تفسير سورة الزمر

الطبري
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾
يقول تعالى ذكره: (تَنزيلُ الْكِتَابِ) الذي نزلناه عليك يا محمد (مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ) في انتقامه من أعدائه (الحَكِيمِ) في تدبيره خلقه، لا من غيره، فلا تكوننّ في شكّ من ذلك، ورفع قوله: (تَنزيلُ) بقوله: (مِنَ اللَّهِ) وتأويل الكلام: من الله العزيز الحكيم تنزيل الكتاب. وجائز رفعه بإضمار هذا، كما قيل: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا) غير أن الرفع في قوله: (تَنزيلُ الْكِتَابِ) بما بعده، أحسن من رفع سورة بما بعدها، لأن تنزيل، وإن كان فعلا فإنه إلى المعرفة أقرب، إذ كان مضافا إلى معرفة، فحسن رفعه بما بعده، وليس ذلك بالحسن في"سُورَة"، لأنه نكرة.
وقوله: (إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني بالكتاب: القرآن (بِالْحَقِّ) يعني بالعدل، يقول: أنزلنا إليك هذا القرآن يأمر بالحقّ والعدل، ومن ذلك الحق والعدل أن تعبد الله مخلصا له الدين، لأن الدين له لا للأوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا. ،
248
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الكِتابَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) يعني: القرآن.
وقوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) يقول تعالى ذكره: فاخشع لله يا محمد بالطاعة، وأخلص له الألوهة، وأفرده بالعبادة، ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكا، كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال:"يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات، فيقول ربّ العزّة جلّ وعزّ: صَلَّيت يوم كذا وكذا، ليقال: صلَّى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا، لي الدين الخالص. صمتَ يوم كذا وكذا، ليقال: صام فلان! أنا الله لا آله إلا أنا لي الدين الخالص، تصدّقت يوم كذا وكذا، ليقال: تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص، فما يزال يمحو شيئا بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء، فيقول ملكاه: يا فلان، ألغير الله كنت تعمل".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، أما قوله: (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) فالتوحيد، والدين منصوب بوقوع مخلصا عليه.
وقوله: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) يقول تعالى ذكره: ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شريك له، خالصة لا شرك لأحد معه فيها، فلا ينبغي ذلك لأحد، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه لا من لا يملك منه شيئا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
250
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) يقول تعالى ذكره: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يَتَوَلَّوْنَهُم، ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زُلْفَى، قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا، وهي فيما ذُكر في قراءة أبي:"ما نَعْبُدُكُمْ"، وفي قراءة عبد الله:" (قالوا ما نعبدهم) وإنما حسن ذلك لأن الحكاية إذا كانت بالقول مضمرا كان أو ظاهرا، جعل الغائب أحيانا كالمخاطب، ويترك أخرى كالغائب، وقد بيَّنت ذلك في موضعه فيما مضى.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: هي في قراءة عبد الله:"قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ".
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) قال: قريش تقوله للأوثان، ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى ابن مريم ولعزَير.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقرّبونا، إلا ليشفعُوا لنا عند الله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) قال: هي منزلة.
251
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) يقول سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) قال: قالوا هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة للأوثان، والزلفى: القُرَب.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يقول تعالى ذكره: إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها، بأن يصليهم جميعا جهنم، إلا من أخلص الدين لله، فوحده، ولم يشرك به شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ٣ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي) إلى الحق ودينه الإسلام، والإقرار بوحدانيته، فيوفقه له (مَنْ هُوَ كَاذِبٌ) مفتر على الله، يتقول عليه الباطل، ويضيف إليه ما ليس من صفته، ويزعم أن له ولدا افتراء عليه، كفار لنعمه، جحودا لربوبيته.
وقوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد، ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء، يقول: لاختار من خلقه ما يشاء. وقوله: (سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) يقول: تنزيها لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم (هُوَ
اللَّهُ) يقول: هو الذي يَعْبده كلّ شيء، ولو كان له ولد لم يكن له عبدا، يقول: فالأشياء كلها له ملك، فأنى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه، والقهار لخلقه بقدرته، فكل شيء له متذلل، ومن سطوته خاشع.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) ﴾
يقول تعالى ذكره واصفا نفسه بصفتها: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل) يقول: يغشي هذا على هذا، وهذا على هذا، كما قال (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) يقول: يحمل الليل على النهار.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ) قال: يدهوره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) قال: يَغْشَى هذا هذا، ويغشى هذا هذا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله:
253
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) قال: يجيء بالنهار ويذهب بالليل، ويجيء بالليل، ويذهب بالنهار.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فى قوله: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) حين يذهب بالليل ويكور النهار عليه، ويذهب بالنهار ويكور الليل عليه.
وقوله: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يقول تعالى ذكره: وسخر الشمس والقمر لعباده، ليعلموا بذلك عدد السنين والحساب، ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة معاشهم (كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى) يقول: (كُلّ) ذلك يعني الشمس والقمر (يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى) يعني إلى قيام الساعة، وذلك إلى أن تكوّر الشمس، وتنكدر النجوم. وقيل: معنى ذلك: أن لكل واحد منهما منازل، لا تعدوه ولا تقصر دونه (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) يقول تعالى ذكره: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه هذه النعم هو العزيز في انتقامه ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين إليه منها بعفوه لهم عنها.
254
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: (خَلَقَكُمْ) أيها الناس (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعني من آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) يقول: ثم جعل من آدم زوحه حواء، وذلك أن الله خلقها من ضِلَع من أضلاعه.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
254
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعني آدم، ثم خلق منها زوجها حواء، خلقها من ضِلَع من أضلاعه.
فإن قال قائل: وكيف قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها؟ وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته، ولا شك أن الوالدين قبل الولد، فإن في ذلك أقوالا أحدها أن يقال: قيل ذلك لأنه رُوي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ كُلَّ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ أسْكَنَهُ بَعْدَ ذلك الجَنَّةَ، وَخَلَقَ بَعْدَ ذلك حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أضْلاعِهِ" فهذا قول. والآخر: أن العرب ربما أخبر الرجل منهم عن رجل بفعلين، فيرد الأول منهما في المعنى بثم، إذا كان من خبر المتكلم، كما يقال: قد بلغني ما كان منك اليوم، ثم ما كان منك أمس أعجب، فذلك نسق من خبر المتكلم. والوجه الآخر: أن يكون خلقه الزوج مردودا على واحدها، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها، فيكون في واحدة معنى: خلقها وحدها، كما قال الراجز:
أَعْدَدْتُهُ للْخَصْمِ ذِي التَّعَدِّي كَوَّحْتَهُ مِنْكَ بِدُونِ الجَهْدِ (١)
(١) البيتان من الرجز أنشدهما صاحب اللسان في" كوح" شاهدا على أن كوحه بمعنى رده. وقال الأزهري: التكويح التغليب، وأنشد أبو عمرو:" أعددته للخصم... البيت". وهو أيضا من شواهد الفراء في معانى القرآن (الورقة ٢٨٣). قال: في تفسير قوله تعالى:" خلقكم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها" والزوج مخلوق قبل الولد؟ ففي ذلك وجهان من العربية. أحدهما أن العرب إذا خبرت عن رجل بفعلين ردوا الآخر بثم إذا كان هو الآخر في المعنى. وربما جعلوا" ثم" فيما معناه التقديم، ويجعلون" ثم" من خبر المتكلم. من ذلك أن تقول: قد بلغني ما صنعت يومك هذا، ثم ما صنعت أمس أعجب، فهذا نسق من خبر المتكلم، وتقول: قد أعطيتك اليوم شيئا، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر. فهذا من ذلك. والوجه الآخر أن تجعل خلقة الزوج مردودا على واحدة، كأنه قال خلقكم من نفس وحدها، ثم جعل منها زوجها، ففي" واحدة" معنى خلقها واحد. قال: أنشدني بعض العرب: أعددته للخصم... البيت. ومعناه: الذي إذا تعدى كوحته. وكوحته: غلبته. اهـ.
255
بمعنى: الذي إذا تعدى كوّحته، ومعنى: كوحته: غلبته.
والقول الذي يقوله أهل العلم أولى بالصواب، وهو القول الأول الذي ذكرت أنه يقال: إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه قبل أن يخلق حوّاء، وبذلك جاءت الرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والقولان الآخران على مذاهب أهل العربية.
وقوله: (وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) يقول تعالى ذكره: وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين، ومن الضأن اثنين، ومن المعْز اثنين، كما قال جل ثناؤه: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال، ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) قال: من الإبل والبقر والضأن والمعز.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، من كلّ واحد زوج.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) يعني من المعز اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين.
وقوله: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) يقول تعالى
256
ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، وذلك أنه يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يُنْشئه خلقا آخر، تبارك الله وتعالى، فذلك خلقه إياه خلقا بعد خلق.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: نطفة، ثم ما يتبعها حتى تم خلقه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم لحما، ثم أنبت الشعر، أطوار الخلق.
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: يعني بخلق بعد الخلق، علقة، ثم مضغة، ثم عظاما.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: يكونون نطفا، ثم يكونون علقا، ثم يكونون مضغا، ثم يكونون عظاما، ثم ينفخ فيهم الروح.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) خلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد خلقه إياكم في ظهر آدم، قالوا: فذلك هو الخلق من بعد الخلق.
257
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) قال: خلقا في البطون من بعد الخلق الأول الذي خلقهم في ظهر آدم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي قاله عكرمة ومجاهد، ومن قال في ذلك مثل قولهما، لأن الله جلّ وعزّ أخبر أنه يخلقنا خلقا من بعد خلق في بطون أمهاتنا في ظلمات ثلاث، ولم يخبر أنه يخلقنا فى بطون أمهاتنا من بعد خلقنا في ظهر آدم، وذلك نحو قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)... الآية.
وقوله: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) يعني: في ظلمة البطْن، وظلمة الرّحِم، وظُلْمة المَشِيمَة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السريّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: الظلمات الثلاث: البطن، والرحم، والمَشِيمة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: البطن، والمشيمة، والرحم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: يعني بالظلمات الثلاث: بطن أمه، والرحم، والمَشِيمة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: البطن، والرحم والمشيمة.
258
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) المَشِيمة، والرحم، والبطن.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة البطن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) قال: المشيمة في الرحم، والرحم في البطن.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) : الرحم، والمشيمة، والبطن، والمشيمة التي تكون على الولد إذا خرج، وهي من الدواب السَّلى.
وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي فعل هذه الأفعال أيها الناس هو ربكم، لا من لا يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرّا، ولا يسوق إليكم خيرا، ولا يدفع عنكم سوءا من أوثانكم وآلهتكم.
وقوله: (لَهُ الْمُلْكُ) يقول جلّ وعزّ: لربكم أيها الناس الذي صفته ما وصف لكم، وقُدرته ما بين لكم المُلك، ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما لا لغيره، فأما ملوك الدنيا فإنما يملك أحدهما شيئا دون شيء، فإنما له خاص من الملك. وأما المُلك التام الذي هو المُلك بالإطلاق فلله الواحد القهار.
وقوله: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يقول تعالى ذكره: لا ينبغي أن يكون معبود سواه، ولا تصلح العبادة إلا له (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يقول تعالى ذكره: فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم، الذي هذه الصفة صفته، إلى عبادة من لا ضر عنده لكم ولا نفع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَنَّى
259
تُصْرَفُونَ) قال: كقوله: (تُؤْفَكُونَ)
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) قال للمشركين: أنى تصرف عقولكم عن هذا؟
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) فقال بعضهم: ذلك لخاص من الناس، ومعناه: إن تكفروا أيها المشركون بالله، فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده المؤمنين الذين أخلصهم لعبادته وطاعته الكفر. * ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولوا: لا إله إلا الله، ثم قال: (وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) وهم عباده المخلصون الذين قال فيهم: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) قال: لا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا.
وقال آخرون: بل ذلك عام لجميع الناس، ومعناه: أيها الناس إن تكفروا، فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لكم أن تكفروا به.
والصواب من القول في ذلك ما قال الله جلّ وعزّ: إن تكفروا بالله أيها
260
الكفار به، فإن الله غني عن إيمانكم وعبادتكم إياه، ولا يرضى لعباده الكفر، بمعنى: ولا يرضى لعباده أن يكفروا به، كما يقال: لست أحب الظلم، وإن أحببت أن يظلم فلان فلانا فيعاقب.
وقوله: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) يقول: وإن تومنوا بربكم وتطيعوه يرض شكركم له، وذلك هو إيمانهم به وطاعتهم إياه، فكنى عن الشكر ولم يُذْكر، وإنما ذكر الفعل الدالّ عليه، وذلك نظير قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) بمعنى: فزادهم قول الناس لهم ذلك إيمانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) قال: إن تطيعوا يرضه لكم.
وقوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقول: لا تأثم آثمة إثم آثمة أخرى غيرها، ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها، يعلم عز وجل عباده أن على كل نفس ما جنت، وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) قال: لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
وقوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره: ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسيئ، وإيمان وكفر أيها الناس، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم، (فَيُنَبِّئُكُمْ) يقول: فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشر، فيجازيكم على كل ذلك جزاءكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بما يستحقه، يقول عز وجل لعباده: فاتقوا أن تلقوا
261
ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم فتهلكوا، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول تعالى ذكره: إن الله لا يخفى عليه ما أضمرته صدوركم أيها الناس مما لا تدركه أعينكم، فكيف بما أدركته العيون ورأته الأبصار. وإنما يعني جلّ وعزّ بذلك الخبر عن أنه لا يخفى عليه شيء، وأنه محص على عباده أعمالهم، ليجازيهم بها كي يتقوه في سرّ أمورهم وعلانيتها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا مَسَّ الإنسان بلاء في جسده من مرض، أو عاهة، أو شدّة في معيشته، وجهد وضيق (دَعَا رَبَّهُ) يقول: استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك، ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك. وقوله: (مُنِيبًا إِلَيْهِ) يقول: تائبا إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان به في عبادته، راجعا إلى طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ) قال: الوجع والبلاء والشدّة (دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) قال: مستغيثا به.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) يقول تعالى ذكره: ثم إذا منحه ربه نعمة منه، يعني عافية، فكشف عنه ضرّه، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء.
262
والعرب تقول لكلّ من أعطى غيره من مال أو غيره: قد خوّله، ومنه قول أبي النجْم العِجْلِيّ:
أعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّل... كُومَ الذرَا مِنْ خَوَلِ المَخَوِّلِ (١)
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى أنه قال: سمعت أبا عمرو يقول في بيت زُهَيْر:
هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْوِلوا... وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطوا وَإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا (٢)
قال معمر: قال يونس: إنما سمعناه:
هُنَالكَ إنْ يُسْتَخْبِلُوا المَالَ يُخْبِلوا (٣)
قال: وهي بمعناها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (ثُمَّ إِذَا
(١) البيت لأبي النجم العجلى الراجز المشهور (اللسان: خول). وهو يمدح إنسانا أنه أعطى من سأله النوق السمينة العالية السنام والذرا: جمع ذروة، وهو أعلى الشيء. وهي مما خوله الله ومنحه، وكان عطاؤه كثيرا، فلم يبخل به، ولم ينسبه أحد إلى البخل. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورثة ٢١٦)، عند قوله تعالى:" ثم إذا خوله نعمة منه": كل مال لك، وكل شيء أعطيته فقد خولته؛ قال أبو النجم:" أعطى فلم يبخل... البيت"
(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا ص ٢٣٩) والرواية فيه" يستخلبوا" في موضوع يستخولوا قال في اللسان: والاستخوال أيضا مثل الاستخبال، من أخبلته المال: إذا أعرته ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها، أو فرسا يغزو عليه. ومنه قول زهير:" هنالك إن يستخولوا المال... البيت". ومعنى ييسروا: يقامروا. ويغلوا: يختاروا سمان الإبل بالثمن الغالي، ويقامروا عليها. والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (٢١٦ ب) قال: وسمعت أبا عمرو يقول في بيت زهير" هنالك... الخ": قال يونس: إنما سمعناه:" هنالك إن يستخلبوا المال". أي يخبلوا: وهو بمعناها.
(٣) تقدم الكلام على رواية هذا الشطر من بيت زهير بن أبي سلمى في الشاهد الذي قبله.
263
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) : إذا أصابته عافية أو خير.
وقوله: (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يقول: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) يعني: شركاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (نَسِيَ) يقول: ترك، هذا في الكافر خاصة.
ولـ"ما" التي في قوله: (نَسِيَ مَا كَانَ) وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الذي، ويكون معنى الكلام حينئذ: ترك الذي كان يدعوه في حال الضر الذي كان به، يعني به الله تعالى ذكره، فتكون"ما" موضوعة عند ذلك موضع"من" كما قيل: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) يعني به الله، وكما قيل: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ). والثاني: أن يكون بمعنى المصدر على ما ذكرت. وإذا كانت بمعنى المصدر، كان في الهاء التي في قوله: (إِلَيْهِ) وجهان: أحدهما: أن يكون من ذكر ما. والآخر: من ذكر الربّ.
وقوله: (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) يقول: وجعل لله أمثالا وأشباها.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي جعلوها فيه له أندادا، قال بعضهم: جعلوها له أندادا في طاعتهم إياه في معاصي الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) قال: الأنداد من الرجال: يطيعونهم في معاصي الله.
وقال آخرون: عنى بذلك أنه عبد الأوثان، فجعلها لله أندادا في عبادتهم إياها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى به أنه أطاع الشيطان
264
في عبادة الأوثان، فحصل له الأوثان أندادا، لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم له على عبادتها.
وقوله: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول: ليزيل من أراد أن يوحد الله ويؤمن به عن توحيده، والإقرار به، والدخول في الإسلام. وقوله: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لفاعل ذلك: تمتع بكفرك بالله قليلا إلى أن تستوفي أجلك، فتأتيك منيتك (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) : أي إنك من أهل النار الماكثين فيها. وقوله: (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) : وعيد من الله وتَهَدُّدٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (٩) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (أَمِنَ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين:"أمن" بتخفيف الميم، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون الألف في"أمَّنْ" بمعنى الدعاء، يراد بها: يا من هو قانت آناء الليل، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا، فتقول: أزيد أقبل، ويا زيد أقبل، ومنه قول أوس بن حجر:
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُم بِيَدٍ إلا يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (١)
(١) تقدم الاستشهاد بالبيت في الجزء (١٤: ١١٠) وشرحناه شرحا مفصلا، فراجعه ثمة. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٤) وموضع الاستشهاد به في هذا الموضع أن العرب تنادي بالهمزة، كما تنادي بيا. قال الفراء: عند قوله تعالى" أم من هو قانت آناء الليل" قرأها يحيي بن وثاب بالتخفيف. وذكر ذلك عن نافع وحمزة، وفسروها: يريد: يا من هو قانت، وهو وجه حسن. العرب تدعو بألف كما يدعون بيا، فيقولون: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل؛ قال الشاعر:" أبني لبيني... البيت" وقال آخر:" أضمر بن ضمرة... البيت". وهو كثير في الشعر، فيكون المعنى مردودا بالدعاء، كالمنسوق، لأنه ذكر الناسي الكافر، ثم قص قصة الصالح بالنداء، كما تقول في كلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر. فهذا هو معناه. وقد تكون الألف استفهاما، وبتأويل أم، لأن العرب قد تضع" أم" في موضع الألف، إذا سبقها كلام، وقد وصفت من ذلك ما يكتفي به، فيكون المعنى أمن هو قانت؟ كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر. ومن قرأها بالتشديد، فإنه يريد معنى الألف وهو الوجه: أن تجعل" أم" إذا كانت مردودة على معنى قد سبق، قلتها بأم. وقد قرأها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدني، يريدون" أم من هو" فقد تبين في الكلام أنه مضمر قد جرى معناه في أول الكلمة، إذ ذكر الضال، ثم ذكر المهتدي بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد: أهذا مثل هذا؟ أو أهذا أفضل؟ ومن لم يعرف مذاهب العرب، ويتبين له المعنى في هذا وشبهه، لم يكتف ولم يشتف. اهـ.
265
وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام: قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا، ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة، فحذف الخبر عما له، اكتفاءً بفهم السامع المراد منه من ذكره، إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني: أن تكون الألف التي في قوله:"أمن" ألف استفهام، فيكون معنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه، إذ كان مفهوما المراد بالكلام، كما قال الشاعر:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا (١)
فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (أمَّن) بتشديد الميم، بمعنى: أم من هو؟ ويقولون: إنما هي (أمَّن) استفهام اعترض في الكلام بعد
(١) تقدم الاستشهاد بالبيت وشرحناه مفصلا في الجزء (١٢: ١٨) فراجعه ثمة. وقد أورده الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٤) بعقب كلامه الذي نقلناه عنه في الشاهد السابق على هذا، قال: ألا ترى قول الشاعر" فأقسم لو شيء أتانا رسوله.... البيت" أن معناه: لو أتانا رسول غيرك لدفعناه، فعلم المعنى ولم يظهر. وجرى قوله" أفمن شرح الله صدره للإسلام" على مثل هذا.
266
كلام قد مضى، فجاء بأم، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر، وما أعدّ له في الآخرة، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان، فعلم بذلك المراد، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره، إذ كان معقولا أن معناه: هذا أفضل أم هذا؟.
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره، فكان بعضهم يقول: هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثني، قال: ثنا يحيى، عن عبيد الله، أنه قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سُئل عن القنوت، قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام، وقرأ: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)
وقال آخرون: هو الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) يعني بالقنوت: الطاعة، وذلك أنه قال: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)... إلى (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال: مطيعون.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) قال: القانت: المطيع.
267
وقوله: (آنَاءَ اللَّيْلِ) يعني: ساعات الليل.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) أوله، وأوسطه، وآخره.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (آنَاءَ اللَّيْلِ) قال: ساعات الليل.
وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: (سَاجِدًا وَقَائِمًا) يقول: يقنت ساجدا أحيانا، وأحيانا قائما، يعني: يطيع، والقنوت عندنا الطاعة، ولذلك نصب قوله: (سَاجِدًا وَقَائِمًا) لأن معناه: أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا، وقائما طورا، فهما حال من قانت.
وقوله: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ) يقول: يحذر عذاب الآخرة. كما حدثنا عليّ بن الحسن الأزديّ. قال: ثنا يحيى بن اليمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، في قوله: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ) قال: يحذر عقاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه، يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة.
وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين.
وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ في ذلك ما حدثني محمد بن خلف، قال: ثني نصر بن مزاحم، قال: ثنا سفيان الجريري، عن سعيد بن أبي مجاهد، عن جابر، عن أبي جعفر، رضوان الله عليه (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قال: نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون.
268
وقوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله، فيتعظ، ويتفكر فيها، ويتدبرها أهل العقول والحجى، لا أهل الجهل والنقص في العقول.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (قُلْ) يا محمد لعبادي الذين آمنوا: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله، وصدقوا رسوله (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) بطاعته واجتناب معاصيه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة)
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: للذين أطاعوا الله حسنة في هذه الدُّنْيا، وقال"في" من صلة حسنة، وجعل معنى الحسنة: الصحة والعافية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) قال: العافية والصحة.
وقال آخرون"في" من صلة أحسنوا، ومعنى الحسنة: الجنة.
وقوله: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) يقول تعالى ذكره: وأرض الله فسيحة واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد، قوله: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول تعالى ذكره:
269
إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه في الدنيا أجرهم في الآخرة بغير حساب، يقول: ثوابهم بغير حساب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) لا والله ما هُناكم مكيال ولا ميزان.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) قال: في الجنة.
270
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: إن الله أمرني أن أعبده مفردا له الطاعة، دون كلّ ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) : يقول: وأمرني ربي جل ثناؤه بذلك، لأن أكون بفعل ذلك أوَّل من أسلم منكم، فخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة، وبريء من كل ما دونه من الآلهة. وقوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : يقول تعالى ذكره: قال يا محمد لهم إني أخاف إن عصيت ربي فيما أمرني به من عبادته، مخلصا له الطاعة، ومفرده بالربوبية. (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : يعني عذاب يوم القيامة، ذلك هو اليوم الذي يعظم هوله.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصا، مفردا له طاعتي وعبادتي، لا أجعل له في ذلك شريكا، ولكني أفرده بالألوهة، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة، فاعبدوا أنتم أيها القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام، وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه، فستعلمون وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصا، مفردا له طاعتي وعبادتي، لا أجعل له في ذلك شريكا، ولكني أفرده بالألوهة، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة، فاعبدوا أنتم أيها القوم ما شئتم من الأوثان والأصنام، وغير ذلك مما تعبدون من سائر خلقه، فستعلمون وبال عاقبة عبادتكم ذلك إذا لقيتم ربكم.
وقوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: إن الهالكين الذين غَبَنوا أنفسهم، وهلكت بعذاب الله أهلوهم مع أنفسهم، فلم يكن لهم إذ دخلوا النار فيها أهل، وقد كان لهم في الدنيا أهلون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار، وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا، وحرمت عليهم الجنة، قال الله: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: هؤلاء أهل النار، خسروا أنفسهم في الدنيا، وخسروا الأهلين، فلم يجدوا في النار أهلا وقد كان لهم في الدنيا أهل.
حُدثت عن ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: غبنوا أنفسهم وأهليهم، قال: يخسرون أهليهم، فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم، ويخسرون أنفسهم، فيهلكون في النار، فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما.
وقوله: (أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) يقول تعالى ذكره: ألا إن خسران هؤلاء المشركين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هلاكها هو الخسران المبين، يقول تعالى ذكره: هو الهلاك الذي يبين لمن عاينه وعلمه أنه الخسران.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ (١٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الخاسرين يوم القيامو في جهنم: (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) وذلك كهيئة الظلل المبنية من النار (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) يقول: ومن تحتهم من النار ما يعلوهم، حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم ظللا وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه لَهُمْ: (مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) يغشاهم مما تحتهم فيها من المهاد.
وقوله: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتكم أيها الناس به، مما للخاسرين يوم القيامة من العذاب، تخويف من ربكم لكم، يخوفكم به لتحذروه، فتجتنبوا معاصيه، وتنيبوا من كفركم إلى الإيمان به، وتصديق رسوله، واتباع أمره ونهيه، فتنجوا من عذابه في الآخرة (فَاتَّقُونِ) يقول: فاتقوني بأداء فرائضي عليكم، واجتناب معاصيّ، لتنجوا من عذابي وسخطي.
وقوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) : أي اجتنبوا عبادة كلّ ما عبد من دون الله من شيء. وقد بيَّنا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وذكرنا أنه في
272
هذا الموضع: الشيطان، وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا.
ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) قال: الشيطان.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) قال: الشيطان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) قال: الشيطان هو ها هنا واحد وهي جماعة.
والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث، ولذلك قيل: أن يعبدوها. وقيل: إنما أُنثت لأنها في معنى جماعة.
وقوله: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) يقول: وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده، والعمل بطاعته، والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) : وأقبلوا إلى الله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) قال: أجابوا إليه.
وقوله: (لَهُمُ الْبُشْرَى) يقول: لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين، فيتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله، والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من
273
القول الذي لا يدل على رشاد، ولا يهدي إلى سداد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وأحسنه طاعة الله.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) قال: أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به.
وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين هداهم الله، يقول: وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحقّ، ويعبدون ما لا يضرّ، ولا ينفع. وقوله: (أُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) يعني: أولو العقول والحجا.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحَّدوا الله، وبرئوا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يُبعث نبيّ الله، فأنزل الله هذه الآية على نبيه يمدحهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا... ) الآيتين، حدثني أبي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله: زيد بن عمرو، وأبي ذرّ الغفاري، وسلمان الفارسيّ، نزل فيهم: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) في جاهليتهم (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) لا إله إلا الله، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي (وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ).
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
274
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠) }
يعني تعالى ذكره بقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) : أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) بكفره.
وقوله: (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أفأنت تنقذ يا محمد من هو في النار من حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه، فاستغنى بقوله: (تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) عن هذا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هذا مما يراد به استفهام واحد، فيسبق الاستفهام إلى غير موضعه، فيرد الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإنما المعنى والله أعلم: أفأنت تنقذ من في النار من حقَّت عليه كلمة العذاب. قال: ومثله من غير الاستفهام: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) فردد"أنكم" مرتين. والمعنى والله أعلم: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، ومثله قوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) وكان بعضهم يستخطئ القول الذي حكيناه عن البصريين، ويقول: لا تكون في قوله: (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) كناية عمن تقدّم، لا يقال: القوم ضربت من قام، يقول: المعنى: ألتجزئة أفأنت تُنْقذ من في النار منهم. وإنما معنى الكلمة: أفأنت تهدي يا محمد من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمان، فتنقذه من النار بالإيمان؟ لست على ذلك بقادر.
وقوله: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّة) يقول تعالى ذكره: لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف من فوقها
275
غرف مبنية علاليّ بعضها فوق بعض (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) يقول تعالى ذكره: تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار.
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ) يقول جل ثناؤه: وعدنا هذه الغرف التي من فوقها غرف مبنية في الجنة، هؤلاء المتقين (لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) يقول جل ثناؤه: والله لا يخلفهم وعده، ولكنه يوفي بوعده.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) وهو المطر (فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ) يقول: فأجراه عيونا في الأرض، وأحدها ينبوع، وهو ما جاش من الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبيّ، في قوله: (فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ) قال: كلّ ندى وماء في الأرض من السماء نزل.
قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن الحسن بن مسلم بن بيان، قال: ثم أنبت بذلك الماء الذي أنزله من السماء فجعله في الأرض عيونا زرعا (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) يعني: أنواعا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم وأرز، ونحو ذلك من الأنواع المختلفة (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) يقول: ثم ييبس ذلك الزوع من بعد خُضرته، يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوى: هاجت
276
الأرض، وهاج الزرع.
وقوله: (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) يقول: فتراه من بعد خُضرته ورطوبته قد يبس فصار أصفر، وكذلك الزرع إذا يبس اصفرّ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) والحطام: فتات التبن والحشيش، يقول: ثم يجعل ذلك الزرع بعد ما صار يابسا فُتاتا متكسرا.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) يقول تعالى ذكره: إن في فعل الله ذلك كالذي وصف لذكرى وموعظة لأهل العقول والحجا يتذكرون به، فيعلمون أن من فعل ذلك فلن يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء، وإنشاء ما أراد من الأجسام والأعراض، وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه، كهيئته قبل فنائه، كالذي فعل بالأرض التي أنزل عليها من بعد موتها الماء، فأنبت بها الزرع المختلف الألوان بقدرته.
277
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: أفمن فسح الله قلبه لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يقول: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين، بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه، كمن أقسى الله قلبه، وأخلاه من ذكره، وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه، وجواب الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام، إذ ذكر أحد الصنفين، وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني: كتاب الله، هو المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) قال: وسع صدره للإسلام، والنور: الهدى.
حُدثت عن ابن أبي زائدة عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) قال: ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه.
قوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكره، مذكرا به عباده، فلم يؤمن به، ولم يصدّق بما فيه. وقيل: (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) والمعنى: عن ذكر الله، فوضعت"من" مكان"عن"، كما يقال في الكلام: أتخمت من طعام أكلته، وعن طعام أكلته بمعنى واحد.
وقوله: (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مبين، لمن تأمله وتدبره بفهم أنه في ضلال عن الحق جائر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣) ﴾
278
يقول تعالى ذكره: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) يعني به القرآن (مُتَشَابِهًا) يقول: يشبه بعضه بعضا، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف.
حدثنا محمَّد قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) قال: المتشابه: يشبه بعضه بعضا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) قال: يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، ويدلّ بعضه على بعض.
وقوله: (مَثَانِيَ) يقول: تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) قال: ثنى الله فيه القضاء، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها، وسئل عنها عكرمة (١).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) قال: في القرآن كله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَثَانِيَ) قال:
(١) الذي في الدر: وسئل عنها عكرمة، فقال: ثنى الله فيه القضاء.
279
ثَنَى الله فيه الفرائض، والقضاء، والحدود.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَثَانِيَ) قال: كتاب الله مثاني، ثنى فيه الأمر مرارا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، فى قوله: (مَثَانِيَ) قال: كتاب الله مثاني، ثَنى فيه الأمر مرارا.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (مَثَانِيَ) ثنى في غير مكان.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (مَثَانِيَ) مردّد، رُدِّد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء في أمكنة كثيرة.
وقوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يقول تعالى ذكره: تقشعرّ من سَماعه إذا تلي عليهم جلود الذين يخافون ربهم (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) يعني إلى العمل بما في كتاب الله، والتصديق به.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أجل أن أصحابه سألوه الحديث.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أيوب بن موسى، عن عمرو الملئي عن ابن عباس، قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ قال: فنزلت: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أيوب بن سيار أبي عبد الرحمن، عن عمرو بن قيس، قال: قالوا: يا نبي الله، فذكر مثله.
(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم،
280
ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك، (هُدَى اللَّهِ) يعني: توفيق الله إياهم وفَّقهم له (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده.
وقد يتوجَّه معنى قوله: (ذَلِكَ هُدَى) إلى أن يكون ذلك من ذكر القرآن، فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيان الله يهدي به من يشاء، يوفق للإيمان به من يشاء.
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه، فما له من هاد، يقول: فما له من مُوَفِّق له، ومسدد يسدده في اتباعه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) ﴾
اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب، فقال بعضهم: هو أن يُرْمى به في جهنم مكبوبا على وجهه، فذلك اتقاؤه إياه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ) قال: يَخِرّ على وجهه في النار، يقول: هو مثل (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟.
وقال آخرون: هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا، ثم يُرمى به فيها، فأوّل ما تَمس النار وجهه، وهذا قول يُذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره
لضعف سنده، وهذا أيضا مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه. ومعنى الكلام: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خير، أم من ينعم في الجنان؟.
وقوله: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) يقول: ويقال يومئذ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله. ذوقوا اليوم أيها القوم وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.
وقوله: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول تعالى ذكره: كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قُريش من الأمم الذين مضوا في الدهور الخالية رسلهم (فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يقول: فجاءهم عذاب الله من الموضع الذي لا يشعرون: أي لا يعلمون بمجيئه منه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: فعجل الله لهؤلاء الأمم الذين كذبوا رسلهم الهوان في الدنيا، والعذاب قبل الآخرة، ولم ينظرهم إذ عتوا عن أمر ربهم (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ) يقول: ولعذاب الله إياهم في الآخرة إذا أدخلهم النار، فعذّبهم بها، أكبر من العذاب الذي عذّبهم به في الدنيا، لو كانوا يعلمون، يقول: لو علم هؤلاء المشركون من قريش ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله من كل مثل من أمثال القرون للأمم الخالية، تخويفا منا لهم وتحذيرا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يقول: ليتذكروا
فينزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.
وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) يقول تعالى ذكره: لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل قرآنا عربيا (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) يعني: ذي لبس.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : غير ذي لبس.
ونصب قوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) على الحال من قوله: هذا القرآن، لأن القرآن معرفة، وقوله (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) نكرة.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يقول: جعلنا قرآنا عربيا إذ كانوا عربا، ليفهموا ما فيه من المواعظ، حتى يتقوا ما حذرهم الله فيه من بأسه وسطوته، فينيبوا إلى عبادته وإفراد الألوهة له، ويتبرّءوا من الأنداد والآلهة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: مثل الله مثلا للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتَّى، ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد، يقول تعالى ذكره: ضرب الله مثلا لهذا الكافر رجلا فيه شركاء. يقول: هو بين جماعة مالكين متشاكسين، يعني مختلفين متنازعين، سيئة أخلاقهم، من قولهم: رجل شكس: إذا كان سيئ الخلق، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه، ورجلا مسلما لرجل، يقول: ورجلا خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله، لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَرَجُلا سَلَمًا) فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل
283
مكة والبصرة:"ورَجُلا سَالِمًا" وتأوّلوه بمعنى: رجلا خالصا لرجل. وقد رُوي ذلل أيضا عن ابن عباس.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن جرير بن حازم، عن حميد، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قرأها:"سَالِمًا لِرَجُلٍ" يعني بالألف، وقال: ليس فيه لأحد شيء.
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة: (وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ) بمعنى: صلحا (١).
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن السلم مصدر من قول القائل: سَلِم فلان لله سَلما (٢) بمعنى: خَلَص له خُلوصا، تقول العرب: ربح فلان في تجارته رِبْحا ورَبَحا (٣) وسَلِمَ سِلْما وسَلَما (٤) وسلامة، وأن السالم من صفة الرجل، وسلم مصدر من ذلك. وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن معناه صلحا، فلا وجه للصلح في هذا الموضع، لأن الذي تقدم من صفة الآخر، إنما تقدم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء، فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له، ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) قائل هذا: هو أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة جامعة القاهرة رقم ٢٦٣٩٠ الورقة ١٥٩).
(٢) لم أجد في اللسان (سلم لله سلما" بالتحريك، بالمعنى الذي أورده المؤلف هنا.
(٣) في (اللسان: ربح) : الربح (بالكسر)، والربح (بالتحريك)، والرباح (بفتح الراء) : النماء في التجر اهـ. قلت: وعلى هذا فهما مصدران كما قال المؤلف. وقال: قال ابن الأعرابي: الربح والربح، مثل البدل والبدل. وقال الجوهري: مثل شبه وشبه: هو اسم ما ربحه.
(٤) ضبط الثاني في اللسان ضبط قلم، بفتح السين وسكون اللام، عن أبي إسحاق الزجاج، على أنه قراءة، ولعله خطأ من الناسخ.
284
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:"رَجُلا فِيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلا سالِمًا لِرَجُلٍ" قال: هذا مثل إله الباطل وإله الحق.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) قال: هذا المشرك تتنازعه الشياطين، لا يقر به بعضهم لبعض"وَرَجُلا سَالِمًا لِرَجُلٍ" قال: هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) إلى قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قال: الشركاء المتشاكسون: الرجل الذي يعبد آلهة شتى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة، فضرب الله هذا المثل لهم، وضرب لنفسه مثلا يقول: رجلا سَلِمَ لرجل يقول: يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) قال: مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ) قال: أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيئ الخلق، ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤهم، والذي لا يملكه إلا واحد، فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة، وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا، فضربه الله مثلا لهم، وللذي يعبده وحده (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ
285
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وفي قوله:"وَرَجُلا سالِمَا لِرَجُلٍ" يقول: ليس معه شرك.
وقوله: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا) يقول تعالى ذكره: هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدمُ واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه، يقول: فأيّ هذين أحسن حالا وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا؟.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يقول: من اختُلف فيه خير، أم من لم يُخْتلَف فيه؟.
وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يقول: الشكر الكامل، والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه. وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يقول جل ثناؤه: وما يستوي هذا المشترك فيه، والذي هو منفرد ملكه لواحد، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله. وقيل: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا) ولم يقل: مثلين لأنهما كلاهما ضربا مثلا واحدا، فجرى المثل بالتوحيد، كما قال جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه) آية إذ كان معناهما واحدا في الآية.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) ﴾
286
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) ﴾
286
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنك يا محمد ميت عن قليل، وإن هؤلاء المكذّبيك من قومك والمؤمنين منهم ميتون (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يقول: ثم إن جميعكم المؤمنين والكافرين يوم القيامة عند ربكم تختصمون فيأخذ للمظلوم منكم من الظالم، ويفصل بين جميعكم بالحقّ.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: عنى به اختصام المؤمنين والكافرين، واختصام المظلوم والظالم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يقول: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال: أهل الإسلام وأهل الكفر.
حدثني ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا ابن الدراوردي، قال: ثني محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن الزبير، قال: لما نزلت هذه الآية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال الزبير: يا رسول الله، أينكر علينا ما كان بيننا فى الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ فقال النبي: صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم"نَعَمْ حتى يُؤَدَّى إلى كُلِّ ذي حَقٍّ حَقُّهُ.
وقال آخرون: بل عني بذلك اختصام أهل الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عمر، قال: نزلت علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة،
287
فقلنا: هذا الذي وعدنا ربُّنا أن نختصم في (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن عون، عن إبراهيم، قال: لما نزلت: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ)... الآية، قالوا: ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان، قال: فلما قُتل عثمان بن عفان، قالوا: هذه خصومتنا بيننا.
حُدثت عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال: هم أهل القبلة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: عني بذلك: إنك يا محمد ستموت، وإنكم أيها الناس ستموتون، ثم إن جميعكم أيها الناس تختصمون عند ربكم، مؤمنكم وكافركم، ومحقوكم ومبطلوكم، وظالموكم ومظلوموكم، حتى يؤخذ لكلّ منكم ممن لصاحبه قبله حق حقُّه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب لأن الله عم بقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) خطاب جميع عباده، فلم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، فذلك على عمومه على ما عمه الله به، وقد تنزل الآية في معنى، ثم يكون داخلا في حكمها كلّ ما كان في معنى ما نزلت به.
وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) يقول تعالى ذكره: فمن من خلق الله أعظم فرية ممن كذب على الله، فادّعى أن له ولد وصاحبة، أو أنه حرَّم ما لم يحرمه من المطاعم (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) يقول: وكذّب بكتاب الله إذ أنزله على محمد، وابتعثه الله به رسولا وأنكر قول لا إله إلا الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
288
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) : أي بالقرآن.
وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) يقول تبارك وتعالى: أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفر بالله، وامتنع من تصديق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، واتباعه على ما يدعوه إليه مما أتاه به من عند الله من التوحيد، وحكم القرآن؟.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) ﴾
اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدق وصدّق به، وما ذلك، فقال بعضهم: الذي جاء بالصدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. قالوا: والصدق الذي جاء به: لا إله إلا الله، والذي صدق به أيضا، هو رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) يقول: من جاء بلا إله إلا الله (وَصَدَّقَ بِهِ) يعني: رسوله.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والذي صدّق به: أبو بكر رضي الله عنه.
289
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن منصور، قال: ثنا أحمد بن مصعد المروزي، قال: ثنا عمر بن إبراهيم بن خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان، عن عليّ رضي الله عنه، في قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وصدّق به، قال: أبو بكر رضي الله عنه.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، والصدق: القرآن، والمصدّقون به: المؤمنون
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاء بالقرآن، وصدّق به المؤمنون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وصدّق به المسلمون.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق جبريل، والصدق: القرآن الذي جاء به من عند الله، وصدّق به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: المؤمنون، والصدق: القرآن، وهم المصدِّقون به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قال: الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة، فيقولون:
290
هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه.
قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قال: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا، فاتبعنا ما فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) كلّ من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال: الصدق هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدّق به: المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن قوله تعالى ذكره: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) عَقيب قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) وذلك ذم من الله للمفترين عليه، المكذبين بتنزيله ووحيه، الجاحدين وحدانيته، فالواجب أن يكون عَقيب ذلك مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين، وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله، ووصفه بالصفة التي هو بها، وتصديقهم بتنزيل الله ووحيه، والذي كانوا يوم نزلت هذه الآية، رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأصحابه ومن بعدهم، القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله، وحكم كتابه، لأن الله تعالى ذكره لم يخص وصفه بهذه لصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم، ولا على أهل زمان دون غيرهم، وإنما وصفهم بصفة، ثم مدحهم بها، وهي المجيء بالصدق والتصديق به، فكل من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني آدم.
ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود."وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ" فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من
291
قوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) لم يعن بها واحد بعينه، وأنه مراد بها جِمَاع ذلك صفتهم، ولكنها أخرجت بلفظ الواحد، إذ لم تكن موقتة. وقد زعم بعض أهل العربية من البصريين، أن"الذي"في هذا الموضع جُعل في معنى جماعة بمنزلة"مَن". ومما يؤيد ما قلنا أيضا قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فجعل الخبر عن"الذي"جماعا، لأنها في معنى جماع. وأما الذين قالوا: عني بقوله: (وَصَدَّقَ بِهِ) : غير الذي جاء بالصدق، فقول بعيد من المفهوم، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنزيل: والذي جاء بالصدق، والذي صدق به أولئك هم المتقون، فكانت تكون"الذي" مكررة مع التصديق، ليكون المصدق غير المصدق، فأما إذا لم يكرّر، فإن المفهوم من الكلام، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق، لا وجه للكلام غير ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت"الذي"في معنى الجماع بما قد بيَّنا، كان الصواب من القول في تأويله ما بيَّنا.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم. هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فخافوا عقابه.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يقول: اتقوا الشرك.
وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة، ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم (ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم، جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها، وائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم، كي يكفر
عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال، فيما بينهم وبين ربهم، بما كان منهم فيها من توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) يقول: ويثيبهم ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا) في الدنيا (يَعْمَلُونَ) مما يرضى الله عنهم دون أسوئها.
كما يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) : أي (١) ولهم ذنوب، أي رب نعم (لَهُمْ) فيها (مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقرأ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)... إلى أن بلغ (وَمَغْفِرَةٌ) لئلا ييأس من لهم الذنوب أن لا يكونوا منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: ٤]، وقرأ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)... إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة:"أليس الله بكاف عباده"على الجماع، بمعنى: أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوّفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: (بِكَافٍ عَبْدَهُ) على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار.
(١) في الأصل: ألهم ذنوب، وهو استفهام لا معنى له في هذا المقام، وقد أصلحناه على هذا النحو، ليتفق مع ما تضمنه الحديث.
293
فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَا واستفاضة القراءة بهما في قَرَأَةِ الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) يقول: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) قال: بلى، والله ليكفينه الله ويعزّه وينصره كما وعده.
وقوله: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) الآلهة، قال:"بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام (١) ليكسر العزّى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها".
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يقول: بآلهتهم التي كانوا يعبدون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(١) سقام كغراب: واد بالحجاز، حمته قريش للعزى، يضاهئون به حرم الكعبة. اهـ من معجم ياقوت.
294
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) قال: يخوّفونك بآلهتهم التي من دونه.
وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله فيضلَّه عن طريق الحق وسبيل الرشد، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ، ومُوفِّق للإيمان بالله، وتصديق رسوله، والعمل بطاعته (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) يقول: ومن يوفِّقه الله للإيمان به، والعمل بكتابه، فما له من مضلّ، يقول: فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو عليه إلى الارتداد إلى الكفر (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) يقول جل ثناؤه: أليس الله يا محمد بعزيز في انتقامه من كفرة خلقه، ذي انتقام من أعدائه الجاحدين وحدانيته.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام: مَنْ خلق السموات والأرض؟ ليقولن: الذي خلقه الله، فإذا قالوا ذلك، فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ) يقول: بشدة في معيشتي، هل هن كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر؟ (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ) يقول: إن أرادني برحمة أن يصيبني سعة في معيشتي، وكثرة مالي، ورخاء وعافية في بدني، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى:
فإنهم سيقولون لا فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها، إياه أعبد، وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه، فإنه الكافي، وبيده الضر والنفع، لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يقول: على الله يتوكل من هو متوكل، وبه فليثق لا بغيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
بشر، قال: ثنا. يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) حتى بلغ (كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) يعني: الأصنام (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه)
واختلفت القرّاء في قراءة (كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) و (مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)، فقرأه بعضهم بالإضافة وخفض الضر والرحمة، وقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء البصرة بالتنوين، ونصب الضر والرحمة.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وهو نظير قوله: (كَيْدِ الْكَافِرِينَ) فى حال الإضافة والتنوين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لمشركي قومك، الذي اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون الله اعملوا أيها القوم على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى،
296
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ) قال: على ناحيتكم (إِنِّي عَامِلٌ) كذلك على تؤدة على عمل من سلف من أنبياء الله قبلي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا جاءكم بأس الله، من المحقّ منا من المبطل، والرشيد من الغويّ.
وقوله: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ) يقول تعالى ذكره: من يأتيه عذاب يخزيه، ما أتاه من ذلك العذاب، يعني: يذله ويهينه (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) يقول: وينزل عليه عذاب دائم لا يفارقه.
297
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إنا أنزلنا عليك يا محمد الكتاب تبيانا للناس بالحقّ (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ) يقول: فمن عمل بما في الكتاب الذي أنزلناه إليه واتبعه فلنفسه، يقول: فإنما عمل بذلك لنفسه، وإياها بغى الخير لا غيرها، لأنه أكسبها رضا الله والفوز بالجنة، والنجاة من النار. (وَمَنْ ضَلَّ) يقول: ومن جار عن الكتاب الذي أنزلناه إليك، والبيان الذي بيَّناه لك، فضل عن قصد المحجة، وزال عن سواء السبيل، فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله، وأليم عقابه، والخزي الدائم. (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يقول تعالى ذكره: وما أنت يا محمد على من أرسلتك إليه من الناس برقيب ترقب أعمالهم، وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما أنت رسول، وإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بحفيظ.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) قال: بحفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كلّ ما سواه، أنه يميت ويحيي، ويفعل ما يشاء، ولا يقدر على ذلك شيء سواه، فجعل ذلك خبرا نبههم به على عظيم قُدرته، فقال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) فيقبضها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضا التي لم تمت في منامها، كما التي ماتت عند مماتها (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة حياتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)... الآية. قال: يجمع بين أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويُرسل الأخرى إلى أجسادها.
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط،
عن السديّ، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) قال: تقبض الأرواح عند نيام النائم، فتقبض روحه في منامه، فتلقى الأرواح بعضها بعضا: أرواح الموتى وأرواح النيام، فتلتقي فتساءل، قال: فيخلي عن أرواح الأحياء، فترجع إلى أجسادها، وتريد الأخرى أن ترجع، فيحبس التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، قال: إلى بقية آجالها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) قال: فالنوم وفاة (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى) التي لم يقبضها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى).
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعدُ نَفس هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبر، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله: (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ولا يعقلون شيئا، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك، وتشفع لكم عند الله، فأخلصوا عبادتكم لله، وأفردوه بالألوهة، فإن الشفاعة
جميعا له، لا يشفع عنده إلا من أذن له، ورضي له قولا وأنتم متى أخلصتم له العبادة، فدعوتموه، وشفعكم (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)، يقول: له سلطان السموات والأرض ومُلكها، وما تعبدون أيها المشركون من دونه له، يقول: فاعبدوا الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئا. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول: ثم إلى الله مصيركم، وهو معاقبكم على إشراككم به، إن متم على شرككم.
ومعنى الكلام: لله الشفاعة جميعا، له مُلك السموات والأرض، فاعبدوا المالك الذي له مُلك السموات والأرض، الذي يقدر على نفعكم في الدنيا، وعلى ضركم فيها، وعند مرجعكم إليه بعد مماتكم، فإنكم إليه ترجعون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ) الآلهة (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا) الشفاعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال. ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) قال: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا أفرد الله جل ثناؤه بالذكر، فدعي وحده، وقيل لا إله إلا الله، اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات. وعنى بقوله: (اشْمَأَزَّتْ) : نفرت من توحيد الله. (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)
يقول: وإذا ذُكر الآلهة التي يدعونها من دون الله مع الله، فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، إذ الذين لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) : أي نفرت قلوبهم واستكبرت (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) الآلهة (إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اشْمَأَزَّتْ) قال: انقبضت، قال: وذلك يوم قرأ عليهم"النجم"عند باب الكعبة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قوله: (اشْمَأَزَّتْ) قال: نفرت (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أوثانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد، الله خالق السموات والأرض (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الذي لا تراه الأبصار، ولا تحسه العيون والشهادة الذي تشهده أبصار خلقه، وتراه أعينهم (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ) فتفصل بينهم بالحق يوم تجمعهم لفصل القضاء بينهم (فِيمَا كَانُوا فِيهِ) في الدنيا (يَخْتَلِفُونَ) من القول فيك، وفي عظمتك وسلطانك، وغير ذلك من اختلافهم بينهم، فتقضي يومئذ بيننا وبين هؤلاء المشركين الذين إذا ذكرت وحدك اشمأزّت قلوبهم، إذا ذكر مَنْ دونك استبشروا بالحقّ.
وبنحو ذلك قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فاطر: قال خالق. وفي قوله (عَالِمُ الْغَيْبِ) قال: ما غاب عن العباد فهو يعلمه، (وَالشَّهَادَةِ) : ما عرف العباد وشهدوا، فهو يعلمه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولو أن لهؤلاء المشركين بالله يوم القيامة، وهم الذين ظلموا أنفسهم (مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) في الدنيا من أموالها وزينتها (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) مضاعفا، فقبل ذلك منهم عوضا من أنفسهم، لفدوا بذلك كله أنفسهم عوضا منها، لينجو من سوء عذاب الله، الذي هو معذّبهم به يومئذ (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ) يقول: وظهر لهم يومئذ من أمر الله وعذابه، الذي كان أعدّه لهم، ما لم يكونوا قبل ذلك يحتسبون أنه أعدّه لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: وظهر لهؤلاء المشركين يوم القيامة (سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) من الأعمال في الدنيا، إذ أعطوا كتبهم بشمائلهم (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ووجب عليهم حينئذ، فلزمهم عذاب الله الذي كان نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الدنيا يعدهم على كفرهم بربهم، فكانوا به يسخرون،
إنكارا أن يصيبهم ذلك، أو ينالهم تكذيبا منهم به، وأحاط ذلك بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدّة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه من الضرّ، (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا) يقول: ثم إذا أعطيناه فرجا مما كان فيه من الضرّ، بأن أبدلناه بالضرّ رخاء وسعة، وبالسقم صحة وعافية، فقال: إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة، والصحة في البدن والعافية، على علم عندي (١) يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي (عندي) يعني: فيما عندي، كما يقال: أنت محسن في هذا الأمر عندي: أي فيما أظنّ وأحسب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا) حتى بلغ (عَلَى عِلْمٍ) عندي (٢) أي على خير عندي.
حدّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا) قال: أعطيناه.
(١) قوله (عندي) : أضافه المؤلف إلى معنى الآية، لمجيئه في حديث قتادة بعده بقليل. وليس في الآية في هذا الموضع لفظة" عندي"، وإنما هي في آية القصص، إذ جاء على لسان قارون: (قال إنما أوتيته على علم عندي).
(٢) قوله (عندي) : أضافه المؤلف إلى معنى الآية، لمجيئه في حديث قتادة بعده بقليل. وليس في الآية في هذا الموضع لفظة" عندي"، وإنما هي في آية القصص، إذ جاء على لسان قارون: (قال إنما أوتيته على علم عندي).
وقوله: (أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ) : أي على شرف أعطانيه.
وقوله: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) يقول تعالى ذكره: بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضرّ الذي كانوا فيه فتنة لهم، يعني بلاء ابتليناهم به، واختبارا اختبرناهم به (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) لجهلهم، وسوء رأيهم (لا يَعْلَمُونَ) لأي سبب أعطوا ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يريد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) : أي بلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) ﴾
يقول تعالى ذكره: قد قال هذه المقالة يعني قولهم: لنعمة الله التي خولهم وهم مشركون: أوتيناه على علم عندنا (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني: الذي من قبل مشركي قريش من الأمم الخالية لرسلها، تكذيبا منهم لهم، واستهزاء بهم. وقوله. (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله على تكذيبهم رسل الله واستهزائهم بهم ما كانوا يكسبون من الأعمال، وذلك عبادتهم الأوثان. يقول: لم تنفعهم خدمتهم إياها، ولم تشفع آلهتهم لهم عند الله حينئذ، ولكنها أسلمتهم وتبرأت منهم. وقوله: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) يقول: فأصاب الذين قالوا هذه المقالة من الأمم الخالية، وبال سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في دار الدنيا، وذلك كقارون الذي
قال حين وعظ (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) فخسف الله به وبداره الأرض (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) يقول الله عز وجل ثناؤه: (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: والذين كفروا بالله يا محمد من قومك، وظلموا أنفسهم وقالوا هذه المقالة سيصيبهم أيضا وبال (سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا) كما أصاب الذين من قبلهم بقيلهموها (وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) يقول: وما يفوتون ربهم ولا يسبقونه هربا في الأرض من عذابه إذا نزل بهم، ولكنه يصيبهم (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) ففعل ذلك بهم، فأحلّ بهم خزيه في عاجل الدنيا فقتلهم بالسيف يوم بدر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الأمم الماضية (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) من هؤلاء، قال: من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: أولم يعلم يا محمد هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم، فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا، أن الشدة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله، دون كل من سواه، يبسط الرزق لمن يشاء، فيوسعه عليه، ويقدر ذلك على من يشاء من عباده، فيضيقه، وأن ذلك من حجج الله على عباده، ليعتبروا به ويتذكروا، ويعلموا أن الرغبة إليه والرهبة دون الآلهة والأنداد. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) يقول: إن في بسط الله الرزق لمن يشاء، وتقتيره على من أراد لآيات،
يعني: دلالات وعلامات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يعني: يصدقون بالحقّ، فيقرّون به إذا تبينوه وعلموا حقيقته أن الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) ﴾
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها قوم من أهل الشرك، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله: كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا، وقتلنا النفس التي حرّم الله، والله يعد فاعل ذلك النار، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان، فنزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
محمد بن سعد، قال ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم، وقد عبدنا الآلهة، وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) يقول: لا تيأسوا من رحمتي، إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) وإنما يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان، فإياهم عاتب، وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه، أن لا يقنط من رحمة الله، وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف، والذنب الذي عمل، وقد ذر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة، فقالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) فينبغي أن يعلم
306
أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) قال: قتل النفس في الجاهلية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ (١) وأصحابه (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) إلى قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، قال: قال زيد بن أسلم، في قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) قال: إنما هي للمشركين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) حتى بلغ (الذُّنُوبَ جَمِيعًا) قال: ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) قال: هؤلاء المشركون من أهل مكة، قالوا: كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى، أو قتل، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها، فأنزلت فيهم هذه الآية: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:
(١) هو وحشي بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم، وهو قاتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أحد، وكان فاتكا يشرب الخمر ثم أسلم بعد. (انظر خلاصة الخزرجي).
307
(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)... الآية قال: كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية، فلما بعث الله نبيه قالوا: لو أتينا محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأمنا به واتبعناه، فقال بعضهم لبعض: كيف يقبلكم الله ورسوله فى دينه؟ فقالوا: ألا نبعث إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا؟ فلما بعثوا، نزل القرآن: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) فقرأ حتى بلغ: (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي، قال: تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك، وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق: لا بل حدث فأصدّقك، فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية فرجا في القرآن (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) فقال مسروق: صدقت.
وقال آخرون: بل عني بذلك أهل الإسلام، وقالوا: تأويل الكلام: إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال يعني عمر: كنا نقول: ما لمن افتتن من توبة، وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئا، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته، فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم المدينة أنزل الله فيهم: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه)... الآية، قال عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا
308
نقول، فجلست على بعيري، ثم لحقت بالمدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا، فافتنوا، كنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه، فنزلت هؤلاء الآيات، وكان عمر بن الخطاب كاتبا، قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، إلى أولئك النفر، فأسلموا وهاجروا.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا يونس، عن ابن سيرين، قال: قال عليّ رضي الله عنه: أي آية في القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا). ونحوها، فقال علي: ما في القرآن آية أوسع من: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)... إلى آخر الآية.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، قال: دخل عبد الله المسجد، فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال، قال: فجاء حتى قام على رأسه، فقال ما يذكر أتقنط الناس (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)... الآية.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن القرظي أنه قال في هذه الآية: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) قال: هي للناس أجمعين.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي قنبل، قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: ثني أبو عبد الرحمن الجلائي، أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:"ما أُحِبُّ أنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا فِيها
309
بهذه الآية: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) "... الآية، فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم قال:"ألا وَمَنْ أشْرَكَ، ألا ومَنْ أشْرَكَ، ثلاث مرات".
وقال آخرون: نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: ثنا أبو معاذ الخراساني، عن مقاتل بن حيا، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نرى أو نقول: إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة، حتى نزلت هذه الآية (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش، قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، إن لم يصب منها شيئا رجونا له.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك، لأن الله عم بقوله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) جميع المسرفين، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.
فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك. وإنما عنى بقوله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) لمن يشاء، كما قد ذكرنا قبل، أن ابن مسعود كان يقرؤه: وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه، فقال: إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فأخبر أنه
310
لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه، إن شاء تفضل عليه، فعفا له عنه، وإن شاء عدل عليه فجازاه به.
وأما قوله: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله. كذلك حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس.
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيَّنا معناه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة له، واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وإفراد الألوهة له، وإخلاص العبادة له.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) : أي أقبلوا إلى ربكم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَنِيبُوا) قال: أجيبوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) قال: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ).
وقوله: (وَأَسْلِمُوا لَهُ) يقول: واخضعوا له بالطاعة والإقرار بالدين الحنيفي (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ) من عنده على كفركم به.
(ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) يقول: ثم لا ينصركم ناصر، فينقذكم من عذابه النازل بكم.
وقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء وهو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد، والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه، لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول: ما أمرتم به في الكتاب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ) قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً) يقول: من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) يقول: وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
312
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) }
يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) بمعنى لئلا تقول نفس (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، وهو نظير قوله: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) بمعنى: أن لا تميد بكم، فأن، إذ كان ذلك معناه، في موضع نصب.
وقوله (يَا حَسْرَتَا) يعني أن تقول: يا ندما.
كما محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (يَا حَسْرَتَا) قال: الندامة، والألف في قوله (يَا حَسْرَتَا) هي كناية المتكلم، وإنما أريد: يا حسرتي، ولكن العرب تحوّل الياء فى كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا، فتقول: يا ويلتا، ويا ندما، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربما قيل: يا حسرة على العباد، كما قيل: يا لهف، ويا لهفا عليه، وذكر الفراء أن أبا ثَرْوان أنشده:
تَزُورُونَهَا وَلا أزُورُ نِسَاءَكُمْ ألْهفَ لأوْلادِ الإماء الحَوَاطِبِ (١)
خفضا كما يخفض في النداء إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وربما أدخلوا الهاء بعد هذه الألف، فيخفضونها أحيانا، ويرفعونها أحيانا، وذكر الفراء أن بعض بني أسد أنشد:
(١) البيت لأبي ثروان العكلي. وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٥) قال: وقوله" يا حسرتا، يا ويلتا" مضاف إلى المتكلم: يحول العرب الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة، يخرج على لفظ الدعاء. وربما قالوا: يا حسرة، كما قالوا: يا لهف على فلان، ويا لهفا عليه. قال: أنشدني أبو ثروان العكلي: تزورونها ولا أزور.... البيت" اهـ. فخفض كما يخفض المنادي إذا أضافه المتكلم إلى نفسه. والإماء: الجواري من الرقيق يتخذن للخدمة والعمل عند ساداتهم واحدها أمة. والحواطب: جمع حاطبة، وهي التي ترسل في جمع الحطب للوقود. واللهف بسكون الهاء وفتحها: الأسف والحزن والغيظ.
313
يَا رَبّ يا رَبَّاهُ إيَّاكَ أسَلْ عَفْرَاءَ يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأجَلْ (١)
خفضا، قال: والخفض أكثر في كلامهم، إلا في قولهم: يا هَناه، ويا هَنْتاه، فإن الرفع فيها أكثر من الخفض، لأنه كثير في الكلام، حتى صار كأنه حرف واحد.
وقوله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) يقول على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال. ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد في قوله (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) يقول: في أمر الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال. ثنا ورقاء جميعا، عن أبن أبي نجيح، عن
(١) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٦) قال بعد كلامه الذي نقلناه في الشاهد السابق في إعراب المضاف إلى ياء المتكلم بعد حذف الياء، أو قلبها ألفا: وربما أدخلت العرب الهاء (التي للسكت) بعد الألف التي في" حسرتا" فيخفضونها مرة، ويرفعونها. قال: أنشدني أبو فقعس لبعض بن أسد:" يا رب يا رباه أسل... البيتين". فخفض. قال: وأنشدني أبو فقعس:
يا مَرْحباهُ بِجِمارِ ناهِيةْ ذَا أتى قَرَّبْتُهُ للسَّانِيَهْ
والخفض أكثر في كلام العرب إلا في قولهم: يا هناه، ويا هنيتاه، والرفع في هذا أكثر من الخفض، لأنه كثير في الكلام، فكأنه حرف واحد مدعو (أي كأن اللفظ كله صار كلمة واحدة في النداء). وفي خزانة الأدب الكبرى للبغدادي (٣: ٢٦٣) : وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب، ولم ينسبه إلى أحد. وفيها أيضا: وقال الزمخشري في المفصل: وحق هاء السكت أن تكون ساكنة، وتحريكها لحن، نحو ما في إصلاح المنطق لابن السكيت، من قوله:
* يا مرحباه بجمار ناجيه، مما لا معرج عليه للقياس، واستعمال الفصحاء. ومعذرة من قال ذلك: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير. اهـ.
314
مجاهد، في قول الله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: في أمر الله.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد قال ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: تركت من أمر الله.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) يقول: وإن كنت لمن المستهزئين بأمر الله وكتابه ورسوله والمؤمنين به.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتاده في قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) قال: فلم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله، قال: هذا قول صنف منهم.
حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) يقول: من المستهزئين بالنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبالكتاب، وبما جاء به.
315
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأنيبوا إلى ربكم أيها الناس، وأسلموا له، أن لا تقول نفس يوم القيامة: يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله، فى أمر الله، وأن لا يقول نفس أخرى: لو أن الله هداني للحق، فوفقني للرشاد لكنت ممن اتقاه بطاعته واتباع رضاه، أو أن لا تقول أخرى حين ترى عذاب الله فتعاينه (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) تقول لو أن لي رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين
315
أحسنوا في طاعة ربهم، والعمل بما أمرتهم به الرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)... الآية، قال: هذا قول صنف منهم (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)... الآية، قال. هذا قول صنف آخر: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ) الآية، يعني بقوله (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا، قال: هذا صنف آخر.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: أخبر الله ما العباد قائلوه قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، قال: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ () أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)... إلى قوله: (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يقول: من المهتدين، فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) كما لم يؤمنوا به أول مرة، قال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
وفي نصب قوله (فَأَكُونَ) وجهان، أحدهما: أن يكون نصبه على أنه جواب لو والثاني: على الرد على موضع الكرة، وتوجيه الكرة في المعنى إلى: لو أن لي أن أكر، كما قال الشاعر:
فَمَا لَكَ مِنْهَا غيرُ ذِكْرَى وَحَسْرَةٍ وَتَسْألَ عَنْ رُكْبانها أيْنَ يَمَّمُوا؟ (١)
(١) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٦ من مخطوطة الجامعة) والشاهد في قوله" وتسأل" إذ يجوز فيه النصب بتقدير" أن" لعطف الفعل على اسم صريح، مثل قول ميسون بنت بحدل الكلبية زوج معاوية:" لبس عباءة وتقر عيني" أي وأن تقر عيني. ويجوز فيه أن يرفع، لأنه لم تظهر قبله" أن". قال الفراء: قوله" لو أن لي كرة فأكون من المحسنين": النصب في قوله" فأكون": جواب للو. وإن شئت مردودا على تأويل" أن" تضمرها في الكثرة، كما يقولون: لو أن أكر فأكون. ومثله مما نصب على إضمار أن قوله" وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل" المعنى - والله أعلم - ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا. ولو رفع" فيوحي" إذ لم يظهر أن قبله ولا معه، كان صوابا. وقد قرأ به بعض القراء. وأنشدني بعض القراء:" فما لك منها غير ذكرى وحسرة" البيت. وقال الكسائي: سمعت من العرب:" ما هي إلا ضربة من الأسد، فيحطم ظهره، أي برفع الفعل ونصبه". اهـ.
الخ.
316
فنصب تسأل عطفا بها على موضع الذكرى، لأن معنى الكلام: فما لك (١) بيرسل على موضع الوحي في قوله: (إِلا وَحْيًا).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩) ﴾
يقول تعالى ذكره مكذبا للقائل: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وللقائل: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : ما القول كما تقولون (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ) أيها المتمني على الله الرد إلى الدنيا لتكون فيها من المحسنين (آيَاتِي) يقول: قد جاءتك حججي من بين رسول أرسلته إليك، وكتاب أنزلته يتلى عليك ما فيه من الوعد والوعيد والتذكير (فَكَذَبَتْ) بآياتي (وَاسْتَكْبَرْتَ) عن قبولها واتباعها (وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يقول: وكنت ممن يعمل عمل الكافرين، ويستن بسنتهم، ويتبع منهاجهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يقول الله ردًا
(١) في الكلام سقط من الناسخ، ولعل الأصل: فما لك غير أن تذكر وتسأل: ونظيره (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل) فعطف بيرسل...
لقولهم، وتكذيبا لهم، يعني لقول القائلين: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)، والصنف الآخر: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي)... الآية.
وبفتح الكاف والتاء من قوله (قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ) على وجه المخاطبة للذكور، قرأه القرّاء في جميع أمصار الإسلام. وقد روي عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قرأ ذلك بكسر جميعه على وجه الخطاب للنفس، كأنه قال: أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، بلى قد جاءتك أيتها النفس آياتي، فكذّبت بها، أجرى الكلام كله على النفس، إذ كان ابتداء الكلام بها جرى، والقراءة التي لا أستجيز خلافها، ما جاءت به قرّاء الأمصار مجمعة عليه، نقلا عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهو الفتح في جميع ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى) يا محمد هؤلاء (الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ) من قومك فزعموا أن له ولدا، وأن له شريكا، وعبدوا آلهة من دونه (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)، والوجوه وإن كانت مرفوعة بمسودة، فإن فيها معنى نصب، لأنها مع خبرها تمام ترى، ولو تقدم قوله مسودة قبل الوجوه، كان نصبا، ولو نصب الوجوه المسودة ناصب في الكلام لا في القرآن، إذا كانت المسودة مؤخرة كان جائزا، كما قال الشاعر:
ذَرِيني إنَّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعَا... وَمَا ألْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا (١)
(١) البيت لعدي بن زيد، كما قال الفراء في معاني القرآن (الورقة ٢٨٦) من مخطوطة الجامعة). وهو من أبيات الكتاب لسيبويه ١: ٨٧. ومن شواهد (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ٢: ٣٦٨). وموضع الشاهد فيه: أن قوله" حلمي" بدل اشتمال من الياء في" ألفيتني". قال ابن جني في إعراب الحماسة:" إنما يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال، نحو قولك: عجبت منك عقلك، وضربتك رأسك. اهـ. وقال في الخزانة: والبيت نسبه سيبويه لرجل من خثعم أو بجيلة، وتبعه ابن السراج في أصوله. وعزاه الفراء والزجاج، إلى عدي بن زيد العبادي. وهو الصحيح، وكذلك قال صاحب الحماسة البصرية وأورد من القصيدة بعده أبياتا. اهـ.
فنصب الحلم والمضاع على تكرير ألفيتني، وكذلك تفعل العرب في كلّ ما احتاج إلى اسم وخبر، مثل ظنّ وأخواتها، وفي"مسودّة" للعرب لغتان: مسودّة، ومسوادّة، وهي في أهل الحجاز يقولون فيما ذكر عنهم: قد اسوادّ وجهه، واحمارّ، واشهابّ. وذكر بعض نحويي البصرة عن بعضهم أنه قال: لا يكون افعالّ إلا في ذي اللون الواحد نحو الأشهب، قال: ولا يكون في نحو الأحمر، لأن الأشهب لون يحدث، والأحمر لا يحدث.
وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) يقول: أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله، فامتنع من توحيده، والانتهاء إلى طاعته فيما أمره ونهاه عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: وينجي الله من جهنم وعذابها، الذين اتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في الدنيا، بمفازتهم: يعني بفوزهم، وهي مفعلة منه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل، وإن خالفت ألفاظ بعضهم اللفظة التي قلناها في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله:
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ) قال: بفضائلهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ) قال: بأعمالهم، قال: والآخرون يحملون أوزارهم يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
واختلفت القرّاء في ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة، وبعض قرّاء مكة والبصرة: (بِمَفَازَتِهِمْ) على التوحيد. وقرأته عامة قرّاء الكوفة:"بمفازاتهم"على الجماع.
والصواب عندي من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما، والعرب توحد مثل ذلك أحيانا وتجمع بمعنى واحد، فيقول أحدهم: سمعت صوت القوم، وسمعت أصواتهم، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)، ولم يقل: أصوات الحمير، ولو جاء ذلك كذلك كان صوابا.
وقوله: (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يقول تعالى ذكره: لا يمس المتقين من أذى جهنم شيء، وهو السوء الذي أخبر جل ثناؤه أنه لن يمسهم، ولا هم يحزنون، يقول: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آراب الدنيا، إذ صاروا إلى كرامة الله ونعيم الجنان.
وقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يقول تعالى ذكره: الله الذي له الألوهة من كل خلقه الذي لا تصلح العبادة إلا له، خالق كل شيء، لا ما لا يقدر على خلق شيء، وهو على كل شيء وكيل، يقول: وهو على كل شيء قيم بالحفظ والكلاءة.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
320
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) }
يقول تعالى ذكره: له مفاتيح خزائن السموات والأرض، يفتح منها على من يشاء، ويمسكها عمن أحب من خلقه، واحدها: مقليد. وأما الإقليد: فواحد الأقاليد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) مفاتيحها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي مفاتيح السموات والأرض.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: خزائن السموات والأرض.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: المقاليد: المفاتيح، قال: له مفاتيح خزائن السموات والأرض.
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بحجج الله فكذبوا بها وأنكروها، أولئك هم المغبونون حظوظهم من خير السموات التي بيده مفاتيحها، لأنهم حرموا ذلك كله في الآخرة بخلودهم في النار، وفي الدنيا بخذلانهم عن الإيمان بالله عزّ وجلّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
321
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥) }
يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك، الداعيك إلى عبادة الأوثان: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ) أيها الجاهلون بالله (تَأْمُرُونِّي) أن (أَعْبُدُ) ولا تصلح العبادة لشيء سواه. واختلف أهل العربية في العامل، في قوله (أَفَغَيْرَ) النصب، فقال بعض نحويي البصرة: قل أفغير الله تأمروني، يقول: أفغير الله أعبد تأمروني، كأنه أراد الإلغاء، والله أعلم، كما تقول: ذهب فلان (١) يدري، حمله على معنى. فما يدري. وقال بعض نحويي الكوفة:"غير"منتصبة بأعبد، وأن تحذف وتدخل، لأنها علم للاستقبال، كما تقول: أريد أن أضرب، وأريد أضرب، وعسى أن أضرب، وعسى أضرب، فكانت في طلبها الاستقبال، كقولك: زيدا سوف أضرب، فلذلك حُذفت وعمل ما بعدها فيما قبلها، ولا حاجة بنا إلى اللغو.
وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) يقول تعالى ذكره: ولقد أوحى إليك يا محمد ربك، وإلى الذين من قبلك من الرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) يقول: لئن أشركت بالله شيئا يا محمد، ليبطلنّ عملك، ولا تنال به ثوابا، ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله، وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم.. ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك، ولتكوننّ من الخاسرين، وإلى الذين من قبلك، بمعنى: وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه، فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك.
ومعنى قوله: (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ولتكونن من الهالكين بالإشراك
(١) كذا في الأصل، وهو غير واضح. وقد وضح الشوكاني في فتح القدير (٤: ٤٦١) عامل النصب في" غير" توضيحا شافيا فراجعه، ولعل أصل العبارة:" ذهب فلا أن يدري"... الخ.
بالله إن أشركت به شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بعبادته، بل الله فاعبد دون كلّ ما سواه من الآلهة والأوثان والأنداد (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله على نعمته عليك بما أنعم من الهداية لعبادته، والبراءة من عبادة الأصنام والأوثان. ونصب اسم الله بقوله (فَاعْبُدِ) وهو بعده، لأنه رد الكلام، ولو نصب بمضمر قبله، إذا كانت العرب تقول: زيد فليقم. وزيدا فليقم. رفعا ونصبا، الرفع على فلينظر زيد، فليقم، والنصب على انظروا زيدا فليقم. كان صحيحا جائزا.
وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يقول تعالى ذكره: وما عظَّم الله حقّ عظمته، هؤلاء المشركون بالله، الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
عليّ، قال. ثنا أبو صالح، قال. ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حقّ قدره، ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حقّ قدره.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد. قال. ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا قَدَرُوا
323
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : ما عظموا الله حقّ عظمته.
وقوله: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يقول تعالى ذكره: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة (وَالسَّمَوَاتُ) كلها (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه) فالخبر عن الأرض مُتَنَاهٍ عند قوله: يوم القيامة، والأرض مرفوعة بقوله (قَبْضَتُهُ)، ثم استأنف الخبر عن السموات، فقال: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وهي مرفوعة بمطويات.
ورُوي عن ابن عباس وجماعة غيره أنهم كانوا يقولون: الأرض والسموات جميعا في يمينه يوم القيامة.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن أبن عباس. قوله: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يقول: قد قبض الأرضين والسموات جميعا بيمينه. ألم تسمع أنه قال: (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه) يعنى: الأرض والسموات بيمينه جميعا، قال ابن عباس: وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه.
حدثنا ابن بشار، قال. ثنا معاذ بن هشام. قال: ثني أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: ما السموات السبع، والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم. قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، قال: ثنا النضر بن أنس، عن ربيعة الجُرْسي، قال: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) قال: ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء.
حدثني عليّ بن الحسن الأزديّ، قال ثنا يحيى بن يمان، عن عمار بن عمرو، عن الحسن، في قوله: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: كأنها جوزة بقضها وقضيضها.
324
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يقول: السموات والأرض مطويات بيمينه جميعا.
وكان ابن عباس يقول: إنما يستعين بشماله المشغولة يمينه، وإنما الأرض والسموات كلها بيمينه، وليس في شماله شيء.
حدثنا الربيع، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أُسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، على المنبر يخطب الناس، فمر بهذه الآية: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يَأْخُذُ السَّمَوَاتِ وَالأرَضَينَ السَّبْعَ فَيَجْعَلُهَا في كَفِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِهِما كمَا يَقُولُ الغُلامُ بالكُرَةِ: أنا اللهُ الوَاحِدُ، أنا اللهُ العَزِيزُ"حتى لقد رأينا المنبر وإنه ليكاد أن يسقط به.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: ثني منصور وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة السَّلْماني، عن عيد الله، قال: جاء يهوديّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: يا محمد إن الله يمسك السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بدت نواجذه وقال: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة عن عبد الله، قال: فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تعجبا وتصديقا.
محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، عن منصور، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حين
325
جاءه حبر من أحبار اليهود، فجلس إليه، فقال له النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"حَدِّثْنا، قال: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة، جعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والماء والشجر على أصبع، وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقا لما قال، ثم قرأ هذه الآية: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)... الآية".
محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، نحو ذلك.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، وعباس بن أبي طالب، قالا ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهوديّ بالنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو جالس، فقال:"يا يَهُودِيُّ حَدّثْنا"، فقال: كيف تقول يا أبا ألقاسم يوم يجعل الله السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، فأنزل الله (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)... الآية".
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال:"أتى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع، والسموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع؟ قال فضحك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى بدت نواجذه، فأنزل الله (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ)... إلى آخر الآية.
وقال آخرون: بل السموات في يمينه، والأرضون في شماله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا ابن أبي حازم، قال: ثني أبو حازم، عن عبيد الله بن مقْسَمٍ، أنه سمع عبد الله بن
326
عمر يقول: رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو على المنبر يقول:"يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَوَاتِه وأرْضَهُ بِيَدَيْه"وقبض رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يديه، وجعل يقبضهما ويبسطهما، قال: ثمَّ يَقُولُ:"أنا الرَّحْمَنُ أنا المَلِك، أيْنَ الجَبَّارُونَ، أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ"وتمايل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرّك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم"؟.
حدثني أبو علقمة الفروي عبد الله بن محمد، قال: ثني عبد الله بن نافع، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول:"يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَوَاتِهِ وَأرْضَهُ بِيَديْهِ"، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها، ثُمَّ يَقُولُ:"أنا + الجَبَّارُ، أنا المَلِكُ، أيْنَ الجَبَّارُونَ، أيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ "قال: ويميل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن يمينه وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرّك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ ".
حدثني الحسن بن عليّ بن عياش الحمصي، قال: ثنا بشر بن شعيب، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا محمد بن مسلم بن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أنه كان يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يَقْبِضُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ وَيَطْوِي السموات بيَمينهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟ ".
حُدثت عن حرملة بن يحيى، قال: ثنا إدريس بن يحيى القائد، قال: أخبرنا حيوة، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"إنَّ اللهَ يَقْبِضُ الأرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِيَدِهِ، وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمينهِ وَيَقُولُ: أنا المَلِكُ".
حدثني محمد بن عون، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا ابن أبي مريم،
327
قال: ثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري، قال: أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حبر من اليهود، قال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فأين الخلق عند ذلك؟ قال:"هُمْ فِيها كرَقْمِ الكِتابِ".
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا عمرو بن حمزة، قال: ثني سالم، عن أبيه، أنه أخبره أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:"يَطْوِي اللهُ السَّمَوَاتِ فَيَأخُذُهُنَّ بِيَمِينِهِ ويَطْوِي الأرْضَ فَيأْخُذُها بشِمالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِك أيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أينَ المُتَكَبِّرُونَ".
وقيل: إن هذه الآية نزلت من أجل يهودي سأل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن صفة الرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن محمد، عن سعيد، قال:"أتى رهط من اليهود نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه، قال: يقول الله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فلما تلاها عليهم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قالوا: صف لنا ربك، كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أشد من غضبه الأول، ثم ساورهم، فأتاه جبريل فقال مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: تكلمت اليهود في صفة الرب، فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل الله على
328
نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ثم بين للناس عظمته فقال: (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون)، فجعل صفتهم التي وصفوا الله بها شركا".
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) يقول في قدرته نحو قوله: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد، قال: وقوله (قَبْضَتُهُ) نحو قولك للرجل: هذا في يدك وفي قبضتك. والأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعن أصحابه وغيرهم، تشهد على بطول هذا القول.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن عائشة قالت: سألت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، عن قوله (وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فأين الناس يومئذ؟ قال:"عَلى الصِّراطِ".
وقوله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يقول تعالى ذكره تنزيها وتبرئة لله، وعلوا وارتفاعا عما يشرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد، القائلون لك: اعبد الأوثان من دون الله، واسجد لآلهتنا.
329
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ونفخ إسرافيل في القرن، وقد بيَّنا معنى الصور فيما مضى بشواهده، وذكرنا اختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول فيه بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ) يقول: مات، وذلك
329
في النفخة الأولى.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ) قال: مات.
وقوله: (إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بالاستثناء في هذه الآية، فقال بعضهم عنى به جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) قال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
حدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا الفضل بن عيسى، عن عمه يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) فقيل: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال:"جبرائيلَ وميكائيلَ، ومَلكَ المَوْتِ، فإذَا قَبَضَ أرْوَاحَ الخَلائِقِ قالَ: يَا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِيَ؟ وَهُوَ أعْلَمُ، قال: يَقُولُ: سُبْحانَكَ تَبارَكْتَ رَبِّي ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكائيل وَمَلَكُ المَوْتِ، قال: يَقُولُ يَا مَلَكَ المَوْتِ خُذْ نَفْسَ مِيكائيلَ، قالَ: فَيَقَعُ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ، قال: ثُمَّ يَقُولُ: يَا مَلَكَ المَوْتِ مَنْ بَقِيَ؟ فيَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي يا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمَلَكُ المَوْتِ، قَالَ: فَيَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ مُتْ، قالَ: فَيَمُوتُ، قالَ: ثُمَّ يَقُولُ: يا جِبْرِيلُ مَنْ بَقِيَ؟ قالَ: فيَقُولُ جِبْرِيلُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي يَا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ، بَقِيَ جِبْرِيلُ، وَهُوَ مِنَ اللهِ بالمَكانِ الَّذي هُوَ بِهِ، قالَ: فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ لا بُدَّ مِنْ مَوْتَةٍ، قالَ: فَيَقَعُ سَاجِدًا يَخْفِقُ بِجناحَيْه يَقُولُ: سُبْحَانَكَ رَبِّي تَبَارَكَتْ وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ، أنْتَ البَاقِي وجِبْرِيلُ المَيِّتُ الفَانِي: قال: ويأْخُذُ رُوحَهُ
330
في الحلْقَةِ التي خُلِقَ مِنْها، قالَ: فَيَقَعُ على مِيكائِيلَ أنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ على خَلْقِ مِيكَائيل كفَضْلِ الطَّوْدِ العَظِيمِ عَلى الظَّرْبِ (١) مِنَ الظِّرابِ".
وقال آخرون: عنى بذلك الشهداء.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة عن عمارة، عن ذي حجر اليحمدي، عن سعيد بن جُبَير، في قوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) قال: الشهداء ثنية الله حول العرش، متقلدين السيوف.
وقال آخرون: عنى بالاستثناء في الفزع: الشهداء، وفي الصعق: جبريل، وملك الموت، وحملة العرش.
* ذكر من قال ذلك، والخبر الذي جاء فيه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ثَلاثَ نَفَخَاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فتَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللهُ"، قالَ أبو هريرة: يا رسول الله، فمن استثنى حين يقول: (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) قال:"أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وإنَّما يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ، أُولَئِكَ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقاهُمْ الله فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وأمَّنَهُمْ، ثُمَّ يأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْعَقُ أهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
(١) في اللسان: الظرب: الجبل المنبسط. وقيل: هو الجبل الصغير، وقيل: الروابي الصغار. والجمع ظراب.
331
إلا مَنْ شَاءَ اللهُ فإذا هُمْ خَامِدُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ المَوْتِ إلى الجَبَّارِ تبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ أهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إلا مَنْ شِئْتَ، فَيَقُولُ لَهُ وَهُوَ أعْلَمُ. فمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيَّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشُكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: اسْكُتْ إنِّي كَتَبْتُ المَوْتَ عَلَى مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يا رَبِّ قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ، فيَقُولُ اللهُ وَهُوَ أعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ بَقِيتَ أنْتَ الحَيّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وبَقِيَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أنا، فَيَقُولُ اللهُ: فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ العَرْشِ، فَيَمُوتُونَ، وَيَأْمُرُ اللهُ تعالى العَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ. فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ؟ وَهُوَ أعْلَمُ، فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيَّ الَّذِي لا يَمُوتُ وبَقِيتُ أنا، قال: فَيَقُولُ اللهُ: أنْتَ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فَمُتْ لا تَحْيَى، فَيَمُوتُ".
وهذا القول الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أولى بالصحة، لأن الصعقة في هذا الموضع: الموت. والشهداء وإن كانوا عند الله أحياء كما أخبر الله تعالى ذكره فإنهم قد ذاقوا الموت قبل ذلك.
وإنما عنى جل ثناؤه بالاستثناء في هذا الموضع، الاستثناء من الذين صعقوا عند نفخة الصعق، لا من الذين قد ماتوا قبل ذلك بزمان ودهر طويل، وذلك أنه لو جاز أن يكون المراد بذلك من قد هلك، وذاق الموت قبل وقت نفخة الصعق، وجب أن يكون المراد بذلك من قد هلك، فذاق الموت من قبل ذلك، لأنه ممن لا يصعق في ذلك الوقت إذا كان الميت لا يجدد له موت آخر في تلك الحال.
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا من أهل السموات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت؟ قال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته، قال:
332
ذُكر لنا أن نبيّ الله قال:"أتاني مَلَكٌ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ اخْتَرْ نَبِيًّا مَلِكًا، أوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فأَوْمَأ إليَّ أنْ تَوَاضَعْ، قَالَ: نَبِيًّا عَبْدًا، قال فأُعْطِيتُ خَصْلَتَيْنِ: أنْ جُعِلْتُ أوَّلَ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ، وأوَّلُ شَافِعٌ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَجِدُ مُوسَى آخِذًا بالعَرْشِ، فاللهُ أعْلَمُ أصَعِقَ بَعْدَ الصَّعْقَةِ الأولَى أمْ لا؟ ".
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: ثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال يهودي بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فرفع رجل من الأنصار يده، فصكّ بها وجهه، فقال: تقول هذا وفينا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، فَأَكُونُ أنَا أوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فإذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ فَلا أدْرِي أرَفَعَ رَأْسَه قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنْ استثنى الله".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن الحسن، قال: قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"كأنَّي أنْفُضُ رأسِي مِنَ التُّرَابِ أوَّلَ خَارِجٍ، فَأَلْتَفِتُ فَلا أَرَى أحَدًا إلا مُوسَى مُتَعَلِّقًا بالعَرْشِ، فَلا أدْرِي أمِمَّنْ اسْتَثْنَى اللهُ أنْ لا تُصِيبُه النَّفْخَةُ أوْ بُعِثَ قَبْلِي".
وقوله: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) يقول تعالى ذكره: ثم نفخ في الصور نفخة أخرى، والهاء التي في"فيه"من ذكر الصور.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) قال: في الصور، وهى نفخة البعث.
وذُكر أن بين النخفتين أربعين سنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح،
333
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله:"ما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ"قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال: أبَيْتُ، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت،"ثُمَّ يُنزلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتَنْبِتُونَ كَمَا يَنْبِتُ البَقْلُ، وَلَيْسَ مِنَ الإنْسانِ شَيْءٌ إلا يَبْلَى، إلا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
حدثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا البلخي بن إياس، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ)... الآية، قال: الأولى من الدنيا، والأخيرة من الآخرة.
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) قال نبي الله:"بين النفختين أربعون" قال أصحابه: فما سألناه عن ذلك، ولا زادنا على ذلك، غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة.
وذُكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتزّ، وتنبت أجساد الناس نباتَ البقل، ثم ينفخ فيه الثانية (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) قال: ذُكر لنا أن معاذ بن جبل، سأل نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كيف يبعث المؤمنون يوم القيامة؟ قال:"يُبْعَثُونَ جُرْدًا مُرْدا مُكَحَّلِينَ بني ثَلاثِين سَنَةً".
وقوله: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) يقول: فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتا قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) قال: حين يبعثون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
334
وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) }
يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها، يقال: أشرقت الشمس. إذا صفت وأضاءت، وأشرقت: إذا طلعت، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر. قال. ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) قال: فما يتضارون في نوره إلا كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.
حدثنا محمد، قال ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) قال: أضاءت.
وقوله (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) يعني. كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال ثنا سعيد، عن قتادة (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) قال: كتب أعمالهم.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) قال: الحساب.
وقوله: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) يقول: وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، وردت عليهم في الدنيا، حين أتتهم رسالة الله، والشهداء، يعني بالشهداء: أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ويستشهدهم ربهم على الرسل، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله، والشهداء: جمع شهيد، وهذا
335
نظير قول الله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). وقيل: عنى بقوله: (الشُّهَدَاءِ) : الذين قتلوا في سبيل الله، وليس لما قالوا من ذلك في هذا الموضع كبير معنى، لأن عقيب قوله: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)، وفي ذلك دليل واضح على صحة ما قلنا من أنه إنما دعى بالنبيين والشهداء للقضاء بين الأنبياء وأممها، وأن الشهداء إنما هي جمع شهيد، الذين يشهدون للأنبياء على أممهم كما ذكرنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) فإنهم ليشهدون للرسل بتبليغ الرسالة، وبتكذيب الأمم إياهم.
* ذكر من قال ما حكينا قوله من القول الآخر:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) : الذين استشهدوا في طاعة الله.
وقوله: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) يقول تعالى ذكره: وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ، وقضاؤه بينهم بالحقّ، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره، ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) ﴾
يقول تعالى ذكره: ووفى الله حينئذ كل نفس جزاء عملها من خير وشرّ، وهو أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة أو معصية، ولا يعزب عنه علم شيء من ذلك، وهو مجازيهم عليه يوم القيامة، فمثيب المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء.
وقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ) يقول: وحشر الذين كفروا بالله إلى ناره التي أعدّها لهم يوم القيامة جماعات، جماعة جماعة، وحزبا حزبا.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (زُمَرًا) قال: جماعات.
وقوله: (إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) السبعة (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) قوامها: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ) يعني: كتاب الله المنزل على رسله وحججه التي بعث بها رسله إلى أممهم (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) يقول: وينذرونكم ما تلقون في يومكم هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: وينذرونكم مصيركم إلى هذا اليوم. قالوا: بلى: يقول: قال الذين كفروا مجيبين لخزنة جهنم: بلى قد أتتنا الرسل منا، فأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) يقول: قالوا: ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به علينا بكفرنا به.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: فتقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) السبعة على قدر منازلكم فيها (خَالِدِينَ فِيهَا) يقول: ماكثين فيها
لا يُنقلون عنها إلى غيرها. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) يقول: فبئس مسكن المتكبرين على الله في الدنيا، أن يوحدوه ويفردوا له الألوهة، جهنم يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وحُشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في الدنيا، وأخلصوا له فيها الألوهة، وأفردوا له العبادة، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) يعني جماعات، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بيَّنا قبل فى سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة، وسوق الآخرين إلى النار دعًّا ووردا، كما قال الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، وفي قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) قال: كان سوق أولئك عنفا وتعبا ودفعا، وقرأ: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) قال: يدفعون دفعا، وقرأ: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ). قال: يدفعه، وقرأ (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - و - نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا). ثم قال: فهؤلاء وفد الله.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا شريك بن
338
عبد الله، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) حتى إذا انتهوا إلى بابها، إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان، فعمدوا إلى إحداهما، فشربوا منها كأنما أمروا بها، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى، ثم عمدوا إلى الأخرى، فتوضئوا منها كأنما أمروا به، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم بعدها، ثم دخلوا الجنة، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيقولون: أبشر، أعد الله لك كذا، وأعد لك كذا وكذا، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر، يتلألأ كأنه البرق، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه، فيقول: أبشري قد قدم فلان بن فلان، فيسميه باسمه واسم أبيه، فتقول: أنت رأيته، أنت رأيته! فيستخفها الفرح حتى تقوم، فتجلس على أسكفة بابها، فيدخل فيتكئ على سريره، ويقرأ هذه الآية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)... الآية.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: ذكر أبو إسحاق عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه قال: يساقون إلى الجنة، فينتهون إليها، فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان، فيعمدون إلى إحداهما، فيغتسلون منها، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رءوسهم بعدها أبدا، ولن تغبر جلودهم بعدها أبدا، كأنما دهنوا بالدهان، ويعمدون إلى الأخرى، فيشربون منها، فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون، فيفتح لهم، فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال: وتتلقاهم الولدان المخلدون، يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة، يقولون: أبشر أعد الله لك كذا، وأعد لك كذا، فينطلق أحدهم إلى زوجته، فيبشرها به، فيقول: قدم فلان باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا، وقال: فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، وتقول: أنت رأيته، أنت رأيته؟ قال: فيقول: نعم، قال:
339
فيجيء حتى يأتي منزله، فإذا أصوله من جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر، قال: فيدخل فإذا الأكواب موضوعة، والنمارق مصفوفة، والزرابيّ مبثوثة قال: ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين، فلولا أن الله أعدها له لالتمع بصره من نورها وحسنها، قال: فاتكأ عند ذلك ويقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) قال: فتناديهم الملائكة: (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، قال: ذكر السديّ نحوه أيضا، غير أنه قال: لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا، ثم قرأ السديّ: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).
واختلف أهل العربية في موضع جواب"إذا"التي في قوله (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا) فقال بعض نحويي البصرة: يقال إن قوله (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) في معنى: قال لهم، كأنه يلغي الواو، وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة، كما قال الشاعر:
فإذَا وَذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ إلا تَوَهُّمَ حَاِلمٍ بِخَيالٍ (١)
فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن. قال: وقال بعضهم: فأضمر الخبر، وإضمار الخبر أيضا أحسن في الآية، وإضمار الخبر في الكلام كثير. وقال آخر منهم: هو مكفوف عن خبره، قال: والعرب تفعل مثل هذا، قال عبد مَناف بن ربع في آخر قصيدة:
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ شَلا كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدا (٢)
(١) هذا البيت لم نقف على قائله. استشهد به المؤلف عند قوله تعالى" حتى إذا جاءوها وفتحت" على أن الواو زائدة في قوله تعالى" وفتحت أبوابها" كزيادتها في قول الشاعر:" فإذا وذلك" لأن الشاعر يريد:" فإذا ذلك" بدون واو.
(٢) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي (اللسان: جمل). و (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ٣: ١٧٠) شاهد على أن جواب إذ عند الرضي شارح كافية ابن الحاجب محذوف لتفخيم الأمر. (وقد تقدم الاستشهاد به على هذا وغيره في الجزء ١٤: ٩) فراجعه ثمة. وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (الورقة ٢١٧) قال: وقوله" حتى إذا جاءوها، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين": مكفوف عن خبره (أي محذوف خبره) والعرب تفعل مثل هذا. قال عبد مناف:" حتى إذا أسلكوهم... البيت". وفي خزانة الأدب للبغدادي (٣: ١٧١) : وقال في الصحاح: إذا: زائدة. أو يكون قد كف عن خبره، لعلم السامع. هـ. ورد قوله بأن إذا اسم، والاسم لا يكون لغوا. اهـ.
340
وقال الأخطل في آخر القصيدة:
خَلا أنَّ حيَّا من قُرَيْشٍ تَفَصَّلُوا على النَّاسِ أوْ أنَّ الأكارِمَ نَهْشَلا (١)
وقال بعض نحويِّي الكوفة: أدخلت في حتى إذا وفي فلما الواو في جوابها وأخرجت، فأما من أخرجها فلا شيء فيه، ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب، فجعل الثاني نسقا على الأوّل، وإن كان الثاني جوابا كأنه قال: أتعجب لهذا وهذا.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: الجواب متروك، وإن كان القول الآخر غير مدفوع، وذلك أن قوله: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) يدلّ على أن في الكلام متروكا، إذ كان عقيبه (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: حتى إذا جاءوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وعنى بقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : أمنة من الله لكم أن ينالكم بعدُ مكروه أو أذى. وقوله (طِبْتُمْ) يقول: طابت أعمالكم في الدنيا، فطاب اليوم مثواكم.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمر، قال: ثنا أبو عاصم. قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
(١) البيت للأخطل، قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة ٢١٧) وذكر البيت بعقب البيت الذي قبله، ولم يبين موضع الشاهد فيه وهو قوله" أو أن المكارم نهشلا... " فلم يذكر خبر أن الثانية، كما لم يذكر جواب" إذا" في بيت عبد مناف قبله. والعرب تفعل ذلك إذا كان مفهوما من السياق. وتقدير المحذوف في هذا البيت: أو أن الأكارم نهشلا تفضلوا على الناس.
341
ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد يقول في (طِبْتُمْ) قال: كنتم طيبين في طاعة الله.
وقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) يقول وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها: الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده، الذي كان وعَدناه في الدنيا على طاعته، فحققه بإنجازه لنا اليوم، (وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ) يقول: وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا، فدخلوها، ميراثا لنا عنهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ) قال: أرض الجنة.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ) أرض الجنة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ) قال: أرض الجنة، وقرأ: (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
وقوله: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) يقول: نتخذ من الجنة بيتا، ونسكن منها حيث نحب ونشتهي.
كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) ننزل منها حيث نشاء.
وقوله: (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) يقول: فنعم ثواب المطيعين لله، العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الآخرة.
342
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥) ﴾
342
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الملائكة محدقين من حول عرش الرحمن، ويعني بالعرش: السرير.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) محدقين.
حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) قال: محدقين حول العرش، قال: العرش: السرير.
واختلف أهل العربية في وجه دخول"مِنْ"في قوله: (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) والمعنى: حافِّين حول العرش.
وفي قوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت"مِنْ" في هذين الموضعين توكيدا، والله أعلم، كقولك: ما جاءني من أحد، وقال غيره: قبل وحول وما أشبههما ظروف تدخل فيها"مِنْ" وتخرج، نحو: أتيتك قبل زيد، ومن قبل زيد، وطفنا حولك ومن حولك، وليس ذلك من نوع: ما جاءني من أحد، لأن موضع"مِنْ"في قولهم: ما جاءني من أحد رفع، وهو اسم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن"من"في هذه الأماكن، أعني في قوله (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) ومن قبلك، وما أشبه ذلك، وإن كانت دخلت على الظروف فإنها بمعنى التوكيد.
وقوله: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقول: يصلون حول عرش الله شكرا له، والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح، وتحذفها أحيانا، فتقول: سبح بحمد الله، وسبح حَمْدَ الله، كما قال جل ثناؤه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى)، وقال في موضع آخر: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).
343
وقوله: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) يقول: وقضى الله بين النبيين الذين جيء بهم، والشهداء وأممها بالعدل، فأسكن أهل الإيمان بالله، وبما جاءت به رسله الجنة. وأهل الكفر به، ومما جاءت به رسله النار (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يقول: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي ابتدأ خلقهم الذي له الألوهية، وملك جميع ما في السموات والأرض من الخلق من ملك وجن وإنس، وغير ذلك من أصناف الخلق.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)... الآية، كلها قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وختم بالحمد فقال: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
آخر تفسير سورة الزمر
344
Icon