تفسير سورة المجادلة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿تَحَاوُرَكُمآ﴾ المحاورة: المراجعة في الكلام من حار الشيء يحور إِذا رجع يرجع ومنه الدعاء المأثور «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» قال عنترة في فرسه:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي
﴿يُظَاهِرُونَ﴾ الظهار مشتق من الظهر يقال: ظاهر من امرأته إِذا حرمها على نفسه بقوله: أنتِ عليَّ كظهر أُمي ﴿مُنكَراً﴾ المنكر: كل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه ونفَّر منه، وهو خلاف المعروف ﴿يُحَآدُّونَ﴾ المحادَّة: المعادة والمخالفة في الحدود والأحكام وهي مثل المشاقة قال الزجاج: المحادَّة أن تكون في حدٍّ يخالف حد صاحبك، وأصلها الممانعة ﴿كُبِتُواْ﴾ الكبتُ: القهر والإِذلال
315
والخزي يقال: كبته أي قهره وأخزاه ﴿نجوى﴾ النجوى: الكلام بين اثنين فأكثر سراً، تناجى القوم تحدثوا فيما بينهم سراً ﴿حَسْبُهُمْ﴾ كافيهم.
سَبَبُ النّزول: أروي «أن» خولة بن ثعلبة «امرأة» أوس بن الصامت «أراد زوجها مواقعتها يوماً فأبت، فغضب وظاهر منها، فأتت رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت يا رسول الله: إن أوساً ظاهر مني بعد أن كبرت سني، ورقَّ عظمي، وإنَّ لي منه صبيةً صغاراً، إِن ضممتُهم إِليه ضاعوا، وإِن ضممتهم إِليَّ جاعوا فما ترى!! فقال لها: ما أراك إِلا قد حرمت عليه، فقالتْ يا رسول الله: واللهِ ما ذكر طلاقاً وهو أو ولدي وأحبُّ الناس إِليَّ، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعيد قوله: ما أراك إِلا قد حرمتِ عليه، هي تكرر قولها، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزل قول الله تعالى ﴿قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله..﴾ » الآيات.
ب وروى البخاري «عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت المجادلة خولة بنت ثعلبة فكلمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول يا رسول الله: أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إِذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إِني أشكو إِليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات».
التفسِير: ﴿قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ «قد» لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادتم التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد عمله تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده ﴿وتشتكي إِلَى الله﴾ أي وتتضرع إِلى الله في تفريضج كربتها ﴿والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ﴾ أي واللهُ جلَّ وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك، وماذا رددت عليها ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من ضيع المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات.
. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال ﴿الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحرمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن أمرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها
316
تشبيهاً بالأم وقوله ﴿مِنكُمْ﴾ توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ أي ما أمهاتهم في الحقيقة إِلاَّ الوالدات اللات ولدنهم من بطونهم وفي المثل «ولدك من دمَّى عقبيك» وهو تأكيد لقوله ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ زيادة في التوضيح والبيان ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً﴾ أي والحال إِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تننكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان ﴿وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال في التسهيل: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها قوله ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سمَّاه منكراً والثالث أنه سماه زوراً والرابع قوله تعالى ﴿وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة.. ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال ﴿والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ﴾ أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إعادة أزواجهم إِليهم ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾ أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ عبداً كان أو أمةً من مقبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنابةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولايسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ﴾ أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾ أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انطقع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرمض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ أي وتلك هي أوامرُ اله وحدوده فلا تعتدوها ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً.
. ﴿إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ﴾ ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال ﴿إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي
317
يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر «حدود الله» فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه ﴿كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذين حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي والحال أنا قد أنزلنا آياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمقصودُ بها تسلية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبشارته مع المؤمنين بأن أعدائهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً﴾ أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا﴾ أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام ﴿أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ﴾ أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء.. ثم بيَّن تعالى سعمة علمه، وإحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، ما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس.
﴿وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ أي ولا يقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم ﴿وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ﴾ أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يفخى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي ثم يخبرهم تعالى بما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ﴾ واختتمها بالعلم بقوله ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لينبه إِلأى إِحاطة علمه جل وعلا بالجزيئات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ معية علمه تعالى، ولا شك في إِرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء.. ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمافقين فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى﴾ قال القرطبي: نزلت في
318
اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن حديثهم يدور حول المكمر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك ﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله﴾ أي وإِذا أحضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم «السامُ عليكم» أي الموت عليكم قال المفسرون:
«كان اليهود يأتون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون: السامُ علكيم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: وعلكيم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السماُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقال يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها: أما سمعتِ ما قلت لهم؟ إِني قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يستجيب لهم فيَّ» ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ اي ويقولون فيما بينهم، هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمداً نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾ أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها ﴿فَبِئْسَ المصير﴾ أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبَه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف من سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعاقبهم ويرزقهم» فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم وتكريماً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمينِ.. ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول﴾ أي إِذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إِثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير، أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى﴾ أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإحسان قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه ﴿واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله ﴿إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ﴾ أي
319
ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل به الحزن على المؤمنين قال ابن كثير: أي إِنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله ﴿وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلآ بمشيئة الله وإرادته ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي وعلى الله وحدجه فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث «إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه».
320
المنَاسَبَة: لما نهى تعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباغض والتنافر، أمرهم بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودَّة، وهو التوسع في المجالس بأن يفسح بعضهم لبعض، ثم حذَّر من موالاة أعداء الله، وختم السورة الكريمة ببيان أوصاف المؤمنين الكاملين.
اللغَة: ﴿تَفَسَّحُواْ﴾ توسَّعوا يقال: فسح له في المجلس أي وسَّع له، منه مكان فسيح اي واسع ﴿انشزوا﴾ انهضوا وارتفعوا يقال: نشز ينشُز إِذا تنحَّى من مجلسه وارتفع منه، وأصله من النَّشز
320
وهو ما ارتفع من الأرض ﴿جُنَّةً﴾ بضم الجيم وقاية ﴿استحوذ﴾ استولى وغلب على عقولهم ﴿الأذلين﴾ الأذلاء المغمورين في الذل والهوان.
سَبَبُ النّزول: أعن مقاتل قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناسٌ من أهل بدر فيهم» ثابت بن قيس «وقد سُبقوا إِلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسَّع لهم فلم يفسحوا لهم، فشقَّ ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان، فم يا قلان، بعدد الواقفين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وطعن المنافقون في ذلك وقالوا: ما عدل هؤلاء، قوم أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه!! فأنزل الله تعالى ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ..﴾ » الآية.
ب عن ابن عباس قال: «إن الناس سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأكثروا عليه حتى شقَّ ذلك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد الله أن يخفّف عن نبيه ويثبِّطهم عن ذلك فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً..﴾ الآية فلما نزلت جبن كثير من المسلمين وكفَّوا عن المسألة.
ج قال السدي:»
كان «عبد الله بن نبتل» المنافق يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حجرةٍ من حجراته إِذ قال يدخل عليكم الآن رجلٌ قلبه قلبُ جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل فعلت، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبُّوه فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ «.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا﴾ أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس سواءً كان مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره من المجالس فتوسعوا وافسحوا له ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ﴾ أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث»
لايقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم «قال الإِمام الفخر: وقوله ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ﴾ مطلٌ
321
في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، الرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث
«لايزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه» ﴿وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ﴾ أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا قال في البحر: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليسبعالم درجات وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» فأعظمْ بمنزلةٍ هي واسطةٌ بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول﴾ أي إِذا أردتم محادثته سراً ﴿فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي تقديم الصدقاتن قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السموات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ
322
تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم قال المفسرون: نسخ الله ذلك تخفيفاً على العباد حتى قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «آية في كتاب الله لم يعمل بها على أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخ فضعيفٌ لأن الله تعالى قال ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ﴾ وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم﴾ تعجيبٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله
﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠] وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ﴾ أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ [النساء: ٤٣] قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعملون أنهم كذبة فجرة قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ أي هيأ لهم تعالى بسبب نفاقهم عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم
﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ [النساء: ١٤٥] ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا ﴿اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل قال في التسهيل: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة ﴿لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أولئك أَصْحَابُ النار
323
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً﴾ أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون قال بان عباس: هو قولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ﴾ أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون﴾ أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله﴾ أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم تملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة، لأنهم فوَّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما ﴿أولئك فِي الأذلين﴾ أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجو أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت ﴿تَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبٌّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير قال الإِمام الفخر: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان ﴿وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشير، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله قال في البحر: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على
324
الأعداء كما قال القائل:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت ﴿وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ﴾ في «أبي عبيدة» قتل أباه الجراح يوم بدر، ﴿أَوْ أَبْنَآءَهُمْ﴾ في الصِّديق همَّ بقتل انبه «عبد الرحمن بن أبي بكر» ﴿أَوْ إِخْوَانَهُمْ﴾ في مُصعب بن عمير قتلا أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ ﴿أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر ﴿أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم، فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ أي وقوَّاهم بنصره وتأييده قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، سمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ما كثين فيها أبد الآبدين ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعدد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الألقاب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم ﴿أولئك حِزْبُ الله﴾ أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - صيغة المبالغة في ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: ١] وفي ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وفي ﴿على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة: ٦].
٢ - الإِطناب بذكر الأُمهات ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [المجادلة: ٢] زيادةً في التقرير والبيان.
٣ - الطباق ﴿وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ﴾ [المجادلة: ٧] لأن معنى أدنى أقل فصار الطباق بينها وبين أكثر.
٤ - عطف الخاص على العام تنبيهاً على شرفه ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ فإن ﴿والذين أُوتُواْ العلم﴾ دخلوا في المؤمنين أولاً ثم خصوا بالذكر ثانياً تعظيماً لهم.
٥ - الاستعارة ﴿فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ استعار اليدين لمعنى قبل أي قبل نجواكم.
٦ - الاستفهام والمراد منه التعجيب ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم..﴾.
٧ - الجناس الناقص بين ﴿يَعْلَمُونَ﴾ و ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لتغير الرسم.
٨ - المقابلة بين ﴿أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ وبين ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ..﴾ الآية.
325
٩ - تحلية الجملة بفنون المؤكدات مثل: «ألا، وإِنَّ، وهم» في قوله ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾.
١٠ - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل ﴿الخاسرون، الكاذبون، خالدون، يعملون﴾.
لطيفَة: روى الإِمام أحمد عن أبي الطفيل أن «نافع بن عبد الحارث» لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل البوداي؟ فقال: استخلفت عليهم: «ابن أبزى» فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنه قارىءٌ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما إِن نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إِن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين».
326
Icon