تفسير سورة الحجرات

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَالَتْ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا وَتَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي صِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اعْتَبَرَتْ عُمُومَ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى لَا تُعَجِّلُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْدِيمِ الْفُرُوضِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا في تَرْكِهَا وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُوجِبُ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي تَرْكِ مَا فَعَلَهُ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا ظَنُّوا لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ ففعله غَيْرَهُ فَأَمَّا مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ تَقْدِيمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَيْضًا وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَهْلِ الْمُحْتَجِّ بِهِ لِأَنَّ مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسٍ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ فَلَيْسَ فِيهِ إذًا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فِيهِ أَمْرٌ بِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وروى أنها نزلت في قوم كانوا إذ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَالُوا فِيهِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي كَلَامِهِ ضَرْبٌ مِنْ تَرْكِ الْمَهَابَةِ وَالْجُرْأَةِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ إذْ كنا مأمورين لتعظيمه وَتَوْقِيرِهِ وَتَهْيِيبِهِ وقَوْله تَعَالَى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ زِيَادَةٌ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ تَكُونَ مُخَاطَبَتُنَا لَهُ كَمُخَاطَبَةِ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ بَلْ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّعْظِيمِ تُخَالِفُ بِهِ مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَوْهُ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ وَقَالُوا اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ فَذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً فِي تَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيجَابِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لَنَا فِيمَنْ يَلْزَمُنَا تَعْظِيمُهُ مِنْ وَالِدٍ وَعَالِمٍ وَنَاسِكٍ وَقَائِمٍ بِأَمْرِ الدِّينِ وَذِي سِنٍّ وَصَلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذْ تَعْظِيمُهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ التَّعْظِيمِ فِي ترك الجهر دفع الصوت عليه وترك عَلَيْهِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَفِي النَّهْيِ عَنْ نِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ وَالْمُخَاطَبَةِ لَهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِنِدَائِهِمْ إيَّاهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجْرَةِ وَبِمُخَاطَبَتِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ اُخْرُجْ إلَيْنَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِك وَأَنَا امْرُؤٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ وَنَهَى اللَّهُ الْمَرْءَ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ وَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ الْخُيَلَاءِ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا ثَابِتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَعَاشَ حَمِيدًا وَقُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ
. بَابُ حُكْمِ خَبَرِ الْفَاسِقِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ الْآيَةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَتَاهُمْ الْوَلِيدُ فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ فَفَرِقَ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْتَدُّوا فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ بَعَثَ عُيُونًا لَيْلًا فَإِذَا هُمْ يُؤَذِّنُونَ وَيُصَلُّونَ فَأَتَاهُمْ خَالِدٌ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إلَّا طَاعَةً وَخَيْرًا فَرَجَعَ إلَى النبي ﷺ فأخبره
قال وَقَالَ مَعْمَرٌ فَتَلَا قَتَادَةُ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كثير من الأمر لعنتم قَالَ فَأَنْتُمْ أَسْخَفُ رَأْيًا وَأَطِيشُ أَحْلَامًا فَاتَّهَمَ رِجْلٌ رَأْيَهُ وَانْتَصَحَ كِتَابَ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي رِجْلٍ يَعْنِي قَوْلَهُ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا إنَّهَا لَمُرْسَلَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُقْتَضَى الْآيَةِ إيجَابُ التَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ إلَّا بَعْدَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ بِصِحَّةِ مُخْبِرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الآية على وجهين فتثبتوا من التثبت وفتبينوا كلمتاهما يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ خَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَثَبَّتُوا فِيهِ أَمْرٌ بالتثبت لئلا يصيب بِجَهَالَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْإِقْدَامِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ لِئَلَّا يُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ وَأَمَّا قوله فَتَبَيَّنُوا فَإِنَّ التَّبَيُّنَ هُوَ الْعِلْمُ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَقْدُمَ بِخَبَرِهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مُطْلَقًا إذْ كَانَ كُلُّ شَهَادَةٍ خَبَرًا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَخْبَارِهِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ شَرْعٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إثْبَاتِ حَقٍّ عَلَى إنْسَانٍ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ
الْفَاسِقِ فِي أَشْيَاءَ فَمِنْهَا أُمُورُ الْمُعَامَلَاتِ يُقْبَلْ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ وَذَلِكَ نَحْوُ الْهَدِيَّةِ إذَا قَالَ إنَّ فُلَانًا أَهْدَى إلَيْك هَذَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ وَقَبْضُهُ وَنَحْوُ قَوْلِهِ وَكَّلَنِي فُلَانٌ بِبَيْعِ عَبْدِهِ هَذَا فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَنَحْوُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ إذَا قَالَ لَهُ قَائِلٌ اُدْخُلْ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ وَيُقْبَلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ
وَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ بَرِيرَةَ فِيمَا أَهْدَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ
فَقَبِلَ قَوْلَهَا فِي أَنَّهُ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّ مِلْكَ الْمُتَصَدِّقِ قَدْ زَالَ إلَيْهَا وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخِرَ وَهُوَ مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ بِاعْتِقَادِ مَذْهَبٍ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فُسَّاقٌ وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَمْرُ السَّلَفِ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ وَشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِسْقُهُمْ مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَتُقْبَلُ أَيْضًا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ قَوْله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا لِدَلَائِلَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِلْزَامِ الْحُقُوقِ أَوْ إثْبَاتِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْفِسْقِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ إذْ لَوْ كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحَالٍ لَمَا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّثَبُّتِ وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَيَجْعَلُ تَخْصِيصَهُ الْفَاسِقَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّثَبُّتَ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بخلافه.
بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما حدثنا عبد الله ابن مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ حَتَّى اضْطَرَبُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ قَتَادَةُ وَكَانَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا حق تدارء فِيهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ وَقَالَ الْآخَرُ بَيْنِي وَبَيْنَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعَا حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا كَانَ قِتَالُهُمْ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وقال مجاهدهم الأوس والخزرج كان بينهم قتال
279
بالعصا قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذلك أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّلَاحِ وَمَا دُونَهُ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ إزَالَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ إلَى أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَمَا دُونَ السِّلَاحِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ بِالسَّيْفِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقِتَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِأَنَّ الْقَوْمَ تَقَاتَلُوا بِمَا دُونَ السِّلَاحِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقِتَالِ الْبَاغِي مِنْهُمَا وَلَمْ يُخَصِّصْ قِتَالَنَا إيَّاهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ مَتَى ظَهَرَ لَنَا قِتَالٌ مِنْ فِئَةٍ عَلَى وَجْهِ الْبَغْيِ قَابَلْنَاهُ بِالسِّلَاحِ وَبِمَا دُونَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ وَلَيْسَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَالِ قِتَالِ الْبَاغِي لَنَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الأمر بقتالنا إياهم مقصورا على مادون السِّلَاحِ مَعَ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لِلْقِتَالِ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ مِنْ قاتلكم بالعصى فقاتلوه بالسلاح لم يتناقص الْقَوْلُ بِهِ فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ إيَّانَا بِقِتَالِهِمْ إذْ كَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي الْقِتَالَ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ بِالسَّيْفِ وَمَعَهُ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ بَدْرٍ مَنْ قَدْ عُلِمَ مَكَانُهُمْ وَكَانَ محقا في قتاله لهم لم يحالف فِيهِ أَحَدٌ إلَّا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ الَّتِي قَابَلَتْهُ وَأَتْبَاعُهَا
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
وَهَذَا خَبَرٌ مَقْبُولٌ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ حَتَّى إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَحْدِهِ لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ إنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ فَطَرَحَهُ بَيْنَ أَسِنَّتِنَا رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَهُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ غَيْبٍ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْهَا
حَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقَوْلَ وَيُسِيئُونَ الْعَمَلَ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
280
مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوْقِهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ يَدْعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ مَنْ قَتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ التَّحْلِيقُ
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خيثمة عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ سَمِعْت عَلِيًّا يَقُولُ إذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُنِي الطَّيْرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ من قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِالسَّيْفِ إذَا لَمْ يَرْدَعْهَا غَيْرُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَلَوْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْخَوَارِجِ وَقَعَدُوا عنها لَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْا ذَرَارِيَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَاصْطَلَمُوهُمْ فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَلَسَ عَنْ عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عُمَرَ قِيلَ لَهُ لَمْ يَقْعُدُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِمَامَ مُكْتَفِيًا بِمَنْ مَعَهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُمْ بِأَصْحَابِهِ فاستجازوا الْقُعُودَ عَنْهُ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قِتَالَهُمْ وَاجِبًا لَكِنَّهُ لَمَّا وَجَدُوا مَنْ كَفَاهُمْ قَتْلَ الْخَوَارِجِ اسْتَغْنَوْا عَنْ مُبَاشَرَةِ قِتَالِهِمْ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ
قِيلَ لَهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفِتْنَةَ الَّتِي يَقْتَتِلُ النَّاسُ فِيهَا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَعَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ مَعَ إمَامٍ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ إحْدَى الْفِئَتَيْنِ بَاغِيَةٌ وَالْأُخْرَى عَادِلَةٌ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّ قِتَالَ الْبَاغِيَةِ وَاجِبٌ مَعَ الْإِمَامِ وَمَعَ مَنْ قَاتَلَهُمْ مُحْتَسِبًا فِي قِتَالِهِمْ فَإِنْ قَالُوا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَتَلْته وَهُوَ قَدْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
إنَّمَا يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَاتَلَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُقْتَلَ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتَلُونَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا
فَكَانُوا إذَا أَعْطَوْا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ أَجَابُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ خَلْعِ الْأَصْنَامِ وَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ الْبُغَاةُ إلَى الْحَقِّ فَيَزُولَ عَنْهُمْ الْقِتَالُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَمَتَى كَفُّوا عَنْ الْقِتَالِ تُرِكَ قِتَالُهُمْ كما
281
يُقَاتَلُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَمَتَى أَظْهَرُوهُ زَالَ عَنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُقْتَلُونَ مَعَ قَوْلِهِمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
بَابُ مَا يُبْدَأُ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال أبو بكر أمرا عِنْدَ ظُهُورِ الْقِتَالِ مِنْهُمْ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الصَّلَاحِ وَالْحَقِّ وَمَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْبَغْيِ وقَوْله تَعَالَى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ رَجَعَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الحق وأرادت الصلاح وأدامت الْأُخْرَى عَلَى بَغْيِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الرُّجُوعِ فَقَاتِلُوا التي تبغى حتى تفي إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ إلَى الْحَقِّ قَبْلَ الْقِتَالِ ثُمَّ إنْ أَبَتْ الرُّجُوعَ قُوتِلَتْ وَكَذَا فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَدَأَ بِدُعَاءِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ إلَى الْحَقِّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَبَوْا الْقَبُولَ قَاتَلَهُمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ قِتَالَهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا لِأَنَّهُ قَالَ فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إذَا بَغَوْا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقِتَالِ وَكَذَلِكَ
فَعَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ الْخَوَارِجِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ حِينَ اعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا أَبَوْا الرُّجُوعَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ فَرَجَعَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ عَلَى أَمْرِهَا فَلَمَّا دَخَلُوا الْكُوفَةَ خَطَبَ فَحَكَمَتْ الْخَوَارِجُ مَنْ نَوَاحِي المسجد وقالت لا حكم إلا الله فقال على رضى الله عنه كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ أَمَا إنَّ لَهُمْ ثَلَاثًا أَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ وَأَنْ لَا نَمْنَعَهُمْ حقهم من الفيء مادامت أَيْدِيهمْ مَعَ أَيْدِينَا وَأَنْ لَا نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونَا
. بَابُ الْأَمْرِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ الْبُغَاةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً وَيُسْتَعَانُ بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى حَرْبِهِمْ فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ الْمَالُ عَلَيْهِمْ وَيُرَدُّ الْكُرَاعُ أَيْضًا عَلَيْهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْبُغَاةِ أَحَدٌ وَمَا اُسْتُهْلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَذَكَرَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ مَا وُجِدَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ فَهُوَ فَيْءٌ يُقْسَمُ وَيُخَمَّسُ وَإِذَا تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِدَمٍ وَلَا مَالٍ اسْتَهْلَكُوهُ وَقَالَ مَالِكٌ مَا اسْتَهْلَكَهُ الخوارج
282
مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ تَابُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رُدَّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا قُوتِلَ اللُّصُوصُ الْمُحَارِبُونَ فَقُتِلُوا وَأُخِذَ مَا مَعَهُمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ النَّاسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي ذَلِكَ
فَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ منذر بن يعلى عن محمد بن الْحَنَفِيَّةَ قَالَ قَسَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه يوم الجمل فيئهم بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَا قُوتِلَ بِهِ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ
فَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ غَنِيمَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَسَمَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ لِيُقَاتِلُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَلَمْ يُمَلِّكْهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن الدُّوَلِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَوَارِجَ نَقَمُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ فَحَاجَّهُمْ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ
وَرَوَى أبو معاوية عن الصلت ابن بهرام عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ سَأَلْته أَخَمَّسَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمْوَالَ أَهْلِ الْجَمَلِ قَالَ لَا
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ أَوْ مَالٍ اُسْتُهْلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُغَنَّمُ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي لَيْسَتْ مَعَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ فِي دِيَارِهِمْ لَا تُغَنَّمْ وَإِنْ قُتِلُوا كَذَلِكَ مَا مَعَهُمْ مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يُخْتَلَفُ فِيمَا يُغْنَمُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا منعهم وَمَا تَرَكُوهُ مِنْهَا فِي دِيَارِهِمْ أَنَّ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِينَا مِنْهَا مَغْنُومٌ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ فَإِنْ قِيلَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا تُمْلَكُ رِقَابُهُمْ وَتُغْنَمُ أموالهم قيل لأنهم يقتلون إذا أسروا إن لَمْ يُسْلِمُوا وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فَلِذَلِكَ غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَالْخَوَارِجُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَا يُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ.
بَابٌ الْحُكْمُ فِي أَسْرَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَجَرْحَاهُمْ
رَوَى كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ ورسوله أعلم قال لا يجهز على جرحها وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي البختري وَعَامِرٍ قَالَا لَمَّا ظَهَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمَلِ قَالَ لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا وَلَا تذففوا عَلَى جَرِيحٍ
وَرَوَى
283
شَرِيكٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ
قَالَ أَبُو بكر هذا حكم على رضى الله عنه فِي الْبُغَاةِ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ السَّلَفِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تَبْقَ لِأَهْلِ الْبَغْيِ فِئَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَيُجْهَزُ عَلَى الْجَرِيحِ وَيُتْبَعُ الْمُدْبِرُ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ والدليل عليه أنه أسر بن بِثَرِي وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَقَتَلَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْأَوَّلُ إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ.
بَابٌ فِي قَضَايَا الْبُغَاةِ
قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْبَرْمَكِيِّ لَا يَنْبَغِي لِقَاضِي الْجَمَاعَةِ أَنْ يُجِيزَ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا شَهَادَتَهُ وَلَا حُكْمَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ لَوْ أَنَّ الْخَوَارِجَ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ فَحَكَمَ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُمْضِهِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَأْيَهُ فَيَسْتَأْنِفَ الْقَضَاءَ فِيهِ قَالَ وَلَوْ وَلَّوْا قَاضِيًا مِنْ أَهْلِ العدل بِقَضِيَّةٍ أَنْفَذَهَا مَنْ رُفِعَتْ إلَيْهِ كَمَا يُمْضِي قَضَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ أَهْلُ الْبَغْيِ تُكْشَفُ أَحْكَامُهُمْ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُسْتَقِيمًا أُمْضِيَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى مَدِينَةٍ فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ أَهْلِهَا وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ الْحُدُودَ لَمْ تُعَدْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ إلَّا مَا يُرَدُّ مِنْ قَضَاءِ قَاضِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ بِرَأْيِهِ عَلَى اسْتِحْلَالِ دَمٍ أَوْ مَالِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ كِتَابُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إذَا قَاتَلُوا وَظَهَرَ بَغْيُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ وَقِتَالُهُمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ شَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ لِأَنَّ إظْهَارَ الْبَغْيِ وَقِتَالَهُمْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ هُوَ فِسْقٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ وَظُهُورُ الْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتَ تَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَهَلَّا أَمْضَيْتَ أَحْكَامَهُمْ قِيلَ لَهُ قَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إنَّهُمْ إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَمَّا إذَا قَاتَلُوا فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهَذَا سَدِيدٌ وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْخَوَارِجَ إذَا ظَهَرُوا وَأَخَذُوا صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ أَنَّهُ لَا يُعَادُ عَلَى أَرْبَابِهَا فَجَعَلُوا أَخْذَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ أَهْلِ الْعَدْلِ قِيلَ لَهُ إنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ عَلَى أَرْبَابِ
284
الْأَمْوَالِ إعَادَتَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَسْقَطُوا بِهِ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْأَخْذِ لِأَجْلِ حِمَايَتِهِ أَهْلَ الْعَدْلِ فَإِذَا لَمْ يَحْمِهِمْ مِنْ الْبُغَاةِ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ فِي الْأَخْذِ وَكَانَ مَا أَخَذَهُ الْبُغَاةُ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ فِي بَابِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا لَوْ مَرَّ رِجْلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْبَغْيِ بِمَالٍ فَعَشَرَهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ وَيَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ إذَا مَرَّ بِهِ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَلِمْت أَنَّ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي الْأَخْذِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَهُمْ كَأَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَإِنَّمَا أَجَازُوا قَضَاءَ قَاضِي الْبُغَاةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صِحَّةِ نَفَاذِ الْقَضَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَدْلًا فِي نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ تَنْفِيذُ قَضَائِهِ وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَلِّي لَهُ عَدْلًا أَوْ بَاغِيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ سُلْطَانٍ فَاتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْهُمْ الْقَضَاءَ كَانَ جَائِزًا وَكَانَتْ أَحْكَامُهُ نَافِذَةً عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ الَّذِي وَلَّاهُ الْبُغَاةُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ عَدْلًا نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَيَحْتَجُّ مَنْ يُجِيزُ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ بِالتَّعْزِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إلَى أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الْحَقِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَجِبُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ إقْلَاعُهُ عَنْهُ وَتَوْبَتُهُ إذْ كَانَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَلَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ كَمَا أَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ لَمَّا كَانَ المردع وَجَبَ فِعْلُهُ أَنْ يَرْتَدِعُوا وَيَنْزَجِرُوا قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا اقْتَصَرَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ المعتدين
وقَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ إخْوَةٌ فِي الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وقَوْله تعالى فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَجَا صَلَاحَ مَا بين متعاديين من المؤمنين أَنَّ عَلَيْهِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا
وقَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ نَهَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَابَ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ حَالًا مِنْهُ فِي الدنيا فنسي أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ مِنْهُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ وقوله تعالى وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وروى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ لَا يَطْعَنُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ كَقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ بِقَتْلِهِ أَخَاهُ قاتل نفسه وكقوله فَسَلِّمُوا عَلى
285
أَنْفُسِكُمْ
يَعْنِي يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاللَّمْزُ الْعَيْبُ يُقَالُ لَمَزَهُ إذَا عَابَهُ وَطَعَنَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ قَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ:
إذَا لَقِيتُك تُبْدِي لِي مكاشرة وإن تغيبت الْهَامِزَ اللمزه
مَا كُنْتُ أَخْشَى وَإِنْ كَانَ الزمان به حيف على الناس أن يغتا بنى عَنَزَهْ
وَإِنَّمَا نَهَى بِذَلِكَ عَنْ عَيْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَلَيْسَ بِمَعِيبٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَ مَعِيبًا فَاجِرًا فَعَيْبُهُ بِمَا فِيهِ جَائِزٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحُجَّاجُ قَالَ الْحَسَنُ اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشُ أُعَيْمِشُ يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ وَاَللَّهِ مَا عَرَقِ فِيهَا عِنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يرحل جَمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ لَا مِنْ اللَّهِ يَتَّقِي وَلَا مِنْ النَّاسِ يَسْتَحِيُ فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لَا يَقُولُ لَهُ لا قَائِلٌ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ هَيْهَاتَ وَاَللَّهُ حَالٌ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفِ وَالسَّوْطِ وقوله تعالى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلِمَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِجْلٍ مُنَازَعَةٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا ترى ما هاهنا ما شَيْءٍ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ وَمَا أَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُ إلَّا بِالتَّقْوَى قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قَالَ لَا تَقُلْ لِأَخِيك الْمُسْلِمِ يَا فَاسِقٌ يَا مُنَافِقٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ الْيَهُودِيُّ والنصراني يسلم فقال لَهُ يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُد عَنْ عَامِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي سَلِمَةَ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مِنَّا رِجْلٌ إلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا فُلَانٌ فَيَقُولُونَ مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّقَبَ الْمَكْرُوهَ هُوَ ما يكرهه صاحبه ويفيد ما لِلْمَوْصُوفِ بِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السِّبَابِ وَالشَّتِيمَةِ فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ وَالْأَوْصَافُ الْجَارِيَةُ غَيْرَ هَذَا الْمَجْرَى فَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّهْيُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ أَفْعَالٍ
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بن خيثم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن خيثم المحاربي عن
286
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ كُنْت أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ فَلَمَّا نَزَلَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا وَصَالَحَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَوَادَعَهُمْ فَقَالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عِيرٍ لَهُمْ نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ سَاعَةً ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ فَعَمَدْنَا إلَى صُورٍ مِنْ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ مِنْ الْأَرْضِ فَنِمْنَا فَمَا أَنْبَهَنَا إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَمِهِ فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءَ فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ يَا أَبَا تُرَابٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ فَأَخْبَرَنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى رَجُلَيْنِ قُلْنَا مَنْ هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَاَلَّذِي يَضْرِبُك يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى تُبَلَّ مِنْهُ هَذِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ مَا كَانَ اسْمٌ أَحَبَّ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُدْعَى بِهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ فَمِثْلُ هَذَا لَا يُكْرَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ ذَمٌّ وَلَا يَكْرَهُهُ صَاحِبُهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءَ قَوْمٍ فَسَمَّى الْعَاصِ عَبْدَ اللَّهِ وَسَمَّى شِهَابًا هِشَامًا وَسَمَّى حَرْبًا سِلْمًا
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ مِنْ الْأَلْقَابِ مَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا يَعْنِي الصِّغَرَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَمَّ الْمَذْكُورِ وَلَا غِيبَتَهُ
وقَوْله تَعَالَى اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ اقْتَضَتْ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَعْضِ الظَّنِّ لَا عَنْ جَمِيعِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يَقْتَضِي الْبَعْضَ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فدل على أنه لم ينه عن جميعه وقال في آية أخرى إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وَقَالَ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً فَالظَّنُّ عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ مَحْظُورٍ وَمَأْمُورٍ بِهِ ومندوب إليه ومباح فإن الظَّنُّ الْمَحْظُورُ فَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا معاذ بن المثنى ومحمد ابن حبان التمار قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ الهروي قَالَ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِي عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي
287
النصر قال سمعت وائلة بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظن عبدى بن فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ شُتَيْرٍ يَعْنِي ابْنِ نَهَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ الْعِبَادَةِ
وَهُوَ مَرْفُوعٌ فِي حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ فَحُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ فَرْضٌ وسوء الظن به محظور منهى عنه وَكَذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ مَحْظُورٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْته وَقُمْت فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَار أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صفية بنت حي قَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قال سوءا
وحدثنا عبد الباقي ابْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ
فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ وَهُوَ ظَنُّهُ بالمسلم سواء مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُهُ وَكُلُّ ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَّبِعْ الدَّلِيلَ وَحَصَلَ عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا مَا لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تَعَبَّدَنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظن وأما الظن المباح فالشاك فِي الصَّلَاةِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ فَلَوْ غَلَبَ ظَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصديق رضى الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ وَلَا قَبَضْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ وَإِنَّمَا هو أَخَوَاك وَأُخْتَاك قَالَ فَقُلْت إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَقَالَ أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّ
288
ذَا بَطْنِ خَارِجَةَ جَارِيَةٌ فَاسْتَجَازَ هَذَا الظَّنَّ لِمَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا
فَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ بِقَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ مِمَّا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الظَّنِّ وَاجِبًا قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً وَهُوَ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ شَيْئًا فَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ قَوْله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تجسسوا ولا تحسسوا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا فقال عبد الله إنا قد هينا عَنْ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَجَسَّسُوا خُذُوا بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ وَدَعُوا مَا سَتَرَ اللَّهُ فَنَهَى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسِّتْرُ وَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَكْذِيبُ مَنْ قَذَفَهُ بِالظَّنِّ وَقَالَ تَعَالَى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ فَإِذَا وَجَبَ تَكْذِيبُ الْقَاذِفِ وَالْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَظْنُونِ وَعَنْ إظْهَارِهِ وَنَهَى عَنْ التَّجَسُّسَ بَلْ أَمَرَ بالستر على أهل المعاصي ما لم يظهره مِنْهُمْ إصْرَارٌ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا الفريابي عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ الْوَلِيدِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَنَسَبَهُ لَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ زَائِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبْلِغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ لَكُمْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال حدثنا عبد الْمُبَارَكِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ رَأْي عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كمن أحيى مَوْءُودَةً
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ
289
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَجَمِيعُ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ صَلَاحُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وفساد ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ
وقَوْله تَعَالَى وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُك أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ من صفية كيت وكيت قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا آخَرَ فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْت إنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حدثنا الحسن ابن عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ الصَّامِتِ ابْنِ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لَصَاحِبِهِ اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي ستر الله عليه فلم تدعه نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شائل برجله فقال أين فلان وفلان فقال نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ فَقَالَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا قَالَ فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّه
290
قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُرَّةَ سَنَةَ ثَلَاثَ عشر وَمِائَتَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ نَاسًا أَتَوْا ابْنَ سِيرِينَ فَقَالُوا إنَّا نَنَالُ مِنْك فَاجْعَلْنَا فِي حِلٍّ فَقَالَ لَا أُحِلُّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ يَا أَبَا سَعِيدٍ إنِّي أَرَى أَمْرًا أَكْرَهُهُ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ أَرَى أَقْوَامًا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَك يَحْفَظُونَ عَلَيْك سَقَطَ كَلَامِك ثُمَّ يَحْكُونَك وَيَعِيبُونَك فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي لَا يَكْبُرَنَّ هَذَا عَلَيْك أُخْبِرُك بِمَا هُوَ أَعْجَبُ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا عَمِّ قَالَ أَطْمَعْت نَفْسِي فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ وَحُلُولِ الْجِنَانِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النِّيرَانِ وَمُرَافَقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ أُطْمِعْ نَفْسِي فِي السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَوْ سَلِمَ من الناس أحد لسلم منهم خالقهم فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ خَالِقُهُمْ فَالْمَخْلُوقُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَسْلَمَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قال أخبرنا الحارث ابن أَبِي أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ الْمُجْبِرِ قَالَ حَدَّثَنَا عنبسة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حدثني خالد ابن يَزِيدَ اليمامي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّارَةُ الِاغْتِيَابِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته
وقَوْله تَعَالَى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ تَأْكِيدٌ لِتَقْبِيحِ الْغِيبَةِ وَالزَّجْرُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أحدهما أَنَّ لَحْمَ الْإِنْسَانِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ فَكَذَلِكَ الْغِيبَةُ والثاني النُّفُوسَ تَعَافُ أَكْلَ لَحْمِ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الطبع فلتكن الغيبة عندكم بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْكَرَاهَةِ وَلُزُومِ اجْتِنَابِهِ مِنْ جِهَةِ موجب العقل إذا كَانَتْ دَوَاعِي الْعَقْلِ أَحَقَّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ دَوَاعِي الطبع ولم يقتصره عَلَى ذِكْرِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ حَتَّى جَعَلَهُ أَخَاهُ وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّقْبِيحِ وَالزَّجْرِ فَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَكْذِيبُ قَاذِفِهِ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ بِذَلِكَ مَهْتُوكًا فَاسِقًا فَإِنَّ ذِكْرَ مَا فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ غَيْرُ مَحْظُورٍ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ النَّكِيرُ عَلَى قَائِلِهِ وَوَصْفُهُ بِمَا يَكْرَهُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا ذِكْرُ أَفْعَالِهِ الْقَبِيحَةِ وَالْآخَرُ وَصْفُ خِلْقَتِهِ وَإِنْ كَانَ مُشِينًا عَلَى جِهَةِ الِاحْتِقَارِ لَهُ وَتَصْغِيرِهِ لَا عَلَى جِهَةِ ذَمِّهِ بِهَا وَلَا عَيْبِ صَانِعِهَا عَلَى نَحْوِ مَا رَوَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ فِي وَصْفِهِ الْحَجَّاجَ بِقُبْحِ الْخِلْقَةِ وَقَدْ يَجُوزُ وَصْفُ قَوْمٍ فِي الْجُمْلَةِ بِبَعْضِ مَا إذَا وُصِفَ بِهِ إنْسَانٌ بِعَيْنِهِ كَانَ غِيبَةً مَحْظُورَةً ثُمَّ لَا يَكُونُ غِيبَةً إذَا وُصِفَ بِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ كَمَا
رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي تَزَوَّجْت امْرَأَةً قَالَ هَلْ نَظَرْت إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غِيبَةً وَجَعَلَ وَصْفَ عَائِشَةَ الرَّجُلَ بِالْقِصَرِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا غِيبَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ
291
Icon