تفسير سورة المنافقون

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى مخبراً عن المنافقين، أنهم إنما يتفوهون بالإسلام ظاهراً فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك، وليس كما يقولون ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله ﷺ فقال :﴿ والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾. ثم قال تعالى :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ ﴾ أي فيما أخبروا به لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه، ولهذا كذّبهم بالنسبة إلى اعتقادهم، وقوله تعالى :﴿ اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ﴾ أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة ليصدقوا فيما يقولون فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالاً، فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس، ولهذا قال تعالى :﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران، واستبدالهم الضلالة بالهدى، ﴿ فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي. وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع، ولهذا قال تعالى :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ أي كلما وقع أمر أو خوف، يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم، كما قال تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ [ الأحزاب : ١٩ ] فهم جهامات وصور بلا معاني، ولهذا قال تعالى :﴿ هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وفي الحديث :« إن المنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجراً، ولا يأتون الصلاة إلا دبراً، مستكبرين، لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صُخب بالنهار ».
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ ﴾ أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾. عن سفيان ﴿ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ ﴾ حوّل سفيان وجهه على يمينه، ونظر بعينه شزراً، ثم قال : هو هذا، وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في ( عبد الله بن أبي سلول ) كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى. قال قتادة والسدي :« أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبي، وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله ﷺ، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله ﷺ فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعدو الله : لو أتيت رسول الله ﷺ، فجعل يلوي رأسه، أي لست فاعلاً ».
وقال أبو إسحاق في قصة بني المصطلق :« فبينا رسول الله ﷺ مقيم هناك اقتتل على الماء ( جهجاه بن سعيد الغفاري ) وكان أجيراً لعمر بن الخطاب و ( سنان بن يزيد )، فقال سنان : يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه : يا معشر المهاجرين، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند ( عبد الله بن أُبي ) فلما سمعها قال : قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال قائل : سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه، وقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها، فسمعها ( زيد بن أرقم ) رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله ﷺ، وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله! مر عباد من بشر فليضرب عنقه، فقال رسول الله ﷺ :» فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه، لا، ولكن ناد يا عمر : الرحيل «، فلما بلغ عبد الله بن أُبي أن ذلك قد بلغ رسول الله ﷺ، أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال، ما قال عليه ( زيد بن أرقم ) وكان عند قومه بمكان، فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل، وراح رسول الله ﷺ مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه ( أسيد بن الحضير ) رضي الله عنه، فسلم عليه بتحية النبوة، ثم قال : والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله ﷺ :» أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل «، قال : فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل، ثم قال : ارفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاء الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً، سار رسول الله ﷺ بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتد الضحى، ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا »
2558
، ونزلت سورة المنافقين، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي، عن جابر بن عبد الله يقول :« كنا مع رسول الله ﷺ في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجُلاً من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال رسول الله ﷺ :» ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة «، وقال ( عبد الله بن أُبي بن سلول ) وقد فعلوها : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال جابر : وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله ﷺ ثم كثر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ :» دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه « » وروى الإمام أحمد، عن زيد بن أرقم قال :« كنت مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أُبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال : فأتيت النبي ﷺ فأخبرته قال : فحلف عبد الله بن أُبي أنه لم يكن شيء من ذلك، قال : فلامني قومي وقالوا : ما أردت إلى هذا؟ قال، فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً، قال : فأرسل إليَّ نبي الله صى الله عليه وسلم فقال :» إن الله قد أنزل عذرك وصدقك «، قال : فنزلت هذه الآية :﴿ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾ حتى بلغ ﴿ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ﴾ ».
طريق أُخْرَى : قال الإمام أحمد رحمه الله، عن زيد بن أرقم قال :« خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أُبي بن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله ﷺ، فأرسل إليَّ رسول الله ﷺ فحدثته، فأرسل إلى عبد الله بن أُبي بن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فكذّبني رسول الله ﷺ وصدَّقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت، فقال عمي : ما أردت إلا أن كذلك رسول الله ﷺ ومقتك! قال : حتى أنزل الله :﴿ إِذَا جَآءَكَ المنافقون ﴾ [ المنافقون : ١ ]، قال : فبعث إليَّ رسول الله ﷺ فقرأها رسول الله ﷺ عليَّ، ثم قال :» إن الله قد صدقك « »
2559
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة « أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمدل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله ﷺ :» بل نترفق به ونحسن صبحته ما بقي معنا « »، وذكر عكرمة « أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف ( عبد الله بن عبد الله ) على باب المدينة واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه ( عبد الله بن أُبي ) قال له ابنه : وراءك فقال : مالك ويلك؟ فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله ﷺ، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله ﷺ شكا إليه عبد الله بن أُبي ابنه، فقال ابنه، فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله ﷺ، فقال : أما إذا أذن لك رسول الله ﷺ، فجز الآن »، وقال الحميدي في « مسنده » :« قال عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول رسول الله ﷺ الأعز وأنا الأذل، قال : وجاء النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق لئن شئت آتيك برأسه لأتيك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي ».
2560
يقول تعالى آمراً لعباده المؤمنين بكثرة ذكره، وناهياً لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك، ومخبراً لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عن طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال :﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين ﴾، فكل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كما قال تعالى :﴿ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [ الأنبياء : ٩٩-١٠٠ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي لا ينظر أحداً بعد حلول أجله، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله، ممن لو رد لعاد إلى شر ما كان عليه، ولهذا قال تعالى :﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾. روى الترمذي عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة لم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال : سأتلو عليك بذلك قرآناً :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون * وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين ﴾ إلى قوله :﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ قال : فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً، قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والبعير. وروى ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :« ذكرنا عند رسول الله ﷺ الزيادة في العمر فقال :» إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له، فيلحقه دعاؤهم في قبره « ».
Icon