أهداف سورة الحجرات :
سورة الحجرات مدنية، وآياتها ١٨ آية، نزلت بعد سورة المجادلة.
الآداب العامة :
هذه سورة الآداب العامة ومكارم الأخلاق والتهذيب والتأديب، سورة هذبت وجدان المسلمين وحركت فيهم دوافع الخير والمعروف، وحاربت نوازع السخرية والاستهزاء بالآخرين، وحثت على إزالة أسباب الخصام والبغضاء، وحرصت على تأليف القلوب وإشاعة المحبة والمودة بين الناس، ولذلك نهت عن ظن السوء بالمسلم المخلص، وعن تتبع العورات المستورة، وعن الغيبة واللمز والتنابز بالألقاب، وبينت أن الناس جميعا عند الله سواء، كلهم لآدم وآدم من تراب، فهم يتفاضلون عنده بالتقوى، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.
منهج حياة
سورة الحجرات يمكن أن تكون دائرة معارف شاملة لتربية الفرد وتهذيب الجماعة، فهي تقدم منهجا للحياة السليمة، ونظاما تربويا ناجحا لخلق مواطن صالح مؤمن بربه، يحترم دينه ويؤدي شعائره.
جاء في ظلال القرآن ما يأتي :
هذه سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية، حقائق تفتح للقلب والعقل آفاقا عالية، وآمادا بعيدة، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة، وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات.
وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبير والتفكير.
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا، عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق بأن ينتسب إلى الله، عالم نقي القلب نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة، وعالم له أدب مع الله وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه، فيتوافق باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك إلى الله. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم، بل يلتقي هذا بذاك في انسجام وتناسق، كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق١.
معاني السورة
اشتملت السورة على طائفة كريمة من المعاني الإسلامية والآداب الدينية، فقد أمرت المسلمين ألا يصدروا في أحكامهم إلا عن طاعة الله والتزام أوامره، ويجب ألا يسبقوا أحكام الله وأن يجعلوا اختيارهم وذوقهم الديني تابعا لهدى الله. ( الآية : ١ ).
وهي تأمرهم بالتزام الأدب أمام النبي الكريم، وبحسن المعاملة وخفض الصوت عند خطاب الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، لأنه هو خاتم المرسلين، وهو الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وربى المسلمين تربية إلهية حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس ( الآيات : ٢-٥ ).
وتأمر السورة المسلمين أن يتثبتوا في أحكامهم، وألا يصدقوا أخبار الفاسقين وإشاعات المغرضين وأراجيف المرجفين، فالرسول صلى الله عليه وسلم معهم، وهدى القرآن والسنة بين أيديهم، وحقائق الإيمان وأحكامه واضحة أمامهم، وقد حبب الله إليهم الإيمان وحجب عنهم الكفر والعصيان، فلله الفضل والمنة، وهو العليم بعباده، الحكيم في أفعاله. ( الآيات : ٦-٨ ).
والمؤمنون أمة واحدة، ربهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتباهم واحد، ودينهم يقوم على التسامح والتعاون والتناصح، فإذا حدث خلاف بين طائفتين، أو قتال ونزاع، فمن الواجب أن نحاول الصلح بينهما، وإذا أصرت إحدى الطائفتين على البغي والعدوان فمن الواجب أن نقف في وجه المعتدي حتى يفيء إلى الحق، وعلينا أن نؤكد مفاهيم الحق والعدل، وأن نحث على الإصلاح ورأب الصدع حفاظا على وحدة الأمة وجمع شمل المسلمين. ( الآيتان : ٩، ١٠ ).
وتأمر الآيات بالبعد عن السخرية والاستهزاء بالآخرين، فالإنسان إنسان بمخبره وإنسانيته لا بمظهره وتعاليه، وهناك قيم حقيقية لمقادير الناس هي حسن صلتهم بالله ورضا الله عنهم، فقد يسخر الغني من الفقير، والقوي من الضعيف، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست المقياس، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين، ورب أشعت أغبر لو أقسم على الله لأبره. وتحرم الآيات كذلك اللمز والسخرية بالآخرين، والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ويحسون فيها مهانة وعيبا. فشتان بين آداب الإيمان، وبين الفسوق والعصيان وظلم الآخرين. ( الآية : ١١ ).
وتستمر الآيات فتنتهي عن ظن السوء، وعن تتبع عورات الناس حتى يعيش الناس آمنين على بيوتهم وأسرارهم، وحتى تصان حقوقهم وحرياتهم، وتنهي عن الغيبة وتحذر منها، وتبين أن الناس جميعا خلقوا من أصل واحد ثم تفرعت بهم الشعوب والقبائل، والعلاقة بين الناس أساسها التعارف على الخير، وأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى وطاعة لأمره والتزاما بهديه. ( الآيتان : ١٢، ١٣ ).
الإيمان قول وعمل
وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة ترسم معالم الإيمان، فالمؤمن الحق من آمن بالله ورسوله ولم يتطرق الشك إلى قلبه، وأتبع ذلك بالجهاد والعمل على نصرة الإسلام، وسار في طريق العقيدة السليمة والتزم بآدابها وهديها.
ونجد صورة نابية للأعراب الذين افتخروا بالإيمان، وتظاهروا به رياء وسمعة، وجاءوا في تيه وخيلاء يمنون على النبي لأنهم دخلوا في الإسلام، وهي صورة كريهة فيها الرياء والسمعة والمنة، مع أن الله هو العليم بنفوسهم والبصير بخباياهم، وهو صاحب الفضل والمنة عليهم إن كانوا صادقين.
إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ربا، واختاروا الإسلام دينا، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وجمعوا بين صدق اليقين وأدب السلوك. ( الآيات : ١٤-١٨ ).
وفي الحديث الشريف :( ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ).
الهدف الإجمالي للسورة
قال الفيروزبادي :
معظم مقصود سورة الحجرات ما يأتي : المحافظة على أمر الحق تعالى، ومراعاة حرمة الأكابر، والتؤدة في الأمور، واجتناب التهور، والنجدة في إغاثة المظلوم، والاحتراز عن السخرية بالخلق، والحذر عن التجسس والغيبة، وترك الفخر بالأحساب والأنساب، والتحاشي عن المنة على الله بالطاعة.
وقد تكرر خطاب المؤمنين في السورة خمس مرات بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا... ﴾ والمخاطبون هم المؤمنون في الآيات : ١ و٢ و٦ و١١ و١٢، والمخاطب به أمر ونهي، وفي الآية ١٣ :﴿ يا أيها الناس... ﴾ والمخاطب به المؤمنون والكافرون. حيث قال سبحانه :﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾. والناس كلهم في ذلك سواء٢.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
اشتملت سورة الحجرات على الآداب العامة، وبدأت بالأمر بحسن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه، بل الخضوع لأمره، وخفض الصوت عند محادثته، وتوقيره واحترامه، وعدم ندائه من وراء الحجرات، بل الانتظار حتى يخرج إلى الصلاة ثم مقابلته.
المفردات :
لا تقدموا : لا تتقدموا، من قولهم : مقدمة الجيش، لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدِّم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب، أي : لا تعجل بالأمر دونه، وقيل : المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة.
التفسير :
١- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
طلب الله تعالى من المسلمين توقير الرسول الله صلى الله عليه وسلم، واحترامه وإتباعه، وعدم التقدم عليه.
والمعنى :
ولا تسبقوا بأحكامكم أحكام الله، وأحكام رسوله، وراقبوا الله إن الله، ﴿ سميع ﴾. لأقوالكم، ﴿ عليم ﴾. بأحوالكم فنحن في حياتنا نقتدي بالكتاب والسنة وعمل الصحابة، ونجعل أحكام الإسلام سابقة غير مسبوقة، مقدمة غير متأخرة.
والأصل أن العبد لا يجوز أن يتقدم على سيده، والخادم لا يجوز أن يتقدم على مخدومه، فإن ذلك عيب مذموم، فضرب الله ذلك مثلا لمن يقدم رأيه وحكمه، على رأى الله وحكمه تعالى، أي لا تسبقوا بأحكامكم أحكام الله وأحكام رسوله، واتقوا الله وراقبوه، إن الله سميع لكل شيء، عليم بكل شيء، وفي معنى هذه الآية -أي تقديم حكم الله وحكم رسوله على اجتهاد الإنسان- ورد الحديث الذي رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن، وقال له :( بم تحكم ) ؟، قال : بكتاب الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم :( فإن لم تجد ) ؟، قال : بسنة رسوله، قال صلى الله عليه وسلم :( فإن لم تجد ) ؟، قال : أجتهد رأيي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر معاذ، وقال :( الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، لما يرضي رسول الله )٣.
وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي الله ورسوله.
سبب النزول :
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية، فقال بعضهم : سببها أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : يا رسول الله أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي، وقال عمر : ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم ﴾. ( الحجرات : ٥ )، رواه البخاري، عن محمد بن الصباح، وقيل في سبب النزول أسباب أخرى، ويمكن الجمع بينها، بأنها نزلت بعد وقوع هذه الأسباب جميعها، فتكون من باب تعدد الأسباب والمنزل واحد.
ويقول بعض العلماء : لعلها نزلت من غير سبب، لتكون دستورا للمسلمين في أعمالهم وأقوالهم، فيلتزموا بهدي القرآن، وبتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويتخذوه القدوة والمثل الأعلى.
قال تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾. ( الأحزاب : ٢١ ).
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
اشتملت سورة الحجرات على الآداب العامة، وبدأت بالأمر بحسن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه، بل الخضوع لأمره، وخفض الصوت عند محادثته، وتوقيره واحترامه، وعدم ندائه من وراء الحجرات، بل الانتظار حتى يخرج إلى الصلاة ثم مقابلته.
المفردات :
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي : إذا كلمتموه ونطق ونطقتم، فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته.
التفسير :
٢- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾.
أدب الله المسلمين وأدب العرب والأعراب، وأدب الدنيا كلها في لزوم الأدب وخفض الصوت، عند مخاطبة الكبراء والعلماء، والأنبياء والمرسلين، وإذا تكلم إنسان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أو عند قبره في مماته، أو عند قراءة الحديث الشريف، أو القرآن الكريم، فيجب ألا يرفع صوته فوق صوت النبي، بل يكون صوت النبي أعلى صوتا، وأوقع أثرا من صوت المتكلم بحضرته، وجهر النبي أعلى من جهر المتحدث أو المستفهم بحضرته، حتى تكون مزية النبي واضحة، وسابقته ظاهرة، وامتيازه بينا.
وإذا خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب أن نقول له : يا رسول الله، أو يا نبي الله، ولا نخاطبه باسمه مجردا، مثل يا محمد أو يا أحمد، أي ينبغي أن يشتمل الخطاب على التعظيم والتوقير والاحترام.
أمر الله بذلك خشية إزعاج النبي وإيلامه، برفع أصواتنا عليه، أو عدم اللياقة أو الجلافة في خطابه، وعندئذ يحبط عمل المتكلم، ويضيع ثوابه، ويخسر حسناته، من حيث لا يعلم ذلك في الدنيا، بل يعلمه يوم القيامة.
وإذا وصل الجهر بالصوت إلى حد الاستخفاف والاستهانة فذلك كفر، والعياذ بالله، فالغرض من الآية أن يكون صوت المؤمن عند خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خفيضا مناسبا لمقامه وهيبته، لكن بحيث يسمعه.
ونلحظ أن الله نهانا عن جهر معين فقال :﴿ كجهر بعضكم لبعض... ﴾ أي : ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.
قال القرطبي :
وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبّهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. اه.
وقد لاحظنا أن القرآن الكريم حث على توقير الرسول وتعظيمه، قال تعالى :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا... ﴾ ( النور : ٦٣ ).
وقد دلت آيات من كتاب الله تعالى على أن الله العلي القدير، لم يخاطب النبي في القرآن باسمه، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله سبحانه :
﴿ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾. ( الأحزاب : ٤٥ ).
﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... ﴾ ( المائدة : ٦٧ ).
﴿ يا أيها المدثر ﴾. ( المدثر : ١ ).
مع أنه سبحانه نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم، مثل :﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة... ﴾ ( البقرة : ٣٥ ).
ومثل :﴿ يا نوح اهبط بسلام منا... ﴾ ( هود : ٤٨ ).
ومثل :﴿ وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا... ﴾ ( الصافات : ١٠٤، ١٠٥ ).
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر اسمه مجردا في القرآن في خطاب، وقد سبق أن ذكرنا أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم تكرر أربع مرات في القرآن الكريم هي :
١- ﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل... ﴾ ( آل عمران : ١٤٤ ).
٢- ﴿ ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين... ﴾ ( الأحزاب : ٤٠ ).
٣- ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ﴾. ( محمد : ٢ ).
٤- ﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... ﴾ ( الفتح : ٢٩ ).
وكلها ليست خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي حديث عنه صلى الله عليه وسلم.
ملاحظات
( أ ) قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى :
﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا... ﴾ ( الأعراف : ٢٠٤ ).
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه٤.
( ب ) النهي المذكور عن رفع الصوت، هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، أما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو، ونحو ذلك فليس منهيا عنه، لأنه لمصلحة، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين :( اصرخ بالناس )، وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس : يا صباحاه ! فأسقطت الحوامل لشدة صوته.
( ج ) لقد تأدب المسلمون بهذا الأدب الرفيع، فقال أبو بكر الصديق : والله يا رسول الله لا أكلمك إلا إسرارا أو كأخي السرار. وسلك عمر مثله في خفض صوته، فكان إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه.
وفعل مثل ذلك ثابت بن قيس، لما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي... ﴾ فقد دخل بيته، وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه يسأل ما خبره ؟ فقال : أنا رجل شديد الصوت، وأنا أخاف أن يكون حبط عملي. فقال صلى الله عليه وسلم :( لست منهم، بل تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة )٥.
فتثبت ثباتا حميدا يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب، حتى مات شهيدا، وترك ذكرا حميدا.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
اشتملت سورة الحجرات على الآداب العامة، وبدأت بالأمر بحسن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه، بل الخضوع لأمره، وخفض الصوت عند محادثته، وتوقيره واحترامه، وعدم ندائه من وراء الحجرات، بل الانتظار حتى يخرج إلى الصلاة ثم مقابلته.
المفردات :
يغضون أصواتهم : يخفضونها، و يلينونها.
امتحن الله قلوبهم : طهرها ونقاها، وكما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غش.
التفسير :
٣- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
إن الذين يخفضون أصواتهم عند محادثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محادثة أحد بجواره، هؤلاء قوم نقى الله قلوبهم، وأخلص سريرتهم بالتقوى، وهي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل.
هؤلاء الذين تأدبوا بأدب الإسلام، واستجابوا لدعوة القرآن، فراعوا الإجلال والتوقير، والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفضوا أصواتهم عند مجلسه، أو أثناء محادثته هؤلاء، ﴿ لهم مغفرة وأجر عظيم ﴾.
لهم مغفرة لذنوبهم، وستر لعيوبهم، ومحو لخطيئاتهم، وتثبيت لحسناتهم، وثواب عظيم على خفضهم لأصواتهم عند نبيهم.
ملاحظة
الامتحان هو الاختبار، وأصله من اختبار الذهب وإذابته، ليخلص جيده من خبيثه، والمراد أن الله أخلص هذه القلوب لمراقبته سبحانه.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
﴿ امتحن الله قلوبهم للتقوى... ﴾ من قولك : امتحن فلان لأمر كذا وجرب له، ودرب للنهوض به، فهو مضطلع به، غير وان عنه، والمعنى : أنهم صبروا على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها. اه.
وقد التزم المسلمون بهذا الأدب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، فقد سمع عمر بن الخطاب رجلا يرفع صوته في المسجد النبوي، فقال له : من أين أنت أيها الرجل ؟ فقال : من الطائف، فقال له عمر : لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضربا.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
اشتملت سورة الحجرات على الآداب العامة، وبدأت بالأمر بحسن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه، بل الخضوع لأمره، وخفض الصوت عند محادثته، وتوقيره واحترامه، وعدم ندائه من وراء الحجرات، بل الانتظار حتى يخرج إلى الصلاة ثم مقابلته.
المفردات :
من وراء الحجرات : من خارجها، سواء كان من خلفها، أو من قدامها، ويرى بعض أهل اللغة أن كلمة : وراء من الأضداد، فتطلق تارة على ما أمامك، وأخرى على ما خلفك، والحجرات ( بضم الجيم وفتحها وتسكينها ) واحدها حُجْرة، وهي القطعة من الأرض المحجورة، أي الممنوعة من الدخول فيها بحائط ونحوه، والمراد بها : حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم، وكانت تسعا، لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى الناس لذلك، وكانت الحجرات في غاية البساطة.
التفسير :
٤- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.
كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام القائلة -منتصف النهار- فجاء وفد من أعراب بني تميم فنزلوا في المسجد، وأخذوا ينادونه من خلف حجرات نسائه، ويقولون : اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وذمنا شين.
والحجرات جمع حجرة، وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحيط بها.
وفي رواية عن زيد بن أرقم قال : أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس بإتباعه، وإن يك ملكا نعش في جنابه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه : يا محمد، يا محمد.
وهناك روايات أخرى في سبب النزول، وتلتقي الروايات على أن جماعة من جفاة الأعراب، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت راحته في حجرته، ولم يصبروا إلى وقت خروجه للصلاة، حتى يوفروا له الراحة.
وقد وصفهم القرآن بهذه الآية ومعناها : إن الذين نادوا عليك من وراء حجرات نسائك بأسلوب فيه جلافة الأعراب، ﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾، أي : لا يفهمون أصول الأدب واللياقة.
ولعل طائفة منهم لم ترض عن هذا الفعل، فاستثناها القرآن، لبيان أن أقلهم أصحاب عقل وحكمة، وأحيانا يعبر بالأكثر عن الكل.
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
اشتملت سورة الحجرات على الآداب العامة، وبدأت بالأمر بحسن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه، بل الخضوع لأمره، وخفض الصوت عند محادثته، وتوقيره واحترامه، وعدم ندائه من وراء الحجرات، بل الانتظار حتى يخرج إلى الصلاة ثم مقابلته.
التفسير :
٥- ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
هذا أدب الإسلام، في الحث على إكرام الكبراء والعلماء، وعدم إزعاجهم، والانتظار حتى يخرج العظيم من بيته، ثم يتفرغ لهم، بمعنى أنه لو خرج وشغل بأمر آخر، وجب الانتظار حتى يكون خروجه إليهم، ويتوجه بوجهه لهم، أو يتفرغ لشأنهم.
يحكى عن أبي عبيد -العالم الزاهد الثقة- أنه قال : ما دققت باب عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه.
ومعنى الآية :
ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات، صبروا ولم ينادوك حتى يخرج إليهم، لكان ذلك أفضل لهم، وأنسب وأزكى وأطهر.
ثم فتح الله لهم باب التوبة فقال :
﴿ والله غفور رحيم ﴾. لمن تاب منهم عن معصيته، وندم على ندائه، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره، فالله غفور رحيم به، أن يعاقبه على ذنبه ذلك بعد أن تاب عنه.
والخلاصة :
إن الله سبحانه وتعالى استهجن الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حال خلوته من وراء الجدران، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه، وليرشد إلى أدب الإسلام في تخير الوقت المناسب للزيارة، وأدب الطَّرْق الخفيف على باب المنزل، أو استعمال الجرس استعمالا خفيفا، لا يزعج أهل المنزل، وعدم الوقوف أمام الباب بل على جانب منه، وعدم النظر إلى المنزل عند فتح الباب، ثم السلام على صاحب المنزل عند ظهوره.
قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) ﴾. ( النور : ٢٧، ٢٨ ).
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( ٦ ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( ٧ ) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٨ ) ﴾
تمهيد :
السورة كلها مشتملة على آداب اجتماعية نافعة، حيث بينت فيما سبق التزام خفض الصوت بحضرة الأكابر، والتزام الطاعة لله ورسوله، وعدم التقدم على أحكام الإسلام، وهنا إرشاد إلى أدب عظيم وهو التثبت من الأخبار عند سماعها، وعدم المسارعة إلى تصديقها، خشية إساءة الظن بالآخرين.
سبب النزول :
ذكر أكثر المفسرين أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط.
أخرج ابن جرير، وأحمد، وابن مردويه بسند جيد، عن ابن عباس، أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا ( أي : جامعا للصدقات، والمراد بها الزكوات ) وكانت بينهما إحن في الجاهلية، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلى، ومنعوا صدقاتهم، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية.
والآية وإن نزلت بسبب حادث معين، إلا أنها عامة في وجوب التثبت من الأخبار.
قال الحسن البصري : فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، فإنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك، بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بن عقبة بن أبي معيط شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان.
قال تعالى :﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار... ﴾ ( السجدة : ٢٠ ).
( لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمى فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة ). ٦
وقال القرطبي :
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها. اهـ.
المفردات :
الفاسق : هو الخارج عن حدود الدين، من قولهم : فسق الرطب، إذا خرج من قشره.
بنبإ : بخبر.
فتبينوا : التبيُّن هو طلب البيان، والمراد : التثبت من صدق الخبر أو كذبه، قال الراغب : ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة، وبه يحصل علم أو غلبة ظن.
أن تصيبوا قوما : لئلا تعتدوا على قوم.
بجهالة : جاهلين حالهم.
فتصبحوا : فتصيروا.
نادمين : مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع، فإن الندم هو الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه.
التفسير :
٦- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾.
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم من يحتمل فسقه بخبر عظيم من الأخبار، فتثبتوا من صدق ذلك الخبر، ولا تتسرعوا في الحكم على الآخرين خشية أن تعتدوا على قوم آمنين مستقيمين، جاهلين إيمانهم واستقامتهم، فتصيروا بعد العدوان عليهم نادمين مغتمين، تتمنون لو أنكم ما فعلتم هذا العدوان على قوم لا يستحقونه.
فالآية الكريمة ترشد المسلمين في كل زمان ومكان إلى كيفية استقبال الأخبار استقبالا سليما، وإلى كيفية التصرف فيها تصرفا حكيما، فتأمر بالتثبت والتحقق من صحة الأخبار، حتى يعيش المجتمع الإسلامي في أمان واطمئنان، وفي بعد عن الندم والتحسر على ما صدر منه من أحكام.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( ٦ ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( ٧ ) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٨ ) ﴾
تمهيد :
السورة كلها مشتملة على آداب اجتماعية نافعة، حيث بينت فيما سبق التزام خفض الصوت بحضرة الأكابر، والتزام الطاعة لله ورسوله، وعدم التقدم على أحكام الإسلام، وهنا إرشاد إلى أدب عظيم وهو التثبت من الأخبار عند سماعها، وعدم المسارعة إلى تصديقها، خشية إساءة الظن بالآخرين.
سبب النزول :
ذكر أكثر المفسرين أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط.
أخرج ابن جرير، وأحمد، وابن مردويه بسند جيد، عن ابن عباس، أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا ( أي : جامعا للصدقات، والمراد بها الزكوات ) وكانت بينهما إحن في الجاهلية، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلى، ومنعوا صدقاتهم، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية.
والآية وإن نزلت بسبب حادث معين، إلا أنها عامة في وجوب التثبت من الأخبار.
قال الحسن البصري : فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، فإنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك، بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بن عقبة بن أبي معيط شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان.
قال تعالى :﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار... ﴾ ( السجدة : ٢٠ ).
( لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمى فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة ). ٦
وقال القرطبي :
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها. اهـ.
المفردات :
لعنتم : لأصابكم العنت، وهو المشقة والإثم.
الكفر : تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها.
الفسوق : الخروج عن الحد كما سبق.
العصيان : عدم الانقياد.
الراشدون : الرشاد : إصابة الحق، وإتباع الطريق السوي مع تصلب فيه، من الرشادة وهي الصخرة.
التفسير :
٧- ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾.
واعلموا أيها الصحابة الكرام، أن فيكم رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي ختم الله به الرسالات، وأوجب عليكم إتباعه، وأوجب توقيره واحترامه، وعدم التقدم عليه وعدم سبق حكمه.
وربما كان هناك من الصحابة من زين للرسول صلى الله عليه وسلم الهجوم على بني المصطلق وقتالهم، بعد سماع كلام الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فكان مضمون الآية مفيدا الرد عليهم، منبها إلى وجوب التثبت وعدم التسرع، ووجوب التأني في اقتراح ما ينبغي عمله، والانتظار لما يشير به الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.
﴿ لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم... ﴾
والعنت الوقوع في الشدة والمهالك، لو أن الرسول سارع بإطاعة من حبب إليه قتال بني المصطلق، ونفذ الأمر، ثم تبينتم الحقيقة لوقعتم في الحرج والشدة والضيق، بسبب وجود قتلى وجرحى أبرياء.
والنحاة هنا يسمون ( لو ) حرف امتناع، أي : بسبب عدم طاعة الرسول للمتسرعين، لم تقعوا في الحرج والهلاك، وكان هناك عدد من الصحابة لا يميلون إلى التسرع، ويرون التثبت، وهم الذين عناهم الله بقوله :﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ﴾.
تأتي ( لكن ) للاستدراك، أي مغايرة ما بعدها لما قبلها، أي مع وجود بعض المتسرعين بينكم، لكن الله تعالى حبب الإيمان إلى أكثركم، وزين الإيمان في قلوبكم، أي جعله محبوبا محترما معشوقا، صالحا للفداء والتضحية، كذلك كره إلى جملة الصحابة، ﴿ الكفر ﴾. وهو جحود نعمة الله، ﴿ والفسوق ﴾. وهو الخروج على أمر الله، ﴿ والعصيان ﴾. وهو مخالفة أمر الله أو أمر رسوله.
﴿ أولئك هم الراشدون ﴾.
هؤلاء الأكثرية المهتدون المطيعون، هم الذين منحهم الله الرشاد والهداية، والتوفيق والتمسك بالإيمان، وطاعة الله وطاعة رسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( ٦ ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( ٧ ) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٨ ) ﴾
تمهيد :
السورة كلها مشتملة على آداب اجتماعية نافعة، حيث بينت فيما سبق التزام خفض الصوت بحضرة الأكابر، والتزام الطاعة لله ورسوله، وعدم التقدم على أحكام الإسلام، وهنا إرشاد إلى أدب عظيم وهو التثبت من الأخبار عند سماعها، وعدم المسارعة إلى تصديقها، خشية إساءة الظن بالآخرين.
سبب النزول :
ذكر أكثر المفسرين أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط.
أخرج ابن جرير، وأحمد، وابن مردويه بسند جيد، عن ابن عباس، أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة ابن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا ( أي : جامعا للصدقات، والمراد بها الزكوات ) وكانت بينهما إحن في الجاهلية، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال : إن القوم هموا بقتلى، ومنعوا صدقاتهم، فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية.
والآية وإن نزلت بسبب حادث معين، إلا أنها عامة في وجوب التثبت من الأخبار.
قال الحسن البصري : فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، فإنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك، بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بن عقبة بن أبي معيط شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان.
قال تعالى :﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار... ﴾ ( السجدة : ٢٠ ).
( لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمى فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة ). ٦
وقال القرطبي :
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها. اهـ.
٨- ﴿ فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ﴾.
لقد تفضل الله على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات الحكيمة، وأنعم عليهم بهذه النعم، وهو ﴿ عليم ﴾. مطلع على النفوس، ﴿ حكيم ﴾. جليل الحكمة في أفعاله.
والآية وسام على صدر هؤلاء الصحابة، فهي وما سبقها تبين أن معظم الصحابة كانوا نموذجا ومثلا أعلى في محبة الإيمان والصدق فيه، والتضحية والفداء، وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، وأن هذا الهدى والطاعة، كان فضلا من الله ونعمة، لا تعادلهما أي نعمة، وقد امتن الله على رسوله بأنه هو الذي هدى ووفق، وأخرج من أصلاب الكافرين هؤلاء المؤمنين.
قال تعالى :﴿ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ﴾. ( الأنفال : ٦٣ ).
في أعقاب التفسير :
ذكر الأستاذ وهبة الزحيلي في التفسير المنير ( جزء ٢٦ ص ٢٣٢ ) أنه يستنبط من الآيات السابقة ما يأتي :
١- إن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن فيمنع التسرع في إصدار الأحكام، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه، لكان خطأ، ووقع في العنت ( الإثم والمشقة والهلاك ) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم، لعداوة كانت بينه وبينهم، ويكون المراد من قوله تعالى :﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله... ﴾ ألا تكذبوا فإن الله تعالى يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أنباءكم فتفتضحون.
٢- استدلت الأشاعرة بقوله :﴿ حبب ﴾، ﴿ وكره ﴾. على مسألة خلق الأفعال، أي أن الله تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم، لا شريك له، لقوله تعالى :﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾. ( الصافات : ٩٦ ). وهذا رد على القدرية٧، والإمامية، والمعتزلة الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، ويؤولون آية :﴿ حبب ﴾، ﴿ وكره ﴾. على اللطف والتوفيق.
٣- إن الله تعالى عليم بكل شيء، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء ويعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ويأمره بما تقضي به الحكمة، فيجب الوقوف عند أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب الاقتراح عليه.
٤- كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بمضمون الآيات السابقة، فقد أخرج الإمام أحمد، والنسائي، عن أبي رفاعة الزُّرقي، عن أبيه قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( استووا حتى أثنى على ربي عز وجل )، فصاروا خلفه صفوفا، فقال صلى الله عليه وسلم :( اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك، وفضلك ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم أسالك النعيم يوم العَيْلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق )٨.
﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٩ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ١٠ ) ﴾
تمهيد :
في آيات سابقة أمر القرآن بالتثبت في الأخبار، خشية العدوان على قوم آمنين غير معتدين، وهنا يهتم القرآن بالصلح بين المتخاصمين، ويجعل ذلك مهمة الحاكم ومسئولية الأمة، فعليهم الدعوة إلى الصلح، ودفع البغاة حتى يخضعوا إلى حكم الله تعالى، فإذا خضعوا وجب الحكم بالعدل بينهم، حتى نقضي على الفتنة، وتتراضى النفوس بصفة دائمة، فالله تعالى عادل وقد أمر بالعدل.
قال تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... ﴾ ( النساء : ٥٨ ).
إن بين المسلمين رحما عامة يجب أن توصل، فربهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وأمتهم واحدة، وقبلتهم واحدة، والإسلام أخوة شاملة لهم جميعا، فيجب الصلح بينهم، والتقوى وسيلة إلى رحمة الله، ومغفرته وفضله.
المفردات :
الطائفة : الجماعة أقل من الفرقة، بدليل قوله تعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة... ﴾ ( التوبة : ١٢٢ ).
فأصلحوا بينهما : فكفوهما عن القتال بالنصيحة، أو بالتهديد والتعذيب.
بغت : تعدت وجارت.
تفيء : ترجع.
أمر الله : الصلح، لأنه مأمور به في قوله تعالى :﴿ وأصلحوا ذات بينكم... ﴾ ( الأنفال : ١ ).
فأصلحوا بينهما بالعدل : بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات، بحيث يكون الحكم عادلا، حتى لا يؤدي النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى.
وأقسطوا : واعدلوا في كل شأن من شئونكم، وأصل الإقساط : إزالة القسط ( بالفتح ) وهو الجور، والقاسط : الجائر، كما قال تعالى :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ﴾. ( الجن : ١٥ ).
التفسير :
٩- ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.
الإسلام رباط متين بين المسلمين، وقد حث القرآن الكريم على صلة الرحم، ورأب الصدع، والإصلاح بين الناس.
قال تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾. ( النساء : ١١٤ ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحاقدوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى )٩.
والآية التاسعة من سورة الحجرات أصل في دعوة المسلمين إلى لزوم الوحدة والجماعة، وقتال البغاة، والصلح بين المتخاصمين بالعدل والقسط.
ومعنى الآية الكريمة :
إن تخاصمت جماعتان أو فئتان من المسلمين، فينبغي أن نسارع إلى الصلح بينهما بالحسنى والإرشاد، والكلمة الطيبة والتوجيه، وذكر محاسن الفئة الأخرى ومحامدها، ورغبتها في الصلح والحب والمودة.
قال صلى الله عليه وسلم :( ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين فينمي خيرا أو يقول خيرا )١٠.
فمن أراد الصلح بين فئتين، وسمع كلمة طيبة من إحداهما فنماها وزادها، أو اخترعها رغبة في التواصل والصلح بين المتخاصمين، فلا يسمى كذابا بل مصلحا.
﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله... ﴾
فإن لم تستجب إحدى الفئتين إلى الصلح، ولم تخضع للحكم بالعدل، واحتمت بالعدوان والبغي على الفئة الأخرى، وجب ردع المعتدي وتحذيره وإنذاره أولا، ومحاولة استدراجه إلى الصلح، فإن رفض وبغى تعبن قتاله إلى أن يرجع إلى حكم الله، وهو الصلح بين المتنازعين.
﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ﴾.
إن رجعت الفئة المعتدية عن بغيها، وقبلت الصلح والتعاون مع الوسطاء، وجب على الأمة أن تصلح بين المتنازعين بالعدل والحق والقسط ( بكسر القاف ).
﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾. إن الله يحب العادلين في الحكم، حتى نقطع دابر النزاع من أساسه، وتعود الأمور هادئة آمنة نافعة راشدة.
قال صلى الله عليه وسلم :( إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمان عز وجل بما أقسطوا في الدنيا ). أخرجه ابن أبي حاتم، والنسائي، وإسناده جيد قوي، ورجاله على شرط الصحيح.
وأخرج مسلم، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا )١١.
تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين ( ٩، ١٠ ) من سورة الحجرات، وكلها تلتقي على أن نزاعا ما حدث بين الأوس والخزرج، أو بين قبيلتين من الأنصار، أو رجلين من الأنصار، أو حيين من أهل المدينة، ويمكن الجمع بينها بأن ذلك من تعدد الأسباب والمنزل واحد.
أخرج ابن جرير، عن الحسن قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعون إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله :﴿ وإن طائفتان... ﴾ إلى آخر الآيتين.
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول، وكان صلى الله عليه وسلم راكبا حمارا، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أبّي -وهو من الأوس- للنبي صلى الله عليه وسلم : إليك عنّى، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد الله بن رواحة -وهو من الخزرج- : والله إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقعت بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا... ﴾
وقد ورد مثل ذلك في مسند أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير وغيرهم، ويجمع بين الروايات بأن خصومة ما وقعت بين الأوس والخزرج، أو بين امرأة وكانت من قبيلة وزوجها من قبيلة أخرى، وأن الرجل حبس امرأته في علية له، فبعثت المرأة إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وكانت بينهما معركة، فنزلت فيهم الآية، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله تعالى، ونزلت الآيتان.
في أعقاب تفسير الآيتين
قتال علي ومعاوية :
١- كان القتال لشبهة قامت بينهما، فالإمام علي طلب البيعة من أهل الشام وعلى رأسهم معاوية، ومعاوية طلب الأخذ بثأر عثمان، ممن يوجد من قتلته في معسكر علي، فكان علي يقول : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، وكان معاوية ومن معه يقولون : لا تستحق البيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء، وحدثت معارك وأهوال بين الفريقين.
٢- قال ابن العربي في أحكام القرآن : هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( تقتل عمارا الفئة الباغية )، ١٣ أي عمار بن ياسر.
٣- لا خلاف بين الأمة في أنه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة، أو تشتيت الكلمة.
٤- الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة، رضي الله عنهم، عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وصوب عملهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.
٥- قوله تعالى :﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل... ﴾
يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي مطالبتهم بذلك تنفير لهم عن الصلح، واستمرار في البغي.
٦- ما استهلك البغاة : إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال، والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال، لا ضمان فيه بالإجماع.
من تفسير فتح القدير للشوكاني
إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمته، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها نحو الأخرى.
من تفسير القرطبي
( أ ) لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا الله بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وذكر أن الله قد غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم.
قال تعالى في سورة التوبة :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه... ﴾ ( التوبة : ١٠٠ ).
وقال تعالى في سورة الفتح :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة... ﴾ ( الفتح : ١٨ ).
هذا مع ما ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن طلحة شهيد يمشي على الأرض )، فلو كان ما خرج له معصية لم يكن بالقتل فيه شهيدا.
( ب ) سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم، فقال : تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يريد التحرز من الحكم على بعضهم، بما لا يكون مصيبا فيه.
( ج ) قال الحسن البصري : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا. واختلفوا فوقفنا.
وقال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين.
( د ) سئل الإمام علي رضي الله عنه عمن قاتلوه : أمشركون هم ؟ قال : لا، من الشرك فروا، فقيل له : أمنافقون هم ؟ قال : لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فقيل له : فما حالهم ؟ قال : هم إخواننا بغوا علينا.
﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٩ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ١٠ ) ﴾
تمهيد :
في آيات سابقة أمر القرآن بالتثبت في الأخبار، خشية العدوان على قوم آمنين غير معتدين، وهنا يهتم القرآن بالصلح بين المتخاصمين، ويجعل ذلك مهمة الحاكم ومسئولية الأمة، فعليهم الدعوة إلى الصلح، ودفع البغاة حتى يخضعوا إلى حكم الله تعالى، فإذا خضعوا وجب الحكم بالعدل بينهم، حتى نقضي على الفتنة، وتتراضى النفوس بصفة دائمة، فالله تعالى عادل وقد أمر بالعدل.
قال تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل... ﴾ ( النساء : ٥٨ ).
إن بين المسلمين رحما عامة يجب أن توصل، فربهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وأمتهم واحدة، وقبلتهم واحدة، والإسلام أخوة شاملة لهم جميعا، فيجب الصلح بينهم، والتقوى وسيلة إلى رحمة الله، ومغفرته وفضله.
المفردات :
إخوة : الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الإخوة في الدين، كالأخوة في النسب، كأن الإسلام أب لهم، قال قائلهم :
أبى الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
التفسير :
١٠- ﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾.
المؤمنون إخوة في الدين والإسلام، وبينهم وشائج الأخوة الكاملة، فإن وقع نزاع بين الإخوة، وجب أن نسارع إلى الصلح بينهم، ونبذل في ذلك الجهد والحكمة، وحسن الدعوة، ومحاولة التوفيق، مع مراقبة الله رجاء رحمته وفضله وإكرامه.
أخرج الشيخان بسنديهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )١٢.
تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين ( ٩، ١٠ ) من سورة الحجرات، وكلها تلتقي على أن نزاعا ما حدث بين الأوس والخزرج، أو بين قبيلتين من الأنصار، أو رجلين من الأنصار، أو حيين من أهل المدينة، ويمكن الجمع بينها بأن ذلك من تعدد الأسباب والمنزل واحد.
أخرج ابن جرير، عن الحسن قال : كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعون إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله :﴿ وإن طائفتان... ﴾ إلى آخر الآيتين.
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول، وكان صلى الله عليه وسلم راكبا حمارا، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أبّي -وهو من الأوس- للنبي صلى الله عليه وسلم : إليك عنّى، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد الله بن رواحة -وهو من الخزرج- : والله إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقعت بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا... ﴾
وقد ورد مثل ذلك في مسند أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير وغيرهم، ويجمع بين الروايات بأن خصومة ما وقعت بين الأوس والخزرج، أو بين امرأة وكانت من قبيلة وزوجها من قبيلة أخرى، وأن الرجل حبس امرأته في علية له، فبعثت المرأة إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وكانت بينهما معركة، فنزلت فيهم الآية، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله تعالى، ونزلت الآيتان.
في أعقاب تفسير الآيتين
قتال علي ومعاوية :
١- كان القتال لشبهة قامت بينهما، فالإمام علي طلب البيعة من أهل الشام وعلى رأسهم معاوية، ومعاوية طلب الأخذ بثأر عثمان، ممن يوجد من قتلته في معسكر علي، فكان علي يقول : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، وكان معاوية ومن معه يقولون : لا تستحق البيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء، وحدثت معارك وأهوال بين الفريقين.
٢- قال ابن العربي في أحكام القرآن : هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( تقتل عمارا الفئة الباغية )، ١٣ أي عمار بن ياسر.
٣- لا خلاف بين الأمة في أنه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة، أو تشتيت الكلمة.
٤- الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة، رضي الله عنهم، عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وصوب عملهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.
٥- قوله تعالى :﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل... ﴾
يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي مطالبتهم بذلك تنفير لهم عن الصلح، واستمرار في البغي.
٦- ما استهلك البغاة : إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال، والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال، لا ضمان فيه بالإجماع.
من تفسير فتح القدير للشوكاني
إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمته، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها نحو الأخرى.
من تفسير القرطبي
( أ ) لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا الله بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وذكر أن الله قد غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم.
قال تعالى في سورة التوبة :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه... ﴾ ( التوبة : ١٠٠ ).
وقال تعالى في سورة الفتح :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة... ﴾ ( الفتح : ١٨ ).
هذا مع ما ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن طلحة شهيد يمشي على الأرض )، فلو كان ما خرج له معصية لم يكن بالقتل فيه شهيدا.
( ب ) سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم، فقال : تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يريد التحرز من الحكم على بعضهم، بما لا يكون مصيبا فيه.
( ج ) قال الحسن البصري : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا. واختلفوا فوقفنا.
وقال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين.
( د ) سئل الإمام علي رضي الله عنه عمن قاتلوه : أمشركون هم ؟ قال : لا، من الشرك فروا، فقيل له : أمنافقون هم ؟ قال : لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فقيل له : فما حالهم ؟ قال : هم إخواننا بغوا علينا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ١١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( ١٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ١٣ ) ﴾
تمهيد :
السورة من أولها حافلة بالدعوة إلى الآداب العامة، والالتزام بأحكام الشريعة، وعدم رفع الصوت على الكبراء والأنبياء، ثم التثبت عند سماع الأخبار، وعدم الاعتداء على الآخرين، ثم الدعوة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، وهنا نجد دعوة إلى الامتناع عن السخرية والهمز واللمز، والتنابز بالألقاب وإساءة الظن، وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتميز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ونلحظ أن السورة دائرة محكمة، وآياتها متتابعة في الترقي بالإنسان في حسن السلوك، والابتعاد عن أسباب الخصام، إلى البعد عن إيذاء الآخرين، إلى الاعتقاد بأن الناس جميعا سواسية كأسنان المشط، يتفاضلون عند الله بالتقوى والعمل الصالح.
المفردات :
السخرية : الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال : سخر به، وسخر منه، وضحك به ومنه، وهزئ به ومنه، والاسم : السخرية، وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه، أو على صنعته، أو على قبح صورته.
قوم : شاع إطلاقه على الرجال دون النساء، كما قال زهير :
وما أدري ولست إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
التنابز : التعاير والمناداة للشخص بما يكرهه من الألقاب.
الاسم : الذكر والصيت، من قولهم : طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.
التفسير :
١١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن... ﴾
هذه الآية وما بعدها تكاد تكون دائرة معارف إنسانية، تركز على أهم العيوب التي تشيع بين الناس، ومنها ما يأتي :
السخرية والاستهزاء بالآخرين، وهذا تطاول على عباد الله متضمن معنى الأنانية، كأن الساخر كامل، والمسخور منه ناقص، ولتأصّل هذه العادة في الناس تكرر النهي عنها مرتين، فقال سبحانه :
﴿ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم... ﴾
أي : لا يسخر ولا يستهزئ رجال من آخرين، عسى أن يكون المسخور منه أفضل حالا أو أعلى قدرا عند الله من الساخر، وربما انحط قدر الساخر، وارتفع شأن المسخور منه، كما قال بعضهم :
ولا تهن الفقير علك أن | تركع يوما والدهر قد رفعه |
﴿ لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن... ﴾
ولا تسخر امرأة جميلة من ذميمة، أو طويلة من قصيرة، أو بيضاء من سوداء، أو كاملة الأطراف من ناقصتها، أو السليم من المريض، أو الصحيح من المعاق -كالأعمى والأعرج والأبرص والأقرع والكسيح والمريض- فكل هؤلاء ضعفاء في حاجة إلى المساعدة والمعاونة والتشجيع والحنان، وربما كانت المسخور منها أفضل وأعلى قدرا عند الله من الساخرة.
قال صلى الله عليه وسلم :( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره )١٤. رواه الحاكم. ( الطمر : الثوب الخلق البالي ).
ورواه أحمد، ومسلم بلفظ :( رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره )١٥.
وإنما خص مجامع الرجال والنساء، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس.
ولكن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة، فلا يجوز أن يسخر فرد من فرد، ولا رجل من امرأة، ولا امرأة من رجل، فالتمايز عند الله تعالى بالأعمال، ونظافة القلوب والتقوى، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.
أخرج مسلم، وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال :( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )١٦.
﴿ و لا تلمزوا أنفسكم... ﴾
واللمز هو التنبيه على عيوب الآخرين، قال تعالى :
﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾. ( الهمزة : ١ ).
والعيّاب اللَّماز إنما يعيب نفسه أو يرشد إلى حقارة شأنه، فمن كان رفيع القدر انشغل بعيوب نفسه عن عيوب أخيه.
ولأن المؤمنين إخوة فمن عاب أخاه فكأنما عاب نفسه، لذلك قال تعالى :
﴿ ولا تلمزوا أنفسكم... ﴾
أي : لا تعيبوا الآخرين، ولا تنشغلوا بعيوبهم ونقائصهم، فإنكم بذلك إنما تعيبون أنفسكم، وترشدون إلى تدنّي قدركم، ورحم الله امرأ انشغل بعيوب نفسه عن عيوب أخيه.
والفرق بين السخرية واللمز، أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز هو التنبيه على معايبه باللفظ أو الإشارة.
﴿ ولا تنابزوا بالألقاب... ﴾
ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التي يكرهها، بأن يقول له : يا أحمق، أو يا أعرج، أو يا ابن السوداء، أي : لا يعير شخص أخاه بما يسوؤه، سواء أكان هذا اللقب المكروه للشخص، أم لأمه، أم لأبيه، أم لغيرهم. ويستثنى من ذلك أن يشتهر الشخص بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه بأحب الأسماء لديهم.
مثل : عتيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذو النورين لعثمان، وأبو تراب لعلي١٧، وسيف الله لخالد، وأمين الأمة لأبي عبيدة.
﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان... ﴾
بئس الذكر والشهرة لإنسان بالفسوق والخروج عن أمر الله، بعد دخوله في الإيمان، فمن تعود على السخرية أو اللمز، أو النقص للآخرين يصبح فاسقا بعد إيمانه، وبئس هذا التحول.
من تفسير الطبري
قال الطبري :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان... ﴾
يقول تعالى : ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا بعد أن وصفتم بصفة الإيمان...
وقال الفخر الرازي في تفسيره :
قوله تعالى :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان... ﴾
من تمام الزجر، كأنه تعالى يقول :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ﴾ –﴿ ولا تلمزوا أنفسكم{ - { ولا تنابزوا ﴾، فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق، ويصير التقدير :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان... ﴾
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى :﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان... ﴾ بئس أن يسمى الرجل كافرا أو فاسقا بعد إسلامه وتوبته، أي : لا يجوز أن تقول للمسلم : يا فاسق، بعد أن هداه الله للإسلام، أو بعد أن تاب إلى الله.
﴿ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾.
ومن لم يرجع عن الانشغال بعيوب الناس، والتنقيب عن خطاياهم، وعيبهم ولمزهم واتهامهم، لقد ظلم نفسه وظلم إخوانه، والله لا يحب الظالمين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ١١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( ١٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ١٣ ) ﴾
تمهيد :
السورة من أولها حافلة بالدعوة إلى الآداب العامة، والالتزام بأحكام الشريعة، وعدم رفع الصوت على الكبراء والأنبياء، ثم التثبت عند سماع الأخبار، وعدم الاعتداء على الآخرين، ثم الدعوة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، وهنا نجد دعوة إلى الامتناع عن السخرية والهمز واللمز، والتنابز بالألقاب وإساءة الظن، وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتميز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ونلحظ أن السورة دائرة محكمة، وآياتها متتابعة في الترقي بالإنسان في حسن السلوك، والابتعاد عن أسباب الخصام، إلى البعد عن إيذاء الآخرين، إلى الاعتقاد بأن الناس جميعا سواسية كأسنان المشط، يتفاضلون عند الله بالتقوى والعمل الصالح.
المفردات :
الظن : المراد به في الآية : الاتهام.
الإثم : الذنب.
التجسس : البحث عن العورات والمعايب، والكشف عما ستره الناس.
الغيبة : ذكر الإنسان بما يكره في غيبته.
التفسير :
١٢- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾.
يا من آمنتم بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، اجتنبوا ظن السوء بالمسلمين الذين ظاهرهم الصلاح، أما من عرّض نفسه للتهم، فدخل حانات الخمر، أو جالس النساء الفاسدات، فهو الذي عرض نفسه للشبهات، ومن حقنا أن نظن به السوء.
﴿ إن بعض الظن إثم... ﴾
أي : إن ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم، موقع في الإثم لنهي الله عنه، كما قال تعالى :﴿ وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ﴾. ( الفتح : ١٢ ). أي : هلكى.
روى مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا )١٨.
﴿ ولا تجسسوا... ﴾
أي : لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم.
أخرج أبو داود وغيره، عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتعبوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته )١٩.
وأخرج الطبراني، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة٢٠، والحسد، وسوء الظن )، فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هو فيه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض ).
﴿ ولا يغتب بعضكم بعضا... ﴾
الغيبة هي ذكر الإنسان في غيبته بالسوء، في نفسه أو أسرته أو من يتصل بهم، وفيها تقطيع لأواصر المودة الإنسانية، وعدوان على الآخرين.
وقد ثبت في الصحيح من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال حين خطب في حجة الوداع :( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ). رواه الشيخان عن أبي بكرة.
وقد نفّر القرآن الكريم من الغيبة، حيث بين أن المغتاب يفترس لحوم الآخرين، فقال تعالى :
﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه... ﴾
أي : هل يقبل أحدكم أن يأكل لحم أخيه حال كونه ميتا، فهذه صورة كريهة، أن تنهش لحم أخيك وهو غائب عنك، وإذا كرهت هذه الصورة المزرية المهينة، فابتعد عن الغيبة، وتب إلى الله منها وكفر عنها، بأن تذكر الناس بالخير، وأن ترد غيبة المغتاب في غيبته.
﴿ واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾.
أي : راقبوا ربكم، واعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وتوبوا إليه، واستقيموا على طاعته، فإن الله تواب لمن تاب، رحيم بعباده.
قال تعالى :﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ﴾. ( البقرة : ١٤٢ ).
قال الحسن :
الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله : الغيبة، والإفك، والبهتان.
١- فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه.
٢- وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
٣- وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه.
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أتدرون ما الغيبة ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :( ذكرك أخاك بما يكره )، قيل : يا رسول الله، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال :( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته )٢١.
والمقصود من هذا صيانة أعراض الناس، وتركهم إلى الله فيما بينهم وبينه.
قال العلماء والغزالي في الإحياء :
ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها، ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما صدر منه، ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا، لا يتوصل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور :
١- التظلم : فمن ظُلم فله أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.
٢- الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
٣- الاستفتاء : فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا، فهل يجوز له ذلك ؟
٤- تحذير المسلمين : كجرح الشهود والرواة المتصدين للإفتاء مع عدم أهليتهم لذلك، وكأن يشير -وإن لم يستشر- على مريد التزوج أو مخالطة غيره في أمر ديني أو دنيوي، ويقتصر على ما يكفي، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك.
٥- أن يجاهروا بالفسق، كالمدمنين على شرب الخمور، وارتياد محال الفجور، ويتباهوا بما يفعلون.
٦- التعريف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش ونحو ذلك، إذا لم تمكن المعرفة بغيره، والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها، مع ولوع الناس بها حتى أن بعضهم يقول : هي صابون القلوب، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر، وضراوة كضراوة الخمر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ١١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( ١٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ١٣ ) ﴾
تمهيد :
السورة من أولها حافلة بالدعوة إلى الآداب العامة، والالتزام بأحكام الشريعة، وعدم رفع الصوت على الكبراء والأنبياء، ثم التثبت عند سماع الأخبار، وعدم الاعتداء على الآخرين، ثم الدعوة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، وهنا نجد دعوة إلى الامتناع عن السخرية والهمز واللمز، والتنابز بالألقاب وإساءة الظن، وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتميز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ونلحظ أن السورة دائرة محكمة، وآياتها متتابعة في الترقي بالإنسان في حسن السلوك، والابتعاد عن أسباب الخصام، إلى البعد عن إيذاء الآخرين، إلى الاعتقاد بأن الناس جميعا سواسية كأسنان المشط، يتفاضلون عند الله بالتقوى والعمل الصالح.
المفردات :
من ذكر وأنثى : من آدم وحواء، قال إسحاق الموصلي :
الناس في عالم التمثيل أكفاء | أبوهم آدم والأم حواء |
فإن يكن لهم في أصلهم شرف | يفاخرون به فالطين والماء |
قال في تفسير المراغي :
والشعوب واحدهم شعب ( بفتح الشين وسكون العين )، وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد، كربيعة ومضر، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة، وتميم من مضر، وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع :
الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحد منها يدخل فيما قبله.
فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل.
فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة ( بفتح العين وكسرها ) وقصيّ بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وسمي الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة.
التفسير :
١٣- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.
تأتي هذه الآية في أعقاب الآداب الإسلامية السابقة، والنهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، وظن السوء، والتجسس والغيبة.
والمعنى :
يا كل الناس، لماذا التعالي على عباد الله، أو السخرية منهم، أو غيبتهم، أو ظن السوء بهم، إنكم جميعا من أصل واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، فقد خلق الله آدم بيده وزوّجه حواء، ومن نسل آدم وحواء خلق جميع البشر، فلماذا التعالي والتفاخر والترفع والتكبر على الآخرين إذا كنتم جميعا من أصل واحد، ومن إناء واحد ؟
قال صلى الله عليه وسلم :( يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت ) ؟ قالوا : اللهم نعم، قال :( ليبلّغ الشاهد منكم الغائب )٢٢.
﴿ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... ﴾
الشعوب : الجمهور الكبير من الناس، والقبائل : العائلات الكبيرة، ومنها تتفرع الفروع الصغيرة، تقول : أنا من شعب مصر، ومن محافظة كذا، ومن بلدة كذا، ومن قبيلة كذا، أو من عائلة كذا، وبذلك يعرف الناس أنسابهم وأصولهم، ويحافظون على أنسابهم بالزواج الشرعي، والبعد عن الزنا والسفاح.
قال صلى الله عليه وسلم :( ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح )٢٣.
وقد كان الناس -عربا أو عجما- عند نزول الآية قبائل متمايزة، ضمن شعوب تعمهم، ولكنهم الآن في معظم الأمم قد اختلط بعضهم ببعض، وأصبح التعارف بينهم بالانتماء إلى الأمم، وبيان البلدان التي يعيشون فيها، والمساكن التي يأوون إليها.
﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ﴾
أي : لقد جعلت النسب للتعارف وصلة الرحم، وليس للتعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب، فإن السمو الحقيقي ورفعة المنزلة إنما تكون بتقوى الله ومراقبته، والعمل بما يرضيه، والبعد عما نهى الله عنه.
أخرج ابن أبي حاتم، والترمذي، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال :( يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية –أي : تكبرها- وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ﴾. ثم قال صلى الله عليه وسلم :( أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ).
وروى مسلم، وابن ماجة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )٢٤.
وعند الطبراني، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم )٢٥.
﴿ إن الله عليم خبير ﴾.
هو سبحانه مطلع على القلوب، عليم بأحوال عباده، خبير بأفعالهم، فيثيب من تخلق بهذه الأخلاق، ويعاقب من أعرض عنها.
في أعقاب التفسير
١- احتج مالك بقوله تعالى :﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى... ﴾ على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج، إلا الدين، فيجوز زواج المولى بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة٢٦ من الأنصار امرأة عربية حرة، حيث تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وأنكحه هند بنت أخيه الوليد بن عتبة، وتزوج بلال بن رباح أخت عبد الرحمان بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدين فقط.
روى أحمد، وأصحاب الكتب الستة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )٢٧.
وقال الجمهور : يراعى الحسب والمال عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.
وأرى أن هذه الأمور متشابكة، ولا نستطيع الفصل بينها بسهولة.
والحل :
١- أن نعطي للدين والتقوى درجات كبيرة للزوجة والزوج، مع مراعاة الأمور الأخرى بنسبة ما، وبذلك نجمع بين ما رآه مالك وما رآه غيره.
٢- أورد الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية التي تنهي عن التفاخر، وتحض على التقوى، ثم قال : فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ورسوله.
روى البخاري بسنده، عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرمهم ؟ قال :( أكرمهم أتقاهم )، قالوا : ليس عن هذا نسألك، قال :( فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله )، قالوا : ليس عن هذا نسألك، قال :( فعن معادن العرب تسألون ) ؟ قالوا : نعم، قال :( خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )٢٨.
٣- وردت أحاديث نبوية كريمة في معنى الآية، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده، عن حذيفة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجُعْلان )٢٩.
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا : فلان ابن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي لأضع أنسابكم، أين المتقون ) ؟
وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا :( إن أولياء أبي ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله وصالحو المؤمنين )٣٠.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾
تمهيد :
حث القرآن الكريم على التقوى وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وإلى جوار ذلك ذكر نموذجا سيئا من الأعراب، يتظاهر بالإيمان ويدعيه، وهو لا يتصف إلا بالإسلام والانقياد الظاهري.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة مجدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي، عن السدي أن الآيات نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. اهـ.
وقيل في سبب النزول غير ذلك.
المفردات :
الأعراب : هم سكان البادية بخاصة، والأعراب اسم جنس وليس جمعا، والنسبة إليه أعرابي، والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم، أما العرب فهم أهل الأمصار، وهو اسم جنس أيضا، والنسبة إليه عربي.
آمنا : صدقنا بألسنتنا وقلوبنا.
أسلمنا : صدقنا بألسنتنا دون قلوبنا.
لا يلتكم : لا ينقصكم، يقال : لاته يلته إذا نقصه، حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية :( الحمد لله الذي لا يُفات ولا يُلات ولا تُصمُّه الأصوات ).
التفسير :
١٤- ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
قال ابن كثير :
وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان.. فترقى من الأعم إلى الأخص.
كما دل هنا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية إنما هم مسلمون، لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ؛ فأدبوا بذلك. اه.
ومعنى الآية :
ادعت فئة من الأعراب أنهم آمنوا، أي صدقوا بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبالإسلام دينا، بينما واقعهم غير ذلك، فهم أظهروا الإسلام طمعا في المغانم، فالأموال عندهم أهم من ثواب الآخرة.
﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ﴾
أعلم الله رسوله بحقيقة حالهم، وأن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم.
أي : قل لهم : لم تؤمنوا حين قدمتم إلي، ولكن، ﴿ قولوا أسلمنا... ﴾
أي : سالمناك ولن ننضم إلى قوم يحاربونك، ولا نقف في حرب ضدك.
﴿ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم... ﴾
تفيد لما في النحو قرب وقوع ما بعدها، تقول : قاربت الوصول إلى بلدتي ولما أدخلها، أي : أتوقع قريبا دخولها، والقرآن يشوقهم إلى قرب دخول الإيمان إلى قلوبهم، والانضمام إلى جماعة المسلمين المخلصين.
﴿ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا... ﴾
إذا أطعتم الله ورسوله بالدخول الحقيقي في دين الإسلام، فإن الله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.
فهو واسع المغفرة، رحيم بعباده، يأخذ بأيديهم إلى طاعته، ويتقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
وفي الآية أدب جميل من أدب الخطاب، وفيها استمالة إلى الإيمان وتحريض عليه، وفتح أبواب التوبة والمغفرة لهم متى أخلصوا.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾
تمهيد :
حث القرآن الكريم على التقوى وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وإلى جوار ذلك ذكر نموذجا سيئا من الأعراب، يتظاهر بالإيمان ويدعيه، وهو لا يتصف إلا بالإسلام والانقياد الظاهري.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة مجدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي، عن السدي أن الآيات نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. اهـ.
وقيل في سبب النزول غير ذلك.
التفسير :
١٥- ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾.
تلك صفات المؤمنين الصادقين، وهي :
( أ ) الإيمان الصادق، واليقين الجازم بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
( ب ) عدم الشك والارتياب في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحة هذا الدين.
( ج ) المشاركة العملية مع المسلمين في جهادهم، والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله.
ونلاحظ أنه قدم المال على النفس، لأن هؤلاء قدموا راغبين في المال، أو لأن كثيرا من الناس يكون المال أكثر همهم.
فمن جمع هذه الصفات من الإيمان واليقين والسلوك العملي في الجهاد بالمال والنفس، فهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم، وإنه لوسام عظيم لهؤلاء المؤمنين الصادقين، وفي الآية تعريض بالأعراب وأنهم لم يصدقوا في إيمانهم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾
تمهيد :
حث القرآن الكريم على التقوى وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وإلى جوار ذلك ذكر نموذجا سيئا من الأعراب، يتظاهر بالإيمان ويدعيه، وهو لا يتصف إلا بالإسلام والانقياد الظاهري.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة مجدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي، عن السدي أن الآيات نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. اهـ.
وقيل في سبب النزول غير ذلك.
التفسير :
١٦- ﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
قل لهم : أتخبرون الله بدخولكم في دين الإسلام، والله سبحانه وتعالى تنكشف أمامه جميع الموجودات، انكشافا تاما دون سبق خفاء وهو سبحانه مطلع على الخفايا، عليم بالنوايا، فأخلصوا له نواياكم، فإنه يعلم ما في السماوات من أملاك وأفلاك وشموس وأقمار وأرزاق، وما في الأرض من إنسان وحيوان وطيور وحشرات وزواحف، وهو سبحانه بكل شيء عليم، أي هو عليم بالماضي والحاضر والمستقبل، وعليم بكل ما في الوجود، على حد قول القائل :
يا عالم الأسرار حسبي محنة | علمي بأنك عالم الأسرار |
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾
تمهيد :
حث القرآن الكريم على التقوى وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وإلى جوار ذلك ذكر نموذجا سيئا من الأعراب، يتظاهر بالإيمان ويدعيه، وهو لا يتصف إلا بالإسلام والانقياد الظاهري.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة مجدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي، عن السدي أن الآيات نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. اهـ.
وقيل في سبب النزول غير ذلك.
المفردات :
يمنون عليك : يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة وأسدى إليك نعمة.
التفسير :
١٧- ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
يمنون عليك أيها الرسول بإيمانهم، ويتفضلون ويظهرون المن والنعمة عليك بإيمانهم، حيث قالوا : جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فقل لهم أيها الرسول الكريم :﴿ لا تمنوا علي إسلامكم... ﴾ فهو إيمان مدخول، واستسلام ظاهر رغبة في غنائم الدنيا.
أما الإيمان الحقيقي فهو نور من الله، وهداية وبصيرة صادقة، ويقين حقيقي بالله الخالق الرازق، المعطي المانع، والهداية الحقيقية لهذا الإيمان منحة من الله، فمنه الهداية والمشيئة والتوفيق والرعاية، وله سبحانه وتعالى الفضل والمنة لأنه هداكم للإيمان، ووفقكم للدخول فيه، إن كنتم صادقين في دعواكم.
والآية نموذج رشيق لطيف في دحض حجة الخصم، وتقويم سلوكه، وإرشاده إلى الحقائق، وفتح باب الأمل لإرشاده إلى السلوك الأمثل، والطريق القويم، وتذكرنا هذه الآية بموقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وانتصاره في معركة حنين والطائف، فقد وزع الغنائم بين أهل مكة، ولم يعط الأنصار شيئا منها إلا رجلين فقيرين من الأنصار، فقالت الأنصار : لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله، فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار، وقال لهم :( يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم ) ؟ فقالوا : قلنا : لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله، فقال صلى الله عليه وسلم :( يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فآلفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ) ؟ قالوا : بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، أو : لله ورسوله الفضل والمنة، فقال صلى الله عليه وسلم :( أما والله إن شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك، وطريدا فآويناك، ووحيدا فجمعناك، يا معشر الأنصار، أئذا أعطيت بعض الناس لعاعة من الدنيا أتألفهم بها، وتركتكم إلى الإيمان تغضبون ؟ أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس فجا، وسلك الأنصار فجا، لسلكت طريق الأنصار، اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ). فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم، وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وموضع الشاهد هنا قول الأنصار :
( الله ورسوله أمنّ وأفضل ).
أو :( لله ورسولاه الفضل والمنة ).
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾
تمهيد :
حث القرآن الكريم على التقوى وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى، وإلى جوار ذلك ذكر نموذجا سيئا من الأعراب، يتظاهر بالإيمان ويدعيه، وهو لا يتصف إلا بالإسلام والانقياد الظاهري.
سبب النزول :
ذكر الواحدي في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة مجدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
من تفسير القرطبي
ذكر القرطبي، عن السدي أن الآيات نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. اهـ.
وقيل في سبب النزول غير ذلك.
التفسير :
١٨- ﴿ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ﴾.
الله سبحانه وتعالى عليم بما ظهر وما غاب، في جميع أنحاء السماوات والأرض، ومن جملة ذلك ما يستره كل إنسان في نفسه، والآية تأكيد وتكرير لسعة علم الله، سعة ترتجف أمامها قلوب المؤمنين، ليقينهم بأنه سبحانه مطلع على كل حركة أو سكون، فأولى بهم أن يطلعوه على خير في قلوبهم.
قال تعالى :﴿ وما تفعلوا من خير يعلمه الله... ﴾ ( البقرة : ١٩٧ ).