بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجراتوهي مدنية باتفاق القراء، وروى ( ثوبان )١ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :" أعطيت السبع الطول مكان التوراة، وأعطيت المائين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلني ربي بالمفصل " ٢.
ومنهم من قال : المفصل من سورة محمد، والأكثرون على أن المفصل من هذه السورة، والله أعلم.
٢ - رواه أحمد في مسنده ( ٤/١٠٧)، و الطاليسى ( ١٣٦ رقم ١٠١٢)، و ابن جرير ( ١/ ٣٤). و الطبراني في الكبير ( ٢٢ /٧٥ -٧٧ رقم ١٨٦، ١٨٧)، و الطحاوي في المشكل ( ٢ /١٥٤)، و البيهقي في الشعب ( ٥/ ٣٥٤ -٣٥٥ رقم ٢١٩٣، ٢٢٥٥، ٢٢٥٦ ) كلهم من حديث واثلة مرفوعا به. و قال الهيثمي في المجمع ( ٧ /٤٩) : رواه أحمد و فيه عمران القطان، و ثقه ابن حبان و غيره، و ضعفه النسائي و غيره، و بقية رجاله ثقات..
ﰡ
وَعَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ نَاس يَقُولُونَ: لَو أنزل كَذَا، لَو أنزل كَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: ذبح النَّاس أضحيتهم قبل صَلَاة النَّبِي يَوْم الْعِيد،
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن نَاسا صَامُوا يَوْم الشَّك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لَا تَفعلُوا الطَّاعَات قبل وَقت فعلهَا، وَهَذَا فِي جَمِيع الْعِبَادَات إِلَّا مَا قَامَ (على جَوَازه) دَلِيل من السّنة.
وروى عبد الله بن الزبير " أَن وَفد بني تَمِيم قدمُوا على النَّبِي، فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الله، أَمر عَلَيْهِم الْأَقْرَع بن حَابِس، وَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أَمر عَلَيْهِم فلَانا غير الَّذِي قَالَ أَبُو بكر، وَيُقَال: إِن الرجل الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عمر هُوَ الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة، فَقَالَ أَبُو بكر لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا أردْت [إِلَّا خلافي]، وَقَالَ عمر: مَا أردْت خِلافك، فتماريا عِنْد النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقَرَأَ الضَّحَّاك: " لَا تقدمُوا " وَهِي قِرَاءَة يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ، وَمَعْنَاهُ: لَا تتقدموا.
وَقَوله: ﴿وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم﴾ أَي: سميع لقولكم، عليم لما أَنْتُم عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ صمم، وَكَانَ جهير الصَّوْت، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة جلس فِي بَيته غما. وَيُقَال: سمر بَابه بالحديد، وَقَالَ: أَخَاف أَن يكون قد حَبط عَمَلي، فَدَعَاهُ النَّبِي وَقَالَ: " أما ترْضى أَن تعيش حميدا وَتَمُوت شَهِيدا " قَالَ: نعم. قَالَ: " تكون كَذَلِك " وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة.
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " أَنْت من أهل الْجنَّة ".
وَعَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة: وَالله لَا أكلم رَسُول الله إِلَّا كأخى السرَار.
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ بعد نزُول هَذِه الْآيَة لَا يكلم رَسُول الله إِلَّا خَافِضًا صَوته حَتَّى كَانَ يَسْتَفْهِمهُ رَسُول الله مَا يَقُوله.
وَقَوله: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض﴾ وَهُوَ نهى عَن رفع الصَّوْت فِي حَضرته. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن تناديه باسمه، وَهُوَ أَن تَقول: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، فَنهى الله تَعَالَى عَن ذَلِك، وَأمر ان يدعى باسم النُّبُوَّة والرسالة. وَحكي عَن مَالك بن أنس أَنه قَالَ: من قَالَ إِن رَسُول الله وسخ يُرِيد بِهِ النَّقْص كفر بِاللَّه
وَقَوله: ﴿أَن تحبط أَعمالكُم﴾ أَي: فتحبط أَعمالكُم، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: لِئَلَّا تحبط أَعمالكُم.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم لَا تشعرون﴾ أَي: لَا تعلمُونَ بحبوط الْأَعْمَال.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى﴾ أَي: أخْلص الله قُلُوبهم للتقوى. وَيُقَال: امتحن الله قُلُوبهم فَوَجَدَهَا خَالِصَة. وَيُقَال: إِن المُرَاد من الْقُلُوب أَرْبَاب الْقُلُوب يَعْنِي امتحنهم الله تَعَالَى وابتلاهم ليكونوا متقين، وَاللَّام لَام الصيرورة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ أَن الْأَقْرَع بن حَابِس قَالَ: يَا مُحَمَّد إِن مدحي زين، وذمي شين، فَقَالَ رَسُول الله: " ذَاك هُوَ الله ".
وَقَوله: ﴿أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ﴾ أَي: هم من قوم أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ. وَيُقَال: كَانَ فيهم من إِذا علم يعقل وَيعلم، وَكَانَ فيهم من لَا يعقل وَلَا يعلم وَإِن علم، فَلهَذَا قَالَ: ﴿أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ﴾ وَإِن علمُوا وعقلوا.
وَقَوله: ﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي هَذِه الْآيَات بَيَان اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي مجْلِس النَّبِي. وَذكر بَعضهم عظم الْجِنَايَة فِي ترك ذَلِك، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى حبوط الْعَمَل وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب. وَقد كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله يهابون أَن يتكلموا بِحَضْرَتِهِ، وَكَانُوا يحبونَ أَن يَأْتِي الْأَعرَابِي من الْبَادِيَة فَيسْأَل رَسُول الله عَن الشَّيْء ليسمعوا الْجَواب؛ لأَنهم كَانُوا يهابون السُّؤَال.
وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ " أَنه قَالَ لرَسُول الله حِين سلم عَن رَكْعَتَيْنِ: أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ وَقد كَانَ فِي الْقَوْم أَبُو بكر وَعمر ووجوه أَصْحَاب رَسُول الله فهابوا أَن يكلموه، وَتكلم هَذَا الرجل؛ لِأَنَّهُ لم يكن يعلم من قدره وَعظم حَقه مَا كَانُوا يعلمُونَ ".
وَقَوله: ﴿إِن جَاءَكُم فَاسق﴾ قَالُوا: الْفَاسِق هَاهُنَا هُوَ الْكذَّاب. وَأما اللُّغَة قد بَينا أَنه الْخَارِج عَن طَاعَة الله.
وَقَوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وَقُرِئَ: " فتثبتوا " ومعناهما مُتَقَارب، وَهُوَ ترك العجلة، والتدبر والتأني فِي الْأَمر.
وَقَوله: ﴿أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة﴾ مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تصيبوا قوما بِجَهَالَة، وَمعنى الْإِصَابَة هَاهُنَا: هُوَ الْإِصَابَة من الدَّم وَالْمَال بِالْقَتْلِ والأسر والاغتنام.
وَقَوله: ﴿فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين﴾ أَي: تصيروا نادمين على فعلكم، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الإصباح للَّذي هُوَ ضد الإمساء.
وَقَوله: ﴿يطيعكم﴾ نوع مجَاز؛ لِأَن الطَّاعَة فِي الْحَقِيقَة فعل من الأدون على مُوَافقَة قَول الْأَعْلَى. وَقد رُوِيَ عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: نعم الرب رَبنَا، لَو أطعناه مَا عصانا، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز والتوسع فِي الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر:
(رب من أَصبَحت غيظا صَدره | لَو تمنى فِي موتا لم يطع) |
وَقَوله: ﴿وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان﴾ يُقَال: حببه بِإِقَامَة الدَّلَائِل على وحدانيته وهدايتهم إِلَيْهَا. وَيُقَال: حببه بِذكر الثَّوَاب والوعد الصَّادِق.
وَقَوله: ﴿وزينه فِي قُلُوبكُمْ﴾ حَتَّى قبلوه وآثروه على طَرِيق غَيره، وطبع الْآدَمِيّ مجبول على اخْتِيَار مَا زين فِي قلبه، فَلَمَّا هدى الله الْمُؤمنِينَ إِلَى الْإِيمَان، وأمال قُلُوبهم إِلَيْهِ حَتَّى قبلوه، سمى ذَلِك تزيينا للْإيمَان فِي قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وَكره إِلَيْكُم الْكفْر﴾ يُقَال: كره الْكفْر بِذكر الْوَعيد والتخويف على فعله.
وَقَوله: ﴿والفسوق والعصيان﴾ والفسوق: كل مَا يفسق بِهِ الْإِنْسَان أَي: يخرج بِهِ عَن طَاعَة الله. والعصيان: مُخَالفَة الْأَمر.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة﴾ أَي: المهتدون تفضلا من الله وإنعاما.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ أَي: عليم بخلقه، حَكِيم فِيمَا يدبره لَهُم.
وَقَالَ غَيره وَهُوَ قَتَادَة: هُوَ فِي رجلَيْنِ اخْتَصمَا فِي عهد النَّبِي فِي حق بَينهمَا، فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: لآخذن مِنْك عنْوَة تعززا بِكَثْرَة عشيرته، وَقَالَ الآخر: لَا، بل أحاكمك إِلَى رَسُول الله، فَلم يزل بَينهمَا الْأَمر حَتَّى تواثبا وتضاربا، (وَكَانَ بَينهمَا قتال) بالنعل وَالْيَد، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَالَ مُجَاهِد: الطَّائِفَة اسْم للْوَاحِد إِلَى ألف وَأكْثر.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة قيل لَهُ: لَو أتيت عبد الله بن أبي بن سلول فدعوته إِلَى الْإِيمَان، فَركب حمارا وَتوجه إِلَيْهِ، وَكَانَت الأَرْض أَرضًا سبخَة، وَأَصْحَابه حوله فثار الْغُبَار، فَلَمَّا بلغ الْموضع الَّذِي فِيهِ عبد الله بن أبي بن سلول وَعِنْده جمَاعَة، قَالَ: إِلَيْك عَنَّا يَا مُحَمَّد، فقد أذانا نَتن حِمَارك. فَقَالَ عبد الله بن رَوَاحَة: وَالله إِن حِمَاره أطيب (ريحًا) مِنْك. فَغَضب لعبد الله بن أبي سلول قوم، ولعَبْد الله بن رَوَاحَة قوم، فثار بَينهم الشَّرّ، وتقاتلوا بِالْعِصِيِّ وَالنعال وَمَا أشبه ذَلِك، وَأَرَادَ النَّبِي أَن يسكنهم فَلم يُمكنهُ، ثمَّ إِنَّهُم سكنوا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَذكر البُخَارِيّ خَبرا فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس قَرِيبا من هَذَا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، وَإِنَّمَا سمى الله تَعَالَى ذَلِك مقاتلة؛ لِأَن الجري عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْل، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ من قصَّة عبد الله بن أبي بن سلول وَعبد الله بن رَوَاحَة ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا.
وَقَوله: ﴿فأصلحوا بَينهمَا﴾ أَي: فَاسْعَوْا (لدفع) الْفساد وَإِزَالَة الشَّرّ. وَاعْلَم أَنه إِذا وَقع مثل هَذَا بَين طائفتين يجب على الإِمَام أَن يَنُوب عَن الإِمَام ينظر بَينهمَا ويحملهما على الْحق، فَإِن امْتنعت إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَن قبُول الْحق [ردهَا]
وَقَوله: ﴿فَإِن فاءت﴾ أَي: رجعت، وَمَعْنَاهُ: انقادت للحق.
وَقَوله: ﴿فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ﴾ أَي: بِالْحَقِّ.
وَقَوله: ﴿وأقسطوا﴾ أَي: وأعدلوا.
وَقَوله: ﴿إِن الله يحب المقسطين﴾ أَي: العادلين، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " المقسطون يَوْم الْقِيَامَة عَن يَمِين الرَّحْمَن، قيل: وَمن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذين عدلوا فِي حكمهم لأَنْفُسِهِمْ وأهليهم وَمَا ولوا ".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي قل: " الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، لَا يَظْلمه، وَلَا
وَقَوله: ﴿فأصلحوا بَين أخويكم﴾ ذكر الْأَخَوَيْنِ ليدل بِوُجُوب الْإِصْلَاح بَينهمَا على وجوب الْإِصْلَاح بَين الْجمع الْكثير.
وَقَوله: ﴿وَاتَّقوا الله﴾ أَي: اتَّقوا الله من أَن لَا تتركوهم على الْفساد، وَأَن تسعوا فِي طلب الصّلاح.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ ترحمون﴾ أَي: يعْطف الله تَعَالَى عَلَيْكُم، وَيَعْفُو عَنْكُم. وَيُقَال: ﴿فأصلحوا بَين أخويكم﴾ أَي: إخْوَانكُمْ، وروى أَسْبَاط عَن السدى أَن رجلا من الْأَنْصَار كَانَت لَهُ امْرَأَة، فَأَرَادَتْ أَن تزور أَهلهَا فَمنعهَا زَوجهَا، وَجعلهَا فِي علية لَهُ، فجَاء أَهلهَا ليحملوها إِلَيْهِم، واستعان الرجل بقَوْمه فِي منعهَا؛ فَوَقع بَينهم شَرّ وقتال، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿قوم من قوم﴾ الْقَوْم هَاهُنَا بِمَعْنى الرِّجَال، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي وَلست أخال أَدْرِي | أقوم آل حصن أم نسَاء) |
قَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي الِاسْتِهْزَاء؛ الْغَنِيّ بالفقير، وَالْقَوِي بالضعيف.
وَيُقَال: استهزاء الدهاة بِأَهْل سَلامَة الْقُلُوب.
وَقَوله: ﴿عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم﴾ أَي: عَسى أَن يكون المستهزئ مِنْهُ خيرا من المستهزئ.
وَقَوله: ﴿وَلَا نسَاء من نسَاء﴾ أَي: وَلَا يسخر نسَاء من نسَاء عَسى أَن تكون خيرا مِنْهُنَّ، أَي: عَسى أَن تكون المستهزأة مِنْهَا خيرا من المستهزئة، وَالْمرَاد فِي الْآخِرَة.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " أنظر إِلَى أوضع رجل فِي الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى فَقير عَلَيْهِ أطمار. فَقَالَ: انْظُر إِلَى أرفع رجل فِي الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى بعض الْأَغْنِيَاء وَعَلِيهِ شارة فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْقِيَامَة أفضل من ملْء الأَرْض من هَذَا " وعنى بِهِ الْفَقِير.
وَقَوله: ﴿وَلَا تلمزا أَنفسكُم﴾ أَي: (لَا يعيب) بَعْضكُم بَعْضًا [أَي:] مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم﴾ أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا.
قَالَ الضَّحَّاك: لَا يلعن بَعْضكُم بَعْضًا، وَيُقَال: لَا يطعن بَعْضكُم على بعض.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ﴾ النبز واللقب بِمَعْنى وَاحِد.
وَمعنى النبز هَاهُنَا: هُوَ اللقب الْمَكْرُوه الَّذِي يكره الْإِنْسَان أَن يدعى بِهِ. وَعَن
وَقَوله: ﴿بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان﴾ اسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ إِن الْفَاسِق
وَقَوله: ﴿وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ﴾ أَي: من لم يتب عَن هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يفعلونها فِي الْجَاهِلِيَّة؛ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " إِذا حسدت فَلَا تَبْغِ، وَإِذا نظرت حداء فَامْضِ، وَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق ".
وَعَن أنس أَن النَّبِي قَالَ: " احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن ". وَهُوَ خبر غَرِيب. وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ: " إِنِّي لأعد عراق اللَّحْم فِي الْقدر مَخَافَة سوء الظَّن. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: الْخَتْم خير من (الظَّن) وَعَن السوء [أبي] الْعَالِيَة الريَاحي أَنه ختم على سبع سَكَرَات لِئَلَّا يظنّ ظن السوء.
وَاعْلَم أَن الظَّن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ ظن السوء بِأَهْل الْخَيْر، فَأَما بِأَهْل الشَّرّ فَجَائِز.
وَقَوله: ﴿إِن بعض الظَّن إِثْم﴾ يَعْنِي: هَذَا الظَّن.
وَقَوله: ﴿وَلَا تجسسوا﴾ التَّجَسُّس: هُوَ الْبَحْث عَن عورات النَّاس، قَالَه مُجَاهِد وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " وَلَا تحسسوا " بِالْحَاء. وَاخْتلفُوا فِي التَّجَسُّس والتحسس، مِنْهُم من قَالَ: هما وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق، وَقَالَ: التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن عورات (النَّاس) كَمَا قُلْنَا. والتحسس هُوَ الِاسْتِمَاع إِلَى حَدِيث الْقَوْم، وَيُقَال: التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن الْأُمُور، والتحسس هُوَ الْإِدْرَاك بِبَعْض الْحَواس، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أنس أَنه قَالَ: " لَا تقاطعوا وَلَا تدابروا وَلَا تباغضوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تجسسوا وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: أخبرنَا [الشَّيْخ] أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد ابْن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، عَن جده، عَن مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس... الحَدِيث.
وَفِي بعض الْآثَار أَن عمر رَضِي الله عَنهُ خرج وَمَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يعس لَيْلَة، فمرا بدار وَسَمعنَا مِنْهَا لغظا وأصواتا، فَقَالَ عمر: أرى أَنهم يشربون الْخمر ﴿مَاذَا نَفْعل؟﴾ فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أرى أَنا أَتَيْنَا مَا نهينَا عَنهُ يَعْنِي: التَّجَسُّس وَرجع.
وَفِي هَذَا الْأَثر أَن تِلْكَ الدَّار كَانَت دَار ربيعَة بن أُميَّة بن خلف.
وَفِي أثر آخر أَنه قيل لِابْنِ مَسْعُود: هَل لَك فِي الْوَلِيد بن عقبه ولحيته تقطر خمرًا وَكَانَ الْوَلِيد أَمِير الْكُوفَة، وَابْن مسود فقيهها فَقَالَ: إِنَّا نهينَا عَن التَّجَسُّس.
وَقَوله: ﴿وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا﴾ الْغَيْبَة: أَن يذكر أَخَاهُ فِي الْغَيْبَة بِمَا يكره ذَلِك إِذا سَمعه. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْغَيْبَة؟ فَقَالَ: " ذكرك أَخَاك بِمَا يكره " فَقيل: يَا رَسُول الله، إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ فَقَالَ: " إِن كَانَ فِي أَخِيك مَا تَقوله فقد اغْتَبْته، وَإِن لم يكن فِي أَخِيك مَا تَقوله فقد بَهته "
وَفِي الْأَخْبَار أَن امْرَأَة دخلت على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَلَمَّا خرجت قَالَت عَائِشَة: مَا أحْسنهَا لَوْلَا بهَا قصرا، فَقَالَ النَّبِي: " لقد اغتبتيها، فاستغفري الله " وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اغتاب أحدكُم أَخَاهُ فليستغفر لَهُ؛ فَإِن ذَلِك كَفَّارَته ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ والغيبة، فَإِن الْغَيْبَة أَشد من الزِّنَا، وَإِن الزَّانِي يَزْنِي ثمَّ يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ، وَإِن صَاحب الْغَيْبَة لَا يغْفر لَهُ حَتَّى يغْفر لَهُ صَاحبه " يَعْنِي: يعْفُو عَنهُ.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَنه لَيْسَ لفَاسِق غيبَة ".
وَقَالَ: " اذْكروا الْفَاجِر بِمَا فِيهِ، يحذرهُ النَّاس "
قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ لثَلَاثَة غيبَة: السُّلْطَان الظَّالِم، وَالْفَاسِق الْمُعْلن، وَالَّذِي أحدث فِي الْإِسْلَام حَدثا يَعْنِي: المبتدع.
وَكَذَلِكَ قَالَ أهل الْعلم: إِذا سَأَلَ إِنْسَان إنْسَانا لغَرَض لَهُ صَحِيح، فَلَا بَأْس أَن يذكر مَا فِيهِ. والغيبة مَأْخُوذَة من الْغَيْب؛ كَأَنَّهُ لما ذكره بِظهْر الْغَيْب بِمَا يسوءه كَانَ ذكره لَهُ غيبَة. وَقد كَانَ السّلف يحترزون أَشد الِاحْتِرَاز من مثل هَذَا. رُوِيَ أَن طبيبين دخلا على ابْن سِيرِين، فَلَمَّا خرجا قَالَ: لَوْلَا أَن يكون غيبَة لذكرت أَيهمَا أطب. وَعَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة قَالَ: لَو دخل عَلَيْك رجل أقطع فَقلت: هَذَا الأقطع يَعْنِي: بعد مَا خرج كنت قد اغْتَبْته، قَالَ أَبُو إِسْحَاق: صدق يَعْنِي: السبيعِي وَقَالَ أهل الْعلم: إِذا قَالَ فلَان الْأَعْمَش أَو فلَان الْأَعْوَر أَو فلَان البطين [يُرِيد] بذلك تَعْرِيفه،
وَذكر ابْن سِيرِين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَوضع يَده على عينه وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَعور فَقَالَ: رَأَيْته تِلْكَ الْمُشَاهدَة، وَمَا خلف بعده مثله.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه مَيتا فكرهتموه﴾ أَي: كَمَا يكره أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه وَهُوَ ميت، فَكَذَلِك فليكره أَن يذكرهُ بالسوء وَهُوَ غَائِب، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش التشابه بَينهمَا فِي الْمَعْنى؟ وَالْجَوَاب: أَنه إِذا أكل لَحْمه وَهُوَ ميت فقد هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ، وَإِذا ذكره بالسوء بِظهْر الْغَيْب فقد هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ. وَعَن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه مر على حمَار ميت فَقَالَ: لِأَن يمْلَأ أحدكُم جَوْفه من هَذَا اللَّحْم خير لَهُ من أَن يغتاب أَخَاهُ. وَيُقَال للمغتاب فِي اللُّغَة: فلَان يَأْكُل لُحُوم النَّاس: وَأنْشد فِي التَّفْسِير فِي هَذَا الْمَعْنى:
(فَإِن أكلُوا لحمي وفرت لحومهم | وَإِن هدموا مجدي بنيت لَهُم مجدا) |
وَقَوله: ﴿لتعارفوا﴾ أَي: ليعرف بَعْضكُم بَعْضًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " لتتعارفوا " وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لتعرفوا "، وَقيل على هَذِه الْقِرَاءَة: " لتعرفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله
وَقَوله: ﴿إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم﴾ فِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة: سَيعْلَمُ أهل الْجمع من أولى بِالْكَرمِ؛ أَيْن المتقون؟ ".
وَفِي خبر آخر: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: " أَيهَا النَّاس إِنَّكُم رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي؛ فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم؛ أَيْن المتقون؟ "
وَفِي التَّفْسِير: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ صمم، وَكَانَ يحب الدنو من رَسُول الله يسمع كَلَامه، فجَاء يَوْم وَقد أَخذ النَّاس مجَالِسهمْ، فَجعل يدْخل بَين الْقَوْم ليقرب من رَسُول الله، فَقَالَ لَهُ رجل: اجْلِسْ حَيْثُ انْتهى بك الْمجْلس، فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان فَقَالَ: ابْن فُلَانَة، وَذكر أما لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ يعير بهَا، فَسمع ذَلِك رَسُول الله، فَقَالَ: " يَا ثَابت انْظُر فِي الْقَوْم "، فَنظر، فَقَالَ: " لَيْسَ لَك مِنْهُم فضل إِلَّا بالتقوى "
وَقد ذكر هَذَا فِي سَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تلمزوا أَنفسكُم﴾ وَالتَّقوى هُوَ
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم خَبِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَثَبت أَيْضا أَن النَّبِي أعْطى قوما، وَلم يُعْط رجلا، فَقَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّك أَعْطَيْت فلَانا وَفُلَانًا وَلم تعط فلَانا وَهُوَ مُؤمن؟ فَقَالَ: " أَو مُسلم " وَاسْتدلَّ من
قَالَ فِي أَنَّهُمَا وَاحِد بقوله تَعَالَى: ﴿فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين﴾. وَأكْثر الْأَخْبَار دَالَّة على التَّفْرِيق، فَيجوز أَن نفرق مَا قُلْنَا وعَلى مَا ورد فِي الْأَخْبَار، وَيجوز أَن يُقَال: هما وَاحِد، فَيكون الْإِسْلَام بِمَعْنى الْإِيمَان، وَالْإِيمَان بِمَعْنى الْإِسْلَام، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين الْمُسلمين أَن يفهم من أَحدهمَا مَا يفهم من الآخر، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ﴾ هُوَ دَلِيل على أَنهم لم يَكُونُوا مُصدقين فِي الْبَاطِن.
وَقَوله: ﴿وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم﴾ وَقُرِئَ: " لَا يألتكم " أَي: لَا ينقصكم.
وَأما من قَرَأَ: " لَا يألتكم من أَعمالكُم شَيْئا " فَهُوَ بِمَعْنى النَّقْص أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَيْلَة ذَات سري سريت | وَلم يلتني عَن سراها لَيْت) |
وَقَوله: ﴿وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله﴾ أَي: قدوا أنفسهم وبذلوا أَمْوَالهم فِي طلب رضى الله.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ هم الصادقون﴾ بِمَعْنى هم الْمُحَقِّقُونَ فِي الْإِيمَان، فَكَأَنَّهُ لما ذكر
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَالله بِكُل شَيْء عليم﴾ أَي: عَالم، وَقد كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْإِسْلَام كَذَا، وَقد أسلمنَا، وَالْإِيمَان كَذَا، وَقد آمنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان﴾ أَي: هُوَ الَّذِي أنعم عَلَيْكُم بإخراجكم من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَن الْمِنَّة لله عَلَيْكُم إِن كُنْتُم صَادِقين أَنكُمْ آمنتم بِاللَّه.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿ق وَالْقُرْآن الْمجِيد (١) بل عجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء﴾تَفْسِير سُورَة ق
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: هِيَ مَكِّيَّة.