ﰡ
وقوله تعالى :﴿ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم ﴾، أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه، ولا يخفى عليه الذَّر وإن تكاثف حجابه، وقوله عزّ وجلّ :﴿ غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب ﴾ أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه، وخضع لديه، وقوله جل وعلا ﴿ شَدِيدِ العقاب ﴾ أي لمن تمرد وطغى، وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى، وهذه كقوله :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ] يقرن هذين الوصفين كثيراً من مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف، وقوله تعالى :﴿ ذِي الطول ﴾ قال ابن عباس : يعني السعة والغنى، وقال يزيد بن الأصم ﴿ ذِي الطول ﴾ يعني الخير الكثير، وقال عكرمة : ذي المن، وقال قتادة : ذي النعم والفواضل، والمعنى أنه المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها، ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] الآية، وقوله جلت عظمته :﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ إِلَيْهِ المصير ﴾ أي المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، وقال أبو بكر بن عياش : جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه :﴿ حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم * غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ﴾، وقال : اعمل ولا تيأس، وعن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان ابن فلان؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب، قال، فدعا عمر كاتبه، فقال : اكتب « من عمر بن الخطّاب إلى فلان ابن فلان : سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير »، ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه «، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرأه ويردّده ويقول : غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم آخاً لكم زل زلة فسدّدوه ووثقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
وقوله جل وعلا :﴿ فالحكم للَّهِ العلي الكبير ﴾ أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وقوله جل جلاله :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة، الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، ﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً ﴾ وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد، فالبقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء، ﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ ﴾ أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها ﴿ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ﴾ أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى. وقوله عزّ وجلّ :﴿ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾ أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، قال الإمام أحمد : كان عبد الله بن الزبير يقول في دُبُر كل صلاة حين يسلم « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. قال : وكان رسول الله ﷺ يهل بهن دُبُر كل صلاة »، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يقول عقب الصلوات المكتوبات :« لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك واله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله. ولا نبعد إلا إياه » الحديث، وقال النبي ﷺ :« ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاءً من قبل غافل لاه ».
وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾ أي ذاهبين هاربين، ﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ أي من أضله الله فلا هادي له غيره، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات ﴾ يعني أهل مصر قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى ﷺ وهو ( يوسف ) ﷺ كان عزيز أهل مصر، وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، ولهذا قال تعالى :﴿ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ أي يئستم فقلتم طامعين ﴿ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ وذلك لكفرهم وتكذيبهم، ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴾ أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى، فإن الله عزّ وجلّ يمقت على ذلك أشد المقت، ولهذا قال تعالى :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ ﴾ أي والمؤمنون أيضاً يبغضون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، ولهذا قال تبارك وتعالى ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ﴾ أي على اتباع الحق ﴿ جَبَّارٍ ﴾ قال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق، والله تعالى أعلم.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى ﷺ، وأما في الآخرة فبالجنة، ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب ﴾ وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجيحم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة علىعذاب البرزخ في القبور، وهي قوله تعالى :﴿ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله ﷺ وقال :» إنما يفتن يهود «، قالت عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله ﷺ :» ألا إنكم تفتنون في القبور «، قالت عائشة رضي الله عنها : فكان رسول الله ﷺ بعد، يستعيذ من عذاب القبر »
وقال قتادة ﴿ غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ : صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم، وقال ابن زيد : هم فيها يُغْدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة، وقال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها، وفي حديث الإسراء، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال فيه :« ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعيشاً ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ وآل فرعون كالإبل المسومة يخطبون الحجارة والشجر ولا يعقلون » وروى ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى قال، قلنا : يا رسول الله! ما إثابة الله الكافر؟ فقال :» إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك «. قلنا : فما إثابته في الآخرة؟ قال ﷺ :» عذاباً دون العذاب «، وقرأ ﴿ أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ » وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك عزّ وجل إليه يوم القيامة ».
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى ﴾ وهو ما بعثه الله عزّ وجلّ به من الهدى والنور، ﴿ وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب ﴾ أي جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم ملك فرعون، وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة ﴿ هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾ وهي العقول الصحيحة السليمة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ فاصبر ﴾ أي يا محمد ﴿ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد، وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك، وقوله تبارك وتعالى :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ ﴾ هذا تهييج للأمة على الاستغفار، ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي ﴾ أي في أواخر النهار وأوائل الليل ﴿ والإبكار ﴾ وهي أوائل النهار وأواخر الليل.