تفسير سورة الطور

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الطور من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الطور
وهي مكية كلها في قول الجميع، وعدد آياتها ثمان وأربعون آية.
وتشتمل هذه السورة على الكلام على البعث، وما فيه، واستتبع ذلك وصف الكفار والمؤمنين يوم القيامة، وأطالت هذه السورة في الكلام على الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين، ثم أخذت في خطاب المشركين ونقاشهم في معتقداتهم الفاسدة، ثم كان ختام السورة بذكر نصائح للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بدعوته.
يوم القيامة والكفار فيه [سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
543
المفردات:
وَالطُّورِ الطور: هو الجبل، وقيل: هو الجبل الذي فيه نبات، أو هو الذي ناجى عليه موسى ربه، وهو بطور سيناء. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ: وكتاب مكتوب على وجه الانتظام. رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق: جلد رقيق يكتب فيه. والمنشور:
المبسوط. الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هو البيت الآهل بالزوار، والمراد به هنا الكعبة.
الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: هو البحر المملوء ماء، أو هو الفارغ، وقيل: هو المملوء نارا. تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أى: تتحرك وتجيء وتذهب وتضطرب. خَوْضٍ وأصل الخوض: المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل. يُدَعُّونَ: يدفعون إلى النار دفعا عنيفا شديدا. اصْلَوْها:
ادخلوها وقاسوا شدائدها.
المعنى:
أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالطور، وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور والسقف المرفوع، والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع.
وهل الطور هو الجبل مطلقا أو هو الذي وقف عليه موسى يناجى ربه؟! يحتمل هذا وذاك، وما المراد بالكتاب المسطور؟ قيل: هو الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال، ويعطى إلى العبد في يمينه أو شماله يوم القيامة وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقيل: هي التوراة أو القرآن، أو اللوح المحفوظ، وينبغي ألا يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين والكتاب المسطور، أى: المكتوب على وجه النظام والترتيب في جلد منشور ومبسوط ليقرأه الكل.
وأقسم بالبيت المعمور، وهو بيت الله الحرام الذي يعمر بالحجاج كل عام، بل هو دائما عامر بمن يطوف حوله مع أنه مكان جدب لا زرع فيه ولا ماء، ومع ذلك تهوى إليه نفوس كثيرة من المسلمين.
544
وأقسم بالسقف المرفوع وهو السماء التي رفعت بلا عمد ترونها، وأقسم بالبحر المملوء نارا أو هو المملوء ماء، أقسم بهذا كله على أن عذاب ربك لواقع حتما وليس له من دافع يدفعه.
وقد يسأل سائل: ما وجه ذكر هذه الأشياء المختلفة في القسم؟ والجواب أن كل هذه الأشياء من دلائل القدرة مع الإشارة إلى يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، والطور على أنه محل مناجاة موسى، والكتاب فيه ذكر ثوابهم وعقابهم، والبيت الحرام محل تقديس وإجلال، وطواف الملائكة والرسل به، وفيه اجتماع كاجتماع الحشر، والسماء والبحار كلها مظهر من مظاهر العظمة، ودليل على إمكان البعث، والله سبحانه أعلم بأسرار كلامه.
إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع، يوم تضطرب السماء اضطرابا، وتزلزل الأرض زلزالا، فتسير الجبال سيرا، فتكون هباء منثورا، وذلك يكون يوم القيامة، فويل يومئذ يحصل ذلك للمكذبين بالرسل واليوم الآخر، الذين هم في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، يوم يساقون إلى جهنم سوقا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون! أفسحر هذا «١» كما كنتم تقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أم أنتم لا تبصرون هذه الحقائق.
ويقال لهم: اصلوا جهنم وادخلوها وقاسوا حرها فاصبروا على ذلك أو لا تصبروا، الأمران سواء عليكم لا ينفعكم شيء من صبر أو غيره، إنما تجزون ما كنتم تعملون جزاء واقعا لا شك.
المتقون وجزاؤهم يوم القيامة [سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
(١) - الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
545
المفردات:
فاكِهِينَ أى: أصحاب فاكهة كثيرة، وقرئ: فكهين والمراد أنهم طيبو النفس يقال: فكه الرجل فهو فكه: إذا كان طيب النفس مزاجا، ومن معاني الفكه:
الأشر والبطر وعليه قوله تعالى في سورة الدخان وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أى:
أشرين بطرين. هَنِيئاً الأكل والشرب الهنيء: هو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. مَصْفُوفَةٍ أى: موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا واحدا.
بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة العين الواسعة. أَلَتْناهُمْ: أنقصناهم. رَهِينٌ أى: مرتهن يؤاخذ بالشر ويجازى بالخير. وَأَمْدَدْناهُمْ أى: وزدناهم على ما عندهم وقتا فوقتا. يَتَنازَعُونَ: يتجاذب بعضهم الكأس من بعض. كَأْساً الكأس: إناء الخمر ما دام مليئا فإذا كان فارغا لم يسم كأسا. لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ اللغو: ما
546
لا خير فيه، والتأثيم: من الإثم: كل ما يغضب الله. مَكْنُونٌ أى: مصون في أصدافه. مُشْفِقِينَ: خائفين من عذاب الله. السَّمُومِ: اسم من أسماء النار، والسموم: الريح الحارة، وقد تستعمل في لفح البرد وهي في لفح الشمس أكثر.
وهذا شروع في ذكر حال المؤمنين وجزائهم يوم القيامة بعد ذكر البعث وأنه واقع لا محالة، وما يلاقيه المنكرون له بالإجمال، وتلك عادة القرآن الكريم في الترهيب والترغيب.
المعنى:
إن المتقين الذين آمنوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا كاملا مقرونا بالعمل في جنات عظيمة، ونعيم مقيم، وفضل كبير، ورضوان من الله أكبر، هم في جنات الخلد حالة كونهم فاكهين ومتلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان والفضل العميم، وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، ويقال لهم تكريما: كلوا واشربوا، أكلا وشرابا هنيئا، بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال.
إن المتقين في جنات حالة كونهم متكئين «١» على نمارق موضوعة على سرر مصفوفة وقرناهم بحور عين، وكأنهم البيض المكنون، والذين آمنوا، وأتبعتهم ذريتهم بإيمان أى كانوا مؤمنين، وإن لم يكونوا في درجة آبائهم، هؤلاء ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة وما أنقصناهم من عملهم شيئا، ولكنه فضل من الله ونعمة عليهم. روى عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية.
كل نفس بعملها مرهونة عند الله، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، كأن العمل بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن، فإن كان العمل مقبولا عند الله فكأن صاحبه أدى دينه
(١) هو حال من الضمير المستكن في الخبر، ويجوز أن يكون حالا من ضمير كلوا أو آتاهم.
547
وفك رهنه، وإن لم يكن كذلك فهو مرهون كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ «١» ولعل وجه وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن المؤمنين فكوا رقابهم، وغيرهم لا زال أسيرا بعمله السيئ، على أنه مناسب لعدم نقصان الآباء شيئا من عملهم.
وأمددنا المتقين بفاكهة ولحم مما يشتهون، أى: وزدناهم على ما كان لهم من أصل التنعيم شيئا فشيئا ووقتا فوقتا حالة كونهم يتنازعون الكأس، ويتجاذبونها، هم وجلساؤهم في الجنة كما يفعل الندامى على خمر الدنيا، ولكن لا لغو في شرب هذه الخمر ولا تأثيم فيها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «٢» ويطوف عليهم بالكأس غلمان لهم ممتعون بالنعيم كخدم الملوك كأنهم لؤلؤ مكنون من البياض والصفاء، وهم في الجنة يتساءلون ويتجاذبون أطراف الحديث عن ماضيهم ولقد قالوا: إنا كنا قبل ذلك في أهلنا مشفقين أرقاء القلوب خائفين من عذاب الله، ومن هول ذلك اليوم، فمن الله علينا، وهدانا ووفقنا إلى العمل الصالح، ووقانا بفضله عذاب السموم، والسبب أنا كنا من قبل ندعوه وحده، ونعبده لا شريك له، إنه هو البر الرحيم، المحسن الكريم ذو الفضل العميم سبحانه وتعالى.
نقاش الكفار في معتقداتهم وختام السورة [سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٤٩]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
(١) - سورة المدثر الآيتان ٣٨ و ٣٩.
(٢) - سورة الصافات آية ٤٧.
548
المفردات:
بِكاهِنٍ: هو المخبر عن الأمور الماضية الخفية بلا وحى، والعراف: هو المخبر عن الأمور المستقبلة، وكانوا يستمدون ذلك من الجن. نَتَرَبَّصُ: ننتظر.
رَيْبَ الْمَنُونِ الريب: هو الشك وأطلق على الحوادث، والمنون: هو الدهر لأنه يقطع الأجل. أَحْلامُهُمْ: جمع حلم وهو الأناة والعقل. طاغُونَ: ظالمون مجاوزون الحدود بعنادهم. تَقَوَّلَهُ: اختلقه وافتراه من عند نفسه.
الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون. سُلَّمٌ السلم: هو ما يتوصل به إلى الأماكن العالية. بِسُلْطانٍ: بحجة قوية. مَغْرَمٍ: غرامة وهي التزام الإنسان ما ليس
549
عليه ولم يكن لخيانة منه. كِسْفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء.
مَرْكُومٌ أى: بعضه فوق بعض. بِأَعْيُنِنا: بعناية منا وفي حفظنا وحراستنا «١». وَإِدْبارَ النُّجُومِ المراد: وقت إدبارها من آخر الليل، أى: غيبتها بظهور نور الصبح.
المعنى:
من الناس من هم في أهلهم مشفقون، ومن عذاب الله خائفون، وهؤلاء ينفع معهم التذكر، والنبي مأمور بأن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده.
وإذا كان الأمر كذلك فذكر إنما أنت مذكر، ونبي مرسل، فما أنت بكاهن تبتدع القول وتخبر به من غير وحى، ولست مجنونا لا تعى ما تقول، وهذا رد لقولهم في النبي وبطلان لاعتقادهم فيه أنه كاهن أو مجنون، كما كان يقول عنه عقبة بن أبى معيط، وشيبة بن ربيعة، والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، فأنت بحمد الله ونعمته صادق النبوة راجح العقل سليم المنطق أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ؟ «٢» أيقولون: هو شاعر؟ ننتظر به ريب المنون وحوادث الدهر، فإنهم كانوا يجتمعون ويتشاورون في دعوة محمد وأثرها وخطرها، وتكثر آراؤهم ثم ينتهى المجلس في أغلب الأوقات، على أن محمدا شاعر، من الخير أن ننتظر عليه ونصبر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة وغيرهما قل لهم: تربصوا فإنى معكم من المتربصين أتربص هلاككم ونجاح دعوتي عجبا لهؤلاء! أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في قولهم حتى قالوا مرة إنه كاهن، وأخرى إنه مجنون، وثالثة إنه شاعر! ما هذا؟ أيجتمع في رجل واحد الشعر والكهانة والجنون؟!! بل هم قوم طاغون؟ نعم هم قوم أعمت بصيرتهم الضلالة، وأضلهم العناد وسوء التقليد حتى ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم وأسماعهم غشاوة، فمن يهديهم بعد هذا؟
(١) - فالعين مجاز عن الحفظ.
(٢) - أم التي ذكرت هنا في خمسة عشر موضعا هي بمعنى بل والهمزة، أما بل فللإضراب الانتقالى والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي أن يحصل، أو بمعنى ما حصل هذا.
550
بل أيقولون تقوله وافتراه من عنده؟ بل هم قوم لا يؤمنون بحال من الأحوال، وكيف هذا؟ أليس محمد واحدا منكم ونشأ في بيئتكم، وتربى في مجتمعكم فهل يعقل أن يأتى بهذا القرآن المعجز؟ إذا كان صحيحا ما تقولون فهاتوا حديثا مثل حديثه، أى: قرآنا مثل قرآنه إن كنتم صادقين. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ كيف تكذبون محمدا رسول الله في التوحيد والرسالة والبعث، وهذا الكون شاهد عدل على ذلك.. أما خلقتم؟ بل أخلقتم من غير شيء أم أنتم الخالقون؟! فأنتم خلقتم أنفسكم فلذلك لا تعبدون الخالق، ولا تصدقون رسوله، وتستبعدون خلقه لكم ثانيا في البعث.
بل أخلقوا السموات والأرض؟!! بل لا يوقنون!! وكيف ينكرون الرسالة لأنها جاءت لمحمد رسول الله من عند ربه الذي خلقه، وهو أعلم بخلقه، وهو المتصرف في هذا الكون لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، بل أعندهم خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا من يشاءون، ويقولون: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!! بل أهم المسيطرون والأرباب الغالبون؟ لا هذا ولا ذاك، فالله وحده هو الغنى، وعنده مفاتح السموات والأرض، وهو الغالب القادر على كل شيء دون سواه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
ومن الذي أعلمهم بأسرار الكون ونظامه؟ بل ألهم سلّم يرقون به فيستمعون إلى هذه الأخبار؟ وإذا كان هذا صحيحا فليأت مستمعهم بحجة واضحة ودليل قوى على ما يقول.
عجبا لكم تجعلون لله البنات ولكم البنين! بل أله البنات حيث تقولون: إن الملائكة بنات الله، وتجعلون لكم البنين مع أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم، فإذا كان لا يرضى بشيء لنفسه فكيف يرضاه الله؟
عجبا لهؤلاء كيف يكذبون رسالتك ولا يتبعون شرعك مع قيام الشواهد على صدقك، بل أتسألهم أجرا على هذا؟ فهم مثقلون بتلك الغرامة، منكرون لها، بل أعندهم علم الغيب فهم يكتبون منه ويخبرون به الناس؟ فإن العقل لا يرى أى دليل على صدق دعواهم الباطلة.
بل أيريدون كيدا بك وبشرعك؟ فالذين كفروا هم المكيدون الذين يحيق بهم المكر السيئ، ويعود عليهم وباله، وقد حصل هذا.
551
بل ألهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم ويملى عليهم تلك الأباطيل؟! سبحان الله وتعالى عما يشركون!! هؤلاء الناس قد ناقشهم القرآن نقاشا معقولا، وأقام عليهم الحجة، وألزمهم البرهان ومع هذا فهم لا يؤمنون، وإن يروا قطعة عظيمة من السماء ساقطة ليعذبهم يقولوا من فرط عنادهم وطغيانهم: هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، جاء يمطرنا بالخير والبركات ولم يصدقوا أنه سحاب ساقط عليهم من السماء لعذابهم. وهكذا الإنسان المغرور.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد لزمتهم الحجة وظهروا بمظهر المعاند المجادل بالباطل فذرهم غير مكترث بهم، ولا يهمنك أمرهم حتى يلاقوا يومهم المشهود، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم الصواعق والشدائد، اليوم الذي لا يغنى عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئا من الإغناء.
وإن للذين ظلموا أنفسهم وغيرهم هؤلاء عذابا دون ذلك يأخذونه في الدنيا، وليس لهم ما يخفف عنهم أو يسليهم أو يريح ضمائرهم أو يقوى عزائمهم كالمؤمنين المصابين في الدنيا، إذا لنا العزاء والتسلية والصبر وحسن الأجر، ورضا الرب الجليل كل ذلك يخفف عنا ما يصيبنا، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
ما مضى كان في شأن الكفار المعاندين الذين وقفوا من النبي موقف العناد والطغيان لم يسمعوا لحجة، ولم يلتفتوا لبرهان، بل ظلوا سادرين في غلوائهم مغرورين بقوتهم وبدنياهم أما أنت أيها الرسول الكريم فاسمع لنصيحة ربك وأنت خير من يعمل بها واصبر لحكم ربك، فكل ما يحكم به ويقدر فهو خير ورحمة، وإن كان فيه ألم وتعب فإنك أيها الرسول في كلاءة ربك وحفظه وعنايته، والله عاصمك من الناس ومؤيدك ومبلغك ما تصبو إليه نفسك الشريفة، وما عليك إلا الرضا بالقضاء وأن تسبح ربك حين تقوم لأى عمل من الأعمال، فسبحه في جوف الليل حيث يسكن الناس وينامون ويبقى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وسبحه في إدبار النجوم، أى: قبيل الفجر عند مغيبها حيث تصحو النفس نشيطة صافية من الأكدار.
اللهم وفق كل من يعمل لنشر دينك واستقرار دعوتك إلى العمل الصالح باتباع نصائح القرآن، وتتبع سيرة إمام الأنبياء وخاتم المرسلين.
552
Icon