تفسير سورة الحجرات

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٤٩ ) سورة الحجرات مدنية
وآياتها ثماني عشرة
وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل١
١ قال القرطبي أيضا: هي مدنية بإجماع، وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة الحجرات بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير رضي الله عنهما مثله.(ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور، والشوكاني في فتح القدير)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل رضي الله عنهم.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي ﷺ على بعض ذلك، قال قتادة: فربما قال قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي أن يكون كذا، وأيضا فإن قوما ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه الحسن بن أبي الحسن، وقوما فعلوا في بعض حروبه وغزواته أشياء بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك، وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال: دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إني صائم، فقالت: نهى رسول الله ﷺ عن صيام هذا اليوم، وفيه نزلت: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال ابن زيد: معنى لا تُقَدِّمُوا لا تمشوا بَيْنَ يَدَيِ رسول الله، وكذلك بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء. وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه: إذا قلت فيه.
وقرأ الجمهور من القراء: «تقدموا» بضم التاء وكسر الدال. وقرأ ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى: لا تتقدموا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي. والمعنى على ضم التاء بَيْنَ يَدَيِ قول الله ورسوله.
وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس. وقال عمر بن الخطاب: لا يا رسول الله، بل أمر القعقاع بن معبد، فقال له أبو بكر: ما أردت إلى خلافي، ويروى إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتها فنزلت الآية في ذلك. وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله: لا تُقَدِّمُوا معناه: لا تُقَدِّمُوا ولاة، فهو من تقديم
144
الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال. و: سَمِيعٌ معناه: لأقوالكم.
عَلِيمٌ معناه: بأفعالكم ومقتضى أقوالكم.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله ﷺ خبره فبعث فيه فأنسه وقال له: «امش في الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة». وقال له مرة: «أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا»، فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة. وفي قراءة ابن مسعود: «لا ترفعوا بأصواتكم» بزيادة الباء.
وقوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم. با محمد يا محمد، قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم الله بتوقيره، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين، فتلك حالة الموقر، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وبحضرة العالم وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار.
وقوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ مفعول من أجله، أي مخافة أَنْ تَحْبَطَ، والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافا واستحقارا وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي ﷺ وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال: أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. ويحتمل أن يكون المعنى: أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة. وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «فتحبط أعمالكم».
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره، وهم الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عند النبي صلى الله عليه وسلم. وغض الصوت: خفضه وكسره، وكذلك البصر، ومنه قول جرير: [الوافر] فغض الطرف إنك من نمير وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله ﷺ إلا كأخي السرار، وأن النبي ﷺ كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه. و: امْتَحَنَ اللَّهُ معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى. وقال عمر بن الخطاب: امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات.
قال القاضي أبو محمد: من غلب شهوته وغضبه، فذلك الذي امْتَحَنَ اللَّهُ قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة.
145
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٨]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلى قوله رَحِيمٌ نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله ﷺ فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي ﷺ وهي تسعة، فجعلوا ولم ينتظروا، فنادوا بجملتهم: يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله ﷺ ثم خرج إليهم، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد إن مدحي زين وذمي شين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك، ذلك الله تعالى» واجتمع الناس في المسجد، فقام خطيبهم وفخر، فأمر رسول الله ﷺ ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والإسلام، فأربى على خطيبهم، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخرا، فقام حسان بن ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة، فكان أشعر من شاعرهم، فقال بعضهم لبعض: والله إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ثم نزلت فيهم هذه الآية.
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس، وفي مصحف ابن مسعود: «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون»، و: الْحُجُراتِ: جمع حجرة.
وقرأ جمهور القراء: «الحجرات» بضم الحاء والجيم، وقرأ أبو جعفر القاري وحده: «الحجرات» بضم الحاء وفتح الجيم.
وقوله تعالى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني في الثواب عند الله وفي انبساط نفس النبي ﷺ وقضائه لحوائجهم ووده لهم، وذلك كله خير، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ سببها أن النبي ﷺ بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقا، فروي أنه كان معاديا لهم فأراد إذايتهم، فرجع من
146
بعض طريقه وكذب عليهم، قاله الضحاك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب رسول الله ﷺ وهم بغزوهم، ونظر في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورده وفدهم منكرين لذلك، وروي عن أم سلمة وابن عباس أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له، فرآهم على بعد، ففزع منهم، وظن بهم الشر وانصرف، فقال ما ذكرناه، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا: لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه، فعمل على صحة هذا الخبر وانصرف، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية بهذا السبب، والوليد على ما ذكر مجاهد هو المشار إليه بالفاسق وحكى الزهراوي قالت أم سلمة: هو الوليد بن عقبة.
قال القاضي أبو محمد: ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر الدهر.
والفسق: الخروج عن نهج الحق، وهو مراتب متباينة، كلها مظنة للكذب وموضع تثبت وتبين، وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما يقتضيه دليل خطاب هذه الآية، لأنه يقتضي أن غير الفاسق إذا جاء بنبإ أن يعمل بحسبه، وهذا ليس باستدلال قوي وليس هذا موضع الكلام على مسألة خبر الواحد.
وقرأ الجمهور من القراء: «فتبينوا» من التبين. وقرأ الحسن وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى:
«فتثبتوا».
وإِنْ في قوله: أَنْ تُصِيبُوا مفعول من أجله، كأنه قال: مخافة أَنْ تُصِيبُوا. قال قتادة: وقال رسول الله ﷺ عند ما نزلت هذه الآية: التثبت من الله والعجلة من الشيطان. قال منذر بن سعيد هذه الآية ترد على من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول.
قال القاضي أبو محمد: فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا والاحتياط لازم. قال النقاش «تبينوا» أبلغ، لأنه قد يتثبت من لا يتبين.
وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة، أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل يفضحه على لسان رسوله ثم قال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لشقيتم وهلكتم، والعنت: المشقة، أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه.
وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآية، كأنه قال: ولكن الله أنعم بكذا وكذا، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله عليكم، وحبب الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه، وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان، وحكى الرماني عن الحسن أنه قال: حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها.
وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيب، كأنه قال: ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون.
147
وقوله تعالى: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إن التحبيب والتزيين هو نفس الفضل، وقد يجيء المصدر مؤكدا لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله، كقولك جاءني زيد حقا ونحوه وكان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وأنتم والله أسخف الناس رأيا، وأطيش أحلاما، فليتهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
طائِفَتانِ مرفوع بإضمار فعل. والطائفة: الجماعة. وقد تقع على الواحد، واحتج لذلك بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢]. ورأى بعض الناس أن يشهد حدا لزناة رجل واحد. فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد.
واختلف الناس في سبب هذه الآية. فقال أنس بن مالك والجمهور سببها: ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله ﷺ وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه. فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك. فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله. فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد، ويروى بالحديد. وقال أبو مالك والحسن سببها: أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال. فأصلحه رسول الله ﷺ بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي: كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم. فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه. فوقع قتال نزلت الآية بسببه.
و: بَغَتْ معناه: طلبت العلو بغير الحق، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة. وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمشركون أهل صفين والجمل؟ قال: لا. من الشرك فروا. قيل أفمنافقون؟ قال: لا. لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل فما حالهم؟ قال:
إخواننا بغوا علينا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح. ولا يطلب هارب. ولا يقتل أسير. و: تَفِيءَ معناه: ترجع. والإقساط: الحكم بالعدل.
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يريد إخوة الدين. وقرأ الجمهور من القراء: «بين أخويكم» وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين. وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه: «بين إخوتكم».
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة: «بين إخوانكم». وهي حسنة. لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان. والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء. قال الشاعر: [الطويل]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم وأي بني الإخاء تنبو مناسبه
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله. فمنه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أو بيوت إخوانكم فهذا جاء على الأقل من الاستعمال.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية. وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي. فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون.
فيتكلم بها. ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة. فنزلت هذه الآية تأديبا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابا. فمما قيل: إن هذه الآية: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلما، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي أبو محمد: والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويما كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى.
و: يَسْخَرْ معناه: يستهزىء. والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها، فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهيا عاما، فقد يكون ذلك المستهزأ به خيرا من الساخر، والقوم في كلام العرب: واقع على الذكران، وهو من أسماء الجمع:
كالرهط والنفر. وقول من قال: إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف، ومنه قول الشاعر وهو زهير: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضا تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، ثم نهى تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك.
149
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: «عسوا أن يكونوا»، «وعسين أن يكن».
و: تَلْمِزُوا، معناه: يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة، قال الشاعر [رؤبة] :
ومن همزنا عزه تبركعا وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال الهر يهمزها. وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب. وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عكّه من ذلك فقال: الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة. ومنه قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: ١] ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة: ٥٨].
وقرأ الجمهور: «تلمزوا» بكسر الميم. وقرأ الأعرج والحسن: «تلمزوا» بضم الميم. قال أبو عمرو بن العلاء: هي عربية. قراءتنا بالضم وأحيانا بالكسر.
وقوله تعالى: أَنْفُسَكُمْ معناه: بعضكم بعضا كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة. فهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى» وهم كما قال أيضا: «كالبنيان يشد بعضه بعضا». والتنابز: التلقب والنبز واللقب واحد. أو اللقب: هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فدعا رسول الله ﷺ رجلا منهم فقال له: يا فلان، فقيل له:
إنه يغضب من هذا الاسم، ثم دعا آخر كذلك. فنزلت الآية في هذا. وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش. وواصل الأحدب. ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى. وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة: وتقول أنت ذلك يا أعور. وأسند النقاش إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنوا أولادكم؟ قال عطاء: مخافة الألقاب. وقال ابن زيد. معنى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يقول أحد لأحد: يا يهودي بعد إسلامه. ولا يا فاسق بعد توبته. ونحو هذا. وحكى النقاش أن كعب بن مالك وابن أبي حدرد تلاحيا، فقال له كعب: يا أعرابي. يريد أن يبعده من الهجرة. فقال له الآخر: يا يهودي. يريد لمخالطة الأنصار اليهود في يثرب. فنزلت الآية.
وقوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يحتمل معنيين: أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم. والثاني: بئس ما يقول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني: هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة اعتزالية ثم شدد تعالى عليهم النهي. بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى عنها. ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن. وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه، لما في ذلك وفي التجسس
150
من التقاطع والتدابر. وحكم على بعضه بأنه إِثْمٌ: إذ بعضه ليس بإثم.. ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى. والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر. فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به. وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه: هو أن تظن سوءا برجل ظاهره الصلاح. بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير. وقال بعض الناس: إِثْمٌ معناه: كذب. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. وقال بعض الناس. معنى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي إذا تكلم الظان أثم. وما لم يتكلم فهو في فسحة. لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن».
قال القاضي أبو محمد: وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه. قال سلمان الفارسي: إني لأعد غراف قدري مخافة الظن. وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: احترسوا من الناس بسوء الظن. وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه.
وقال ابن مسعود: الأمانة خير من الخاتم. والخاتم خير من ظن السوء.
وقوله: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن. واجتزوا بالظواهر الحسنة.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون: «لا تحسسوا» بالحاء غير منقوطة. وقال بعض الناس: التجسس بالجيم في الشر. والتحسس بالحاء في الخير. وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال. وقال أبو عمرو بن العلاء: التجسس: ما كان من وراء وراء. والتحسس بالحاء: الدخول والاستعلام. وصح عن النبي ﷺ أنه قال: «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا». وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف. وذكر أيضا حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي. وقال زيد بن وهب. قيل لابن مسعود:
هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنا نهينا عن التحسس. فإن يظهر لنا شيء أخذنا به.
وَلا يَغْتَبْ معناه: ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئا هو فيه يكره سماعه. وروي أن عائشة قالت عن امرأة: ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتبتها، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته» وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته. وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته». وفي حديث آخر: «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره». قيل: وإن كان حقا. قال: إذا قلت باطلا فذلك هو البهتان». وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي: إذا مر بك رجل أقطع. فقلت:
ذلك الأقطع، كان ذلك غيب. وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: «الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه. والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل».
قال القاضي أبو محمد: وقد يموت من اغتيب، أو يأبى.
وروي أن رجلا قال لابن سيرين: إني قد اغتبتك فحللني. فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم
151
الله. والغيبة مشتقة من غاب يغيب. وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه. ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوك لا مال له». وما يقال في الفسقة أيضا وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة». ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم. فمنه قول الشاعر [سويد بن أبي كاهل اليشكري] :[الرمل]
فإذا لاقيته عظّمني... وإذا يخلو له لحمي رتع
ويروى فيحييني إذا لاقيته.
ومنه قول الآخر: [المقنع الكندي].
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فالجواب عن هذا: لا. وهم في حكم من يقولها. فخوطبوا على أنهم قالوا لا. فقيل لهم: فَكَرِهْتُمُوهُ وبعد هذا مقدر تقديره: فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا المقدر يعطف قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ قاله أبو علي الفارسي. وقال الرماني: كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع. وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل. وهو أحق أن يجاب. لأنه بصير عالم. والطبع أعمى جاهل.
وقرأ الجمهور: «ميتا» بسكون الياء. وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد: «ميّتا» بكسرها والشد.
وقرأ أبو حيوة: «فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء.
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أعلم بأنه تَوَّابٌ رَحِيمٌ إبقاء منه تعالى وإمهالا وتمكينا من التوبة.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٣ الى ١٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يحتمل أن يريد آدم وحواء. فكأنه قال: إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء. ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس. فكأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وماء أنثى. وقصد هذه الآية التسوية بين الناس. ثم قال تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض. فإن الطريق إلى الكرم غير هذا: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وروى أبو بكرة: قيل يا رسول الله: من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله». وفي
152
حديث آخر من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف. وأنهاهم عن المنكر. وأوصلهم للرحم وأتقاهم».
وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى»، فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضا، والشعوب: جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطا بنسب واحد، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة والفصيلة: وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب، وقيس وتميم ومذحج ومراد، قبائل مشبهة بقبائل الرأس، «لأنها قطع تقابلت» وقريش ومحارب وسليم عمارات، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة، وقال ابن جبير: الشعوب: الأفخاذ.
وروي عن ابن عباس الشعوب: البطون، وهذا غير ما تمالأ عليه اللغويون. قال الثعلبي، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل. وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب.
قال القاضي أبو محمد: وقيل للأمم التي ليست بعرب: شعوبية، نسبة إلى الشعوب، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال: فارسي تركي رومي زناتي. فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين، وهذا من تغيير النسب، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت، وهذا أولى عندي.
وقرأ الأعمش: «لتتعارفوا» وقرأ عبد الله بن عباس: «لتعرفوا أن»، على وزن تفعلوا بكسر العين وفتح الألف من «أن»، وبإعمال «لتعرفوا» فيها، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله: «لتعرفوا» لام كي، ويضطرب معنى الآية مع ذلك، ويحتمل أن تكون لام الأمر، وهو أجود في المعنى، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا تقديره: الحق، وإذا كانت لام كي فكأنه قال: يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب.
وقرأ ابن مسعود: «لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم». وروي أن النبي ﷺ قال: «من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله». ثم نبه تعالى على الحذر بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في الإيمان، أي لم تصدقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. والإسلام يقال بمعنيين، أحدهما: الدين يعم الإيمان والأعمال، وهو الذي في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» والذي في تعليم النبي ﷺ لجبريل حين قال له: ما الإسلام؟ قال: بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص: «أو مسلما، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه» الحديث، فهذا الإسلام ليس هو في قوله: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم، وهذا هو الإسلام في قوله: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، والْإِيمانُ الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه، ثم صرح لهم بأن
153
الْإِيمانُ لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ الآية، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال.
وقرأ جمهور القراء: «لا يلتكم» من لات يليت إذا نقص، يقال: لاته حقه إذا نقصه منه، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه. وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو: «لا يألتكم» من ألت يألت وهو بمعنى: لات، وكذلك يقال: ألت بكسر اللام يألت، ويقال أيضا في معنى لات، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٥ الى ١٨]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
وقوله تعالى: إِنَّمَا في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى. وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم ولم يداخلهم ريب وهُمُ الصَّادِقُونَ، إذ جاء فعلهم مصدقا لقولهم، ثم أمره تعالى بتوبيخهم بقوله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ، أي بقولكم: آمَنَّا [الحجرات: ١٤] وهو يعلم منكم خلاف ذلك، لأنه العليم بكل شيء.
وقوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا نزلت في بني أسد أيضا، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم، فنزلت هذه الآية، حكاه الطبري وغيره. وقرأ ابن مسعود: «يمنون عليك إسلامهم». وقوله يحتمل أن يكون مفعولا صريحا. ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله.
وقوله: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بزعمكم إذ تقولون آمنا، فقد لزمكم أن الله مان عليكم، ويدلك على هذا المعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة.
وقرأ ابن مسعود: «إذ هداكم».
وقوله تعالى: يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يحتمل أن يكون بمعنى: ينعم كما تقول: من الله عليك، ويحتمل أن يكون بمعنى: يذكر إحسانه فيجيء معادلا ل يَمُنُّونَ عَلَيْكَ، وقال الناس قديما: إذا كفرت النعمة حسنت المنة. وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة.
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وقتادة وابن وثاب: «تعملون» بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبان: «يعملون» بالياء من تحت على ذكر الغيب.
Icon