ﰡ
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
الإعراب:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طِباقاً صفة سَبْعَ وطِباقاً: إما جمع «طبق» كجمل وجمال، أو جمع «طبقة» كرحبة ورحاب: ويصح أن تكون «طباقا» مصدرا أو حالا.
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ كَرَّتَيْنِ: منصوب في موضع المصدر، كأنه قال: فارجع البصر رجعتين، ويراد بالتثنية هنا الكثرة، لا حقيقة التثنية، بدليل قوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ والبصر لا ينقلب خاسئا حسيرا بمجرد مرتين، وإنما يصير كذلك بمرار جمة، مثل قولهم: لبيك وسعديك، أي إلبابا بعد إلباب، وإسعادا بعد إسعاد، يعني: كلما دعوتني أجبتك إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان: إذا أقام به.
البلاغة:
بِيَدِهِ الْمُلْكُ استعارة تمثيلية، أو في لفظ «اليد» مجاز، ويكون قوله الْمُلْكُ على الحقيقة.
لِيَبْلُوَكُمْ استعارة تمثيلية، شبه معاملة الله لعباده بالابتلاء والاختبار.
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ بينهما طباق.
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وضع الموصول للتفخيم والتعظيم، أي له السلطان والتصرف المطلق.
قَدِيرٌ، حَسِيرٌ، السَّعِيرِ سجع مرصع، وكذا قوله: الْغَفُورُ، فُطُورٍ.
المفردات اللغوية:
تَبارَكَ تعاظم وتعالى بالذات عن كل ما سواه، وكثير خيره وإنعامه، من البركة: وهي النماء والزيادة الحسية أو المعنوية. بِيَدِهِ الْمُلْكُ المالك المطلق وصاحب السلطان المتفرد، وبِيَدِهِ نؤمن باليد كما جاء على مراد الله، والظاهر من الآية هنا بيان قدرة الله وسلطانه ونفاذ تصرفه في ملكه. خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ أوجده أو قدّره أزلا، والْمَوْتَ عدم الحياة المعروفة، وَالْحَياةَ ما به الإحساس والحيوية. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم في حقل الحياة، أي ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم. أَحْسَنُ عَمَلًا أخلصه لله وأطوعه. الْعَزِيزُ القوي الغالب الذي لا يغلبه شيء، ولا يعجزه عقاب المسيء. الْغَفُورُ الكثير المغفرة والستر لذنوب عباده إذا تابوا.
طِباقاً متطابقا بعضها فوق بعض، بحيث يكون كالجزء منه، وكالقبة على الأخرى.
تَفاوُتٍ تباين وتناقض وعدم تناسب. فَارْجِعِ الْبَصَرَ أعدّه إلى السماء. فُطُورٍ شقوق وصدوع، جمع فطر. كَرَّتَيْنِ مرة بعد مرة أو كرة بعد كرة، والمراد بذلك التكرار والتكثير.
يَنْقَلِبْ يرجع. خاسِئاً صاغرا ذليلا عن أن يرى شيئا من العيب أو الخلل في خلق السموات. حَسِيرٌ كليل منقطع، لم يدرك المطلوب بعد كثرة المراجعة.
السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السموات إلى الأرض. بِمَصابِيحَ بنجوم وكواكب مضيئة، جمع مصباح. رُجُوماً راجمات أو مراجم يرجم ويرمى بانقضاض الشهب عليها، جمع رجم.
لِلشَّياطِينِ شياطين الجن والإنس. وَأَعْتَدْنا هيأنا. عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المستعرة الموقدة.
التفسير والبيان:
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يمجد الله تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، وأنه التام القدرة على كل الأشياء، لا يعجزه شيء، بل هو بتصرف في
وكلمة تَبارَكَ تعالى وتعاظم، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير الله تعالى.
تدل الآية على أمور ثلاثة: أن الله تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء.
ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه:
١- الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم، فيجازيهم على ذلك، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص لله وخير عملا، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم، ويعفو ويصفح، كما في آية أخرى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر ١٥/ ٤٩- ٥٠].
والآية دليل على أن الموت أمر وجودي، لأنه مخلوق. والموت: انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له، والحياة: تعلق الروح بالبدن واتصالها به، وإيجاد الحياة معناه: خلق الروح في الكائنات الحية، ومنها إيجاد الإنسان.
والمقصد الأصلي من الابتلاء: هو ظهور كمال إحسان المحسنين.
روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ
وقدم الموت على الحياة في الآية لأنه أقوى داعيا إلى العمل.
٢- الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع، المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره، يجمع بينها نظام الجاذبية، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب، واردد طرفك في السماء، وتأمل: هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟! وهذا دليل على تعظيم خلقها، وسلامتها من العيوب، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن.
ونظير الآية: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد ١٣/ ٢].
والسماء: مادة لا يعلم حقيقتها إلا الله، تبعد عن الأرض مسيرة خمس مائة عام بالقياسات القديمة، وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل: إنها مدارات الكواكب، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة، أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون». والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها، وهي بترتيب بعدها عن الشمس: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، أورانوس، نبتون، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.
والمراد بقوله: كَرَّتَيْنِ تكثير النظر لمعرفة الخلل.
٣- وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين، وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم.
ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب، غير كونها زينة للسماء الدنيا، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل ١٦/ ١٦].
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر، فمن تأول فيها غير ذلك، فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم له به.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات ٣٧/ ٦- ١٠].
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- تعاظم الله بالذات عن كل ما سواه، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام.
٢- الله هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص لله، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب.
قال ابن عمر: تلا النّبي صلّى الله عليه وسلّم: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حتى بلغ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله.
والابتلاء: هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟
٣- الله هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع، ولا تناقض ولا تباين، بل هي مستقيمة مستوية، دالة على خالقها، لا عيب ولا خلل فيها.
٤- إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة، لا يرى فيها عيبا بل يتحيّر بالنظر إليها، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك، وقد بلغ الغاية في الإعياء.
٥- زيّن الله السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين، وأعد الله للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد.
والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٦ الى ١١]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
الإعراب:
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ المراد بذنوبهم، ووحّد لوجهين:
أحدهما- أنه أضافه إلى جماعة، والإضافة إلى الجميع تغني عن جمع المضاف، كما أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف.
والثاني- أن (ذنب) مصدر، والمصدر يصلح للواحد والجمع.
فَسُحْقاً منصوب على المصدر، وجعل بدلا من الفعل، أو منصوب بتقدير فعل، تقديره: ألزمهم الله سحقا.
البلاغة:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ زيادة لهم في العذاب.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ مقابلة، قابلة بقوله بعدئذ: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً استعارة مكنية، شبه شدة استعارها وحسيسها بصوت الحمار.
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ استعارة مكنية، شبه جهنم في شدة غليانها ولهبها، بإنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه مبالغة في إيصال الضرر إليه، وحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الغيظ الشديد.
ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه.
المفردات اللغوية:
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من شياطين الإنس والجن. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ساء المرجع هي.
أُلْقُوا فِيها طرحوا فيها. شَهِيقاً صوتا منكرا شديدا كصوت الحمار، والشهيق: تنفس يسبق الزفير، وهو هنا كتنفس المتغيظ. تَفُورُ تغلي بهم كغلي المرجل. تَمَيَّزُ أي تتميز بمعنى تتقطع وتتفرق غضبا عليهم. مِنَ الْغَيْظِ غضبا على الكفار، والغيظ: شدة الغضب، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم. فَوْجٌ جماعة أي من الكفار. سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها سؤال توبيخ، والخزنة: الأعوان وهم مالك وأعوانه، جمع خازن. أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذركم عذاب الله، ويخوفكم منه، والاستفهام يراد به التوبيخ والتبكيت.
إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم. إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ خطأ بعيد عن الصواب والحق. وهذا القول إما من الملائكة للكفار حين اعترفوا بالتكذيب، أو من كلام الكفار للنذر من الرسل. لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سماع تفهم. أَوْ نَعْقِلُ عقل تفكر. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ في عدادهم ومن جملتهم. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أقروا بذنوبهم حين لا ينفعهم الاعتراف، والاعتراف: إقرار عن معرفة. فَسُحْقاً أي أسحقهم الله سحقا، أي أبعدهم الله من رحمته.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا، عمم الوعيد، وأوضح أن هذا العذاب معدّ أيضا لكل كافر جاحد بربه، ثم ذكر أوصاف النار وأهوالها الشديدة.
التفسير والبيان:
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وأعتدنا لكل الجاحدين بربهم، المكذبين رسله من الجن والإنس عذاب نار جهنم، وبئس المآل والمرجع وما يصيرون إليه، وهو جهنم.
١، ٢- إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً، وَهِيَ تَفُورُ أي إذا طرح الكفار في نار جهنم، كما يطرح الحطب في النار العظيمة، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها، أو كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهي تغلي بهم غليان المرجل.
٣- تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تكاد أو تقترب تتقطع، وينفصل بعضها من بعض، من شدة غضبها على الكفار، وحنقها بهم.
٤- كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي كلما طرح في جهنم جماعة من الكفار، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ: أما جاءكم في الدنيا رسول نذير ينذركم هذا اليوم ويخوفكم ويحذركم منه؟
فيجيبهم الكفار بقولهم من ناحيتين:
١- قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ أي أجاب الكفار قائلين: بلى جاءنا رسول من عند الله ربنا، فأنذرنا وخوّفنا، لكنا كذبنا ذلك النذير، وقلنا له: ما نزّل الله من شيء على لسانك، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب وأخبار الآخرة والشرائع التي أمرنا الله بها.
وما أنتم أيها الرسل إلا في ذهاب عن الحق، وبعد عن الصواب. فهذا على الأظهر من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين.
ونظير الآية قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١].
٢- وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي إننا نلوم أنفسنا ونندم على ما فعلنا، فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع من يعي، وسماع هداية، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع، وعقل هداية، ما كنا من أهل النار، وما كنا عليه من الكفر بالله والضلال، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم، والإيمان بما أنزل الله تعالى، والاستماع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقدم السمع على العقل والتفهم لأن المدعو إلى شيء يسمع كلام الداعية أولا ثم يتفكر فيه.
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فأقروا معترفين بما صدر عنهم من ذنب استحقوا به عذاب النار، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء، فبعدا لهم من الله ومن رحمته. وهذا بيان بالجريمة ثم العقاب.
أخرج الإمام أحمد عن أبي البحتري الطائي قال: أخبرني من سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم»
وفي حديث آخر: «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- للكافرين الجاحدين وجود الله ووحدانيته، المكذبين رسله عذاب جهنم في الآخرة، وبئس المرجع والمنقلب. وظاهر الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرّ لا يبقى في النار.
٣- يعترف الكفار بأنه قد جاءهم رسول أنذرهم وخوفهم، فكذبوه، وقالوا: ما أنتم يا معشر الرسل إلا في بعد عن الحق والصواب.
٤- وبعد أن اعترفوا بتكذيب الرسل، اعترفوا أيضا بجهلهم، وهم في النار، وقالوا: لو كنا نسمع من الرسل النذر سماع تدبر ووعي، وتعقل وفهم ما جاؤوا به، ما كنا من أهل النار.
قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكّر، أو نعقل عقل من يميّز وينظر.
ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا.
عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد ندم الفاجر يوم القيامة
، قالوا- أي الفجار-: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، فقال الله تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي بتكذيبهم الرسل.
٥- يقال للكفار حينئذ: سحقا لكم، أي بعدا من رحمة الله، سواء اعترفوا أو جحدوا، فإن ذلك لا ينفعهم.
وعد المؤمنين بالمغفرة وتهديد الكافرين مرة أخرى
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
الإعراب:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مَنْ: في موضع رفع فاعل يَعْلَمُ والمفعول محذوف، أي ألا يعلم الخالق خلقه.
البلاغة:
وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا بينهما طباق.
كَبِيرٌ، الْخَبِيرُ سجع، وكذا قوله: الصُّدُورِ والنُّشُورُ.
المفردات اللغوية:
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد، أو في حال غيبتهم عن أعين الناس، فيطيعونه سرا وعلانية. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ثواب عظيم وهو الجنة، يصغر دونه لذائذ الدنيا. بِذاتِ الصُّدُورِ بما في الضمائر أو النفوس.
اللَّطِيفُ العالم بدقائق الأمور وخفاياها التي لا يدركها العالمون. الْخَبِيرُ المطلع على ظواهر الأشياء وبواطنها. ذَلُولًا سهلة منقادة لينة يسهل لكم السير فيها والانتفاع بها.
مَناكِبِها جوانبها وطرقها، جمع منكب: وهو في الأصل مجتمع ما بين العضد والكتف.
النُّشُورُ الخروج من القبور، والحياة بعد الموت، والرجوع إلى الله بعد البعث للجزاء.
سبب نزول الآية (١٣) :
وَأَسِرُّوا..: قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخبّره جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.
المناسبة:
بعد وعيد الكفار بعذاب النار، ذكر الله تعالى للمقابلة وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير، ثم عاد إلى تهديد الكافرين والناس جميعا بأنه عليم بكل ما يصدر عنهم في السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق والقادر الذي ذلّل الأرض للعالم، وأذن لهم بالانتفاع بما فيها من خيرات وكنوز ظاهرة وباطنة كالزروع والثمار والمعادن.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي إن الذين يخافون عذاب ربهم ولم يروه، فيؤمنون به خوفا من عذابه، ويخافون الله في السر والعلن، فيخشون ربهم إذا كانوا غائبين عن الناس، بالكف عن المعاصي والقيام بالطاعات، حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى، هؤلاء لهم مغفرة عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم، وثواب جزيل، وهو الجنة.
ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظل عرشه، يوم لا ظل
ثم نبّه الله تعالى على أنه مطّلع على الضمائر والسرائر، فقال:
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي سواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به، فالله عليم به، يعلم بما يخطر في القلوب وما تكنّه الضمائر، لا يخفى عليه منه خافية، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالله عليم به، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى. وقدّم السر على الجهر لأنه مقدم عليه عادة، فما من أمر إلا وهو يبدأ أولا في النفس ثم يجهر به، وللتحذير من التكتم والسر الذي قد يظن عدم العلم به. وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كالعلّة لما قبله.
والآية خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، وتشمل ما كانوا يسرون به من الكلام في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبره جبريل، فقال بعضهم لبعض: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لئلا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية.
ثم أقام الله تعالى الأدلة على سعة علمه، فقال:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي ألا يعلم الخالق الذي خلق الإنسان وأوجده السرّ ومضمرات القلوب؟ فهو تعالى الذي خلق الإنسان بيده، وأعلم شيء بالمصنوع صانعه، وهو العليم بدقائق الأمور، وما في القلوب، والخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية. والمراد: ألا يعلم السّر من خلق السّر.
وقيل: معناه: ألا يعلم الله مخلوقه؟ قال ابن كثير: والأول (أي ألا يعلم الخالق) أولى لقوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. والواقع أن كلا المعنيين محتمل،
ولا بد من أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.
ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته، ونبّه إلى تمام نعمته، فقال:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي إن الله هو الذي سخّر لكم الأرض وذلّلها لكم، وجعلها سهلة لينة قابلة للاستقرار عليها، لا تميد ولا تضطرب، بما جعل فيها من الجبال، وفجّر فيها الينابيع، وشقّ الطرق، وهيّأ المنافع، وأنبت فيها الزروع وأخرج الثمار، فسيروا في جوانبها وأقطارها وأرجائها حيث شئتم بحثا عن المكاسب والتجارات والأرزاق، ولا يغني السعي شيئا عن تيسير الله، لذا قال تعالى:
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وأعطاكم القدرات على تحصيل خيراتها، ثم اعلموا أنكم في النهاية صائرون إليه، فإليه النشور، أي البعث من قبوركم، لا إلى غيره، وإليه المرجع يوم القيامة، فاحذروا الكفر والمعاصي في السر والعلن.
والآية دليل على قدرة الله ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السعي واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل على الله، وعلى أن الاتجار والتكسب مندوب إليه.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا»
فأثبت لها غدوّا ورواحا، لطلب الرزق، مع توكلها على الله عز وجل، وهو المسخّر المسيّر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم
ويكون المراد من الآيتين هذه وما قبلها تهديد الكافرين بأن الله عالم بسرهم وجهرهم، وأنه هو المنعم المتفضل عليهم بما يسّر لهم من خيرات الأرض، فاحذروا عقابه، فكأنه تعالى قال: أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني، محترزين من عقابي، فقد أسكنتكم في هذه الأرض التي ذلّلتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم ورزقكم، وإني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- إن خشية الله، والخوف من عذابه وعقابه، ومجاهدة الشيطان واجب كل إنسان، وإن الذين يخافون الله، ويخافون عذابه الغائب عنهم وهو عذاب يوم القيامة، ويراقبون الله في سرهم وعلنهم، لهم مغفرة لذنوبهم، وثواب كبير وهو الجنة.
٢- إن الله تعالى عالم على السواء بالجهر وبالسر، وبما في الصدور من خطرات وخفايا وبما في القلوب من الخير والشر. وعليه يكون ما أخفاه المشركون من الكلام في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما جهروا به معلوما تمام العلم لله عز وجل. كذلك كل ما يكيد به الناس للإسلام وقرآنه ونبيه صلّى الله عليه وسلّم وأهله في كل عصر، دولا وأفرادا، يعلم به الله، ويعاقب أهل الكيد والمكر والشر والضلال عليه.
٣- الدليل على كونه تعالى عالما بجميع الأشياء السرية والعلنية أنه هو الخالق للإنسان وأفعاله وأقواله، ومن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه.
أنواع من الوعيد والتهديد والعبرة بالأمم السابقة
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)
الإعراب:
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أَنْ: في موضع نصب على البدل من مَنْ فِي السَّماءِ وهو بدل اشتمال. وكذا قوله: أَنْ يُرْسِلَ بدل من مَنْ.
صافَّاتٍ حال منصوب لأن المراد بالرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية العين، لا رؤية القلب. وقوله: وَيَقْبِضْنَ عطف على صافَّاتٍ والجملة في موضع الحال، وتقديره: قابضات، وعطف هنا الفعل المضارع على اسم الفاعل لما بينهما من المشابهة.
البلاغة:
صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بينهما طباق لأن المعنى صافات وقابضات.
نَذِيرِ، نَكِيرِ، بَصِيرٌ سجع مرصّع مراعاة لرؤوس الآيات.
أَمْ أَمِنْتُمْ بتحقيق الهمزتين، أو بقلب الهمزة الأولى واوا، أو بتسهيل الثانية مع الفصل، أو بلا فصل، أو مع إدخال ألف بينهما، أو بإبدال الثانية ألفا، والأمن: ضد الخوف. مَنْ فِي السَّماءِ هو الله، على زعم العرب أنه تعالى في السماء. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ أن يغوّر بكم الأرض، ويغيبكم فيها، ومنه قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص ٢٨/ ٨١].
تَمُورُ ترتجّ وتتحرك وتضطرب.
حاصِباً ريحا شديدة فيها حصباء ترميكم بها وتهلككم. فَسَتَعْلَمُونَ عند معاينة العذاب. كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري بالعذاب أنه حق، وتخويفي به. مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم.
نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب، وهو تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتهديد لقومه المشركين.
أَوَلَمْ يَرَوْا ينظروا. فَوْقَهُمْ في الهواء. صافَّاتٍ باسطات أجنحها في الجو عند طيرانها. وَيَقْبِضْنَ أي وقابضات يضمنها تارة أخرى. ما يُمْسِكُهُنَّ عن الوقوع في حال البسط والقبض. إِلَّا الرَّحْمنُ بقدرته، الشامل رحمته كل شيء. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ يعلم كيف يخلق الغرائب ويدبر العجائب. والمعنى: ألم يستدلوا بطيران الطير في الهواء على قدرتنا أن نعذبهم كما عذبنا الأمم المتقدمة؟
المناسبة:
بعد بيان الأدلة على علم الله وقدرته لترهيب الكافرين وتخويفهم، أورد تعالى أدلة أخرى بقصد الوعيد والتهديد، من إمكان الخسف العاجل بأهل الأرض، أو إرسال الريح الحاصب التي تدمر كل شيء، مع التذكير بإهلاك الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم نوح وفرعون وجنوده، وإقدار الطير على الطيران في جو السماء.
التفسير والبيان:
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ، فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي هل تأمنون أن يخسف أو يغور ويقلع الله بكم الأرض، كما خسف بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها، فإذا هي تضطرب وتتحرك وتموج بكم؟
ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام ٦/ ٦٥].
ولكن من لطفه ورحمته تعالى بخلقه أنه يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجّل كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً [فاطر ٣٥/ ٤٥].
ثم أتبع الله تعالى ذلك بوعيد آخر:
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي بل هل أمنتم ربكم الله الذي هو في السماء كما تزعمون، وهل أمنتم سلطانه وملكوته وقهره أن يرسل عليكم ريحا مصحوبة بحجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل في مكة، وحينئذ تعلمون إذا عاينتم العذاب كيفية إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به، ولكن لا ينفعكم هذا العلم؟! ونظير الآية قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا [الإسراء ١٧/ ٧٨].
ثم ذكّر الله تعالى بعذاب الأمم المتقدمة مؤكدا تخويف الكفار بالمثال والبرهان، أما المثال فهو:
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إن الكفار الذين كانوا قبلهم، والذين كذبوا الرسل، شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم، كعاد وثمود وكفار الأمم، فحاق بهم سوء العذاب، وانظروا كيف كان إنكاري عليهم بما أوقعته بهم من العذاب الشديد؟
وهذا هو البرهان الأول:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ أي أولم ينظروا إلى الطير فوقهم في الجو أو الهواء، وهن باسطات أجنحتها تارة، وقابضات ضامات لها تارة أخرى، ما يمسكهن في الهواء عند الطيران والقبض والبسط إلا الإله الرحمن القادر على كل شيء، بما سخّر لهن من الهواء برحمته ولطفه، إنه سبحانه عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.
ونظير الآية: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل ١٦/ ٧٩].
قالوا: وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- الله تعالى هو القادر على أن يخسف بالكافرين والظالمين الأرض، عقوبة على كفرهم، كما خسف بقارون وبداره الأرض، فإذا الأرض تذهب وتجيء وتغور بهم وتبتلعهم.
وإنما خص الله تعالى السماء في قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء، لا من يعظمونه في الأرض، علما بأنه تعالى
وقد احتج المشبّهة على إثبات المكان لله تعالى بقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وأجابهم الرازي بأن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئا أصغر من العرش، وذلك محال باتفاق أهل الإسلام لأن العرش أكبر المخلوقات في السماء والأرض. ولأنه تعالى قال: قُلْ: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ: لِلَّهِ [الأنعام ٦/ ١٢] فوجب صرف الآية عن ظاهرها إلى التأويل.
وللتأويل وجوه أولاها: تقدير الآية: أأمنتم من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال:
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام ٦/ ٣] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين «١».
٢- إن الله تعالى هو الذي أنعم على عباده بتذليل الأرض، وجعلها سهلة للاستقرار عليها، وامتن عليهم، فأباح لهم السير في نواحيها وأقطارها وآكامها وجبالها بحثا عن الرزق وللاتجار والتكسب، وأذن لهم بالأكل مما أحله لهم، ثم هم في النهاية مرجعهم إلى الله، فإن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا، قادر على أن يبعثهم وينشرهم من قبورهم أحياء.
٣- إن الله عز وجل هو القادر أيضا على تعذيب الكفار بإرسال حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وحين وقوع العذاب يعلمون كيف إنذار الله بالعذاب أنه حق.
٥- من البراهين الدالة على قدرته تعالى: أنه كما ذلّل الأرض للإنسان، ذلل الهواء للطيور، وما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل، وهو عليم بصير بكل شيء وبما يصلح كل شيء من مخلوقاته.
توبيخ المشركين على عبادة الأصنام وإثبات قدرة الله واختصاصه بعلم البعث
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٧]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧)
الإعراب:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أم: حرف عطف، ومن: في موضع رفع بالابتداء، وهذَا: مبتدأ ثان، والَّذِي: خبره. وهُوَ جُنْدٌ لَكُمْ:
صلته. ويَنْصُرُكُمْ: جملة فعلية في موضع رفع صفة ل جُنْدٌ. والجملة من المبتدأ الثاني
أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا.. خبر من محذوف دل عليه خبر (من) في الجملة السابقة وهو أهدى.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قَلِيلًا: نعت لمصدر محذوف، وما: زائدة، وتَشْكُرُونَ: مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكرا قليلا.
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ هذَا: في موضع رفع بالابتداء، والْوَعْدُ: صفة له، أو بدل، ومَتى: خبره، وفيه ضمير يعود على الْوَعْدُ.
البلاغة:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي استفهام إنكار.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة تمثيلية، مثّل المؤمن بمن يمشي سويا على صراط مستقيم، ومثّل الكافر بمن يمشي مكبا على وجهه إلى طريق جهنم.
غُرُورٍ، نُفُورٍ سجع مرصع لمراعاة رؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَمَّنْ هذَا أي من هذا. جُنْدٌ لَكُمْ أعوان لكم. يَنْصُرُكُمْ يدفع العذاب عنكم.
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي غيره يدفع عنكم عذابه، أي لا ناصر لكم. إِنِ الْكافِرُونَ أي ما الكافرون. إِلَّا فِي غُرُورٍ غرّهم الشيطان بأن العذاب لا ينزل بهم، والمراد أنه لا معتمد لهم.
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ من هذا الذي يرزقكم غير الله؟ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ إن منع عنكم رزقه، بإمساك المطر وسائر أسباب المعيشة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره فمن يرزقكم أي لا رازق لكم غيره. لَجُّوا تمادوا واستمروا. فِي عُتُوٍّ أي تكبر وعناد عن قبول الحق. وَنُفُورٍ إعراض وتباعد عن الحق.
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ واقعا على وجهه من حين لآخر. سَوِيًّا معتدلا منتصب القامة.
عَلى صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ قويم مستوي الأجزاء أو الجهة، والمراد تمثيل المؤمن المتدين والمشرك الكافر.
أَنْشَأَكُمْ خلقكم. وَالْأَفْئِدَةَ القلوب والعقول لتتفكروا وتعتبروا.
مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر أو إيقاع العذاب من الخسف والحاصب. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه أيها النبي والمؤمنون به. إِنَّمَا الْعِلْمُ العلم بوقته وبمجيئه. عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه غيره. نَذِيرٌ مُبِينٌ رسول منذر بيّن الإنذار.
فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا الوعد الموعود به. زُلْفَةً أي ذا زلفة، أي قريبا منهم. سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اسودّت وعلتها الكآبة وساءتها رؤية العذاب. وَقِيلَ قال لهم الخزنة.
هذَا العذاب. تَدَّعُونَ تطلبون وتستعجلون استهزاء واستنكارا. وهذه حكاية حال ستأتي، عبر عنها بلفظ الماضي للدلالة على تحقق وقوعها.
المناسبة:
بعد أن أورد الله تعالى البرهان الأول على كمال قدرته وهو تمكين الطيور من الطيران، وبّخ المشركين على عبادة الأصنام، وردّ على اعتقادهم شيئين أو أمرين: وهما القوة في الأعوان، وجلب الخير من الأصنام، ثم أورد تعالى برهانين آخرين على كمال قدرته: وهما خلق الناس وحواسهم، وتكاثر الخلق واستمرارهم وتوزيعهم في الأرض ثم حشرهم إليه. ثم ذكر شيئين قالهما الكفار لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما أمره ربه بتخويفهم بعذاب الله وهما مطالبته بتعيين وقت العذاب، ودعاؤهم عليه وعلى المؤمنين بالهلاك، وهذا الأخير موضع الفقرة التالية.
فتكون البراهين الثلاثة على كمال قدرة الله هي الاستدلال أولا بأحوال الطيور من الحيوانات، ثم الاستدلال بصفات الإنسان وهي السمع والبصر والعقل وحدوث ذاته، ثم الاستدلال بضمان تكاثر الخلق وحفظ النوع الإنساني وتوزيعه في أنحاء الأرض والحشر يوم القيامة.
التفسير والبيان:
يرد الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره، يبتغون عندهم النصر
١- أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ، إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي بل من هذا الجند أو العون الذي يعينكم ويمنعكم من عذاب الله إن أراد بكم سوءا؟! الواقع أنه ليس لكم من دون الله من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره، ولهذا فإن الكافرين هم في خداع وغرور عظيم من جهة الشيطان، غرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
والتعبير بقوله: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إشارة إلى أن بقاء الناس في الأرض مع كفرهم وظلمهم هو برحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء.
والآية رد على الكفار الذين كانوا يمتنعون من الإيمان، ويعتمدون في زعمهم واعتقادهم المخطئ على القوة من جهة الإخوة والأعوان، مخبرا إياهم أنه لا ناصر لهم سوى الله سبحانه.
ثم رد الله تعالى على ادعائهم وجود رازق غير الله، وأن الأصنام مصدر جميع الخيرات لهم، ودفع كل الآفات عنهم، فقال:
٢- أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي بل من هذا الذي إذا منع الله عنكم رزقه، رزقكم بعده بالأمطار وغيرها؟
والمعنى أنه لا أحد يعطي ويمنع، ويرزق وينصر إلا الله عز وجل، وحده لا شريك له، وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره، لذا وصفهم تعالى بقوله: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أي بل تمادوا واستمروا في عناد واستكبار عن الحق، ونفور عنه، وتابعوا طريقهم في طغيانهم وإفكهم وضلالهم، ولم يعتبروا ولم يتفكروا.
فدلت الآيتان على أنه لا ناصر ينصر من عذاب الله، ولا رازق يرزق غير الله إن حجب رزقه عن مخلوقاته.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى، أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ أرأيتم حال المؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبّا على وجهه، أي يمشي متعثرا في كل وقت، منحنيا غير مستو، لا يدري أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل هو تائه حائر ضال.
أهذا أهدى أم ذلك المؤمن الذي مثله كمن يسير معتدلا ناظرا أمامه على طريق مستو، لا اعوجاج به ولا انحراف فيه، فهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة، سواء في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا إذ يسير على منهج الله يكون على هدى وبصيرة، وفي الآخرة يحشر على طريق مستقيم يؤدي به إلى الجنة. وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سويا على صراط مستقيم أهدى.
ثم ذكر الله تعالى البرهان الثاني الدال على كمال قدرته قائلا:
قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن الله ربكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ به، وحاسة البصر لنظر بدائع خلق الله، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات الله وإدراك حقائق الأشياء، ولكن قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره، وترك زواجره، وفيما خلقت لأجله من الخير، وذلك هو الشكر الحقيقي لهذه الطاقات، لا مجرد ترداد الشكر باللسان، وملازمة العصيان لأن شكر نعمة الله تعالى: هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة الله، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا.
وإنما خصت هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم.
ثم ذكر الله تعالى البرهان الثالث على كمال قدرته، فقال:
قُلْ: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي وقل لهم أيضا: إن الله هو خلقكم وبثكم ووزعكم في أنحاء الأرض، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم، واختلاف ألوانكم وأشكالكم، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، فهو يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء.
وبعد أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بتخويف الكفار بعذاب الله، ذكر مقالة الكفار ومطالبتهم بتعيين وقت البعث استهزاء واستنكارا، فقال:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون لمحمد والمؤمنين تهكما واستهزاء: متى يقع ما تعدنا به من القيامة والحشر والعذاب والنار في الآخرة، والخسف والحاصب في الدنيا، إن كنتم يا محمد والمؤمنون به صادقين فيما تدعونه؟ فأخبرونا به، أو فبيّنوه لنا.
فأجابهم الله بقوله:
قُلْ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قل لهم أيها النبي:
إنما علم ذلك عند الله، فلا يعلم وقت الساعة والعذاب على التعيين إلا الله عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة، فاحذروه، وإنما أنا منذر لكم، أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم، فعليّ البلاغ وقد أديته لكم.
ثم وصف تعالى حال أولئك الكفار عند رؤية العذاب، فقال:
ونظير الآية: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزمر ٣٩/ ٤٧- ٤٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- لا ناصر ولا رازق للمؤمن والكافر في الحقيقة والواقع إلا الله عز وجل، ولكن الكافرين في غرور من الشياطين تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب، وفي تماد واستمرار في طغيانهم وضلالهم ونفورهم عن الحق.
٢- مثل الكافر في ضلاله وحيرته كالرجل المنكّس الرأس الذي لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، والذي لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه، ومثل المؤمن في هدايته وتبصره كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المستقيم المهتدي له. ولا شك بأن الثاني أهدى من الأول.
٣- هناك براهين ثلاثة على كمال قدرة الله تعالى: وهي تمكين الطيور من الطيران في الهواء، وخلق الإنسان وتزويده بطاقات السمع والبصر والفؤاد أو العقل، وخلق الناس موزعين مفرقين على ظهر الأرض ثم حشر الناس يوم القيامة، لمجازاة كلّ بعمله لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة.
٥- طالب الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله بتعيين الوقت الموعود به استهزاء وإنكارا.
٦- الجواب عن تساؤلهم واستعجالهم: أن علم وقت قيام الساعة عند الله وحده، فلا يعلمه غيره. وما مهمة الرسول إلا البلاغ المبين والإنذار والتخويف البيّن من العذاب.
دعاء كفار مكة على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالهلاك
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
الإعراب:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ.. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ إنما جاءت الفاء في قوله: فَمَنْ يُجِيرُ جوابا للجملة لأن معنى أَرَأَيْتُمْ انتبهوا، وتقديره: انتبهوا فمن يجير، كما تقول: اجلس فزيد جالس، وليست جوابا للشرط. وجواب الشرط ما دل عليه أَرَأَيْتُمْ. ويجوز أن تكون الفاء زائدة، ويكون الاستفهام قائما مقام مفعول. أَرَأَيْتُمْ مثل: أرأيت زيدا ما صنع. وهكذا الكلام على الفاء في قوله تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ. ومنهم من قال: الفاء جواب الشرط.
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا، وهو خبر أَصْبَحَ. وقوله: مَعِينٍ إما فعيل من (معن) الماء: إذا كثر، فتكون الميم أصلية، أو يكون مفعولا من (العين) وأصله (معيون) فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فبقيت الياء ساكنة، والواو ساكنة، فحذفت الواو لسكونها وسكون ما قبلها، وكسر ما قبل الياء مناسبة لها لأنه ليس في كلامهم ياء قبلها ضمة.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. أَهْلَكَنِيَ أماتني. وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين. أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا. فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي لا ينجيهم أحد من العذاب، ويُجِيرُ ينجي أو يمنع. غَوْراً غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء ونحوها. مَعِينٍ جار كثير، سهل التناول. والمراد: لا يأتي به إلا الله تعالى، فكيف تنكرون أن يبعثكم؟! ويستحب أن يقول القارئ عقب قوله مَعِينٍ: الله رب العالمين، كما ورد في الحديث.
سبب النزول:
روي أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، فنزلت الآية.
المناسبة:
هذا هو الأمر الثاني الذي حكاه الله عن الكفار بعد تخويفهم بعذاب الله، فطالبوا أولا بتعيين وقت الحشر والبعث والعذاب، ثم دعوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك، كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور ٥٢/ ٣٠] وقال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح ٤٨/ ١٢].
التفسير والبيان:
أجاب الحق سبحانه وتعالى عن دعاء الكافرين بهلاك النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من وجهين:
الوجه الأول- قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الجاحدين لنعمه: أخبروني عن أي فائدة أو منفعة لكم، أو راحة فيما إذا أهلكني الله بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل، أنا ومن معي من المؤمنين، فلو فرض أنه وقع بنا
والمراد بالآية تنبيه الكفار وحثهم على طلب النجاة والإنقاذ بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله بالإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث، وإعلامهم بأنه لا ينفعهم وقوع ما يتمنون للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من العذاب والنكال، فسواء عذبهم الله أو رحمهم، فلا مناص لهم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بهم.
الوجه الثاني- قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي قل لهم: إنه الله الرحمن الذي آمنا به وحده، لا نشرك به شيئا، وعليه توكلنا في جميع أمورنا، لا على غيره. والتوكل: تفويض الأمور إليه عز وجل، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود ١١/ ١٢٣]. ولهذا قال تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ستدركون من هو في خطأ واضح منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال. وإذا كان هذا حالهم فكيف يقبل الله دعاءهم على المؤمنين؟
ثم ذكر الله تعالى الدليل على وجوب التوكل عليه لا على غيره، فقال مظهرا الرحمة في خلقه:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي قل لهم يا محمد: أخبروني إن صار ماؤكم الذي جعله الله لكم في العيون والآبار والأنهار لمنافعكم المتعددة غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل بحيث لا ينال بالدلاء وغيرها، فمن الذي يأتيكم بماء كثير جار لا ينقطع، أي لا يأتيكم به أحد إلا الله تعالى، وذلك بالأمطار والثلوج والأنهار، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض لتحقيق حاجة الناس قلة وكثرة.
فإذا كان لا بد وأن يقولوا: هو الله، فيقال لهم حينئذ: فلم لا تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ والآية دليل على وجوب الاعتماد على الله تعالى في كل حاجة، مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته، وإشارة إلى أن الفتوح العقلي لا يتيسر إلا بإعانة الله تعالى.
ونظير الآية: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة ٥٦/ ٦٨- ٦٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لا فائدة ولا جدوى من دعاء الكفار على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لأنه لا يستجاب دعاؤهم، ولأنه إن مات المؤمنون أو رحموا فأخر الله تعالى آجالهم، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم؟ فلا حاجة بهم إلى توقع السوء وانتظاره بمن آمنوا، ولا إلى استعجال قيام الساعة، وما عليهم لتخليص نفوسهم من العذاب إلا إعلان الإيمان والإقرار بالتوحيد والنبوة والبعث.
٢- يجب الاعتماد والتوكل على الله تعالى في كل حاجة، بعد اتخاذ الأسباب والوسائل المقدورة للبشر، وشأن المؤمنين أن يتكلوا على الله سبحانه، أما الكفار فيتكلون على رجالهم وأموالهم.
٣- إن الله تعالى هو القادر على إمداد خلقه بالأرزاق والأمطار والمياه النابعة، ولا أحد غير الله عز وجل يقدر على ذلك، والله برحمته وفضله ومنّه وكرمه يمدّ عباده بما يحتاجون، وإن كفروا وجحدوا به.
وهذا من الإعجاز.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القلممكيّة، وهي اثنتان وخمسون آية.
تسميتها:
سميت سورة القلم لافتتاحها بما أقسم الله تعالى به وهو ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ وأقسم بالقلم تعظيما له لما له في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف، كما قال صاحب الكشاف. والمراد بالقلم عند الأكثرين: الجنس، أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض.
وقيل: سورة ن.
مناسبتها لما قبلها:
هناك وجهان لتعلق السورة بما قبلها:
١- ذكر الله تعالى في آخر سورة تبارك الملك تهديد المشركين بتغوير الماء، وذكر في هذه السورة دليلا على ذلك وهو إذهاب ثمر البستان في ليلية بطائف طاف عليه، وهو نار من السماء أحرقته، وهم نائمون، فلم يجدوا له أثرا.
٢- ذكر الله تعالى في سورة الملك أدلة قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأثبت البعث، وهدد المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وحثهم على الإيمان
ما اشتملت عليه السورة:
عنيت هذه السورة المكية كسابقتها بأصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وهي هنا إثبات النبوة والرسالة، والبعث والآخرة، وبيان مصير المسلمين والمجرمين في القيامة.
بدئت السورة بالقسم بالقلم تعظيما له لنفي تهم المشركين ومزاعمهم الباطلة، ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخلق العظيم: ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ إلى قوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وأردفت ذلك ببيان سوء أخلاق بعض الكفار وافترائهم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديدهم بما أعدّ الله لهم من العذاب الأليم: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ إلى قوله:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ.
ثم ضربت المثل لكفار مكة بأصحاب الجنة (البستان) بإحراقه وإتلافه، بسبب كفرهم وجحودهم نعمة الله، وعزمهم على منع حقوق الفقراء والمساكين:
إِنَّا بَلَوْناهُمْ.. إلى قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وقارنت بين المؤمنين والمجرمين، ووبخت المشركين على أحكامهم الفاسدة، وفنّدت دعاويهم، وأقامت الحجج عليهم، وأبانت أحوالهم في الآخرة وموقفهم المخزي: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ.. إلى قوله: وَهُمْ سالِمُونَ.
ثم هددت المشركين المكذبين بالقرآن: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ...