أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الجرجاني المقري قال : حدَّثنا أبو علي بن حبش الدينوري المقري قال : حدَّثنا أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال : حدَّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدَّثنا ظفران قال : حدَّثنا ابن أبي داود قال : حدَّثنا محمد بن عاصم قال : حدَّثنا شبابة بن سوار الفزاري قال : حدَّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبىّ بن كعب قال : قال رسول الله :( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) اقترب للناس حسابهم ( حاسبه الله حساباً يسيراً وصافحه وسلَّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن ).
ﰡ
وهي أربعة آلاف وثمان مائة وتسعون «١» حرفا، وألف ومائة وثمان وستّون كلمة، ومائة واثنتا عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن «٢» علي بن محمد بن الحسن الجرجاني المقري قال: حدّثنا أبو علي بن حبش الدينوري المقري قال: حدّثنا أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال: حدّثنا ظفران قال: حدّثنا ابن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن عاصم قال: حدّثنا شبابة بن سوار الفزاري قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبىّ بن كعب قال: قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ حاسبه الله حِساباً يَسِيراً وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن» «٣».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ١٠]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ قيل: اللام بمعنى من أي اقترب من الناس حِسابُهُمْ محاسبة الله
(٢) في نسخة أصفهان: الحسين.
(٣) تفسير مجمع البيان: ٧/ ٧٠.
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكّرهم ويعظهم به إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لا يعتبرون ولا يتّعظون.
قال مقاتل: يحدث الله الأمر بعد الأمر، وقال الحسن «١» بن الفضل: الذكر هاهنا محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه قوله في سياق الآية هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ولو أراد الذكر بالقرآن لقال: هل هذا إلّا أساطير الأوّلين، ودليل هذا التأويل أيضا قوله: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني محمدا (عليه السلام).
لاهِيَةً ساهية قُلُوبُهُمْ معرضة عن ذكر الله، من قول العرب: لهيت عن الشيء إذا تركته، ولاهية نعت تقدّم الاسم ومن حقّ النعت أن يتبع الاسم في جميع الاعراب، فإذا تقدّم النعت الاسم فله حالتان: فصل ووصل، فحاله في الفصل النصب كقوله سبحانه خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ. قال الشاعر:
لعزّة موحشا طلال... يلوح كأنّه خلل «٢»
أراد: طلل موحش، وحاله في الوصل حال ما قبله من الإعراب كقوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها قال ذو الرمّة:
قد أعسف النازح المجهول معسفة... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم «٣»
أراد معسفه مجهول وإنّما نصب لانتصاب النازح.
وقال النابغة:
من وحش وجرة موشّي أكارعه... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد «٤»
أراد أنّ أكارعه موشيّة.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كان حقّه وأسرّ لأنه فعل تقدّم الاسم فاختلف النحاة في وجهه، فقال الفرّاء: الَّذِينَ ظَلَمُوا في محلّ الخفض على أنّه تابع للناس في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير أراد والذين ظلموا أسرّوا النجوى.
(٢) تفسير القرطبي: ١١/ ٢٦٨، ولسان العرب: ٦/ ٣٦٨ وفيه لسلمى موحشا. [.....]
(٣) كتاب العين: ١/ ٣٣٩.
(٤) تفسير القرطبي: ٦/ ٢٣٥.
بك نال النصال دون المساعي | فاهتدين النبال للأغراض «١» |
قرأ أكثر أهل الكوفة (قالَ) على الخبر عن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ الباقون «قل» على الأمر له يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأفعالهم بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أباطليها وأهاويلها بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ يعني أنّ المشركين اقتسموا القول فيه: فقال بعضهم: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وقال بعضهم: بَلِ افْتَراهُ، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر، لأنّ بل تأتي لتدارك شيء ونفي آخر.
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ إن كان صادقا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ من الرسل بالآيات.
قال الله سبحانه مجيبا لهم ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهل قرية أتتها الآيات فأهلكناهم أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إن جاءتهم آية...
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وهذا جواب لقولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي التوراة والإنجيل يعني علماء أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن يعني فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن،
قال جابر الجعفي:
لما نزلت هذه الآية قال عليّ: نحن أهل الذكر.
وَما جَعَلْناهُمْ يعني الرسل الأولين جَسَداً قال الفرّاء: لم يقل أجسادا لأنّه اسم الجنس لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ يقول: لم نجعلهم ملائكة، بل جعلناهم بشرا محتاجين إلى الطعام، وهذا جواب لقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ في الدنيا ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الذي وعدناهم هلاك أعدائهم ومخالفيهم وإنجائهم ومتابعيهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المشركين.
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال مجاهد: حديثكم، وقيل: شرفكم.
أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ٢٩]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
وَأَنْشَأْنا وأحدثنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا رأوا بَأْسَنا عذابنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يسرعون هاربين، يقال منه: ركض فلان فرسه إذا كدّه بالرجل، وأصله التحريك.
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ نعّمتم فيه وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن نبيّكم، مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة، قتادة: لعلّكم تسألون من دنياكم شيئا استهزاء بهم، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله سبحانه فكذّبوه وقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم، فلمّا استحرّ فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ إلى مساكنكم وأموالكم، فأتبعهم بخت نصّر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جوّ السّماء: يا لثارات الأنبياء، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ قولهم وهجّيراهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالسيوف كما يحصد الزرع خامِدِينَ ميّتين.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ عبثا وباطلا لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن المرأة.
لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من عندنا وما اتّخذنا نساء وولدا من أهل الأرض، نزلت في الذين قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً.
إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «١» بَلْ نَقْذِفُ نأتي ونرمي وننزل بِالْحَقِّ بالإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ فيهلكه، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدماغ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ يا معشر الكفّار مِمَّا تَصِفُونَ لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد.
وقال مجاهد: ممّا تكذبون، ونظيره قوله سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي تكذيبهم.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عبدا وملكا وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ.
قال ابن عباس: لا يستنكفون، مجاهد: لا يجسرون، قتادة ومقاتل والسدّي: لا يعيون، الوالبي عن ابن عباس: لا يرجعون، ابن زيد: لا يملّون.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون ولا يسأمون، قد ألهموا التسبيح كما تلهمون النّفس.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني الأصنام هُمْ يُنْشِرُونَ يحيون الأموات ويخلقون الخلق.
لَوْ كانَ فِيهِما أي في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ غير الله لَفَسَدَتا وهلك من فيهما.
فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأنه الرب وَهُمْ يُسْئَلُونَ عما لا يعلمون «٢» لأنهم عبيده.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك، ثمّ قال مستأنفا هذا يعني القرآن ذِكْرُ خبر مَنْ مَعِيَ بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن القرآن.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء
(٢) في نسخة أصفهان: عمّا يفعلون.
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا:
الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ يعني الملائكة لا يَسْبِقُونَهُ لا يتقدّمونه بِالْقَوْلِ ولا يتكلّمون إلّا بما يأمرهم به.
وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى.
قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلّا الله، وقال مجاهد: لمن رضي الله عنه، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ خائفون وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ قال قتادة: عنى بهذه الآية إبليس لعنه الله حيث ادّعى الشركة، ودعا إلى عباده نفسه وأمر بطاعته، قال: لأنه لم يقل أحد من الملائكة إنّي إله من دون الله.
فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٥٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة: يعني كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء.
قال كعب: خلق الله سبحانه السموات والأرضين بعضها على بعض ثمّ خلق ريحا توسّطتها ففتحها بها.
وقال مجاهد وأبو صالح والسدّي: كانت السموات مرتقة طبقة واحدة، ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقا واحدا ففتقها فجعلها سبع أرضين.
عكرمة وعطية وابن زيد: كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، نظيره قوله سبحانه وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ «٢» وأصل الرتق السدّ ومنه قيل للمرأة التي فرجعها ملتحم رتقا، وأصل الفتق الفتح، وإنّما وحّد الرتق وهو من نعت السموات والأرض لأنّه مصدر، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ يعني أنّ كلّ شيء حىّ فإنّه خلق من الماء، نظيره قوله سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.
أَفَلا يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي فِجاجاً طرقا ومسالك واحدها فج ثمّ، فسّر فقال سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من أن تسقط، دليله قوله سبحانه وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «٣» وقيل: محفوظا من الشياطين، دليله قوله سبحانه وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «٤».
وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يجرون ويسيرون، والفلك مدار النجوم الذي يضمّها، ومنه فلكة المغزل.
قال مجاهد: كهيئة حديدة الرّحا، الضحّاك: فلكها: مجراها وسرعة سيرها.
(٢) الطارق: ١٢.
(٣) الحجّ: ٦٥.
(٤) الحجر: ١٧.
وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكلّ كوكب يجري في السّماء الذي قدّر فيه وهو بمعنى قول قتادة.
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ دوام البقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أي أفهم الخالدون؟ كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع | فقلت وأنكرت الوجوه هم هم «١» |
كُلُّ نَفْسٍ منفوسة ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبّون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتّخذونك إِلَّا هُزُواً سخريّا ويقول بعضهم لبعض أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بسوء ويعيبها، قال عنترة:
لا تذكري فرسي وما أطعمته | فيكون جلدك مثل جلد الأجرب «٢» |
خُلِقَ الْإِنْسانُ يعني آدم، قرأ العامّة: بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الإنسان مِنْ عَجَلٍ اختلفوا فيه فقال بعضهم: يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، نظيره قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «٣».
قال سعيد بن جبير والسدي: لمّا دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ.
وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه، وقالوا: خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها.
قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلمّا أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خلق العجل من الإنسان كقول العرب: «عرضت
(٢) لسان العرب: ٤/ ٣١٠.
(٣) الإسراء: ١١.
حسرت كفّي عن السربال آخذه | فردا يجرّ على أيدي المفدينا «١» |
وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وانشدوا:
النبع تنبت بين الصخر ضاحية | والنخل ينبت بين الماء والعجل «٢» |
سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب وسؤال الآيات وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا من العذاب، وقيل: القيامة، وتقديره الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
قال الله سبحانه لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ يمنعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ السياط وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وفي الآية اختصار يعني لمّا أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا.
بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني الساعة بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ قال ابن عباس: تفجأهم، وقال الفرّاء: تحيّرهم. فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ يحفظكم ويحرسكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ إذا انزل بكم عذابه، ومعنى الآية: من أمر الرّحمن وعذابه.
ثم قال سبحانه بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ كتاب ربّهم مُعْرِضُونَ. أَمْ لَهُمْ الميم صلة فيه وفي أمثاله آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ فكيف ينصرون عابديهم.
وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال ابن عباس: يمنعون، عطية عنه: يجارون، يقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه.
مجاهد: ينصرون ويحفظون، قتادة: لا يصحبون من الله بخير.
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الكفّار وَآباءَهُمْ في الدنيا حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين.
أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أم نحن قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ بالقرآن وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ
(٢) لسان العرب: ١١/. ٤٢٨ والعبارة: والنبع في الصخرة الصمّاء منبتة. والنخل ينبت بين الماء والعجل. [.....]
وقرأ ابن عامر «تسمع» بتاء مضمومة وكسر الميم والصمَّ نصبا، جعل الخطاب للنبي (عليه السلام)، وقرأ الآخرون: «يَسْمَعُ» بياء مفتوحة وفتح الميم الصُّمُّ رفع على أنّ الفعل لهم إِذا ما يُنْذَرُونَ يخوّفون ويحذّرون.
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أصابتهم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ قال ابن عباس: طرف، مقاتل وقتادة:
عقوبة، ابن كيسان: قليل، ابن جريج: نصيب، من قولهم: نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسما «١» وحظّا منه، بعضهم: ضربة، من قول العرب: نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها. قال الشاعر:
وعمرة من سروات النساء | تنفح بالمسك أردانها «٢» |
قال مجاهد: هذا مثل، وإنّما أراد بالميزان العدل.
فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيّئاته.
يروى أنّ داود (عليه السلام) سأل ربّه أن يريه الميزان فأراه، فلمّا رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
فان قيل: كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «٣» ؟ فالجواب: إن المعنى فيه: لا نقوّمها ولا تستقيم على الحقّ، [من ناقصه سائله] «٤» لأنها باطلة.
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ رفع أهل المدينة المثقال بمعنى: وان وقع، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال، ومثله في سورة لقمان أَتَيْنا بِها أحضرناها، وقرأ مجاهد: آتينا بالمدّ أي جازينا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة.
(٢) تفسير القرطبي: ١١/ ٢٩٣.
(٣) الكهف: ١٠٥.
(٤) كذا في المخطوط.
ويروى أنّ عكرمة كان يقول في هذه الآية: معناها: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، ويقول: انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ «٤».
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ. وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ يعني القرآن أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ جاحدون.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٧٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ توفيقه. القرظي: صلاحه، مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون.
قال المفسّرون: يعني هديناه صغيرا كما قال ليحيى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «٥».
(٢) في نسخة أصفهان زيادة: فيكون معنى الآية: ولقد آتينا موسى وهارون النصر والتوراة الذي هو الضياء.
(٣) الصافّات: ٦- ٧.
(٤) الغافر: ٧.
(٥) مريم: ١٢.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ والصور يعني الأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ على عبادتها مقيمون.
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم.
قالَ إبراهيم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بعبادتكم إيّاها.
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ يعنون أجادّ أنت فيما تقول أم لاعب؟
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ خلقهنّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأمكرنّ بها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ.
قال مجاهد وقتادة: إنّما قال إبراهيم هذا في سرّ من قومه ولا يسمع ذلك إلّا رجل واحد منهم، وهو الذي أفشاه عليه وقال: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ.
قال السدّي: كان لهم في كلّ سنة مجمع وعيد، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثمّ عادوا إلى منازلهم، فلمّا كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إِنِّي سَقِيمٌ يقول: أشتكي رجلي، فتواطؤوا رجله وهو صريع، فلمّا مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعف الناس تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى الآلهة فإذا هنّ في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض، كلّ صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الأصنام، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلمّا نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فلمّا لم يجبه أحد قال: ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، وجعل يكسرهنّ بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلّا الصنم الأكبر «١» علّق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله سبحانه فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً.
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام، وقرأ الباقون: بضمّه أي الحطام والدقاق إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي عظيما للآلهة فإنّه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيتذكّرون ويعلمون ضعفها وعجزها، وقيل: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيسألونه، فلمّا جاء القوم من عيدهم إلى
وقال الضحّاك والسدّي: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ما يصنع به ويعاقبه، أي، يحضرون، فلمّا أتوا به قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهنّ، قاله ابن إسحاق، وإنّما أراد إبراهيم بذلك إقامة الحجّة عليهم، فذلك قوله سبحانه فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ حتى يخبروكم بمن فعل هذا بهم.
وروي عن الكسائي أنّه كان يقف عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ ويقول: معناه فعله من فعله، ثم يبتدي كَبِيرُهُمْ هذا.
وقال القتيبي: جعل إبراهيم النطق شرطا للفعل فقال فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ والمعنى إن قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك، والذي تظاهرت به الأخبار في هذه الآية، قول ابن إسحاق يدلّ عليه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: لم يكذب إلّا ثلاث كذبات كلّها في الله عزّ وجلّ قوله إِنِّي سَقِيمٌ «٢» وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة: هي أختي
، وغير مستحيل أن يكون الله سبحانه أذن لرسوله وخليله في ذلك ليقرع قومه ويوبّخهم ويحتجّ عليهم ويعرّفهم موضع خطئهم كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لأخوته: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «٣» ولم يكونوا سرقوا شيئا.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يقول: فتفكّروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فَقالُوا ما نراه إلّا كما قال إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ هذا الرجل في سؤالكم إيّاه، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فسلوها، وقيل: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير.
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ متحيّرين مثبورين وعلموا أنّها لا تنطق ولا تبطش، فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فلمّا اتّجهت الحجّة لإبراهيم عليهم قالَ لهم
(٢) الصافّات: ٨٩.
(٣) يوسف: ٧٠.
قال ابن عمر «١» : إنّ الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد، قال شعيب الجبّائي: اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قالوا: فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة فذلك قوله قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ «٢» ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطبا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابا في دينها.
قال ابن إسحاق: كانوا يجمعون الحطب شهرا، قالوا: حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أن كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيّدا مغلولا، فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلّا الثّقلين صيحة واحدة: أي ربّنا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيّرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال: اللهمّ أنت الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وروى المعتمر عن أبي بن كعب عن أرقم أنّ إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلّا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، قال: ثمّ رموه في المنجنيق إلى النّار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا، قال جبرئيل: فاسأل ربّك؟ فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله سبحانه يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال السدّي: كان جبرئيل هو الذي ناداها.
قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلّا طفئت ظنت أنّها هي تعنى.
(٢) الصافّات: ٩٧.
قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلّا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام.
قال المنهال بن عمر: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أيّاما قطّ أنعم منّي من الأيّام التي كنت فيها في النار.
قال ابن يسار: وبعث الله جلّ اسمه ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنّة وأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال:
يا إبراهيم إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي، ثمّ نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شكّ في موته، فرأى إبراهيم جالسا في روضة ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود: يا إبراهيم، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرّك، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟
قال: نعم، قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرّك؟ قال: لا، قال: فقم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلمّا خرج إليه قال له: يا إبراهيم، من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظلّ أرسله إليّ ربّي ليؤنسني فيها، فقال نمرود: يا إبراهيم إنّي مقرّب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزّته فيما صنع بك حين أبيت إلّا عبادته وتوحيده، إنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال له إبراهيم: إذا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني، فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له، فذبحها له نمرود، ثمّ كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه.
قال أبو هريرة: إنّ أحسن شيء قاله إبراهيم لمّا رفع عنه الطبق وهو في النار يرشح جبينه فقال نمرود عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم قال كعب وقتادة والزهري: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ولا أحرقت النار شيئا يومئذ إلّا وثاق إبراهيم ولم تأت يومئذ دابّة إلّا أطفأت عنه النار إلّا الوزغ، فلذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله وسمّاه فويسقا.
قال شعيب الجبائي: ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين، ولمّا علمت سارة بما أراد بإسحاق بطنت يومئذ وماتت اليوم الثالث.
قال الله سبحانه وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً من نمرود وقومه من أرض العراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني الشام.
وقال قتادة: كان يقال: الشام أعقاب دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص عن الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله الدجّال.
وحدّث أبو قلابة أنّ رسول الله (عليه السلام) قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشام، فأوّلته أنّ الفتن إذا وقعت فإنّ الإيمان بالشام.
وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) قال لكعب: ألا تتحوّل إلى المدينة فإنّها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضع قبره؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين إنّي أجد في كتاب الله المنزل أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله سبحانه به من جعل النار عليه بَرْداً وَسَلاماً على خوف من نمرود وملئهم، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخ إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له باحور بن تارخ، فهاران أبو لوط وناحورا أبو تبويل وتبويل أبو لأن، ورتقا بنت تبويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب وليا وزاجيل روحيا يعقوب ابنتا لايان، وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمّه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم عليه السلام.
وقال السدّي: كانت سارة بنت ملك حرّان وذلك أنّ إبراهيم ولوطا انطلقا قبل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حرّان وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزّوجها إبراهيم على أن يغيّرها.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربّه، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجرا حتّى قدم مصر، ثمّ خرج من مصر إلى الشام ونزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعثه الله سبحانه نبيّا فذلك قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني الشام، وبركتها أنّ منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنىّ.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: يعني
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي عطاء عن مجاهد، الحسن والضحّاك: فضلا، قال ابن عباس وأبي بن كعب وابن زيد وقتادة: سأل واحدا فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فأعطاه الله إسحاق ولدا، وزاده يعقوب ولد الولد فهو النافلة. قال مجاهد وعطاء: معنى النافلة العطية وهما جميعا من عطاء الله سبحانه أعطاهما إيّاه.
وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٣ الى ٨٢]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ يدعون الناس إلى ديننا.
بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ وإقامة الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً أي وآتينا لوطا، وقيل واذكر لوطا آتَيْناهُ حُكْماً أي الفصل بين الخصوم بالحقّ وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني سدّ وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر كانوا يعملونها من المنكرات.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نادى دعا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أتباعه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الطوفان، والكرب أشد الغم.
وَنَصَرْناهُ منعناه مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أن يصلوا إليه بسوء، وقال أبو عبيد:
أي على القوم.
فَفَهَّمْناها أي علّمناها وألهمناها يعني القضيّة سُلَيْمانَ دون داود.
وَكُلًّا يعني داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً.
قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرّة: وذلك أنّ رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئا، فقال له داود: اذهب فإنّ الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرّا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه فقال سليمان: لو ولّيت أمرهم لقضيت بغيره، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه.
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فصار صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت، فمرّوا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: ما قضى الملك في أمركم؟ فقصّوا عليه القصّة فقال سليمان:
غير هذا أرفق بالفريقين، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له: بحقّ النبوّة والأبوّة إلّا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال سليمان: تسلّم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته، ثم يرد الأغنام إلى صاحبها فقال «١» : القضاء ما قضيت. وحكم بذلك.
قال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدلّ على أنّ كلّ مجتهد مصيب.
وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال: «على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار» «٢».
(٢) السنن الكبرى للبيهقي: ٨/ ٣٤١.
قال وهب: كان داود يمرّ بالجبال مسبّحا وهي تجاوبه وكذلك الطير.
قتادة: «يُسَبِّحْنَ» أي يصلّين معه إذا صلّى.
وَكُنَّا فاعِلِينَ ذلك وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللبوس عند العرب: السلاح كلّه درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدلّ عليه قول الهذلي يصف رمحا:
ومعي لبوس للبئيس كأنّه | روق بجبهة ذي نعاج مجفل «١» |
قال قتادة: أول من صنع الدروع داود (عليه السلام) وإنّما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلقها.
لِتُحْصِنَكُمْ لتحرزكم وتمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ حربكم، واختلف القرّاء فيه، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر، ويعقوب برواية رويس، لنحصنكم بالنون، لقوله «وَعَلَّمْناهُ» وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح، بالتاء يعني الصنعة.
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخّرنا لسليمان الرِّيحَ وهو هواء محرّك وهو جسم لطيف يمتنع «٢» بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته، والريح تذكّر وتؤنّث.
عاصِفَةً شديدة الهبوب تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك أنّها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام.
قال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس على سريره وكان إمرأ غزا قلّ ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلّا أتاه حتى يذلّه، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلّها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدّته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد.
قال: فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجنّ
(٢) في الثانية: تمنّع.
قال الله سبحانه وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمِنَ الشَّياطِينِ يعني وسخّرنا لسليمان أيضا من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ يعني دون الغوص وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ حتى لا يخرجوا من أمره.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٩٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ الآية.
قال وهب بن منبّه: كان أيّوب رجلا من الروم، وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبّأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثينة من أرض الشام كلّها سهلها وجبلها بما فيها، وكان له من أصناف المال كلّه من الإبل والبقر والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة، وكان له بها خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له كلّ فدان أتان، لكلّ أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله سبحانه أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان برّا تقيّا رحيما بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكرا لأنعم الله سبحانه، مؤديا لحقّ الله تعالى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضله:
رجل من أهل اليمن يقال له اليفن، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر، وكانوا كهولا.
قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال: يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيّوب فوجدته أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثمّ لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء وأنا لك زعيم، لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينّك، فقال الله سبحانه وتعالى له: انطلق فقد سلّطتك على ماله، فانقض عدوّ الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإنّي قد سلّطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال.
قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من النار وأحرقت كلّ شيء آتي عليه، قال له إبليس: فات الإبل ورعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت «٣» في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السّموم، لا يدنو منها أحد إلّا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ منها تمثّل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيّوب حتّى وجده قائما يصلّي فقال: يا أيّوب، قال: لبّيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها؟ قال أيوب: انّها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما وطّنت مالي ونفسي على الفناء.
قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها نارا من السّماء فاحترقت ورعاؤها كلّها، فتركت الناس
(٢) الحجر: ١٨.
(٣) في نسخة أصفهان: ونبتت.
بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوّه ويفجع به صديقه.
قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي، عريانا خرجت من بطن أمّي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله سبحانه، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيّها العبد خيرا لتقبّل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فاخّرك «١»، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوّان من القمح الخالص.
فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلّم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلّا خرجت مهجة نفسه «٢»، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها، ومات رعاؤها، ثم خرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلّي، فقال له القول الأول وردّ عليه أيّوب الردّ الأول.
ثمّ إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي لم أكلّم قلب أيّوب، فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كلّ شيء تأتي عليه حتى لا أبقي شيئا، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث، وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبّت ريح عاصف فنسفت كلّ شيء من ذلك حتّى كأنّه لم يكن، ثم خرج إبليس متمثّلا بقهرمان الحرث حتى جاء أيّوب وهو قائم يصلّي فقال له مثل قوله الأوّل وردّ عليه أيّوب مثل ردّه الأوّل، فجعل إبليس يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره، كلّما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطّن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.
فلمّا رأى إبليس أنّه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إنّ أيّوب يرى أنّك ما متّعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده فإنّها الفتنة المضلّة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.
(٢) في نسخة أصفهان: مهجته.
فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلّا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب.
وانقض عدو الله إبليس سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجّل قبل أن يرفع رأسه «١» فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وأنتن.
فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: اليفر ويلدد وصافر ما ابتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، قال: وحضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم «٢»، ولكن قد تركتم من القول
(٢) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: وأولى به مني لحق أسنانكم، والأصح: لسنّكم.
ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عيّ ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزّعون خاشعون مستكينون.
فقال أيوب: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة.
ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم تصدّقوا عنّي بأموالكم! لعلّ الله أن يخلّصني، أو قرّبوا عنّي قربانا لعلّ الله يتقبّله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعزّزتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربّكم ثمّ صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقّي، منصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فإنّكم كنتم علىّ أشدّ من مصيبتي.
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستعينا به متضرعا إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني؟
الهي أنا عبد ذليل، إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع عليّ بلاء لو سلّطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، إلهي تقطّعت أصابعي فإنّي لأرفع الأكلة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلّا على الجهد منّي، تساقطت لهواتي ولحم رأسي، فما بين أذنيّ من سداد حتى أنّ إحداهما ترى من الأخرى، وإنّ دماغي يسيل من فمي.
تساقط شعر عيني فكأنما حرّق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدلّيتان على خدّي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أدخل منه طعاما إلّا غصّني، ورمت شفتاي حتّى غطّت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطّعت أمعائي في بطني فإنّي لأدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أحسّه ولا ينفعني، ذهبت قوّة رجليّ فكأنهما قربتا ماء أطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفّي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنّها عليّ ويعيّرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي وتنكّرت معارفي ورغب عنّي صديقي وقطعني أصحابي وجحدت حقوقي ونسيت صنايعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني «١» وأنحل جسمي ولو أنّ ربّي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتّى أتكلّم بملء فمي، ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ عن نفسه، لرجوت أن «٢» يعافيني عند ذلك ممّا بي ولكنّه ألقاني وتعالى عنّي فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلىّ فرحمني ولا دنا منّي ولا أدناني، فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلمّا قال ذلك أيّوب وأصحابه أظلّه غمام حتّى ظنّ أصحابه أنّه عذاب، ثمّ نودي منه: يا أيّوب إنّ الله يقول: ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبّار فإنّي لا ينبغي لي أن يخاصمني إلّا جبّار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلّا من يجعل الزمّار، في فم الأسد والسّخال في فم العنقاء واللجام في فم التنين، ويكتال مكيالا من النّور ويزن مثقالا من الرّيح ويصرّ صرّة من الشّمس ويردّ أمس، لقد منّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك ولو كنت إذ منّتك ذلك ودعتك إليه، تذكّرت أىّ مرام رامت بك.
(٢) في نسخة أصفهان: يعاقبني
أين أنت منّي يوم سخّرت البحار ونبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدّتها؟ أين أنت منّي يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود أم من أىّ شيء لهب البرق؟ وهل رأيت عمق البحر، أم هل تدري ما بعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات، أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل، وأين طريق النور، وبأىّ لغة تتكلّم الأشجار، وأين خزانة الريح؟ وكيف تحبسه الأغلاق؟
ومن جعل العقول في الرّجال؟ ومن شق الأسماع؟ ومن ذلّت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته؟ من قسّم للأسد رزقها وعرّف الطير معاشها وعطفها على أفراخها؟ من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البريّة، لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلّطين، أم حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها، أم من حكمتك تبصّر العقاب الصيد البصر البعيد وأصبح في أماكن القتلى؟
أين أنت منّي يوم خلقت يهموت مكانه في مقطع التراب والوثبان «١» يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال، ورؤسهما كأنها كوم الجبال، وعروق أفخاذها كأنها عمد النحاس، أنت ملأت جلودهما لحما أم أنت ملأت رؤسهما دماغا؟ هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي غلبتها يدان؟ هل تبلغ من قوّتك أن تضع يدك على رؤوسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدّهما من قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت للتنّين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب؟ عيناه توقدان نارا ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنّه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه تلتهب وزبده جمر كأمثال
أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى.
فقال أيّوب: قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض علىّ ليت الأرض انشقّت فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخط ربّي، اجتمع علىّ البلاء إلهي فجعلتني مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا، ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسرّ عنك سرّا وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر ممّا كنت أخاف، إنّما كنت أسمع بسطوتك سمعا فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلّت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدّي ودسست فيه وجهي لصغاري، وسكتّ كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
فقال الله سبحانه: يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاء للصابرين ف ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ، فيه شفاؤك، وقرّب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك.
فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها، فاغتسل فأذهب الله عنه كلّما كان به من البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيّرة ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته.
قال ابن عباس: فو الذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد، فذلك قوله وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ «١».
واختلف العلماء في وقت ندائه، والسبب الذي قال: لأجله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وفي مدّة بلائه.
قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلمّا راحا إلى أيّوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك، فقال أيّوب: ما أدري ما يقولان غير أنّ الله سبحانه يعلم أني كنت أمرّ بالرجلين يتنازعان فيذكران الله سبحانه وتعالى، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلّا في حقّ» «١».
قال: فكان يخرج بحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلمّا كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيّوب في مكانه ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ «٢» فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلمّا رأته قالت: هل رأيت نبىّ الله هذا المبتلى؟ قال: إنّي أنا هو، وكان له أندران: أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سبحانه سحابتين، فلمّا كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض.
وقال الحسن: مكث أيّوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف فيه الدوابّ.
وقال وهب: لم يكن بأيّوب أكلة إنّما كان يخرج منه مثل ثدي النّساء ثم يتفقّأ.
قال الحسن: ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقرّبه غير رحمة صبرت معه، تصدّق وتأتيه وتحمد الله إذا حمد، وأيّوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله سبحانه والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ عدوّ الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيّوب فلمّا اجتمعوا إليه قالوا: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربّي أن يسلّطني على ماله وولده فلم أدع له مالا، وولدا فلم يزدد بذلك إلّا صبرا وثناء على الله سبحانه، ثمّ سلّطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل، لا تقربه إلّا امرأته، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه، قالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟
(٢) سورة ص: ٤٢.
قال الحسن: فصرخت، فلمّا صرخت علم أن قد جزعت، فأتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا لي أيّوب ويبرأ.
قال: فجاءت تصرخ: يا أيوب حتى متى يعذّبك ربّك؟ ألا يرحمك؟ أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ إنّ لونك الحسن قد تغيّر وصار مثل الرّماد، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردّد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح.
قال أيّوب: أتاك عدوّ الله فنفخ فيك وأجبته؟! ويلك أرأيت ما تبكين عليه ممّا تذكرين ممّا كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك، ألا صبرت يكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربّنا به ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيت به؟ علي حرام أن أذوق شيئا ممّا تأتينني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عنّي فلا أراك، فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب إلى امرأته قد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجدا وقال: رب مَسَّنِيَ الضُّرُّ ثم ردّ ذلك إلى ربّه فقال وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له: ارفع رأسك فقد استجبت لك، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دابّة شيء ظاهر إلّا سقط، فأذهب الله كلّ ألم وكلّ سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب رجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج، فقام صحيحا وكسي حلّة.
قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئا ممّا كان له من أهل ومال إلّا وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمّه بيده فأوحى إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنّها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثمّ إنّ امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني، إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعنّ إليه، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيّوب.
فقال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: أردت بعلي فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنّه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإنّي أنا أيّوب الذي أمرتني أنّ أذبح لإبليس، وإنّي أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه وتعالى فردّ عليّ ما ترين.
وقال كعب: كان أيّوب في بلائه سبع سنين.
وقال وهب: لبث أيّوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلمّا غلب أيّوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيّوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت، بصاحبك ما صنعت وذلك أنّه عبد إله السّماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنّه عندي، ثم أراها إيّاهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه.
قال وهب: وقد سمعت أنّه إنّما قال: لو أنّ صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي ممّا به من البلاء، والله أعلم، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قبلها.
ورأيت في بعض الكتب أنّ إبليس قال لرحمة: وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيّوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: قد أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثمّ أقسم إن عافاه الله ليضربنّها مائة جلدة.
وقال عند ذلك: مسّني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إيّاها وإيّاي إلى الكفر، قالوا: ثمّ الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيّوب بصبرها معه على البلاء، وخفّف عنها، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ «١» الآية.
وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته، فلمّا طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوما من الأيّام ما تطعمه، فما وجدت شيئا
مَسَّنِيَ الضُّرُّ.
وقال قوم: إنّما قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى «١» عن الذكر والفكر.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيّوب خيرا ما ابتلاه بما نرى:
قال: فلم يسمع أيوب شيئا كان عليه أشدّ من هذه الكلمة، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة، فعند ذلك قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ، ثم قال: اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق، وهما يسمعان، ثمّ قال: اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكانا عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرّ ساجدا.
وقيل معناه: مسّني الضر من شماتة الأعداء، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعد ما عوفي: ما كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء.
وقيل: إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى موضعها وقال: كلي فقد جعلني الله طعامك، فعضّته عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان.
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول: سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
وسمعت استأذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية- بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب مَسَّنِيَ الضُّرُّ شكاية وقد قال الله سبحانه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً «٢» فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه فَاسْتَجَبْنا لَهُ والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه.
فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم: إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يردّوا عليه، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة.
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال: قيل له: إنّ أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا،
(٢) ص: ٤٤.
قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، وأراد بالأهل الأولاد.
قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.
وقال ابن يسار: كان له سبع بنين وسبع بنات، وقال آخرون: بل ردّهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال: أحياهم الله وأوتي مثلهم، وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
وقال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي ردّ عليه وأهله، فأمّا الأهل والمال فإنه ردّهما عليه بأعيانهما.
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ عظة لهم وَإِسْماعِيلَ يعني ابن إبراهيم وَإِدْرِيسَ وهو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ على أمر الله، واختلفوا في ذي الكفل،
فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله «١» الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت حديثا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو لم أسمعه إلّا مرة أو مرّتين لم أحدّث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات، قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستّين دينارا على أن تعطيه نفسها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل، ما عملته قطّ، قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهو لك، ثم قال:
والله لا أعصي الله أبدا، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل، فوجدوا على باب داره مكتوبا:
إنّ الله قد غفر لذي الكفل» «٢».
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أنّ نبيّا من الأنبياء قال: من يكفل لي أن يصوم النّهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: انا، فقال: اجلس، ثم عاد فقام الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب؟ قال:
نعم.
(٢) تفسير القرطبي: ١١/ ٣٢٧.
وقال مجاهد: لما كبر اليسع (عليه السلام) قال: لو أنّي استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس فقال: من يتقبّل لي بثلاث استخلفه:
يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا فردّه ذلك اليوم. وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا فاستخلفه- قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة- وكان لا ينام بالليل والنهار إلّا تلك النومة- فدقّ الباب فقال: من هذا؟ قال:
شيخ فقير كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فجعل يقصّ عليه فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة وإنّهم ظلموني وفعلوا، وفعلوا فجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، قال: إذا رحت فإنّني آخذ لك بحقّك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدقّ الباب فقال: من هذا؟ قال: الشيخ المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل إذا قعدت فأتني قال: إنّهم أخبّ قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نعطيك حقّك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنّي قد شقّ عليّ النوم.
فلمّا كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك؟
فقال: أمّا من قبلي فلم تؤت والله، فانظر من أين أتيت؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله منّي، فسمّي ذا الكفل لأنه تكفّل بأمر فوفى به.
وقال أبو موسى الأشعري: إنّ ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكن كان عبدا صالحا تكفّل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلّي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عزّ وجلّ عليه الثناء.
وقيل: كان رجلا تكفّل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه.
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَذَا النُّونِ واذكر صاحب النون وهو يونس بن متّى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحّاك: ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيا النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجّه نبيا قويّا أمينا فإنّي ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال:
يونس، فإنّه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري أنبياء أقوياء أمناء، فالحّوا عليه فخرج مغاضبا للنبىّ وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلمّا تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملّاحون، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر. ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة في كلّها على يونس.
فقام يونس فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه، ثمّ جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعاما لك.
وقال الآخرون: بل ذهب عن قومه مغاضبا لربّه إذ كشف عنهم العذاب بعد ما وعدهموه، وذلك أنّه كره أن يكون بين قوم قد جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبا وقال: والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا، وإنّي وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت.
وفي بعض الأخبار: إنّ قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فلمّا لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه، فغضب وقال: كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم، وكيفية القصّة، وذلك أنّه كان خرج من بين أظهرهم، وقد ذكرت القصة بالشرح في سورة يونس.
قال القتيبي: المغاضبة مفاعلة، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلة وربّما تكون من واحد كقولك: سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها، وهي هاهنا من هذا الباب، فمعنى قوله: مُغاضِباً أي غضبان أنفا، والعرب تسمّي الغضب أنفا، والأنف غضبا لقرب أحدهما من الآخر، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل، فلمّا فات الأجل ولم يعذّبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذّبوه، فمضى كالنادّ الآبق إلى السفينة،
وقال الحسن «١» : إنّما غاضب ربّه من أجل أنّه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربّه أن ينظره ليتأهّب للشخوص إليهم، فقيل له: إنّ الأمر أسرع من ذلك ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا يلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا؟ ف ذَهَبَ مُغاضِباً.
وقال وهب بن منبّه اليماني: إنّ يونس بن متّى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلمّا حملت عليه أثقال النبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربا منها، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أولي العزم، فقال لنبيّه محمد (عليه السلام) : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «٢» وقال: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «٣» أي لا تلق أمري كما ألقاه.
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، تقول العرب: قدّر الله الشيء بقدره تقديرا وقدره يقدره قدرا، ومنه قوله نَحْنُ قَدَرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «٤» وقوله وَالَّذِي قَدَرَ فَهَدى «٥» في قراءة من خفّفهما، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهري فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة: فظنّ أن لن يقدّر عليه بالتشديد على المجهول، وقرأ يعقوب يُقْدَرُ بالتخفيف على المجهول. وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير:
فليست عشيّات الحمى برواجع | لنا أبدا ما أورق السلم النضر |
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى | تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر «٦» |
(٢) الأحقاف: ٣٥.
(٣) القلم: ٤٨.
(٤) الواقعة: ٦٠. [.....]
(٥) الأعلى: ٣.
(٦) تفسير القرطبي: ١١/. ٣٣٢ والعبارة:
فليس عشيّات اللوى برواجع | أبدا ما أورق السلم النضر |
وروى عوف عن الحسن أنّه قال: معناه: فظنّ أنّه يعجز ربّه فلا يقدر عليه.
قال: وبلغني أن يونس لمّا أذنب انطلق مغاضبا لربّه واستزلّه الشيطان حتّى ظنّ أن لن يقدر عليه.
قال: وكان له سلف وعبادة فأبي الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربّه في بطن الحوت وراجع نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته.
قال عوف: وبلغني أنّه قال: وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي. والتأويلات المتقدمة أولى بالأنبياء وأبعد من الخطأ.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، قاله أكثر المفسّرين، وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة جوف الحوت، ثم ظلمة جوف الحوت الآخر الذي ابتلعه في ظلمة البحر.
أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قال محمد بن قيس: قال يونس:
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ حين عصيتك، وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك.
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا أراد الله سبحانه حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما، فأخذه ثمّ هوى به إلى مسكنه في البحر، فلمّا انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّا فقال في نفسه: ما هذا؟
فأوحى الله سبحانه إليه وهو في بطن الحوت: إنّ هذا تسبيح دوابّ البحر، قال: فسبّح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنّا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة! قال: ذاك عبدي يونس عصاني، فحبسته في بطن الحوت، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كلّ يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله سبحانه وَهُوَ سَقِيمٌ «٢» » «٣».
وروى أبو هلال محمد بن سليمان عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: أتى جبرئيل
(٢) الصافّات: ١٤٥.
(٣) جامع البيان للطبري: ١٧/ ١٠٧.
وقال الآخرون: بل كانت قصّة الحوت بعد دعائه قومه وتبليغهم رسالة ربّه كما قد بيّنا ذكره.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وروى علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت «٣» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى» قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامّة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله تعالى فَنادى فِي الظُّلُماتِ إلى قوله وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وهو شرط الله لمن دعاه بها.
واختلفت القراءة في قوله «نُنْجِي» فقرأه العامة بنونين الثانية منهما ساكنة من الإنجاء على معنى نحن ننجي، فإن قيل: لم كتبت في المصاحف بنون واحدة؟ قيل: لأنّ النون الثانية لمّا سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت، كما فعلوا ذلك بإلّا فحذفوا النون من لجعلها أو كاشفة إذا كانت مدغمة في اللام، وقرأ ابن عامر وعاصم برواية ابن بكر نجي المؤمنين بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، واختلف النحاة في هذه القراءة فمنهم من صوّبها وقال: فيه إضمار معناه: نجي المؤمنين كما يقال: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا. قال الشاعر:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب | لسبّ بذلك الجرو «٤» الكلابا» |
الأمر أعجل من ذلك، قال فغضب من ذلك فانطلق إلى...
(٢) الصافّات: ١٤٧.
(٣) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٠٢.
(٤) في نسخة أصفهان: الكلب.
(٥) تفسير القرطبي: ١١/ ٣٣٥.
وقال القتيبي: من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنّه أراد ننجي من التنجية إلّا أنّه أدغم وحذف نونا على طلب الخفّة.
وقال النحويون: وهو رديء لبعد مخرج النون من الجيم، وممن جوّز «١» هذه القراءة أبو عبيد، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحّنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال: هذا لحن لا يجوز في اللغة، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله سبحانه وتعالى إلّا أن يقول: وكذلك نجي المؤمنين، ولو قرئ كذلك لكان صوابا، والله أعلم.
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى دعا رَبَّهُ فقال رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا لا ولد لي ولا عقب وارزقني وارثا، ثمّ ردّ الأمر إلى الله سبحانه فقال وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ بأن جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما، قاله أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق.
إِنَّهُمْ يعني الأنبياء الذين سمّاهم في هذه السورة.
كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً خوفا وطمعا رغبا في رحمة الله ورهبا من عذاب الله، وقرأ الأعمش، رُغْبا ورُهْبا بضم الراء وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل السقم والسقم والثكل والثكل والنحل والنحل والعدم والعدم.
وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ خاضعين متواضعين.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ حفظت ومنعت فَرْجَها ممّا حرم الله سبحانه وهي مريم بنت عمران فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه.
وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي دلالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، حمل امرأة بلا مماسّة ذكر، وكون ولد من غير أب، وإنّما قال «آيَةً» ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين.
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ ملّتكم أُمَّةً واحِدَةً ملّة واحدة وهي الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت بالشريعة أمة واحدة
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي اختلفوا في الدين صاروا فيه فرقا وأحزابا، ثم قال كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجزيهم بأعمالهم.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ لا نبطل عمله ولا نجحده بل يشكر ويثاب عليه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ لعمله حافظون.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٥ الى ١١٢]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩)
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قرأ أهل الكوفة: وَحِرْمٌ بكسر الحاء وجزم الراء من غير ألف، وقرأ الآخرون: وَحَرامٌ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، هما لغتان مثل حل وحلال.
قال ابن عباس: معنى الآية «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» أي أهل قرية أَهْلَكْناها أي يرجعون بعد الهلاك وعلى هذا التأويل يكون لا صلة مثل قول العجاج:
في سر لا حورى سرى وما شعر
أي في سر حور «١».
وإنّ حراما لا أرى الدهر باكيا | على شجوه إلّا بكيت على عمرو «١» |
وقال جابر الجعفي: سألت أبا جعفر عن الرجعة فقرأ هذه الآية.
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ قرأه العامة بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد على الكسرة.
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ومعنى الآية فرّج السد عن يأجوج ومأجوج، وقد ذكرنا قصتهما بالشرح.
وروى منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «٢» : أوّل الآيات الدجّال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، والدخان والدابّة، ثم يأجوج ومأجوج.
قال حذيفة: قلت: يا رسول الله ما يأجوج ومأجوج؟ قال: أمم، كلّ أمّة أربعمائة ألف أمّة، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه، وهم ولد آدم (عليه السلام) فيسيرون إلى خراب الدنيا، ويكون مقدمتهم بالشام وساقهم بالعراق، فيمرّون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحر الطبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولوا: قد قتلنا أهل الدنيا، فقاتلوا من في السماء فيرمون بالنشّاب إلى السّماء، فيرجع نشابهم مخضّبة بالدم فيقولون: قد قتلنا من في السّماء.
وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين فيوحي الله سبحانه إلى عيسى أن احرز عبادي بالطور وما يلي، ثمّ إنّ عيسى يرفع يديه إلى السّماء، ويؤمّن المسلمون، فيبعث الله سبحانه عليهم دابّة يقال لها النغف «٣» تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى من حاقّ الشام إلى حاق المشرق «٤» «٥» حتى تنتن الأرض من جيَفهم ويأمر الله سبحانه السماء فتمطر كأفواه القرب فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها «٦».
(٢) جامع البيان للطبري: ٢٥/ ١٤٧.
(٣) في نسخة أصفهان: العرف.
(٤) في تفسير الطبري: العراق.
(٥) في نسخة أصفهان: المغرب.
(٦) تفسير الطبري: ١٧/ ١١٥، وبعضه في سنن ابن ماجة: ٢/ ١٣٤٧، ح ٤٠٥٥.
واختلف العلماء في هذه الكناية فقال قوم: عنى بهم يأجوج ومأجوج، واستدلّوا
بحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله سبحانه مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيغشون الأرض «١».
وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يذكر عن عيسى قال: «قال عيسى: عهد إليّ ربي أنّ الدجّال خارج وأنّه مهبطي إليه، فذكر أنّ معه قصبتين فإذا رآني أهلكه الله، قال:
فيذوب كما يذوب الرصاص حتى أنّ الشجر والحجر ليقول: يا مسلم هذا كافر فاقتله، فيهلكهم الله عزّ وجلّ ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، لا يأتون على شيء إلّا أهلكوه ولا يمرّون على ماء إلّا شربوه» «٢».
وقال آخرون: أراد جميع الخلق، يعني أنّهم يخرجون من قبورهم ومواضعهم فيحشرون إلى موقف القيامة، تدلّ عليه قراءة مجاهد: وهم من كلّ جدث بالجيم والثاء يعني القبر اعتبارا بقوله سبحانه فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «٣».
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يعني القيامة، قال الفرّاء وجماعة من العلماء: الواو في قوله «وَاقْتَرَبَ» مقحم ومجاز الآية: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ، نظيرها قوله فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ «٤» أي ناديناه. قال امرؤ القيس:
فلمّا أجزنا ساحة الحىّ وانتحى... بباطن خبت ذي قفاف عقنقل «٥»
يريد انتحى، ودليل هذا التأويل حديث حذيفة قال: لو أنّ رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتّى تقوم الساعة.
وقال الزجّاج: البصريون لا يجيزون طرح الواو ويجعلون جواب حتى إذا فتحت في قوله «يا وَيْلَنا» وتكون مجازا الآية حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ قالوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.
فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا في قوله هِيَ ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون هي كناية عن الأبصار ويكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها كقول الشاعر:
(٢) جامع البيان للطبري: ١٧/ ١٢٠.
(٣) سورة يس: ٥١.
(٤) سورة الصافّات: ١٠٣- ١٠٤.
(٥) تاج العروس: ٤/ ١٩.
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي | ألا فرّ عنّي مالك بن أبي كعب «١» |
والثاني: أن تكون هي عمادا كقوله «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ»، وكقول الشاعر:
فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس «٢»
والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله هِيَ على معنى هي بارزة واقفة يعني: من قربها كأنّها آتية حاضرة، ثم ابتدأ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا على تقديم الخبر على الابتداء مجازها: أبصار الذين كفروا شاخصة من هول قيام الساعة، وهم يقولون يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي من هذا اليوم بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ بمعصيتنا ربّنا ووضعنا العبادة في غير موضعها.
إِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ قراءة العامة بالصاد أي وقودها عن ابن عباس.
وقال مجاهد وقتادة وعكرمة: حطبها، وذكر أنّ الحصب في لغة أهل اليمن الحطب.
الضحّاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء، وأصل الحصب الرمي يقال:
حصبت الرجل إذا رميته، قال الله سبحانه وتعالى إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً «٣» يعني ريحا ترميهم بالحجارة وقرأ ابن عباس: حضب بالضاد، وهو كل ما هيّجت وأوقدت به النار، ومنه قيل لدقاق النار: حضب،
وقرأ علي وعائشة: ولا هو من حميد: حطب بالطاء
نظيرها قوله سبحانه «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ».
أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأصنام آلِهَةً على الحقيقة ما وَرَدُوها يعني ما دخل عابدوها النار، بل منعتها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني العابد والمعبود.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعل التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذّب غيره.
ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ قال قوم من العلماء: إنّ ها هنا بمعنى
(٢) جامع البيان للطبري: ١/ ٥٦٥.
(٣) سورة القمر: ٣٤.
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى السعادة والعدة الجميلة بالجنّة أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ والإبعاد:
تطويل المسافة. واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقال أكثر المفسرين: عندي بذلك كلّ من عبد من دون الله وهو طائع ولعبادة من يعبده كاره،
وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم «١» وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآيات الثلاث، ثمّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له ابن الزبعرى: أنت قلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية يعني عزيرا وعيسى والملائكة» «٢».
قال الحسن بن الفضل: إنما أراد بقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان دون غيرها لأنّه لو أراد الملائكة والنّاس لقال: «ومن تعبدون»، قلت: ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام.
وقال بعضهم: هذه الآية عامّة في كلّ من سبقت له من الله السعادة.
قال محمّد بن حاطب: سمعت عليّا كرّم الله وجهه يخطب، فقرأ هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ فقال: عثمان (رضي الله عنه) منهم!.
وقال الجنيد في هذه الآية: سبقت لهم من الله العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية.
أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السبيعي بحلب قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال: حدّثنا عبيد الله القواريري قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني قال: حدّثنا ليث عن ابن عمّ النعمان بن بشير- وكان من سمّار علىّ- قال: تلا عليّ
(٢) جامع البيان للطبري: ١٧/ ١٢٨.
والشهوة طلب النفس اللذّة، نظيرها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «١».
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقرأ أبو جعفر بضمّ الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضمّ الزاي، واختلفوا في الفزع الأكبر، فقال ابن عباس: النفخة الآخرة، دليله قوله سبحانه وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «٢».
وقال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار.
سعيد بن جبير والضحّاك: إذا أطبقت على أهل النار.
ابن جريج: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظران فينادى: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النّار خلود فلا موت.
ذو النون المصري: هو القطيعة والهجران والفراق.
وَتَتَلَقَّاهُمُ تستقبلهم الْمَلائِكَةُ على أبواب الجنة يهنّونهم ويقولون لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ. نَطْوِي السَّماءَ قرأ أبو جعفر تُطْوَى السَّماءُ بضم التاء والهمزة على المجهول، وقرأ الباقون بالنون السماء نصب كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ أهل الكوفة على الجمع، غيرهم: للكتاب على الواحد واختلفوا في السجلّ، فقال ابن عمر والسدىّ: السجل:
ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستغفار قال الله سبحانه: أكتبها نورا.
وقال ابن عباس ومجاهد: هو الصحيفة، واللام في قوله لِلْكُتُبِ بمعنى على تأويلها كطىّ الصحيفة على مكتوبها.
وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أنّ السجلّ اسم كاتب لرسول الله، وهذا قول غير قوي لأنّ كتّاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب «الربيع»، والسجلّ اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال: سجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة، قال الشاعر:
(٢) سورة النمل: ٨٧.
من يساجلني يساجل ماجدا | يملأ الدلو إلى عقد الكرب «١» |
أحدهما: الدرج الذي هو ضدّ النشر قال الله سبحانه وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «٢».
والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها، قال الله سبحانه وتعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ «٣» تقول العرب:
اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه.
ثمّ ابتدأ واستأنف الكلام فقال عزّ من قائل كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ قال أكثر العلماء:
كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عزّلا كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيرها قوله سبحانه وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «٤» وقوله عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا. لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
«٥».
ودليل هذا التأويل ما
روى ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنّة فقال: إنّ الجنّة لا يدخلها العجّز، فأخذ العجوز ما أخذها «٦».
فقال (عليه السلام) : إنّ الله ينشئهنّ خلقا غير خلقهن، قال الله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «٧» الآية ثمّ قال: يحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفا، فأوّل من يكسى إبراهيم صلوات الله عليه».
فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: وا سوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضا؟
قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «٨»، ثم قرأ رسول الله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ كيوم ولدته أمه.
(٢) سورة الزمر: ٦٧.
(٣) سورة التكوير: ١- ٢.
(٤) سورة الأنعام: ٩٤.
(٥) سورة الكهف: ٤٨.
(٦) جامع البيان للطبري: ١٧/ ١٣٤.
(٧) سورة الواقعة: ٣٥.
(٨) سورة عبس: ٣٧.
وَعْداً عَلَيْنا نصب على المصدر يعني وعدناه وعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني الإعادة والبعث.
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قرأ الأعمش وحمزة: الزُّبُورِ بضم الزاي، وغيرهما يقرءون بالنصب وهو بمعنى المزبور كالحلوب والركوب، يقال: زبرت الكتاب وذبرته إذا كتبته، واختلفوا في معنى الزبور في هذه الآية، فقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد: عنى بالزبور الكتب المنزلة وبالذكر أمّ الكتاب الذي عنده.
وقال ابن عباس والضحّاك: الذكر التوراة والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقال الشعبي: الزبور كتاب داود والذكر التوراة.
وقال بعضهم: الزبور زبور داود والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «١» أي أمامهم، وقوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «٢» أي قبل ذلك أَنَّ الْأَرْضَ يعني أرض الجنّة يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني أمة محمد (عليه السلام) قاله مجاهد وأبو العالية، ودليل هذا التأويل قوله وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ.
وقال ابن عباس: أراد أنّ الأرض في الدنيا تصير للمؤمنين، وهذا حكم من الله سبحانه بإظهار الدّين وإعزاز المسلمين وقهر الكافرين.
قال وهب: قرأت في عدّة من كتب الله أنّ الله عزّ وجلّ قال: إنّي لأورث الأرض عبادي الصالحين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً وصولا إلى البغية، من اتّبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر.
لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي مؤمنين يعبدون الله سبحانه وتعالى.
وقال ابن عباس: عالمين، وقال كعب الأحبار: هم أمّة محمد أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان، سمّاهم الله سبحانه وتعالى عابدين.
(٢) سورة النازعات: ٣٠.
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ يعني أعلمتكم على بيان أنا وإيّاكم حرب لا صلح بيننا، وإنّي مخالف لدينكم، وقيل:
معناه عَلى سَواءٍ من الإنذار لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره، وقيل: لتستووا في الإيمان به، وهذا من فصيحات القرآن.
وَإِنْ أَدْرِي وما أعلم أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يعني القيامة، نسخها قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ أي لعلّ تأخير العذاب عنكم، كناية عن غير مذكور فِتْنَةٌ اختبار لَكُمْ ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ إلى أجل يقضي الله فيه ما شاء.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدّثنا محمد بن أبي غالب قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا مجالد قال: حدّثني السبعي قال: لما سلم الحسن بن عليّ لمعاوية الأمر، قال له معاوية: قم فاخطب واعتذر إلى الناس، فقام الحسن فخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنّ أكيس الكيس التقى، وإنّ أحمق الحمق الفجور، وإنّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا حقّ امرئ كان أحقّ به، وإمّا حقّ كان لي فتركته التماس الصلاح لهذه الأمّة، ثم قال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ افعل بيني وبين من كذبني بالحق، والله لا يحكم إلّا بالحق، وفيه وجهان من التأويل:
قال أهل التفسير: الحق ها هنا بمعنى العذاب كأنّه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر وليله، نظيره قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «١».
وقال قتادة: كان رسول الله (عليه السلام) إذا شهد قتالا قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ.
وقال أهل المعاني: معناه: رب احكم بحكمك الحق، فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ حفص قالَ رَبِّ بالألف على الخبر، الباقون: قل على
سورة النحل ٥ سورة بني إسرائيل (الإسراء) ٥٤ سورة الكهف ١٤٤ سورة مريم ٢٠٥ سورة طه ٢٣٥ سورة الأنبياء ٢٦٨