تفسير سورة الحجرات

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الحجرات
مدنية، هي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقرأ العامة بضم التاء وفتح القاف، وتشديد الدال المكسورة، أي لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما في الرأي عنده صلّى الله عليه وسلّم وذكر لفظ الله تعظيما للرسول، وإشعارا بأنه عند الله في منزلة عظيمة توجب إجلاله. وقرأ ابن عباس والضحاك «لا تقدموا» بالفتح في الأحرف الثلاثة. وقرئ «لا تقدموا» بضم التاء وكسر الدال، أي لا تقدموا على شيء من أمور الدين بغير إذن الله ورسوله، وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ (١) بأفعالكم.
نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قتلوا رجلين من بني سليم في صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم، بغير أمره، فنهاهم الله تعالى وقال: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تجرؤوا على إتيان أمر من غير إذن من له الإذن وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة الحكم المنهي عنه إن الله سميع لمقالة الرجلين، عليم بما اقترفا، وكان قولهم: لو كان هكذا لكان كذا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، يرفع صوته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم وفد بني تميم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فإن رفع الصوت دليل قلّة الاحتشام وترك الاحترام، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أي لا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم بل اجعلوا كلمته عليا، ولا تكثروا الكلام عنده، وقلّلوا غاية التقليل، فلا تخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم كما تخاطبون غيره، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي خشية حبوط أعمالكم. فقوله تعالى:
لا تَرْفَعُوا إلخ نهي عن زيادة صوتهم على صوت الرسول وقوله تعالى ولا تجهروا ألخ نهى عن مساواة صوتهم لصوته وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) بحبوط الأعمال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي يخفضونها عنده مراعاة للأدب، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي الذين امتحن الله قلوبهم ليعلم منها التقوى، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم، وخوفه منه أقوى، فالاختبار بالمحن والتكاليف الشاقة سبب
435
لظهور التقوى، ويقال: أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتوحيد، وصفاها من المعصية، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣).
قيل: لما جرى الكلام بين أبي بكر وعمر في تأمير القعقاع بن معبد، أو الأقرع بن حابس على وفد بني تميم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية، ولما دخل أعراب بني تميم المسجد ونادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نام للقائلة نزل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآيتين.
وقال ابن عباس: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى قوم من بني عنبر، جماعة من خزاعة، وأمر عليهم عينة بن حصن الفزاري، فسار إليهم، فلما بلغهم أنه خرج إليهم، فروا، وتركوا عيالهم وأموالهم فسبى ذراريهم، وجاء بهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجاءوا ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، فنادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد اخرج إلينا، وكان نائما، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم». فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم وعمي عمرو شاهد- وهو الأعور ابن بسامة- فرضوا به. فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رضيت» ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) أي إن الذين يدعونك من خلف حجرات، نسائك كلهم لا يعقلون، إذ لو كان لهم عقل، لما تحاسروا على سوء الأدب، فكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجرة، ومناداتها من خارج الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه صلّى الله عليه وسلّم من خارجها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فنادى كل واحد على حجرة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ولو ثبت صبرهم، وانتظارهم إلى الصلاة حتى تخرج إليهم، لكان الصبر حسنا لهم وخيرا من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة، ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة، ولو راعوا حسن الأدب، وتعظيم الرسول لزادهم في الفضل، فأطلق ذراريهم ونساءهم كلهم بلا فداء، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) لهؤلاء إن تابوا وأصلحوا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه، بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق ليجيء بصدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمعوا به تلقوه تعظيما لأمر رسول
436
الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب الرسول، فأراد هو أن يغزوهم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر فتفحصوا. وقرئ فتثبتوا، أي قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به من صدقه أو كذبه أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أي حذر أن تصيبوا قوما بالقتل والسبي ملتبسين بجهالة حالهم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما نسب إليهم نادمين على ما فعلتم في حقهم في إصابتهم بالقتل وغيره. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ هو مرشد لكم فارجعوا إليه، واعتمدوا على قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، أي لو يتبعكم رسول الله في كثير من الحوادث لوقعتم في شدة وهلاك، وقد يوافق الناس ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران، الآية: ١٥٩] وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي بيّنه وقربه إليكم، وأدخله في قلوبكم، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ بالبرهان اليقيني بحيث لا تفارقونه، ولا يخرج من قلوبكم وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ
. وهذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل فإنه يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فالكفر هو التكذيب بالجنان، والفسوق هو كذب اللسان- كما قاله ابن عباس- فقد قال تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فسمى من كذب فاسقا، والعصيان هو ترك الأمر، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم الله وينتهون عما ينهاهم، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً مفعول من أجله منصوب ب حبّب، و «كره» أو ب الراشدون» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، حَكِيمٌ (٨) ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة، وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
قيل: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابه، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ وكان من الخزرج، فبال الحمار، فسد ابن أبي أنفه وقال: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك، وذلك قبل أن يسلم بالظاهر. فقال ابن رواحة: وكان من الأوس لبول حماره صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا من مسك، فكان بين قومهما وهما الأوس والخزرج ضرب بالأيدي والنعال والسيف.
وعن قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر:
لآخذن حقي منك عنوة، وطلب الآخر منه أن يحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا، وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
وعن سفيان عن السدي قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال، فنزلت هذه الآية، أي وإن تقاتل فرقتان من المؤمنين فأصلحوا بينهما بالنصح
437
والدعاء إلى حكم الله تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما أي ظلمت عَلَى الْأُخْرى بأن أبت الإجابة إلى حكم كتاب الله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي تظلم حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي حتى ترجع تلك الطائفة التي لم تقبل النصيحة إلى الصلح، وهو مأمور به فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ، أي فإن رجعت إلى الصلح حذرا من قتالكم فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وَأَقْسِطُوا أي واعدلوا في كل أمر، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) أي العادلين في كل ما يأتون، وما يذرون فيفضي إلى أشرف درجة وأرفع منزلة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة، وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال، بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف، فاسعوا في الإصلاح.
وقيل المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرئ بين «إخوتكم وأخواتكم». وَاتَّقُوا اللَّهَ بالصون عن التشاجر، فإن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»
«١».
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن من يأمن جاره بوائقه»
. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) على تقواكم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي رجال منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، حيث ذكر رجلا من الأنصار بسوء ذكر أم رجل كانت في الجاهلية.
وقال الضحاك: نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل: عمار وخبيب، وابن فهيرة، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم، ومعنى الآية: لا تحتقروا إخوانكم ولا تستصغروهم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ.
روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عيرن أم سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قالت لها بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم:
يهودية بنت يهودي فنهاهنّ الله عن ذلك وقال: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أي ولا تسخر نساء من المؤمنات من نساء منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات عند
(١) رواه أحمد في (م ٢/ ص ٢٢٤)، والهيثمي في موارد الظمآن ٢٥، والهيثمي في مجمع الزوائد (٣: ٢٦٨)، وابن حجر في فتح الباري (١: ٥٤)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٢: ٧٨).
438
الله وأفضل نصيبا، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ، أي ولا يعب بعضكم بإشارة أو نحوها، فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. ويقال: هذا إتمام للزجر، ويصير التقدير: بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب السخر واللمز والتنابز بعد ما سميتم مؤمنين. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) أي ومن يجعل ذلك عادة، ولم يتركه، ولم يتب عما مضى فهو ظالم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فيجب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي نوع، فإن من الظن ما يجب اتباعه، كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وظن الخير من الله تعالى،
ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلّا خيرا»
، وظن الخير في المؤمن، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ظنوا بالمؤمن خيرا»
ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات، وظن السوء بالمؤمن، ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب يستحق العقوبة وَلا تَجَسَّسُوا أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. والمعنى: ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً.
وقرأ نافع بتشديد الياء وهو حال من «اللحم»، أو من «الأخ»، فالاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلّا للمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر. أما الفاسق فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلما أم ثلم عرضه فهو كآكل لحمه، حيا ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتا، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه.
فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي الأكل، فالاستفهام في قوله تعالى: أَيُحِبُّ للإنكار، فكأنه تعالى قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا. وقرئ «كرهتموه» بغير فاء أي جبلتم على كراهته، وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر عنكم من قبل، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) ذكر الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة، فكأنه تعالى قال: لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن
علمتم منها شيئا من غير تجسس فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم، ففي الأول نهي عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهي عن طلب علم عيب الناس، ثم نهي عن ذكر ما علم منه.
روي أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه لهما طعاما فقال له:
«انطلق إلى أسامة بن زيد واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده». فأتاه فقال ما عندي شيء،
439
فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» «١» فقالا: ما تناولنا لحما في يومنا هذا! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتما سلمان وأسامة» فنزلت هذه الآية
، ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي من آدم وحواء، ومن أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ وطبقات النسل التي عليها العرب سبعة: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، والعشيرة. وكل واحد يدخل فيما قبله، فالعشائر تحت الفصائل، وهي تحت الأفخاذ، وهي تحت البطون، وهي تحت العمائر، وهي تحت القبائل، وهي تحت الشعوب. فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، هاشم فصيلة، والعباس عشيرة. لِتَعارَفُوا أي ليعرف بعضكم بعضا بأصل الإنسان فلا ينتسب أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل، ولا لتدعوا التفاوت في الأنساب، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله»
«٢». وعن ابن عباس قال: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
قال الرازي: سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي رضي الله عنه، غير أنه كان فاسقا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق، فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ. وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر بن كافر، أنا ابن رسول الله أذل، وتجل، وأذم وتكرم، وأهان وتعان، فهمّ الناس بضربه. فقال الشيخ: لا، هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود بحده، ولكن يا أيها الشريف بيّضت باطني وسوّدت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا ما يعمل مع أبيك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأنسابكم وبأعمالكم. خَبِيرٌ (١٣) ببواطن أحوالكم، لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى.
(١) رواه القرطبي في التفسير (١٦: ٣٣١).
(٢) رواه العجلوني في كشف الخفاء (١: ٣٧٣)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٧:
٢٥٦٥).
440
قال الزهري: نزلت هذه الآية في أبي هند خاصة. قال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال ابن عباس: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض: الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السموات. فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم، وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية زاجرا لهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء. فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى. قالَتِ الْأَعْرابُ أي أهل البادية: آمَنَّا نزلت هذه الآية في بني أسد أصابتهم سنة شديدة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان أطمعنا، وأكرمنا يا رسول الله فإنّا صدقناك بجميع ما جئت به. فأنزل الله هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدق قلوبكم، لأنكم لو آمنتم لم تمنوا عليّ فلا تقولوا آمنا. وَلكِنْ أسلمتم أي أظهرتم الانقياد واستسلمتم من السيف والسبي بل قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة، وهذا قد حصل، أما الإيمان وهو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب لم يحصل لكم وإلّا لما مننتم علي ما ذكرتم، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي ولم يدخل حب الإيمان في قلوبكم إلى هذا الوقت فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلّا بموافقة القلب وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق في السر كما أطعتموهما في العلانية لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا من النقص.
وقرأ الدوري عن أبي عمر «ولا يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء التحتية وأبدلها السوسي ألفا. وقرأ الباقون بغير همزة ولا ألف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم ما قد سلف ان تبتم رَحِيمٌ (١٤) بما أتيتم به من الطاعة بالتفضل عليكم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله على تكثر أنواعها من العبادات البدنية المحصنة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا، كالحج والجهاد أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)، أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون، فنزل لتكذيبهم قوله
441
تعالى: قُلْ لهؤلاء الأعراب مبكتا لهم: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرون الله بدينكم بقولكم: آمنا وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فيعلم ما في قلوب أهلهما، ا «لواو» للحال وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) فلا يخفى عليه شيء، فالدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله، فلا يقبل منكم ذلك يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدون إسلامهم من غير قتال منة عليك، وهي النعمة، التي لا يطلب معطيها ثوابا من أنعم إليه. قُلْ في جواب قولهم هذا: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تعدوا الإسلام الذي عندكم منة علي، فالله تعالى كذبهم في قولهم: آمنا ولم يصدقهم في الإسلام فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بسبب أن هداكم للإيمان حيث بينكم الطريق المستقيم ودعاكم إليه، فإن إرسال الرسول بالآيات البينات هداية. وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم»، أي في زعمكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) في قولكم: آمنا فالله هو المان عليكم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه أعمال قلوبكم الخفية وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) من ظاهر إسلامكم. وقرأ ابن كثير بالياء التحتية على الغيبة نظرا لقوله تعالى: يَمُنُّونَ والباقون بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله تعالى: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ.
442
Icon