد بيان زوال الأرض والسماء في يوم الفزع الأكبر ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ أي أننا نطوي السماء ونزلزل الأرض لتغيير الكون، وذلك بالإنشاء أولا، ثم الإزالة، ثم الإعادة كشأننا في بدئنا الخلق ثم إعادته، وهذه العبارة تحمل في نفسها دليل صدقها، وذلك أن من كان قادرا على الابتداء للخلق قادر على إعادته، كما قال :﴿.... كما بدأكم تعودون ٢٩ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة... ٣٠ ﴾ ( الأعراف ). ﴿ وعدا علينا ﴾ منصوب ﴿ وعدا ﴾ على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والمعنى وعدناه وعدا علينا، وأكده سبحانه بهذا المصدر، وبأنه سبحانه وتعالى ألزم به نفسه وأنه صار حقا عليه، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، فلا يمكن أن يخلف وعده، وأكد الوعد مرة أخرى بأنه ينقله من الوعد إلى الفعل، فقال :﴿ إنا كنا فاعلين ﴾ أي فاعلون الإعادة حتما، لأنه سبحانه لم يخلق الإنسان عبثا، كما قال سبحانه :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ١١٥ ﴾ ( المؤمنون ) وقد أكد سبحانه الإعادة ب( إنّ ) ونسبة الفعل إليه، وهو العزيز الحكيم، وأكده بالجملة الاسمية، وبالتعبير باسم الفاعل، وهو على كل شيء قدير.
﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ١٠٥ إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ١٠٦ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ١٠٧ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ١٠٨ فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ١٠٩ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ١١٠ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ١١١ قل رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ١١٢ ﴾.
الزبور هو كتاب داود عليه السلام، كما قال تعالى :﴿... وآتينا داود زبورا ٥٥ ﴾( الإسراء ) والذكر : قالوا : هو التوراة، لأنها ذكر للشرائع وبيان لها، نسخ منها ما نسخ بالقرآن، وما بقي استمر محكما وإن كان القرآن حجتها، ولا دليل على صادقها سواه، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا إتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الزبور وقد قام داود بتنفيذ ما في التوراة للإشارة إلى أن كتب الله المنزلة تواردت على هذا المعنى وتعاونت على آدابه، وهو ﴿ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ أي أن الأرض كلها بقاصيها ودانيها لله، وأنها ليست لملك طاغ، ولا لزعيم مفسد ولا لرئيس يقود الناس إلى مراتع الفساد ومواطن التهلكة، إنما هي لله ﴿ يرثها عبادي الصالحون ﴾ أي يعطيها مالك الملك لعباده الصالحين، وعبر بقوله ﴿ يرثها ﴾ للإشارة إلى أن الصالحين يخلفون من كانوا عليها من فاسدين ظالمين عتاة، وذلك كقوله تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها... ١٣٧ ﴾ ( الأعراف ) وإن العاقبة تكون دائما للمتقين.
وهنا التفات من الغائب إلى العودة إلى ضمير المتكلم، وهو الله جل جلاله، فالكلام بلغة المتكلم في قوله تعالى، ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها ﴾ فانتقل إلى الغائب ثم عاد إلى المتكلم في قوله :﴿ عبادي ﴾، وفي ذلك تأكيد أن هذا مكتوب في كتبه سبحانه في كتبه المنزلة، وإضافة العباد إليه سبحانه.
وإن ذلك وعد سجله سبحانه في كتبه بأن مآل هذه الأرض لعباده الصالحين، برغم جنحات المفسدين وغلبتهم وسعيهم بالفساد في الأرض.
وقد يعترض الذين يأسرهم الزمان الذي يعيشون فيه، ولا تنفذ بصائرهم إلى ما وراءه بأن المفسدين في الأرض الذين اتخذوا من العلم بالكون، وسائل تخريب في الأرض، وتمكين للظلم، وأن أهل الحق الصالحين مغلوب عليهم مستضعفون، ونقول : إن ذلك حكم حقبة من الزمان هي التي نعيش، ولكن الله تعالى أخبر أن المآل للصالحين، والله أعلم بالمفسدين، وإن خبره صادق والمستقبل غيب لا يعلمه إلا هو، ولنا أن نصدق الله ونكذب حكم الزمان في القابل.
اسم الإشارة يشير إلى هذا الخبر الكريم الذي أخبر به الحكيم العليم، وأن العاقبة للصالحين، والبلاغ يطلق بمعنى المنتهى والكفاية، ويطلق بمعنى التبليغ، وعلى أن الإشارة إلى الخبر في الآية السابقة، يكون معنى البلاغ هو التبليغ أي أن هذه تبليغ للعابدين الذين امتلأت قلوبهم بعبادة الله تعالى، وصارت العبادة وصفا ملازما لهم لا يفارقونه، وصارت قلوبهم خاضعة وألسنتهم تترطب دائما بذكره.
ويصح أن تكون الإشارة إلى ما ذكر في السورة من قصص النبيين، ومواعظ وتوجيهات إلى الكون وأسراره، ويكون معنى "بلاغ' منتهى وكفاية يدركها العابدون، ويفهم لبها العاكفون على عبادته سبحانه.
وإني أميل إلى التخريج الأول، لأن الإشارة بقوله تعالى :﴿ إن في هذا ﴾ إشارة إلى القريب، ولو كانت إلى المذكور في السورة كلها من قوله تعالى :﴿ اقترب للناس... ١ ﴾ ( الأنبياء ) إلى هذه الآية، فقال عز من قائل :﴿ إن في هذا ﴾ وكلام الله تعالى المثل الأعلى، وليس لنا أن نتطاول على مقام كتابه المعجز، الحكيم الخالد.
أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مقصورة على أن تكون رحمة للعالمين، أي لكل العقلاء، ورحمته صلى الله عليه وسلم في أنه بعث على فترة من الرسل، لإنقاذ الناس من الأوهام التي أركسوا فيها، وصاروا بها في عمياء ضاربة عليهم لا يدركون معها الخير في فطرهم، واشتقت كل ينابيع المودة في صدورهم، وكان صلى الله عليه وسلم رحمة بشريعته التي دونت في القرآن وبينتها السنة النبوية المطهرة، بلسانه وعمله وإقراره حتى ترك الناس على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ولقد قال تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ٥٧ ﴾ ( يونس )، وقد جاءت هذه الشريعة مشتملة على مصالح العباد، فكل ما فيها مصلحة، واستغرقت كل المصالح بالعبارة، وبالإشارة، ويوضع أصول كل نفع إنساني، والله رءوف بالعباد.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في كل موضع تبليغ يجعل سبحانه وتعالى كلماته الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ رسالة ربه وأول تكليف بتبليغ الرسالة هو في التوحيد، وهو أول ما صدع به صلى الله عليه وسلم :﴿ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ﴾.
كان في الكلام قصران : أولهما : أن التبليغ بالتوحيد كان بإيحاء من الله تعالى لا بأمر من محمد صلى الله عليه وسلم، أي أن الله تعالى الذي تجأرون إليه في الشدائد وتستغيثون به في المهالك وعندما يحاط بكم – هو الذي يوحى إلي بأن توحدوه، والقصر الثاني : لبيان وحدة الألوهية، وقد دعاهم إلى الإسلام ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ الاستفهام للتنبيه والحض على الإسلام، وقال علماء البلاغة إن هذا التعبير أقوى تعبير في الدعوة إلى الإسلام، و'الفاء" لبيان ترتب الدعوة على الإسلام، على تقدير أن الدعوة إلى الله وحده بإيحاء من الله.
﴿ فإن تولوا ﴾ أي أعرضوا عن دعوة الحق ولم يجيبوا داعي الإسلام والإذعان وإخلاص وجوههم لله تعالى وحده، والفاء الأولى فاء الإفصاح عن شرط مقدر، ونسق القول : إن دعوتهم فإن تولوا.... إلى آخره، والفاء الثانية في قوله تعالى :﴿ فقل ﴾ واقعة في جواب الشرط لأن بعدها طلبا هو الأمر.
و﴿ آذنتكم ﴾ أي أعلمتكم وبينت لكم الحق، وأنكم ستبعثون وتحاسبون على سواء، أي على تسوية بين الضال والمهدي، أي كلا محاسب ومبعوث لهذا الحساب.
﴿ وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ﴾ إن هنا نافية، والمعنى ما أدري أقريب أم بعيد اليوم الذي وعدتم، وهو يوم البعث، وإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يوحى إليه القرآن الكريم وحديثه، لا يعلم متى تكون الساعة، وقد قال تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي... ١٨٧ ﴾ ( الأعراف ) فقد خفي علمها عن كل البشر ولو كان خير البشر، واختص الله وحده بعلم الساعة، كما قال تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة... ٣٤ ﴾ ( لقمان ).
وإن هذا فيه إنذار لمن أعرضوا، وكان من الترفق بهم في القول، أن ذكر أنهم ومن هداهم الله على سواء فيما يتعلق بالإعلام بالبعث والحساب، وإن اختلف الجزاء.
﴿ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ﴾.
الضمير يعود على ذي الجلال والإكرام، و﴿ الجهر من القول ﴾ وهو ما كان يجهر به أهل مكة من قول، هو استهزاء، أو غيره، وذكر علمه سبحانه وتعالى به تهديد بالحساب لقولهم، وهو حساب من لا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال، وذكرت الأقوال من جحود وعناد وإيذاء سخرية وتهكم، ولم يذكر الأفعال من إيذاء للضعفاء وفتنة لهم في دينهم بتعذيبهم، كما فعلوا مع عمار بن ياسر وأبيه، وكما فعلوا مع خباب بن الأرت، ولم يذكر الأفعال، لأن الأفعال أجهر وأبين من الأقوال، لا إذا كان يعلم الأقوال، فأولى أن يعلم الأفعال، وهو بكل شيء عليم.
﴿ ويعلم ما تكتمون ﴾ من إحن ومنافسة على الشرف الكاذب كما كان من أبي جهل وأشباهه فيما ينفسون على بني عبد مناف، وفيما ينفس بنو أمية على بني هاشم.
ويعلم انحراف الاعتقاد، وعبادة الأوثان، وما يعشش في رءوسهم من خرافات وأوهام، وما يحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله السر وأخفى، والجهر وما يعلن، وذكر علمه سبحانه وتعالى بالعصيان إنذار لهم بالحساب ثم العقاب.
وقد يسأل سائل لماذا أمهلهم مع هذا السوء الذي أحاط بهم في جهرهم وكتمانهم، فقال الله على لسان نبيه.
إن هنا نافية، والكلام على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله يدري، والمعنى ما أدري لماذا أمهلكم الله تعالى تساءل النبي صلى الله عليه وسلم.