ﰡ
وهي مدنيّة في قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال: العشر الأول منها مدنيّ، والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب: أنها مدنيّة سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.
(١٣٩٧) أما سبب نزولها، فروي عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله، أبلى شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.
فأما تفسيرها، فقوله عزّ وجلّ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قال الزجاج: إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف، وإظهار الدال جائز
__________
(١) المجادلة: ٧.
أوس بن الصامت، وكانا من الأنصار.
(١٣٩٨) قال ابن عباس: كان الرجل إِذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ عليَّ كظهر أمي، حرُمَتْ عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات. فأما مجادلتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه كان كلمَّا قال لها: قد حرمتِ عليه، تقول:
والله ما ذكر طلاقاً، فقال: ما أُوحي إليَّ في هذا شيء، فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو.
يقال: اشتكيت ما بي وشكوته، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت: إن لي صبية صغاراً، إِن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا. فأما التحاور، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه:
لو كان يدْري ما المُحاورَةُ اشْتكى | ولكان لو علم الكلام مكلّمي |
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظَّهَّرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يُظاهِرون» بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إِثبات الألف. وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياءٍ وتاءٍ وألف. وقرأ أبي بن كعب «يتظَهَّرون» بياءٍ وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضحاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح الظاء مخففة، مكسورة الهاء مشددة. والمعنى: تقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قرأ الأكثرون بكسر التاء. وروى المفضل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمهات بأمهات لهم إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ قال الفراء: وانتصاب «الأمهات» هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم»، ومثله: ما هذا بَشَراً «١»، المعنى:
__________
(١) يوسف: ٣١.
رِكابُ حُسَيْلٍ آخِرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ | وَنَاقَةُ عَمْروٍ مَا يُحَلُّ لَها رَحْلُ |
وَيَزْعُمُ حَسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ | وَمَا أَنْتَ فرع يا حسيل ولا أصل |
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا «١» اللام في «لما» بمعنى «إلى»، والمعنى: ثم يعودون إلى تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من وطء الزوجة بالعزم على الوطء، قال الفراء: معنى الآية: يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن جبير: المعنى: يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرَّموه على أنفسهم. وقال الحسن، وطاوس، والزهري: العَود: هو الوطء. وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظّهار مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلقها. فإذا وجد هذا، استقرت عليه الكفارة، لأنه قصد بالظهار تحريمها، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه، وان سكت عن الطلاق، فقد ندم على ما ابتدأ به، فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذ تجب الكفارة. وقال داود:
هو إِعادة اللفظ ثانياً، لأن ظاهر قوله عزّ وجلّ: يَعُودُونَ يدل على تكرير اللفظ. قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو علي الفارسي: ليس في هذا كما ادَّعَوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبلُ. وسميت الآخرةُ معاداً، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي:
وعَادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ | سِوى الحَقِّ شيئاً واسْتَرَاحَ العَواذِلُ |
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٨٠: اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فقال بعض الناس: العود: هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع أو الإمساك، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه: أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة.
(٢) البقرة: ٢١٠.
فيه عن أحمد روايتان. قوله عزّ وجلّ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وهو: كناية عن الجماع، على أن العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.
فصل: إذا وطئ المظَاهِرُ قبل أن يكفِّر أَثِمَ، واستقرَّت الكفارة، وقال أبو حنيفة: يسقط الظهار والكفارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إِذا فعل ذلك، فقال الحسن، وسعيد بن المسيّب، وطاوس، ومجاهد وإبراهيم، وابن سيرين: عليه كفارة واحدة، وقال الزهري، وقتادة في آخرين: عليه كفارتان.
فإن قال: أنت عليَّ كظهر أمي اليوم، بطل الظهار بمضيِّ اليوم، هذا قول أصحابنا وأبي حنيفة، والثوري، والشافعي، وقال ابن أبي ليلى، ومالك، والحسن بن صالح: هو مظاهر أبداً. واختلفوا في الظهار من الأمة، فقال ابن عباس: ليس من الأمة ظهار، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال سعيد بن جبير، وطاوس، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، ومالك: هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: لا يكون مظاهرا من أمته، ولكن يلزمه كفارة الظهار، كما قال في المرأة إِذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن قال: أنت عليّ كظهر أبي، فقال مالك: هو مظاهر، وهو قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يكون مظاهرا. واختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال أبو حنيفة، والشافعي: إن كان في مجالس، فكفارات، وإن كان في مجلس واحد، فكفارة: قال القاضي أبو يعلى: وعلى قول أصحابنا يلزمه كفارة واحدة، سواء كان في مجلس واحد، أو في مجالس، ما لم يكفِّر، وهذا قول مالك.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ قال الزجاج: ذلكم التغليظ توعظون به. والمعنى: أن غِلَظَ الكفارة وَعْظٌ لكم حتى تتركوا الظّهار. قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يعني: الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي: فعليه صيام شهرين «٢» مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فكفّارته إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ أي: الفرض ذلك الذي وصفنا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: تصدِّقوا بأنَّ الله أمر بذلك، وتصدِّقوا بما أتى به الرسولُ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: ما وصفه الله من الكفَّارات في الظِّهار وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذّب به.
قلنا: وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها، وإنما تراد لحل المسيس، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها.
(٢) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ١٩٧: يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة، لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قد ذكرنا معنى المحادَّة في التوبة «١»، ومعنى «كُبتوا» في آل عمران عند قوله عزّ وجلّ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ «٢»، وقال ابن عباس: أُخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممن قاتل الرّسل. قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: من قبورهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من معاصيه، وتضييع فرائضه أَحْصاهُ اللَّهُ أي: حفظه الله عليهم وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم في السِّر والعلانية شَهِيدٌ. أَلَمْ تَرَ أي: ألم تعلم. قوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة: النجوى: السرار. وقال الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» الزجاج: ما يكون من خلوة ثلاثة يسرِّون شيئاً، ويتناجَوْن به إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: عالم به. و «نجوى» مشتق من النجوة، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثرُ» بالرفع. وقال الضحاك: «إلا هو معهم» أي:
علمه معهم.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى في سبب نزولها قولان:
(١٣٩٩) أحدهما: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجَوْن فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا قد بلغهم عن أقربائنا وإِخواننا الذين خرجوا في السرايا، قتل أو موت، أو مصيبة، فيقع ذلك في قلوبهم، ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى تقدَّم أصحابهم. فلما طال ذلك وكثر، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجَوْا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
(١) التوبة: ٦٣.
(٢) آل عمران: ١٢٧.
(١٤٠٠) قال مقاتل: وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده تناجَوْا بينهم فيظن المسلم أنهم يتناجَوْن بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السائب: نزلت في المنافقين «٢». والنجوى: بمعنى المناجاة ثُمَّ يَعُودُونَ إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ قرأ حمزة، ويعقوب إلا زيداً، ورَوحاً «ويتنجَّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف. وفي معنى تناجيهم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وجهان: أحدهما: يتناجون بما يسوء المسلمين، فذلك الإثم والعدوان، ويوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرّسول. والثاني: يتناجون بعد نهي الرسول لهم، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(١٤٠١) أحدهما: أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش، ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟
فقال: ألست ترين أردُّ عليهم ما يقولون، وأقول: وعليكم، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزجاج: والسام: الموت.
والثاني: أنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس.
قال المفسرون: ومعنى «حيَّوك» سَلَّموا عليك بغير سلام الله عليك، وكانوا يقولون: السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان نبياً عذّبنا بقولنا له ما نقول.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيها قولان: أحدهما: نزلت في المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بزعمهم، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني: أنها في المؤمنين، والمعنى:
أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود، وهذا مذهب جماعة، منهم الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَلا تَتَناجَوْا هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجَّوا». فأما «البِرُّ» فقال مقاتل: هو الطاعة، و «التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي: «البرّ» الصدق،
صحيح. أخرجه البخاري ٦٤٠١ والبغوي في «شرح السنة» ٣٢٠٦ عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري ٢٩٣٥ و ٦٠٣٠ وفي «الأدب المفرد» ٣١١ من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم ٢١٦٥ ح ١١ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٢٦٢ من طريق مسروق عن عائشة به. وأخرجه البخاري ٦٠٢٤ و ٦٢٥٦ و ٦٣٩٥ ومسلم ٢١٦٥ والترمذي ٢٧٠١ وأحمد ٦/ ٣٧ و ١٩٩ وعبد الرزاق ١٩٤٦ وابن حبان ٦٤٤١ والبيهقي في «السنن» ٩/ ٢٠٣ وفي «الآداب» ٢٨٦ من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.
__________
(١) انظر الأثر المتقدم.
(٢) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم.
- وورد مختصرا في ذكر المنافقين فحسب، من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٣٧٧٠. [.....]
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)
قوله عزّ وجلّ: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع، وذلك أنّ كل جالس له مجلس، فالمعنى: ليفسح كل رجل منكم في مجلسه «١».
(١٤٠٢) قال المفسرون: نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السابقة، لم يجدوا موضعا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة جالس في صُفَّةٍ ضيِّقةٍ في المسجد، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس، فسلَّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم، فأوسعوا لبعضهم، وبقي بعضهم، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى أقام من المجلس على عدة من هو قائم من أهل السابقة، فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة، وتكلَّم المنافقون في ذلك وقالوا: والله ما عدل، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا أقبل مقبل ضَنّوا بمجلسهم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قال المفسرون: ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلا يجد غيرهم مجلساً عنده، فأمرهم أن يوسِّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظِّ منه، ويظهر فضيلة المقرَّبين إليه من أهل بدر وغيرهم.
وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصفِّ، فيقول لهم: توسَّعوا، فيأبَوْن عليه لحرصهم على القتال، وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني: أنه مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. وقال قتادة: كان هذا للنبي صلّى الله عليه وسلم ومن حوله خاصة. والثالث: مجالس الذكر كلِّها، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأبو رزين وأبو عبد الرحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش: «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع.
قوله عزّ وجلّ: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي: يوسّع الله لكم الجنّة، والمجالس فيها.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ١٨: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له مجلس، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومجالس القتال.
وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال «١» : أحدها: أنه القيام إلى الصلاة، وكان رجال يتثاقلون عنها، فقيل لهم: إِذا نودي للصلاة فانهضوا، هذا قول عكرمة، والضحاك. والثاني: أنه القيام إلى قتال العدو، قاله الحسن. والثالث: أنه القيام إلى كل خير، من قتال، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك، قاله مجاهد.
(١٤٠٣) والرابع: أنه الخروج من بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم آخرهم عهداً به، فأُمروا أن ينشُزوا إذا قيل لهم: انشزوا، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قوموا وتحرَّكوا وتوسَّعوا لإخوانكم، قاله الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان وَيرفع الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على مَن ليس بعالم. وهل هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة. والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس:
افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
قوله عزّ وجلّ: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان.
(١٤٠٤) أحدهما: أنّ الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيّه،
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٠٨٣ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٨٤: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخّص في ذلك محتجا بحديث: «قوموا إلى سيدكم» اه. والأولى ترك القيام لما فيه من مخالفات وذرائع ينبغي سدّها ذلك، وكثير من أهل العلم يجعلونه حتما لازما على الطالب وإن كانوا لا يقولونه صريحا.
فإنهم يؤكدون ذلك على أنه من باب احترام وإجلال العلم، والصواب أن نفوسهم هي التي تطلب ذلك. وقد شاهدت حادثة أذكرها ليتبين ويظهر الأمر جليا في ذلك. كنا في صف وعلى مقاعد الدراسة، وكان حصة القرآن الكريم الطالب يتلو والشيخ يسمع. إذ دخل شيخ آخر كبير وبدل أن يبقى الجميع على ما هم عليه قام الجميع على حين غفلة احتراما للشيخ وكما تعلم هؤلاء الطلبة مما أدى إلى وقوع كتاب الله عز وجل على الأرض وأخذه الطالب وكأن شيئا لم يحصل فهذا القيام وفي مثل هذه الحال غير جائز بالإجماع والعالم الذي يرى الطالب، وقد قام له أثناء تلاوة القرآن عليه أن ينهاه عن ذلك وإلا فهو آثم عند جميع الفقهاء وأهل العلم.
وقد أجمع أهل الحديث وعلم المصطلح على كراهة القيام لأحد أثناء تلاوة الحديث فكيف أثناء تلاوة القرآن؟!!. نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
(١٤٠٥) والثاني: أنها نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه الآية، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئاً، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة، قاله مقاتل بن حيَّان.
(١٤٠٦) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان، إلا أنه قال: فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقدِّمْ أحدٌ من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
(١٤٠٧) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى. كان لي دينار، فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدَّمت درهماً، فنسختها الآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الآية.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: تقديم الصدقة على المناجاة خير لكم، لما فيه من
عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهو ممن يصنع الحديث، فخبره لا شيء.
ضعيف. أخرجه الطبري ٣٣٧٨٨ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: أما ترى دينارا؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟
قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال علي: فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي ٣٣٠٠ وابن أبي شيبة ١٢/ ٨١- ٨٢ وأبو يعلى ٤٠٠ وابن حبان ٦٩٤١ والعقيلي في «الضعفاء» ٣/ ٢٤٣ من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري ٣٣٧٩٦ وابن حبان ٦٩٤٢ والنسائي في «الخصائص» ١٥٢ عن سفيان الثوري بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» ٥/ ٢٠٤ من طريق شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال العقيلي:
قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» ٥٨٩٣: وقال ابن المديني: لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» ٢/ ١٠٩ منكر الحديث يروي عن علي بما لا يشبه حديثه، فلا أدري سمع منه، أو أخذ ما يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم ٢/ ٤٨١- ٤٨٢ وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن فيه يحيى بن المغيرة السعدي، وهو لم يرو له الشيخان، ولا أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان، وللحديث علة أخرى، وهي الإرسال، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال، وهو كثير الإرسال، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم بدل كونه من كلام علي، وهذا دليل على أنها رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» ٣١٧٨ والطبري ٣٣٧٨٩ و ٣٣٧٩١ والواحدي في «الوسيط» ٤، ٢٦٦ من طريق مجاهد عن علي بن أبي طالب قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد غيري، آية النجوى: كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما، فنسخت بالآية الأخرى أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين مجاهد وعلي.
الخلاصة: هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه المواضع، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٥٦ و ٢٠٥٧ بتخريجنا.
قوله عزّ وجلّ: أَأَشْفَقْتُمْ أي: خِفتم بالصدقة الفاقةَ وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: فتجاوز عنكم، وخَفَّف بنسخ إيجاب الصدقة. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال. قال قتادة: ما كان إلّا ساعة من نهار.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين الذين تولَّوا اليهود، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين.
(١٤٠٨) وقال السدي، ومقاتل: نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع حديثه إلى اليهود، فدخل عليه يوماً، وكان أزرق، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله هذه الآيات.
(١٤٠٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في ظل حُجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تُكلِّموه، فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا بالله واعتذروا إليه، فأنزل الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ الآية.
فأما التفسير، فالذين تولَّوا: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ يعني:
المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ما ذكرنا في سبب نزولها.
وقال بعضهم: حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تولَّوْا اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كَذَبة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي: سترة يَتَّقُون بها القتل. قال ابن قتيبة: المعنى: استتروا بالحلف، فكلما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: صَدُّوا النَّاس عن دين الإسلام، قاله السّدّيّ. والثاني: صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم. قوله عزّ وجلّ:
وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي.
حسن، أخرجه أحمد ١/ ٢٤٠١ والحاكم ٢/ ٤٨٢ والطبري ٣٣٨٠٥ والواحدي ٧٩٩. صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ١٢٢ رجال أحمد رجال الصحيح اه.
قوله عزّ وجلّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ قال أبو عبيدة: غلب عليهم، وحاذهم، وقد بينا هذا في سورة النّساء عند قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ «١»، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ:
أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في المغلوبين، فلهم في الدنيا ذلّ، وفي الآخرة خزي.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
قوله عزّ وجلّ: كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وفتح الياء نافع، وابن عامر.
قال المفسرون: من بُعث من الرسل بالحرب، فعاقبة الأمر له، ومن لم يبعث بالحرب، فهو غالب بالحجة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: مانع حزبه من أن يذلّ.
قوله عز وجل: لا تَجِدُ قَوْماً الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(١٤١٠) أحدها: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، فقال: يا رسول الله دعني أكون في الرَّعلة الأولى، فقال: متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر، قاله ابن مسعود.
(١٤١١) والثاني: أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وذلك أن أبا قحافة سَبَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصكّه أبو بكر صَكَّةً شديدةً سقط منها، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو فَعلته» ؟ قال: نعم. قال: فلا تعُد إِليه، فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته، فنزلت هذه الآية، قاله ابن جريج.
(١٤١٢) والثالث: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه كان جالساً إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماءً، فقال عبد الله: يا رسول الله أبق فضلة من شرابك، قال: وما تصنع
ومقاتل ذو مناكر، وهو غير حجة.
باطل، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» ١٠٨٩ عن ابن جريج، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٠ عن ابن جريج تعليقا، وهذا واه ابن جريح مدلس، لم يذكر من حدثه، ومع ذلك هو معضل، فالخبر شبه موضوع، قال الإمام أحمد: هذه المراسيل التي يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة.
- راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.
عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل بكل حال فهو واه.
__________
(١) النساء: ١٤١.
(١٤١٣) والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ حين كتب إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم، قاله مقاتل، واختاره الفراء، والزجاج.
وهذه الآية قد بَيَّنتْ أن مودَّة الكفار تقدح في صحة الإيمان، وأن من كان مؤمناً لم يوالِ كافراً وإِن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته.
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ، يعني: الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقرأ المفضل عن عاصم «كُتِبَ» برفع الكاف والنون من «الإيمان». وفي معنى «كتب» خمسة أقوال: أحدها: أثبت في قلوبهم الإيمان، قاله الربيع بن أنس. والثاني: جعل، قاله مقاتل. والثالث:
كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان، حكاه الماوردي. والرابع: حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب، لأنها موضع الإيمان، ذكره الثعلبي. والخامس: جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه، قاله الواحدي. قوله عزّ وجلّ: وَأَيَّدَهُمْ أي قوّاهم بِرُوحٍ مِنْهُ في المراد «بالروح» هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمي النصر روحاً لأن أمرهم يحيا به. والثاني: الإيمان، قاله السدي. والثالث: القرآن، قاله الربيع. والرابع: الرحمة، قاله مقاتل. والخامس: جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي. فأما حِزْبُ اللَّهِ فقال الزجاج: هم الدّاخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم، و «ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة.