تفسير سورة الأعراف

اللباب
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الأعراف
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- : إنها مكية. ١
وقال قتادة : مكية غير قول [ الله ] تعالى :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة ﴾ [ الآية ١٦٣ ] إلى قوله –عز وجل- " يفسقون " ثمان آيات٢ وهي مائتان وست آيات، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف.
١ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/١٢٥) وعزاه لابن الضريس والنحاس في "ناسخه" وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/١٢٥) وعزاه لأبي الشيخ وابن المنذر عن قتادة..

قال ابن عباس - رضي اللَّهُ عنهما -: إنها مكية. وقال قتادة: مكية غير قول [الله] تعالى: ﴿وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة﴾ [الآية: ١٦٣] إلى قوله - عز وجل -: " يفسقون " ثمان آيات وهي مائتان وست آيات، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «آلمص: أنا اللَّهُ أَفَصِّلُ»، وعنه «أنا اللَّهُ أعلمُ وأفَصِّلُ». وقد تقدَّم الكلامُ على الأحْرُفِ المقطَّعَة في أوَّلِ الكتابِ.
وقال السُّدِّيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «آلمص» على هجاءِ قولنا في أسماء اللَّه «سبحان المصورُ».
قال القَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس حَمْلُ هذا اللَّفْظِ على قولنا: أنا الله أفصل أولى من [حمله] على قوله: «أنَّا اللَّهُ أصْلِحُ»، [أنا الله أمتحن، أنا الله أملك «؛ لأنَّهُ إن كانت العبرةُ بحرفِ الصَّادِ فهو موجودٌ في قوله: أنّا اللَّهُ أصْلِحُ،] وإن كانت العبرةُ بحرف الميم فكما أنَّهُ موجودٌ في العلم فهو أيضاً موجود في الملك، والامتحان، فكان حَمْلُ قولنا»
3
آلمص «على هذا المعنى بِعَيْنِهِ محضُ التَّحَكُّم، وأيضاً فإنْ جاء تفسيرُ الألفاظِ بناءً على ما فيها من الحروفِ من غير أنْ تكون تِلْكَ اللفظَةُ موضوعة في اللُّغَةِ لذلِكَ المَعْنَى؛ انْفَتَحَتْ طريقةُ البَاطنيّة في تفسير سائرِ [ألفاظ] القرآنِ الكريمِ بما يُشَكِلُ هذا الطريق.
4
وأمَّا قولُ بعضهم: إنَّهُ من أسماء اللَّهِ - تبارك وتعالى - فأبعدُ؛ لأنه ليس جعله اسْماً للَّه أولى من جعله اسماً لبعض رُسُلِهِ من الملائِكَةِ، أو الأنبياءِ - عليهم، وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصَّلاة والسَّلام -، ولأن الاسمَ إنَّمَا يَصيرُ للمسمَّى بواسِطَةِ الوَضْعِ والاصطلاح وذلك مفقودٌ هُنَا، بل الحقُّ أنَّ قول:» آلمص «اسم لقب لهذه السُّورة الكريمة، وأسماءُ الألقابِ لا تفيد ههنا فائدة في المسمَّيات، بل هي قائِمَةٌ مقامَ الإرشاداتِ، وللَّهِ - تبارك وتعالى - سبحانهُ أن يسمِّي هذه السورةَ بقوله:» آلمص «كما أنَّ الواحد مِنَّا إذا حدث له ولدٌ فإنَّهُ يسمِّيه بمحمِّدٍ.
قوله:»
كِتَابٌ «: يجوز أن يكون خبراً عن الأحْرُف قَبْلَهُ، وأن يكون خبراً للمبتدأ مُضْمِرٍ، أي: هو كتابٌ، كذا قدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
ويجوز أن يكون كتابٌ مبتدأ و»
أنْزِلَ «صفتُهُ و» فَلاَ تَكُنْ «خبره، والفاءُ زائدةٌ على رأي الأخْفَشَ أي: كتابٌ موصوفٌ بالإنزالِ إليكَ، لا يكنْ في صدرك حرجٌ منهُ، وهو بعيدٌ جدّاً. والقائمُ مقام الفاعل في» أنْزِلَ «ضميرٌ عائد على الكتابِ، ولا يجوز أن يكون الجارَّ؛ لئلا تخلو الصفةُ من عائدٍ.
والمرادُ بالكتابِ القرآن الكريم.
فإن قيل: الدَّلِيلُ الذي دَلَّ على صِحَّةِ نُبُوَّةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أن اللَّه - تبارك وتعالى - جَدُّهُ لا إله إلاَّ هو - خصَّهُ بإنزالِ هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نَعْرِف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كَوْنَ هذه السورة نازلةً من عند الله - تبارك وتعالى - بقولِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ؟
فالجوابُ: نَحْنُ نعلم بمحضِ العَقْل أنَّ هذه السورة الكريمة كِتَابٌ أنْزِلَ إليه من عِنْد اللَّهِ؛ لأنه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام ما تَتَلْمَذَ لأسْتَاذٍ، ولا تعلم من مُعَلِّمٍ، ولا طَالَعَ كِتَاباً، ولم يخالطِ العلماء والشُّعراءَ وَأهلَ الأخْبَارِ، وانقضى من عمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرْبَعُونَ سَنَةً ولم يتفق له شيءٌ من هذه الأحوالِ، ثم بعد الأربعينَ ظهر له هذا الكتابُ العزيزُ المشتملُ على علوم الأولينَ والأخرينَ، والعقلُ يشهدُ بأنَّ هذا لا يحصل إلا بطريقِ الوَحْي من عند اللَّه - تبارَك وتعالى -؛ فثبت بهذا الدَّليل العقلي أن هذا الكتاب أنزل على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عند ربه وإلهه عَزَّ وَجَلَّ.

فصل في دحض شبهة خلق القرآن


احتج القائلون بخلق القرآن الكريم بقوله: ﴿كِتَابُ أنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ٢]، فوصف بكونه منزلاً
5
والإنْزَالُ يقتضي الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، وذلك لا يليقُ بالقَدِيم فَدَل على أنَّهُ محدث.
والجوابُ أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [هو] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثةً مخلوقةً.
فإن قيل: هَبْ أنَّ المرادَ منه الحروف إلاَّ أنَّه الحروفَ أعْرَاضٌ غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالِيةً يُشْعِرُ بعدمِ بقائِهَا، وإذا كان كذلك العَرَضُ الذي لا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كيف يعقل وصفه بالنزول؟
فالجوابُ: أنَّهُ سبحانه وتعالى أحْدَثَ هذه الرُّقُومَ والنُّقُوشَ في اللَّوْحِ [المَحْفُوظِ]، ثم أنَّ الملك يطالعُ تلك النُّقوش، وينزِّل من السَّماءِ إلى الأرض ويعلِّم محمداً - صلوات اللَّهِ وسلامه عليه - تلك الحروفَ والكلماتِ، فكان المرادُ بكَوْنِ تلك الحروفِ نازلةً هو أنَّ مبلغها نزل من السَّمَاءِ إلى الأرْضِ.

فصل في تأويل المكانية


الَّذين أثبتوا للَّه مَكَاناً تمسَّكُوا بهذه الآيةِ فقالوا: إنَّ كلمة «مِنْ» لابتداءِ الغَايَةِ، وكلمة «إلَى» لانتهاء الغاية، فقوله: «أنْزِلَ إليْكَ» يقتضي حصول مسافةٍ مبدؤهَا هو اللَّهُ - تبارك وتعالى - وغياتها هو مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى مختص بجهة فوق؛ لأن النُّزُولَ هو الانتقالُ من فوق إلى أسفل.
والجوابُ: لمَّا ثبت بالدَّلائل القاطِعَةِ أن المكان والجهة على اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى محال وجب حملُهُ على التَّأويلِ وهو أنَّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل.
6
قال مُجَاهِدٌ: «شكٌّ، والخِطَابُ للرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرادُ به الأمة، ويُسَمَّى الشكُّ حَرَجاً؛ لأن الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ كما أن المتيقن منشرح القَلْبِ».
وقال أبُو العالية رَحِمَهُ اللَّهُ عليه، حَرَجٌ: ضِيقٌ، والمعنى: لا يَضِيقُ صدركَ بسبب أن يكذِّبُوكَ في التَّبْلِيعِ.
قال الكيا: فظاهرُهُ النَّهْي ومعناه: نَفْيُ الحَرَج عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لا يضيقُ صَدْرُكَ ألاَّ
6
يؤمنوا به فإنَّما عليك منه البلاغ وليس عليك سوى الإنْذَارِ به، ومثله قوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣].
قوله: «مِنْهُ» متعلق ب «حَرَجٌ». و «مِنْ» سببيَّةٌ أي حرج بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّهُ صفةٌ له أي: حَرَجٌ كَائِنٌ وصادر منه، والضَّمِيرُ في «مِنْهُ» يجوز ن يعود على الكِتابِ وهو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يعود على الإنزالِ المدلول عليه ب «أُنْزِلَ»، أو عَلى الإنذارِ، أو على التَّبْليغِ المدلُولِ عليهما بسياق الكلامِ، أو على التَّكْذِيبِ الَّذِي تضمنه المعنى، والنهي في الصُّورةِ للحَرَج، والمرادُ الصَّأدِرُ منه مبالغةً في النَّهْيِ عن ذلك كأنَّهُ قيل: لا تتعاطى أسباباً ينشأ عنها حرج، وهو من باب «لا أرَيَنَّكَ ههنا»، النهي متوجه على المتكلم والمراد به المخاطب كأنه قال: لا تكن بحضرتي فأراك ومثله: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ [طه: ١٦].
قوله: «لتُنْذِرَ بِهِ» في متعلق هذا «اللاَّم» ثلاثة أوجه.
أحده: أنَّها متعلِّقة ب «أنْزلَ» أي: أنْزِلَ إليك للإنذار، وهذا قول الفرَّاء قال: اللاَّم في «لِتُنْذِرَ» منظومٌ بقوله: «أُنْزِلَ» على التَّقْديمِ والتَّأخِير، على تقدير: كتاب «أُنْزِلَ إليك لِتُنْذِرَ بِهِ فلا يَكُنْ». وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ والحُوفِيُّ، وأبُو البقاءِ على ذلك، وعلى هذا تَكُونُ جُمْلَةُ النَّهْي معترِضَةً بَيْنَ العِلَّة ومعلولها، وهو الذي عناه الفرَّاءُ بقوله: «على التَّقْدِيم والتَّأخير».
والثاني: أنَّ اللامَ متعلِّقةٌ بما تعلَّقَ به خَبَرُ «الكَوْنِ» إذ التقدير: فلا يكن حَرَجٌ مستقراً في صَدْرِكَ لأجْلِ الإنْذَارِ. كذا قاله أبو حيَّان عن الأنْبَارِيِّ، فإنَّهُ قال: «وقال ابْنُ الأنْبَارِيّ: التقدير: فلا يكن في صدرك حرجٌ منه كي تُنْذِرَ بِهِ فجعله متعلقاً بما تعلَّق به» في صَدْرِكَ «، وكذا علَّقه به صاحبُ» النَّظْمِ «، فعلى هذا لا تكون الحملة معترضة».
قال شهابُ الدِّين: الذي نقله الواحديُّ عن نصِّ ابْنِ الأنباريِّ في ذلك أن «اللاَّمَ» متعلِّقةٌ ب «الكون»، وعن صاحب «النَّظْمِ» أنَّ اللاَّمَ بمعنى «أنْ» وسنأتي بنصَّيْهما إن شاء الله تعالى، فيجوز أن يكون لهما كلامان.
الثالث: أنَّها متعلِّقةٌ بنفس الكَوْنِ، وهو مَذْهَبُ ابن الأنْبَارِيِّ والزَّمَخْشَرِيِّ، وصاحب «النَّظْمِ» على ما نقله أبُو حيَّان.
قال أبُو بَكْرِ بْن الأنْبَارِيِّ: ويجوزُ أن تكون اللاَّمُ صلةً للكون على معنى: «فلا يَكُن
7
في صَدْرِكَ شيء لتنذر، كما يقول الرجُلُ للرَّجُل لا تكن ظالماً لتقضي صاحبك دينه فتحمل لام كي على الكون».
وقال الزَّمَخْشَريُّ: فإن قُلْتَ: بِمَ تعلَّق به «لِتُنْذِرُ» ؟ قُلْتُ: ب «أُنزل» أي: أنزل لإنذارك به، أو بالنَّهي؛ لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنَّهُ من عند الله شجعه اليقين على الإنْذَارِ.
قال أبُو حيَّان: «فقوله: بالنَّهْي ظاهره أنَّهُ يتعلَّقُ بفعل النهي فيكونُ متعلقاً بقوله:» فَلاَ يَكُنْ «، وكان في تعليق المجرور والعمل في الظَّرْفِ فيه خلاف، وَمَبْنَاهُ على أنَّ» كان «النَّاقِصَة هل تدل على حدثٍ أم لا؟
فمن قال: إنَّهَا تدلُّ على الحدثِ جوَّزَ ذلك، ومن قال: لا تَدُلُّ عليه منعه»
.
قال شهابُ الدِّين: الزَّمَخْشَرِيُّ مسبوق إلى هذا الوجه، بل ليس في عبارته ما يدلُّ على أنَّهُ متعلق ب «يَكُونُ» بل قال «بالنَّهْي» فقد يريدُ بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصَّحيحُ أنَّ الأفعالَ النَّاقِصَةَ كلَّهَا لها دلالةٌ على الحدثِ إلاَّ «لَيْسَ»، وقد أقمت على ذلك أدلَّةً وأتيتُ من أقوالِ النَّاسِ بما يَشْهَدُ لصحَّةِ ذلك كقولِ سيبويه، وغيره في غير هذا المَوْضُوعِ.
وقال صاحبُ «النَّظْم» : وفيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكون اللاَّمُ بمعنى أنْ والمعنى: لا يضيقُ صَدْرُكَ ولا يَضْعُفْ [عن] أن تُنْذِرَ به، والعربُ تضعُ هذه اللام في موضع «أنْ» كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾ [التوبة: ٣٢] وفي موضع آخر: ﴿لِيُطْفِئُواْ﴾ [الصف: ٨] فهما بمعنى واحد.
قال شهابُ الدِّين: هذا قولٌ ساقطٌ جدّاً، كيف يكون حرفُ مختص بالأفعال يقع موضع آخر مختص بالسماء؟
قوله: «وَذِكْرَى» يجوزُ أن يكون في محلِّ رَفْعٍ، أو نَصْبٍ، أو جَرٍّ.
فالرَّفْعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطف على «كِتَابٌ» أي: كتابٌ وذكرى أي: تَذْكِيرٌ، فهي اسم مَصْدَرٍ وهذا قول الفرَّاءِ.
والثاني من وجهي الرَّفْع: أنَّهَا خبر مُبتدأ مُضْمرٍ أي: هو ذكرى، وهذا قولُ الزَّجَّاج.
والنَّصْبُ من ثلاثة أوْجُهٍ:
8
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على المصدر بفعل من لَفْظِهِ تَقْديرُهُ: وتذكر ذكرى أي تَذْكِيراً.
الثاني: [أنها] في محلِّ نَصْبٍ نَسَقاً على مَوْضِع «لِتُنْذِرَ» فإن موضعه نصب، فيكونُ إذْ ذاكَ معطُوفاً على المَعْنَى، وهذا كما تعطفُ الحال الصريحة على الحالِ المؤوَّلة كقوله تعالى:
﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾ [يونس: ١٢]، ويكونُ حينئذٍ مفعولاً من أجْلِهِ كما نقُولُ: «جِئْتُكَ لِتُكْرمَنِي وإحْسَاناً إليَّ».
الثالث: قال أبُو البقاء: - وبه بَدَأ -: «إنَّها حال من الضمير في» أنزل «وما بينهما مُعْتَرِضٌ». وهذا سَهْوٌ فإنَّ «الواو» مانعة من ذلك، وكيف تَدْخُلُ الواوُ على حالٍ صريحةٍ؟ والجرُّ من وجهين أيضاً.
أحدهما: العطفُ على المَصْدَرِ [المُنْسَبِك من «أنْ» المقدَّرة بعد لام كي، والفعل، والتَّقديرُ: للإنْذَارِ والتَّذْكِيرِ.
والثاني: العطفُ] على الضَّميرِ في «بِهِ»، وهذا قول الكُوفيِّين، والذي حسَّنَهُ كون «ذِكْرَى» في تقدير حرفٍ مصدريٍّ - وهو «أنْ» - والفعل لو صرح ب «أنْ» لحسُنَ معها حذفُ حرفِ الجرِّ، فهو أحْسَنُ من «مررتُ بِكَ وَزَيْدٍ» إذ التَّقْديرُ: لأن تنذر به وبأن تُذَكِّر.
وقوله: «لِلمُؤمِنِيْنَ» يجوز أن تكون «اللاَّمُ» مزيدةً في المفعولِ به تقويةً له؛ لأنَّ العاملَ فَرْعٌ، والتقديرُ: وتذكِّرَ المُؤمنينَ.
ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذُوفٍ؛ لأنَّهُ صِفَةٌ ل «ذِكْرَى».

فصل في معنى الآية


قال ابْنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريدُ مَوْعِظَةً للمصدِّقين.
فإن قيل: لم قيَّد هذه الذِّكْرَى بالمؤمنين؟
فالجوابُ: هو نَظِيرُ قوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
قال ابْنُ الخَطيب: والبَحْثُ العقلِيُّ فيه أنَّ النُّفُوس البشريَّةَ على قِسْمَيْنِ: بَلِيدةٌ جَاهِلَةٌ بعِيدَةٌ عن عَالمِ الغَيْبِ غَريقَةٌ في طلب اللَّذَّاتِ الجُسْمَانِيَّةِ، ونفوسٌ شريقةٌ مشرقةٌ بأنوار الإلهيَّةِ، فبعثه الأنبياء في حق القسم الأول للإنْذَارِ والتَّخْوِيفِ فإنَّهُم لمَّا غرقوا في نومِ الغَفْلَةِ ورَقْدَةِ الجَهالةِ احْتَاجُوا إلى مُوقِظٍ يُقِظُهُمْ.
وأمَّا في حقِّ القسم الثَّانِي فتذكير وتنبيه؛ لأنه ربما غَشِيَهَا من غَوَاشِي عالم الجِسْمِ فيعرضُ لها نوعُ ذُهُولٍ وغَفْلَةٍ، فإذا سَمِعَتْ دعوةَ الأنبياء واتَّصل لها أنوارُ أرواحِ رُسُلَ
9
اللَّهِ؛ تَذكَّرَتْ مركزَهَا؛ فثبت أنَّهُ تعالى إنَّمَا أنزلَ هذا الكتاب على رَسُولِه؛ ليكونَ إنذاراً في حقِّ طائفةٍ، وذكرى في حقِّ طائفة أخْرَى.
10
لمَّا أُمر الرَّسولُ بالتَّبليغ، والإنذارِ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول.
قوله: «مِنْ ربِّكُمْ» يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية.
الثاني: أنْ يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية.
الثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ: إمّا من الموصول، وإمَّا من عائده القائم مقام الفاعل.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس


اتدلَّ نُفَاةُ القياسِ بقوله: ﴿اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ والمرادُ به، القرآنُ والسَّنُة، واستدلُّوا أيضاً بها على أن تخصيصَ عموم القرآن القياسِ لا يُجوزُ، لأنَّ عُمُوم القُرْآنِ
10
منزَّلٌ من عند الله، والله - تعالى - أوجبَ متابعتَهُ فوجب العمل بِعُمُومِ القرآن، ولمَّا وجب العمل به؛ امتنع العملُ بالقِيَاسِ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقَضُ.
وأجيبوا بأن قوله تعالى ﴿فاعتبروا﴾ [الحشر: ٢] يدلُّ على وجوب العمل بالقياس، فكان العمل بالقياس عملاً بإنزال.
فإن قيل: لو كان العمل بالقِيَاس عملاً بما أنزله اللَّهُ لكان تارك العمل بلا قياس كافراً؛ لقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ [المائدة: ٤٤] وحيث اجتمعت الأمَّةُ على عدمِ التَّكْفير؛ علمنا أنَّ العمل بالقياس ليس عملاً بما أنْزَلَ اللَّهُ.
وأجيبوا بأنَّ كون القياس حجَّةً ثبت بإجماع الصَّحابة والإجماع دليل قَاطِعٌ، وما ذكرتمُوهُ تمسُّكٌ بالعُمُومِ، وهو دليل مَظْنُونٌ والقَاطِعُ أولى من المَظْنُونِ.
وأجَابَ نفاةُ القياسِ بأن كون الإجماع حجَّةً قاطِعَةً إنَّما ثبت بِعُمُومَاتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، والفرع لا يكون أقْوَى من الأصْلِ، وأجِيبُوا بأنَّ الآيَاتِ والأحاديث لما تعاضدت قويت.
قوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي: لا تَتَّخِذُوا غيره أوْلِيَاءَ تطيعونَهُم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
قوله: «مِنْ دُونِهِ» يجُوزُ أن يتعلق بالفعل قَبْلَهُ، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عَنْهُ إلى غيره من الشَّيَاطِينِ والكُهَّانِ.
والثاني: أن يتعلق بِمَحْذُوفٍ؛ لنه كان في الأصْلِ صفة ل «أولياء» فلمَّا تقدَّم نُصِبَ
11
حالاً، وإليه يميل تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال: «أي لا تتولَّوْا من دونه شياطين الإنس والجن؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع». والضَّمِيرُ في «دونه» يعود على «ربِّكُمْ» ولذلك قال الزَّمَخشريُّ «مِنْ دُونِ اللَّهِ»، ويجُوزُ أن يعود على «مَا» الموصُولةِ، وأن يعود على الكتابِ المُنَزَّل، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عنه إلى الكُتُبِ المَنْسُوخَةِ.
وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «ابَْغُوا» بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: «ولا تَبْتَغُوا» من الابتغاء أيضاً من قوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ آل عمران: ٨٥].
قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ﴾ قد تقدَّم نظيرُهُ في قوله: ﴿فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٨] وهو أنَّ «قَلِيلاً» نعت مصدر محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تذكرون، أوْ نعت ظرف زمانٍ مَحْذُوفٍ أيضاً أي: زماناً قَلِيلاً تذكَّرون، فالمصدرُ أو الظَّرْفُ منصوب بالفعل بعدهُ، و «مَا» مزيدةٌ للتَّوكيد، وهذا إعْرابٌ جليٌّ.
وقد أجَازَ الحُوفِيُّ أن تكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف لقوله: «ولا تَتَّبِعُوا» أي: ولا تَتَّبِعُوا من دونه أوْلِيَاءَ اتِّبَاعاً قليلاً، وهو ضعيف؛ لأنه يصيرُ مَفْهُومُهُ أنَّهم غير مَنْهيِّين عن اتِّبَاعِ الكَثيرِ، ولكِنَّهُ مَعْلُومٌ من جهة المَعْنَى، فلا مَفْهُوم لَهُ.
وحكى ابْنُ عطيَّة عن أبِي عَلِيٍّ أنَّ «مَا» مصدرية موصولة بالفِعْلِ بَعْدَها، واقْتَصَرَ على هذا القَدْر، ولا بُدَّ لَهُ من تَتِمَّة، فقال بعض الناس: ويكون «قَلِيلاً» نعت زمان محذوف، وذلك الزَّمَانُ المحذوف في محلِّ رفع خبر مقدّماً و «مَا» المصدريَّةُ، وما بَعْدَها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتَّقدِيرُ: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنَّهُم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحْيَانِ ونظيره: «زمناً قليلاً قيامك».
وقد قِيلَ: إنَّ «ما» هذه نَافِيَةٌ، وهو بعيد؛ لأن «ما» لا يَعْمَلُ ما بَعْدَهَا فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تَسْلِيم ذلك فيصيرُ المعنى: ما تذكرون قليلاً، وليس بِطَائِلٍ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] عند من جعلها نافية.
وهناك وَجْهٌ لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون «مَا» مصدريَّةٌ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب «قَلِيلاً» الذي هو خبر كان، اولتقدير: كانُوا قليلاً هُجُوعُهُم، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحَّةِ نصب «قليلاً بقوله:» وَلاَ تَتَّبِعُوا «حتى يجعل» ما تَذَكَّرُون «مرفوعاً به. ولا يجوز أَن يكون» قَلِيلاً «حالاً من فاعل» تَتَّبِعُوا «و» ما تَذَكَّرُونَ «مرفوعاً
12
به، إذْ يصيرُ المعنى: أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال قلَّة تذكرهم، وليس ذلك بمُرَادٍ.
وقرأ ابن عامر:» قَلِيلاً ما تَذكرُونَ «باليَاءِ تَارةً والتَّاءِ أخرى، وقرأ حَمْزَةُ والكِسَائِي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذَّالِ.
قال الواحِديُّ:»
تذكَّرُون «أصله» تتذَكَّرُونَ «فأدغمت تاء تفعل في الذَّال؛ لأنَّ التَّاء مهموسة والذَّال مجهورة، والمجهور أزيد صوتاً من المَهْمُوسِ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و» مَا «موصولة بالفِعْلِ، وهي معه بِمَنْزلَةِ المصْدَرِ فالمعنى: قَلِيلاً تَذَكُّرُكُمْ.
وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامر»
يَتَذكَّرُونَ «بياء وتاء فوجهها أنَّ هذا خطابٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: قَلِيلاً ما يتذكرون هؤلاء الَّذِينَ ذُكِّرُوا بها الخِطَابِ.
وأمَّا قراءةُ الأخَوَيْنِ، وحفص خفيفة الذَّالِ شدِيدَة الكَافِ، فقد حَذَفُوا التي أدْغَمَهَا الأوَّلُون، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الأنعام.
13
لمَا أُمر الرَّسولُ بالإنذار والتَّبليغ وأمر القَوْمُ بالقبُول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد.
وفي «كَمْ» وجهان:
أحدهما: أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و «مِنْ قَرْيَةٍ» تمييزٌ، والضمير في «أهْلَكْنَاهَا» عائد على معنى «كَمْ»، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير: وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا.
قال الزَّجَّاجُ: و «كَمْ» في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ؛ لأن قولك: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» أجود من قولك: «زَيْداً ضربتُهُ» بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل «أهْلَكْنَاهَا» صفة ل «قرية»، والخبر قوله: «فَجَاءَها بَأسُنَا» قال: وهو سَهْوٌ؛ لأن «الفَاءَ» تمنع من ذلك.
قال شهابُ الدِّين: ولو ادَّعى مدَّعٍ زيادَتَها على مذهب الأخفش لم تُقبل دَعْوَاهُ؛ لأن الأخفش إنَّمَا يَزِيدُهَا عند الاحتياج إلى زيادتها.
13
الثاني: أنَّهَا في موضع نَصْبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويقدَّرُ الفِعْلُ متأخَّراً عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام، والتَّقديرُ: وكم من قريةٍ أهلكناها [أهلكناها]، وإنَّمَا كان لها صدر الكلام لوَجْهَيْنِ:
أحدهما: مضارعتها ل «كم» الاستفهامية.
والثاني: أنَّهَا نقيضة «رُبَّ» ح لأنها للتكثير و «رُبَّ» للتَّقْلِيلِ فحُمل النقيضُ على نَقِيضهِ كما يحملون النظير على نظيره، ولا بد من حَذْفِ مُضافٍ في الكلام لقوله تعالى: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فاضطرَرْنَا إلى تَقْدير محذوفٍ؛ لأن البَأسَ لا يليق بالأهْلِ، ولقوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فعاد الضمير إلى أهل القرية، وأيضاً فلأن التَّحْذِيرَ لا يقع إلاَّ للمُكَلَّفينَ، وأيضاً والقِائِلَةُ لا تَلِيقُ إلاَّ بالأهْلِ.
ثم منهم مَنْ قدَّره قبل قرية أي: كم من أهْلِ قَريةٍ، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل «ها» في أهلكنَاهَا أي: أهْلَكْنَا أهلها، وهذا ليس بِشَيءٍ؛ لأن التَّقاديرَ إنَّمَا تكُونُ لأجل الحَاجَةِ، والحاجةُ لا تَدْعُو إلى تَقْديرِ هذا المُضَافِ في هَذَيْنِ الموضِعَيْنِ المذكُوريْنِ؛ لأن غهلاكَ القرْيَة يمكنُ أن يقعَ عليها نَفْسِهَا، فإن القُرى قد تُهْلَكُ بالخَسْفِ والهَدْمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوه، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله: «فَجَاءَهَا» لأجل عَوْدِ الضَّمير من قوله: «هُمْ قَائِلُونَ» عليه، فيقدَّرُ: وكم من قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءَ أهلها بأسنا.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: هل يقدَّرُ المُضَافُ الذي هو الأهل قبل القَرْيَةِ، أو قَبْلَ الضَّمير في «أهلكْنَاهَا».
قلتُ: إنَّمَا يُقدَّرُ المُضَافُ للحاجَةِ، ولا حَاجَةَ فإن القريَةَ تَهْلَكُ، كما يَهْلَكُ أهلها وإنَّما قَدَّرْنَاهُ قبل الضمير في «فَجَاءَهَا» لقوله: ﴿﴾ وَظَاهِر الآية: أنَّ مجيءَ البَأسِ بعد الإهلاكِ وعقيبة؛ لأنَّ الفاءَ تعطي ذلك لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البَأسِ، وبعدَهُ يقعُ الإهلاك.
فمن النُّحَاةِ من قالك الفاء تأتي بمعنى «الوَاوِ» فلا ترتب، وجعل من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضَعِيفٌ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أنَّهُ على حذف الإرادة أي: أرَدْنَا إهلاكها كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ [المائدة: ٦]، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ [النحل: ٩٨]، «إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [اللَّهَ] »، وقيل: حكمنا بِهَلاكِهَا.
الثاني: أنَّ معنى «أهْلَكْنَاهَا» أي: خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلاَكُهُم، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع. وثَمَّ أجوبة ضعيفة؛ منها: أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو: «تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه» فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما
14
أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ثم] قال: فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ، وهو: أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة، كقولك: «شتمني فأساء»، وأساءَ فَشَتَمَنِي، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ، فهذه ستَّةُ أقوال.
واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ، وأقيم المضافُ غليه مقامَهُ جاز لك اعتباران:
أحدهما: الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ.
والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه، وقد جُمع الأمرانِ هنا، فإنَّهُ لم يُراع المحذوفَ في قوله: «أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا» وراعاهُ في قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل «قَرْيَةٍ» ن أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير «فَجَاءَهَا» فإنَّهُ لم يراعِ إلاَّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ.
قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثةُ أوْجْهٍ:
أحدها: [أنَّهُ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر، يقال: بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً.
قال اللَّيْثُ: «البَيْتُوتَةُ» :«دخولُكَ في اللَّيْلِ» فقوله: «بَيَاتاً» أي: بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ.
وقال الوَاحِديُّ: قولهك «بَيَاتاً» أي: ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً، لولا أن يُقَالَ: أراد تَفْسِير المعنى.
قال الفرَّاءُ: يقالُ: بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً، وربَّمَا قالوا: بَيَاتاً، وقالوا: سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه.
قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُو﴾ هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال، و «أو» هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل: آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ. وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ.
قال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: لا يُقَالُ: جاءَ زيدٌ هو فارسٌ» بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ ؟
قلتُ: قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال: لو قلتَ: جاءني زيدٌ رَاجِلاً، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذِّكر قد عام على الأوَّل.
والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي
15
عطف؛ لأن واو الحال [هي] واو العطف استُعِيرَتُ للوصل، فقولك: «جاء زَيدٌ راجلاً أو هو فارس» كلامٌ فصيح وارد على حدِّه، وأمَّا «جاءني زَيْدٌ هو فارس» فخبيث.
قال أبو حيَّان: أما [بعضُ النَّحويين الذي أبهمه] الزمخشريُّ فهو الفرَّاءُ، وأما قول الزَّجَّاج: كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّلِ ففيه إبْهَامٌ وتعيينه أنَّهُ يمتنعُ دخولها في المثالِ الأوَّلِ [ويجوز في المثال] الثاني؛ فليس انتفاءُ الاحتياج على حدِّ سواء؛ لأنه في الأوِّل لامتناع الدُّخُولِ، وفي الثاني لكثرتِهِ لا لامتناعه.
قال شهابُ الدِّين: أمَّ امتناعُهَا في المثالِ الأوَّلِ؛ فلأن النَّحْويين نَصُّوا على أنَّ الجلمة الحاليَّة إذا دَخَلَ عليها حرفُ عطفٍ امتنع دخولُ واوِ الحالِ عليها، والعلَّةُ فيه المشَابَهَةُ اللَّفظيَّةُ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفةٌ، ثم قال أبُو حيَّان. وأمَّا قولُ الزمخشري فالصَّحيحُ إلى آخره، فتعليلُهُ ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عَطْفِ فيلزم من ذكرها اجتماعُ حَرْلإَي عَطْفٍ؛ لأنَّها لو كانت حرف عطفٍ للزم أن يكونَ ما قَبْلَهَا حالاً، حتى يعطف حالاً على حالٍ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكُونَ حالاً دليل على أنَّهَا ليست واو عطْفٍ، ولا لُحظ فيها معنى واوِ عَطْفٍ تقُولُ: «جاء زيدٌ، والشمسُ طالِعَةٌ» فجاءَ زَيْدٌ ليس بحالٍ فيعطف عليها جُمْلَة حالٍ، وإنَّمَا هذه الواوُ مغايرة لواو العَطْفِ بكل حالٍ، وهي قسمٌ من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليستْ فيه للعَطْفِ كما إذا قلت: «واللَّه لَيَخْرُجَنَّ».
قال شهابُ الدِّين: أبُو القَاسِم لم يدَّع في واو الحال أنَّها عاطفة، بل يدَّعِي أنَّ أصلها العَطْفَ، ويدلُّ على ذلك قوله: استُعِيرَتْ للوصول، فلو كانت عَاطِفَةً على حالِهَا لما قَالَ: اسْتَعِيرَتْ فَدَلَّ قوله ذلك على أنَّها خجرت عن العطف، واسْتُعْمِلَتْ لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امْتِنَاعِ مجامَعَتِهَا لعاطفٍ آخر.
وأمَّا تسمِيَتُهَا حرف عطف، فباعْتِبَارِ أصْلِهَا ونَظِيرُ ذلك أيضاً واو «مع» فإنَّهم نَصُّوا على أنَّ أصلها واوُ عَطْفٍ، ثمَّ استعملتْ في المعيَّةِ، فكذلك واوُ الحَالِن لامتناعِ أن يكُونَ أصْلُهَا واوَ العطف.
ثم قال أبُو حيَّان: «وأمّا قوله» فَخَبِيثٌ «فليس بِخَبِيثٍ؛ وذلك أنَّهُ بَنَاهُ على أنَّ الجلمة الحالِيَّة إذا كانت اسميَّةً، وفيها ضميرُ ذي الحَالِ فحذفُ الواوِ منها [شاذٌ] وتبع في ذلك الفرَّاء، وليس بِشَاذٍّ بل هو كثيرٌ في النَّظْمِ والنَّثْرِ.
قال شهابُ الدِّين: قد يبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عَكْفٍ الفرَّاءُ، وأبُو بَكْرٍ بْنُ الأنْبَارِيِّ.
16
قال الفرَّاءُ: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فيه واو مُضْمَرَةٌ، المعنى: أهلكناها فَجَاءَهَا بَأسُنَا بَيَاتاً أو هم قائلون فاستثقلوا نسقاً على أثَرِ نَسَقٍ، ولو قيل لكَانَ صواباً.
قلتُ: قد تقدَّم أنَّ الشَّيخَ نقل أنَّ الواوَ ممتنعةٌ في هذا المثال، ولم يَحكِ خِلافاً، وهذا قَوْلُ الفرَّاءِ: «ولو قيل لكان صواباً» مُصَرِّحُ بالخلاف له.
وقال أبُو بَكْرٍ: أضْمِرَتْ واوُ الحالِ لوُضُوحِ معناها كما تَقُولُ العرب: «لقيتُ عَبْدَ الله مُسْرعاً، أو هو يَرْكُضُ» فَيَحْذِفُونَ الواوَ لأمْنِهمُ اللَّبس، لأن الذِّكْرَ قد عَادَ على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ «أو» حرف عطف والوُ كَذِلَكَ، فاسْتَثْقَلُوا جمعاً بين حرفين من حروفِ العَطْفِ، فَحَذَفُوا الثَّانِي.
قال شهابُ الدِّين: فهذا تَصْرِيحٌ من هذين الإمَامَيْنِ بما ذكره أبُوا القَاسِم، وإنما ذكرتُ نص هذين الإمَامَيْنِ؛ لأعلم اطلاعه على اقوال النَّاسِ، وأنَّهُ لا يأتي بغير مُصْطَلحِ أهْلِ العلم كما يرميه به غير مرَّةٍ.
و «قَائِلثونَ» من القَيْلأُولَةِ. يقال: قَالَ يَقِيلُ [قَيْلُولَةً} فهو قَائِلٌ ك «بائع» والقيلُولَةُ: الرَّاحَةُ والدعَةُ في الحرِّ وسط النهار، وإن لم يكن معها نَوْمٌ.
وقال اللَّيث: هي نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ.
قال الأزْهَرِيُّ: «القيلولة: الرَّاحَةُ، وإن لم يكن فيها نَوْمٌ بدليل قوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ [الفرقان: ٢٤]، والجنَّةُ لا نَوْمَ فيها».
قال شهابُ الدِّينِ: و «ولا دليلَ فيما ذَكَرَ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضعه الأصْلِيِّ إلى مُجَرَّدِ الإقامة بدليل أنَّهُ لا يراد أيضاً الاستراحة في نِصْفِ النَّهَارِ في الحر فقد خَرَجَ عن موضعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا، والقَيْلُولَةُ مصدرٌ ومثلها: القَائِلَةُ والقيلُ والمَقِيلُ».

فصل في المراد بالآية


معنى الآية أنهم جَاءَهُمْ بَأسُنَا، وهم غير متوقِّعين له، إمَّا ليلاً وهم نَائِمُونَ، أو نهاراً وهم قَائِلُونَ، والمُرَادُ أنَّهُم جاءهم العذابُ على حين غَفْلَةٍ منهم، من غير تقدُّم أمارة تدلُّهم على نزول ذلك العذاب مكانه، قيل لِلْكُفَّارِ: لا تغتروا بأسباب الأمْنِ والرَّاحةَ، فإنَّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة.
17
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ جوَّزُوا في «دَعْواهُم» وجهين:
17
أحدهما: أن يكون اسْماً ل «كان»، و ﴿إِلاَّ أَن قالوا﴾ خبرها، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جعل اسماً والأعْرَفُ جعل خبراً، وقد تقدَّم ذلك في أوَّل الأنعام عند ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٣].
والثانيك أن يكون «دَعْوَاهُم» خبراً مقدماً و ﴿إِلاَّ أَن قالوا﴾ اسماً مؤخراً كقوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا﴾ [النمل: ٥٦] ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار﴾ [الحشر: ١٧]، و ﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الجاثية: ٢٥] ذكر ذلك الزَّمخشريُّ ومكيُّ بن أبِي طالبٍ، وسبقهما إلى ذلك الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النُّحاةُ، وهو أنَّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهُمَا؛ وجَبَ تَقْدِيمُ الاسمِ، وتأخير الخبر نحو: كان موسى صاحبي، وما كان دعائي إلاَّ أن اسْتَغْفَرْتُ، قالوا: لأنهما كالمفعولِ والفاعلِ فمتى خَفِيَ الإعْرَابُ التزم كل في مَرْتَبَتِهِ، وهذه الآيَةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذَلِكَ، بل كيف يَخْتَارُهُ الزَّجَّاجُ؟ وقد رأيتُ كلام الزَّجَّاجِ هنا فيمكن أن يُؤخَذَ منه جَوابٌ عن هذا المكانِ، وذلك أنه قال: «إلاَّ أنَّ الاختيار إذا كانت» الدَّعْوَى «في موضع رفع أن يقول: فما كانت دَعْوَاهُم، فَلَمَّا قال:» كَانَ دَعْوَاهُمْ «دلَّ على أن» الدَّعْوى «في موضع نصب، غير أنه يجوز تَذْكِير الدعوى وإن كانت رفعاً، فمن هنا يقال: تذكير الفعل فيه قرينة مرجَّحةٌ لإسنادِ الفِعْلِ إلى» أنْ قَالُوا «، ولو كان مسنداً للدَّعْوَى لكان الأرجح» كَانَتْ «كما قال، وهو قَرِيبٌ من قولك:» ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى «فقدمت المفعول بقرينةِ تأنِيثِ الفِعْلِ، وأيضاً فإنَّ ثمَّ قَرينَةً أخرى، وهي كَوْنُ الأعْرَفِ أحَقُّ أن يكون اسماً من غير الأعرف».
والدَّعْوَى تكون بمعنى الدُّعَاءِ، وبمعنى الادِّعَاءِ، والمقْصُودُ بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أنْ تكونَ بمعنى الاعتراف، فمن مَجِيئها بمعنى الدُّعَاءِ ما حَكَاهُ الخَلِيلُ: «اللَّهُمَّ أشْركْنا فِي صالح دعوى المُسلمين» يريد في صالح دُعَائِهِم؛ وأنشدوا: [الطويل]
٢٤٠٢ - وإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ اشْتَفِي بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَتَهُونُ
ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ [الأنبياء: ١٥] وقال الزَّمخشريُّ: [ويجوز] : فما كان استغاثتهم لا قولهم هذا؛ لأنه لا يستغاثُ من اللَّهِ تعالى بغيره، من قولهم: دعواهم يا لكعب.
18
وقال ابنُ عطيَّة: وتحتملُ الآيةُ أن يكون المعنى: فما آلت دَعَاويهم التي كانت في حال كُفْرِهِمْ إلا إلى الاعتراف؛ كقول الشاعر: [الطويل]
٢٤٠٣ - وَقدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا قَتَيْبَةَ إلاَّ عَذَّها بالأبَاهِمِ
و «إذ» منصوب ب «دعواهم».
وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ «كُنَّا» وخبرها في محل رفع خبر ل «إنَّ»، وَ «إنّ» وما في حيزها في محل نَصْبٍ محكياً ب «قَالُوا»، و «قَالثوا» وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلةً ل «إنَّ»، و «أنّ» وما في حيزها في محلِّ رفع، أو نصب على حسب ما تقدَّم من كونها اسماً، أو خبراً.
ومعنى الآية: أنَّهُم لم يَقْدِرُوا على ردِّ العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانَةِ حين لا ينفع الاعتراف.
19
القائمُ مقامَ الفاعِلِ الجار والمجرور وفي كيفيَّة النظم وجهان:
الأول: أنه تعالى لمَّا أمر الرَّسول أولاً بالتبليغ ثم أمر الأمة بالقَبُولِ، والمتابعة، وذكر التَّهْديد على ترك القبول والمتابعة، بذكر نُزُولِ العذابِ في الدُّنْيَا - أتبعه بنوع آخر من التَّهْديدِ وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة.
الثاني: أنه تعالى لما قال: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: ٥] أتبعه أنه لا يقتصر على الاعتراف منهم يوم القيامة، بل يَنْضَافُ إليه أنَّهُ تعالى يسأل الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالهم، وبين أن هذا السؤال لا يختصُّ بأهل العقاب، بل هو عامٌّ بأهل العقابِ والثَّوابِ، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: ٩٢، ٩٣].
فإن قيل: المقصود من السُّؤالِ أن يخبر المسئول عن كيفية أعمالهم، وقد أخبر عنهم أنهم يقرون بأنهم كانوا ظَالمينَ فما فَائِدَةُ السُّؤال بعده؟ وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ﴾ [الأعراف: ٧] فإذا كان يقصُّه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال؟
فالجواب: أنَّهُم لمَّا أقَرُّوا بأنهم كانُوا ظالمين مُقَصِّرين سألوا بعد ذلك عن سَبَبِ الظُّلْمِ، والتَّقْصِيرِ، والمقصود منه التَّقْريعُ والتَّوبيخُ.
19
فإن قيل ما الفائدة في السؤال الرُّسُلِ مع العلم بأنه لم يَصْدُر عنهم تقصير ألبتة؟
فالجوابُ: لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يَصْدُرْ عنهم تَقْصِيرٌ ألْبَتَّةَ التحق التَّقْصِيرُ كله بالأمَّةِ، فيتضاعفُ إكرامُ اللَّه تعالى للرُّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التَّقْصِير، ويتضاعف الخِزْيُ والإهانَةُ في حقِّ الكفَّارِ، ولما ثبت أنَّ ذلك التَّقْصِيرُ كان منهم.
والمعنى: أنه بين للقوم ما أسروه، وما أعلنوه من أعمالهم، وبين الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال. وقوله: " بعلم " في موضع [الحال] من الفاعل، و" الباء " للمصاحبة أي: لنقصن على الرسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿وما كنا غائبين﴾ أي: ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم، وذلك يدل على أن الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين﴾ وبين قوله: ﴿فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان﴾ [الرحمن: ٣٩] وقوله: ﴿ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون﴾ [القصص: ٧٨] فالجواب من وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال؛ لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ كقول القائل: " ألم أعطك " وقوله تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم﴾ [يس: ٦٠] وقول الشاعر: ﴿الوافر﴾ ٢٤٠٤ - ألستم خير من ركب المطايا................................. فإذا عرف هذا فنقول: إن الله عز وجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ ثم قال: ﴿فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ [المؤمنون: ١٠١]. فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا لقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون "، وقوله: ﴿فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ [المؤمنون: ١٠١]، معناه: أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف؛ لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
20
وثالثها: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال، وهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده المرسلين والمرسل إليهم، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.
21
والمعنى : أنه بين للقوم ما أسروه، وما أعلنوه من أعمالهم، وبين الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال.
وقوله :" بعلم " في موضع [ الحال ] من الفاعل، و " الباء " للمصاحبة أي : لنقصن على الرسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم، ثم أكد هذا المعنى بقوله :﴿ وما كنا غائبين ﴾ أي : ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم، وذلك يدل على أن الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله ﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ﴾ وبين قوله :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ] وقوله :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ [ القصص : ٧٨ ] فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم.
وثانيهما : أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ كقول القائل :﴿ ألم أعطك ﴾ وقوله تعالى :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ﴾ [ يس : ٦٠ ] وقول الشاعر :[ الوافر ].
٢٤٠٤- ألستم خير من ركب المطايا ***. . . ١
فإذا عرف هذا فنقول : إن الله عز وجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ثم قال :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ].
فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا لقوله :" وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون "، وقوله :﴿ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ﴾ [ المؤمنون : ١٠١ ] معناه : أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
وثالثها : أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال، وهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده المرسلين والمرسل إليهم، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.
١ تقدم..
الوزن مبتدأ، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: هو الظَّرْف أي: الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي: يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم. فحذف الجملة المضاف إليها «إذْ» وعوَّض منها التَّنْوين، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش. وفي «الحقّ» على هذا الوجه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نَعْتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحقُّ لا البَاطِلُ.
الثالث: أنه بدلٌ من الذَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ.
والثاني: من وجهي الخبر أن يكون الخبر «الحق»، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه «الوَزْنْ» أي: يقع الوَزْنُ ذلك اليوم.
والثاني: أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه.
ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ كون «الحق» خبراً، وجعل «يَوْمئذٍ» ظرفاً للوزن قال: «ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ».
قال شهابُ الدِّين: وأين الفَصْلُ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه «الحق» بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ. تقول: «ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ».
فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ. فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنَّكَ إذا جعلت «يَومئذٍ» ظرَفْاً للوزن و «الحقُّ» صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر.
وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير «الحقّ» على «يومئذ» وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ. وذكر أيضاً
21
أنه يجوز نصبه، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه.
قوله: «مَوَازِيْنُهُ» فيها قولان:
أحدهما: أنَّها جمع ميزان: الآلة [التي] يوزنُ بها، وإنَّمَا جمع؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل.
والثاني: أنَّها جمع موزون، وهي الأعمال، والجمع حينئذٍ ظاهر. قيل: إِنَّمَا جمع الميزان ههنا، وفي قوله: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ [الأنبياء: ٤٧] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ، ولما يتعلق بالقول ميزان.
وقال الزَّجَّاجُ: إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين:
الأوَّلُ: أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون: خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ.
والثاني: أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان.
قال القرطبيُّ: والموازين جمع ميزان وأصلُهُ: «مِوْزَانٌ» قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها.

فصل في المراد بالميزان


قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ: المراد بالميزان العدل والقضاء، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا: لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلاَّ بالكَيْل، والوزن في الدُّنْيَا، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال: إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً. قال تعالى: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الكهف: ١٠٥]، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه، أي: يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ؛ قال الشَّاعِرُ: [الكامل]
قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ
أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به
22
إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ، ووزن المعدوم مُحَالٌ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً.
وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزاداد غمُّه.
وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد».
فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ.
فنقول: إنَّ المكلف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ اللَّهَ - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان وزنها محالاً.
وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، فإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه.
وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد».
فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ.
فنقول: أنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ وقال أكْثَرُ المفسرين: أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ.
واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال.
وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، فتوضع السِّجلات في كفه، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة.
وقيل: توزن الأشخاص.
روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» وقيل: توزن الأعمال. رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فيؤتى بالأعْمَالِ
23
الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة، فتوضع في الميزانِ.
والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى.
24
هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أهْلَ القِيَامَةِ فَريقَانِ، منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأمَّا القسمُ الثَّالثُ، وهُو الَّذين تكُونُ حَسنَاتُهُ وسيئاته متعادلة فإنه غير موجود.
قال أكثر المفسرين: المراد ب ﴿مَنْ خَفَّت مَوازِينُهُ﴾ الكافر لقوله تعالى: ﴿فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾، ولا معنى لكون النْسَانِ ظالماً بآياتِ اللَّه إلاَّ كونه كَافِراً بها مُنْكِراً لها، وهذا هو الكَافِرُ.
وروي أنّه إذا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المُؤمِنِ يخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِطَاقَة كالأنْمُلَةٍ فيلقيها في كفَّةِ الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح، فيقوُلُ ذلك العَبْدُ المُؤمِنُ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بِأبي أنْتَ وأمِّي، ما أحْسَنَ وَجْهَكَ وأحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أنْتَ؟
فَيَقُولُ:»
أنا نَبِّيُكَ مُحَمَّد، وهذه صَلَواتكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّيها عَلَيَّ، وقَدْ وَفَيْتُكَ أَحْوَجَ ما تكُونُ إلَيْهَا «رواه الواحِدِيُّ في» البَسيطِ «.
والخبر الذي تقدَّم أيضاً من أنَّهُ تعالى يُلْقِي في كفه الحسنات الكتاب المُشْتَمِلَ علىشهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وأمَّا قول ابن عباس، وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر.
وقال أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين حضره الموت لعمر بن الخطاب في وصَّيتهِ: إنَّمَا ثقلت مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيِنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ باتِّباعِهِم الحقَّ في الدُّنْيَا، وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحقُّ غداً أن يكون ثَقِيلاً، وإنَّما خَفَّتْ مَوَازينُ من خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ باتِّباعِهِم البَاطِلَ في الدُّنْيَا، وخفته عليهم، وحقَّ لميزانٍ يُوضَعُ فيه البَاطِلُ غداً أن يكُونَ خَفِيفاً.
قوله:»
بِمَا كَانُوا «متعلِّقٌ ب» خَسِرُوا «، و» مَا «مَصْدريَّةٌ، و» بِآيَاتِنَا «متعلِّقٌ ب» يَظْلِمُونَ «قُدِّمَ عليه للفَاصِلَةِ. وتعدَّى» يَظْلِمُونَ «بالباءِ: إمَّا لتَضَمُّنِهِ معنى التَّكْذيب نحو: ﴿كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا﴾ وإمَّا لِتَضَمُّنِهِ معنى الجَحْدِ نحو ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا﴾ [النمل: ١٤].
لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم، وكثرة النِّعيم توجبُ الطَّاعة فقال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض﴾ أي: جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة.
قوله «وجَعَلْنَا لكم» يجوز أن يكون «جَعَلَ» بمعنى «خَلَقَ» فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران ب «مَعَايِشَ»، والثَّأني أحد الجارين، والآخر: إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ.
و «مَعَايِش» جمع مَعيشَةٍ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ:
مذهبُ سيبويه والخَلِيل: أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين، أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ. وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة، ف «معيشة» عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة.
وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها «مَعِيشَةٌ» بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ: أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين، وليس بشيءٍ.
والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل «عَاشَ» يعيشُ عَيْشاً، وعِيْشَةً قال تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١]، وَمَعَاشاً: قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾ [النبأ: ١١]، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ: [الرجز]
٢٤٠٦ - إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي
والعامَّةُ على «مَعَايشَ» بصريح الياءِ. وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع «مَعَائِشَ» بالهَمْزِ، وقال النَّحْويُّون: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو: صَحَائِف ومَدَائِن، وأمَّا «مَعَايِش» فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من «العَيْشِ».
25
قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان -: «أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ» قال: «ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ».
قال شهابُ الدِّينِ: وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا «مَنَائِرَ ومَصَائِبَ» جمع «منارةٍ ومُصِيبَة» والأصل «مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ» وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: «واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول: إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ» [قال] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع «مقالٍ» و «مقام» :«مقاول» و «مقاوم» في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك: [الطويل]
٢٤٠٧ - وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا
ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن «معيشة» بزنة «صحيفة» فهمزوها كما همزا «تيك» قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع «مسيل» «مُسْلان»، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ «قضيبٍ وقُضْبَان» وقالوا في جمعه «أمْسِلَة» كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة «رَغيفٍ، وأرْغِفَةٍ» وإنَّما مسيل وزنه «مفعلٌ» ؛ لأنه من سيلان الماءِ، وأنْشَدُوا على «مَسِيلِ، وأمْسِلة» قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ: [الوافر]
٢٤٠٨ - بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ
وقال الزَّجَّاجُ: جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ، ولا أعلم لها وجهاً إلاَّ التِّشْبِيه ب «صحيفة» و «صحائف»، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة.
قال شهابُ الدين: وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ ك «عُثْمان» و «أبي الدَّرْدَاءِ» و «معاوية»، وقد يبق ذلك في «الأنعام»، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ. وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء «صحيفة» قد جاء، وإن كان قليلاً.
وقوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ كقوله: ﴿قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ﴾.
26
لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [آدم] وجعله مسجود الملائكة، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن.
واختلف النَّاسُ في «ثُمَّ» في هذين الموضعين: فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [فيها] ترتيباً، وجعلها بمنزلة «الواوِ» فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة «اسْجُدُوا».
ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا.
ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ.
ومنهم من قال: الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ.
واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم: أنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقديرُ: ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له، ولأنه أصلُ الجميع، والتَّرتيب أيضاً واضح.
وقال مجاهدٌ: المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ.
قال النَّحَّاسُ: وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ، ثمَّ كان السُّجُود [بعد ذلك] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢].
وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ، فأخذ عليهم الميثاق.
وقال بعضهم: المُخَاطِبُ بَنُو آدم، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ، والمُرَادُ به غيره كقوله: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩]، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم. وهذا مستيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك: [الطويل]
27
فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ
٢٤٠٩ - إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ
عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم.
والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا.
ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم: المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و «ثُمَّ» الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ.
وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم.
وقال بعضهم: [ولقد خلقنا] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في «المعتمد».
وقال بعضهم: خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ.
وقال بعضهم: ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ، ف «ثمَّ» الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ، والثانية للترتيب الإخباري أي: ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة.
وقيل: إنَّ «ثُمَّ» الثانية بمعنى «الواو» [أي] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب.
وقيل: فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ: ولقد خلقناكم يعني آجم، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا، ثمّ صوَّرنَاكم.
وقال بعضهم: إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ، فقوله «خَلَقْنَاكُم» إشارة إلى حكم الله، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم.
وقوله «صَوَّرْنَاكُم» إشارة إلى أنَّهُ تعالى [أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث] إلى يوم القيامة، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ. ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم، وأمر الملائكة بالسُّجود.
قال ابن الخطيب: وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ.
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة.
قوله: «إلاَّ إبليسَ» تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وكان الحسن يقول: إبليسُ لم
28
يكن من الملائكةِ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، و [هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ، وإبليسُ ليس كذلك، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم.
قال الحسنُ: ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله؛ فأهبط إلى الأرض].
قوله: «لَمْ يَكُنْ» هذه الجملة استئنافِيَّةٌ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة «أبَى»، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس.
وقيل: فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس.
وقال أبُو البقاءِ: إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي: إلاَّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ، وهذا كما تقدَّم له في البقرة من أن «أبَى» في موضع نصب على الحال.
29
في «لا» هذه وجهان:
أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «لا» في «ألاَّ تسجد» صلة بدليل قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [سورة ص: ٧٥] ومثلها ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩] بمعنى ليعلم، ثم قال: فإن قلت ما فائدةُ زيادتها؟
قلت: توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه، وتحقيقه كأنه قيل: يستحق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السُّجُود، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك؟. وأنْشَدُوا على زيادة «لا» قول الشَّاعر: [الطويل]
٢٤١٠ - أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
يروى «البُخْل» بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديره: أبى جُودهُ البخل. وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة «لا» في رواية النَّصْبِ، ويتخرَّجُ على وجهين:
29
أحدهما: أن تكون «لا» مفعولاً بها، و «البخل» بدلٌ منها؛ لأن «لا» تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ.
والثاني: أنَّها مفعول بها أيضاً، و «البُخْل» مفعول من أجْلِهِ، والمعنى: أبي جُودُه لفظ «لا» لأجل البُخْلِ أي: كَرَاهَة البُخْلِ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ.
قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ: «الرِّوايةُ فيه بخفض» البُخْلِ «؛ لأن» لا «تستعمل في البُخْلِ»، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر: [الكامل]
٢٤١١ -... أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ
غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ... يريد أفعنك بَرْقٌ، وقد خرجَّه أبُو حيَّان على احتمال كَوْنِهَا عاطفة، وحذف المعطوف، والتقديرُ: أفعنك لا عن غَيْرِك.
وكون " لا " في الآية زائدة هو مذهب الكسائي، والفراء والزجاج، وما ذكرناه من كون البخل بدلا من " لا "، و" لا " مفعول بها هو مذهب الزجاج.
وحكى بعضهم عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يجر " البخل " ويجعل " لا " مضافة إليه، أراد أبي جوده لا التي هي للبخل؛ لأن " لا " قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له: " امنع الحق " أو " لا تعط المساكين " فقال: " لا " كان جودا.
قال شهاب الدين: يعني فتكون الإضافة للتبيين، لأن " لا " صارت مشتركة فميزها بالإضافة، وخصصها به، وقد تقدم طرف جيد من زيادة " لا " في أواخر الفاتحة.
وزعم جماعة أن " لا " في هذه الآية الكريمة غير زائدة لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك؟
فقال بعضهم: في الكلام حذف يصح به النفي والتقدير: ما منعك فأحوجك ألا تسجد؟
وقال بعضهم: المعنى ما ألجأك ألا تسجد.
وقال بعضهم من أمرك ألا تسجد؟ أو من قال لك ألا تسجد، أو ما دعاك ألا تسجد.
قالوا: ويكون هذا استفهاما على سبيل الإنكار، ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود شيء، كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي، أدينك أم عقلك أم جارك.
30
والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي.
وقال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى ألا تسجد؛ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
وهذا قول من يتحرج من نسبة الزيادة إلى القرآن، وقد تقدم تحقيقه، وأن معنى الزيادة على معنى يفهمه أهل العلم، وإلا فكيف يدعي زيادة في القرآن بالعرف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين.
و" ما " استفهامية في محل رفع بالابتداء، والخبر الجملة بعدها أي: أي شيء منعك؟. و" أن " في محل نصب، أو جر؛ لأنها على حذف حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و" إذ " منصوب ب " تسجد " أي: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به.
(فصل في دلالة الأمر)
احتجوا بهذه الآية على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأنه تعالى ذم إبليس على ترك ما أمر به، ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به يوجب الذم.
فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب، فلم قلتم: إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟
والجواب: أن قوله تعالى: ﴿ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك﴾ يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: " إذ أمرتك " مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: إذ أمرتك " هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة فوجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم.
(فصل في دلالة الأمر على الفور أم التراخي)
واحتجوا أيضا بهذه الآية على أن الأمر يقتضي الفور، قالوا: لأنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب الذم بترك السجود في الحال.
قوله: " أنا خير منه " اعلم أن قوله تعالى: ﴿ما منعك ألا تسجد﴾ طلب للداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال: " أنا خير منه ".
قوله: " خلقتني من نار " لا محل لهذه الجملة؛ لأنها كالتفسير والبيان للخيرية ومعناه: أنا لم أسجد لآدم؛ لأني خير منه ومن كان خيرا من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون، ثم بين المقدمة الأولى، وهو قوله: " أنا خير منه " بأن قال
31
خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل.
أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات، قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال، ، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة. وأما الأرضية والبرد واليبس، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان.
وأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.
وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون، فإنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
والجواب عنها أن نقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاث: أولها أن النار أفضل من التراب، وهذا قد تقدم الكلام فيه.
قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الطين على النار.
وقالت الحكماء: للطين فضل على النار من وجوه:
منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والتوبة والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة والارتفاع والاضطراب وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللعنة والشقاوة؛ ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها، [و] لأن التراب سبب الحياة؛ لأن حياة الأشجاء، والنبات به، والنار سبب الهلاك، ولأن التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنار لا يكون فيها شيء من ذلك، وأيضا النار مفتقرة إلى التراب، وليس التراب مفتقر إليها، فإن المحل الذي يكون مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب، وهي غني عنها.
وأيضا إن النار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشر كامن فيها، لا يصدها عنه إلا
32
حبسها، ولولا الحابس لها لأفسدت الحرث والنسل وأما التراب فالخير والبركة [فيه]، كلما قلب ظهرت بركته وخيره. فأين أحدهما من الآخر؟
وأيضا فإن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، وذكر منافعها وخلقها، وأنه جعلها: ﴿مهادا﴾ [النبأ: ٦] و ﴿فراشا﴾ [البقرة: ٢٢] و ﴿بساطا﴾ [نوح: ١٩]، و ﴿قرارا﴾ [النمل: ٦١] و ﴿كفاتا﴾ [المرسلات: ٢٥] للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها، والنظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها، ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها بأنها ﴿تذكرة ومتاعا للمقوين﴾ [الواقعة: ٧٣] بذكره لنار الآخرة، ومتاعا لبعض أفراد الناس وهم المقوون النازلون بالمفازة، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمتع بالنار في منزله. فأين هذا من أوصاف الأرض. وأيضا فإن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في مواضع من كتابه، وأخبر أنه بارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وقال: ﴿ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها﴾ [الأنبياء: ٧١]، ﴿وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها﴾ [سبأ: ١٨] ﴿ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها﴾ [الأنبياء: ٨١] وأما النار فلم يخبر بأنه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنها مذهبة للبركات مبيدة لها. فأين المبارك في نفسه من المزيل للبركة؟ وما حقها؟
وأيضا فإن الله - تبارك وتعالى - جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه، ويسبح له بالغدو، والآصال، وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا، وهدى للعالمين.
وأيضا فإن الله أودع في الأرض من المنافع، والمعادن، والأنهار والثمرات والحبوب، وأصناف الحيوان ما لم يرد في النار شيء منه إلى غير ذلك.
وأما المقدمة الثانية، وهي من كانت مادته أفضل فهو أفضل، فهذا محل النزاع، والبحث؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله - تبارك وتعالى - ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، والنور من الظملة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله، لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر.
وأيضا، فالتكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه.
وأيضا فالمفضل إنما يكون بالأعمال، وما يتصل بها، لا بسبب المادة؛ ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر.
33
(فصل في تخصيص العموم بالقياس)
احتج من قال " إنه لا يجوز تخصيص عموم بالقياس " بهذه الآية؛ فإنه لو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا التعنيف الشديد، والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز.
وبيانه أن قوله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم، ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يؤمر بخدمته لأن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلا أنه خصص العموم بالقياس، فاستوجب بذلك الذم الشديد، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.
وأيضا فالآية تدل على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وهو أن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: ﴿فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها﴾ [الآية ١٣ من الأعراف] ووصف إبليس بكونه " متكبرا " بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أنه من حاول تخصيص النص بالقياس] تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال: " كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس ".
وأول من قاس إبليس، وكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس.
والجواب أن القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل، أما القياس الذي يخصص [النص] في بعض الصور لم قلتم: إنه باطل؟
وتقريره: أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى؛ لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر كل واحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.
أما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم: إنه [باطل؟
34
ويمكن أن يجاب بأن يقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أن يلجأ الأشرف] إلى خدمة الأدنى، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وإنه يوجب تخصيص النص، ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز.
(فصل في بيان قوله تعالى: ﴿ما منعك ألا تسجد﴾ )
قوله تعالى: ﴿ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك﴾ لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ لا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، وقوله: " فاهبط منها " لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله: ﴿فأنظرني إلى يوم يبعثون﴾ لا شك أن هذا قول إبليس، ومثل هذه المناظرة بين الله وبين إبليس مذكور في سورة " ص ".
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله شرف موسى - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ﴿وكلمه ربه﴾ [الأعراف: ١٤٣] ﴿وكلم الله موسى تكليما﴾ [النساء: ١٦٤]، فإذا كانت المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف لموسى - عليه الصلاة والسلام -.
والجواب من وجهين:
أحدهما: قال بعض العلماء: إنه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لسان بعض الملائكة؛ لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله إلا بواسطة.
الثاني: أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة لكن على وجه الإهانة بدليل قوله تعالى: ﴿فاخرج إنك من الصاغرين﴾، وتكلم مع الأنبياء على سبيل الإكرام بدليل قوله [تعالى] لموسى - عليه الصلاة والسلام -: ﴿وأنا اخترتك﴾ [طه: ١٣]، وقوله: ﴿واصطنعتك لنفسي﴾ [طه: ٤١] وهذا نهاية الإكرام.
الضمير في " منها "
الضمير
في
«منها
»
قال ابن عباس: «يُريدُ من الجنَّة؛ لأنه كان من سُكَّانها»
35
قال ابن عباس: كان في عدنٍ، لا في جنَّة الخلْدِ.
وقيل: تعودُ على السَّمَاءِ، لأنه روي عن ابن عباس: «أنَّهُ وَسْوَسَ إليهما وهو في السَّمَاءِ»، ولأنَّ الهبوط إنَّما يكون من ارتفاع.
وقيل: يعود على الأرْضِ، أمِر أن يخرج منها إلى جَزائر البحار ولا يدخل في الأرض إلا كالسَّارِقِ.
وقيل: يَعُودَ على الرُّتْبَةِ المُنيفَةِ، والمَنْزِلَةِ الرَّفيعَةِ.
وقيل: يَعُودُ على الصُّورةِ والهيئة الَّتي كان عَلَيْهَا؛ لأنَّهُ كان مُشْرِقَ الوَجْهِ فَعَادَ مظلماً.
قوله: «فَاخْرُجْ» تَأكِيدٌ ل «اهْبِطْ» إذْ هو بمعناهُ.
وقوله: «فِيهَا» لا مفعوم لهُ يعني: أنَّهُ لا يتوهَّمُ أنَّهُ يجوزُ أنْ يتكبَّرَ في غَيْرَهَا ولما اعْتَبَر بَعْضَهُمْ؛ احْتَاجَ إلى تقدير حذفِ مَعْطُوفٍ كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] قال: والتقدير: «فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فيها، ولا في غيرها إنَّكَ من الصَّاغِرينَ، الأذلاَّء، والصَّغَارُ الذُّلُّ والإهانة».
36
قوله: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: أخرنِي، وأمْهِلْني فلا تميتني إلى يوم يُبعَثُونَ من قُبُورهم، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ.
والضَّميرُ في «يُبْعَثُونَ يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في» منها «وفيها كما تقدم.
قوله: ف ﴿إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ قال بعضُ العُلَمَاءِ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٧، ٣٨]، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ.
وقال آخرون: لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال: ﴿إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ وقوله في الآيةِ الأخْرَى ﴿إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى.
قالوا: والدَّليلُ على صِحَّتِهِ: أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّن لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ؛ تاب عن تلك المعاصي، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي
36
مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى.
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا.
قوله: ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ في هذه» الباء «وجهان:
أحدهما: أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي: بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة»
ص «: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ [الآية: ٨٢].
والثاني: أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال: ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ثم قال:»
والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم «.
فإنْ قُلْتَ: بِمَ تعلَّقَتِ»
البَاءُ «؛ فإنَّ تعلها ب» لأقْعَدُنّ «يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ: واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟
قُلْتُ: تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم.
ويجُوزُ أن يكون «البَاءُ»
للقسم أي: فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين. وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان: «وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب» لأقْعُدَنَّ «ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ».
قال شهابُ الدِّين: أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٨] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في «لِمَنْ» : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى.
37
و «مَا» تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ:
أظهرها: أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي: فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني: أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال: فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله: «لأقْعُدَنَّ» وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ «مَا» الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم: عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله: [الوافر]
٢٤١٢ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والثالث: أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يكون «مَا» بتأويل الشَّرْطِ، و «الباء» من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [في] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك: «إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ». وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله: [البسط]
٢٤١٣ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ
أيْ: فالله. وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور: [البسيط]
٢٤١٤ - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ...............................
فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله: «لأقْعدنَّ» جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ: فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ. هذا يتمم مذهبه.
والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي: بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة.
قوله: «صِرَاطكَ» في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ.
قال الزَّجَّاج: ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ «على» محذوفة كقولك: «ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي: على الظَّهْرِ والبَطْن».
إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ
38
الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله: [الوافر]
٢٤١٥ - مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا............................
[وقوله] :[الطويل]
٢٤١٦ -............................ لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي
[وقوله] :[الطويل]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي...........................
أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ: لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ «صِرَاطكَ» ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل ب «في» تقول: صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ. ولا تقول: صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذّاً؛ كقولهم «رَجَعَ ادْرَاجَهُ» و «ذَهَبْتُ» مع «الشَّام» خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله: [الطويل]
َزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ َفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر: [الكامل]
َدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ ِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ
يتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل «الصِّراط» و «الطَّريقَ» في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن. وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل.
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. والتقديرُ: لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه.

فصل في معنى إغواء إبليس


قول إبليس «فَبِما أغْوَيْتَنِي» يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى -، وقوله
39
في آية أخرى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد غلى نفسه، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [أهل] القدر، وهذا يدلُّ على أنه طكان متحيراً في هذه المسألةِ. وقد يقال: إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل.
واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ، فقال أهْلُ السُّنَةِ: الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ.
وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ.
أحدها: أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه، ويعتذروا عنه بوجوه.
منها: أن قالوا: هذا قول إبْليسَ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ، والجهلِ، والكفرِ هو الله، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ.
ومنها قالوا: إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى، وقد يَقُولُ القائِلُ: لا تحملني على ضَرْبِكَ أي: لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ.
ومنها: أن قوله ﴿ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي﴾ أي: لعنتني، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم.
المقام الثاني: أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ، ومنه قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩] أي: هلاكاً وويلاً، ومنهُ أيضاً قولهم: غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوىً؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ. وفسَّروا قوله تعالى: ﴿إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: ٣٤] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككهم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة.
قال ابْنُ الخَطِيبِ: ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإواء في هذه الآية الإضلالُ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس، وإنَّه ليس بحجة إلاَّ أنَّا نقيمُ البرهانُ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ، أو مخلوقاً آخَرَ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأن
40
العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةٌ، والثَّاني أيضاً باطلٌ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا اغلدَّوْرُ، والثَّالِثُ هو المقصود.

فصل في المراد من الإقعاد


المراد من قوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها، ولهذا المعنى ذكر القُعُود؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ، فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفْسَادِ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها.
قال المُفَسِّرُونَ: معنى ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ أي: بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ، أو يضلوا كما ضَلَّ، أو يخيبوا كما خَابَ.
فإن قيل: هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ؛ لأنه قال ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضٌ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر: ٣٩]، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ، ومنافياً للصِّراط المستقيم، فإنَّ المرءَ إنَّما يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره، ويرضى به، ويعتقدهُ.
فالجوابُ: أنَّ من النَّاسِ من قال: إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ، ومنهم من قال: كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ. وقوله: ﴿فَبِمآ أَغْوَيْتَنِي﴾، وقوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يريدُ به في زعم الخَصْمِ، وفي اعتقاده.

فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح


احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه
41
ولا في دنياه؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله؛ لأغواء الخلق، وإضلالهم.
والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ، وقبلونَ وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾ [سبأ: ٢٠] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة.
42
والكفر العظيم، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ؛ لامتنع أنْ يمهله، وأن يمكنه من هذه المفاسد، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالح أصْلاً، ومما يوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُوا إلاَّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِح العباد؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك.
قالت المُعتزلةُ: اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ: إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ [الصافات: ١٦٢، ١٦٣]، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة.
وقال أبُو هَاشِم: يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلاَّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ، وأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد، وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ.
والجوابُ: أمَّا قول أبي علي فضعيف؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين، ويدلُّ على ذلك العرف، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه، ويواظبون على دعوته إليه؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين، والعلم بذلك ضروري.
وأمَّا قولُ أبي هاشم فضروريُّ البُطْلانِ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به، والذي يقرره غاية التقرير: أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ، فليه أعظم الحاجات، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن
43
يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ.
فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً.
قوله: «ثم لآتينهم» جُمَْةٌ معطوفةٌ على جواب القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ «ب» مِنْ «والثَّانيين ب» عَنْ «لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ: مِنْ بين أيْديهمْ، ومن خلفهم بحرف الابتداء، وعنْ أيْمَانِهِم، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ؟
قلت «: المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به، فكما اختلف حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط، فلما سمعناهم يَقُولُون: جلس عن يمينه، وعلى يمينه، وعن شماله، وعلى شماله قلنا: معنى» عَلَى يَمينِهِ «أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه.
ومعنى»
عَنْ يَمينِهِ «أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في» تعال «. ونحوه من المفعول به قولهم:» رَمَيْتُ على القَوْسِ، وعن القَوْسِ، ومن القَوْسِ «لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي، ويَبْتَدِىء الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى» في «؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى طفي» ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل، ومِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كا تقُولُ: جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل «.
قال شهابُ الدِّين:»
وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب «.
وقال أبُو حيَّان: وهو كلامٌ لا بَأسَ به. فلم يوفِّ حقَّهُ.
ثم قال: وأقُولُ: وإنَّما خصَّ بين الأيدي، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ، والخلف جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله، ويتطلب غِرَّتِهِ وغَفْلَتَهِ، وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ، فالقرن الي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّلإْعِ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان.
44

[والأيمانُ] والشَّمَائِلُ جَمْعا يمينٍ وشمالٍ، وهما الجَارِحَتَانِ وتجمعان في القلَّة على أفْعُلٍ، قال: [الرجز]

[٢٤٢٠]- يَأتِي لَهَا مِنْ أيْمُنِ وأشْمُلِ... والشَّمَائِلُ يُعبَّرُ بها عن الأخلاق والشِّيم تقول: له شمائل حسنة، ويُعبَّر عن الحسنات باليمين، وعن السَّيِّئَات بالشَّمَال؛ لأنَّهُمَا منشأ الفعلين: الحسن السيّىء.
٢٤٢١ - أَبُثْنَى، أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتنِي فأفْرَحَ أمْ صَيَّرتني فِي شِمَالِكِ
يكنون بذلك عن عِظَمِ المنْزِلَةِ عند الشَّخْصِ وخِسَّتِها، وقال: [الطويل]
٢٤٢٢ - رَأيْتُ بَنِي العَلاَّتِ لمَّا تَضَافَرُوا يَجُوْزُوْنَ سَهْمِي بَيْنَهُمْ فِي الشَّمَائِلِ
والشَّمائل: جمع شمال بفتح الشِّين وهي الرِّيح.
قال ابمرؤ القيس: [الطويل]
٢٤٢٣ - وَهَبَّتْ لَهُ رِيحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَى صَباً وشَمالٌ فِي مَنَازِلِ قُفَّالِ
والألف في «الشَّمال» زائدة، لذا يُزاد فيها الهمزة أيضاً بعد الميم وقبلها فيقولون: شَمْأل وشَأمَل، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطه في التَّصْرِيفِ قالوا: «أشملت الريح» إذا هبت شمالاً.

فصل في معنى «من بين أيديهم»


قال عليُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عن ابين عباس: «مْنْ بيْنَ أيدِيهِم أي: من قبل الآخر فأشككهم فيها، ومن خَلْفِهِم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي».
وروى عطيَّةُ عن ابن عباس: «مِنْ بَيْنِ أيديِهِمْ من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم. ومن خَلْفهمْ: من قبل الآخرة فأقول: لا بَعْثَ، ولا جَنَّة ولا نَارَ، وعن أيْمَانِهِمْ:
45
من قبل حسناتهم وعن شمائلهم: من قبل سيِّئاتهم».
قال ابن الأنْبَاريِّ: «قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ؛ لأنَّ العرب تقولُ: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك، ولا تجعلني من المؤخرين».
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال: «أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي: بمنزلة حسنةٍ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ».
وقال الحكم والسُّدِّيُّ: «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ» : من قبل الدنيا يزيّنها لهم، ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه، وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم.
وقال قتادَةُ: «أتاهم من بين أيْديِهم فأخبرهم أنَّهُ لا بعث ولا جنَّة، ولا نار، ومن خلفهم في أمْرِ الدُّنْيَا فزينها لهم ودعام إليها، وعن أيْمَانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم زيَّن لهم السِّيئات والمعاصي، ودعاهم إليها».
وقال مُجَاهِدٌ: «مِنْ بَيْنِ أيديهم، وعن أيمانهم من حث يبصرون ومن خَلْفِهِم، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ».
قال ابن جريج: معنى قوله: «حَيْثُ يبصرون أي: يخطئون، وحيث لا يُبْصِرُون أي: لا يعلمون أنَّهم يخطئون».
وقيل: من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي.
وقال حُكَمَاء الإسْلامِ: إنَّ في البدن قُوىً أربعاً؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ، وصورة المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها.
وإليه الإشارة بقوله: {مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ].
وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ: الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة
46
للمحسوسات، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ، وإليه الإشَارَةُ بقوله: «وَمِنْ خَلْفِهِم».
والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ: الشَّهْوَةُ، وهي موضوعة في الكبدِ، وهي من يمين البدن، وإليه الإشارة بقوله: «وعَنْ أيْمَانِهِم».
والقُوَّة الرَّابِعَةُ: الغَضَبُ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب، وإليه الإشارة بقوله: «وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ». فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعادات الرُّوحانيَّة، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع.
روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ: اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ: تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له: تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتكُ فَعَصَاهُ فقاتَلَ» فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلاَّ ويلقيها في القَلْبِ.
فإن قيل: فلم [لم] يذكر من الجهات الأربع ﴿مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم؟﴾
فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ.
وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم: «أنه بَقِيَ للإنسان جهتان: الفَوْقُ والتَّحْتُ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخَشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً».
47
قوله :﴿ فإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴾ قال بعضُ العُلَمَاءِ : إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى ؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى :﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ [ الحجر : ٣٧، ٣٨ ]، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ.
وقال آخرون : لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال :﴿ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴾ وقوله في الآيةِ الأخْرَى ﴿ إلى يَوْمِ الوقت المعلوم ﴾ المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى.
قالوا : والدَّليلُ على صِحَّتِهِ : أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّ، لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ ؛ تاب عن تلك المعاصي، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى١.
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً ؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح ؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا٢.
١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣١..
٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣١..
قوله :﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ في هذه " الباء " وجهان :
أحدهما : أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي : بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة " ص " :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ ﴾ [ الآية : ٨٢ ].
والثاني : أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ١ قال :﴿ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ ؛ لأقعدن لهم، ثم قال :" والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم ".
فإنْ قُلْتَ : بِمَ تعلَّقَتِ " البَاءُ " ؛ فإنَّ تعلقها ب " لأقْعَدُنّ " يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ : واللَّه بزيدٍ لأمرنّ ؟
قُلْتُ : تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [ أي ] : فبسبب إغوائك أقسم.
ويجُوزُ أن يكون " البَاءُ " للقسم أي : فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين٢. وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان٣ :" وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب " لأقْعُدَنَّ " ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ ".
قال شهابُ الدِّين٤ : أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى :﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأعراف : ١٨ ] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في " لِمَنْ " : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى.
و " مَا " تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ :
أظهرها : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي : فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني : أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي أغواهُ به فقال : فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي ؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله :" لأقْعُدَنَّ " وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ " مَا " الاستفهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم : عمَّا تَسْألُ ؟ أو ضَرُورَةً كقوله :[ الوافر ]
عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ *** كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ٥
والثالث : أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال - رحمه الله - : ويجوز أن يكون " مَا " بتأويل الشَّرْطِ، و " الباء " من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [ في ] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك :" إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ ". وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله :[ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا *** والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ٦
أيْ : فالله. وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور :[ البسيط ]
مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ ***. . . ٧
فعلى قول٨ أبي بكر يكونُ قوله :" لأقْعدنَّ " جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ : فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ. هذا يتمم مذهبه.
والإغواء٩ إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي : بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة.
قوله :" صِرَاطكَ " في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ.
قال الزَّجَّاج١٠ : ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ " على " محذوفة كقولك :" ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي : على الظَّهْرِ والبَطْن ".
إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ١١ ؛ كقوله :[ الوافر ]
مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ***. . . ١٢
[ وقوله ] :[ الطويل ]
. . . *** لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي١٣
[ وقوله ] :[ الطويل ]
فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي ***. . . ١٤
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ : لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ.
وهذا أيضاً ضعيف ؛ لأنَّ " صِرَاطكَ " ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل ب " في " تقول : صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ. ولا تقول : صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذّاً ؛ كقولهم " رَجَعَ أدْرَاجَهُ " و " ذَهَبْتُ " مع " الشَّام " خاصَّة أو ضرورةً ؛ كقوله :[ الطويل ]
جزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ *** رفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ١٥
أي : قالا في في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر :[ الكامل ]
دْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ *** فيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ١٦
وهطا البيتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل " الصِّراط " و " الطَّريقَ " في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن. وهذا قولٌ مردودٌ ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل.
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به ؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. والتقديرُ : لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه.

فصل في معنى إغواء إبليس


قول إبليس " فَبِما أغْوَيْتَنِي " يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى -، وقوله في آية أخرى :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد إلى نفسه، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [ أهل ]١٧ القدر، وهذا يدلُّ على أنه كان متحيراً في هذه المسألةِ. وقد يقال : إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل.
واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ، فقال أهْلُ السُّنَةِ : الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ.
وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ١٨.
أحدها : أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه، ويعتذروا عنه بوجوه.
منها : أن قالوا : هذا قول إبْليسَ، فهب١٩ أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ، والجهلِ، والكفرِ هو الله، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ.
ومنها قالوا : إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى، وقد يَقُولُ القائِلُ : لا تحملني على ضَرْبِكَ أي : لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ.
ومنها : أن قوله ﴿ ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي ﴾ أي : لعنتني، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم.
المقام الثاني٢٠ : أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ، ومنه قوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ﴾ [ مريم : ٥٩ ] أي : هلاكاً وويلاً، ومنهُ أيضاً قولهم : غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوىً ؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ. وفسَّروا قوله تعالى :﴿ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ [ هود : ٣٤ ] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككهم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة٢١.
قال ابْنُ الخَطِيبِ٢٢ : ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإواء في هذه الآية الإضلالُ ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس، وإنَّه ليس بحجة إلاَّ أنَّا نقيمُ البرهانُ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك ؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ، أو مخلوقاً آخَرَ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ ؛ لأن العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةٌ، والثَّاني أيضاً باطلٌ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا الدَّوْرُ، والثَّالِثُ هو المقصود.

فصل في المراد من الإقعاد


المراد من قوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها، ولهذا المعنى ذكر القُعُود ؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ، فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفْسَادِ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها٢٣.
قال المُفَسِّرُونَ : معنى ﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ﴾ أي : بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل ؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ، أو يضلوا كما ضَلَّ، أو يخيبوا كما خَابَ.
فإن قيل : هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ ؛ لأنه قال ﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضٌ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال :﴿ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ [ الحجر : ٣٩ ]، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ، ومنافياً للصِّراط المستقيم، فإنَّ المرءَ إنَّما يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره، ويرضى به، ويعتقدهُ.
فالجوابُ : أنَّ من النَّاسِ من قال : إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ، ومنهم من قال : كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ. وقوله :﴿ فَبِما أَغْوَيْتَنِي ﴾، وقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ يريدُ به في زعم الخَصْمِ، وفي اعتقاده٢٤.
فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح٢٥
احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه، ولا في دنياه ؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَ
١ ينظر: الكشاف ٢/٩١..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٢٤١..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٢٧٥..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٢٤١..
٥ تقدم..
٦ تقدم..
٧ تقدم..
٨ في أ: رأي..
٩ ينظر: القرطبي ٧/١١٣، والفخر الرازي ١٤/٣١..
١٠ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٢/٣٥٨..
١١ في أ: شذور..
١٢ تقدم..
١٣ تقدم..
١٤ تقدم..
١٥ تقدم..
١٦ البيت لساعدة بن جؤية. ينظر : ديوان الهذليين ١/٩٠١، الكتاب ١/١٦، الخصائص ٣/٣١٩، أمالي ابن الشجري ١/٤٢، الهمع ١/٢٠٠، الدرر ١/١٦٩، الدر المصون ٣/٢٤٢..
١٧ سقط في أ..
١٨ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣١..
١٩ في أ: فثبت..
٢٠ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣٢..
٢١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣٢..
٢٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣٢..
٢٣ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣٢..
٢٤ ينظر: تفسير الرازي ١٤/٣٣..
٢٥ قالت المعتزلة: يجب على الله تعالى فعل الصلاح والأصلح.
والصلاح هو ما يقابل الفساد كالإيمان في مقابلة الكفر، والغنى بالنسبة للفقر والأصلح ما قابل الصلاح كأعلى الجنة في مقابلة أدناها.
والصلاح والأصلح الواجبان على الله تعالى بالنسبة للدين والدنيا كما قال المعتزلة بغداد ويراد بهما الأوفق في الحكمة والتدبير بالنسبة للشخص لا بالنسبة للكل وقيل بالنسبة إلى علم الله تعالى.
أو الصلاح والأصلح في الدين فقط كما رأى معتزلة البصرة وهما الأنفع وهل الأنفع بالنسبة إلى علم الله أو بالنسبة إلى الشخص، خلاف لم نقف فيه على حقيقة ما نقل عن المعتزلة بالضبط لتضارب النقل عنهم.
والصيغة المشهورة عن المعتزلة: أنه إذا كان هناك أمران أحدهما صلاح والآخر فساد وجب على الله فعل الصلاح وترك الفساد وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على الله فعل الأصلح وترك الصلاح واستدلوا على ذلك بقولهم: إن فعل الصلاح والأصلح حكمة ومصلحة يستحق فاعله المدح فيجب على الله فعله وتركه بخل وسفه يستحق تاركه الذم فيجب الفعل لأن الله منزه عما يستحق به الذم ويجاب عن ذلك بأن منع ما يكون من حق المانع الذي يثبت بالأدلة كرمه ولطفه وحكمته وعذله ليس بخلا ولا سفها وإنما هو عدل وحكمة.
ورد أهل السنة عليهم بقولهم:
لا يجب على الله شيء لأنه يتنافى مع اختياره والله قد بين أن ما وقع في الكون بمشيئته واختياره قال تعالى ﴿ فعال لما يريد﴾ وضد الواقع داخل تحت مشيئته قال تعالى ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا﴾.
لو وجب عليه شيء فإن لم يستحق بتركه الذم لم يتحقق الوجوب لأن الواجب ما استحق تاركه الذم وإن استوجب تركه الذم كان الباري ناقصا بذاته مستكملا بفعله مع أن كماله لذاته.
لو وجب عليه فعل الصلاح والأصلح لما خلق الكافر الفقير المبتلى بالأسقام المخلد في النار ولما آلم الأطفال والعجزة، ولما كان هناك تفضيل بين الناس مع أن الله يقول ﴿ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات﴾. ولما كان لله منة على عباده ولا استحق منهم شكرا لأنه لم يفعل إلا الواجب عليه، ولما صح سؤال الخير وكشف الضر لأن الله فعل ما فيه الأصلح واستنفد ما في قدرته. وأين الصلاح في خلق إبليس وإبقائه طول الزمن وإقداره على إضلال العباد.
ولا يمكن أن نقول إن كفر الكافر صلاح له وإن كل ما وقع في الكون أصلح للعباد لأن من الضروريات أن الإيمان أصلح من الكفر والسعادة أنفع من الشقاوة وإذا فالله لا يجب عليه شيء بل جميع الممكنات جائزة في حقه لما ثبت له من العلم والإرادة والاختيار والقدرة، وأما الآيات والأحاديث التي تدل على الوجوب مثل قوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ فمحمولة على أن المراد بها الوعد تفضلا، وهذه المسألة كانت سببا لترك الأشعري مذهب المعتزلة، فقد سأل شيخه الجبائي في ثلاثة إخوة مات أحدهم كبيرا طائعا والثاني كبيرا عاصيا والثالث صغيرا، فقال الجبائي الأول يثاب بالجنة والثاني يعاقب بالنار والثالث لا يثاب ولا يعاقب قال الأشعري فلو قال الصغير لم لم تبقني فأطيعك فأدخل الجنة ماذا يقول له الرب، فقال الجبائي يقول علمت أنك لو كبرت عصيت فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا.
قال الأشعري: فإن قال الثاني يا رب لم لم تمتني صغيرا حتى لا أدخل النار، ماذا يقول الرب فبهت الجبائي وقامت عليه الحجة.
قال صاحب الجوهرة:
وقولهم إن الصلاح واجب عليه *** زور ما عليه واجب
ألم يروا إيلامه الأطفالا *** وشبهها فحاذر المحالا .

الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللِّقَاءِ، أو بمعنى العِلْم أي: لا تُلْقي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ف «شاكرين» حال على الأَوَّلِ، مفعول ثانٍ على الثَّانِي.
47
وهذه الجملة تحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ تكون استئنافية أخبر اللَّعِينُ بذلك لتظنِّيه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ: ٢٠]، أو لأنَّهُ علمه بطريق قيل: لأنه كان قد رأى ذلك في اللَّوْح المَحْفوظِ. ويحتمل أن تكون دَاخِلَةً في حيِّز ما قبلها من جواب القسمِ فتكونُ معطوفةً على قوله: «لأقْعُدَنَّ» أقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْنِ، وأخرى منفَّية.
48
ف «مذؤوماً مَدْحُوراً» حالان من فاعل «اخرج» عند من يجيز تعدد الحال لذي حال واحدة، ومَنْ لا يُجيز ذلك ف «مَدْحُوراً» صفة ل «مذؤوماً» أو هي حالٌ من الضَّمير في الجارِّ قَبْلَهَا، فيكونُ الحالانِ مُتَدَاخِلَيْنِ.
و «مَذْءُوماً مَدْحُوراً» اسما مفعول مِنْ: ذَأمَهُ وَدَحَرَهُ. فأمَّا ذَأمَهُ فيقالُ: بالهمز: ذَأمَه، يَذْأمُهُ كرَامَه يَرْأمُهُ، وذَامَهُ يَذِمُهُ كبَاعَه يَبِيعُهُ من غَيْر هَمْزٍ، وعليه قولهم: «لنْ تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذَاماً» يروى بهمزةٍ ساكنةٍ أو ألف، وعلى اللُّغَةِ الثَّانية قول الشاعر: [الطويل]
٢٤٢٤ - تَبِعْتُك إذْ عَيننِي عَلَيْهَا غَشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أذِيمُهَا
فَمَصْدَرُ المَهمُوز: ذأمٌ كرأس، وأمَّا مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف، وحكى ابْنُ الأنْبَارِيِّ فيه ذيماً كينعٍ قال: يقال: ذأمْتُ الرَّجُلَ أذْأمُه، وذِمْتُه أذِيْمُه ذَيْماً، وذَمَمْتُه أذُمُّه ذَماً بمعنىً؛ وأنشد: [الخفيف]
٢٤٢٥ - وأقَامُوا حَتَّى أبِيرُوا جَمِيعاً فِي مقَامٍ وكُلُّهُمْ مَذْءُومْ
ُّ: العَيْبُ ومنه المثلُ المتقدَّمُ: «لن تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذاماً» أي كُلُّ امرأة حسنة لا بدَّ أن يكون فيها عيب ما وقالوا: «أرَدْتَ أنْ تُذيمَهُ فمَدَهْتَهُ» أي: «تُعيُبُه فَمَدحْتَهُ» فأبدل الحاء هاء: وقيل: الذَّامُ: الاحتقارُ، ذَأمْتُ الرجل: أي: احْتَقَرْتُهُ، قاله الليثُ.
وقيل: الذَّامُ الذَّمُّ، قاله ابن قيتبة وابن الأنْبَاريِّ؛ قال أمّيَّةُ: [المتقارب]
٢٤٢٦ - وَقَالَ لإبْلِيسَ رَبُّ العِبَادِ [أن] اخْرُجُ لَعِيناً دَحِيراً مَذُومَا
والجمهور على «مَذْءُوماً» بالهمز.
48
وقرأ أبُو جَعْفَرٍ والأعمشُ والزُّهْرِيُّ «مَذُوْماً» بواوٍ واحدةٍ من دون همز وهي تَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنَّهُ تَخْفِيف «مذؤوماً» في القراءةِ الشَّهيرةِ بأن أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ على الذَّالِ السَّاكنة، وحُذِفَت الهَمْزَةُ على القاعدةِ المُشْتَهِرَةِ في تَخْفيفٍ مثله، فوزن الكلمة آل إلى «مَفُول» لحَذْفِ العَيْنِ.
والثاني: انَّ هذه القراءة مَأخُوذَةٌ من لغة مَنْ يَقُولُ: ذِمْتُه أذِيمُهَ كبِعْتُهُ أبيِعُهُ، وكان من حقِّ اسم المَفْعُولِ في هذه اللُّغَةِ مَذِيمٌ كمبيع قالوا: إلا أنَّهُ أبْدِلَتِ الواوُ من اليَاءِ على حدِّ قولهم «مَكثولٌ» في «مَكِيلٍ» مع أنَّهُ من الكيل ومثلُ هذه القراءةِ في احْتِمالِ الوجهين قول أمَيَّةَ بْنِ أبي الصَّلْتِ في البيت المُتقدِّمِ أنشده الواحِديُّ على لغةِ «ذَامَهُ» بالألف «يَذِيمُهُ» بالياء، ولَيْتَهُ جعله محتملاً للتَّخْفِيفِ من لُغَةِ الهَمْزِ.
والدَّحْرُ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ يقال: دَحَرَهُ، يَدْحَرُهُ دَحْراً، ودُحوراً؛ ومنه: ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً﴾ [الصافات: ٨، ٩] ؛ وقول أميَّةَ في البيت المتقدم «لَعِيناً دَحِيراً».
وقوله أيضاً: [الكامل]
٢٤٢٧ - وبإذْنِهِ سَجَدُوا لآدَمَ كُلُّهُمْ إلاَّ لَعِيناً خَاطِئاً مَدْحُوراً
وقال الآخرُ: [الوافر]
٢٤٢٨ - دَحَرْتُ بَنِي الحَصِيبِ إلى قَدِيدٍ وقَدْ كَانثوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرٍ
[قال ابن عباس: «مذءُوماً أي: ممقوتاً».
وقال قتادةُ: «مَذْءُوماً مدحوراً أي: ليعناً شقيّاً».
وقال الكَلْبِيُّ: «مَذموماً ملوماً مدحوراً مقصيّاً من الجنَّةِ ومن كُلِّ خَيْر» ].
قوله: «لَمْن تبعكَ» في هذه «اللاَّام» وفي «من» وجهان:
أظهرهما: أنَّ اللاَّمَ هي المُوطِّئَةُ لقسم مَحْذُوفٍ، و «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «لأملأنَّ» جواب القسم المَدْلُول عليه بلام التوْطِئَة، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم مَسَدَّه. وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك مراراً.
49
والثاني: أنَّ اللاَّم لامُ الابتداء، و «مَنْ» مَوْصُولَةٌ و «تَبِعَكَ» صلتها، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً، و «لأمْلأنَّ» جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ، والتَّقْديرُ، للّذي تبعك منهم، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم.
فإن قُلْتَ: أيْنَ العِائِدُ من الجملة القسمِيَّةِ الواقِعَةِ خبراً عن المبتدأ؟
قلتُ: هو مُتَضَمَّنٌ في قوله «مِنْكُمْ» ؛ لأنَّهُ لمَّا اجتمع ضَمِيراً غَيْبَةٍ وخطابٍ غلب الخطابُ على ما عُرفَ.
وفَتْحُ اللاَّم هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عَاصِمٌ في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ: «لِمَنْ» بكسرها، وخُرِّجَتْ على ثلاثةِ أوْجُهٍ:
أحدها - وبه قال ابنُ عطيَّة - أنَّها تتعلَّقُ بقوله «لأمْلأنَّ» فإنَّهُ قال: ﴿لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ﴾، وظاهرُ هذا أنَّهَا متعلِّقةٌ بالفعل بعد لام القسم.
وقاب أبُو حيَّان: «ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ تقديرها؛ لأنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبلها».
والثاني: أنَّ اللاَّامَ متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّخرِ، والمعنى: أخْرُجْ بهاتين [الصِّفتين] لأجل اتِّباعِكَ. ذكره أبُو الفَضْلِ الرَّازِيُّ في كتاب «اللَّوَامِح» على شّاذِّ القراءة.
قال شهابُ الدِّين: ويمكن أن تَجِيءَ المسْألةُ من باب الإعمال، لأن كلاًّ من «مذءوماً» و «مدحوراً» يطلبُ هذا الجارَّ عند هذا القَائِلِ من حيثُ المعنى، ويكون الإعمال للثَّانِي كما هو مختار البصريَّين للحذف من الأوَّلِ.
والثالث: أن يكون هذا الجَارُّ خبراً مُقَدَّماً، والمُبْتَدَأ محذوف تَقْدِيرُهُ: لمَنْ تَبِعَكَ منهم هذا الوعيدُ، ودّلَّ على قوله هذا الوعيد قوله: «لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ، وهذا الذي أراد الزَّمخشريُّ بقوله: يَعْنِي لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله: «لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء و «لمَنْ تَبِعَكَ» خبره.
قال أبُو حيَّان: «فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين؛ لأنَّ قوله:» لأمْلأنَّ «جملةٌ هي: جوابُ قسم محذوف، من حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط، لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جوبااً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب وهو محال؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع، لا في موضع رَفْعٍ، داخل عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ عليها عامل، وذلك لا يتُصَوَّرُ».
50
قال شهابُ الدِّينِ بعد أنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «بمعنى لمن تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ» : كيف يحسن أنْ يتردد بعد ذلك فيقال: إنْ أرَادَ ظاهِرَ كلامه، كيف يريدُهُ مع التَّصْريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قَوْلُهُ على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء، فإنَّمَا قاله؛ لأنَّهُ دَالٌّ على الوعيدِ الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدَّالِّ ما يُنْسَبُ إلى المدْلُولِ من جِهَةِ المَعْنَى.
وقول الشَّيْخ أيضاً «ومِنْ حَيْثُ كوْنهَا جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً إلى آخره» كلام متحمِّل عليه؛ لأنَّهُ لا يريد جملة الجوابِ فقط ألْبَتَّةَ، إنَّمَا يريدُ الجملة القَسَمِيَّةَ برُمتِهَا، وأنَّما استغنى بِذِكْرِهَا عن ذكر قسيمها؛ لأنَّها مَلْفُوظٌ بها، وقد تقدَّم ما يُشْبِهُ هذا الاعتراض الأخير عليه، وجوابُهُ.
وأمَّا قَوْلُ الشَّيْخ: «ولا يَجُوزُ أن تكُونَ الجملة لها مَوْضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب» إلى آخر كلامهِ كُلِّهِ شيء واحد ليس فيه مَعْنىً زَائِدٌ.
قوله: «أجْمَعِيْنَ» تَأكيدٌ. واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرَ في أجمع وأخواته المستعملة في التَّأكيد إنَّمَا يُؤتَى بها بَعْدَ «كُلٍّ» نحو: ﴿فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] وفي غير الأكثر قَدْ تَجِيءُ بدون «كل» كهذه الآية الكريمةِ، فإنَّ «أجْمَعينَ» تأكيد ل «مِنْكُمْ»، ونظيرُهَا فيما ذكرما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٤٣].

فصل


قال ابْنُ الأنْبَاريِّ: الكناية في قوله: «لَمَنْ تَبِعَكَ» عائد على ولد آدم؛ لأنَّهُ حين قال: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» كان مخاطباً لولد آدم فرجعتِ الكِنَايَةُ إليهم.
قال القَاضِي «: دلَّت هذه الآية على أنَّ التَّابعَ والمتبع يَتَّفِقَانِ في أنَّ جهنَّم تُملأ منهما، فكما أنَّ الكَافِرَ تبعه، فكذلك الفاسق فيجب القطع بدخول الفَاسِقَ في النَّار. وجوابه: أنَّ المذكور في الآية أنَّهُ تعالى يَمْلأُ جهنَّمَ ممن تَبِعَهُ، وليس في الآيَة أنَّ كلَّ من تبعه يدخلُ جهنَّم، فسقط هذا الاستدلالُ، ودلَّتْ هذه الآية على أنَّ جميع أهْلِ البدعِ والضَّلالة يَدْخُلُونَ جهنَّمَ، لأنَّ كلهم متابعون إبليس.
51
قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ في سورة البقرةِ، بقي الكلامُ هنا على حَرْفٍ واحد وهو قوله تعالى في سُورةِ البقرة: ﴿وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً﴾ [البقرة: ٣٥] بالواو، وقال ههنا بالفَاءِ، والسَّبَبُ فيه من وجهين:
51
الأول: أنَّ الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التَّعْقِيبِ.
52
فالمَفْهُوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا مُنَافَاةَ بين النَّوْعِ والجِنْسِ، ففي سورة البقرة ذكر الجِنْسَ، وفي سُورةِ الأعْرَافِ ذكر النَّوْعَ.
الثاني: وقال في البقرة: «رغداً» وهو ههنا محذوف لدلالة الكلام عليه.
53
قوله: «فوَسْوَسَ لَهُمَا» أي: فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لأجلهما.
والفَرْقُ بين وسْوَسَ له وَوسْوَسَ إليه أنَّ وَسْوَسَ له بمعنى لأجله كما تقدَّم، وَوَسْوَسَ إليه ألْقَى إلَيْه الوَسْوَسَةَ.
والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوسْواسُ وهو صوتُ الحليِّ، والوسوسَةُ أيضاً الخَطْرَةُ الرَّديئَةُ، وَوَسْوَسَ لا يتعدَّى إلى مَفْعُولٍ، بل هو لاَزِمٌ كقولنا: وَلْوَلَتِ المَرأةُ، ووعْوَعَ الذِّئْبُ ويقالُ: رجلٌ مُوَسْوِسٌ بِكَسْرِ الوَاوِ، ولا يُقَالُ بفتحها، قالهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ.
وقال غيره: يقال: مُوَسْوَس له، ومُوَسْوَس إليه.
وقال اللَّيْثُ: «الوَسْوَسَةُ حديثُ النَّفْس، والصَّوْتُ الخَفِيُّ من ريحٍ تَهُزُّ قصباً ونحوه كالهمْسِ». قال تعالى ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: ١٦].
وقال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاج يَصِفُ صَيَّاداً: [الرجز]
٢٤٢٩ - وَسْوَسَ يَدْعُوا مُخْلِصاً رَبِّ الفَلَقْ لَمَّا دَنَا الصَّيْدُ دَنَا مِنَ الوَهَقْ
أي: لما أراد الصَّيدَ وسوس في نَفْسِهِ: أيُخْطىء أم يُصِيبُ؟ وقال الأزْهَرِيُّ: «وسْوَسَ ووَزْوَزَ بمعنىً واحد».
فإن قيل: كيف وَسْوَسَ إليه، وآدم كان في الجَنَّةِ وإبليس أخرج منها «؟
فالجوابُ: قال الحسن: كان يُوَسْوِسُ من الأرْض إلى السَّمَاءِ وإلى الجِنَّةِ بالقُوَّةِ الفَوْقيَّةِ التي جعلها له.
53
وقال أبُو مُسْلِمٍ الأصْفهانِيُّ: بَلْ كان آدمُ وإبليس في الجنَّةِ؛ لأنَّ هذه الجنَّةَ كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض النَّاس من» أنَّ إبليس دخل الجنَّة في جَوْف الحيَّةِ ودخلت الحيَّة في الجنَّةِ «فتلك القصة ركيكةٌ ومشهورةٌ.
وقال آخَرُون: إنَّ آدم وحَوَّاءَ ربنا قَرُبَا من باب الجَنَّةِ، وكان إبليس واقفاً من خارج الجَنَّةِ على بَابها فيقْرُبُ أحَدُهُمَا من الآخر فتحصل الوسْوسَةُ هناك.
فإن قيل: إنَّ آدم - عليه السلام - كان يَعْرِفُ ما بينه وبين إبليسَ من العداوة، فَكَيْفَ قبل قوله؟
فالجواب: [لا يَبْعُد أنْ يُقال إنَّ إبليسَ لَقِيَ آدَمَ مِراراً كثيرةً، ورَغَّبَهُ في أكْلِ الشَّجَرَة بِطُرُقٍ كثيرةٍ؛ فلأجْل] المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثَّر كلامه عند وأيضاً فقال تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] أي: حَلَفَ لهما فاعْتَقَدُوا أنَّ أحَداً لا يَحْلِفُ كاذباً فلذلك قبل قوله.
قوله:»
لِيُبْدِيَ لَهُمَا «في طلام» لِيُبْدِي «قولان:
أظهرهما: أنها لامُ العِلَّةِ على أصلها؛ لأنَّ قَصْدَ الشَّيْطانِ ذلك.
وقال بعضهم:»
اللاَّمُ «للِصَيْرُورةِ والعاقِبَةِ، وذلك أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم أنَّهُمَا يعاقبان بهذه العُقُوبَةَ الخَاصَّاةِ، فالمعنى: أن أمْرَهُمَا آل إلى ذلك. الجوابُ: أنهُ يجوزُ أنْ يُعْلم ذلك بطريق من الطُّرُق المتقدِّمةِ في قوله ﴿وَلاَ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧].
ومعنى قوله:»
لِيُبْدِيَ لَهَمَا «ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتِرَ عنهما من عوراتهما.
قوله:»
مَا وُوْري «» مَا «موصولة بمعنى الذي، وهي مفعول ل» لِيُبْدِي «أي: لِيُظْهِر الذي سُتِرَ.
وقرأ الجمهور: «وُوْري»
بواوين صريحَتَيْنِ وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله «وَارَى» كضارَبَ فلمَّا بُني للمفعول أبْدِلَت الألف واواً كضُورِبَ، فالواو الأولى فاء، والثَّانية زَائِدَةٌ.
وقرا عبد الله: «أُوْرِيَ» بإبدال الأولى همزة، وهو بدلٌ جَائِزٌ لا واجب.
وهذه قَاعِدٌةٌ كليَّةٌ وهي: أنَّه إذا اجتمع في أوَّلِ الكلمةِ واوان، وتحرَّكتِ الثَّانيةُ، أو كان لها نَظِيرٌ مُتَحَرِّكٌ وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النَّوْعِ الأوَّلِ «أوَيْصِلٌ»، وَ «أوَاصِلُ» تصغير واصلٍ وتكسيره، فإنَّ الأصل: وُوَيْصِل، وواصل؛ فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدالُ الأولى همزة. ومثالُ النَّوْعِ الثَّانِي أوْلى فإنَّ أصلها
54
وُوْلَى، فالثَّانَيِةُ؛ لكنها قد تتحرَّكُ في الجَمْعِ في قولك: أُوَل؛ كفُضْلَى وفُضَل، فإن لم تتحرَّك ولم تحمل على متحرّك، جَازَ الإبدَالُ كهذه الآيَةِ الكريمةِ. ومثله وُوْطِىءَ وأوْطِىءَ.
وقرأ يحيى بن وثاب «وَرِيَ» بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكَأنَّهُ من الثُّلاثيِّ المتعدِّي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه.
والمُوَارَاةُ: السَّتْرُ، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا بلغه موت أبي طالب لعليٍّ: «اذْهَبْ فوارِه». ومنه قول الآخر: [مخلع السبيط]
٢٤٣٠ - عَلَى صَدىً أسْوَدَ المُوَارِي فِي التُّرْبِ أمْسَى وفِي الصَّفِيحِ
وقد تقدَّم تحقيق هذه المادَّةِ
والجمهور على قراءة «سَوْءَاتِهما» بالجمع من غير نقل، ولا إدغام.
وقرأ مُجاهدٌ والحسن «سَوَّتهما» بالإفراد وإبدال الهمز [واواً] وإدغام الواو فيها.
وقرأ الحسنُ أيضاً، وأبو جعفر وشَيْبَةُ بن نصاح «سَوَّاتهما» بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم.
وقرأ أيضاً «سَواتِهما» بالجمع أيضاً، إلا أنَّهُ نقل حركة الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخَرَ، وكلُّ ذلك ظَاهِرٌ. فمن قرأ بالجمع فيحتمل وجهين:
أظهرهما: أنَّهُ من باب وَضْعِ الجمع موضع التَّثْنِيَةِ كراهية اجتماع تثنيتين، والجمع أخُوا التَّثْنِيَةِ فلذلك ناب منابها كقوله: ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمآ﴾ [التحريم: ٤] وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذه القاعدة.
ويحتمل أنْ يكون الجَمْعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً، ودُبُراً، والسوءات كنايةٌ عن ذلك فهي أربع؛ فلذلك جِيءَ بالجَمْعِِ، ويؤيِّدُ الأوَّل قراءةُ الإفراد فإنَّه لا تكون [كذلك] إلاَّ والموضع موضع تثنية نحو: «مَسَحَ أَذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وبَاطِنَهُمَا».

فصل في أن كشف العورة من المحرمات


دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ كَشْفَ العوْرَةِ من المُنْكَرَاتِ، وأنَّهُ لم يزل مُسْتَهْجَناً في الطِّبَاع مُسْتَقْبَحاً في العُقُولِ.
قوله: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾.
55
هذا استثناء مُفَرَّغٌ وهو مفعول من أجله فقدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ إلاَّ كراهة أنْ تكونا، وقدَّرَهُ الكوفِيُّون إلاّ أن لا تكونا، وقد تقدَّم مراراً أنَّ قول البَصْرِيِّين أوْلى؛ لأنَّ إضْمَارَ الاسْمِ أحسنُ من إضمار الحَرْفِ.
وقرأ الجمهور «مَلَكَيْنِ» بفتح اللاَّم.
وقرأ عَلِيٌّ، وابن عباس والحسنُ، والضَّحَّاكُ، ويحيى بْنُ أبِي كَثِير والزُّهْرِيُّ وابن حكيم عن ابن كثير «مَلِكين» بكسرها قالوا: ويُؤيِّدُ هذه القراءة قوله في موضع آخر: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى﴾ [طه: ١٢٠] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله «مِنَ الخَالِدِينَ» ولم يقل «أو تَكُونَا خَالِدَيْن» مبالغةٌ في ذلك؛ لأنَّ الوصف بالخُلُودِ أهمُّ من المَلْكية أو المُلْك، فإنَّ قولك: «فُلانٌ من الصَّالحينَ» بلغُ من قولك صالحٌ، وعليه ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾ [التحريم: ١٢]

فصل في بيان قوله ما نهاكما ربكما


هذا الكلام يمكن أنْ يَكُونَ ذكرَهُ إبْلِيسُ مُخَاطِباً لآدم وحواء، ويمكن أنْ يكُون بوسْوسَةٍ أوْقَعَها في قلبيهما، والأمران مَرْويَّانِ إلاَّ أنَّ الأغْلَبَ أنَّهُ كان على سبيل المُخَاطَبَةِ بدليل قوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١].
والمعنى: أنَّ إبليس قال لهما هذا الكلام، وأراد به إنْ أكلتما تكونا بمنزلة الملائِكَةِ، أو تكُونَا من الخالدينَ إنْ أكلتما، فرغبهما بأن أوْهَمَهُمَا أنَّ من أكَلَهَا صار كذلك، وأنَّهُ تعالى نَهَاكثمَا عنها لكي لا يكونا بِمَنْزِلَةِ الملائِكَةِ، ولا يخْلُدَا.
وفي الآية سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأولُ: كيف أطْمَعَ إبْلِيسُ آدمَ أن يكون ملكاً عند الأكْلِ من الشَّجَرَةِ مع أنَّهُ شَاهَدَ الملائِكة متواضعين سَاجِدينَ له معترفين بفضله؟.
والجوابُ من وجوه:
أحدها: انَّ هذا المعنى أحد ما يَدُلُّ على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الرض، أمّا ملائكةُ السَّموات وسكانُ العَرْشِ والكرسيِّ، والملائكةُ المقرَّبون فما سجدوا لآدم ألْبَتَّةَ. ولو كَانُوا قد سَجَدُوا له لكان هذا التَّطْميع فَاسِداً مختلاًّ.
وثانيها: نَقَلَ الواحديُّ عن بعضهم أنَّهُ قال: إنَّ آدمَ علم أنَّ الملائكة لا يمُوتُونَ إلى يوم القيامةِ، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أنْ يَصِيرَ مِثْلَ الملكِ في البَقَاءِ. وضعَّف هذا بأنَّهُ لو كان المَطْلُوبُ من الملائِكَةِ هو الخُلُودُ فحينئذٍ لا يبقى فرق بين قوله ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ وبين قوله: ﴿إلاَّ أَنْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾.
56
وثالثها: قال الواحدي: كان ابن عباس يقر «مَلِكَين» بكسر اللام ويقول: ما طمعا في أن يكونا مَلَكَيْن لكنهما استشرفا إلى أن يكونا مَلِكَيْن، وإنَّما أتَاهُمَا المَلْعُونُ من وجهة الملك، ويدلُّ على هذا قوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى﴾ [طه: ١٢٠]، وضعف هذا الجواب من وجهين:
الأول: هب أنَّهُ حصل الجوابُ على هذه القراءة فهل يقول ابنُ عبَّاسٍ أنَّ تلك القراءة المشهورة باطلة؟ أو لا يقولُ ذلك؟ والأولُ باطل، لأنَّ تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يُمْكِنُ الطَّعْنُ فيها؟ وأمَّا الثَّاني فعلى هذا التَّقدير الإشكال باقٍ؛ لأنَّ على تلك القراءة يكون بالتَّطْميع قد وقع في أنْ يَصِيرَ بواسطة لذلك الأكل من جملة الملائكة. وحينئذ يَعُودُ السُّؤالُ.
الوجه الثاني: أنَّهُ تعالى جعله مسجود الملائكةِ، وأذِن له في أن يسكن الجنَّة، وأنْ يأكل منها رغداً حيث شاء وأراد، [ولا مزيد] في الملك على هذه الدَّرَجَةِ.
السؤال الثاني: هل تدلُّ هذه الآية على أنَّ درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النُبُوَّةِ؟
الجوابُ: أنَّا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كانت قَبْلَ النُّبُوَّةِ لم يدلَّ على ذلك؛ لأنَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين طَلَبَ الوصُولَ إلى درجةِ الملائِكَةِ ما كان من الأنبياء، وإنْ كانت هذه الواقِعَةُ قد وقعت في زَمَن النُّبُوَّةِ فلعلَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - رغبَ في أنْ يصيرَ من الملائِكَةِ في القدرة والقُوَّة أو في خلقة الذات بأنْ يَصِيرَ جَوَْهَراً نُورَانياً، وفي أن يصيرَ من سُكَّانِ العرْشِ، وعلى هذا فلا دلالةَ في الآيةِ على ذلك.
السُّؤال الثالثُ: نقل أنّ عمرو بْن عُبَيْدٍ قال للحسنِ في قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾، وفي قوله «وقَاسَمَهُمَا» قال عمرو: قلت للحسن؛ فهل صَدقَاهُ في ذلك؟ فقال الحسن: مَعَاذَ الل، لو صَدَّقَاهُ لكانا من الكَافرينَ. ووجه السُّؤال: أنه كيف يلزم هذا التَّكْفيير بتقدير أن يُصَدِّقا إبليس في ذلك القول؟
والجوابُ: ذكرُوا في تَقْدير ذلك التَّكفِير أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام لو صدق إبليس في الخلُودِ، لاكن ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفرٌ.
ولقائل أن يقُول: لا نُسَلِّمُ أنَّه يلزم من ذلك التَّصديق حصولُ الكفْرِ، وبيانه من وجهين.
57
الأول: أن لفظ الخُلُودِ مَحْمُولٌ على طُولِ المُكْثِ لا على الدَّوامِ، فانْدَفَعَ ما ذكره.
والثاني: هَبْ أنَّ الخُلُودَ مُفَسّر بالدَّوَامِ إلاَّ أنَّا لا نسلم أنَّ اعْتِقَادَ الدَّوام يُوجِبُ الكُفْرَ، وتقْرِيرُهُ: أنَّ العِلْمَ بأنه تعالى هل يُمِيتُ هذا المكلف، أو لا يُمِيتُهُ؟ علم لا يحصل لا من دليل السَّمْعِ، فلعله تعالى ما بيَّنَ في وقت آدم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهُ يُمِيتُ الخلق، ولمَّا لم يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ بأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يجوز له دوام البقاء فلهذا السَّببِ رغِبَ فيه، وعلى هذا التَّقْديرِ فالسُّؤالُ غير لازم.
السُّؤالُ الرابعُ: قد ثبت بما سبق أنَّ آدم وحوَّاءَ - عليهما السَّلامُ - لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفِرُهُمَا فهل يقولون: إنَّهُما صَدَّقَاهُ فيه قطعاً؟ أو لم يحصل القَطْعُ، فهل يقولُون: أنَّهُمَا ظَنَّا أن الأمر كما قال، أو ينكرون هذا الظَّنَّ أيضاً.
فالجواب: أنَّ المحقِّقين أنْكَرُوا حصولل هذا التَّصديق قطعاً وظناً كما نجد أنفسنا عند الشَّهْوةِ، نقدُمُ على الفعلِ إذا زينَ لنا الغير ما نشتهيه، وإنْ لم نعتقد الأمر كما قال.
السُّؤالُ الخامِسُ: قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ هذا التَّرغيبُ، والتَّطْمِيعُ وقع بمَجْمُوع الأمرين، أو بأحدهما؟ والجوابُ: قال بعضهم: التَّرْغيبُ في مجموع الأمرين؛ لأنَّهُ أدخل في التَّرْغِيبِ.
وقيل: بل هُوَ عَلَى ظاهره على طريق التَّخْييرِ.
58
قوله: «وقَاسَمَهُما» المفاعلةُ هنا يحتمل أن تكُونَ على بابها فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «كأنَّهُ قال لهما: أقْسِمُ لكُمَا أنِّي لمن النَّاصِحِينَ، وقالا له: أتقسُم باللَّهِ أنت إنَّكَ لمن الناصحين لنا فجعل ذلك مُقَاسَمَةً بَيْنَهُم، أو أقسم لهما بالنَّصِيحَةِ، وأقسما له بقبُولِهَا، أو أخرج قسم إبليس على وزن المُفَاعَلَةِ؛ لأنَّهُ اجْتَهَد فيها اجتهاد المُقَاسِمِ».
وقال ابْنُ عطيَّة: «وقَاسَمَهُمَا» أي: حَلَفَ لهما، وهي مفاعلة إذْ قَبُولُ المحلوف له، وإقباله على معنى اليمينِ كالقسم وتقريره: وإنْ كان بَادِىء الرَّأي يعطي أنَّها من واحد ويحتمل أنَّ «فاعل» بمعنى «أفعل» كبَاعَدْته، وأبْعَدْتُهُ، وذلك أنَّ قوله الحَلْف إنَّما كان من إبليس دونهما، وعليه قول خالدِ بْن زُهير: [الطويل]
58
قال قتادةُ: حلف لهما بالله حتى خَدَعَهُمَا، وقد يُخْدَعُ المُؤمِنُ بالله.
﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ أي: قال إبليس: إنِّي حلفت قبلكما، وأنا أعلم أحْوالاً كثيرةً من المصالحِ والمفاسد، لا تَعْرِفَانها، فامْتَثِلا قولي أرشِدكُمَا، وإبليسُ أوَّلُ من حَلَفَ باللَّهِ كاذباً، فلمَّا حلف ظن آدم أنَّ أحداً لا يحلف بالله إلاَّ صَادِقاً فاغبر به.
قوله: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ يجوز في «لَكُمَا» أن تتعلق بما بعده على أن «أل» معرفة لا موصولة، وهذا مذهبُ أبي عُثْمان، أو على أنَّها موصولةٌ، ولكن تُسُومح في الظَّرْفِ وعدليه ما لا يتسامح في غيرهما أتِّسَاعاً فيهما لدورانهما في الكلام، وهو رَأيُ بعض البَصْريِّين، وأنْشَدَ: [الرجز]
٢٤٣١ - وَقَاسَمَها باللَّهِ جَهْداً لأنْتُمُ ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُها
٢٤٣٢ - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذا تَمَعْدَدَا كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أُجْلَدَا
ف «بِالعَصَا» متعلِّقٌ بأْجلَدا وهو صلة أنْ، أو أن ذلك جائزٌ مطلقاً، ولو في المفعول به الصَّريح، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا: [الكامل]
٢٤٣٣ -....................... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي
أي: أن تسألي خابراً، أو أنُّهُ متعلِّقٌ بمحذوف على البيانِ أي: أعني لَكُمَا كقولهم: سُقْياً لك، ورَعْياً، أو تعلَّقَ بمحذوف مدلول عليه بصِلَةِ أل أي: إنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا، ومثل هذه الآية الكريمة: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ [الشعراء: ١٦٨]، ﴿وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين﴾ [يوسف: ٦٨].
وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مَسْألةِ أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب «من».
ونَصَحَ يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه، وتارةً بحرف الجرِّ، ومثله شَكَرَ، وقد تقدَّمَ، وكال، ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر والتَّعدِّي بنفسه، أو كل منهما أصْلٌ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ.
وزعم بعضُهم أنَّ المفعول في هذه الأفْعَالِ محذوفٌ، وأنَّ المجرور باللاَّم هي الثَّاني، فإذا قُلْتَ: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ فالتقديرُ: نصحتُ لزيدٍ الرَّأيَ، وكذلك شضكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه وَوَزَنْتُ له متاعه فهذا مَذْهَبٌ رابع.
وقال الفرَّاءُ: «العربُ لا تَكَادُ تقول: نَصَحْتُكَ، إنَّمَا يَقُولُونَ نَصَحْتُ لك وأنْصَحُ لك»، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة: [الطويل]
٢٤٣٤ - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي
وهذا يقوِّي أنَّ اللاَّم أصلٌ.
59
والنُّصْحُ: بَذْلُ الجُهْدِ في طلب الخَيْرِ خاصَّةً، وضدُّهُ الغشُّ.
وأمَّا «نَصَحْتُ لِزَيْدٍ ثوبه» فمتعدٍّ لاثنين، لأحدهما بنفسه وللثاني بحرف الجرِّ بأتِّفاقٍ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بَذْلُ الجهد في الخير مأخُوذٌ من أحد معنيين: أمَّا من نَصَحَ أي أخْلَصَ ومنه: نَاصِحُ العسل أي خَالِصُهُ، فمعنى نَصَحَهُ: أخلص له الوُدَّ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْدَ والثَّوْبَ إذا أحكمت خياطتهما، ومنه النَّاسحُ للخيَّاطِ والنَّصَاحُ للخيط، فمعنى نَصَحه أي: أحكم رأيه منه.
ويقال: نَصَحه نُصُوحاً ونَصَاحَةً قال تعالى: ﴿توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ [التحريم: ٨] بضمِّ النُّونِ في قراءة أبِي بَكْرٍ، وقال الشَّاعر في «نَصَاحَةٍ» :[الطويل]
٢٤٣٥ - أحْبِبْتُ حُبّاً خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ............................
وذلك كذُهُوبٍ، وذهابٍ.
60
«الباء» للحال أي: مصاحبين للغرور، أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعل، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي: دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا.
والغُرُورُ: مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله، والتقديرُ: بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله: «فَدَلاَّهَمَا» يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ، والمعنى أطمعهما.
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ: لهذه الكلمة أصلان:
أحدهما: أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه، يقالُ: دَلاَّهُ: إذا أطْمَعَهُ.
قال أبُو جنْدَبٍ: [الوافر]
٢٤٣٦ - أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ
وأن تكون من الدَّالِّ، والدَّالَّةَ، وهي الجُرْأة [أي] : فَجَرَّأهما قال: [الوافر]
60
وعلى الثاني [يكون] الأصل دَلَّلَهُمَا، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم: تَظنَّيْتُ في تظَّننْت، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ. وقال: [الرجز]
٢٤٣٧ - أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ
٢٤٣٨ - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ فصل في معنى «فدلاهما بغرور»
قال ابنُ عبَّاس «فَدلاَّهُمَا بِغُرُورٍ» أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه. وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال: من خَدَعَنَا باللَّهِ؛ انخدعنا له.
قيل معناه ما زال يخدعه، ويكلمه بزخرف من القول باطل.
وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية، ولا يكونُ الدلوى إلاَّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ.
قوله: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة﴾ «الذَّوْقُ» وجود الطَّعْمِ بالفَم، ويعبر به عن الأكل وقيل: الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه: ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ، يَصُومُ صَوْماً، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً.
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل.
قوله: ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما.
روي عن ابن عباس أنَّهُ قال: قبل أن ازدردا أخذتها العقوبة وظهرت لهما عورتهما، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك.
قوله «وطَفِقَا» طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى،
61
فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعاً، ولا يجوز أن يقترن ب «أن» لمنافاتها لها؛ لأنها للشُّروع وهو حال و «أنْ» للاستقبال، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله: [الوافر]
٢٤٣٩ - وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ
وشرطيَّة ك «إذا» كقوله عمر: «فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً».
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً، والألف اسمها، و «يَخْصَفَان» خَبَرُهَا.
وقرأ أبُوا السمالِ: «وطَفَقَا» بفتح الفاء. وقرأ الزُّهْرِيُّ: «يُخْصِفَانِ» بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ.
والثاني: أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ، أي: يُخْصِفَانِ أنفسهما، أي: يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ.
وقرأ الحسنُ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ «يَخِصِّفانِ» بفتح الياء وكسر الخاء، والصَّاد مشدودةٌ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في «يُونس» و «يس» نحو ﴿يهدي﴾ [يونس: ٣٥] و ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ [يس: ٤٩].
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ.
وقرأ عبد الله «يُخُصِّفان» بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من «خَصِّفَ» بالتَّشديد، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ.
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم «يُخَصِّفان» كذلك، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها.
62
و «الخصفُ» : الخَرْزُ في النِّعالِ، وهو وَع طريقة على أخرى وخرْزهما، والمِخْصَفُ: ما يُخْصَفُ به، وهو الإشفَى.
قال رُؤبَةُ: [الكامل]
٢٤٤٠ -........................ أنْفِهَا كالمِخْصَفِ
والخَصْفَةُ أيضاً: الحُلَّةُ للتَّمْر، والخَصَفُ: الثِّيابُ الغَلِيظَةُ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ: نَسَجْتُهَا، والأخْصَف: الخَصِيفُ طعام يبرق، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها.
وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [المنسرح]
٢٤٤١ -... طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي... مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ
يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز، ويطابق بعضها فوق بعض.

فصل


قال المُفَسِّرُون: جعلا يَخْصِفَانِ ويرقعان ويلْزِقَانِ ويصلانِ عليهما من ورق الجنَّةِ، وهو ورق التِّين حتى صار كهيئة الثَّوْبِ.
قال الزَّجَّاجُ: يجعلان ورقةً على وقرةٍ لِيَسْتُر سَوْءَاتِهِمَا.
وروى أبَيُّ بنُ كعبٍ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان آدَمُ طوالاً كأنَّهُ نَخْلَةٌ سحوق كثيرة شَعْرِ الرَّأسِ، فلما وقع بالخطيئة بَدَتْ له سوأته، وكان لا يراها فانْطَلَقَ هَارِباً في الجنَّةِ،
63
فعرضت له شجرةٌ من شجر الجنَّةِ فحبسته بشَعْرِهِ فقال لها أرسِلِيني؛ قالت: لَسْتُ بِمُرْسِلَتكَ، فَنَادَاهُ ربُّهُ: يا آدمُ أين تَفِرُّ قال: لا يَا رَب، ولكني استحييتك»
وفي الآية دليل على أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ قبيحٌ من لدن آدم، ألا تَرَى أنَّهُُما كيف بادرا إلى السَّتْرِ، لما تقرَّر في عقلهما من قُبْحِ كَشْفِ العورة.
قوله: «عليهما» قال أبُو حيَّان: الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في «عليهما» على عَوْرَتَيْهِمَا، كَأنَّهُ قيل: يَخْصِفَانِ على سَوءأتيهما، وعاد بضمير الاثنين؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ بن اثنان.
ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظاً أو مَحَلاًّ في غير باب «ظَنّ»، و «قَعَدَ» و «عَدمَ»، و «وَجَد» لا يجُوزُ زيد ضربه، ولا ضَرَبَهُ زيد، ولا زَيْدٌ مَرَّ به، ولا مَرَّ به زيدٌ، فلو جعلنا الضَّمِيرَس في «عَلَيْهِمَا» عائداً على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلاًّ، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل، وهو الألف في «يَخْصِفَانِ»، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد؛ جَازَ ذلك، تقديره: يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا.
قال شهابُ الدِّين: ومثل ذلك فيما ذكر ﴿وهزى إِلَيْكِ﴾ [مريم: ٢٥]. ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢].
وقول الشاعر: [المتقارب]
٢٤٤٢ - هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا
وقوله: [الطويل]
٢٤٤٣ - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ ولكِنَ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ
قوله: «مِنْ وَرَقِ» يحتملُ وَجْهَيْنِ:
أن تكون «مِن» لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ. ؟
و «نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا» لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به.
وقوله: «أَلَمْ أنْهَكُمَا» يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها
64
ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ، هي مَعْمُولَةٌ له أي: فقال: لم أنْهَكُمَا.
وقال بعضَهُم: هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره: وناداهما قَائِلاً ذلك. و «لَكُمَا» متعلِّقٌ ب «عَدُوّ» لما فيه من معنى الفِعْل، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من «عَدٌوِّ» ؛ لأنَّهَا تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفاً.

فصل في قوله «ألم أنهكما»


معنى قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة﴾ يعني: عن الأكْلِ منها وأقل لَكُمَا: إنَّ الشَّيْطانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ.
قال ابن عبَّاس: بيَّن العداوة حَيْثٌ أبي السُّجُود وقال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦].
65
قوله: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ : ضررناها بالمِعْصِيَةِ، وتقدَّمَ تفسِيرُهَا في سُورةِ البقَرةِ، وأنَّها تَدُلُّ على صدور الذَّنْبِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إلاَّ أنَّا نقُولُ: هذا الذَّنْبُ إنَّمَا صَدَرَ عنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
وفي قوله: ﴿قَالاَ رَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسنَا﴾ فائدةٌ: حَذْف حرف النداء هنا تعظيم المُنَادَى، وتَنْزِيهُهُ.
قال مَكِّي: كَثُر نِدَاءُ الرَّبِّ بحذف «يَا» من القرآن، وعلّةُ ذلك أن في حذف «يا» من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ: يا يزيدُ فمعناه: تعالا يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ، فحُذِفَتْ «يا» من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر يونقص، لأنَّ «يا» تُؤكِّده، وتُظهرُ معناهُ، فكان في حذف «يا» الإجلال، والتعظيم، والتنزيه.
قوله: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾ هذا شرط حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، فإن قيل: حرف الشَّرْطِ لام التَّوْطِئَةِ للقسم مقدرة كقوله: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ﴾ [المائدة: ٧٣] ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ ورُوُدِ لامِ التَّوْطِئَةِ قبل أداة الشَّرطِ في كلامهم. وتقدَّم إعرابُ ما بعد ذلك في البقرة.
وهذا خطابٌ يجبُ أن يتناول الثلاثة الذين تقدَّمَ ذِكرُهُم وهم: آدمُ، وحوَّاءُ، وإبليسُ، فالعداوة ثَابِتَةٌ بين الإنس والجنِّ، لا تزول ألْبَتَّةَ.
الكِنَايَةُ عائدةٌ إلى الأرض المذكورة في قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض﴾ [الأعراف: ٢٤].
وقرأ الأخوان وابنُ ذكوان «تَخْرُجونَ» هنا، وفي الجاثية [٣٥] ﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾، وفي الزخرف [١١] : و ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾، وفي أوَّلِ الروم [١٩] :﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ قرءُوا الجميع مبنياً للفاعل، والباقون قرءوه مبنيّاً للمفعول، وفي أوَّلِ الرُّوم خلاف عن ابن ذكوان، واحترزنا بأوَّل الروم [٢٥] عن قوله: ﴿إِذَا أَنتُمْ تُخْرُجُونَ﴾ [فإنَّهُ قرأ] مبنياً للفاعل. من غير خلاف، ولم يذكر بعضهم موافقة ابن ذكوان للأخوين في الجاثية. والقراءتَانِ واضِحَتَانِ.
في نظم الآية وجهان:
أحدهما: أنَّهُ تعالى لما بيَّنَ أنَّهُ أمر آدم وحوَّاءَ بالهُبُوطِ إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مُسْتَقَرّاً بين بعده أنَّهُ تعالى أنزل كلَّ ما يحتاجون إليه في الدُّنْيَا، ومن جملة ما يُحتاج إليه في الدِّين والدُّنيا اللِّباس.
والثاني: أنَّهُ تعالى لمّا ذكر واقعة آدم في انكشاف العَوْرَةِ، وأنَّهُ كان يخصف الورق على عَوْرَتَيْهِمَا، أتبعه بأن بيَّنَ أنَّهُ خلق اللِّباسَ للخلق، ليستروا به عَوْرَتَهُم، ونبه بتكون الأشياء التي يَحْصُلُ منها اللِّبَاسُ، فصار كأنَّهُ تعالى أنزل اللِّباسَ أي: أنزل أسْبَابَهُ، فعبَّر بالسَّبَبِ عن المُسَبِّبِ.
وقيل: معنى «أنْزَلْنَا» أي: خلقنا لكم.
وقيل: كلُّ بَرَكاتِ الأرضِ منسوبةٌ إلى السَّماءِ كقوله تعالى: ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥] وإنَّما يُسْتَخْرَجُ الحديدُ من الأرْضِ، وقوله: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦].
وسبب نزلو هذه الآية أنَّهُم كانُوا يطوفون بالبَيْتِ عُرَاةً، ويقولون: لا نطوفُ في ثياب عصينا الله فيها، فكان الرِّجالُي يطوفون بالنَّهارِ، والنِّسَاءُ باللَّيْلِ عراة. قال قتادة.
66
كانت المرأة تطوف، وتضع يَدَهَا على فَرْجِهَا، وتقول: [الرجز]
٢٤٤٤ - أَليَوْمَ يَبْدُوا بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أحِلُّهُ
فأمر اللَّهُ تعالى بالسَّتْرِ فقال: ﴿لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾ يستر عوراتِكُم، واحدتها سَوْءَةُ، سمِّيت بها؛ لأنَّهُ يسوءُ صاحبه انكشافُهَا، فلا يطوف عارياً.
قوله: «يُوَارِي» : في محلِّ نصبٍ صفة ل «لِبَاساً».
وقوله: «وَرِيشاً» يحتملُ أن يكون من باب عَطْفِ الصِّفاتِ، والمعنى: وصف اللِّبَاسِ بشيئين: مواراة السَّوْءَةِ، وعبَّر عنها بالرِّيشِ لأنَّ الرِّيشَ زينة للطَّائِر، كما أنَّ اللَّباسَ زينة للآدميِّين، ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «والرِّيشُ لباسُ الزِّنة، استعير من ريش الطَّيْرِ؛ لأنَّهُ لباسه وزينته».
ويحتمل أن يكون من باب عطف الشَّيءِ على غيره أي: أنْزَلْنَا عليكم لباسين، لباساً موصوفاً بالمُواراةِ، ولِبَاساً موصوفاً بالزِّينةِ، وهذا اختيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال بعد ما حَكَيْتُه عنه آنفاً: «أي: أنزلنا عليكم لباسَيْن، لباساً يُواري سَوْءاتكم، ولباساً يُزَيِّنُكُم؛ لأنَّ الزَّينةَ غرضٌ صحيحٌ كما قال تعالى: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: ٨] ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ [النحل: ٦] وعلى هذا، فالكلامُ في قوة حذف موصوف، وإقامةِ صفته مُقامه، والتَّقْديرُ: ولباساً ريشاً أي: ذا ريش».

فصل في وجوب ستر العورة


قال القُرْطُبِيُّ: استدلَّ كثر من العلماء بهذه الآيةِ على وجوب ستر عَوْرَاتهم، وذلك يدلُّ على الأمر بالسَّتْر، ولا خلاف في وجوب سَتْرِ العَوْرَةِ.
واختلفوا في العَوْرَةِ ما هي؟ فقال ابْنُ أبي ذئْبٍ: هي القُبُلُ والدُّبُرُ فقط، وهو قول أهْلِ الظَّاهِر، وابن أبي عَبْلة والطَّبْرِيِّ لقوله تعالى: ﴿لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾، وقوله: ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٢]، وقوله: ﴿لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِكُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧].
وفي البخاريِّ عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَسَرَ الإزار عن فَخِذِهِ حَتّى إنِّي أنْظُرُ إلى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال مالكٌ: «ليست السُّرَّة بِعَوْرَةٍ، وأكره له أنْ يَكْشِفَ فَخذَهُ».
67
وقال الشافعيُّ: «ليست السُّرَّة ولا الركبتان من العورة على الصحيح».
وقال أبُو بَكْر بْنُ عبْدِ الرَّحمْنِ بْنِ الحارث بن هشام: «كلُّ شيء من الحرة عورةٌ، حتى ظَّفِّرهَا، وهو حسن».
وعن أحْمَد بْنِ حَنْبلٍ: «وعورة الأمَةِ ما بين السُّرَّة والرُّكبة وأم الولدِ أغلظ حالاً من الأمَةِ».
و «الرِّيْشُ» فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لهذا الشَّيءِ المعروف.
والثاني: أنَّهُ مصدرٌ يقال: راشه يريشه رِيشاً إذا جعل فيه الرِّيشَ، فينبغي أنْ يكون الريش مُشْتَركاً بين المصدر والعينِ، وهذا هو التَّحقيق.
وقرأ عثمانُ وابن عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والسُّلميُّ وعليُّ بْنُ الحسيْنِ وابنه زيْدً، وأبو رجَاء، وزرُّ بْنُ حبيشٍ وعاصمٌ، وأبُو عَمْروا - في رواية عنهما -: «وَرِيَاشاً»، وفيها تأويلان:
أحدهما - وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ -: أنَّهُ جمعُ رِيْش، فيكون كشِعْب وشِعابٍ، وذِئْبٍ وذئَابٍ، وقِدْحٍ وقِدَاحٍ.
والثاني: أنَّه مصدر أيضاً، فيكون رِيشٌ وِرِيَاشٌ مصدرين ل «رَاشَهُ اللَّهُ ريشاً ورِيَاشاً» أي: أنْعَمَ عليه.
وقال الزجاجُ: «هما اللِّبَاسُ، فعلى هذا هما اسمان للشَّيْءِ المَلْبُوسِ، كما قالوا: لِبْسٌ ولباسٌ».
وجوَّز الفراء أن يكون «رِيَاش» جمع «رِيش»، وأن يكون مصدراً فأخذ الزَّمَخْشَرِيُّ بأحد القولين، وغيرُه بالىخر، وأنشدوا قول الشاعر: [الوافر]
٢٤٤٥ - وَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ وَإنْ كَانَتْ زِيَارتُكُمْ لِمَامَا
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي قال: «كُلُّ شيءٍ يعيشُ به الإنسانُ، من متاع، أو مال، أو مأكول، فهو ريشٌ ورِيَاشٌ» وقال ابن السكِّيتِ: «الرِّيَاشُ مختص بالثِّيابِ، والأثاثِ، والرِّيش قد يُطلق على سَائِرِ الأمْوالِ».
قال ابنُ عباسِ ومجاهدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: «وريشاً يعني مالاً، يقال تريش الرَّجُل إذا تَمَوَّلَ».
68
وقيل: الرِّيشُ: الجمالُ كام تقدَّم أي: ما يتجملون به من الثِّيابِ.
وقوله: ﴿وَلِبَاسُ التقوى﴾.
قرأ نافعٌ وابن عامرٍ والكسائيُّ: «لباسَ» بالنَّصْبِ، والباقون بالرَّفْعِ. فالنَّصْبُ نَسَقاً على «لِبَاساً» أي: أنزلنا لِبَاساً مُوارِياً وزينة، وأنزلنا أيضاً لِبَاس التَّقْوَى، وهذا يُقَوِّي كَوْنَ «رِيشاً» صفة ثانية ل «لِبَاساً» الولى إذْ لو أراد أنَّهُ صفة لِبَاسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه، كما أبْرَزَ هذا اللِّبَاسَ المضاف للتَّقْوَى.
وأما الرَّفْعُ فمن خَمْسَةِ أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكون «لِبَاس» مبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «خير» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأوَّلِ، والرَّابِطُ هنا اسم الإشارة، وهو أحد الرَّوابِطِ الخَمْسَةِ المتفق عليها، ولنا رابط سَادِسٌ، فيه خلاف تقدَّم التنبيه عليه.
وهذا الوَجْهُ هو أوْجَهُ الأعَارِيبِ في هذه الآية الكريمة.
الثاني: أن يكون «لِبَاس» خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لِبَاسُ، وهذا قول أبي إسحاق، وكأنَّ المعنى بهذه الجملة التَّفسيرُ لِلبَاس المتُقدم، وعلى هذا، فيكونُ قوله «ذَلِكَ» جملة أخرى من مبتدأ وخبر.
وقدَّره مكي بأحسن من تَقْدير الزَّجَّاجِ فقال: «وسَتْر العورة لباس التَّقْوَى».
الثالث: أن يكون «ذلك» فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قَوْلُ الحوفيِّ، ولا نعلم أنَّ أحداً من النُّحَاةِ أجَازَ ذلك، إلاَّ أنَّ الواحِدِيَّ قال: [ومن قال] إن ذلك لَغْوٌ لم يكن على قوله دلالة؛ لأنَّهُ يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا.
قال شهابُ الدِّين: «فقوله» لَغْوٌ «هو قريب من القول بالفَصْلِح لأنَّ الفَصْلَ لا محلَّ له من الإعرابِ على قول جمهور النَّحويين من البصريين والكوفيين.
الرابع: أن يكون»
لِبَاس «مبتدأ و» ذلك «بَدَلٌ منه، أو عطف بيان له، أو نعت، و» خيرٌ «خبره، وهو معنى قول الزَّجَّاجِ وأبِي عليٍّ، وأبِي بَكْرِ بْنِ الأنْبَاريِّ، إلا أنَّ الحُوفي قال: وأنا أرى ألاَّ يكون» ذلك «نعتاً ل» لِبَاسُ التَّقْوَى «؛ لأنَّ الأسْمَاء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللاَّم، وما أضيف إلى الألف واللاَّمِ، وسبيل النَّعْتِ أن يكون مُسَاوِياً للمنعوت، أو أقَلَّ منه تَعْرِيفاً، فإنْ كان قد تقدَّم قول أحدٍ به فهو سهوٌ.
قال شهابُ الدِّين: أمّا القَوْلُ به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزَّجَّاج والفارسي وابن
69
الأنْبَارِيّ، ونصَّ عليه أبُو عليٍّ في» الحُجَّةِ «، أيضاً وذكره الوَاحِدِيُّ.
وقال ابن عطيَّة:»
هو أنبل الأقوال «.
وذكر مكيٌّ الاحتمالات الثلاثة: أعني كَوْنَهُ بَدَلاً، أو بياناً، أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحُوفِيُّ صحيحٌ من حيث الصِّناعةِ، ومن حيثُ إنَّ الصَّحيحَ في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة؛ ولكن قد يُقَالُ: القائلُ بكونه نَعْتاً لا يجعله أعرف من ذِي الألِفِ واللام.
الخامس: جوَّز أبُو البقاءِ أن يكون»
لِبَاسُ «مبتدأ، وخبره محذوف أي: ولباسُ التَّقْوى ساتر عوراتكم وهذا تَقْدِيرٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ.
وإسنادُ الإنزالِ إلى اللِّبَاسِ: إمَّا لأنَّ»
أنْزَلَ «بمعنى» خَلَقَ «كقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥] ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦]، وإمَّا على ما يسمِّيه أهل العلم التدريج، وذلك أنَّهُ ينزِّلُ أسْبَابَهُ، وهي الماء الذي هو سَبَبٌ في نبات القُطْنِ والكتَّانِ، والمَرْعى الذي تَأكُلُه البَهَائِمُ ذوات الصُّوف والشَّعَرِ، والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ منها الملابِسُ؛ ونحوه قول الشاعر: [الرجز]
٢٤٤٦ - أقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ أسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ
فجعله جَائِياً للأسنمة التي للإبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها، وقريب منه قول الآخر: [الوافر]
٢٤٤٧ - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غَضَابَا
وقال الزَّمَخْشَريُّ: جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء؛ لأنَّهُ قضي ثَمَّ وكتب، ومنه ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦].
وقال ابن عطيَّة: «وأيضاً فَخَلْقُ اللَّه وأفعاله، إنَّما هي من علوٍ في القَدْر والمنزلة»
، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه أول الآية.
وفي قراءة عبد الله وأبَيّ «ولِبَاسُ التَّقْوى خَيْرٌ» بإسقاط «ذلك» وهي مقوِّية للقول بالفصل والبدلِ وعَطْفِ البَيَانِ.
وقرأ النَّحْوِيُّ: «ولبُوسُ» بالواو ورفع السِّين. فأمَّا الرَّفع ُفعلى ما تقدَّم في «
70
لباس»، وأمَّا «لبُوسُ» فلم يعينوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] ؟ أو بضمِّ اللاَّم على أنَّهُ جمع؟ وهو مشكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْسٍ بكسر اللام بمعنى مَلْبُوسٍ.
قوله: ﴿ذلك مِنْ آيَاتِ الله﴾ مبتدأ وخبر، والإشارةُ به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللِّبَاسِ والرِّيش ولباس التَّقْوَى.
وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور، وهو لباسِ التقوى فقط.

فصل في المراد ب «لباس التقوى»


اختلفوا في لابس التَّقْوَى، فقيل: هو نَفْسُ المَلْبُوسِ، وقيل: غيره. وأما الأوَّلُ ففيه وجوه:
أحدها: هو اللِّبَاسُ المواري للسَّوْءَةِ، وإنَّما أعادَهُ اللَّهُ لأجْلِ أن يخبر عنه بأنَّهُ خير؛ لأنَّ أهل الجاهليَّةِ كاناو يَتَعَبَّدُونَ بالعري في الطَّوافِ بالبَيْتِ، فجرى هذا التَّكْرير مجرى قول القائل: «قد عرَّفْتُكَ الصِّدق في أبواب البرِّ، ولاصِّدْقُ خيرٌ لك من غيره»، فيعيد ذكر الصِّدق لِيُخبرَ عنه بذلك المعنى.
وثانيها: لِبَاسُ التَّقْوَى هو الدُّرُوعُ والجواشن والمَغَافِرُ، وما يُتقى به في الحرُوبِ.
وثاليها: لِبَاسُ التَّقْوَى ما يُلبس لأجْلِ إقامَةِ الصَّلاةِ.
ورابعها: هو الصُّوفُ والثِّيَابُ الخَشِنَةُ التي يلبسها أهل الورع.
وأمَّا القَوْلُ الثَّانِي، فيحمل لباسُ التَّقْوَى على المَجَازِ.
وقال قتادةُ والسُّدِّيُّ وابن جُرَيْج: هو الإيمانُ.
وقال ابن عباس: هو العَمَلُ الصَّالِحُ.
وقال عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ والكلْبِيُّ: السَّمْتُ الحَسَنُ.
وقال الكَلْبِيُّ: العفافُ والتَّوحيدُ؛ لأنَّ المؤمنَ لا تبدو عورته وإن كان عَارياً من الثِّيابِ، والفَاجِرُ لا تزمالُ عورته مَكْشُوفَة وإن كان كاسياً.
71
وقال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هو خشية الذّم.
وقال الحَسَنُ وسعيدٌ: هو الحياء؛ لأنَّهُ يَبْعَثُ على التَّقْوَى.
وإنما حمل لفظ اللِّباس على هذه المجازات؛ لأنَّ اللِّباسَ الذي يفيد التقوى ليس إلاّ هذه الأشياء.
وقوله: «ذَلِكَ خَيْرٌ» قال أبُو عليٍّ الفارِسِيُّ: معناه: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب إلى اللَّه تعالى مما خلق من اللِّباسِ والرِّيَاشِ الذي يتجمَّلُ به. وأُضيف اللِّبَاسُ إلى التَّقْوَى، كما أُضيف إلى الجُوعِ في قوله: ﴿فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع﴾ [النحل: ١١٢].
وقوله: ﴿ذلك مِنْ آيَاتِ الله﴾ أي: الدَّالة على فضله ورحمته على عباده، لعلهم يَذَّكَّرُونَ النِّعْمَةَ.
72
اعلم أنَّ المَقْصُود من ذكر قَصَص الأنْبِيَاءِ - عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ - حصولُ العِبْرَةِ لمن يَسْمَعُهَا، فالله - تعالى - لما ذَكَرَ قصَّة آدم، وبيَّن فيها شدَّة عداوة الشَّيْطان «كما أخْرَجَ أبَوَيْكُم مِنَ الجَنَّةِ»، وذلك لأن الشَّيْطَانَ لما بلغ بكيده، ولُطْفِ وسْوَسَتِهِ إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزّلة الموجبة لأخراجه من الجنَّة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حقِّ بني آدم أولى.
فقوله: «لا يَفْتِنَنَّكُم» هو نهي للشَّيْطَان في الصُّورةِ، والمرادُ نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإصغاء إليه، والمعنى: لا يصرفنكم الشيطان عن الدِّين كما فَتَنَ أبَويْكُم في الإخْرَاجِ من الجنَّةِ، وقد تقدَّم معنى ذلك في قوله: ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ أعراف: ٢].
وقرأ ابن وثَّابٍ وإبْرَاهِيمُ: «لا يُفْتِنَنَّكُمْ» [بضمّ] حرف المضارعة من أفْتَنَهُ بمعنى حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ.
وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: «لا يَفْتِنْكُم» بغير نون توكيدٍ.
قوله: «كَمَا أخْرَجَ» : نعت لمصدر محذوف أي: لا يَفْتننكم فتنةً مثل فتنة إخْرَاجِ
72
أبَويكُم. ويجوزُ أن يكُون التَّقْدِيرُ: لا يُخْرِجّنَّكم بفتنته إخراجاً مثل أخْرَاجِ أبويكم.
و «أبَويْكُم» واحد أبٌ للمذكَّر، وأبة للمُؤنَّثِ، فعلى هذا قيل «أبَوَانِ».

فصل في دحض شبة من نسب المعاصي إلى الله


قال الكَعْبِيُّ: هذه حجَّةٌ على من نسب المَعَاصِي إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه تعالى نسبَ خروج آدم وحوَّاء، وسائر وجوه المعَاصِي إلى الشَّيْطَان، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى [بريءٌ عنها، فيقال له: لِمَ قُلْتُم أنَّ كون هذا العمل منسوباً إلى الشَّيْطَانِ يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى؟] ولِمَ لا يجوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى لمَّا خلق القُدْرَةَ والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الدَّاعية بعد تزيين الشيطان وتحْسينِه تلك الأعمال، عند ذلك الكَافِرِ، كان منسوباً إلى الشَّيْطَانِ؟

فصل في إخراج آدم من الجنة عقوبة له


ظاهرُ الآيةِ يَدُلُ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا أخرج آدَمَ وحَوَّاءَ من الجنة، عُقُوبَة لهما على تلك الزَّلَةِ، وظاهرُ قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى خلقهما لخلافةِ الأرضِ، فأنْزَلَهُمَا من الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لهذا المقصود، فكيف الجمع بين الوَجْهَيْنِ؟
وجوابُهُ: ربما قيل حصل بمجموع الأمْرَيْن، وأنَّهُ خلقه ليجعله خليفة في الأرض، وجعل سبب نزوله إلى الأرْضِ وإخراجه من الجَنَّةِ هي الزلة.
قوله: «يَنْزعُ» جملة في محل نَصْبٍ على الحالِ، وفي صاحبها احتمالان:
أحدهما: أنَّه الضَّميرُ في «أخْرَجَ» العائدُ على الشَّيْطَانِ، وأضاف نزع اللِّبَاسِ إلى الشَّيْطَانِ، وإن لم يباشر ذلك؛ لأنَّهُ كان بسبب منه، فأُسند إليه كما تقول: «أنْتَ فعلت هذا» لمن حصل ذلك الفعل بسبب منه.
والثاني: أنَّهُ حال من أبَوَيْكُم، وجاز الوجْهَان؛ لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلِّ من التَّقديرَيْنِ، والصِّناعَةُ مساعدة لذلك، فإنَّ الجملة مشتملةٌ على ضمير الأبَويْنِ، وعلى ضَميرِ الشَّيْطَانِ.
قال أبُو حَيَّان: فلو كان بدل «يَنْزعُ» نازعاً تعيَّن الأوَّلُ؛ لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثَّاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له، فكان يجب إبراز الضَّمير، وذلك على مذهب البَصْرِيِّينَ.
قال شهابُ الدِّين: يعني أنَّهُ يفرَّق بين الاسم والفعل، إذا جَرَيَا على غير ما هُمَا لضهُ في المَعْنَى، فإن كَانَ اسْمَاً كان مذهب البَصْريِّينَ ما ذكر، وإنْ كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى
73
ذلك، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المَسْألةِ، وأنَّ ابن مالكٍ سَوَّى بينهما، وأنَّ مكيّاً له فيها كلامٌ مُشْكلٌ.
وجيء بِلَفْظِ «يَنْزعُ» مضارعاً على أنَّهُ حكاية حال كأنَّها قد وقعت وانقضت.
والنَّزْعُ: الجَذْبُ للشَّيءِ بقوَّة عن مقرِّه، ومنه: ﴿تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠].
ومنه نَزْع القوس وتستعمل في الأعراض، ومنه نَزْعُ العداوةِ والمحَبَّةِ من القَلْبِ، ونُزع فلان كذا سُلبَه، ومنه ﴿والنازعات غَرْقاً﴾ [النازعات: ١] لأنَّها تَقْلَعُ أرواح الكَفَرَة بِشِدَّةِ، ومنه المُنَازَعَةُ وهي المخاصمة.
والنَّزْعُ عن الشَّيْء كفٌّ عنه، والنَّزْعُ: الاشتياقُ الشَّدِيدُ، ومنه نَزَع إلى وَطَنِهِ ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً، وأنْزَعَ القَوْمُ: نَزعَتْ إبلهم إلى مواطنها، ورجل أنْزَعُ أي: َالَ شعرُه، والنَّزْعَتَانِ بياض يكتنف النَّاصِيَة، والنَّزْعة أيضاً الموضع من رأس الأنْزَع، ولا يُقَالُ: امرأةٌ نَزْعَاءُ إذا كان بها ذلك، بل يُقَالُ لها: زَعْرَاءُ، وبئر نَزُوع: أي قَرِيبَةٌ القَعْرِ لأنَّهَا يُنزع منها باليدِ.

فصل في معنى «اللباس»


اختلفوا في اللِّبَاسِ الذي نزع عنهما، فقيل: النُّورُ، وقيل: التُّقَى.
وقيل: ثِيَابُ الجَنَّةِ، وهذا أقرب؛ لأنَّ إطلاق اللِّبَاسِ يقتضيه، والمقصودُ، تأكيد التَّحْذِيرِ لبني آدم.
واللامُ في قوله: «لِيُرِيهمَا سَوْءَاتِهِمَا» لام العاقبة كما ذكرنا في قوله: «لِيُبْدِي لَهُمَا».
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: يرى آدمُ سَوْءَةَ حَوَّاءَ، وترى حواءُ سَوْءَاةَ آدَمَ.
قوله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ وهو تأكيد للضَّميرِ المتَّصل ليسوَّغَ العطف عليه، كذا عبارة بعضهم.
قال الوَاحِدِيُّ: أعاد الكِنايَةَ ليحسن العَطْفَ كقوله: [ ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ [البقرة: ٣٥].
قال شهابُ الدِّين: ولا حاجةَ إلى التَّأكِيدِ في مثل هذه الصُّورَةِ] لِصِحَّةِ العَطْفِ إذ الفَاصِلُ هنا موجود، وهو كاف في صحة العطف، فليس نظير ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ وقد تقدَّم بحثٌ في ﴿سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ﴾،
74
وهو أنَّهُ ليس من بابِ العَطْفِ على الضَّمير لمانع ذُكِرَ ثَمَّ.
و «قبيلُه» المشهور قراءته بالرَّفْعِ نسقاً على الضَّميرِ المُسْتَتِر، ويجوز أن يكون نَسَقاً على اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سِيَّمَا عند مَنْ يَقُولُ: يجوزُ ذلك بعد الخَبَر بإجْمَاع.
ويجوز أنْ يكون مُبْتَدأ محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثةُ أوجهٍ.
وقرأ اليزِيدِيُّ «وقبيلَه» نصباً، وفيها تخريجان.
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ نَسَقاً على اسم «إنّ» لفظاً إن قلنا: إنَّ الضَّميرَ عائد على «الشّيْطَان»، وهو الظَّاهِرُ.
والثاني: أنَّهُ مفعولٌ معه أي: يَرَاكم مُصَاحباً لقبيله.
والضَّميرُ في «إنَّهُ» فيه وجهان:
الظَّاهر منهما كما تقدَّم أنه للشَّيطان.
والثاني: إن يكون ضمير الشَّأن، وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.
والقَبِيلُ: الجَمَاعَةُ يكونُونَ من ثلاثةٍ فصاعداً من جماعة شتَّى، قاله أبو عبيد وجمعه قبل، والقبيلةُ: الجماعة من أبٍ واحد، فليست القبيلةُ تَأنِيثُ القَبيلِ لهذه المُغَايَرَةِ.
وقال ابْنُ قُتَيْبة: قبيله: أصحابه وجنده، وقال: «وهو وقَبِيلُهُ» أي هو ومن خلق من قبله.
قال القُرْطُبِيُّ: قبيله: جُنَودُهَ.
وقال مُجَاهِدٌ: يعني الجنَّ والشَّيَاطِينَ.
وقال ابْنُ زَيْد: نسله، وقيل: خيله.
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ «مِنْ» لابتداء غاية الرؤية و «حَيْثُ» ظرف لمكان انتفاء الرُّؤيَةِ، و «لا تَرَوْنَهُم» في محلِّ خفض بإضافة الظَّرْفِ إليه، هذا هو الظَّاهِرُ في أعراب هذه الآية.
ونقل عن أبي إسْحَاقَ كلام مُشْكل، نذكره لئِلاَّ يتوهّم صِحَّتَهُ من رآه.
75
قال أبو إسحاق: ما بعد «حَيُْ» صلة لها؛ وليست بمضافة إليه.
قال الفَارِسيُّ: هذا غير مستقيم، ولا يصحُّ أن يكون ما بعد «حيث» صلة لها؛ لأنَّهُ إذا كان صلة لها؛ وجب أن يكون للموصولة فيه ذكرن كما أن سائر صلاة الموصُولِ ذِكْراً للموصول، فَخُلُوُّ الجملة التي بعد «حَيْثُ» من ضمير يَعُودُ على حيثُ دليل على أنَّهَا ليست صلة ل «حيث»، وإذا لم تكن صلة؛ كانت مضافَةً.
فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نُقَدِّرُ [العائد] في المَوْصُولات، فإذا قلت: «رأيتك حيث زيدٌ قائمٌ» كان التَّقْدِيرُ: حيث ائمه ولو قلت: «رأيتُكَ حيثُ قَامَ زَيْدٌ» كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم استعَ في الحرف فحذف، واتَّصل الضَّمِيرُ فحذف، كما يحذف في قولك: زيدٌ الذي ضربت أي الذي ضربته.
فالجواب: لو أُريد ذلك لجاز استعمال هذا الأصل فتركهم لهذا الاستعمال دليل على أنَّهُ ليس أصلاً له.
قال شهابُ الدِّين: أما أبُو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى «الَّذِي»، لا يقول بذلك أحَدٌ، وإنَّمَا يَزْعُمُ أنَّهَا ليست مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصِّلَةِ لها أي: كالزِّيَادَةِ، وهو كلام مُتَهَافِتٌ، فالرَّدُ عليه من هذه الحَيْثِيَّةِ لا من حيْثية اعتقاده لكونها مَوْصُولةً.
ويحتمل أن يكون مراده أنَّ الجملةَ لمَّا كانت من تمَامِ معناها بمعنى أنَّهَأ مفتقرةٌ إليها كافْتِقَار الموصول لِصِلَتِهِ أطلق عليها هذه العبارة.
ويَدُلُّ على ذلك أنّ مكّياً ذكر في علة بنائها فقال: «ولأنَّ ما بعدها من تَمَامِهَا كالصِّلَةَ والموصول» إلا أنَّهُ يرى أنَّهَا مضافة لما بعدها.
وقرىء «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُ» بالإفراد، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الضَّمِيرُ عَائِداً على الشَّيْطَانِ وَحْدُهُ دون قبيله لأنه هو رأسهم، وهم تَبَعٌ له، ولأنَّهُ المَنْهِيُّ عند أوَّلَ الكلامِ.
والثاني: أن يَعُودَ عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضَّمير إجراءً له مجرى اسم الإشارة في قوله تعالى: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨].
ونظير هذه القراءة قول رُؤبَةَ: [الرجز]
٢٤٤٨ - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلقْ كأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهقْ
وقد تقدَّنم هذا البَيْتُ بحكايته معه في البقرةِ.
76

فصل في المراد بالآية


معنى الآيةِ: أنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُم يا بَنِي آدَمَ هو وقبيلهُ وجنوده، وقال ابْنُ عبَّاسٍ: «هو وَوَلَدُهُ».
وقال قتادةُ: «قبيله الجنُّ والشَّياطين من حي لا ترونهم».
قال مَالِكُ بْنُ دينارٍ: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الموتة إلاَّ من عصم اللَّهُ.

فصل في بيان رؤية الجن الإنس


قال أهل السُّنَّةِ: إنَّهُم يرون الإنْسَ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً، والإنس لا يرونهم؛ لأنَّهُ تعالى لم يخلق هذه الإدراك في عيون الإنس.
وقالت المُعْتَزلَةُ: الوَجْهُ في أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لرقة أجْسَامِ الجنِّ، ولطفاتها، والوجه في رُؤيَة الجن الإنس كثافة أجسام الإنس، والوجه في أن يرى بعض الجنّ بعضاً أنَّ اللَّه تعالى يقوي شُعَاعَ أبْصَارِ الجِنِّ ويزيد فيه، ولو زاد تعالى في قُوَّةِ أبْصَارِنَا على هذه الحالة لرأيناهم وعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقف عِنْدَ المعتزلة إما على زيادة كثافةِ أجسَامِ الجنِّ أو على زيادة قُوَّةِ أبصار الإنْسِ.
وقوله ﴿مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم﴾ يدل على أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لأن قوله ﴿مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم﴾ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص.

فصل في تغير الجن في صور مختلفة


قال بعضُ العُلَمَاء: لو قدر الجِنُّ على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شَاءُوا وأرَادُوا؛ لوجب أنْ ترتفعَ الثِّقَةُ عن معروف النَّاس فلعلَّ هذا الذي أشاهده، وأحكم علية بأنَّهُ ولدي، أو زوجتي جنِّي صور نفسه بصورة ولدي أو زَوْجَتِي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاصِ، وأيضاً، ولو كانوا قَادِرِين على تخبيط النَّاسِ وإزالة عقولهم عنهم مع أنَّهُ تعالى بين العَدَاوَةَ الشديدة بينهم وبين الإنْسِ، فَلِمَ لا يفعلون ذلك في حق البشر؛ وفي حقِّ العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزُّهَّاد أكثر وأقوى، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنَّهُ لا قُدْرَةَ لهم على البشر بوجه من الوُجُوهِ، ويؤكِّدُ ذلك قوله ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾
[إبراهيم: ٢٢].
قال مُجَاهدٌ: قال إبليسُ: إعطينا أربعاً: نَرى ولا نُرى، ونخرج من تَحْت الثرى ويعودُ شيخنا فَتَى.
77
قوله ﴿إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون﴾.
يحتمل أنْ يكون «جعل» بمعنى «صَيَّر»، أي: صيَّرنَا الشَّياطين أولياء.
وقال الزَّهْرَاويُّ «جعل» هنا بمعنى «وصف» وهذا لا يعرف في جعل وكأنه فراراً من إسناد جَعْلِ الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى اللَّهِ تعالى وكأنَّها نزعة اعتزاليَّة.
و «للَّذِينَ» متعلِّقةٌ ب «أولياء» ؛ لأنه في معنى الفعل، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفة ل «أولياء».

فصل في المراد ب «أولياء»


معنى «أولياء» أي: أعْوَاناً وقرناء للَّذين لا يُؤمِنُون.
قال الزَّجَّاجُ: سلطناهم عليهم يزيدون في غَيِّهم كقولهم ﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً﴾ [مريم: ٨٣] واحتج أهل السنة بهذا النص على أنَّهُ تعالى هو الذي سَلَّطَ الشَّيْطَان عليهم حتى أضلهم واغواهم.
وقالت المُعْتَزِلَةُ: معنى قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ هو أنَّا حكمْنَا بأنَّ الشَّيْطَان ولي لمن لا يؤمن، قالوا: ومعنى قوله: ﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين﴾ [مريم: ٨٣] هو أنَّا خلينا بينهم وبينهم كما يقال لمن لا يربط الكلب في داره ولا يمنعه من الوثوب على الداخل أنَّهُ أرسل عليهم كلبه.
والجوابُ أن القائل إذا قال: إن فُلاناً جعل هذا ثوباً أبيضَ أو أسود، لم يفهم منه أنَّهُ حكم به بل يفهم منه أنه حصل السَّواد أو البياض فيه، فكذلك هاهنا وجب حمل الجعل على التَّأثير والتَّحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنَّهُ تعالى حكم بِذلكَ لكن مخالفة حكم اللَّهِ توجب كَوْنَهُ كَاذِباً وهو مُحَالٌ، والمفضي إلى المُحَالِ مُحَالٌ، فكون العبد قادراً على خلافِ ذلك؛ وجب أن يكُونَ مُحَالاً وأما قولهم إن قوله تعالى ﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين﴾ [مريم: ٨٣] أي خلَّينا بينهم وبين الكافرين، فهو ضعيف؛ ألا ترى أنّ أَهل السُّوقِ يؤذي بعضُهُم بعضاً، ويشتمُ بعضهم بعضاً ثم إنَّ زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعض لا يُقَالُ إنَّهُ أرسل بعضهم على البعض، بل لفظ الإرْسَالِ إنَّمَا يصدق إذا كان تسلط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا هاهنا.
78
هذه الجملة الشَّرْطيَّة لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّها استئنافيَّة وهو الظَّاهِرُ وجوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أن تكون داخِلَةً في حيِّز الصِّلَةِ لعطفها عليها.
78
قال ابْنُ عطيَّة ليقع التوبيخ بصفة قَوْمٍ قد فعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم.
قوله: «وَجَدْنَا» يحتمل أنْ يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه، ويحتمل أن يكون بمعنى: لَقِينَا، فيكون مفعولاً ثانياً على الأول وحالاً على الثاني.

فصل في المراد من الآية.


قوله ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي طوافهم بالبيت عراة.
وقال عطاءٌ: الشِّرك.
وقيل: ما كَانُوا يحرمونه من البحيرةِ والسَّائِبَةِ وغيرها، وهو اسم لكلِّ فعل قبيح بلغ النَّهايةَ في القُبْحِ، فالأولى أن يحكم بالتعميم، وفيه إضمارٌ مَعْنَاهُ: وإذا فعلوا فَاحِشَةً فنهوا عنها قالوا: وجدنا عليها آباءنا.
قيل: ومن أينَ أخذ آباؤكم؟ قالوا: اللَّهُ أمَرَنَا بها.
واعلم أنَّهُ ليس المرادُ أنَّ القومَ كَانُوا يعتقدونَ أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنَّ الله أمرهم بها، فإنَّ ذلك لا يقولهُ عاقلٌ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش، والقوم كَانُوا يعتقدون أنها طاعات والله امرهم بها ثُمَّ إنَّهُ تعالى حكى عنهم أنَّهُم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحِشِ بأمرين.
أحدهما: ﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾.
والثاني: ﴿والله أَمَرَنَا بِهَا﴾.
فأمَّا الحُجَّةُ الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنَّها محض التَّقْلِيد، وهو طريقة فاسدَةٌ في عقل كلِّ أحد؛ لأنَّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التَّقلِيدُ حقاً للزَِ الحكمُ بأنَّ كُلَّ من المتناقضين حقّاً وذلك باطلٌ، ولما كان فساد هذا الطَّريق ظاهراً جلياً لم يذكر الجواب عنه.
وأمّا الحجَّةُ الثَّانِية وهي قولهم: ﴿والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ فقد أجَابَ اللَّهُ عنها بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ والمعنى أنَّه لما بين على لِسانِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأنَّ اللَّهَ تعالى أمرنَا بِهَا.
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ حذف المفعول الأوَّل للعلم به أي لا يأمر أحداً أو لا يأمركم يا مُدَّعين ذلك.
79

فصل


قالت المعتزلَةُ: قوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ إشارة إلى أنَّهُ لما كان موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء؛ امتنع أن يأمر الله به، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشاً مغايراً لتعلق الأمر والنَّهْيِ بِهِ.
والجوابُ: لما ثبت بالاستقراءِ أنَّهُ تعالى لا يأمرُ إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمَّا يكون مفسدة لهم، فقد صَحَّ هذا التَّعْلِيلُ.
قوله: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ والمعنى أن قولكم: إنَّ اللَّه أمَرَكُمْ بهذه الأفعال إمَّا لأنكم سمعتم كلام اللَّهِ تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريقِ الوحي عن الأنْبِيَاءِ.
أما الأول: فباطل بالضَّرُورةِ.
وأما الثاني: فباطل على قولكم لأنَّكُم تنكرون نبوّة الأنبياءِ على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كُفَّار قُرَيْشٍ، وهم كانوا منكرين أصْلَ النُّبُوَّةِ، وإذا كان كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحْكَامِ اللَّهِ تعالى، فكان قولهم: إنَّ الله أمرنا بها قولاً على اللَّه بما لا يَعْلَمُونَ، وإنَّهُ بَاطِلٌ.
قوله: ﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مفعول به، وهذا مفرد في قوة الجملة؛ لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقولونه على الله - تعالى - كلام كَثِيرٌ من قولهم: ﴿والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ كتبحير البحائر وتسبيب السَّوائب، وطوافهم بالبيت عُراةً إلى غير ذلك حذف المفعول من قوله: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾ [الأعراف: ٢٩].

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس


استدلَّ بهذه الآية نفاةُ القياس؛ لأنَّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذَّمِّ: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وقد تقدَّم جوابٌ عن مثل هذه الدلالة.
80
قال ابن عباس: أمر ربِّي ب «لا إله إلا الله» لقوله تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة﴾ [آل عمران: ١٨] إلى قوله: ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ [آل عمران: ١٨].
وقال الضحاك: هو بالتوحيد.
وقال مُجَاهِدٌ: والسُّدِّيُّ: بالعدل.
80
قوله: «وأقِيمُوا» فيه وجْهَانِ:
أظهرهما: أنَّهُ مَعْطُوفٌ على الأمْرِ المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر، وهو «بالقِسْطِ» وذلك أنَّ القِسْط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري، وفعل، فالتَّقديرُ: قل: أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا، وكما أنَّ المصدر ينحلُّ إلى «أنَّ والفعل الماضي» نحو: عَجِبْتُ من قِيَام زَيْدٍ وخرج، أي: من أن قام، وخَرَجَ ول «أن» وللفعل المضارع كقولها: [الوافر]
٢٤٤٩ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي............................
أي: لأن ألبس عباءة وتقر، كذلك ينحل ل «أنَّ» وفعل أمر؛ لأنَّهَا توصل بالثَّلاث الصِّيغ: الماضي والمُضارع والأمر بشرط التَّصَرُّف، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة وإشكالها وجوابُهُ.
وهذا بخلاف «ما» فإنَّهَا لا تُوصَلُ بالأمْرِ، وبخلاف «كي» فإنَّهَا لا توصل إلا بالمُضَارِع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى «ما» وفعل أمر، ولا إلى «كي» وفعل ماضي أو مضارع.
وقال الزَّمخْشَرِيُّ: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته، وهذا من الزَّمَخْشَرِيُّ يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون قوله «قل» أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون «وأقيموا» معمولاً لقول أمر مقدر، وأن يكون معطوفاً على قوله: «أمر رَبِّي» فإنه معمول ل «قل» وإنما أظهر الزَّمَخْشرِيُّ «قُلْ» مع أقِيمُوا لتحْقيق عطفيته على «أمر رَبِّي».
ويجوز أن يكُون قوله «وأقِيمُوا» معطوفاً على أمْرٍ محذوف تقديره قل: أقبلوا وأقيموا.
وقال الجُرْجانِيُّ صاحب «النَّظْم» : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك؛ لأنَّ قوله ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي﴾ قول لأن الأمْرَ لا يكُونُ إلا كلاماً، والكلام قول، وكأنه قال: قل: يقول ربي: اقسطوا وأقيموا، يعني أنَّهُ عطف على المعنى.
و «مسجد» هنا يحتمل أن يكون مَكَاناً وزماناً.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: في وقت كلِّ سُجُودٍ، وفي مكان كلِّ سُجُودٍ، وكان من حَقِّ «مسجد» بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التَّصريفِ.
81

فصل في المراد ب «أقيموا وجوهكم»


قال مجاهد والسدي: معنى ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وجهوا حَيْثُ ما كنتم في الصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ.
وقال ابْنُ عبَّاس والضحاك: إذا حضرت الصَّلاةُ، وأنتم عند مَسْجِدِ فصلُّوا فيه ولا يقولن أحدكُم أصلي في مَسجْدِي.
وقيل: معناه: اجعلوا سجودكم لِلَّهِ خَالِصاً، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القِبْلَةِ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العِبَادَةِ.
والأقرب هو الأوَّلُ؛ لأنَّ الإخْلاَصَ مذكور بعده، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنَّهُ قال: وأخلصوا عند كلِّ مَسْجدٍ وادْعُوه مُخلصينَ، وذلك لا يستقيم. فإن قيل يستقيمُ ذلك إذا علقت الإخلاصَ بالدُّعَاءِ فقط.
فالجواب لما أمكنرجوعه إليهما جميعاً لم يَجُزْ قصرهما على أحدهما خصوصاً مع قوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ فعم كل ما يسمى ديناً، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله: ﴿عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ هل المرادُ منه زمان الصَّلاة أو مكانها على ما تقدم؟
قوله: «مُخْلِصينَ» حال من فاعل «ادْعُوه»، «الدَّين» مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب «مخْلِصِينَ» حال من فاعل «ادْعُوه»، و «الدِّين» مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب «مخْلِصين» ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ من «الدين»، والمراد اعبدوه مخلصين له الطَّاعة.
«والعِبَادَة» قال ابن الخطيب: المرادُ به أعمالُ الصَّلاةِ، وسمَّاها دعاءً لأنَّ الصلاة في اللُغة عبارة عن الدُّعاء، ونظيره قوله ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [البينة: ٥].
قوله: «كَمَا بَدَأَكُمْ» «الكاف» في محل نَصْبِ نَعْتاً لمصدر محذوف تقديرُهُ: تعُودُون عَوْداً مثل ما بدأكم.
وقيل: تقديره: تُخْرَجُونَ خُرُوجاً مثل ما بَدَأكُم ذكرهما مَكي، والأوَّل أليق بلفظ الآية الكريمة.
وقال ابن الأنْبَارِيِّ: موضع «الكاف» في «كما» نصب ب «تَعُودُونَ» وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم.
قال الفارسي: كما بَدَأكُم تعودُون ليس على ظَاهِرِه إذ ظاهره تعودون على البَدْءِ،
82
وليس المَعْنَى تشبيههم بالبَدْءِ، إنَّمَا المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ، فتقدير «كما بَدأكُمْ تعُودُون» : كما بدأ خلقكم أي: يُحيي خلقكم عوداً كبدئه، وكما أنَّه لم يَعْنِ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه، كذلك لم يَعْنِ بالعود من غير حذف المُضافِ الذي هو [ «الخلق» فلما حذف قام المضاف إليه مَقَامَ الفاعِلِ، فصار الفَاعِلُونَ مخاطبين. كما انه لما حذف المضاف] من قوله: ﴿كما بدأ خلقكم﴾ صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين: يعني أنَّ الأصل كما بَدَأ خلقكم يعودُ خلقكم، فحذف «الخلق» في الموضعين وصار المخاطبون في الأوَّلِ مفعولين بعد أن كَانُوا مجرورين بالإضافة أيضاً وفي الثاني صاروا فَاعِلينَ بعد أنْ كانوا مجرورين بالإضافة. و «بدأ» بالهمز أنشأ واخترع، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على «أفْعَلَ» فالثلاثيُّ كهذه الآية، وقد جمعبين الاستعمالين في قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ الله الخلق﴾ [العنكبوت: ٢٠] فهذا من «أبدأ» ثم قال: كيف بدأ الخلق، هذا فيما يتعدى بنفسه.
وأما ما يتعدَّى بالباءِ نحو: بَدَأتُ بكذا بمعنى قدَّمته وجعلتهُ أوَّل الأشياء، يقال منه: بَدَأتُ به وابتدأت به.
وحكى الرَّاغِب أيضاً أنَّهُ يقال من هذا: ابْدأتُ به على «أفْعَلَ» وهو غريب.
وقولهم: أبْدأت من أرض كذا أي: ابتدأت منها بالخُرُوجِ والبَدْء السيد سمي بذلك؛ قيل: لأنه يبدأ به في العد إذا عُدَّ السَّادَات وذكروا عليه قوله: [الوافر]
٢٤٥٠ - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا فَنَادَيءتُ القُبُورَ فَلَمْ تُجِبْنَهْ
أي جئت قَبُورَ قومي سيّداً ولم أكن سَيّداً، لكن بموتهم صيّرت سيّداً، وهذا ينظر لقول الآخر: [الكامل]
٢٤٥١ - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّرِ وَمِنَ العَنَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّؤدُدِ
و «ما» مصدريَّةٌ، أي: كبدئكم.

فصل في معنى «كما بدأكم تعودون».


قال ابنُ عبَّاس: إنَّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، كما قال: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢]، ثم يعيدُهم يَوْمَ القيامةِ كما خلقهم مُؤمناً وكافراً.
83
وقال جَابِرٌ: يُبعثون على ما مَاتُوا عليه.
روى جابر بْنُ عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يبعثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عليْهِ، المُؤمِنُ على إيْمَانِهِ، والكَأفِرُ على كُفْرِهِ»
وقال أبو العالية: «عَادُوا على علمه فيهم».
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «كما كتب عَلَيْكُم تَكُونُونَ».
وقال محمدٌ بْنُ كَعْب: «من ابتدأ الله خلقه على الشِّقْوَةِ صار إليها، وإن عمل عمل أهل السَّعادةِ، كما أنَّ إبليس كان يعمل بِعَمَلِ أهل السَّعادةِ ثم صارَ إلى الشَّقاوةِ، ومن ابتدأ خلقه على السَّعادة صار إليها، وإن عمل بأعْمَال أهل الشٌّقاوة، كما أنَّ السَّحَرَةَ كانت تَعْمَلُ بعمل أهل الشَّقاوةِ فَصَارُوا إلى السَّعادة».
روى سهل بْنُ سَعْد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العبد يَعْمَلُ فيما يرى النَّاسُ بعمل أهل الجَنَّةِ، وأنَّهُ من أهل النَّار، وإنَّهُ ليعمل فيما يرى النَّاس بعمل أهل النَّارِ، وإنما هو من أهل الجنَّةِ، وإنَّما الأعْمَالُ بالخواتيم»
وقال الحسنُ ومُجَاهِدُ: كمَا بَدَأكُمْ وخلقكم في الدُّنْيَا ولم تكونا شيئاً، كذلك تعودون أحياء يَوْمِ القيامةِ: كما قال: ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
قال قتادةُ، هم من التُّراب وإلى التُّراب يعودُونَ، ونظيره: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه: ٥٥]، واعلم أنَّه تعالى أمر أولاً بكلمة القِسْطِ وهي لا إله إلا الله، ثم أمر بالصَّلاة ثانياً، ثم بيَّن أنَّ الفائدة في الإتْيَانِ بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة، ونظيره قوله تعالى لموسى: ﴿إنني أَنَا الله لاا إله إلاا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٤ - ١٥].
84
في نصب «فريقاً» وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مَنْصُوبٌ ب «هَدَى» بعده، و «فريقاً» الثَّانِي منصوب بإضمار فعل يفسِّرهُ قوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ من حيثُ المعنى والتَّقديرُ: وأضلَّ فريقاً حقّ عليهم.
[قال القُرْطُبِيُّ: وأنشد سيبويه: [المنسرح]
٢٤٥٢ - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ أمْلِكُ رَأسَ البَعِير إنْ نَفَرَا
والذِّئْبُ أخْشَاهُ إذْ مَرَرْتُ بِهِ وَحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرا
قال الفرَّاءُ: ولو كان مرفوعاً لجاز]، وقدَّره الزمخشريُّ: «وخذل فريقاً» لأجل مَذْهَبِهِ.
والجملتان الفعليتان في محلِّ نصب على الحال من فاعل «بَدَأكُمْ» أي: بَدَأكُم حال كَوْنِهِ هادياً فريقاً ومُضِلاًّ آخر.
و «قد» مضمرة عند بعضهم، ويجوزُ على هذا الوجه أيضاً أن تكون الجملتان الفعليَّتان مستأنفتْينِ، فالوقف على «يعودون» على هذا الإعراب تام، بخلاف ما إذا جعلتهما حالين، فالوقف على قوله: «الضَّلالة».
الوجه الثاني: أن ينتصب «فريقاً» على الحال من فاعل «تَعُودُونَ» [أي: تعودون] فريقاً مَهْدِيّاً، وفريقاً حاقّاً عليه الضلاة، وتكون الجملتان الفعليَّتان على هذا في محل نصب على النَّعت ل «فريقاً» و «فريقاً»، ولا بدَّ حينئذٍ من حذف عائدٍ على الموصوف من «هدى» أي: فريقاً هداهم، ولو قدَّرته «هَدَاهُ» بلفظ الإفراد لجاز، اعتباراً بلفظ «فَرِيق»، إلاَّ أنَّ الأوَّل أحسن لمناسبة قوله: ﴿وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ﴾، والوقف حينئذ على قوله، «الضَّلالَةُ»، ويؤيِّد إعرابه حالاً قراءة أبي بن كعب: «تعُودُون فريقين: فريقاً هدى، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلالة» ف «فريقين» نُصب على الحَالِ، و «فريقاً» وفريقاً بدل، أو منصوب بإضمار أعني على القطع، ويجوز أن ينتصب «فريقاً» الأول على الحال من فاعل «
85
تعودون» و «فريقاً» الثاني نصب بإضمار فعل يفسره ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ كما تقدَّم تحقيقه في كل منهما.
وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري، فإنَّهُ قال كلاماً حسناً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضَّميرِ الذي في» تعودون «، يريدُ: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم أشْقِيَاء وبعضكم سعداء، فاتصل» فريقٌ «وهو نكرة بالضَّمِير الذي في» تَعُودُونَ «وهو معرفة فقُطِع عن لَفْظِهِ، وعُطف الثاني عليه».
قال: «ويجوز أن يكون الأوَّل منصوباً على الحال من الضَّمير، والثاني منصوبٌ ب ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ ؛ لأنَّهُ بمعنى أضلَّهم، كما يقول القائل» عبد الله أكرمته، وَزَيْداً أحسنت إليه «فينتصب زيداً ب» أحْسَنْتُ إلَيْه «بمعنى نَفَعْته؛ وأنشد: [الوافر]
٢٤٥٣ - أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ رِيَاحاً عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
نصب صعلبة ب «عدلت بهم طهية»
؛ لأنه بمعنى أهَنْتَهم أي: عدلت بهم من هو دُونَهُم، وأنشد أيضاً قوله: [الكامل]
٢٤٥٤ - يَا لَيْتَ ضَيْفَكُمُ الزُّبَيْرَ وَجَارَكُمْ إيَّايَ لَبَّسَ حَبْلَهُ بِحِبَالِي
فنصب «إيَّاي» بقوله: لَبَّس حبله بحبالي، إذ كان معناه خالطني وقصدني.
قال شهابُ الدِّين: يريدُ بذلك أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه، هذا وجه التَّنْظِير.
وإلى كون «فَرِيقاً» منصوباً ب «هَدَى» و «فريقاً» منصوباً ب «حقَّ» ذهب الفراء، وجعله نظير قوله تعالى: ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الإنسان: ٣١].
قوله: «إنَّهُمُ اتَّخَذُوا» جارمجرى التَّعليل، وإنْ كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر، والعبّاس بن الفضل، وسهل بن شعيب «أنَّهُمُ» بفتح الهمزة، وهي نص في العِلِّيِّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطين أولياء، ولم يُسند الإضلال إلى ذَاتِهِ المقدَّسَةِ، وإن كان هو الفاعل لها تَحْسِيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدَبِ، وعليه: ﴿وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾ [النحل: ٩].
فإن قيل: كيف يستقيمُ هذا التَّعْليلُ مع قولكم بأنَّ الهُدَى والضَّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداءً؟ فالجوابُ: أنَّ مجموع القدرة والدَّاعي يوجب الفعل والدَّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنَّهُم اتخذوا الشَّياطين أولياء.
86

فصل في دحض شبهة خلق الأفعال


احتحَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهدى والضلال من الله تعالى.
قالت المعتزلة: «المرادُ فريقاً هدى إلى الجنَّةِ والثَّواب، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلال أي: العذاب والصّرف عن طريق الثَّواب».
قال القاضي: لأنَّ هذا هو الذي يحقُّ عليهم دون غيرهم، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدِّين، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدِّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة، وفي ذلك زوال الثِّقَة بالنُّبُوَّات. وهذا الجوابُ ضعيف من وجهين:
الأول: أن قوله «فَرِيقاً هَدَى» إشارة إلى الماضي، وعلى التَّأويل الذي ذكروه يصيرُ المعنى: أنَّهُ تعالى سيهديهم في المستقبل، ولو قال: إنَّ المراد: أنَّهُ تعالى حكم في الماضي أنَّهُ سيهديهم إلى الجنَّةِ كان هذا عُدُولاً عن الظَّاهِرِ من غير حاجة؛ لأنَّهُ قد تبين بالدَّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى.
والثاني: هب أن المراد من الهداية والضَّلال حكم الله بذلك، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذباً، والكذب على الله مُحَال، والمفضي إلى المحال محال، فكان صدور خلاف ذلك من العَبْدِ مُحَالاً.
قوله: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
قال ابن عباس: يريد ما سَنَّ لهم عمروُ بْنُ لحَيِّ، وهذا بعيد بل هو محمول على عُمُومِهِ، فكلُّ من شرع في بَاطلِ فهو مستحقٌّ للذم، سواء حسب كَوْنِهِ هدى، أو لم يحسب ذلك، وهذه الآية تدل على أنَّ الكافرَ الذي يظن أنَّهُ في دينه على الحقِّ والجاحد المعاند سواء، وتدلُّ أيضاً على أنَّ مُجَرَّد الظن والحسْبَانِ لا يكفي في صحَّة الدين، بل لا بدَّ فيه من الجَزءمِ والقَطْعِ؛ لأنَّهُ تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كوْنِهِ مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلاَّ لما ذمهم بذلك.
87
لمَّا أمرنا بإقامة الصَّلاةِ بقوله: ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٢٩].
وكان ستر العورة شَرْطا لصحَّةِ الصَّلاةِ أتبعه بذكر اللِّباس.
قال ابْنُ عبَّاس: إنَّ أهل الجاهلَّيةِ من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُرَاة، وكانوا إذا وصلوا إلى مَسْجِدِ «منى» طرحوا ثيابهم، وأتوا المسجد عُرَاةً، وقالوا: لا
87
نَطوفُ بثيابٍ أصبنا فيها الذَّنوب، ومنهم من يقولُ: نفعلُ ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذُنُوب كما تعرّينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلٌّه على حقويها لتستتر به عن الحُمْس وهم قريشٌ، فإنَّهُم كانُوا لا يَفْعَلُون ذلك، وكانوا يطوفون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلاَّ قوتاً
قال الكَلْبِيُّ: كانت بَنُو عامر لا يأكُلُونَ في أيَّام حجِّهم من الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، يعظِّمُون بذلك حجهم فقال المسلمون يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنحن أحقُ أن نَفْعَلَ ذلك فنزلت هذه الآية.
و «كُلُوا» يعني: اللحم والدسم.
﴿واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ بتحريم ما أحلَّ الله لكم من اللحم والدسم.
﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ الذين يفعلون ذلك.
قال ابن عباس: «كُلْ ما شِئْتَ، والبَسْ ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة».
قال عَلِيُّ بْنُ الحُسينِ بنِ واقدٍ: وقد جمع اللَّهُ الطبَّ كلَّه في نصف آية: ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾.

فصل في معنى «الزينة»


المراد من الزِّينة لبس الثيابِ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: ٣١]. يعني: الثّياب.
والزينة لا تحصل إلا بالسّتر التام للعورات، ولذلك صار التزين بأخذ الثياب في الجمع والأعياد سُنَّة، فوجب حمل الزينة على ستر العورة.
وقد أجمع المُفسرون على أن المراد بالزِّينةِ هنا لبس الثياب التي تستر العورة، وقد أمر بها بقوله: خُذُو زينتَكُم «، والأمرُ للوجوبِ، فَثَبَتَ أنَّ أخذ الزِّينةِ واجب، وكل ما سوى اللبس فهو واجب، فوجب حمل الزِّنةِ على اللبس عملاً بالنَّصِّ بقدر الإمكان، فدلَّ على وُجُوبِ ستر العورة عند إقامة الصَّلاة.
فإن قيل: إنَّهُ عطف عليه قوله:»
كُلُوا واشْرَبُوا «، وذلك أمر إباحة، فوجب أن يكون قوله:» خُذُوا زِينَتَكُم «أمر إباحة أيضاً والجواب لا يلزم من ترك الظَّاهر المعطوف تركه في
88
المعطوف عليه وأيضاً دلالة الاقتران ضعيفة، وأيضاً الأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الجملة.
فإن قيل هذه الآية وردت في المنع من الطواف حال العري.
فالجواب: أن العِبْرَة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبب.
إذا ثبت ذلك فقوله ﴿يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ يقتضي وجوب اللِّبس التَّام عند كل صلاةٍ؛ لأن اللبس التام هو الزينة.
ترك العمل به في القدر الذي لا يجبُ ستره من الأعْضَاءِ إجماعاً، فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ.

فصل في الأصل في الأكل الحل


قوله: ﴿وكُلُواْ واشربوا﴾ مطلق، يتناول جميع المطعومات والمشروبات، فوجب أن يكون الأصل فيها الحلُّ في كل الأوقات إلا ما خصَّه الدَّليل المنفصلُ، والعقل يؤكده؛ لأنَّ الأصْلَ في المنافع الحلُّ والإبَاحَةُ.

فصل في وجوب ستر العورة


قال القُرْطُبِيُّ: دلَّت هذه الآيةُ على وُجُوبِ ستْرِ العوْرَةِ، وعلى إباحةِ الأكْل والشرب ما لم يكن سرفاً، أمَّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما يسدُّ الجوعة ويسكن الظمأ مندوب إليه عقلاً وشرعاً؛ لما فيه من حفظ النَّفْس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشَّرْع بالنَّهي عن الوصالِ؛ لأنَّهُ يضعف الجسد، ويضعف عن العبادة.
قوله: «ولا تُسْرِفوا».
89
قيل: المرادُ أن يأَكل ويشرب بحيث لا يتعدَّى إلى الحرامِ، ولا يكثر الإنفاق المستَقْبَح، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرُّ به.
وقال أبُو بَكْرِ الأصَمُّ: المراد بالإسراف قولهم: تحريم البحيرة والسّائبة، فإنَّهُمْ أخرجوها عن ملكهم، وتَرَكُوا الانتفاع بها، وحرَّموا على أنفسهم في الحجِّ أشياء أحَلَّها الله لهم، وذلك إسراف.
واعلم أنَّ حمل لفظ الإسْرَاف على الاستكثارِ [و] مما لا ينبغي أولى من حمله على المَنءعِ مما يَجُوزُ ويَنْبَغِي.
وقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ نهاية في التهديد؛ لأن كل من لا يحبُّه الله يبقى محروماً عن الثَّواب؛ لأن محبَّة الله للعبد إيصال الثَّواب إيله، فعدمُ هذه المحبَّة عبارةٌ عن عدم حصول الثَّوابِ، ومتى لم يحصل الثَّوابُ فقد حصل العِقَابُ لانعقاد الإجماع على أنَّهُ ليس في الوُجُودِ مكلّلإ لا يثابُ ولا يُعاقب.
90
قال القرطبي: لما بيَّن أنَّهم حرَّموا من تِلْقاءِ أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، بيَّن هنا إباحة الزِّنةِ، والمُرَادُ بها الملبس الحسن ذا قدر عليه صاحبه وقيل: جميع الثّياب.
وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ والإنكار، وإذا كان للأإنكار فلا جواب له؛ إذ لا يُرادُ به استعلام، ولذلك نسب مَكيٌّ إلى الوهم في زعمه أنَّ قوله: «قُلْ هِيَ للذِيْن آمَنوا.. إلى آخره» جوابه.
قوله: «زينة الله» قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المراد به اللِّباس الذي يَسْتُرُ العَوْرَة.
وقيل: جميع أنواع الزينة، فيدخل فيه جميع أنواع المَلْبُوسِ، ويدخلُ تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخلُ تحته الرّكوب وأنواع الحلي؛ لأنَّ كل ذلك زينة، ولولا النًّص الوارد في تحريم الذَّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلاً تحت هذا العموم.
ويدخل تحت الطيِّبات من الرِّزْقِ كلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخلُ تحته التَّمتع بالنِّسَاءِ والطيب.
روي عن عُثْمَانَ بن مَظْعُون أنَّه أتى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «غلبني حديثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ أن أخْتَصِي، فقال: مَهْلاً يا عثمان، إن خصاء أمتى الصِّيام، قال: إنَّ نَفْسي تحدثنى
90
بالترهب، فقال: إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي القُعُودُ في المساجِدِ لانتظار الصلاة فقال: تُحَدِّثُني نَفْسي بالسِّياحَةِ، فقال: سيَاحَةُ أمَّتِي الغَزْوُ والحجُّ والعُمْرَةُ، فقال إنَّ نَفْسِي تَحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمَّا أمْلِكُ، فقال: الأوْلَى أنْ تَكْفِي نَفْسَكَ وعيالَكَ، وأنْ تَرحم اليتيم، والمساكِينَ، فتُعْطِيَهُ أفضل مِنْ ذلك، فقال: إنَّ نَفْسِي تحدِّثُنِي أنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فقال: إنَّ الهِجْرَةَ في أمَّتِي هِجْرَةُ ما حرَّم الله، فقال: إنَّ نَفْسِي تُحدِّثُني ألاَّ أغْشَاها، فقال: المُسْلِمُ إذا غشي أهْلَه أو ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فإنْ لَمء يُصِبْ من وقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَداً كان لَهُ وصيفٌ في الجَّنةِ، وإنْ كان لَهُ وَلَدٌ مات قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وفرحاً يَوْمَ القيامةِ، وإن مات قَبْلَ أن يَبْلُغَ الحنث كان لَهُ شَفِيعاً ورَحْمَةً يَوْمَ القيامةِ، قال: فإن نَفْسِي تحدثني إلاَّ آكل اللحم قال مَهْلاً إني آكُلُ اللحم إذا وَجَدْتثهُ ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل. قال: فإن نفسِي تُحَدِّثُنِي ألاَّ أمَسَّ الطِّيبَ، قال: مَهلاً فإن جِبْريلَ أمَرَنِي بالطِّيب غبّاً وقال: لا تَتْرُكْه يوْمَ الجُمعَةِ، ثم قال: يا عُثْمَانُ: لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَمَاتَ قبل أنْ يتُوبَ صَرَفَت الملائكةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي»
وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ هذه الشَّريعةِ هي الكاملة، وتدل على أن جميع الزِّينة مباح مأذون إلا ما خصَّه الدليل.

فصل في إباحة المنافع لأبن آدم


هذه اليةُ تقْتَضي حلَّ كلِّ المنافع، وهو أصلٌ معتبر في جميع الشريعة؛ لأنَّ كلَّ واقعة إمَّا يكون النَّفع فيها خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى فيها الضَّرر والنَّفع، أو يرتفعان.
أما القسمان الأخيران وهما: أن يتعادل الضّرر والنفع، أو لم يوجدا قطُّ، ففي هاتين الصُّورتين يجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإنْ كان النَّفع خالصاً؛ وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النَّفع راجحاً والضَّرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزَّائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الأوَّل، وهو الذي يكون النَّفعِ فيه خالصاً وإن كان الضَّرر خالصاً كان تركه نفاً خالصاً، فبهذا الطَّريق صارت هذه الآية دالّة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحلّ والتحريم، ثمَّ إنْ وجدنا نصاً خالصاً في الواقعةِ قَضَيْنَا في النَّفْعِ بالحِلِّ، وفي التضَّرَرِ بالحُرْمَةِ، وبهذا الطَّريق صار جَمِيعُ الأحْكَامِ التّي لا نِهَايَةَ لها داخلَ تحت هذا النَّصِّ.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس


قال نُفَاةُ القياس: لو تَعَبَّدَنَا الله بالقياس لكان حكم ذلك القياس إمّا أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضَائِعاً؛ لأنَّ هذا النَّصَّ مستقلٌ به، وإنْ كان مخالفاَ
91
كان ذلك القِياسُ مُخَصِّصاً لعموم هذا النَّصِّ، فيكون مردوداً؛ لأن العمل بالنَّصِّ أوْلَى من العملِ بالقياسِ، قالوا: وبهذا الطَريق يكونُ القرآن وحْدَهُ وافِياً ببيَانِ كل أحكام الشَّريعةِ، ولا حاجة معه إلى شَيْءٍ آخر.
قوله: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾.
[ «قل هي للَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا» ] أي: بحقِّها من تَوْحيد الله - عزَّ وجلَّ - والتَّصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحّده المنعم عليه وصدَّقَهُ فقد قَامَ بحقِّ النِّعْمَةِ، وإنْ كَفَرَ أمكن الشَّيْطَان من نَفْسِه.
وقيل: أي: هي للَّذين آمَنُوا في الحياة الدُّنْيَا غير خالصةٍ لهم؛ لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يَوْمَ القيامة لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل: هلاّ قيل للذين آمنوا ولغيرهم.
فالجواب: لينبه على أنَّها خلقت للذين آمنُوا على طريق الأصالةِ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار﴾ [البقرة: ١٢٦]، وسيأتي له أجوبة أُخر في آخر الآية، والمراد التَّنْبِيهُ على أنَّ هذه النِّعم إنَّما تصفو من الشوائب يوم القيامة
قوله: «خَالِصَةً» قرأها نافعٌ رفعاً، والباقون نصباً فالرفع من وجهين:
أحدهما: أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو «هِيَ»، و «لِلَّذِين آمَنُوا» متعلق ب «خَالِصَةً»، وكذلك «يَوْمَ القيامةِ».
وقال مكيٌّ: «ويكون قوله:» للَّذين «بييناً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً لك.
و ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ متعلَّق ب»
آمَنُوا «، والمعنى: قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدُّنيا يَوْمَ القيامةِ، أي: تَخْلصُ يوم القيامة لمن آمَنَ في الدُّنْيَا، وإنْ كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفَّار في الدُّنيا، وهو معنى حسن.
وقيل: المرادُ بخلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ أنَّهُم لا يعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نَحَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرِ.
الثاني: أنْ يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأوَّل قوله: «لِلَّذينَ آمَنُوا»
قاله الزجاج: واستحسنه أبو علي، و ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ على هذا متعلِّق بما تعلَّقَ به الجارُّ من
92
الاستقرار المقدَّرِ، و «يَوْمَ القيامةِ» معمول ل «خالصة» كما مرَّ الوجه قبله، والتقديرُ: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامةِ، وإنْ كانوا في الدُّنيا يشاركهم الكفَّارُ فيها.
ولمّا ذكر أبُو حيَّان هذا الوجه لم يعلَّقُ «فِي الحياةِ» إلابالاستقرار، ولو علق ب «آمنوا» كما تقدم في الوَجْهِ قَبلَهُ لكان حسناً.
وأمَّا النصب فمن وجه واحد، وهو الحال [من الضَّمير المستتر في الجارِّ والمجرور قبله]، والمعنى: أنَّها ثابة للَّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، و «للَّذينَ آمَنُوا» خبر «هِيَ» فتتعلق بالاستقرار المقدَّرِ، وسيأتي أنَّهُ متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.
و ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ على ما تقدَّم من تعلُّقه ب «آمنوا» وبالاستقرار المتعلق به للذين، و «يَوْمَ القيامةِ» متعلِّق أيضاً بخالصة، والتقديرُ: قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدَّراً خلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ.
وسمى الفراء نصبها على القطع، فقال: «خَالِصَةً» نصب على القَطْعِ، وجعل خبر «هِيَ» في «اللاَّم» التي في قوله: «للَّذين»، ويعنى بالقطع الحال.
وجوَّز أبُو علي أنْ يتعلَّق ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ بمحذوفِ على أنَّهُ حال، والعاملُ فيها ما يعمل في «الَّذينَ آمَنُوا».
وجوَّز الفارسيُّ، وتبعه مكيٌّ أن تتعلَّق «فِي الحياةِ» ب «حرم» والتقديرُ: من حرم زينة الله في الحياة الدُّنْيَا؟ وجوَّز أيضاً أن تتعلق بالطّيبات.
وجوَّز الفارسي وحدَهُ أن تتعلَّق بالرزق ومنع مكيٌّ ذلك قال: لأنَّكَ قد فرَّقْتَ بينهما بقوله: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يعني أن الرِّزْقَ مصدر، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتراض به على الأخْفَشِ.
وجوَّز الأخْفَشُ أن تتعلَّق «في الحياة» ب «أخرج» أي: أخرجها في الحياةِ الدُّنْيَا، وهذا قد ردهُ عليه النَّاس بأنه يلزم الفَصْلأُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، وهو قوله ﴿وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾.
وقوله: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾، وذلك أنَّهُ لا يُعطَفُ على الموصول إلاَّ بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمامِ صلته؛ لأنَّ «الَّتِي أخْرَجَ» صفة
93
ل «زينة»، و «الطيِّبَات» عطف على «زِينَة» وقوله ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ جملة أخرى قد فصلت على هذا التقدير بشيئين.
قال الفَارِسِيُّ - كالمجيب عن الأخفش -: «ويجوزُ ذلك، وإن فُصِلَ بين الصلة والموصولة بقوله: ﴿هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لأنَّ ذلك كلام يشدُّ الصِّلة، وليس بأجنبي منها جداً كما جاء ذلك في قوله: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧].
فقوله: ﴿وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ معطوف على»
كَسَبُوا «داخل في الصلة.
قال شهابُ الدِّين: هذا وإن أفاد في ما ذكر، فلا يفيد في الاعتراض الأوَّلِ، وهو العطفُ على موصوف قبل تمام صلته؛ إذْ هو أجنبي منه، وأيضاً فلا نسلِّم أنَّ هذه الآية نظير آية»
يونس «فإنَّ الظاهِرَ في آية يونس أنَّهُ ليس فيها فصل بين أبعاض الصِّلة.
وقوله»
لأن جزاء سيِّسةٍ بمِثِلِهَا «معترض، و» تَرْهَقُهُمْ «عطف على» كَسَبُوا «.
قلنا: ممنوع، بل ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [الشورى: ٤٠] هو خبر الموصول، فيعترض بعدم الرَّابط بين المبتدأ والخبر، فيجابُ بأنَّهُ محذوف، وهو من أحسن الحذوف؛ لأنَّهُ مجرور ب»
من «التَّبْعيضية، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ ما كان كذلك كثر حذفه وحَسُنَ والتقديرُ: والَّذينَ كَسَبُوا السيِّئَاتِ جَزَاءُ سيِّئةٍ منهم بمثلها ف» جَزَاءُ سَيِّئةٍ «مبتدأ، و» مِنْهُم «صفتها، و» بمثلها «خبره، والجملة خَبَر الموصول، وهو نظير قولهم: السَّمن منوانِ بِدرْهَمٍ أي: منوان منه، وسيأتي لهذه الآية مزيد بيان.
ومنع مكي أن يتعلق ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ ب»
زينة «قال: لأنَّها قد نُعتت، والمصر واسم الفاعل متى نعتا لا يعملان لبعدهما عن شبه الفعل.
قال:»
ولأنَّهُ يُفَرَّق بين الصَّلة والموصول؛ لأنَّ نَعْتَ الموصول ليس من صلته «.
قال شهابُ الدِّين: لأن زينة مصدر فهي في قوة حرف موصول وصلته، وقد تقرَّر أنَّهُ لا يتبع الموصول إلا بعد تما صلته، فقد تحصل في تعلق»
الَّذينَ آمَنُوا «ثلاثة أوْجُهٍ:
إمَّا أنْ يتعلَّق ب»
خالصة «، أب بمحذوف على أ، ها خبر، أو بمحذوف على أنَّها للبيان وفي تعلق ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ سبعةُ أوْجُهٍ.
أحدها: أن يتعلٌّ ب»
آمنوا «.
الثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّها حال.
الثالث: ان يتعلق بما تعلَّق به»
لِلَّذِينَ آمَنُوا «.
94
الرابع: أن يتلعَّق ب» حَرَّمَ «.
الخامس: أن يتعلَّق ب»
أخْرَجَ «.
السادس: ان يتعلق بقوله:»
الطّيِّبات «.
والسابع: أن يتعلَّق بالرزق.
و»
يَوْمَ القيامةِ «له متعلق واحد وهو» خَالِصَةٌ «، والمعنى: أنَّها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصة للؤمنين فقط أخرى.
فإن قيل: إذَا كان الأمر على ما زعمت من معنى الشركة بينهم في الدُّنْيَا، فكيف جاء قوله تعالى: ﴿هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾، وهذا مؤذِنٌ ظاهراً بعدم الشركة.
فقد أجَابُوا عن ذلك من أوجه:
أحدها: أنَّ في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة.
قال أبُو القاسم الكَرْمَانِيُّ: وكأنَّهُ دلَّ على المحذوف قوله بعد ذلك: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ إذْ لو كانت خالصة لهم في الدَّارين لم يخص بها أحدهما.
والثاني: أن «لِلَّذينَ آمَنُوا»
ليس متعلّقاً بكون مطلق، بل بكون مقيد، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غير خَالصَةِ للذين آمنوا لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها، خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، قاله الزمخشريُّ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابله وهو قوله: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾.
الثالث: ما ذكره الزمخشريُّ، وسبقه إليه التبريزي قال: «فإن قلت: هلا قيل [هي] للَّذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيه على أنها خلقت للَّذين آمنوا على طريق الأصال، فإنَّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٢٦].
وقال التبريزي: ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدُّنْيَا تنبيهاً على أنَّهُ إنَّما خلقها للذين آمَنثوا بطريق الأصال، والكُفَّار تبع لهم، ولذلك خاطب المؤمنين [بقوله] :﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ [البقرة: ٢٩] وهذا الثالث ليس جوابا ثالثاً، إنما هو مبين لحسن حذف المعطوف في عدم ذكره مع المعطوف عليه.
ثم قال تبارك وتعالى: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات﴾ وقد تقدم.
وقوله: ﴿لِقَوْمِ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ القوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصَّلُوا إلى ذلك بتحصيل العلوم النظرية.
95
لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات، فحرَّم أولاًالفواحش، وثانيها الإثم، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما، فقيل: الفواحشُ: عبارة عن الكبَائر؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي: تزايد، والإثم عبارة عن الصغائر، والمعنى: أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ.
وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال: الزِّنّا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ، وهو بعيد، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ، والإثم ما لا حدّ فيه.
وقيل: الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً، وفائدته: أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة، وهذا اختيار القاضي.
وقيل: إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢]، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك.
وإذا قيل: فلانٌ فحاشٌ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَب بالفاظ الوِقَاع؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا، فعلى هذا يكون ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أي: الذي يقع منها علانية، و «مَا بَطَنَ» أي: الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة.
وقيل: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ : المُلامسة والمُعَانقة، و «مَا بَطَنَ» الدُّخول، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها.
وما «الإثم» فالظاهر أنَّهُ الذَّنب.
وقيل: هو الخمرُ، قاله المفضلُ، وأنشد القائل في ذلك: [الطويل]
٢٤٥٥ - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا
وأنشد الأصمعي: [الطويل]
٢٤٥٦ - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ
قال: وقد يسمى الخمر إثماً؛ وأنشد القائلُ: [الوافر]
96
ويروى عن ابن عبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحسنِ البصري [أنهما] قالا: «الإثم: الخمر».
قال الحسنُ: «وتصديق ذلك قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩]، والذي قاله الحُذَّاق: أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ.
قال ابن الأنباري:»
الإثمُ: لا يكون اسماً للخمر؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً، لا في جاهلبيّة، ولا في الإسلام، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم، بل هي معظمه، فإِنَّهَا مؤجّجة للفتن، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة، وتحريم الخمبر إنَّمَا كان في «المَدِينَةِ» بعد «أحد»، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم «أحدٍ» فماتوا شُهَدَاء، وهي في أجوافهم.
وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله:
٢٤٥٨ - شَرِبْتُ الإثْمَ..........................................
نصواعلى أنه مصنوع، وأما غيره فاللَّهُ أعلم «.
وقال بعضُ المفسِّرين:»
الإثم: الذّنب والمعصية «.
وقال الضحاكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:»
الإثمُ: هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه «.
قوله: ﴿والبغي بِغَيْرِ الحق﴾ : اعلم أنَّ الَّذين قالوا: المراد ب»
الفواحش «جميع الكبائر، وب» الإثم «جميع الذُّنوب قالوا: إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الواحش، وتحت الإثم، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُّوب، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: ٨].
وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا: البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً، أو مالاً أو عِرْضاً، وقد يراد البغي على سلطان الوقت.
فإن قيل: البغيُ لا يكون غلا بغير الحقِّ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ قوله تعالى»
بِغَيْرِ الحقِّ «حال، وهي حال مؤكدة؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق.
97
والثاني: أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ [الأنعام: ١٥١]، والمعنىك لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً.
وقوله:» وأنْ تُشْرِكُوا «منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول» حرَّم «أي: وحرّم إشراككم عليكم، ومفعول الإشراك ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ وقد تقدَّم بيانه في» الأنعام «، تهكَّم بهم؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره.
قوله: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله﴾ نسق على ما قبله أي: وحرّم قولكم عليه من غير علم، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨].
فإن قيل: كلمة»
إنَّمَا «تفيدُ الحَصْرَ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصور في هذه الأشياء؟
فالجواب: إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا، والإثم على الخمر فنقول: الجنايات محصورةٌ في خمسة:
أحدها: الجنايات على الإنسانيَّة، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَّا، وهو المراد بقوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش﴾.
وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شُرْبُ الخمر، وإليه الإشارة بقوله»
والإثْم «.
وثالثها ورابعها: الجنايات على النُّفوس والأموال، وإليه الإشارة بقوله: ﴿والبغي بِغَيْرِ الحق﴾.
وخامسها: الجناية على الأديان، وهي من وجهين:
أحدهما: الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى.
والثاني: الطعن في أحكامه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
فلما كانت الجنايات هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ، فأدخل فيها كلمة»
إنَّمَا «المفيدة للحصر.
فإن قيل: الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة: إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة؟
فالجوابُ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال.
98
لما بيَّن الحَلاَلَ والحَرامَ وأحوال التَّكاليف، بين أنَّ لِكُلِّ أحد أجلاً معيناً أي: مدة وأجل.
وقال ابْنُ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وعطاءٌ والحسنُ: وقت نزول العذاب بهم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ خبر مقدَّمٌ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضهم أنَّ التقدير: ولكلِّ أحد من أمةٍ أجل أي: عُمْرٌ، كأنَّه توهم أنَّ كل أحد له عمر مستقل، وأنَّ هذا مراد الآية الكريمة، ومراد الآية أعم من ذلك.
قوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾.
قال بعضهم: كُلُّ موضع في القرآن العظيم من شبه هذا التَّركيب، فإن «الفاء» داخلة على «إذَا» إلا في «يونس» فيأتي حكمها، وأما سائر المواضع فقال: «لأنَّها عطفت جملة على أخرى بينهما اتصال وتعقيب، فكان الموضع موضع الفاء».
وقرأ الحسنُ وابْنُ سيرينَ: «آجَالُهُم» جمعاً.
قوله: «لا يَسْتَأخِرُونَ» جواب «إذَا»، والمضارعُ المنفي ب «لا» إذا وقع جواباً ل «إذَا» جاز أن يُتلقى ب «الفاء»، وألا يُتلقى بها.
قال أبو حيَّان: وينبغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ، فتصير الجملة اسميّة، ومتى كانت كذلك وجب أن تتلقى «بالفاء» أو «إذا» الفجائية.
و «ساعة» نصب على الظرف، وهي مثل في قلة الزمان.
قوله: «وَلاَ يَسْتَقْدِمُون» هذا مستأنف، معناه الإخبار بأنَّهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم، بل لا بدَّ من استيفائهم إيَّاه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلّ زمان.
وقال الحُوفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره: إنَّهُ معطوف على «لا يستأخرون» ولهذا لا يجوز؛ لأن «إذا» إنَّما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلة لا الماضية، وةالاستقدام بالنِّسبة إلى مجيء الأجل مُتقدم عليه، فكيف يترتب عليه ما تقدَّمَهُ؟ ويصيرُ هذا من باب الإخبار بالضَّروريات التي لا يجهل أحد معناها، فيصير نظير قولك: «إذا
99
قمت فيما يأتي لم يتقدَّم قيامك فيما مضى» ومعلومٌ أنَّ قيامك في المستقبل لم يتقدّم قيامك هذا.
وقال الواحديُّ: إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التَّقديم على الأجل وقت حضوره؟ وكيف يحسن التقديم مع هذا الأجل؟
قيل: هذا على المُقاربَةِ؛ لأنَّ العرب تقول: «جاء الشِّتَاءُ» إذا قرب وقته، ومع مقاربة الأجل يتصور الاستقدام، وإن كان لا يتصور مع الانْقِضَاءِ، والمعنى: لا يستأخرونَ عن آجالهم إذا انقضت، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء، وهذا بناءً منه على أنَّهُ معطوف على «لا يَسْتَأخرُون»، وهو ظاهر أقوال المفسرين.

فصل في المراد ب «الأجل»


في المراد بهذا الأجل قولان:
قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ ومقاتل: «المراد به نزول العذاب على كل أمة كذّبت رسولها».
والثاني: أن المراد به الأجل.
100
لمَّا بيَّن أحوال التَّكاليف، وأنَّ لكلِّ أمَّةٍ أجلاً معيناً - بيَّن أنَّهم بعد الموت إن كانوا مطيعين فلا خَوْفٌ عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدِّ العذابِ.
قيل: أراد «بَنِي آدَمَ» مشركي العربِ، وقد تقدَّم إعراب نظيره في البقرة، وهي أن الشَّرْطِيَّة ضمت إليها مؤكدة لمعنى الشّرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة، وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط، والجزاء وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ﴾.
و «مِنْكُم» صفة لطرسل «، وكذلك» يَقُصُّون «وقُدِّمَ الجار على الجملة لأنه أقرب إلى المفرد منها.
قال مُقاتِلٌ: أرَادَ بالرُّسُلِ الرَّسول - عليه الصَّلاة والسلامُ - إنما قال:»
رُسُل «، وإن كان خطاباً للرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وهو خاتم الأنبياء؛ لأنه أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم.
وقيل: أراد جميع الرُّسُلِ، وإنَّما قال:»
منكم «؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات:
وقيل: أراد جميع الرُسُلِ، وإنَّما قال:»
منكم «؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات:
أحدها: أنَّ معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة.
وثانيها: أنَّ معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدّمة فلا جرم لا يقع في المعجزات
100
التي تظهر عليه شكّ وشبهة في أنَّهَا حصلت بقدرة الله تبارك وتعالى، لا بِقُدرتِهِ، ولهذا السَّبب قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩].
وثالثها: ما يحصل من الألْفَةِ وسكونِ القلب إلى أبناء الجنس، بخلاف من لا يكون من الجنس، فإنَّهُ لا يحصل معه الألفة.
قوله: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾.
قيل: الآياتُ: القرآنُ، وقيل: الدلائلُ، وقيل: الأحكام والشَّرائع.
والأَوْلى دخول الكلِّ فيه؛ لأنَّ الرُّسل إذا جاءُوا فلا بدّ يذكرون جميع هذه الأقسام.
قوله:» فَمَنْ «يحتمل أن يكون شرطية، وأنْ تكون موصولة، فإن كان الأوَّلُ؛ كانت هي وجوابها جواباً للشّرط الأوَّل كما تقدَّم، وهي مستقلة بالجوابِ دون التي تُفِيدُ جوابها وهي» والَّذِينَ كَذَّبُوا «، وإن كان الثاني كانت هي وجوابها، والجملة المشار غليها كلاهما جواباً للشَّرط، كأنَّهُ قسم جواب قوله:» إمَّا يأتينكُمْ «إلى متَّقٍ ومكذب، وجر كلاًّ منهما، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة.
وحذف مفعولي»
اتَّقَى وأصْلَحَ «اختصاراً للعلم بهما أي: اتَّقَى ربه وأصلحِ عمله، أو اقتصاراً أي: فَمَنْ كان من أهل التَّقْوى والصَّلاح من غير نظر إلى مفعول، كقوله تعالى: ﴿هُوَ أغنى وأقنى﴾ [النجم: ٤٨] ولكن لا بدَّ من تقدير رابط بين هذه الجملة، وبين الجملة الشرطية، والتقدير: فمن منكم والذين كذَّبوا منكم.
وقرأ أبيٌّ والأعرج «تَأتينكُمْ»
بتاء مثناة من فوق نظراً إلى معنى جماعة الرسل فيكون قوله تعالى «يَقُصُّون» بالياء من تحت حملاً على المعنى إذ لو حمل على اللفظ لقال: «تقُصُّ» بالتَّأنيث أيضاً.
مطلب: هل يلحق المؤمنين خوف يوم القيامة أو لا؟
المعنى: لا خوف عليهم بسبب الأحْوالِ المستقبلة ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما فاتهم في الدُّنْيَا؛ لأنَّ حزنهم على عقاب الآخرة بما حصل لهم من زوال الخوف، فيكون كالمعادِ، وحمله على الفائدة الزائدة أولى.
واختلف العلماء في أنَّ المؤمنين من أهل الطَّاعات هل يلحقهم خوف أو حزن عند أهوال القيامة، فقال بعضهم: لا يلحقهم لهذه الآية الكريمة، ولقوله تعالى: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣]، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ يلحقهم ذلك الفزع الأكبر لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
101
الناس سكارى} [الحج: ٢] من شدة الخوف، وأجاب هؤلاء عن هذه الآية الكريمة بأنَّ معناها: أن أمرهم يؤولُ إلى الإمن والسرور، كقول الطَّبِيبِ للمريض: «لا بأس عليك» أي: يؤولُ أمرك إلى العافية والسلامة، وإن كان في الوقت في بأس من علته.
102
قوله تعالى: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ ؛ أي الآيات التي يجيء بها الرُّسل - عيهم الصَّلاة والسَّلام - ﴿واستكبروا﴾ أي أبوا عن قوبلها وتكبروا عن الإيمان بها وذكر الاستكبار لأنَّ كلَّ كاذب وكافر متكبِّ ﴿قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات: ٣٥] ألا ﴿أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وهذه الآية تدل على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة لا يخلد في النار؛ لأنَّهُ تبارك وتعالى بين أن المكذبين بآيات اللَّه والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار.
قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ وهذا يجرع إلى قوله تعالى ﴿وَالَّذَينَ كَذَّبُواْ﴾ أي فمن أظلم ظلماً ممن يقول على اللَّهِ ما لم يعلمه أو كذب بما قاله، والأوَّلُ: هو الحكم بوجود ما لم يوجد.
والثاني: هو الحكيم بإنكار ما وجد.
والأول يدخلُ فيه قول من أثبت الشريك للَّه تعالى سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت للَّه تعالى البنات والبنين ويدخل فيه من أضاف الأحكام الباطلة إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وثالني: يدخل فيه قول من أنْكَرَ كون القرآن العظيم كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول مَنْ أنْكَرَ نبوة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب﴾.
قيل المراد بذلك النَّصِيبِ هو العذاب قاله الحسنُ والسُّدِّيُّ أي: ما كتب لهم في اللَّوْحِ المحفوظِ من العذاب وسواد الوجوه وزرقةِ العيون قال عطية عن ابن عباس -
102
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كتب لمن يفتري على اللَّه سواد الوجه. قال تعالى ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠].
وقيل المراد ب «النصيب» أن أهل الذمة يجب علينا أن لا نتعدى عليهم، وأن ننصفهم ونذب عنهم.
وقال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وسعيدُ بنُ جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومجاهدٌ: ما سبق لهم من السّعاد والشٌّاوة، فإن قضى اللَّهُ لهم بالختم على الشّقاوة أبقاهم على كفرهم، وإن قضى لهم بالختم على السعادة؛ نقلهم إلى الإيمان وقال الرَّبيعُ، وابنُ زَيْدٍ ومحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: ما كتب لهم من الأرْزَاقِ والأعمار، والأعمال، فإذا فَنِيَتْ وانقضت ﴿جَاءَتْ رُسُلنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾.
قوله تعالى «مِنَ الكِتَابِ» في محلّ الحال من نَصِيبُهُم أي: حال كونه مستقراً من الكتاب و «مِنْ» لابتداء الغاية.
قوله: «حَتَّى» هنا غاية، و «إذَا» وما في حيزها تقدَّم الكلام عليها هل هي جارة، أو حرف ابتداء؟ وتقدَّم عبارة الزَّمخشريُّ.
واختلفوا فيها إذا كانت حرف ابتداء أيضاً.
فقال ابْنُ درستويه هي حينئذٍ جارَّة، وتتعلَّق بما قبلها تعلّق حروف الجرِّ من حيثُ المعنى لا مِنء حيثُ اللفظ، والجملة بعدها في محل جرٍّ.
وقال الجمهورُ: إذا كانت حرف ابتداء فَلَيْسَتْ جارّةً، بل حرف ابتداء فقط.
وإن كان مَعْنَاهَا الغاية كقول القائل في ذلك: [الطويل]
٢٤٥٧ - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ
٢٤٥٩ - سَرَيْتُ بِهِمْ تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ وحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ
وقل الآخر في ذلك: [الطويل]
103
وقال صاحب «التَّحْريرِ» :«حتَّى» هنا ليست للغايةن بل هي ابتداء وخبر وهذا وَهْمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها.
وقوله «بَلْ هي ابتداء وخبر» تسامح في العبارة يريدُ بل الجملة بعدها ثُمَّ الجملة التي في هذا المكان ليست ابتداء وخبر، بل هي جملة فعليّة، وهي قالوا و «إذَا» معموله لها.
وممن ذهب إلى أنَّها ليست للغاية الواحديُّ فإنَّه حكى في معنى الآية الكريمة أقوالاً، ثم قال: فعلى هذا القَوْلِ معنى «حتَّى» للانتهاء والغاية وعلى القولين الأوَّلين ليست «حتى» في هذه الآية الكريمة للغاية بل هي التي يقع بعدها الجمل وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك «أما» و «إذا» ولا تعلق لقوله: «حتّى إذا» بما قبله، بل هذا ابتداء خبر أخبر عنهم كقوله في ذلك: [الطويل]
٢٤٦٠ - فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدِجلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أشْكَلُ
٢٤٦١ - فَيضا عَجَباً حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي كَأنَّ أبَاهَا نَهْشَلٌ أوْ مُجَاشِعُ
وهذا غير مرضي منه لمخالفته الجُمْهُور.
وقوله «لا تعَلُّقَ لها بما قبلها» ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها.
والظَّاهِرُ أنِّما تتعلّق بقوله «ينَالُهُمْ نصيبهم».

فصل في إمالة «حتى»


قال الخليلُ وسيبويه: لا يجوزُ إماة «حتى» و «ألاّ» و «أمَّا» وهذه ألفات ألْزِمَتِ الفتح لأنَّها أواخر حروفٍ جاءت لمعاني يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو: حبلى وهُدَى إلا أن «حتَّى» كتبت بالياء لأنَّها على أربعة أحرف فأشبهت سَكْرَى، قال بعض النحويين: لا يجوز إمالة «حتَّى» لأنَّها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف.
قوله: «يَتَوَفَّوْنَهُمْ» في محلّ نصب على الحال، وفي المراد بقوله: ﴿رُسُلُنَا يَتَوفَّوْنَّهُمْ﴾ قولان:
المراد بالرُّسل ملك الموت وبقوله: «يَتَوَفَّوْنَهُم» يقبضون أرواحهم؛ لأنَّ لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى. ح
قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الملائكة يطالبون بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزّجر والتّوبيخ.
الثاني: قال الحسن والزَّجَّاجُ في أحد قوليه: إنّ هذا لا يكون في الآخر ومعنى قوله: ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار بمعنى يستكملون عدتهم حتَّى لا ينفلت منهم أحد.
104
قوله «أَيْنمَا كُنْتُمْ» أي أين الشّركاء الذين كنتم تَعْبدُونَهُمْ من دون اللَّهِ وكتبت «أينَمَا» متصلة وحقُّها الانفصال، لأنَّ «ما» موصولة لا صلة إذ التقدير: أين الذين تدعونهم ولذلك كتبت ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ﴾ [الأنعام: ١٣٤] منفصلاً و ﴿إِنَّمَا الله﴾ [النساء: ١٧١] متصلاً.
قوله «ضَلُّوا» جواب من حيث المعنى لا من حيث اللَّفْظ، وذلك أنَّ السُّؤال إنَّما وقع عن مكان الذين كانوا يدعونهم من دون اللَّه، فلو جاء الجوابُ على نسق السُّؤال لقيل: هم في المكان الفلانيّ، وإنَّما المعنى: ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونهم، فأجَابُوا بأنَّهُمْ ضلُّوا عنهم وغابوا.
قوله: «وشَهِدُوا» يحتمل أن يكون نَسَقاً على «قالوا» الذي وقع جواباً لسؤال الرسل، فيكون داخلاً في الجواب أيضاً.
ويحتمل أن يكون مستأنفاً منقطعاً عما قَبْلَهُ ليس داخلاً في حيَّز الجواب كذا قال أبو حيَّان وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّهُ جعل هذه الجملة جواباً لعطفها على «قَالُوا»، و «قالوا» في الحقيقة ليس هو الجواب، إنَّما الجوابُ هو مقولُ هذا القول، وهو «ضَلُّوا عَنا» ف «ضلُّوا عنَّا» هو الجواب الحقيقي الذي يُسْتَفَادُ منه الكلام.
ونظيره أن يقولك سألت زَيْداً ما فعل؟ فقال: أطعمتُ وكسوتُ فنفسُ أطعمتُ، وكسوتُ هو الجواب.
وإذا تقرَّرَ هذا فكان ينبغي أن يقول: «فيكون» معطوفاً على «ضَلُّوا عنَّا»، ثمَّ لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى، وهو أنَّهُ كان يكون التركيب الكلامي: «ضلُّوا عَنَّا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا»، إلا أن يقال: حكى الجواب الثَّاني على المعنى، فهو محتمل على بُعْد بعيدٍ.
ومعنى الآية أنَّهُم اعترفوا عند معاينة الموت أنَّهُم كانوا كافرين.
105
اختلفوا في هذا القائل، فقال مقاتل: «هو كلامُ خازِنِ النَّارِ»، وقال غيره: «هو كلام اللَّهِ»، وهذا الاختلاف مبني على أنَّ الله - تعالى - هل يتكلَّمُ مع الكفار أم لا؟، وقد تقدمت هذه المسألة.
قوله: «فِي أمَمٍ» يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله: «في أمَمٍ» وقوله «في النَّارِ» كلاهما ب «ادْخُلُوا»، فيجيء الاعتراضُ المشهور وهو كيف يتلّق حرفا جرٍّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟، فيجاب بأحد وجهين:
105
إمَّا أنَّ «في» الأولى ليست للظَّرفية، بل للمعيّة، كأنَّهُ قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدُّخول، وقد تأتي «في» بمعنى «مع» كقوله تعالى: ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة﴾ [الأحقاف: ٦١].
وقول الشاعر: [الطويل]
٢٤٦٢ - شَمُوسٌ ودُودٌ فِي حَيَاءٍ وعِفَّةٍ رخِيمَةُ رَجْعِ الصَّوْتِ طَيِّبَةُ النَّشْرِ
وإمَّا بأن «في النَّار» بدل من قول «فِي أمَمٍ» وهو بدل اشتمال كقوله: ﴿أَصْحَابُ الأخدود النار﴾ [البروج: ٤، ٥].
فإنَّ النَّار بدل من الأخدود، كذلك «في النَّارِ» بدل من «أمَمٍ» بإعاد العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفية في [ «في» ] مجازاً؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنَّما المعنى: ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم.
ويجوز أن تتعلّق «فِي أمَم» بمحذوف على أنَّهُ حال أي: كائنين في جملة أمم.
و «فِي النَّارِ» متعلّق ب «خلت» أي: تسبقكم في النَّارِ.
ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة ل «أمَمٍ» فتكون «أمم» قد وصفت بثلاثة أوصاف:
الأولى: الجملة الفعليّة، وهي قوله «قَدْ خَلَتْ».
والثاني: الجارّ والمجرور، وهو قوله: ﴿مِن الجن والإنس﴾.
الثالث: قوله: «فِي النَّارِ»، والتقدير: في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس، ومستقرَّة في النَّارِ.
ويجوز أن تتعلَّق «فِي النَّار» بمحذوفٍ أيضاً، لا على الوَجْهِ المذكور، بل على كونه حالاً من «أمَمٍ»، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما.
ويجوز أن يكون حالاً من الضَّميرِ في «خَلَتْ» ؛ إذ هو ضمير الأمَمِ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس؛ لانَّهم الأصل في الإغواء.
قوله: «كُلَّما دَخَلتْ» تقدَّم نظيرها، وهذه الجملة يحتمل أنتكون صفة ل «أمم» أيضاً، والعائد محذوفٌ أي: كلما دخلت أمة منهم أي: من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أمتها، والمعنى: أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضاً، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾
[الزخرف: ٦٧]. والمرادُ بقوله أختها أي: في الدّين.
قوله: «حتَّى» هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنَّهُم يدخلون فضوْجاً فَوْجاً، لاعناً بعضهم لبعض إلى انتها تداركهم فيها.
106
وقرأ الجمهور: «إذَا ادَّارَكُوا» بوصل الألف وتشديد الدَّال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل ب «ادَّارَأتُمْ»، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [٧٢].
قال مكيٌّ: ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصلياً فتقول: افاعلوا، فتصير تاء «تفاعل» فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ؛ وذلك لا يجوزُ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت: تَفَاعَلُوا جاز.
وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ، وهو «فاعلوا» ممنوع.
قوله: «لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليّاً».
قلناك لا يلزم ذلكح لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها، فتقولُ: وزن ادَّارَكوا: اتفاعلوا، فيلفظ بالتاء اعتباراً بأصلها، لا بما صارتء إليه حال الإدغام.
وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء، أو دالاً في نحو: اصْطَبَر، واضْطَرَبَ، وازْدَجَرَ، وادَّكَرَ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فتقولُ: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك تقولُ هنا: وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك.
وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعْمَشُ، ورويت عن أبي عمرو: تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة.
وقرأ أبو عمرو «إذا إِدَّاركوا» بقطع همزة الوصل.
قال ابن جني: «هذا مشكل، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالاً، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ، ثم ابتدأ فقطع».
وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ، يعني أن قطع الف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء.
وقرأ حميد «أُدْرِكوا» بضم همزة القطع، وسكون الدَّال وكسر الراء، مثل «أخْرِجُوا» جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها.
ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان: فروى عنه مكي «ادَّرَكوا» بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء، وأصلها «ادْتَرَكوا» على افتعلوا مبنياً للفاعل، ثم أدغم، كما أدغم «ادَّان» من الدَّيْن.
107
وروى عنه غيره «أدْرَكوا» بفتح الهمزة مقطوعة، وسكون الدَّال وفتح الرّاء، أي: أدرك بعضُهم بعضاً.
وقال أبُو البقاءِ: وقرئ: «إذَا ادَّاركوا» بألف واحد ساكنة بعدها دال مشدَّدة، وهو جمع بين ساكنين، وجاز في المفنصل كما جاز في المتَّصل، وقد قال بعضهم: «اثْنَا عَشَر» بإثبات الألف وسكون العَيْنِ، يعني بالمتصل نحو: «الضَّالين» وجانّ، ومعنى المنفصل أنَّ ألف «إذَا» من كلمة، والسَّاكن الثاني من كلمة أخرى.
وَ «ادّاركوا» بمعنى تَلاحَقُوا، وتقدَّمُ تفسير هذه المادة [النساء: ٧٨].
و «جميعاً» حال من فاعل «ادَّاركوا».
قوله: ﴿أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ﴾ يحتمل أن تكون فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريُّ: «أخْرَاهم منزلة، وهم الأتباع [والسَّفلة]، لأوْلاهم منزلة وهم القادة والرؤساء».
ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوَّل، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة كقوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [فاطر: ١٨].
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تَأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل، أن التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء، كما لا يدلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعطف أمثالُها عليها في نوع واحد تَقُولُ: مررت بأمراة وأخرى وأخرى كما تقول: مررت برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء، كما يدلُّ مذكَّرها، ولذلك لا يُعطف أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة «غير»، وهذه لا تفيدُ إفادة «غير».
والظَّاهِرُ في هذه الآية الكريمة أنَّهُمَا ليستا للتَّفضيل، بل لما ذكرنا.
قال ابن عباس ومقاتل: «أخراهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها».
واللام في «لأولاهم» للتّعليل أي: لأجل، ولا يجوزُ أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك: قلتث لزيد افعل.
قال الزمخشريُّ: «لأنَّ خطابهم مع اللَّه لا معهم»، وقد بسط القول قبله في ذلك الزَّجَّاج فقال: «والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلُّونا، لأولاهم» فذكر نحوه.
قال شهابُ الدِّينِ: وعلى هذا فاللاَّمُ الثَّانية في قوله: «أولاهم لأخْرَاهُمْ» يجوز أن
108
تكون للتَّبليع، لأنَّ خطابهم معهم بدليل قوله: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: ٣٩]
قوله: ﴿رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا﴾ يعني: أنَّ اأتباع يقولون: إنَّ المتقدّمين أضلّونا، يعني: أنَّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتِهِمْ عذاباً ضعفاً من النَّارِ.
قال أبُو عبيدة «الضِّعفُ: مثل الشَّيء مرةً واحدة».
قال الأزْهَريُّ: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النَّاسُ في مجاز كلامهم، وقد قال الشَّافِعِيُّ قريباً منه فقال في رجل أوصى: «أعطوه ضِعْفَ ما يُصيبُ وَلَدِي» قال: «يَعطَى مثله مرتين».
قال الأزْهَرِيُّ: «الوصايَا يستعمل فيها العرف، وما يتفاهمه النَّاس، وأما كتاب اللَّهِ فهو عربيٌّ مبينٌ، ويُرَدُّ تفسيره إلى لغةِ العربِ، وموضوع كلامها الذي هو صنعه ألْسِنَتِهَا.
والضِّعف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه، وثلاثة أمثاله، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى تعالى:
﴿فأولئك
لَهُمْ جَزَآءُ الضعف﴾
[سبأ: ٣٧] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلَيْن، وأوْلَى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثاله كقوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] فأقلُّ الضّعف محصور وهو المِثْلُ وأكثره غير محصورٍ «.
ومثل هذه المقالة قال الزَّجَّاجُ أيضاً فإنَّهُ قال: أي عذاباً مضاعفاً؛ لأنَّ الضعف في كلام العرب على ضربين:
أحدهما: المِثْلُ، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى، وقد تقدَّم طرف من هذا في البقرة.
وأما قول الشَّافعيِّ في»
الوصيَّة «: إنَّهُ المثل، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنَّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضِّعْفَ في الوصيَّة على المثلين.
قوله:»
ضعْفاً «صفة ل» عذاباً، و «من النَّارِ» يجوز أن يكون صفة ل «عذاباً»، وأن يكون صفة ل «ضعْفاً»، ويجوز أن يكون «ضعفاً» بدلاً من «عذاباً».
قوله: «لِكُلِّ» أي: لكلّ فريق من الأخرى، والأولى أو القادة والأتباع.
قوله: ﴿ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ قراءة العامّة بتَاءِ الخطاب: إمَّا خطاباً للسَّائلين، وإمَّا خطاباً
109
لاهل الدُّنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق.
وقرأ أبثو بَكْرِ عن عاصمٍ بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائداً على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب، أو على الطّائفتين، أي: لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب.
فإن قيل: إن كان المراد من قوله: لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز؛ لأنَّهُ ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً؟.
فالجوابُ: أنَّ عذاب الكفَّار يزيد فكل ألم يحصل فإنَّهُ يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدةٍ لا إلى آخر.
110
قوله: «وَقَالَتْ أُولاَهُمْ» أي في ترك الكُفْرِ والضَّلال وإنَّا متشاركون في استحقاق العذاب.
فإن قيل: إن هذا منهم كذب؛ لأنَّهُمْ لكونهم رؤساء سادة وقادة، قد دعوا إلى الكُفْرِ والتَّرغيب فيه، فكانُوا ضالِّين مضلّين، وأمَّا الأتباع والضَّعفاء وإن كانوا ضَالين إلاَّ أنَّهُم ما كانوا مضلّين، فبطل قولهم: إنَّهُ لا فضل للأتباع على الرُّؤساء في تَرْكِ الضَّلال والكُفْرِ.
فالجواب: أنَّ أقصى ما في الباب أنَّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أنَّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
قوله: «فما» : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسَّفلة: «لِكُلِّ ضِعْفٌ» أي: فقد ثَبَتَ أنَّ لا فضل لكم علينا، وأنا متشاوون في استحقاق الضِّعف فذوقوا.
قال أبُو حَيَّان - بعد أنْ حكى بعض كلام الزَّمخشري -: والذي يظهر أنَّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السَّفلة في الدُّنيا بسبب اتباعهم إيَّاهم، وموافقتهم لهم في الكُفْرِ أي: اتِّباعُكم إيّانا، وعدم اتِّباعكم سواء؛ لأنَّكُم كنتم في الدُّنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم عيلنا فضِل بأتِّباعكم، بل كفرتم اختياراً، لا أنَّا حملْنَاكم على الكُفْرِ إجباراً، وأنَّ قوله: «فَمَا كَانَ» جملة معطوفة على جُمْلَةٍ محذُوفَةٍ بعد القَوْلِ دَلَّ عليها ما سبق من
110
الكلام، والتَّقديرُ، قالت أولاهم لأخراهم: ما دعاؤكم اللَّه أنَّا أضلنناكم وسؤالكم ما سألتم، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم، وأنَّ قوله: «فَذُوقُوا» من كلام الأولى خِطَاباً للأخرى على سبيل التشفِّي، وأن ذَوْقَ العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضْلَلْنَاكُمْ.
وقيل: فذوقوا من خطاب الله لهم.
و «بِمَا» «الباء» سببية، و «مَا» مصدرية، أو بمعنى «الَّذي»، والعائد محذوف أي: تكسبونه.
111
هذا من تمام وعيد الكُفَّارِ فقوله: ﴿كَذَّبُوا بآيَاتِنَا﴾ أي بالدَّلائل الدَّالة التي هي أصول الدِّين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذَّات والصِّفاتِ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد، ومنكرو النُّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النُّبُوَّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدَّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله: ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ بتناولُ الْكُلَّ ومعنى الاستكبار طلب التَّرَفُّع بالبَاطِلِ، وهذا اللَّفظ يَدُلُّ على الذم في حقِّ البَشَرِ.
قوله: «لا تُفَتَّحُ».
قرأ أبُو عمر: «لا تُفْتَح» بضمّ ِالتَّاء من فوق والتَّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضاً، والباقون: بالتَّأنيث والتشديد.
فالتَّأنْيِثُ والتَّذكير باعتبار الجمع والجماعة، والتخَّفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه، والتضعيف هنا أوْضَحُ لكثرة المتعلق، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ، وأبو البرهسم [ «تَفَتَّح» ] بفتح التَّاء مِنْ فوق والتضعيف، والأصل: لا تتفتح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم في « ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
ونحوه، ف»
أبواب «على قراءة أبي حيوة فاعل، وعلى ما تقدَّم مفعول لم يُسمَّ فاعله.
وقرئ:»
لا تفتح «بالتاء، ونصب» الأبْواب «على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل للَّه ذكره الزمخشري.
111

فصل في معنى» لا تفتح «


قال ابنُ عبَّاسِ: لا تفتح لأعمالهم لدعائهم مأخوذ من قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠].
وقال السُّدِّيُّ وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السَّمَاءِ وتفتح لأرواح المؤمنين، ويؤيد هذا ما ورد في الحديث أنَّ روح المؤمن يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها فيقال: مرحباً بالنَّفْس الطيبة، التي كانت في الجسد الطيب، ويقال لها ذلك إلى أن تنتهي إلى السَّماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر، فقال لها: ارْجِعِي ذميمةً فإنه لا تفتح لك أبوابُ السَّماء ولا يدخلون الجنة بل يهوى بها إلى سجين.
وقيل: لا ينزلُ عليهم الخير والبركة لقوله: ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ [القمر: ١١].
قوله: ﴿حتى يَلِجَ الجمل﴾.
الولوج: الدُّخُول بشدّة، ولذلك يقالك هو الدُّخول في مضيق، فهو أخصُّ من الدُّخول، والوليجة: كلُّ ما يعتمده الإنسان، والوليجة الدَّاخِلُ في قوم ليس منهم.
و»
الجَمَلُ «قراءة العامة، وهو الحيوانُ المعروف، ولا يقال للبعير جملاً إلا إذا بَزَل، ولا يقال له ذلك إلا إذا بَلَغَ أربع سنين وأول ما يخرج ولد النَّاقة، ولم تعرف ذُكُوريَّتُهُ وأنوثته يقالُ لَهُ:» سَلِيلٌ «، فإن كان ذكراً فهو» سَقْبٌ «، وإن كان أنثى» حَائِلٌ «، ثم هو» حُوار «إلى الفطام، وبعده» فَصِيل «إلى سنة، وفي الثانية:» ابْن مَخَاض «و» بِنْت مَخَاض «، وفي الثالثة:» ابْن لَبون «و» بنت لبون «، وفي الرابعة:» حِقٌّ «و» حِقَّة «، وفي الخامسة: جَذَع وجَذَعة، وفي السَّادسة:» ثَنِيُّ «و» ثَنِيَّة «، وفي السَّابعة: رَباع ورَباعية مخففة، وفي الثامنة:» سِديسٌ «لهما.
وقيل: «سَديسةٌ»
للأنثى، وفي التَّاسعة: «بَازِلٌ»، و «بَازِلَةٌ»، وفي العاشرة: «مُخْلِفٌ» و «مُخْلِفةٌ»، وليس بعد البُزُول والإخلاف سنٌّ بل يقال: بازل عام، أو عامين، ومُخْلِف عام، أو عامين حتى يهرم، فيقال له: فَوْد. ورد التَّشبيه في الآية الكريمة في غاية الحسن، وذلك أنَّ الجمل أعظم حيوانٍ عند العربِ، وأكبره جثَّة حتى قال: [البسيط]
٢٤٦٣ -............................ جِسْمُ الجِمَالِ وأحْلاَمُ العَصَافِيرِ
112

[وقوله] :[الوافر]

٢٤٦٤ - لَقَدْ كَبُرَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ...................................
وسم الإبرة في غايةِ الضِّيقِ، فلما كان المثلُ يُضْرَبُ بعظم هذا وكبره، وبضيق ذلك حتَّى قيل: أضْيقُ من خُرْت إبرة، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطُّرُقِ قيل: لا يدخلون [الجنة حتى يتقحّم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأِياء وأصغرها فكأنه لا يدخلون] حتى يُوجدَ هذا المستَحِيلُ، ومثله في المعنى قول الشاعر: [الوافر]
٢٤٦٥ - إذا شَابَ الغُرَابُ أتَيْتُ أهْلِي وَصَارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ
وقر ابن عبَّاسِ في رواية ابْنِ حَوْشَبٍ، ومجاهد، وابن يعمر، وأبو مجلزٍ والشعبيُّ، ومالك بن الشِّخِّير، وابن محيصنٍ، وأبُو رجاءَ، وأبو رزين، وأبان عن عاصمٍ: «الجُمَّل» بضمِّ الجيمِ وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ، والقَلْس: حبلٌ غليظ، يجمع من حبال كثيرة فيفتل، وهو حَبْلُ السَّفِينة.
وقيل: الحَبْلُ الذي يُصعد به [إلى] النّخل.
ويروى عن ابن عباس أنه قال: «إن الله أحسن تشبيهاً أن يشبه بالحبل من أن يشبه بالجَمَلِ» كأنَّهُ رأى - إن صحَّ عنه - أن المناسب لسم الإبرة شيءٌ يناسب الخيط المسلوك فيها.
وقال الكِسَائي: الرَّاوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فَشَدَّ الميم «.
وضفَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءة. قال شهابُ الدِّين:»
ولذلك هي قراءةٌ مشهورة بين النَّاس «. وروى مجاهدٌ عن ابن عباس ضمّ الجيم وفتح الميمِ خفيفة، وهي قراءة ابن جبير، وقتادة، وسالم الأفطس.
113
وقرأ ابْنُ عبَّاسِ أيضاً في رواية عطاء:» الجُمُل «بضم الجيم والميم مخففة، وبها قرأ الضحاكُ الجحدري.
وقرأ عِكْرِمة، وابن جبير بضمِّ الجيم، وسكون الميم.
[وقرأ المتوكل، وأبُو الجوزاء بالفتح والسُّكون، وكلُّها لغات في القَلْس المذكور.
وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية فقال:»
زَوْج النَّاقَةِ «، كأنه فهم ما أراد السّائل واستغباه].
قوله: ﴿فِي سَمِّ الخياط﴾ متعلق ب»
يلج «، و» سمّ الخِيَاطِ «ثقب الإبرة، وهو الخُرْتُ، وسينه مثلثة، وكلّ ثُقب ضيق فهو سَمٌّ، وكلُّ ثقب في البدن؛ وقيل: كلُّ ثُقْبٍ في أنف أو أذن فهو سَمٌّ وجمعه سموم.
قال الفَرَزْدَقُ: [الطويل]
٢٤٦٦ - فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا وقُلْتُ لَهُ لا تَخْشَ شَيْئاً وَرَائِيَا
والسُّمُّ: القاتل، وسمي بذلك للطفه وتأثيره في مسامّ البدنِ حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أُريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن، وقد سمَّه إذا أدخله فيه، ومنه «السَّمَّة»
للخاصة الذين يدخلون بَوَاطِنَ الأمور ومَسَامَّها، ولذلك يقال لهم: الدّخلُل. والسموم الريح الحادة؛ لأنَّها تؤثر تأثير السّم القاتل. والخياط والمخيط الآلة التي خاطُ بها فِعال ومِفْعَل، كإزار ومئزر، ولحافٍ ومِلْحَفٍ، وقناعٍ ومِقْنَعٍ.
وقرأ عبد الله، وقتادة، وأبُو رزين، وطلحةُ «سُمِّ» بضمِّ السِّين، وأبو عمران الجوني، وأبُو نهيكٍ، والأصمعيُّ عن نافع «سِمّ» بالكسر، وقد تقدَّم أنَّها لغات.
وقرأ عَبْدُ الله، وأبُو رزين، وأبو مجلزٍ: «المِخْيَط» بكسر الميم وسكون الخاء، وفتح الياء.
وطلحةُ بفتح الميم، وهذه مخالفة للسَّوادِ.
قوله: «وَكَذِلِكَ» أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين، فالكاف نعت لمصدر محذوف.
114
قوله: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ هذه الجملة محتملة للحاليّة والاستئناف، ويجوزُ حينئذ
114
في «مهاد» أن تكون فاعلاً ب «لهم» فتكون الحال من قبيل المفرات، وأن تكون متبدأ، فتكون من قبيل الجمل.
و «مِنْ جَهَنَّمَ» حال من «مِهَاد» ؛ لأنَّهُ لو تأخر عنه لكان صفة، أو متعلق بما تعلَّق به الجار قبله.
و «جَهَنَّم» لا تنصرف لاجتماع التَّأنيث والتعريف.
وقيل: اشتقاقه من الجهومة، وهي الغلظ يقال: رجل جهم الوجْهِ أي غَلِيظه، فسميت بهذا الغلظ أمرها في العذاب.
و «المِهَاد» جمع: مَهْدٍ، وهو الفراشُ.
قال الأزهريُّ: «المَهْدُ في اللُّغة الفرش، يقال للفراش: مِهَادٌ».
قوله: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ غواشٍ: جمع غاشية، وللنُّحاة في الجمع الذي على فواعل إذا كان منقوصاً بقياس خلاف: هل هو مُنْصَرِفٌ؟.
فبعضهم قال: هو مَنْصرفٌ؛ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع، فصار وزنُهُ وَزْنَ جَنَاحٍ وَقَذالٍ فانصرف.
وقال الجَمْهُورُ: هو ممنوعٌ من الصَّرف، والتنوين تنوين عوضٍ.
واختلف في المعوِّض عَنْهُ ماذا؟ فالجمهور على أنَّهُ عوض من الياء المَحْذُوفَةِ.
وذهب المُبردِ إلى أنَّهُ عوض من حركتها، والكسرُ ليس كسر إعراب، وهكذا: حَوَارٍ وموالٍ وبعضهم يجرُّه بالفتحة، قال: [الطويل]
115
وقال آخر: [الرجز]
٢٤٦٧ - وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلىً هَجَوْتُهُ ولَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا
٢٤٦٨ - قَدْ عَجِبَتْ مِنِّي وَمِنْ يُعَيْلِيَا لمَّا رَأتْنِي خَلَقاً مُقْلُوْلِيَا
وهذا الحكمُ ليس مختصاً بصيغة مفاعل، بل كلُّ غير منصرف إذا كان منقوصاً، فحكمهُ ما تقدَّم نحو: يُعيْل تصغير يَعْلَى ويَرْم اسم رجل، وعيله قوله: «وَمِنْ يَعَيْلِيَا» وبعض العرب يعرب «غواش» ونحوه بالحركاتِ على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة، فيقول: هؤلاء جوارٍ.
وقرئ: «ومِنْ فَوْقِهِم غَوَاشٌ} برفع الشين، وهي كقراءة عبد الله: ﴿وَلَهُ الجوار﴾ [الرحمن: ٢٤] برفع الراء.
فإن قيل:»
غَوَاش «على وزن فواعل؛ فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين؟.
فالجوابُ: على مذهب الخَلِيلِ وسيبويهِ أنَّ هذا جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إيله، فزاده ذلك ثقلاً، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة، فلمَّا اجتمعت فيه هذه الأشياء خفَّفوه بحذف الياء، فلَّما حذفوا الياء نقص عن مثال»
فوَاعل «فصار غواش بوزن جناح، فدخلهُ التَّنوين لنقصانه عن هذا المثال.
قال المفسِّرون: معنى الآية: الإخبارُ عن إحاطة النَّار بهم من كل جانب قوله:»
وكذلِكَ «تقدم مثله [الأعراف: ٤٠].
وقوله:»
والظَّالمِيْنَ «يحتمل أن يكون من باب وقوع الظَّاهر موقع المضمر، والمراد ب» الظَّالمِينَ «المجرمون، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، وأنَّهُم يُجزون كجزائهم.
116
لمَّا ذكر الوعيد أتْبَعَهُ بذكر الوعد، فقوله: «والَّذينَ آمَنُوا» مبتدأ، وفي خبره وجهان:
أحدهما: أنه الجملة من قوله: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً﴾، وعلى هذا فلا بدّ من عائد وهو مقدَّرٌ، وتقديرُهُ، نفساً منهم.
والثاني: هو الجملة من قوله: «أولَئِكَ أصْحَابُ»، وتكون هذه الجملة المنفيَّة
116
معترضة بينهما، وهذا الوجه أعرب، وإنَّمَا حسن وقوع هذا الاعتراض بين المبتدأ والخبر؛ لأنَّهُ من جنس هذا الكلام؛ لأنَّهُ لمَّا ذكر عملهم الصالح ذكر أنَّ ذلك العمل في وسعهم، وغير خارج عن قدرتهم، وفيه تَنْبِيهٌ لكفار على أنَّ الجنَّة مع عظم محلِّها يوصل إليها بالعَمَل السَّهْلِ من غير تحمل الصعب.

فصل في معنى قوله: «وسعها»


الوسعُ: ما يقدر الإنسان عليه في حال السِّعة والسُّهولة لا في حال الضّيق والشِّدَّة، ويدلُّ عليه قول معاذِ بْنِ جبلٍ في هذه الآية: إلا يسرها لا عسرها.
وأمَّا أقصى الطَّاقة فلا يسمَّى وسعاً، وغلط من قال: إن الوسع بذلك المجهود.
117
قوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم﴾ فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]، والنزع: قلع الشَّيء عن مكانه.
وقوله: «مِنْ غِلٍّ» يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان جنس «مَا» ويجوز أن تكون حالاً متعلّقاً بمحذوف أي: كائناً من غلٍّ.
الغل: الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض، وكذلك الغُلُولُ.
قال أهل اللُّغَةِ: وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي: يدخلُ، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى لاذُّنُوبِ الدقيقة.
ويقال: انغل في الشَّيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال، والغُلُولُ: الأخذ في خُفْيَةٍ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة.

فصل في تأويل الآية.


في الآية تأويلان:
أحدهما: أزَلْنَا الأحقادَ التي كانت لبعضهم في دار الدُّنْيَا، ومعنى نزع الغل: تصفية الطِّباع، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشَّيطانَ لمَّا كان في العذابَ لم يتفرغ لإلقاء الوساوِس في القُلُوبِ، وإلى هذا المعنى أشار عليُّ بْنُ أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذ قال: «إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير من الذين
117
قال الله - جل ذكره - ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ».
والتأويل الثاني: أنَّ المراد منه أن درجات أهل الجنَّة متفاوتة بحسب الكمال والنُّقصان، فاللَّهُ - تعالى - أزَالَ الحسدَ عن قلوبهم حتّى إنَّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسدُ صاحب الدرجة الكاملة.
قال صاحبُ هذا التأويل: وهذا أوَْى من الوجه الأوَّلِ، حتَّى يكون في مقابلة ما ذكره الله - تعالى - من تبرُّؤ بعض أهل النَّار من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ليعلم أنَّ حال أهل الجنَّة في هذا المعنى مفارقة لحالِ أهْلِ النَّارِ، فإن قيل: كيف يُعقل أنْ يُشَاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية، ويرى نفسه مَحْرُوماً عنها، عاجزاً عن تحصيلها، ثم إنَّهُ لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها؟ فإنْ عُقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يغيرهم الله - تعالى -، ولا يخلق يهم شهوة الأكْل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها؟.
فالجوابُ: أنَّ الكلّ ممكن، والله تعالى قادر عليه، إلاَّ أنَّهُ تعالى وعد بإزلة الحِقْدِ والحسد عن القلوب، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النُّفوس.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾.
في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنَّها حال من الضَّميرِ في «صُدُورِهِم»، قاله أبُو البقاء وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة.
والثاني: أنَّها حال أيضاً، والعامل فيها «نَزَعْنَا»، قاله الحوفيُّ.
الثالث: أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم.
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً.
وأما الثاني فلأن ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ ليس من صفة فاعل «نَزَعْنَا»، ولا مفعوله وهما «نَا» و «مَا» فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهذا واضح.
قال شهابُ الدِّين: «قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف، وإنْ كانت الحال ليست منه؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك».
118

فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة.


قال السُّدِّيُّ في هذه الآية: إنَّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شَجَرَةً في أصل ساقها عينان فَيَشْرَبُوا من أحديهما، فينزعُ ما في صدورهم من غلٍّ، وهو الشَّراب الطّهور، ويغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نَضْرَة النَّعيم فلم يشقوا، ولم يسجنوا بَعْدَها أبداً.
﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا﴾ أي: إلى هذا يعني طريق الجنة.
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «معناه هدانا لعمل هذا ثوابه».
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ قرأ الجماعة: «ومَا كُنَّا» بواو، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير «الشَّامِ» وفيها وجهان:
أظهرهما: أنَّها «واو» الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة.
والثاني: أنَّها حاليّة.
وقرأ ابن عامر «ما كنا» بدون واو، [و] الجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشَّاميين كذا، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.
ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولاا أَنْ هَدَانَا الله﴾ جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله: «هَدَانَا لِهَذَا»، فلما كان أحدهما غير الآخر؛ وجب حذف الحرف العاطف.
قوله: ﴿لولاا أَنْ هَدَانَا الله﴾ «أن» وما في جيزها في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف على ما تقرَّر، وجواب «لَوْلاَ» مدلولٌ عليه بقوله: «ومَا كُنَّا» تقديره: لولا هدايته لنا موجودة لشقينا، أو ما كنا مهتدين.

فصل في الدلالة في الآية


دلّت هذه الآية على أنَّ المهتدِي من هداه الله، وإنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ. ثم نقول: مذهب المعتزلة أنّ كلَّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقِّ جميع الكُفَّارِ والفسَّاقِ، وإنَّما حصل الامتيازُ بين المؤمن والكافر، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه، فكان يجب عيله أنْ يحمد نفسه؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان، وهو الذي أوصل نَفْسَهُ إلى درجات الجنان، وخلَّصها من
119
دركاتٍ النِّيرانِ، فلمَّا لم يحمد نفسه ألْبَتَّةَ إنَّما حمد الله - تعالى - فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى.
قوله: «لَقَدْ جَاءَتْ» جواب قسم مقدَّر، و «بالحَقِّ» يجوز أن تكون الياء للتعدية، ف «بالحق» مفعول معنى، ويجوز أن تكون للحال [أي:] جَاءُوا ملتبسين بالحقِّ، وهذا من قول أهلِّ الجنَّةِ حين رَأوْا ما وعدهم الرُّسُلُ عياناً، «ونُودُوا» هذا النداء يحتمل أن يكون من الله - تعالى -، وأن يكون من الملائكة.
قوله: «لَقَدْ جَاءَتْ» يجوز أنْ تكونَ المفسِّرة، فسَّرت النداء - وهو الظَّاهِرُ - بما بعدها، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفاً، فهي وما بعدها في محلّ نصب أوْ جرِّ؛ لأنَّ الأصل: «بِأنْ تِلْكُمُ»، وأُشير إليها بإشارة البعيد؛ لأنَّهُم وُعِدُوا في الدُّنْيَا.
وعبارة بعضهم «هي إشَارَةٌ لغائب» مسامحة؛ لأنَّ الإشارة لا تكونُ إلا لحاضِرٍ، ولكنَّ العلماء تُطلق على البعيد غائاً مجازاً.
قوله: «أوْرِثْتُمُوها» يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢].
ويجوز أن تكُون خبراً عن «تِلْكُم»، ويجوز أن تكون «الجنّة» بدلاً أو عطف بيان و «أرِثْتُمُوها» الخبر.
ومنع أبُو البقاءِ أن تكون حالاً من تلكم للفصل بالخبر، ولأنَّ المبتدأ لا يعمل في الحال.
وأدغم أبُوا عَمْرو والأخوان الثّاء في التاء، وأظهرها الباقون.
و ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ تقدَّم [المائدة: ١٠٥].

فصل في معنى «أورثتموها»


قال أهلُ المَعَانِي: معناه صارت إليكم كما يصيرُ الميراث إلى أهله، والإرث قد يستعمل في اللُّغَةِ ولا يرادُ به زوال الملك عن الميِّت إلى الحي، كما يقال: هذا الفعل يورثك الشَّرف ويورثك العار أي: يصيرك إليه.
ومنهم من يقول: إنَّهُم أعطوا تلك المنازلَ من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث.
وقيل: إنَّ أهْلَ الجنَّة يرثون منازل أهل النَّارِ.
قال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنَّار منزل،
120
فإذا دخل أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهل النَّارِ النَّارَ، رفعت الجنة لأهل النَّار فينظرون إلى منازلهم فيها فيقال لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعَةِ الله - تعالى - ثمَّ يقال: يا أهْلَ الجنة، رثوهم بما كنتم تعملون، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم».
فإن قيل: هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ يدخل الجنَّة بعمله، وقوله - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجنة بِعَمِلِهِ، وإنَّمَا يَدْخُلُونَهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ»، وبينهما تناقض.
فالجوابُ: أنَّ العمل لا يوجب دخولَ الجنَّةِ لِذَاتِهِ، وإنَّما يوجبه لأن الله بفضله جعله علامة عليه، وأيضاً لمَّا كان الموفق للعمل الصَّالح هو الله تعالى - كان دخول الجنَّة في الحقيقة ليس إلاّ بفضل الله - تعالى -.
121
لمَّا شَرَحَ وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان أتبعه بذكر المُنَاظَراتِ التي تَدُورُ بين الفريقين في هذه الآية.
قوله: ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا﴾ «أن» يحتمل أن تكون تفسيرية للنِّدَاءِ، وأن تكون مخففة من الثَّقِيلَةِ، واسمها ضمير الأمر والشَّأنِ، والجملة بعدها خبرها، وإذَا كان الفعل مُتَصَرّفاً غير دعاء، فالأجود الفصل ب «قَدْ» كهذه الآية أو بغيرها. وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة.
قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ﴿مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا﴾.
قلت: حُذف ذلك تخفيفاً لدلالة «وَعَدَنَا» عليه.
ولقائل أن يقول: أطْلِقَ ليتناول كلَّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب، وسائر أحوال القيامة، لأنَّهُم كانوا مكذِّبين بذلك أجمع، ولأنَّ الموعود كله ممَّا ساءهم، وما نعيم أهل الجنَّة إلاَّ عذاب لهم فأطلق لذلك.
قال شِهَابُ الدِّين: قوله: «ولقائل... إلى آخره.
هذا الجواب لا يطابق سؤاله؛ لأنَّ المدعي حذف المفعول الأوَّل، وهو ضمير المخاطبين.
والجوابُ وقع بالمفعول الثَّاني الذي هو الحِسَابُ والعقاب، وسائر الأحوال، [فهذا] إنَّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني، لا المفعول الأول»
.
121
وأجاب ابْنُ الخطيبِ عن السُّؤالِ بأن قوله: ﴿مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا﴾ يدلُّ على أنَّهُ تعالى خاطبهم بهذا الوَعْدِ وكونهم مخاطبين من قبل الله - تعالى - بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين.
أمّا الكَافِرُ فليس أهلاً لأن يخاطبه الله - تعالى - فلهذا السّبب لم يذكر الله تعالى أنَّهُ خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر الله - تعالى - أنَّهُ بيَّن هذا الحكم.
و «نعم» حرف جواب ك «أجل» و «إي» و «جير» و «بلى»، ونقيضتها «لا».
و «نَعَمْ» تكون لتصديق الإخبار، أو إعلام استخبار، أو وَعْدِ طالب، وقد يُجَابُ بها النَّفي المقرون باستفهام وهو قليل جدّاً كقول جحْدَرٍ: [الوافر]
٢٤٦٩ - أَليْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروا وإيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
نَعَمْ، وتَرَى الهِلالَ كَمَا أرَاهُ ويَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي
فأجاب قوله: «ألَيْسَ» ب «نعم»، وكان من حقه أن يقول: بلى، ولذلك يُرْوَى عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] : لو قالوا: نعم لكفروا، وفيه بحثٌ يأتي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تعالى - قريباً.
وقرأ الكسائِيُّ والأعمشُ ويحيى بن وثَّابٍ بكسر عينها، وهي لغة «كنَانَة»، وطعن أبُو حَاتِمِ عليها وقال: «ليس الكسر بمعروف».
واحتج الكِسَائِيُّ لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنَّه سأل قوماً فقالوا: نعم بالفتح، فقال: «أمَّا النَّعَم فالإبل فقولوا: نَعِم» أي بالكَسْرِ.
قال أبو عبيد: «ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً».
قال شهاب الدين: وهذا طَعْنٌ في المُتَواتِر فلا يُقبل، وتبدل عينها حاءً، وهي لغة فاشية، كما تبدل حاء «حتى» عيناً.
قوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾.
التأذين في اللُّغَةِ النداء والتّصويت الإعلام، والأذان للصّلاة إعلام بها وبوقتها.
وقالوا في «أذَن مؤذّن» : نادى مناد أسمع الفريقين.
قال ابن عباس: «وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحبُ الصُّورِ».
قوله: «بينهم» يجوز أن يكون منصوباً ب «أذَّن» أو ب «مؤذن» فعلى الأول التقدير:
122
أنَّ المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم أي في وسطهم.
وعلى الثَّاني التَّقديرُ: أنَّ مؤذِّناً من بينهم أذَّن بذلك الأذان، والأول أوْلَى.
وأن يكون مُتَعَلِّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل «مؤذّن» قال مكيّ - عند إجازته هذا الوَجْهِ -: «ولكن لا يعمل في» أنْ «مؤذِّن» إذ قد نعته «يعني أنَّ قوله: ﴿أَن لَّعْنَةُ الله﴾ لا يجوز أنْ يكون معمولاً ل» مؤذّن «؛ لأنَّهُ موصوف واسم الفاعل متى وصف لم يعمل.
قال شهابُ الدِّين:»
وهذا يوهم أنَّا إذا لم نجعل «بَيْنَهُمْ» نعتاً ل «مؤذِّن» جاز أن يعمل في «أنْ»، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّكَ لو قلت: ضرب ضَارِبٌ [زيداً تنصب زيداً ب «ضرب» لا ب «ضارب» ].
لكني قد رأيت الواحِدِي أجاز ما أجاز مكيّ من كون «مؤذّن» عاملاً في «أن»، وإذا وصفته امتنع ذلك، وفيه ما تقدّم وهو حسن.
قوله: ﴿أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ «أنْ» يجوز أن تكون المفسِّرة، وأن تكون المخففة، والجملة الاسميَّة بعدها الخبر، فلا حاجة هنا لفاصل.
وقرأ الأأخوان، وابن عامر، والبزِّي: «أنَّ» بفتح الهمزة وتشديد النون، ونصب «اللَّعنة» على أنَّهَا اسمها، و «على الظالمين» خبرها، وكذلك في [النور ٧] ﴿أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ﴾ خفَّف «أنْ» ورفع اللّعنة نافع وحده، والباقون بالتشديد والنَّصب.
[قال الواحِديُّ: مَنْ شدّد فهو الأصلُ، ومن خفَّف فهو مخففة من التشديد على إرادة إضمار القصّة والحديث تقديره: أنه لعنة الله، ومثله قوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ﴾ [يونس: ١٠] التقدير: أنَّهُ، ولا يخفف «أنْ» هذه إلا وتكون بعد إضمار الحديث والشأن].
وقرأ عصمةُ عن الأعمشِ: «إنَّ» بالكسر والتشديد، وذلك: إمَّا على إضمار القول عند البصريين، وإمَّا على إجراء النِّداء مُجْرى القول عند الكوفِيِّين.
123
قوله: «الَّذينَ» يجوز أن يكون مرفوع المحل ومنصوبه على القطع فيهما، ومجروره على النَّعت، أو البدل، أو عطف البيانِ.
123
ومفعول «يَصُّدُّونَ» محذوف أي: يَصُدُّون النَّاسَ، ويجوز ألاّ يُقدر له مفعول.
والمعنى: الَّذين من شأنهم الصَّدُّ كقولهم: «هو يعطي ويمنع».
ومعنى «يَصُدُّونَ» أي: يمنعون النَّاس من قبول الدين الحقِّ، إمَّا بالقهر، وإمّا بسائر الحِيَلِ.
ويجوز أن يكون «يَصُدُّونَ» بمعنى يعرضون من: صدَّ صُدُوداً، فيكون لازماً.
قوله: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي بإلقاء الشكوك والشُّبُهَات في دلائل الدِّين الحق، ثم قال: و ﴿بالآخرة كَافِرُونَ﴾.
وهذا يدلُّ على فساد ما قاله القَاضِي من أنَّ ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر.
والعِوج بكسر العين في الدّين والأمر وكلّ ما لم يكن قائماً. وبالفتح في كلِّ ما كان قائماً كالحائظ والرُّمح ونحوه.
124
أي بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار، وهذا هو الظَّاهر كقوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ [الحديد: ١٣].
وقيل: بين الجنَّة والنَّار، وبه بدأ الزَّمخشريُّ.
فإن قيل: وأي حاجة إلى ضرب هذا السُّورِ بين الجنَّة والنَّار، وقد ثبت أن الجنَّة. فوق والنَّار في أسفل السَّافِلِينَ؟.
فالجوابُ: بُعد إحداهما عن الأخر لا يمنعُ أن يحصل بينهما سور وحجاب.
قوله: «وَعَلى الأعْرَافِ» : قال الزَّمَخْشَرِيُّ: أي: وعلى أعراف الحجاب.
قال القرطبيُّ: أعراف السّور وهي شُرَفُه، ومنه عُرْفُ الفَرَسِ وعرف الدِّيكِ، كأَنَّهُ جعل «أل» عوضاً من الإضافة وهو مذهب كوفي، وتقدَّم تحقيقه.
وجعل بعضهم نفس الأعْرَافِ هي نفس الحِجابِ المتقدم ذكره، عبر عنه تارةً بالحجاب، وتارةً بالأعراف.
قال الوَاحِديُّ - ولم يذكر غيره -: «ولذلك عُرِّفَت الأعراف؛ لأنَّهُ عني بها الحِجَاب» قال ابن عباس.
والأعراف: جمع عُرْف بضمِّ العَيْنِ، وهو كلُّ مرتفع من أرض وغيرها استعارةً من عُرْف الدّيك، وعُرْف الفرس.
124
قال يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سألت الكِسَائِيَّ عن واحد الأعراف فسكت، فقلت: حدثتنا امرأتك عن جَابِرٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن عباس قال: «الأعراف سُورٌ له عرف مثل عرف الدِّيك» فقال: نعم، وإن واحده عُرْفُ بعيرٍ، وإن جماعته أعْرَاف، يا غُلام هات القرطاس كأنَّهُ عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة، فإنَّهَا مجهولة غالباً.
قال أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
٢٤٧٠ - وَآخَرُونَ عَلَى الأعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا فِي جّنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ والخَضِرُ
ومثله أيضاً قوله: [الرجز]
٢٤٧١ - كُلُّ كِنَازِ لَحْمِهِ نِيَافِ كالجَبَلِ المُوفِي عَلَى الأعْرَافِ
وقال الشَّمَّاخ: [الطويل]
٢٤٧٢ - فَظَلَّتْ بأعْرَافٍ تَعَادَى كأنَّهَا رَمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ
وقال الزَّجَّاجُ، والحسنُ في أحد قوليه: إن قوله: «وَعَلى الأعْرَافِ» وعلى معرفة أهْل الجَنَّة والنَّار، كَتَبَةٌ رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنَّار بسيماهم، للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فَخِذِهِ ثم قال: هم قومٌ جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا.
قال المهدويُّ: «إنَّهم عدول القِيَامَةِ الذين يَشْهَدُونَ على النَّاس بأعمالهم، وهم في كُلِّ أمَّةٍ»، واختار هذا القول النَّحَّاسُ وقال: «هو من أحسن ما قيل فيه، فهم على السور بين الجنَّةِ والنَّارِ».
فأمَّا القائلون بالقول الأوَّلِ فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين:
فقيل: هم الأشْرَافُ من أهل الطَّاعَةِ، وقال أبو مجلز: «هم ملائكة يعرفون أهل الجنَّة وأهل النَّار»، فقيل له: يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ﴾، وتزعم أنَّهُمْ ملائكة، فقال: «الملائكة ذكور لا إناث».
وقيل: هم الأنْبِيَاءُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - أجلسهم الله على أعلى ذلك السُّور إظهاراً لشرفهم وعلوّ مرتبتهم.
وقيل: هم الشُّهَدَاءُ.
125
فإن قيل: هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف: «لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها»، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء.
فالجوابُ: قالوا: لا يبعد أن يقال: إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة، وأحوال أهل النّار في النَّار، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ. فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم.
وأمّا قوله: «وهمْ يَطْمَعُونَ» والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةٌ عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ [الشعراء: ٨٢].
وذلك الطمع طمع يقين، وقال الشَّاعرُ: [المتقارب]
٢٤٧٣ - وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَه قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي
القول الثاني: أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة] من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود، واختيار الفرّاءِ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول، واحتجُّوا على فساده من وجهين:
الأوَّل: قالوا: إن قوله تعالى: ﴿ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣] يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ، ثم إنَّهثم يدخلون الجنة بمحض التفضل، لا بسبب الاستحقاقِ.
الثاني: أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف].
والجواب عن الأوَّل: أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله: ﴿ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا﴾
126
خطاب مع أقوام مُعَيَّنِينَ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنَّة كذلك.
والجوابُ عَنِ الثَّانِي: أنَّا لا نسلّم أنَّهُ تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التَّخصيص بمزيد التَّشْرِيفِ وإنَّمَا أجْلَسَهُم عَلَيْهَا؛ لأنَّها كالمرتَبَةِ المُتوسِّطَةِ بين الجنَّةِ والنَّارِ وهل النزاع إلاّ في ذلك؟!
الوجه الثاني: أنَّهُم أقوامٌ خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدُوا بحبسوا بين الجَنَّةِ والنَّارِ، وهذا داخل في القول الذي قبله؛ لأنَّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد.
الثالث: قال عَبْدُ الله بْنُ الحَارثِ: «إنَّهُم مَسَاكِينُ أهْلِ الجَنَّةِ».
الرابع: قيل: إنَّهُمُ الفُسَّاقُ من أهل الصَّلاة يعفو اللَّه عنهم ويسكنهم في الأعراف.
وأمّا القَوْلُ الثَّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنَّار، فهذا قول غير بعيد؛ لأنَّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال، يشرفون منه على أهل الجَنَّةِ وأهل النَّارِ.
قوله: «يَعْرِفُونَ» في محلِّ رفع نعتاً ل «رِجَال»، و «كلاًّ» أي: كل فريق من أصْحَابِ الجنَّةِ، وأصحاب النَّارِ.
قوله: «بِسِيمَاهُمْ» قال ابْنُ عبَّاس: «إنَّ سيما الرجل المسلم من أهل الجَنَّة بياض وجهه. قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] [وكون وجوههم وجوههم]. وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، وكون عيونهم زرقاً».
وقيل: إنَّ أصحاب الأعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ المُؤمنينَ في الدنيا بظهور علاماتِ الإيمانِ والطَّاعة عليهم، ويعرفون الكافرين في الدُّنْيَا أيضاً بظهور علامات الكُفْرِ والفِسْقِ عليهم، فإذا شَاهَدُوا أولئك الأقوام في مَحْفَلِ القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدُّنْيَا، وهذا هو المختار؛ لأنَّهُم لمَّا شاهدوا أهل الجَنَّةِ [في الجنة] وأهل النَّار في النَّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجَنَّة بهذا العلامات؟ لأنَّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ، وذلك باطل.
والآية تدلُّ على أنَّ أصحاب الأعْرَافِ مختصُّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا
127
الوَجْهِ لم يبقَ لهذا الاختصاص فائدة؛ لأنَّهَا أمور محسوسة، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص.
قوله: ﴿وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾.
والمعنى: أنَّهُم إذا نظروا إلى أهل الجنَّةِ سلّموا على أهلها والضمير في «نَادُوا» وما بعده لرجال.
وقوله: ﴿أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ كقوله: ﴿أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [الأعراف: ٤٤] إلا أنَّهُ لم يقرأ هنا إلاّ ب «أن» الخفيفة فقط.

فصل في معنى السلام في الآية


والمعنى: يَقُولُون لهم: سلام عليكم، وقيل: سلمتم من العقوبة، وقوله: «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنَّهُمْ يدخلوها، وذلك معروف في اللُّغَةِ أن يكون طمع بمعنى علم، ذكره النَّحَّاسُ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنَّ المراد أصحاب الأعراف.
قال القطربيُّ: قوله «لم يدخلوها» في هذه الجملة أوجه:
أحدها: أنَّها حال من فاعل «نَادوا» أي: نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنَّة.
وقوله: «وهُمْ يَطْمَعُون» يحتمل أن يكون حالاً من فاعل «يَدْخُلُوهَا»، ثم لك اعتباران بعد ذَلِكَ.
الأول: أن يكون المَعْنَى لم يَدخُلُوها طامِعِينَ في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها.
والثاني: المعنى لم يدخلوها حَالَ كونهم طامعين، أي: لم يدخلوها بعد، وهم في وقت عَدَمِ الدُّخُولِ طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنفاً خبر عنهم بأنَّهُم طامعون في الدُّخُول.
الوجه الثاني: أن تكون حالاً من مفعول «نَادوا» أي: نادوهم حال كونهم غير داخلين، وقوله: «وَهُمْ يَطْمَعُون» على ما تقدم آنفاً.
والوجه الثالث: أن تكون في محل رفع صفة ل «رِجَالٍ»، قاله الزمخشريُّ وفيه ضعف من حيث إنَّهُ فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: «ونَادَوْا»، وليست جملة اعتراض.
128
والوجه الرابع: أنها لا مَحلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّهَا جواب سائل سأل عن أصحاب الأعْرَافِ، فقال: ما صنع بهم؟ فقالك لم يدخلوها، وهم يَطْمَعُون في دخولها.
وقال مكي كلاماً عجيباً، وهو أن قال: «إن حملت المعنى على أنَّهُمْ دخلوها كان» وهم يَطْمَعُونَ «ابتداءً وخبراً في موضع الحال من الضَّمير المرفوع في» يَدْخُلُوهَا «، معناه: أنَّهم يَئِسُوا من الدُّخُول، فلم يكن لهم طَمَعٌ في الدُّخول، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك، فإن حملت معناه أنَّهُم لم يدخلوا بعد، ولكنهم يطمعون في الدُّخُول برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً».
وقال بعضهم: جملة قوله: «لَمْ يَدْخُلُوهَا» من كلام أصحاب الجنَّةِ، وجملة قوله: «وهُمْ يَطْمَعُونَ» من كلام الملائكة.
قال عطاء ابن عباس: «إنَّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسَّلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب اللجنَّة للخَزنَةِ: ما لأصحابنا على أعراف الجنَّة لم يدخلوها؟ فتقولُ لهم الملائكة جواباً لهم وهم يَطْمَعُون» وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن.

فصل في معنى الآية


قال ابن الخطيب: معنى الآية أنَّهُ تعالى أخبر أنَّ أهل الأعراف، لم يدخلوا الجنة، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها.
ثم إن قلنا: إنَّ أصحابَ الأعْرَافِ هم أِراف أهل الجَّنَّةِ، فالمعنى: أنه تعالى إنَّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجَنَّة ليطلعوا على أهل الجَنَّةِ والنَّار، ثم إنَّهُ تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: «إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَراهُمْ مِنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الكوكبَ الدريَّ في أفقِ السَّمَاءِ، وإنَّ أبَا بكر وعُمَرَ مِنْهُمْ»
وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامةِ في الموقف يجلس الله أهل الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة، فإذا أدخل أهل الجنَّة الجنة، وأهل النار النَّار نقلهم إلى الدرجات العالية، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وإن قلنا: أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في
129
الدَّرَجَّةِ النازلة من أهل النجاة، فالمعنى أنَّهُ تعالى يجلسهم في الأعرافِ، وهم يطمعون في فضل اللَّه وإحسانه أنْ يَنْقلَهُم من تلك المواضع إلى الجنة
قال الحَسَنُ: «الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون».
130
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ﴾ معناه: كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم.
وقرأ الأعمش: «وإذَا قلبت» وهي مخالفة للسواد كقراءة «لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم.
أو وهم طامعون على أن هذه أقرب.
قوله:»
تِلْقَاءَ «منصوب على ظرف المكان.
قال مكيٌّ:»
وجمعه تلاقِيّ «.
قال شهابُ الدّين:»
لأن «تِلْقَاء» وزنه «تِفْعَال» ك «تمثال» وتمثال وبابه يجمع على «تَفَاعِيلُ»، فالتقت الياء الزَّائدةُ مع الياء التي هي لام الكلمة، فأدغمت فصارت «تَلاَقِيّ».
والتلقاء في الأصل، مصدر ثم جُعِلَ دالاًّ على المكان أي: على جهة اللِّقَاءِ والمقابلة.
قال الوَاحِدِيُّ: «التّلقاء جهة اللِّقَاءِ، وهي في الأصل مصدر استعمل ظَرْفاً»، ونقل المصادر على «تِفعال» بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان: التِّلقاء، والمبرد عن البصريّين أنَّهُمَا قالا: لم يأت من المصادر على «تِفعال» بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان: التِّلقاء، والتِّبيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو: التَّرْداد والتكرار، ومن الأسماء مكسور نحو: تِمثال وتِمْساح وتِقْصار.
وفي قوله: «صُرِفَتْ أبْصَارُهُم» فائدة جليلة، وهو أنَّهُم لم يَلْتَفِتُوا إلى جهة النَّار [إلا] مجبورين على ذلك لا باختيارهم؛ لأن مكان الشرِّ محذور، وقد تقدَّم خلاف القُرَّاء في نحو: «تِلْقَاءَ أصْحَابِ» بالنِّسبة إلى إسقاط إحْدَى الهمزتين، أو إثباتها، أو تسهيلها في أوائل البقرة [٦، ١٣].
و «قالوا» هو جواب «إذا» والعامل فيها.
لمَّا بين بقوله: وإذا صرت أبصارهم تلقاء أصحاب النَّار «أتبعه أيضاً بأن أصحاب
130
الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار، فاستغنى عن ذكر النار؛ لأنَّ الكلام المذكور لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: ﴿مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾.
قوله:» مَا أغْنَى «يجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والتقريع، وهو الظاهر، ويجوزُ أن تكون نافية.
وقوله:»
وما كنتم «» ما «مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي: ما أغنى عنكم جمعكم المال والاجتماع والكثرة وكونكم مستكبرين عن قَبُولِ الحقِّ، أو استكباركم على الناس.
وقرئ»
تَسْتَكْثِرُون «بثاء مُثلثة من الكثرة.
131
يجوز في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب بالقَوْلِ المتقدّم أي: قالوا: ما أغنى، وقالوا: أهؤلاء الذين أقسمتم زيادة تبكيت.
والثاني: أن تكون جملة مستقلّة غير داخلة في حيِّزِ القول، والمشار إليهم على القَوْلِ الأوَّلِ هم أهل الجَنَّة، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف، والمقول لهم هم أهْلُ النَّارِ.
[والمعنى: وقال أهل الأعَْافِ لأهل النَّارِ] : أهؤلاء الذين في الجنَّةِ اليوم هم الذين كنتم تحلفون أنَّهُم لا يدخلون الجنة برحمة الله وفضله، ادخلوا الجنَّة أي: قالوا لهم، أو قيل لهم: ادخلوا الجنة.
وأمّا على القَوْلِ الثَّاني وهو الاستئناف، فاختلف في المشار إليه، فقيل: هم أهل الأعرافِ، والقائل ذلك ملك يأمره الله بهذا القَوْلِ، والمقول له هم أهْلُ النَّارِ.
وقيل: المُشَارُ إليهم هم هل الجنَّةِ، والقائل هم الملائكة، والمقول لهم أهل النار.
وقيل: المُشَارُ غليهم هم أهل الجنَّةِ، والقائل هم الملائكة، والمقول لهم هم أهل النار.
ووقوله: «ادخُلُوا الجَنَّةَ» من قول أهل الأعراف أيضاً] أي: يرجعون فيخاطب بعضهم بعضاً، [فيقولون: ادْخُلُوا الجَنَّةَ].
قال ابن الأنْبَارِي: إن قوله: ﴿أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة] من كلام أصحاب الأعْرَافِ، وقوله: «ادخُلُوا» من كلام الله تعالى، وذلك على إضْمَارِ قول أي: فقال لهم الله: ادخلوه ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ [الشعراء: ٣٥]
131
فهذا من كلام الملأ، «فماذا تأمرون» ؟ فهذا من فرعون أي: فقال: فَمَاذَا تأمرون؟ أي فيقولون: ادخلوا الجنة.
وقرأ الحسن، وابن سيرين: «أَدْخِلُوا الجَنَّةَ» أمراً من «أدخل» وفيها تأويلان:
أحدهما: أنَّ المأمور بالإدخال الملائكة، أي: أدخلوا يا ملائكة هؤلاء، ثمَّ خاطب البَشَر بعد خطاب الملائكة، فقال: لا خَوفٌ عليكم، وتكون الجملة من قوله: «لاَ خَوْفٌ» لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها.
والثاني: أنَّ المأمور بذلك هم أهل الأعراف، والتقدير: أدخلوا أنفسكم، فحذف المفعول في الوجهين.
ومثل هذه القراءة هنا قوله تعالى: ﴿أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ [غافر: ٤٦] وستأتي إن شاء الله تعالى، إلاَّ أنَّ المفعول هناك مُصَرَّحٌ به في إحدى القراءتين.
والجملة من قوله: «لا خَوْفٌ» على هذا في محلّ نصب على الحال أي: أدخلوا أنفسكم غير خائفين.
وقرأ عكرمة «دَخَلوا» ماضياً مبنيّاً للفاعل.
وطلحة وابن وثاب والنَّخَعِيُّ: «أدْخِلوا» مِنْ أدْخِل ماضياً مبنياً للمفعلو على الإخبار، وعلى هَاتَيْنِ، فالجملةُ المنفيَّةُ في محل نصب بقول مُقَدَّر، وذلك القول منصوب على الحَالِ، أي: مقولاً لهم: لا خوف.

فصل


قال الكَلْبِيُّ: ينادونهم وهم على السور: يا وَلِيد بن المغيرة، يا أبَا جَهْلِ بن هِشَامِ، يا فلانُ، يا فلانُ، ثم ينظرون إلى الجنَّة فيرون فيها الفقراء والضُّعفاء ممن كانوا يستهزئون، بهم مثل سلمان، وصهيب، وخباب، وبلال، وأمثالهم، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار: «أهؤلاء» - يعني هؤلاء الصغار - «الذين أقْسَمْتُم» حلفتم ﴿لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ أي: حلفتم أنَّهُم لا يدخلون الجنَّة، ثم يقال لأهل الأعراف: ﴿ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
وقيل: إنَّ أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النَّار ما قالوا، قال لهم أهل النَّارِ: إن أُدخل أولئك الجنَّة فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك، ويقسمون أنَّهم يدخلون النَّار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصّراط لأهل النار: «هؤلاءِ» - يعني
132
أصحاب الأعراف - «الَّذينَ أقْسَمْتُمْ» يا أهل النار ﴿لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: ﴿ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون﴾ فيدخلون الجنَّة.
133
قال عطاءٌ عن ابن عباس: «لما صار أصحاب الأعراف إلا الجنَّة طمع أهل النَّار في الفرجن فقالوا: يا رب، إنَّ لنا قرابات من أهل الجَنَّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة، وما هم فيه من النعيم، فعرفوهم، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فَنَادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾.
قوله:»
أنْ أفِيْضُوا «كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية، و» مِنَ المَاءِ «متعلق ب» أفيضَوا «على أحد وجهين:
إمَّا على حذف مفعول أي: شيئاً من الماء، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير، وإمّا على تضمين»
أفِيضُوا «معنى ما يتعدّى ب» من «أي: أنعموا منه بالفيض.
وقوله: ﴿أوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ﴾ »
أو «هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين؛ إمَّا تخييراً، أو إباحة، أو غير ذلك مما يليق بهما، وعلى هذا يقال: كيف قيل: حرَّمهما فأعيد الضَّميرُ مثنى وكان من حق من يقول: إنَّها لأحد الشيئين أن يعود مفرداً على ما تقرَّر غير مّرة؟
وقد أجابوا بأن المعنى: حرّم كلاًّ منهما.
وقيل: إن»
أو «بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه.
و»
مِمَّا «» ما «يجوزُ أن تكون موصولة اسميّة، وهو الظَّاهِرُ، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوزُ أن تكون مصدرية، وفيه مجازان.
أحدهما: أنَّهم طلبوا منهم إفَاضَةَ نفس الرزق مبالغة في ذلك.
والثاني: أن يراد بالمصدر اسم المفعول، كقوله: ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ [البقرة: ٦٠] في أحد وجهيه.
وقال الزمخشريُّ: أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشْرِبَةِ لدخوله في حكم الإفاضة»
.
ويجوزُ أن يُراد: أن ألْقوا علينا من ما زرقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله: [الرجز].
133
٢٤٧٤ - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارداً............................
قال أبُوا حيَّان: وقوله: «وألْقوا علَيْنَا مِمَّا رَزَقكُمُ اللَّهُ منَ الطَّعامِ والفاكهة» يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله: «أفيضُوا» ضُمِّن معنى قوله: «ألقوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله» فيصحُّ العطف.
ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكون أضمر فعلاً بعد «أو» يصل إلى مما رزقكم اللَّهُ، وهو «ألقوا»، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطفَ على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصَّحيحُ منهما التّضميل لا الإضمار.
قال شهابُ الدِّين: «يعني الزمخشري: أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء، وما جرى مجراه في المائعات، فقوله:» أو من غيره من الأشْرِبَةِ «تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه؛ لأنَّهُ لو حُمِلَ مما رزقكم اللَّه على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإفاضة إليهما إلاَّ بتجوز، فذكر وجه التجوز بقوله:» ألقوا «، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلف لا يُسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي: فعلفتها، ومثله: [الوافر]
٢٤٧٥ -......................... وَزَجَّجْنُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
وقوله: [مجزوء الكامل]
٢٤٧٦ - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا
وقوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] وقد مَضَى من هذا جملة صالحة «.
وزعم بعضهم أن قوله: ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ عام يندرج فيه الماء المتقدِّم، وهو بعيد أو متعذّر لِلْعَطْفِ ب»
أو «. والتَّحريم هنا المنع كقوله: [الطويل]
٢٤٧٧ - حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَمَا الكَرَى.............................

فصل في فضل سقي الماء


قال القرطبيُّ:»
هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال «.
وقد سئل ابن عباس: أي الصّدقة أفضل؟ قال: الماء، ألم تروا إلى أهْلِ النَّار حين
134
استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله.
وروى أبو داود» أن سعداً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أي الصدقة أحب إليك؟ قال: المَاءُ، فَحَفَر بِئراً وقال: هذه لأمِّ سَعْدٍ «

فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه


قال القرطبي:»
وقد استدلّ بهذه الآية من قالك إنَّ صاحب الحوض والقربة أحقُ بمائه، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنَّة: ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾ لاحق لكم فيها «.
135
قوله «الَّذِينَ» يجوز أن تكون في محل جر، وهو الظاهر، نعتاً أو بدلاً من «الكافرين»، ويجوز أن تكُون رفعاً أو نصباً على القَطْعِ.
قوله: ﴿اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً﴾ فيه وجهان:
الأول: أنَّهُم اعتَقَدُوا فيه أن يلاعبوا فيه، وما كانوا فيه مجدين.
والثاني: أنَّهُم اتخذوا اللهو واللّعب ديناً لأنفسهم، وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة، وأخواتها، والمكاء والتصدية حول البَيْتِ، وسائر الخصالِ الذّميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهليّة.
قال ابن عباس: «يُريدُ المستهزئين المقتسمين».
قوله: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ عطف على الصّلة، وهو مجاز؛ لأنَّ الحياة لا تغرّ في الحقيقةِ، بل المرادُ أنَّهُ حصل الغرور عند هذه الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ الإنسان يطمع في طول العُمْرِ، وحسن العيش، وكَثْرةِ المَالِ، وقوَّة الجاهِ، فتشتدُّ رغبته في هذه الأشياء، ويصير محجوباً عن طلب الدين غَارِقاً في طلب الدنيا.
قوله: «فالْيَوْم» منصوب بما بعده.
وقوله «كَمَا» نعت لمصدر محذوف، أي: ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءه أي برتكهم.
135
و «ما» مصدرية ويجوز أن تكون الكاف للتَّعليل، أي: تركناهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم.
و «يَوْمِهِمْ» يجوز أن يكون المفعول متّسعاً فيه، فأضيف المصدر إليه كما يُضَافُ إلى المفعول به، ويجوزُ أن يكون المفعول محذوفاً، والإضافة إلى ظرف الحدثِ أي: لقاء العذاب في يومهم.

فصل في معنى «النسيان»


في تفسير هذا النسيان قولان:
الأول: هو التّركُ والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم، وهذا قول الحسنِ ومجاهدٍ والسُّدِّيِّ والأكثرين.
والثاني: أنَّ المعنى ننساهم أي: نعاملهم معاملة من نسي، نتركهم في النَّار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا. وبالجملة فسمَّى الله - تعالى - جزاءهم بالنّسيان كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] والمراد من هذا النسيان أنه «لاَ يُجِيْبُ دعاءَهُم ولا يَرْحمُ ضَعْفَهُمْ وذُلَّهُمْ».
قوله: «وَمَا كَانُوا» «ما» مصدرية نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي: وكانوا بآياتنا يجحدون.
وفي الآية لطيف عجيبة وهي أنَّهُ - تعالى - وصفهم بكونهم كافرين ثم بيَّن من حالهم أنَّهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً، ثم غرتهم الحياة الدُّنيا ثالثاً، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنَّهُم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل أنَّ حب الدُّنْيَا مبتدأ كل آفة كما قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيْئَةٍ»، وقد يؤدي حبُّ الدُّنْيَا إلى الكُفْرِ والضَّلالِ.
136
الضَّميرُ في «جِئْنَاهُم» عائد على كل ما تقدم من الكَفَرةِ، والمراد ب «كتاب» الجنس.
وقيل: يعود على مَنْ عاصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد بالكتاب القرآن، والباء في «بكتاب» للتعدية فقط.
136
قوله: «فَصَّلْنَاهُ» صفة ل «كتاب»، والمراد بتفصيلة إيضاحُ الحقِّ من الباطل، أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦].
وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضَّادِ المعجمة أي: فضَّلْناه على غيره من الكتب السماوية.
قوله: «على عِلْمٍ» حال إمَّأ من الفاعل، أي: فصَّلناه عالمين بتفصيله، وإمَّا من المفعول أي: فَصّلناه مشّتملاً على علم ونكَّر «عِلْم» تعظيماً.
قوله: «هُدىً ورَحْمَةً» الجمهور على النصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مفعول من أجله أي: فصَّلْناه لأجل الهداية والرحمة.
والثاني: أنَّهُ حال، إمّا من «كتاب» وجاز ذلك لتخصصه بالوصف، وإمّا من مفعول «فصَّلناه».
وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ: «هدىً ورحمةٍ» بالجر، وخرَّجه الكسائي والفراء على النعت ل «كتاب»، وفيه المذاهب المشهور في نَحْوِ: [ «مررت] برجل عَدْلٍ»، وخرّجه غيرهما على البدل منه.
وقرئ: «هُدىً ورَحْمَةً» بالرفع على إضمار المبتدأ.
وقال مكي: «وأجَازَ الفرَّاءُ والكِسَائِيُّ» هُدىً ورَحْمَة «بالخفض، ويجعلانه بَدَلاً من» علم «، ويجوز» هُدىً ورحمةٌ «على تقدير:» هو هدىً ورحمةٌ «، وكأنَّهُ لم يطَّلع على أنَّهُمَا قراءتان مَرْويَّتانِ حتّى نسبهما على طريق الجواز.
وقوله: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يدلُّ على أنَّ القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين، والمرادُ: أنَّهُم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم، فهو كقوله تعالى في أوَّل»
البقرة «، ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الآية: ٢].
137
قد تقدَّم الكلام على «تَأويله» في [آل عمران ٧].
137
وقال الزَّمخشريُّ هاهنا: والتَّأويل مادته من همزة وواو ولام، مِنْ «آل يؤول».
وقال الخطابي: أوَّلْتُ الشيء رَدَدْتُهُ إلى أوله، واللفظة مأخوذة من الأول، وهو خطٌ؛ لاختلاف المادتين والتأويل مرجع الشّيء ومصيره من قولهم: آل الشَّيءُ يئول.
واحتجَّ بهذه الآية من ذهب إلى أنَّ قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾ [آل عمران: ٧] أي: [و] ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا اللَّهُ.

فصل في معنى «ينظرون»


لمَّا بيَّن إزاحة العِلَّة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصَّل الموجب للهداية والرَّحمة بيَّن بَعْدَهُ حال من كذَّب فقال: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾، والمعنى: هل يَنْتَظِرُونَ أي يتوقَّعون إلاّ جزاءه، قاله مُجَاهِدٌ.
وقال السُّدِّيُّ: «عاقبته، وما يؤول إليه».
فإن قيل: كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟
فالجوابُ: لعلّ فيهم أقواماً تشككوا وتوقّفوا، فلهذا السّبب انتظروه، وأنهم وإن كانوا جاحدين إلاَّ أنَّهم بمنزلة المُنْتَظِرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة.
قوله: «يَوْمَ» منصوب ب «يقول».
وقوله: ﴿يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾.
معناه: أنَّهُم صاروا في الإعْراضِ عنه بمنزلة من نسي، ويجوز أن يكون معنى نسوه أي: تَرَكُوا العمل والإيمان به كما تقدَّم.
قوله: «قَدْ جَاءَتْ» مَنْصُوبَة بالقول و «بالحَقِّ» يجوز أن تكون «الباء» للحالِ، وأن تكون للتعدية أي: جاءوا ملتبسين بالحق، أو جاءُوا الحقّ.
والمعنى: أقرُّوا بأنَّ الذي جاءت الرُّسُلُ به من ثُبُوتِ الحَشْرِ، والنَّشْرِ، والبَعْثِ والقيامة، والثواب، والعقاب، كل ذلك كان حقاً؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها.
قوله: فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآء} «من» مزيدة في المبتدأ و «لنا» خبر مقدَّم، ويجوز أن يكون «مِنْ شُفَعَاء» فاعلاً و «مِنْ» مزيدة أيضاً، وهذا جائز عند كل أحد لاعتماد الجار على الاستفهام.
قوله: «فَيَشْفَعُوا» منصوب بإضمار «أنْ» في جواب الاستفهام فيكون قد عطف اسماً
138
مؤولاً على اسم صريح، أي: فهل لَنَا من شفعاء بشفاعة منهم لنا؟
قوله: «أوْ نُرَدُّ» الجمهور على رفع «نُرَدُّ» ونصب «فَنَعْمَلَ»، فرفع «نردُّ» على أنَّه عطف جملة فعليّة، وهي «نُردُّ» على جملة [اسميّة] وهي: هل لنا من شُفَعَاء فيشفَعُوا؟
ونصب «فَنَعْملَ» على ما انتصب عليه «فَيَشْفَعُوا»، وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدَّم، كذا روى عنه ابن عطية وغيره، وروى عنه الزمخشري نصب «نُرَدَّ» ورفع «فنعملُ».
وقرأ أبُوا حَيْوَةَ، وابن أبي إسحاقَ بنصبهما فنصب «نردَّ» عطفاً على «فَيَشْفَعُوا» جواباً على جواب، ويكون الشفعاء في أحد شيئين: إمَّا في خلاصهم من العذابِ، وإمِّا في رجوعهم للدُّنيا ليعملوا صالحاً، والشَّفَاعَةُ حينئذ [مستحبة] على الخلاص أو الرَّدّ، وانتصب «فَنَعْمَلَ» نسقاً على «فُنردَّ».
ويجوز أن تكون «أوْ نُرَدَّ» من باب «لألزمنَّك أو تقضيني حقّي» إذا قدرناه بمعنى: حتّى تقضيني، أو كي تقضيني، غَيَّا اللزوم بقضاء الحق، أو علله به فكذلك الآية الكريمة أي: حتى نُرَدَّ أو كي نرد، والشفاعة حينئذٍ متعلِّقَةٌ بالرَّدِّ ليس إلاَّ.
وأمَّا عند من يُقدِّر و «أو» بمعنى «إلاّ» في المثال المتقدم وهو سيبويه، فلا يظهر معنى الآية عليه؛ إذ يصير التقدير: «هل يشفع لنا شفعاء إلا أن نردّا»، وهذا استثناء غير ظاهر.

فصل في معنى الآية


المعنى أنَّهُ لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه إلا أحَدُ هذين الأمرين، وهو أن يشفع لنا شفيعٌ فيزول عنَّا هذا العذابُ، أو نُردَّ إلى الدُّنْيَا حتى نعمل غير ما كنَّا نعمله حتى نوحد اللَّه بدلاً عن الكفر. ثمَّ بيَّن تعالى أنَّهُمْ ﴿قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾. أي الذي طلبوه لا يكون؛ لأن ذلك المطلوب لو حَصَلَ لما حكم اللَّهُ عليهم بأنَّهُم قد خَسِرُوا أنفسهم.
قوله: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾.
«ما كانوا» «ما» موصولة عائدها مَحْذُوفٌ، و «مَا كَانُوا» فاعل «ضلَّ»، والمعنى: أنَّهُم لم ينتفعوا بالأصْنَامِ التي عبدوها في الدُّنْيَا.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قال الجُبَّائِيُّ: هذه الآية تدل على حكمين:
139
الأول: أنَّها تَدُلُّ على أنَّهُم كانوا في حال التَّكْلِيفِ قادرين على الإيمان والتَّوبة، فلذلك سألوا الرّدّ ليؤمنوا ويتوبوا، ولو كانوا في الدُّنيا غير قادرين - كما يقوله المجبرة - لم يكن لهم في الردّ فائدة، ولا جاز أن يسألوا ذلك.
الثانيك أنَّ الآيَة تَدُلُّ على بُطْلانِ قول المجبرة بأنَّ أهْلَ الآخرة مكلفون، لأنَّهُ لو كان كذلك لما سألوا الرّدَّ إلى حال وهم في الوَقْتِ على مثلها، بَلْ كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال.
140
قد تقدَّمَ أنَّ مدار القرآن على تَقْرِير هذه المسائل الأربع وهي: التَّوحِيدُ، والنبوةُ، والمعادُ، والقضاءُ والقدرُ، ولا شك أنَّ إثبات المعاد مبنيٌّ على إثبات التَّوحيد والقدرة والعلم، فلمَّا بالغ الله في تقرير المعادِ عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القُدْرَةِ والعلم، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التَّوحيدِ، ومقررّة أيضاً لإثبات المعاد.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله﴾ الجمهور على رفع الجلالة خبرا ل «إنَّ»، ويضعف أن تجعل بدلاً من اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يرى ذلك، والموصول خبر ل «أنَّ» وكذا لو جعله عطف بيان، ويتقوَّى هذا بِنَصْبِ الجلالةِ في قراءة بكار، فإنَّها فيها بدلٌ، أو بيان لاسم «إنّ» على اللفظ، ويضعف أَن تكون خبرها عند مَنْ يرى نصب الجزءين فيها كقوله: [الطويل]
٢٤٧٨ - إذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأتِ ولتَكُنْ خُطَاكَ خِفَافاً إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وقوله: [الرجز]
٢٤٧٩ - إنَّ العَجُوزَ خبَّةً جَرُوزا تَأكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيرْا
قيل: ويُؤيِّدُ ذلك قِرَءةُ الرَّفْعِ أي: في جعلها إيَّاهُ خبراً، والموصول نعت لله، أو بيان له، أو بدل مِنْهُ، أو يُجْعَل خبراً ل «إن» على ما تقدَّم من التخاريج، ويجوز أن يكون معطوفاً على المَدْحِ رفعاً، أو نصباً.
قوله: «في سِتَّةِ» حكى الواحِدِيُّ عن الليث أنَّهُ قال: «الأصل في الستّ والستّة: سدسٌ وسدسةٌ [أبدل السين تاء] ولما كان مخرج الدّال والتّاء قريباً، وهي ساكنة أدغم أحدهما في الآخر، واكتفى بالتَّاءِ، ويدلُّ عليه أنَّكَ تقُولُ في تصغير ستة: سُديْسَةٌ،
140
وكذلك الأسْدَاسُ وهذا الإبدال لازم، ويدلُّ عليه أيضاً قولم: جَاءَ فلانٌ سَادساً وسدساً وسادياً بالياءِ مثناة من أسفل قال [الشاعر] :[الطويل]
٢٤٨٠ -................... وَتَعْتَدُّنِي إنْ لَمْ يَقِ اللَّهُ سَادِيا
أي» سَادِساً «فأبْدَلَهَا.

فصل


قوله: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ الظَّاهِرُ: أنَّهُ ظَرْفٌ ل»
خَلْق السموات والأرض «معاً، واسْتُشْكِلَ على ذلك أنَّ اليومَ إنَّمَا هو بطلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها، وذلك إنَّما هو بَعْدَ وجود السَّمواتِ والأرْضِ، وأجَابُوا عَنْهُ بأجْوِبَةٍ منها:
أنَّ السَّتَّةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقطن فعلى هذا يكُونُ قوله:»
خلق السموات «مطلقاً لم يُقَيَّدْ بِمُدَّةٍ، ويكون قوله:» والأرْضَ «مفعولاً بفعل مُقَدَّرٍ أي؛ وخلق الأرض، وهذا الفعل مُقَيَّد بِمُدَّة سِتَّةِ أيَّامٍ، وهذا قولٌ ضعيفٌ جِدّاً.
وقيل: في مِقْدَارِ سِتَّةِ أيَّامٍ من أيَّام الدُّنْيَا، ونظيره: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢].
والمراد: على مقدار البُكْرَةِ والعَشيِّ في الدُّنْيَا؛ لأنَّهُ لا ليل ثمَّ ولا نهار.
وقيل: سِتَّةُ أيَّامِ كأيَّامِ الآخِرَةِ، كلُّ يَوْمٍ كألْفِ سَنَةٍ.
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - قادِراً على خَلْق السَّمواتِ والأرْضَ في لَمْحَةٍ ولحظة، فَخَلَقَهُنَّّ في سِتَّةِ أيَّام تعليماً لخلقه التَّثَبُّتَ، والتَّأنِّي في الأمُور، وقد جَاءَ في الحديث:
«التَّأنِّي من اللَّهِ والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»

قال القرطبيُّ: وأيضاً لتظهر قُدْرَتُهُ للملائكةِ شيئاً بعد شيء وهذا عند من يَقُولُ: خلق الملائِكَة قبل خلقِ السَّمواتِ والأرضَ، وحكمةٌ أخَْى خلقها في ستَّة أيَّامٍ، لأنَّ لكلِّ شيءٍ عندَهُ أجلاً، وبين بهذا ترك مُعاجلةِ العُصَاةِ بالعقابِ؛ لأنَّ لكلِّ شَيْءٍ عندَهُ أجلاً وهذا كقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ [ق: ٧٣ - ٣٧] بعد أن قال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً﴾ [ق: ٣٨].

فصل في بيان أسئلة واردة على الآية


في الآية سؤالات:
الأول: كونُ هذه الأشياء مخلوقةً في سِتَّةِ أيَّامٍ لا يمكن جعله دليلاً على إثْبَات الصَّانِعِ لوجوه.
141
أحدها: أن وَجْهَ دلالة هذه المحدثاتِ على وجود الصَّانع هو حُدُوثُهَا، أو إمكانها، أو مجموعها، فأمَّا وُقوعُ ذلك الحدوث في ستة أيَّام، أو في يَوْمٍ واحدٍ فلا أثَرَ لَهُ في ذلك ألْبَتَّة.
الثاني: أنَّ العَقْلَ يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في سِتَّةِ أيَّامٍ إلاَّ بإخْبَارِ مخبر صادقٍ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار، فلو جعلنا هذه المُقدِّمَة مُقَدِّمَةً، في إثبات الصَّانِعِ لزِمَ الدَّوْرُ.
الثالث: أنَّ حدوثَ السمواتِ والأرضِ دفعةً واحدة أدلُّ على كمال القُدْرَةِ والعلم من حدوثها في ستة أيَّام.
وإذَا ثبتتْ هذه الوجوهُ الثلاثةُ فنقولُ: ما الفائدةُ في ذكر أنَّهُ تعالى إنَّمَا خلقها في سِتَّةِ أيَّامٍ في إثبات ذكر ما يَدُلُّ على وجود الصَّانع؟
الرابع: ما السَّبَبُ في أنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا على ذِكْرِ السَّموات والأرض، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟
الخامس: اليوم إنَّما يمتازُ عن اللَّيْلةِ بِطُلوع الشَّمْسِ وغروبها، فقبل خلق السَّموات والقمر كَيْفَ يُعْقَلُ حصول الأيَّامِ؟
السادس: أنَّهُ تعالى قال: ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ [القمر: ٥٠]، وهو كالمُنَاقِضِ لقوله خلق السَّمواتِ والأرض.
السابع: أنَّهُ تعالى خلق السَّمواتِ والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تَقْييدها بالأيام الستَّةِ؟
والجوابُ على مذهب أهْلِ السُّنَّةِ واضحٌ؛ لأنَّهُ تعالى يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، ولا اعتراض عليه في أمْرٍ من الأمُورِ، وكلُّ شيء صنعه ولا علَّةَ لصُنْعِهِ، ثم نَقُولُ:
أمّا الجوابُ عن الأوَّل أنَّهُ تعالى ذكر في أوَّلِ التَّوْراةِ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، والعربُ كانُوا يخالطون اليهودَ والظَّاهِرُ أنَّهُم سَمِعُوا ذلك منهم، فَكَأنَّهُ سبحَانَهُ يقُولُ: لاّ تَشْتَغِلُوا بعبادَةِ الأوثان والأصنام، فإنَّ ربَّكُم هو الذي سمعتم من عقلاء النَّاسِ أنَّهُ هو الذي خلقَ السَّموات والأرْضَ على غَايَةٍ عظمتها في ستَّةِ أيَّامٍ.
وعن الثالث: أن المَقْصُودَ منه أنَّهُ تعالى وإن كان قَادِراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنَّهُ جعل لَكُلِّ شيءٍ حداً مَحْدُوداً، ووقتاً مقدراً، فلا يُدْخِلُهُ في الوُجُودِ إلاَّ على ذلك الوَجْهِ، فَهُوا، وإنْ كَانَ قادراً على إيصال الثَّوابِ للمطيعين في الحالِ، وعلى
142
إيصالِ العقاب للمذنبينَ في الحالِ، إلاَّ أنَّهُ يؤخرهما إلى أجلٍ معلُومٍ مقدورٍ، فهذا التَّأخِيرُ ليس لأجَلِ أنَّهُ تعالى أهمل العِبَادَ، بل لما ذكرنَا أنَّهُ خصَّ كلَّ شيءٍ بوقُتٍ معيَّن لسابِقِ مشيئتِهِ، فلا يفتر عنه، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
وقال المُفَسِّرُونَ: إنَّهُ تعالى إنَّما خَلق العالمَ في ستَّةِ أيَّامٍ ليعلِّم عباده الرِّفْقَ في الأمُورِ كما تقدَّم عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ.
وقال آخرون: «إنَّ الشَّيْءَ إذا أحدث دَفْعَةً واحدة ثم انقطع طريقُ الإحداثِ، فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ ببالِ بعضهم أنَّ ذلك إنَّما وقع على سبيل الاتَّفَاقِ، أمَّا إذَا حدثَتِ الأشْيَاءُ على سبيل التَّعَاقُبِ والتَّواصُلِ مع كونها مطابقة للمَصْلَحَةِ والحكمة كان ذلك أقْوَى في الدِّلالةِ على كونِهَا واقعةً بإحداث مُحْدِثٍ حكيم وقادر عليم».
وعن الرابع: أنَّهُ تعالى ذكر سَائِرَ المخْلُوقَاتِ في سَائرِ الآيات فقال: ﴿الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ﴾ [السجدة: ٤].
وقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الفرقان: ٨٥ - ٥٩].
وعن الخامس: قوله أنَّ المراد أنَّهُ تعالى خلق السَّموات، والأرضَ في مقدار سِتَّةِ أيَّام كما تقدَّم.
وقال بعضُ العُلماءِ: المراد بالستَّةِ أيَّامٍ هاهنا مراتب مصنوعاته؛ لأنَّ قبل الزَّمَانِ لا يمكن تجدد الزَّمَانِ، والمراد بالأيام السَّتَّة: يومٌ لمادة السموات، ويوم لصورتها، ويوم لكمالاتها من الكواكب، والنُّفُوسِ، وغيرها ويوم لمادة الأرْضِ ويوْمٌ لصورتها ويوم لكمالاتها من الجبال وغيرها، فاليَوْمُ عبارة عن الكون الحادث.
وعن السادس: أنَّ قوله: ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ [القمر: ٥٠] محمولٌ على إيجاد كُلِّ واحد من الذَّواتِ وعلى إعدام كل واحد منها؛ لأنَّ إيجاد الموجودِ الواحدِ لا يقبل التَّفَاوُتَ، فلا يمكن تحصيله إلا دفعة، وأمَّا الإمْهَالُ فلا يَحْصُلُ إلاَّ في المدَّةِ.
وعن السابع: أنَّ هذا السُّؤالَ غير وارد، لأنَّهُ تعالى لو أحدثته في مِقْدَارِ آخر من الزَّمانِ لعَادَ السُّؤالُ.
قوله: «ثُمَّ اسْتَوَى» الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّميرِ على الله - تعالى - بالتَّأويل المذكُورِ في البقرةِ.
وقيل: الضَّمِيرُ يعود على الخَلْق المَفْهُوم من «خَلَقَ» ثم اسْتَوَى خَلْقُه على العَرْشِ،
143
ومثله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥] قالوا: يُحتمل أن يَعثودَ الضَّميرُ في «اسْتَوَى» على «الرَّحْمِن»، وإنْ يعود على الخَلْقِ، ويكون «الرَّحْمن» خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرَّحْمنُ.
والعرشُ: يُطْلَقُ بإزاء معانٍ كثيرة، فمنه سَرِيرٌ الملكِ، وعليه، ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ [النمل: ٤١]، ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش﴾ [يوسف: ١٠٠]، ومنه السُّلْطَان والعزُّ وعليه قول زهير: [الطويل]
٢٤٨١ - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وقَدْ ثُلأَّ عَرْشُهَا وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ
وقول الآخر: [الكامل]
٢٤٨١ - إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ بِرَبيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
ومنه: خشب تُطوى به البِئرُ بعد أنْ يُطْوى بالحِجَارَةِ أسفلُها ومنه: ما يُلاقِي ظَهْرُ القَدَم وفيه الأصَابع، ومنه: السَّقْفُ، وكلُّ ما علاك فهو عَرْشٌ، فَكَأنَّ المَادَّةَ دائرةُ مع العُلُوِّ والرِّفعة ومنه عَرْشُ الكَرمِ، وعرشُ السِّمَاكِ أرْبَعَةُ كواكب صغار أسفل من العَوَّاء يقال إنَّها عَجُز الأسَدِ.
والعَرْشُ: اسم ملك والعَرْشُ المَلِكُ والسُّلطَانُ. يقال: قد ذهب عرش فلان أي: ذهب مُلْكُهُ وعِزهُ وسُلْطَانُهُ قال زُهَيْرٌ: [الطويل]
٢٤٨٣ - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ
وقد تُؤُوِّل العَرْشُ في الآيَةِ بمعنى الملكِ أي: ما استوى الملِكُ الإلَهُ عزَّ وجلَّ.

فصل في تنزيه الله تعالى


قال القرطبي: الأكثَرُ من المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ على أنَّهُ إذا وجب تَنْزيهُ البَارِي سبحانه على الجِهَةِ والتَّحَيُّزِ، فمن ضرورة ذلك ولوازمه عِنْدَ عامَّة العُلَمَاءِ المُتقدِّمينَ، وقادتِهِمْ من المتأخِّرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهَةِ، فَلَيْسَ بجهة فوض عِنْدَهُمْ؛ لأنَّهُ يلزمُ من ذلك عِنْدَهُم متى اختص بجهة أنْ يكون في مكان وحيِّزٍ، ويلزمُ على المكان والحيِّزِ الحركةُ والسُّكُونُ، ويلزم من الحركةِ والسُّكُونِ التَّغَيُّرُ والحُدُوثُ، هذا قول المتكلِّمينَ وقد كان السَّلَفُ الأولُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - لا يقولون بنفي الجهةِ، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكَافَّةُ بإثْبَاتِهَا لله - تعالى - كما نَطَقَ كِتَابهُ، وأخبرت [رسله]، ولم
144
ينكر أحدٌ من السَّلَفِ الصَّالِح أنَّهُ استوى على عَرْشِهِ حقيقة، وخُصَّ العَرْشُ بذلك؛ لأنَّهُ أعْظَمُ مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاسْتِوَاءِ، فإنَّهُ لا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ، كما قال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يعني في اللغة - والكيْفُ مَجْهُولٌ، والسُّؤالُ عن هذا بِدْعَةٌ»، وكذلك قالت أمُّ سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، وهذا القدرُ كافٍ.

فصل في معنى الاستواء


فإن قيل الاستواءُ في اللُّغَةِ: هو العُلُوُّ والاسْتِقْرَارُ.
قال الجَوْهَرِيُّ: «استوى من اعْوِجَاج، واستوى على ظَهْرِ دابّتهِ أي: استقرَّ، واستوى إلى السَّمَاءِ أي قَصَدَ، واستوى أي: اسْتَوْلَى، وظهر؛ قال الشاعر: [الرجز]
٢٤٨٤ - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ... واستوى الرَّجُلُ أي: انتهى شبابُهُ، واستوى الشَّيءُ أي: اعتدل، وحكى ابْنُ عَبْدِ البرِّ عن أبي عُبَيْدَةَ في قوله تعالى: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ قال:»
عَلاَهُ «.
قال الشِّاعِرُ: [الطويل]
٢٤٨٥ - وَقَدْ خُلِقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ واسْتَوَى... أي: علا وارتفع.
قال القرطبيُّ: علوُّ الله - تعالى - وارتفاعُهُ عبارةُ عن علوِّ مَجْدِهِ، وصفاتِهِ، وملكُوتِهِ أي: ليس فوقَهُ فيما يجبُ له من تعالي الجلال أحد [ولا مَعَهُ من يكون العلو مُشْتَركاً بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه].

فصل في تأويل الآية


قال ابن الخطيب اعلم أنَّهُ لا يمكن أن يكونَ المراد من الآية كونه مُسْتَقِرّاً على العَرْشِ، ويدلُّ على فَسَادِهِ وجوهٌ عقليَّةٌ ونقليَّةٌ: إمَّا العقليَّةُ فأمُورٌ:
أحدها: أنَّهُ لو كان مستقرّاً على العرش لكان من الجانب الَّذِي يلي العَرْشَ مُتَنَاهِياً، وإلاّ لزمَ كونُ العَرْشِ داخلاً في ذاتِهِ، وهو محالٌ وكل ما كَانَ مُتَنَاهِياً فإنَّ العقلَ يقتضي بأنَّهُ لا يمنع أن يصير أزْيَدَ منه أو أنقص منه بذرَّةٍ، والعلمُ بهذا الجواز ضروريٌّ، فلو كان البَاري - تعالى - متناهياً من بعض الجوانبِ لكانت ذاتُهُ قابِلَةً للزِّيَادَةِ والنُّقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين؛ لتخصيص مخصِّصِ وتقدير مُقَدِّرٍ، وكل
145
ما كان كذلك فَهُوَ مُحْدَثٌ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان على العرش؛ لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان مُحْدَثاً وهذا مُحَالٌ فكونه على العَرْشِ يجب أن يكون مُحَالاً.
وثانيها: لو كان في مكانٍ وجهة، لكان إمَّا أنْ يكُونَ غير مُتَنَاهٍ من كلِّ الجهات، وإمَّا أن يكون متناهياً من كلِّ الجهاتِ، وإمَّا أن يكون متناهياً عن بعض الجهاتِ دون البَعْضِ، والكلُّ باطلٌ فالقولُ بكونه في المكانِ والحيِّزِ بَاطِلٌ قطعاً.
بيان الأول: أنَّهُ يلزم أن تكون ذاتُهُ مخالطة لجميع الأجسام السُّفْلِيَّةِ والعلويَّة، وأنْ تكون محالطة للقَاذُورَاتِ والنَّجَاسات، وتكون الأرْضُونَ أيضاً حالةً في ذاتِهِ.
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ الذي هو محل السَّمواتِ، إمَّا أن يكون هو عين الشَّيءِ الذي هو محلُّ الأرضين، أو غيره فإن كان الأوَّل؛ لزم كون السَّموات، والأرضين حالتين في محلٍّ واحد من غير امتياز بين محليهما أصْلاً، وكلُّ حالين حلا في محلٍّ واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذَّاتِ، وذلك باطل فإن كان الثَّاني لَزِمَ أن تكون ذاتُ اللَّهِ تعالى مركَّبةً من الأجزاء والأبعاض وهو مُحَالٌ.
والثالث: وهو أنَّ ذَاتَ اللَّهِ تعالى إذَا كانت حَاصِلَةٌ في جميع الأحياز والجهات فإمَّا أن يُقَالَ الشَّيْءُ الذي حصل فوق هو عَيْن الشَّيءِ الذي حصل تحت فحنيئذ تكون الذَّاتُ الواحدة قد حصلت دفعة واحدة [في أحيازٍ كَثِيرَةٍ وإنْ عُقِلَ ذلك فلم يُعْقَلُ أيضاً حصولُ الجسم الوَاحِدِ في أحْيَازٍ كثيرةٍ دَفْعَةً واحدةً؟] وهو مُحَالٌ في بديهة العقل، وأمَّا إنْ قيل إنَّ الشَّيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ يلزمُ حصولُ التركيب والتَّبْعيض في ذَاتِ اللَّه تعالى وَهُوَ مُحَالٌ.
وأما القِسْمُ الثَّانِي، وهو أن يُقَالَ إنَّهُ متناهٍ من كلِّ الجهاتِ فنقولُ: كل ما كان كذلِكَ فهو قَابِلٌ للزيادةِ والنُّقْصَانِ في بديهة العَقْلِ، وكلَّما كان كذلك كان اختصاصه بالمقْدَرِ المُعَيَّنِ لأجل تخصيص مُخَصِّصٍ وكلُّ ما كان كذلك فهو محدث، وأيضاً فإنَّ جَازَ أن يكُونَ الشَّيءُ المَحْدُودُ من كلِّ الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يُعْقَلُ أن يُقال: خالقُ العالم هو الشَّمْسُ، أو القَمَرُ، أو كوكبٌ آخرُ وذلك بَاطِلٌ بالاتِّفاق.
وأما القِسْمُ الثالثُ، وهو أنْ يُقالَ بأنَّهُ متناهٍ من بعض الجوانبِ، وغير مُتَنَاهٍ من سائر الجوانبِ فهذا أيضاً بَاطِلٌ من وجوه:
146
أحدها: انَّ الجانب المُتَنَاهي غير ما صدق عليه أنَّهُ غير مُتَنَاهٍ إلا لصدق النقيضين معاً وهو محالٌ، وإذا حصل التَّغاير لزم كونه تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبعاض.
وثانيها: أنَّ الجانبَ الذي صدق حُكْمُ العَقْلِ عليه بكونه متناهياً، إمَّا أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العَقْل عليه بكونِهِ غير مُتَنَاهٍ، وإمَّا ألاَّ يكون كذلك، والأوَّلُ بَاطِلٌ لأنَّ الأشياء المتساويةَ في تمام الماهِيَّةِ، كُلُّ ما صحَّ على واحد منها صَحَّ على الآخر البَاقِي، وإذا كان كذلك فالجانبُ الذي هو غير متناهٍ يمكن أن يَصير مُتناهِياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصيرَ غير متناهٍ.
ومتى كان الأمر كذلك كان النموُّ والذُّبول والزِّيادةُ والنُّقصانُ، والتَّفرُّقُ والتَّمَزُّقُ على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ، وذلك على الإله القديم مُحَالٌ.
البرهانُ الثالث: لو كان البَارِيءُ - تعالى - حَاصِلاً في المكان والجهة لكان الأمْرُ المُسَمَّى بالجِهَةِ إمَّا أن يكون موجوداً مشاراً إليه، وإما ألاَّ يَكُونَ كذلك، والقِسْمَانِ باطلانِ، فكان القول بكونه تعالى في المكانِ والجهةِ باطلاً.
أمَّا بيانُ فَسَادِ القِسْمِ الأوَّلِ، فلأنَّهُ لو كان المُسَمَّى بالحيِّز والجهةِ موجوداً مُشَاراً إليه، فحينئذ يكون المُسَمَّى بالحيِّز، والجهة بُعْداً، وامتداداً، والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نَفْسِهِ بَعْدٌ وامتدادٌ، وإلا لامتنع حُصُولُهُ فيه وحينئذٍ يَلْزَمُ تداخُلُ البُعْدَيْنِ، وذلك مُحَالٌ للدَّلائِلِ المَشْهُورةِ في هذا الباب. وأيضاً؛ فَيلْزَمَ من كون البَارئ قديماً أزليّاً كون الحيِّز، والجهة أزَليِّيْن، وحينئذٍ يلزمُ أن يكون قد حَصَلَ في الأزَلِ موجودٌ قائمٌ بنفسه سوى الله وذلك باطل بإجْمَاعِ أكثر العقلاء.
وأمَّا بيانُ فسادِ القسم الثَّانِي فَهُوَ من وجهين:
أحدهما: أنَّ العدمَ نفي مَحْضٌ، وعدم صرف، وما كان كذلك امتنع كونه ظَرْفاً لغيره، وجهة لغيره.
[وثانيهما: أنَّ كُلَّ ما كان حاصلاً في جهة فجهته مُمْتَازَةٌ في الحسِّ عن جهة غيره ولو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كونُ العدمِ المحض مُشَاراً غليه بالحسِّ وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان في حيِّزٍ وجهةٍ لأفضى إلى أحد هذين القِسْمين البَاطليْنِ؛ فوجب أنْ يَكُون القَوْلُ به بَاطِلاً].
فإن قيل: فَهذَا أيضاً واردٌ عليكم في قولكم: الجِسْمُ حَاصِلٌ في الحيِّزٍ والجهةِ فنقول: نَحْنُ على هذا الطَّريقِ لا نُثْبِتُ للجِسْمِ حَيْزاً، ولا جهة أصْلاً ألْبَتَّة، بحيث تكُونَ
147
ذات الجِسْمِ نافذة فيه وسَارِيَةً، بل المكانُ عبارة عن السَّطْحِ الباطنِ من الجِسْمِ الحاوي المماسّ للسَّطْحِ الظَّاهِرِ من الجسم المَحْوِيِّ، وهذا المعنى مُحَالٌ بالاتِّفاق في حقّ الله - تعالى - فسقط هذا السُّؤالُ، وبقيَّةُ البراهيم العَقْليَّة مذكورةٌ في تفسير ابن الخطيب.
وأمَّا الدَّلائل السَّمْعيَّةُ فَمِنْهَا قولُهُ تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١]. فوصفه بكونه أحَداً، والأحد مبالغةٌ في كونه واحداً والذي يمتلىءُ منه العَرْشُ، ويفضل على العرش يكون مُرَكَّباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاءِ العَرْشِ، وذلك يُنَافِي كونه أحَداً.
وقال بعَث الكرَّامِيَّة عند هذا الإلْزَامِ: إنَّهُ تعالى ذاتٌ واحدةٌ، [ومع كونه ذاتاً واحدة حَصَلَتْ في كلِّ هذا الأحْيَازِ دفعةً واحدةً قالوا: فلأجْلِ أنَّهُ تعالى حصل] دفعة واحدة في جَميع الأحْيَازِ امتلأ العَرْشُ منه، فَيُقَالُ لهم: حَاصِلُ هذا الكلام يرجع أنَّهُ يَجُوزُ حصول الذَّاتِ الشَّاغلة للحيِّز والجهة في أحْيَازٍ كثيرةٍ دفعةً واحدة، والعقلاءُ اتَّفَقُوا على أنَّ العلمَ بفسادِ ذلك من أجلِّ العُلُومِ الضروريَّةِ أيضاً، وأيضاً فإنْ جوَّزتم ذلك فلِمَ لا تُجَوِّزُونَ أن يقال: جَمِيعُ العالم من العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرَى جَوْهَرٌ واحد، ومَوْجُودٌ واحد، إلا أنَّ ذلك الجزء الذي لا يَتَجَزَّأ حصَلَ في جملة هذه الأحْيَازِ، فَيظَنُّ أنَّهَأ أشياء كثيرة، ومعلوم أنَّ من جوَّزَهُ، فقد التزم مُنْكراً من القول عظيماً.
فإن قالوا: إنَّمَا عرفنا هَا هُنَا حصول التَّغَايُرِ بين هذه الذَّوَاتِ، لأنَّ بعضها يَفْنَى، بع بَقَاءِ البَاقِي، وذلك يوجب التَّغَايرَ، وأيضاً فنرى بَعْضَهَا متحرِّكٌ وبعضها ساكِنٌ، والمُتَحرِّكُ غير السَّاكِنِ؛ فوجب القولُ بالتَّغايُرِ، وهذا المعانِي غير حاصلةٍ في ذَاتنِ اللَّه - تعالى - فظهر الفَرْقُ، فنقول: أمَّا قَوْلَكُمْ: بأنّا نُشَاهِدُ أنَّ هذا الجُزْءَ يبقى مع أنَّهُ يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ، فلا نسلم أنَّه فني شيء من الأجزاء، بل نقول: لِمَ لا يجوز أن يقال: إنَّ جميع أجزاء العالم جزءٌ واحد فقط، ثم إنَّهُ حصل هاهنا وهناك.
وأيضاً جعل موصوفاً بالسَّوادِ والبياضِ، وجميع الألوان والطُّعُومِ، فالذي يفتى إنَّمَا هو حُصُولُهُ هناك، فأمَّا أن يقال: إنَّهُ فني في نَفْسِهِ، فهذا غير مسلم.
وأمَّا قولكم: نَرَى بعض الأجسام مُتَحَرِّكاً، وبعضها ساكناً، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ؛ لأنَّ الحركة والسُّكُونَ لا يجتمعان فنقولُ: إنا حكمنا بأنَّ الحركةَ والسُّكُونَ لا يجتمعان.
لاعتقادنا أنَّ الجِسْمَ الواحِدَ لا يَحْصُلُ دفعة واحدة في حيزين، فإذا رَأيْنَا أنَّا السَّاكِنَ بقي هاهنا، وأن المُتَحَرِّكَ ليس هاهنا، قَضَيْنَا أنَّ المُتَحَرِّكَ غير السَّاكِن.
ومَّا بِتَقْدِيرِ أن يجوز الذَّاتِ الواحدة حاصلة في حيزِّين دفعة واحدة، فلم يمتنع
148
كون الذَّاتِ الواحدة متحرِّكَةً سَاكِنَةٌ معاً؛ لأنَّ أقْصَى ما في البابِ أنَّهُ بسبب السُّكُونِ بقي ها هنا وبسبب الحركة حصل في الحيِّزِ الآخر، إلا أنّا لمَّا جوَّزنا أن تحصلَ الذَّاتُ الواحدةُ دَفْعَةً واحدَةً في حيِّزين معاً، لم يبعد أن تكون الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هي غَيْرُ الذَّاتِ المتحرِّكةُ، فثبت أنَّهُ لو جَازَ أن يقالك إنَّهُ تعالى ذاته واحدة، لا تقبل القِسْمَةَ، ثمَّ مع ذلك يمتلىء العرشُ منه لم يبعد أن يقال: إنَّ العَرْشَ في نفسه جَوْهَرٌ فَرْدٌ جزء لا يتجزَّأُ، ومع ذلك فقد حَصَلَ في كلِّ تلك الأحْيَازِ، وحصل منه كل العرش، وذلك يُفْضِي إلى فتح باب الجَهَالاتِ.
ومنها قوله تعالى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٧] فلو كان إلهُ العالم في العرش لكان حَامِلٌ العرشِ حامِلاً للإله؛ فوجب أن يكون مَحْمُولاً حاملاً ومحفوظاً حَافِظاً، وذلك لا يقُولُهُ عاقل.
ومنها قوله تعالى: ﴿والله الغني﴾ [محمد: ٣٨] حكم بِكَوْنِهِ غَنِيّاً على الإطْلاقِ، وذلك يوجب كَوْنَهُ تعالى غنيّاً عن المكان والجهة.
ومنها أنَّ فِرْعَوْنَ لمَّا طَلَبَ حقيقة الإلهِ من موسى - عليه السلام - ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرَّات فإنه قال: ﴿وَمَا رَبُّ العالمين﴾ [الشعراء: ٢٣] ففي المرة الأولى قال ﴿رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٤].
وفي المرَّة الثَّانية قال: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ [الشعراء: ٢٦].
وفي المرة الثالثة قال: ﴿رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٨]. وكلُّ ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأمّا فرعون فإنَّهُ قال: ﴿ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى﴾ [غافر: ٣٦، ٣٧] فطلب الإله في السَّماءِ، فعلمنا أنَّ وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمَكَانِ والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السَّماءِ دينُ فرعون، وإخوانه مِنَ الكَفَرَةِ.
ومنها قوله تعالى في هذه الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾.
وكلمة «ثم» للتراخي وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض، فإنْ كان المُرَادُ من الاستواء الاستقرار؛ لَزِمَ أن يقال: أنَّهُ ما كان مستقراً على العرش، بل كان مُعْوَجاً مُضطرباً، ثم استوى عليه بعد ذلك، وذلك يُوجِبُ وصفه بصِفَاتِ الأجْسضامِ من الاضطراب والحركة تَرَاةً، والسُّكون أخرى، وذلك لا يَقُوله عاقِلٌ.
149
ومنها طَعْنُ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في إلهية الكواكب بكونها آفلة غاربة، فلو كان إله العالم جِسْماً، لكان أبداً غارباً آفلاً وكان متنقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار، فكلّ ما جعله طعناً في إلهية الكواكب يكون حاصلاً في إله العالمِ فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته؟!.
ومنها أنَّهُ تعالى ذكر قبل قوله: ﴿ثُمَّ استوى﴾ شيئاً، وبعده شيئاً آخر، أمّا المذكُورُ قبل هذه الكلمة فهو قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ وذلك يدلُّ على وُجُود الصَّانِع، وقدرته، وحكمته.
وأما المذكورُ بعد هذه الكلمة فأشياء أوَّلُهَا: ﴿يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾، وذلك يَدُلُّ على وجود الله تعالى، وعلى قدرته وحكمته.
وثانيها: قوله: ﴿والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ﴾ وهذا أيضاً يَدُلُّ على الوُجُودِ، والقُدْرَةِ والعلم.
وثالثها: قوله: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾، وهو أيضاً إشارة إلى كمال قُدْرَتِهِ، وحكمته.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ: أوَّلُ الآية إشارة إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ على الوُجُودِ والقدرة والعلم، وآخر الآية يَدُلُّ أيضاً على هذا المطلوب، وإذا كان كذلك فقوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ يَجِبُ أيضاً أن يكون دليلاً على كمالِ القُدْرَةِ والعلم؛ لأنَّهُ لو لم يَدُلَّ عليه، بل كان المراد كونه مستقِرّاً على العَرْشِ لا يمكن جعله دليلاً على كَمَالِهِ في القُدْرَةِ، والعلم، والحكمة، وليس أيضاً من صِفَاتِ المَدْحِ والثَّنَاءِ، لأنَّهُ تعالى قادر على أن يُجْلس جميع البَقِّ والبَعُوضِ على العرش، وعلى ما فَوق العرش، فثبت أنَّ كونه جالساً على العَرْشِ ليس من دلائل إثبات الذَّاتِ والصِّفاتِ، ولا من صِفَاتِ المَدْح والثَّنَاءِ، فلو كان المراد من قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ كونه جالساً على العرش، لكان ذلك كلاماً أجْنَبِياً عمّا قبله وعمّا بعده، وذلك يوجب نِهِايَةَ الرَّكاكةِ؛ فثبت أنَّ المراد منه ليس ذلك بَلِ المُرَادُ منه: كمال قدرته في تَدْبير المُلْكِ، والملكوت، حتّى تصير هذه الكلمة مُنَاسِبَةٌ لما قبلها، ولما بَعْدَهَا، وهو المَطْلُوبُ.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ: إنَّ قولهُ تعالى: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ من المُتشابِهَاتِ التي يجب تأويلها، وللعلماء هاهُنَا مذهبان.
الأول: أن يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله - تعالى - ونَقُولُ: الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله - تعالى - بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله - عزَّ
150
وجلَّ -، وسأل رجلٌ مَالِكَ بْنَ أنَس عن قوله: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ كيف استوى فأطرق رَأسَهُ مليّاً، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواءُ مَجْهُولٌ، والكيف غَيْرُ مَعْقُولٍ، والإيمانُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عند بدعة، وما أظُنُّكَ إلا ضالاًّ، ثم أمرَ به، فأخرج.
ورُوِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وسفيان بْنِ عُيَيْنَةَ، وعَبْدِ الله بْنِ المُباركِ، وغيرهم من علماء السُّنَّة في هذه الآيات التي جاءت في الصِّفاتِ المتشابهة، أنْ نُوردَهَا كما جاءت بلا كَيْف.
والمَذْهَبُ الثَّانِي: أن نخوضَ في تَأويلهِ على التَّفْصيلِ، وفيه قولان:
الأول: ما ذكره القَفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: العَرْشُ في كلامهم: هو السريرُ الذي يجلس عليه المَلِك، ثم جعل العرش كِنَايَةً عن نَفْسِ المُلْكِ.
يقال: ثلَّ عَرْشُهُ أي: انتقض مُلْكُهُ وَفَسَدَ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمْرُهُ وحكمه قالوا: اسْتَوَى على عَرْشِهِ واستقرَّ على سرير مُلْكِهِ، وهذا نظيرُ قولهم للرَّجُلِ الطويل: فلان طَوِيلُ النِّجَادِ، وللرَّجُلِ الذي تكثر أضْيَافُهُ: كثيرُ الرَّمَادِ وللرَّجُلِ الشِّيْخ فلان اشتعَلَ الرَّأسُ منه شَيْباً، وليس المرادُ بشيء من هذه الألْفَاظِ إجراءَها على ظَوَاهِرهَا إنَّمَا المُرَادُ منها تعريف المَقْصُود على سبيل الكِنَاية، فكذا هاهنا المُرَادُ من الاستواءِ على العَرْشِ نفاذُ القُدْرَةِ وجريان المشيئَة، كما إذا أخبر أنَّ له بيتاً، يجب على عِبَادِهِ حجُّهُ، فَهِمُوا منه أنَّهُ نصب لهم موضعاً يَقْصِدُونَهُ لمسألة ربِّهِمْ، وطَلبِ حوائجهم، كما يقصدون بيوتَ المُلُوكِ لهذا المطلوب، ثم عَلِمُوا منه نَفْيَ التَّشبيه، وأنَّهُ لم يجعلْ ذلك البيتَ مَسْكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دَفْع الحرِّ والبرْدِ عن نفسه، وإذا أمرهم بِتَحْميدِهِ، وتَمْجِيدِهِ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهايةِ تَعْظِيمهِ، ثمَّ عَلِمُوا بعقولهم أنَّهُ لا يفرح بِذلِكَ التَّحْمِيدِ والتَّعْظِيم، ولا يغتم بتركه، وإذا عُرِفَ ذلك فَنَقُولُ: إنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرض كما أراد وشاء من غير مُنَازعٍ، ولا مدافع، ثمَّ أخبر بعده أنَّهُ استوى على العَرْشِ، [أي حصل له تدبير
151
المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش]، أي بعد أنْ خلقهما استوى على عرش الملك والجلال.
قال القَفَّال: والدَّلِيلُ على أنَّ هذا هو المَُادُ قوله في سورة يونس: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر﴾ [الآية: ٣].
فقوله: «يُدبِّرُ» جرى مجرى التَّفسير لقوله: ﴿استوى عَلَى العرش﴾. وقال ﴿يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾، ﴿والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ إشارة إلى ما ذكرناهُ.
فإنْ قيل: فإذا حملتم قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ على أنَّ المراد إذا استوى على الملك؛ وجب أن يقالك اللَّهُ لم يكن مستوياً قبل خَلْقِ السَّموات والأرْضِ.
قلنا إنَّهُ تعالى كان قبل خَلْق العَالِمِ قادراً على تخليقها وتكوينها، لا أنَّهُ كان مُكوِّناً ومُوجِداً لها بأعْيَانِهَا؛ لأنَّ إحياء زيد، وإماتَةَ عَمْرٍو، وإطعام هذا، وإرواء ذلك، لا يَحْصُلُ إلا عند حصول هذه الأحْوالِ، فإذا فسَّرْنَا العرش بالملك، والملك بهذه الأحْوالِ صحَّ أن يقال: إنَّه تعالى إنَّما استوى على ملكه بعد خلق السَّموات والأرْض؛ بمعنى أنَّهُ إنَّمَا ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها، بعد خلق السَّمواتِ والأرْضِ.
والقولُ الثاني: أنَّ استوى بمعنى اسْتَوْلَى، كما نَذْكُرُهُ في «سورة طه» إن شاء الله تعالى.
واعْلَمْ أنَّهُ تعالى ذكر قوله: ﴿استوى عَلَى العرش﴾ في سَبْع سور: هاهنا، ويونس [٣]. والرعد [٢]، وطه [٥]، والرفرقان: [٥٩]، والسجدة [٤]، والحديد [٥٧].
قال ابن الخطيب: «وفي كلِّ موضع ذكرنا فَوائِدَ كثيرةٌ، فَمَنْ ضمَّ تلك الفَوائِدَ بعْضَهَا إلى بَعْضٍ، بلغت مبلغاً كثيراً، وافياً بإزالةِ شبهة التَّشْبيهِ عن القَلْب».
قوله: ﴿يُغْشِي الليل النهار﴾ قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفض هنا وفي سورة الرعد: [٣] «يُغْشِي» مخففّاً من أغْشَى على أفْعَل، والباقون بالتَّشديدِ من غشَّى على فعَّل، فالهمزةُ والتَّضعيف كلاهما للتَّعْدِيَةِ أكسبا الفعل مَفْعُولاً ثانياً؛ لأنَّهُ في الأصل متعد لواحدٍ، فصار الفاعل مفعولاً.
وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسْ: «يَغشَى» بفتح الياء والشين، «اللّيلُ» رفعاً، «النهار» نصباً،
152
هذه رواية الداني عنه، وروى ابنُ جنّي عنه نصب «اللّيل» ورفع «النَّهار».
قال ابنُ عطيَّة: «ونقل ابن جنّي أثبت» وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ الدَّاني أَعْنَى من أبي الفَتْح بهذه الصِّنَاعَةِ، وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد رواية الدَّاني أيضاً أنَّهَا موافقة لقراءة العَامَّةِ من حيث المَعْنَى، وذلك أنَّهُ جعل اللَّيْل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنَّهارَ مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة اللَّيْلُ فاعلٌ معنى، والنَّهارُ مفعولٌ لفظاً ومعنى، وذلك أنَّ المفعولين في هذا البابِ متى صَلُح أن يكون كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى؛ وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى؛ لئلاّ يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً عَمْراً» فإنْ لم يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً دِرْهما، وكسوْتُ عمراً جُبَّةً» جاز، وهذا كما في الفَاعِلِ والمفعُولِ الصَّريحين نحو «ضرب موسى عيسى»، و «ضرب زيدٌ عمراً»، وهذه الآية الكريمة من بابِ «أعطيت زيداً عمراً» ؛ لأنَّ كلاًّ من اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَصْلُح أن يكون غَاشياً مَغْشياً؛ فوجب جعل «اللَّيْل» في قراءة الجماعةِ هو الفاعلُ المعنوي، و «النَّهَار» هو المفعول من غير عكس، وقراءة الدَّاني موافقة لهذه؛ لأنَّهَا المصرِّحة بفاعليَّةِ اللَّيْلِ، وقراءة ابن جني مُخَالِفَة لها، وموافقة الجماعة أولى.
قال شهابُ الدِّين: «وقد روى الزَّمَخْشَرِيُّ قراءة حُمَيْدٍ كما رواها أبُو الفَتْحِ فإنَّهُ قال:» يُغَشِّي «بالتَّشديد، أي: يلحق اللَّيْلُ بالنَّهار، والنَّهارُ باللَّيْلِ، يحتملهما جميعاً».
والدَّليلُ على الثاني قراءةُ حميد بْنِ قَيْس «يَغْشى» بفتح الياء [و] نصب اللَّيْل، ورفع النَّهَارِ. انتهى.
وفيما قاله الزَّمخشريُّ نظر؛ لما ذكرنا من أنَّ الآية الكريمة ممَّا يجب فيها تقديمُ الفاعلِ المَعْنَوِي، وكأن أبا القاسم تَبعَ أبَا الفَتْحِ في ذلك، ولم يَلْتَفِتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سَهْواً.
وقوله: «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» حالٌ من الليل؛ لأنَّهُ هو المحدَّث عنه أي: يغشي النَّهارَ طالبِاً له، ويَجُوزُ أن يكُون من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كُلٍّ منهما.
و «حَثِيثاً» يُحتمل أن يكون نَعْتَ مصدر محذوف أي: طَلَباً حثيثاً وأن يكون حالاً من فاعل «يَطْلُبُهُ» أي: حَاثّاً، أو مفعوله أي: مَحْثُوثاً.
والحثُّ: الإعْجَالُ والسُّرْعَةُ، والحَمْلُ على فِعْلِ شَيءٍ كالحضِّ عليه فالحثُّ والحضُّ أخوانِ، يقال: حَثَثْتُ فُلاناً فاحْتثَّ فهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ.
153
٢٤٨٦ - تَدَلَّى حَثِيثاً كأنَّ الصُّوا رَ يَتْبَعُهُ أزْرَقِيٌّ لَحِمْ
فهذا يُحتملُ أن يكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف، وأن يكون حالاً أي: تولى تَوَلِّياً حثيثاً، أو تولَّى في هذه الحال.

فصل في معنى «الإغشاء»


قال الواحديُّ: «الإغْشَاءُ والتَّغْشِيَةُ: إلْبَاسُ الشيء بالشَّيء، وقد جَاءَ التَّنْزِيلُ بالتَّشْديد والتَّخفيف، فمن التَّشديد قوله تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غشى﴾ [النجم: ٥٤] ومن اللُّغة الثانية: ﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] والمفعولُ الثاني مَحْذُوفٌ، ، أي فأغْشَيْنَاهُم العمى وفقد الرؤية، ومعنى الآية أي: يأتي اللَّيْلُ على النَّهارِ فيغطيه، وفيه حذف أي: ويغشي النَّهار اللَّيْلَ، ولم يذكرْ لدلالةِ الكلام عليه، وذكر في آية أخرى: ﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل﴾ [الزمر: ٥].
»
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً «أي: سَرِيعاً، وذلك أنَّهُ إذَا كان يعضب أحدُهُما الآخر ويخلفه فكان يطلبه.
قال القفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّهُ تعالى لمَّا أخبر عبادَهُ باستوائه على العرش، وأخْبَرَ عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أرَاهم ذلكَ عياناً فيما يُشَاهِدُونَهُ منها؛ ليضمَّ العيانَ غلى الخبرِ، وتزول الشُّبْهَةُ عن كُلِّ الجهاتِ فقال: ﴿يُغْشِي الليل النهار﴾ ؛ لأنَّهُ تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقبهما من المناقع العظيمة يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة.
قوله:»
والشَّمْسَ «قرأ ابن عامر هنا وفي» النحل « [١٢] برفع الشمسِ، وما عُطف عليها، ورفع» مُسَخَّرَات «، ووافقه حفصٌ عن عاصم في النَّحل خاصة على رفع» والنَّجُوم مُسَخَّرات «، والباقون بالنَّصْب في الموضعين. وقرّأ أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ هنا برفع» النُّجُومِ «وما بعده.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فعلى الابتداء والخبرِ، جعلها جملة مستقلَّةً بالإخبار بأنَّهَا مُسخَّرات لنا من الله - تعالى - لمنافعنا.
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فالنَّصْبُ في هذه السُّورةِ على عطفها على»
السَّمواتِ «أي: وخلق الشَّمْسَ، فتكون» مُسَخَّرات «على هذا حالاً من هذه المفاعيلِ، ويجوزُ أن تكون
154
هذه [منصوبةً] ب» جَعَلَ «مقدَّراً فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أوَّلاً، و» مُسَخَّرَات «مفعولاً ثانياً.
وأمَّا قراءةُ حفص في النَّحْلِ، فإنَّهُ إنَّما رفع هنا؛ لأنَّ النَّاصِبَ هناك»
سخَّر «وهو قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ﴾ [النحل: ١٢] فلو نصب» النُّجُوم «و» مُسَخَّراتٍ «لصار اللفظ: سَخَّرها مُسَخَّراتٍ، فيلزم التَّأكيد، فلذلك قطعهما على الأوَّلِ ورفعهما جملة مُسْتَقلَّة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة، وهو مستفيض في كلامهم، أو على إضمار فِعْلٍ قبل» والنُّجُوم «أي: وجعل النُّجوم مُسخَّراتٍ، أو يكون» مُسَخَّرات «جمع مُسَخَّر المرادُ به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنَّهُ قيل: وسخَّر لكم اللَّيْلأ، والنَّهار، والشَّمس، والقمر، والنجوم تسخيراتٍ أي أنْواعاً من التَّسْخِيرِ.
قوله:»
بأمْرِهِ «متعلق ب» مُسَخَّراتٍ « [أي] : بتيسيره وإرادته لها في ذلك، ويجوزُ أن تكون» الباءُ «للحال أي: مصاحبةً لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها، ومعنى مُسَخَّراتٍ أي: منزلات بأمره.

فصل في بيان حركة الشمس


قال ابن الخطيب: إن الشَّمْس لها نوعان من الحركة:
أحدهما: حَرَكَتُهَا بحسب ذاتِهَا، وهي إنما تتم في سَنَةٍ كامِلَةٍ وبسبب هذه الحركة تحصلُ السَّنةُ.
والنوعُ الثاني: حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم، وهذه الحركة تَتِمُّ في اليومِ بليلته.
وإذا عُرف هذا فنقول: اللَّيْلُ والنَّهَارُ لا يحصل بحركة الشَّمْس، وإنَّمَا يحصلُ بسبب حركةِ السَّماءِ الأقصى التي يقالُ لها: العَرْشُ، فلهذا السبب لمَّا ذكر العَرْشَ بقوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ ربط به قوله: ﴿يُغْشِي الليل النهار﴾ تنبيهاً على أنَّ سبب حُصُول اللَّيْلِ والنَّهارِ هو حركة الفلك الأقصى، لا حركة الشمس والقمر، وهذه دقيقةٌ عجيبةٌ.
قوله: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾.
يجوزُ أن يكون مَصْدراً على بابِهِ، وأن يكُونَ واقِعاً مَوْقِعَ المفعوُولِ به.
«لَهُ الخَلْقُ»
؛ لأنَّهُ خلقهم، و «الأمْرُ» : يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. فرّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بَيْنَهُمَا فقد كَفَرَ.
«تَبَارَكَ اللَّهُ» أي: تعالى الله وتعظم.
وقيل: ارتفع، والمباركُ: المرتفعُ.
155
وقيل: تَبَارَكَ: تَفَاعَل، من البَرَكَةِ وهي النَّمَاءُ والزِّيَادَةُ، أي: البركةُ تكسب، وتنالُ بذكْرِهِ.
وعن ابن عَبَّاسِ قال: جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ.
وقال الحسنُ: تَجِيءُ البَرَكَةُ من قِبَلِهِ.
وقيل: تبارك: تَقَدَّس، والقُدْسُ: الطهارة.
وقال المحقِّقُونَ: معنى هذه الصِّفَةِ، ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصلُ البركةِ الثُّبُوتُ ويقال: تَباركَ اللَّهُ ولا يقال: يتباركُ ولا مباركٌ؛ لأنَّهُ لم يرد به التَّوقيف.
وقوله: «رَبُّ العَالمينَ» والعالمُ: كلُّ موجود سوى الله تعالى.
156
لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ، والحكمة، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع، فقوله: «تَضَرُّعاً وخُفْيةً» نُصِبَ على الحال: أي: متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ. ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ، أي: دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ.
وقرأ أبُو بَكْرٍ: «خِفْية» بكسر الخاء، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى «خِفْيَةً» بالكسر بمعنى الخَوْفِ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها، وذلك أن «خِفْية» ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها، [ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ، وسُكِّن ما قبلها،] إلاَّ أن يقال: إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها.
وقرأ الأعمش «وخِيْفة» وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ.
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ قرأ ابن أبي عَبْلَة «إنَّ اللَّه» أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ: التَّذَلُّلُ والاستكانة، وبالخية: السِّرُّ.
156
قال الحسنُ: بين دعوة السِّرِّ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ، وما يسمع لهم صوت، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم، وذلك أنَّ الله يقول: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا، ورضي فعله فقال: ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ [مريم: ٣].
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ»، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» وروى أبو موسى الأشعريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم، فقال عليه الصَّلاة والسّلام: «ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، ولا غَائِباً، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ»
واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً، أو علانيةً؟ فقيل: الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى: ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ [مريم: ٣]، ولما تقدَّم، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء.
وقال آخرون: العانيَةُ أفضلُ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به.
وقال آخرونَ: إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية.

فصل في بيان شبهة منكري الدعاء


من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء، واحتج على صحَّة قوله بوجوه:
الأول: أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع، كان واجب الوُقُوع؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ، وإن كان معلومَ اللاوقوع؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً.
الثاني: أنَّهُ تعالى: إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه، فهو ممتنعٌ الوقوع، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ، وإن قلنا: إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه، ثم إنَّهُ
157
عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله، وفي صفاته، وهو مُحالٌ.
وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير، وهو محال.
الثالث: أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ، أو لم يُقْدِم عليه.
الرابع: أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز.
الخامس: الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ، وذلك سوءٌ أدبٍ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له، وذلك كُفْرٌ، وأنَّ اللَّه عالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ، وذلك جهلٌ.
السادس: أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات.
السابع: روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ» وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ.
الثامن: أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد، والعبدُ غذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ، وفي تعظيم المولى، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى -، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - «ادْعُ ربَّكَ»، فقال الخليل - عليه السَّلام -: «حسبي من سؤالي علمه بحالي».
والجوابُ: أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ، فإنَّهُ يقال: إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات، وإن كان شقِيّاً في علمه؛ فلا فائدة في تلك العبادات، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ
158
الإنسانُ على أكل الخُبْزِ، وشرب الماء؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ؛ فكذا فيما ذكروه، بل نقول: المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله، وعرف من ربِّه، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ، ويعلم حاجته، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
«الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ»
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل: هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ، والخير إلى العبد، والمراد ب «المُعْتَدينَ» المجاوزين ما أمِرُوا به.
قال الكلبيُّ وابن جريج: من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ.
وقال أبُو مِجْلَزٍ: هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.
روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال: يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ، وتعوَّذ به من النَّارِ، فإنِّي سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ.
وقال عَطِيَّةُ: هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ، فيما لا يحل فيقولون: «اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم».
159
يدخل فيه المنع من إفْسَادِ النُّفُوسِ بالقَتْلِ، وقطع الأعضاء، [وإفساد الأموال بالنَّهْبِ، والغصب، والسَّرِقَةِ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبِدَع] وإفساد
159
الإنسانِ بالزِّنَا واللِّواط والقَذْفِ، وإفساد العقول بشرب المُنْكَرَاتِ، فهذا النَّهْيُ يقتضي مَنْعَ إدخال ماهيَّة الفَسَادِ في الوُجُودِ بجميع أنْواعِهِ وأصنافه.
وقوله: «بَعْدَ إصلاحِهَا» يحتمل أنْ يكون المرادُ بعد أن صح خلقها على الوَجْهِ المطابق لمنافع الخَلْقِ، ويحتمل أنْ يكون المرادُ بعد إصلاح الأرْضِ ببعثة الرُّسُلِ، وإنزال الكُتُبِ، وتفصيل الشَّرَائِع.
قوله: ﴿وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً﴾.
هذانِ حالانِ، أي: ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ، أو خَائِفِينَ طامعين، أو مَفْعُولان من أجلهما، أي: لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ.
فإن قيل: قد قال في الآية الأولى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ»، ثم قال هاهنا: «وَادْعُوهُ»، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه، وهو باطل.
والجوابُ: أنَّ الَّذينَ فسروا قوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ» بأنَّ المرادَ به العِبادَة، قالوا: المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه.
وأمّا الذين قالوا: المرادُ بقوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ» هو الدُّعَاءُ قالوا: المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلاً مقروناً بالتَّضَرُّع، والأخْفَاءِ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين.
فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء.
والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته.
قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ﴾ إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبراً لمؤنث لوجوه:
منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ، فحُمِلت عليه، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ.
قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر: الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ﴾ [النساء: ٨] ولم يقل: «مِنْهَا» ؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال.
ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف، وبقيت صِفَتُهُ، والتَّقديرُ: إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ.
ومنها: أنها في معنى العفو أو المطر، أو الرحم.
ومنها: أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ، أي: ذات حيض.
ومنها: تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث
160
كجريح، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا: أسير وأسَرَاءُ، وقبيل وقُبَلاء حَملاً على رَحِيمٍ ورحماء، وعليهم وعُلَمَاء، وحكيم وحُكماء.
[ومنها: أنَّه] مصدر [جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدراً] لَزِمَ الإفراد والتذكير.
ومنها: انَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة، قاله الكَرْمَانِيُّ، وليس بجيد؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد، لا من المزيدِ فيه، ومُقَرَّبة من المزيد فيه.
ومنها: أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس.
قال بعضهم: وهو غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّماً نحو: طلع الشَّمس، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله: [المتقارب]
٢٤٨٧ -......................... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
قال شهابُ الدِّين: «وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر، بل يجيزه في السَّعَةِ».
وقال الفرَّاءُ: قريبةٌ وبعيدةٌ: إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون: فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ: فلانة قريبة وقريبٌ، وبعيدة وبعيد.
التَّقديرُ: هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد: [الطويل]
٢٤٨٨ - عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال: «هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما».
قال شِهَابُ الدِّين: وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ.
قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل]
161
٢٤٨٩ - لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وفي القرآن: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً﴾ [الأحزاب: ٦٣].
وقال أبو عبيدة: «قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً» إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال: «لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك:» إنَّ زَيْداً قريباً منك «وهذا ليس بِخَطَأ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ: زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو:» [أن قريباً] منك زيد «أن» قريباً «اسم» إنّ «، و» زيدٌ «خبرها، وذلك على الاتِّسَاع».
و «مِنَ المُحْسِنِينَ» متعلِّقٌ ب «قَرِيبٍ»، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي، وقرباً من المُسْتَقْبَل.
قال الشِّاعِرُ: [الطويل]
٢٤٩٠ - فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ
ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت، لا جرم قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قالت المعتزلةُ: العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين] فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ.
والجوابُ: أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ [يونس: ٢٦] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ.
162
في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان:
الأولُ: أنه تعالى لمّا ذكر دَلاَئِلَ الإلهيَّةِ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ، وهو السَّموات والشَّمْسُ، والقمر، والنُّجُوم، أتبعه بذكر الدَّلائل من أحوال العَالمِ السُّفْلِيّ.
واعلم أنَّ أحوال هذا العالم محصورةٌ في أمور أربعة: الآثار العُلْويَّة، والمعادن، والنَّبَات، والحيوان، ومن جملة الآثار العلويَّة: الرياحُ السَّحَابُ والأمطار، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النَّبَات، وهو المذكور في هذه الآية.
الثاني: أنَّهُ تعالى لمَّا أقاَمَ الدَّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادِرِ العالم الحكيم؛ أقَامَ الدَّلالة في هذه الآية على صِحَّةِ القول بالحشر، والنَّشْرِ، والبعث، والقيامة ليحصلَ بمعرفة هايتن الآيتين كلُّ ما يحتاج إليه في معرفة المَبْدَأ والمعاد.
قوله: «الرِّيَاح بُشْراً» قد تقدَّم خلاف القرَّاءِ في إفراد «الرِّيحِ» وجمعها بالنِّسْبَة إلى سائر السُّور في البقرة.
وأمّا «بُشْراً» فقأه في هذه السّورة - وحيث ورد في غيرها من السُّورِ - نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشِّين، وهي قراءة الحسنِ وأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ، وأبي رجاء بخلاف عنهم، وشَيْبَةَ بْن نصَاحٍ وعيسَى بْنِ عُمر وأبِي يحيى، وأبي نَوْفَلٍ الأعْرَابيَّيْنِ. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّلَ فيها ستَّةُ أوْجُه:
أحدها: أن «نُشُراً» جمع نَاشِرٍ ك «بازل» و «بُزُلٍ» و «شَارِفٍ» و «شُرُفٍ» وهو جمع شاذٌّ في فاعل.
ثم «نَاشِرٌ» هذا اختلف في معناه فقيل: هو على النَّسَبِ: إمَّا إلى النِّشْر ضدَّ الطيِّ، وإمَّا إلى النُّشُورِ بمعنى الإحياء كقوله: ﴿وَإِلَيْهِ النشور﴾ [الملك: ٢٥]، والمعنى: ذا نَشْرٍ، أو نشورٍ ك «لابنٍ» و «تَامِرٍ».
وقيل: هو فاعل من نَشَرَ مطاوع أنْشَرَ يُقال: أنْشَرَ اللَّهُ الميِّتَ، فَنَشَرَ فهو نَاشِرٌ، وأنشد: [السريع]
163
وقيل: ناشرٌ بمعنى مُنِشِرٌ أي: المُحْيي تقول: نَشَرَ اللَّهُ الموتى وأنْشَرَهَا، ففعل وأفْعل على هذا بمعنى واحد، وهذه الثَّالِثَةُ ضعيفة.
الوجه الثاني: أنَّ نُشُراً نَشُور، وهذا فيه احتمالان:
أرجحهما: أنَّهُ بمعنى فاعل، وفعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور، وصُبُر، وشكور، وشُكُر أي متفرقة، وهي الرِّيَاحُ التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق، ومنه نَشْرُ الثَّوْبِ، ونشر الخَشَبةِ بالمِنْشَارِ.
وقال الفراءُ: «النَّشْرُ من الرِّيح الطيِّبة اللينَةِ التي تنشىء السَّحاب، واحدها نُشُورٌ، وأصله من النَّشْرِ وهو الرَّائِحَةُ الطيِّبَةُ.
والثاني: أنَّهُ بمعنى مفعول كَرَكُوبٍ وحلوب بمعنى مَرْكوب ومَحْلُوبٍ قالوا: لأنَّ الرِّيح تُوْصَفُ بالمَوْتِ وتوصفُ بالإحياء فمن الأوَّل قوله: [الرجز]
٢٤٩١ - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأوْا يَا عَجباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
٢٤٩٢ - إنِّي لأرْجُو أنْ تمُوتَ الرِّيحُ فأقْعُدُ اليَوْمَ وأسْتَرِيحُ
ومن الثاني قوله:» أنْشَر الله الرِّيحَ وأحْيَاهَا «وفعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُلٍ.
وبهذا قال جماعةٌ كثيرةٌ، إلا أنَّ ذلك غير مقيس في المُفْرَدِ وفي الجمع، أعني أنه لا يَنْقَاسُ فعول بمعنى مفعول لا تقُولُ: زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول، ولا ينقاسُ أيضاً جمع فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل. فَحَصَلَ في هذه القراءة ستَّة أوْجُهٍ:
الأول: أنَّها جمع لناشرٍ بمعنى: ذا نشر ضدَّ الطيِّ.
الثاني: جمع ناشِرُ بمعنى: ذي نشور.
الرابع: جمع ناشر بمعنى مُنْشِرٍ.
الخامس: جمع نُشورٍ بمعنى: فاعلٍ.
السادس: جمع نُشورٍ بمعنى: مَفْعول.
وقرأ ابن عامر بضمِّ النُّون وسكون الشين، وهي قراءة ابن عبَّاس، وِزرِّ بين حُبَيْشٍ، ويحيى بن وثَّابٍ، والنَخَعيِّ وابن مصرف، والأعمش، ومَسْرُوقٍ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها، فإنَّهَا مخفَّفة منها، كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب،
164
فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ: عُنْقٌ، وفي طُنُبٍ: طُنْبٌ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخوان: «نَشْراً» بفتح النُّونِ وسكون الشِّين، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة، أو منشورة، أو ذاتُ نَشْرٍ [كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره.
وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل، وأنْشَرَ متقاربان.
وقيل: نَشْراً] مصدر على حذف الزَّوائد أي: إنشاراً، وهو واقع موقع الحال أي: مُنْشِراً، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك.
وقرأ عَاصِمٌ: «بُشْراً» بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر. وقيل: جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] أي تبشّرُ بالمطر، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في «النُّشُر»، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا بضمِّهَا، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع.
والخامسة: ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه.
وقرأ مسورق: «نَشَراً» بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان:
أحدهما: نقله أبُو الفتحِ: أنَّهُ اسم جمعٍ ك «غَيَب» وَ «نشأ» لغائبة وناشئَةٍ.
والثاني: أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ.
وقرأ أبُو عبد الرحمن: «بَشْراً» بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر «بَشَر» ثلاثياً.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «بُشْرى» بزنة رُجْعَى، وهو مصدر أيضاً، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ:
أربع مع النُّونِ، وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً.
165
وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من «الرِّياح» أو «الرِّيح» حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ، وما يشبهها.
وأمَّا في قراءة الأخوين، ومسروق فيحتمل المصدريَّة، أو الحاليَّة، وكلُّ هذا واضح، وكذلك قراءة «بُشْرَى» بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر، وهو أنَّ من قرأ «الرِّياح» بالجمع وقرأ «نُشْراً» جمعاً كنافع، وأبي عمرو فواضح.
وأما من أفرد «الرِّيح» وجمع «نُشْراً» كابن كثير، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس، فهي جمع في المَعْنَى، فوصفها بالجمع كقول عنترة: [الكامل]
٢٤٩٣ - فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ
والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل «يُرْسلُ»، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم.

فصل


روى أبو هريرة قال: أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ، وعمر حاجٌّ فاشتدت، فقال عُمَرُ، لمن حوله: ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر، فكنت في مُؤخَّر النَّاس، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ، إنِّي سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: الرِّيحُ من روح الله، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ، فلا تَسبُّوهَا، وسلُوا الله من خَيْرِهَا، وتعوَّذُوا به من شرِّها.

فصل في ماهية الريح.


قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرِّيحُ: هواء متحرك، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته، ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى.
166
وقالت الفلاسفةُ: هاهنا سَبَبٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ يرتفعُ من الأرضِ أجزاءٌ أرضيَّةٌ لطيفةٌ، تسخنه تَسْخِيناً فبسبب تلك السُّخُونَةِ الشَّديدة ترتفعُ وتتصاعَدُ، فإذا قربت من الفلك، كان الهواءُ ألْصَقَ بمقعرِ الفلكِ، مُتحرِّكاً على استدارة الفلكِ بالحركةِ المستديرةِ التي حَصَلَتْ لتلك الطبقة من الهواءِ، فيمنع هذه الأدْخِنَة من الصُّعُودِ، بل يردها عن سمتِ حركتِهَا، فحينئذٍ ترجعُ تلك الأدْخِنَةُ، وتتفرق في الجوانبِ، وبسبب ذلك التَّفَرُّق تحصلُ الرِّيَاحُ ثمَّ كلما كانت تلك الأدْخِنَةُ أكثر، كان صعودها أقْوَى، وكان رجوعها أشدَّ حركةً، فكانت الرِّياحُ أقْوَى وأشَدّ، هذا حاصلُ ما ذَكَرُوهُ، وهو بَاطِلٌ لوجوهٍ:
الأول: أنَّ صعُودَ الأجْزَاء الأرضيَّةِ إنَّمَا يكون لشدَّةِ تسخينها وذلك التسخينُ عَرَضٌ؛ لأنَّ الأرْضَ باردةٌ يابسة بالطَّبْعِ، فإذا كانت الأجزاءُ الأرضيَّةُ متصَعِّدَة جداً كانت سريعة الانفصار فإذا تَصَاعَدَتْ ووصلت إلى الطِّبَقَةِ الباردة من الهواء؛ امتنع بقاءُ الحرارةِ فيها، بل تبرد جداً؛ امتنع بلوغها في الصُّعُود إلى الطبقةِ الهوائيَّةِ المتحركة بحركة الفلكِ فَبَطَلَ ما ذكروه.
الثاني: إذا ثَبَتَ أنَّ تلك الأجزاء الدُّخانيَّة، صعدتْ إلى الطَّبقة الهوائيَّةِ المتحرّكَةِ بحركة الفلكِ، لكنها لمّا رَجَعَتْ، وجب أن تنزل على الاسْتِقَامَةِ، لأنّ الأرْضَ جسم ثقيلٌ، والثَّقِيلُ إنام يتحرك بالاستقامَةِ، والرِّيَاحُ ليست كذلِكَ، فإنَّهَا تتحرك يُمْنةٌ ويُسْرَةٌ.
الثالث: أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ، وتهدمُ [الجِبَالَ]، وتموجُ البِحَارَ.
الرابع: لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ.
وقال المُنَجِّمُونَ: إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح، وتوجبُ هبوبَها، وذلِكَ أيضاً بعيد؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك.
167
وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى: «نشراً» أي مُنَشَّرَةً متفرقةً، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ.
قوله: «بَيْنَ» : ظَرْفٌ ل «يُرْسِلُ»، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه، له عندي أيادٍ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل: قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ، فنقول: ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها.
قوله: ﴿حتى إِذَآ أَقَلَّتْ﴾ غاية لقوله: «يُرْسِلُ»، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي: حملته بسهُولَةٍ.
قال صاحبُ «الكشَّافِ:» واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها.
وتقدَّم تفسير «السَّحابِ»، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله: «سُقْنَاهُ». ولو حمل على المعنى كما حمل قوله «ثِقَالاً» فجُمِعُ لقال: «سُقْنَاهَا».
و «لِبَلَدٍ» جعل الزَّمَخْشَرِيُّ «اللاَّم» للعلَّةِ، أي: لأجل.
وقال أبُو حيَّان: فرقٌ بين قولك: سقتُ له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له، فقد يسوق المال لغير لأجلي، وهو واضح.
وقيلك هذه اللامُ بمعنى «إلى»، يقال: هَدَيْتُهُ للدِّين، أو إلى الدِّين. وتقدَّم الخلافُ
168
في تخفيف «مَيِّتٍ» وتثقيله في آل عمران وجاء هنا وفي الروم [٤٦] ﴿يُرْسِلُ﴾ بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله، فإنَّ قبله: «ادْعُوهُ خَوْفاً» وهو مستقبلَ، وفي الروم [٤٥] :﴿لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ﴾، وهو مستقبل.
وأمَّا في الفرقان: [٤٨] وفاطر [٩] فجاء بلفظ الماضي: «أرْسَلَ» لمناسبة ما قَبْلَهُ وما بعدهُ في المضي؛ لأنَّ قبله: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل﴾ [الفرقان: ٤٥]، وبعده: ﴿مَرَجَ البحرين﴾ [الفرقان: ٥٣]، فناسب ذلك الماضي، ذكره الكَرْمَانِيُّ.
والبلد يطلق على كلِّ جُزْءٍ من الأرْضِ، عامِراً كان، أو خراباً، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى: [البسيط]
٢٤٩٤ - وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ لِلجِنِّ باللَّيْلِ في حَافَاتِهَا زَجَلُ
قوله: «فَأنْزَلْنَا بِهِ» الضَّميرُ في «به» يعود على أقرب مذكورٍ، وهو «بَلَدٍ مَيّتٍ»، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ.
وقيل: الضَّميرُ يعود على «السَّحَابِ»، ثم في «البَاءِ» وجهان:
أحدهما: هي بمعنى «مِنْ» أي: فأنزلنا من السَّحَابِ الماء.
والثاني: أنَّهَا سببيَّةٌ أي: فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ.
وقيل: يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و «الباءُ» سببية أيضاً [أي] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ.
قوله: «فَأخْرَجْنَا بِهِ» الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها، وهو العودُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه.
وقوله: ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ «من» تبعيضية، أو ابتدائية، وقد تقدم نظيره.

فصل


اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد.
أحدها: أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ.
169
وثانيها: أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء.
وثالثها: أن بسب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع غلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ.
ورابعها: أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ.
وخامسها: أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ، وتارةً تكونُ مبطلة لها، كام تكونُ في الخريف.
وسادسها: أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان، وتارةً تكون مُهْلِكَة: إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة.
وسابعها: أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [تارةً] شرقيَّةً، وتارة غربيَّة، وشماليَّةً، وجنوبيَّةً، كذا ضبطه بعض النَّاسِ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ.
وثامها: أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ.
وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ: أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ، والعَقِيمُ، وأربعٌ منها رحمة وهي: النَّاشِرَاتُ، والمبشّرَاتُ، والمُرْسلاتُ، والذَّارِيَاتُ.
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأهْلِكَ عادٌ عادٌ بالدَّبُّورِ» و «الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ».
وعن كعب: لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ.
وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ، فتأتي بالسَّحَابِ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في
170
السَّمَاءِ كيف يشَاءُ، ثم يفتح أبوابَ السَّمَاءِ فيسيلُ الماءُ على السَّحابِ، ثم يُمْطِرُ السَّحَابُ بعد ذلك، ورحمته هو المَطَرُ.
وإذا عُرف ذلك فنقولُ: اختلاف الرّياحِ في الصِّفات المذكورَةِ مع أنَّ طبعها واحد، وتأثيرات الطَّبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدلُّ على أنَّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المُخْتَارِ.
قوله: «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف، أي: يُخْرج المَوْتى إخْرَاجاً كإخْراجِنَا هذه الثَّمَرَاتِ، وفي هذا التَّشبيه قوان:
الأول: أنَّ المَعْنَى كما خلق الله - تعالى - النَّبَاتَ بالأمطار، فكذلك يحيي الموتى بمِطِرٍ ينزله على الأجْسَادِ الرَّميمة.
قال أبُو هُريْرَةَ وابن عباس: إذا مَاتَ النَّاسُ كلُّهم في النَّفْخَةِ، أرسل اللَّهُ عليهم مَطَراً كمنيِّ الرِّجالِ من ماء تَحْتَ العَرْشِ يدْعَى ماءُ الحيوانِ، ينبتون في قُبُورِهِم نبات الزَّرْعِ، حتى إذا استكملت أجْسَادهم نفخ فيه ارُّوح، ثم يلقى عليهم نومة فينامُونَ في قبورهم، ثم يُحْشَرُونَ بالنَّفْخَةِ الثَّانية، وهم يجدون طعم النَّوْم في رُءُوسهم وأعينهم، فعند ذلك يَقُولُونَ:
﴿ياويلنا
مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾
[يس: ٥٢].
الثاني: أن [هذا] التَّشْبِيه إنَّمَا وقع بأصل الإحْيَاء، والمعنى: أنَّهُ تعالى أحيى هذا البَلَدَ بعد خَرَابِهِ، فأنبت فيه الشَّجَرَ فكذلك يحيى الموتى بعد أن كانوا أمْواتاً؛ لأنَّ من قدر على إحداث الجسم، وخلق الرُّطُوبَةِ والطعم فيه، يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميِّتِ.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ الذَّاهبين إلى القولِ الأوَّلِ إن اعتقدوا أنَّهُ لا يمكن بَعْث الأجْسَادِ، إلا بأنْ يمطر على تلك الأجساد البَاليةِ مَطَراً على صفة المَني فقد بعدوا؛ لأنَّ القادر على أنْ يحدث في ماء المطر صفة، تصير باعتبارها منيّاً، لم لا يَقْدِرُ على خلق الحياةِ في الجِسْم؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل، إلا أنَّ أجزاء الأمْوات متفرقة، فبعضها بالمَشْرِقِ وبعضها بالمغربِ، فمن أين ينفعُ ذلك المَطَرُ في توليد تلك الأجْسَام؟
فإن قالوا: إنَّهُ تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجْزَاءَ المتفرّقَةَ، فَلِمَ لمْ يقُولوا: إنَّهُ بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجْزاء المتفرقة ابتداءً من غير واسطة ذلك المطر؛ وإن اعتقدُوا أنه تعالى قادر على إحياء الأمْواتِ ابتداءً، إلا أنه تعالى إنَّمَا يحييهم على هذا الوَجْهِ، كما أنَّهُ قادرٌ على خلق الأشخاص في الدُّنْيَا ابتداءً إلا أنَّهُ أجرى عادته بأنَّهُ لا يخلقهم إلاَّ من أبوين، فهذا جَائِزٌ.
171
ثم قال تعالى: ﴿لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي: أنكم لما شاهدتم أنَّ هذه الأرض كانت مزيَّنَة وقت الرَّبيع والصَّيْفِ بالأزهار والثِّمار، ثم صارت عند الشِّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة، ثم إنَّهُ تعالى أحياها مرَّةً أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يَجِبُ أن يكون قَادِراً على إحياء الأجساد بَعْدَ موتها أيضاً.
172
قيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِر بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَةِ، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر.
وقيل: المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى.
قوله: «بإِذْنِ رَبِّهِ» يجوزُ أن تكون «الباء» سببية أو حالية وقرىء: «يُخْرِجُ نَبَاتَهُ»، أي: يخرجه البلد وينبته.
قوله: «والَّذِي خَبُثَ» يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها.
يقال: خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً.
قال الفراء: قوله: «إلاَّ نَكِداً» فيه وجهان:
أحدهما: أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً. نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ، فهو نِكدٌ بالكسر.
والثاني: أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلاخروجاً نَكداً، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ: «إلاَّ نَكَداً» بفتح الكاف.
قال الزَّجَّاج: وهي قراءة أهْلِ المدينةِ، وقراءة ابن مصرِّف: «إلا نَكْداً» بالسُّكُونِ وهما مصدران.
172
وقال مكيٌّ: «هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف».
يقال: رجل نَكِد، وأنْكَد، والمَنْكُود: العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [في ذلك] :[السريع]
٢٤٩٥ - وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّيباً لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ
وأنشدوا: [المنسرح]
٢٤٩٦ - لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدا
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بْن عُمَرَ: «يُخْرَج» مبنيّاً للمفعول، «نَبَاتُه» مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل، وهو الله تعالى.
وقوله: «والَّذِي خَبُثَ» صفة لموصوف محذوف، أي: والبلد التي خَبُثَ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله: «بإِذْنِ ربِّهِ»، إذ التقديرُ: والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً. ولا بدَّ من مضاف محذوف: إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ: ونبات الذي خبُث لا يخرج، وإمَّا من الثَّاني تقديره: والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً، وغاير بين الموصُوليْنِ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ، وفي الثَّاني جاء بالذي، ووُصِلَتْ بفعل ماض.
قوله: «كَذَلِكَ» تقدم نظيره.
﴿نُصَرِّفُ الآيات﴾. قرئ: «يُصرِّفُ» أي يصرفها الله، وختم هذه الآية بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ ؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة، ويجعلها سبباً لنزول المطر، الذي هو الرَّحمة، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمةِ إلى العبادِ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصَّها بكونها آيات للشَّاكرين؛ لأنَّهُم المنتفعون بها، كقوله:
﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
173
روى أبُو بُرْدَةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: مثل ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصَابَ أرضاً، فَكَانَ مِنْهَا بُقْعَة قَبِلتِ الماءَ، فأنْبَتَت الكَلأ والعُشُبَ الكثيرَ، وكانَ مِنْهَا أجَادبُ أمسكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ به النَّاس فَشَرِبُوا وسَقَوْا من فقههُ في دين اللَّهِ، ونَفَعَهُ بما بعثني اللَّهُ به فعلم وعلَّمَ، ومثل من لم يَرْفَعْ بذلك رَأساً ولمْ يَقْبْلْ هدى الله الذي أرْسِلْتُ بِهِ.
174
لمَّا قرر المعاد بالدَّليل الظَّاهِرِ أتبعه بذكْرِ قَصَصِ الأنْبِياء لفوائد:
أحدها: التَّنبيه على أنَّ إعراض النَّاسِ عن قبول الدلائل والبينات ليس مَخْصوصاً بِقَوْم مُحَمَّد - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - بل هذه العادَةُ المذمُومَة كانت حاصلة في جميع الأمَم السَّابقة، والمصيبة إذا عمَّت خَفَّت، ففي ذِكْرِ قَصَصِهم تسلِيَة للرَّسُولِ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - وتخفيف عن قَلْبِهِ.
وثانيها: أنَّهُ تعالى يحكي في هذه القَصَصِ أنَّ عَاقِبَة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللّعْنِ في الدُّنْيَا، والخسارة في الآخِرَةِ، وعاقبة أمر المحقّين [إلى الدَّوْلَةِ في الدُّنْيَا، والسَّعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المُحِقِّين]، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها: التنبيه على أنَّهُ تعالى، وإن كان يمهل المبطلين لكنَّهُ لا يُهْمِلُهُمْ بل يعاقِبُهُم، وينتقمُ منهم.
ورابعها: بيان ما في هذه القصص من الدّلالةِ على نُبُوَّةِ محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأنَّهُ كان أميّاً، لم يطالع كتاباً، ولا تَلْمَذَ لأستاذن فإذا ذكر هذه القصص من غير تحريف ولا خطأ دَلَّ ذلك على أنَّهُ عرفها بوحي من الله تعالى.
قوله: «لقد أرْسَلْنَا» جواب قسم محذوف تقديره: «والَّه لقد أرْسَلْنَا».
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللاَّم إلاَّ مع «قَدْ»، وقلَّ عنهم قوله: [الطويل]
174
٢٤٩٧ - حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ... لَنَامُوا...........................
قلتُ: إنَّمَا كان ذلك؛ لأنَّ الجملة القسميَّة لا تساقُ إلا تأكيداً للجملةِ المُقْسَم عليها، التي هي جوابها، فكانت مَظَنَّةً لمعنى التَّوَقُّعِ الذي هو معنى «قَدْ» استماع المخاطب كلمة القسم.
وأما غير الزَّمَخْشَريِّ من النُّحَاةِ فإنَّهُ قال: إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً: فإمَّا أن يكُونَ قريباً من زمن الحال فتأتي ب «قَدْ» وإلاَّ أتيت باللاَّم وَحْدَهَا فظاهر هذه العبارة جواز الوَجْهَيْنِ باعتبارَيْنِ.
وقال هناهنا: «لقد» من غير عاطف، وفي «هود» [٢٥] و «المؤمنين» [٢٣] : ولقد بعاطف، وأجاب الكَرْمَانيُّ بأن في «هود» قد تقدَّم ذكر الرَّسولِ مرَّات، وفي «المؤمنين» ذكر نُوحٍ ضِمْناً في قوله ﴿وَعَلَى الفلك﴾ [غافر: ٨٠] ؛ لأنَّهُ أوَّلُ من صنعها، فحسن أن يُؤتى بالعاطف على ما تقدَّمن بخلافِهِ في هذ السُّورةِ.

فصل


هو نُوحُ بْنُ لملك بْنِ متوشلح بْنِ اخنوخ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس.
وقال القُرْطُبِيُّ: «وهو أوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بعد آدم بتحريم النبات والعمَّاتِ، والخالاتِ، وكان نَجَّاراً، بعثَهُ اللَّهُ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة».
وقال مُقَاتِلٌ: «ابن مِائَةِ سَنَةٍ».
قال النَّحَّاسُ: «وانصرف؛ لأنَّهُ على ثلاث أحرف».
وقال ابن عباس: «سُمِّي نوحاً لكثرة نَوْحِهِ على نَفْسِهِ».
واختلفُوا في سبب نَوْحِهِ، قال بعضُهُم: لدعوته على قومه بالهلاكِ، وقيل: لمراجعته رَبَّه في شأنِ ابنه كَنْعَانَ.
175
وقيل: لأنَّهُ مرّ بكلب مَجْذُومٍ فقال: اخْسَأ يا قبيحُ يا كَلْبُ، فأوْحَى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب.
قال ابن عباس: «معنى أرْسَلْنَا: بَعَثْنَا».
وقال آخرون: معنى الإرسال أنَّهُ تعالى حمَّلُهُ رسالة يُؤدِّيهَا، فارِّسَالةُ على هذا التَّقديرِ تكون متضَمِّنَةً للبعث، فيكونُ البعث كالتَّابشع لا أنَّهُ الأصلِ.
قوله: «فقال يا قوم اعْبُدُو الله» جيء هنا بفاء العطف في قوله: «فَقَال»، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هودٍ وصالحٍ وشُعَيْبٍ هنا بغير فِاء، والأصلُ الفاء، وإنَّمَا حذفت تَخْفيفاً، وتوسعاً [و] اكتفاء بالرّبْطِ المَعْنَوِيِّ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى. وأما في هود فيقدَّر قبل قوله: «إنّي لَكُمْ» :«فقال» بالفَاءِ على الأصْلِ.
وجاء هنا: ﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ فلم يعطف هذه الجملة المنفيَّةِ بفاءٍ ولا غيرها، لأنَّهَا مبنية ومثبتة على اختَصَاصِ اللَّهِ - تعالى - بالعبادةِ ورفض ما سواه، فكانت في غايةِ الاتِّصال فقال: يا قَوْمِ اعبدُوا الله.

فصل في بيان نسب «نوح»


قال ابن العربيِّ: ومن قال: إن إدْرِيسَ كان قبل نوح فقد وهمَ، بدليل حديث الإسْرَاءِ الصَّحيحن حين لَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آدمَ وإدريس، فقال له آدمُ: مرحباً بالنَّبِيِّ الصالح والابن الصالحن وقال له إدريس: مرحباً بالنَّبيِّ الصَّالح، والأخ الصَّالح فلما قال له: «والأخ الصالح» دلَّ على أنَّهُ يجمع معه في نُوح.
قال القَاضِي عياضٌ: جواب الآبَاء هناهنا كَنُوحٍ، وإبراهيم وآدم: مرحباً بالابن الصالح، وقال عن إدريس: بالأخ الصالح كما ذكر عن مُوسَى وعيسى، ويوسف [وهارون ويحيى ممَّنْ ليس بأبٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باتِّفَاقٍ].

فصل في بيان أجناس البشر


قال القُرْطُبِيُّ: ذكر النَّقَّاشُ عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنَّ العربَ، وفارسَ والرُّومَ، وأهلَ الشَّامِ واليمن من ولد سام بن نوح، والهند والسِّنْد والزِّنْج، والحبشَة والزُّطّ والنُّوبة وكل جِلْدٍ أسْوَدَ من ولد حامٍ، والترْك، والبربر ووراء النهر والصين، ويأجوج ومأجوج والصَّقَالِبَة من ولد يافثِ بن نُوحٍ، والخلق كلهم ذُرية نُوحٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
176
قوله: ﴿ما لكم من إله غيره﴾
قرأ الكِسَائِيُّ «غيره» بخفض الرَّاءِ في جميع القُرآنِ، والباقون برفعها، وقرأ عيسى بْنُ عمرَ بنصبها، فالجرُّ على النَّعْتِ والبَدَلِ من موضع «إله» ؛ لأن «مِنْ» مزيدة فيه، وموضعه رفع: إما بالابتداء، وإمَّا بالفاعليةَّ، ومنع مكيٌّ في وجه الجرِّ أن تكون بدلاً من إله على اللَّفْظِ، قال: كما لا يَجُوزُ دخول «مِنْ» لو حذفت المبدل منه؛ لأنّضاه لا تدخل في الإيجابِ، وهذا كلام متهافت.
والنَّصْبُ على الاستِثْنَاءِ، والقراءتانِ الأوليانِ أرجح؛ لأنَّ الكلام متى كان غير إيجاب، رجَّح الاتباع على النَّصْبِ على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد «إلاَّ»، و «مِنْ إلهٍ» إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ «لَكُمْ».
والثاني: أنَّهُ محذوف، أي: ما لكم من إله في الوجود، أو في العالم غير الله، و «لَكُمْ» على هذا تخصيص وتبيين.

فصل فيما تضمنته الآية من حذف


قال الواحِدِيُّ: «في الكلام حذفٌ، وهو خبر ما؛ لأنَّكَ إذا جعلت غيره صفة لقوله:» إله «لم يبق لهذا المنفي خبر، والكلامُ لا يستقِلُّ بالصِّفةِ والموصوف، فإنَّكَ إذا قلتَ: زيدٌ العاقلُ وسكتَّ لم يُفِدْ ما لم تذكر خبره ويكون التَّقْدِيرُ: ما لكم من إله غيره في الوجود».
قال ابن الخطيب: اتَّفَقَ النَّحويُّونَ على أنَّ قولنا: «لا إله إلا الله» لا بد فيه من إضمار، والتَّقْديرُ: لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله، ولم يذكروا على هذا الكلام حجَّةً، فنقولُ: لِمَ لا يجوز أن يقال: دخل حرف النَّفي على هذه الحقيقةِ وعلى هذه الماهِيَّةِ، فيكون المعنى أنَّهُ لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقِّ الله تعالى، وإذا حملنا الكلامَ على هذا المعنى استغنينا عن الإضْمَارِ الذي ذكروه.
فإنْ قالوا: صرف النفي إلى الماهِيَّةِ لا يمكنُ؛ لأنَّ الحقائِقَ لا يُمْكِنْ نَفْيُهَا، فلا يمكن أن يُقَال: لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهِيَّةِ، وإنَّمَا الممكن أن يقال: إنَّ تلك
177
الحَقَائِقَ غيرُ موجودة، ولا حاصلة، وحينئذٍ يجب إضمار الخبر فنقول: هذا الكلامُ بِنَاءٌ على أنَّ الماهيَّة لا يمكن انتِفَاؤُهَا وارتفاعها، وذلك بَاطِلٌ قطعاً، إذ لو كان الأمر كذلك؛ لوَجَبَ امتناعُ ارتفاع الوُجُودِ؛ لأنَّ الوُجُود أيضاً حقيقة من الحقائق، وماهيّة من المَاهِيَّات؛ فوجب ألاَ يرتفعَ الوُجودُ أيضاً، فإن أمكن ارتفاع الوُجُودِ مع أنَّهُ ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكنُ ارتفعُ سائر الماهيَّاتِ.

فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله


دلَّ ظَاهِرُ الآيةِ على أنَّ الإله هو الذي يستحقُّ العبادة؛ لأن قوله: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ إثبات ونفي، فيجب أن يتواردا على مَفْهُوم وَاحِدٍ حتى يستقيم الكلامُ، فكان المَعْنَى: اعبدوا الله ما لكم من معبودٍ غيره، حى يَتَطابَقَ النَّفي والإثبات، ثم ثبت بالدَّليل أنَّ الإله ليس هو المعبود، وإلاَّ لوجب كونُ الأصنام آلهة، وألاَّ يكون الإله إلهاً في الأزَلِ، لأنَّهُ في الأزَلِ غير معبود، فوجب حملُ لفظ الإله على أنَّهُ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ.
قوله: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
اختلفوا في معنى قوله: ﴿إني أَخَافُ﴾ هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنِّ والشكِّ؟ فقيل: المرادُ: الجزم واليقين؛ لأنَّهُ كان جازماً أنَّ العذابَ ينزل بهم: إمَّا في الدُّنْيَا، وإمَّا في الآخرة، إن لم يَقْبَلُوا الدَّعْوَة.
وقيل: بل المرادُ منه الشَّكُّ لوجوه:
[أحدها] : إنَّمَا قال: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ ؛ لأنَّهُ جوَّزَ أن يؤمنوا، وأن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التَّجْويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب، فهذا قال: «أخَافُ عَلَيْكُمْ».
وثانيها: أنَّ حُصُولَ العذاب على الكُفْرِ والمعصية أمْرٌ لا يعرف إلا بالسَّمْع، فَلَعَلْ الله - تعالى - ما بيّن له كيفيَّة هذه المسألة، فلا جرم جوَّزَ أنَّ الله - تعالى - هل يعاقبهم أم لا؟.
وثالثها: يحتمل أنْ يكُون المرادُ من الخَوْف الحذر، كقوله في الملائكة: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن﴾ [النحل: ٥٠] أي يحذرون المعاصي خَوْفاً من العقاب.
ورابعها: أنهُ بتقدير أن يكُون قاطعاً بنُزُولِ العذابِ لكنَّهُ ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشَّكُ راجعاً إلى وصف العذاب لا في أصْلِ حصولهِ، والمراد بذلك العذاب إمَّا عذاب يوم القيامة، أو عذابُ الطُّوفان.
فإن قيل: إنه تعالى حكى عن نُوحٍ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هذه الآية أنَّهُ أمر قومه بثلاثَةِ أشياء:
178
الأوَّلُ: أمرهم بعبادة الله، والمقصودُ منه إثبات التَّكليف.
الثاني: أنَّهُ حكم أن لا إله غَيْرُ الله، والمقصودُ منه الإقرار بالتَّوْحيد، ثم قال عقيبَهُ: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وهذا هو الدَّعوى الثَّالثة، وعلى هذا التَّقديرِ فقد ادَّعى الوحي والنُّبوَّةَ من عند اللَّه، ولم يذكر على صِحَّةِ واحد منها دليلاً ولا حجَّةً، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التَّقْلِيد فهذا باطل؛ لأنَّ الله - تعالى - مَلأَ القرآنَ من ذمِّ التقليد، فكيف يليق بالرَّسُول المعصوم الدَّعوةُ إلى التقليد؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدَّليل، فهذا غير مذكور.
فالجوابُ: أن الله - تعالى - ذكر في أوَّلِ السُّورةِ دلائلَ التَّوحيد والنُّبوَّةِ وصحَّةِ المعاد، وذلك تنبيه منه تعالى على أنَّ أحداً من الأنبياء لا يدعو إلى هذا الأصُولِ إلا بذكر الحُجَّةِ والدَّلِيل أقصى ما في البابِ أنَّهُ تعالى ما حكى عن نُوحٍ في هذا المقام ذكر تلك الدَّلائل لما كانت معلومة.
قوله
179
: «قَالَ المَلأ».
قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر: «المَلَؤُ» بواوٍ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةٌ عنه قال المفسِّرُونَ: الملأ: الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء، ويدلُّ على ذلك قوله: «مِنْ قَوْمِهِ» ؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ.
قوله: «إنَّا لَنَرَاكَ» يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما «في ضلالِ»، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ، وزادوا في المبالغة أكَّدثوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة ب «إنَّ» وفي خبرها اللاَّم.
وقوله: ﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾ الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق.
فإن قيل: قولهم: إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال: ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله ﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾.
179
فالجوابُ أنَّ قوله: ﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾ من أحسن الردِّ وأبلغه؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ، فكان المعنى: ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال: لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى.
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور:
أحدها: أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ: والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ، فيكونُ التَّكليف عبثاً، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ.
وثانيها: أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا: ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به، وإذا كان رسولُ العقل كافياً، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر.
وثالثها: أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول، فإرسال الملائكة أولى؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ، وطهارتهم أكملُ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ.
ورابعها: اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها.
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ جاءت «لَكِنَّ» هنا أحسن مجيء؛ لأنَّها بين نقيضين؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ: ضلال، أو هدى، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال.
و «مِنْ رَبِّ» صفة ل «رَسُول»، و «مِنْ» لابتداء الغاية المجازية.
180
وقوله :﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾ الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق.
فإن قيل : قولهم : إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله ﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾.
فالجوابُ أنَّ قوله :﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾ من أحسن الردِّ وأبلغه ؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال : لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى.
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور :
أحدها : أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ : والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد ؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة، وما يوحي فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ، فيكونُ التَّكليف عبثاً، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ.
وثانيها : أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا : ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به، وإذا كان رسولُ العقل كافياً، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر.
وثالثها : أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول، فإرسال الملائكة أولى ؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ، وطهارتهم أكملُ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ.
ورابعها : اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها.
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله :﴿ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ جاءت " لَكِنَّ " هنا أحسن مجيء ؛ لأنَّها بين نقيضين ؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ : ضلال، أو هدى، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال.
و " مِنْ رَبِّ " صفة ل " رَسُول "، و " مِنْ " لابتداء الغاية المجازية.
قوله: «أبَلَّغُكُمْ» يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولاً، ويجوز أن تكون صفةً ل «رَسَولِ»، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال: أبَلِّغُكُمْ، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال: يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان:
180
مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ، وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول: أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة ل «أنا»، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ، ومثله: أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة.
وقرأ أبو عَمْرو: «أبْلِغُكُمْ» بالتَّخفيف، والباقون بالتَّشديدِ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ، ونَزَّلَ، وجمع «رسالة» باعتبار أنواعها من أمر ونهي، ووعظ، وزجر، وإنذار، وإعذار، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ﴾ [هود: ٥٧] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو، وجاء على فعَّل في قوله: ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة.
واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة، وهو أمران: أن يبلغ الرِّسالة، وتقدرير النَّصِيحَةِ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه: أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه، وأوامره، ونواهيه، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ، وتحذيرهم عن المعاصي.
قوله: «وأنْصَحُ لَكُمْ».
قال الفرَّاءُ: العربُ لا تَكَادُ تقُولُ: نصحتك، إنَّمَا يقولون: نصحتُ لك، ويجوز أيضاً: نَصَحْتُكَ.
قال النابغة: [الطويل]
٢٤٩٨ - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحِي وسُؤلِي، وَلَمْ تَنْجَحْ لَديْهِمْ رَسَائِلِي

فصل في بيان حقيقة النصح


وحقيقةُ النُّصْحِ الإرْشَادُ إلى المصلحةِ مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى: إنِّي أبَلِّغ لَكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ، ثمَّ أرشدكم إلى الأصوب، والأصْلَحِ، وأدعوكم إلى ما دَعَانِي، وأحبِّبُ لكم ما أحبه لنفسي.
قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
قيل: أعلم أنكُم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطُّوفَانِ.
181
وقيل: أعلم أنَّهُ يعاقكم في الآخرة عذاباً شديداً، خارجاً عمَّا تتصوَّرُهُ عقولُكْمْ.
وقيل: أعلم من توحيد الله وصفاتِ جلالهِ ما لا تعلمون. والمقصود من ذكر هذا الكلام: حملُ القَوْمِ على أنْ يرجعوا إليه في طلب تلك العُلُومِ.
واعلم أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أزال تعجبهم وقال: إنَّه تعالى خالق الخلق، فله بحكم الإلهية أنْ يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوزُ أن يخاطبهم بتلك التَّكاليف من غير واسطة؛ لأنَّ ذلك ينتهي إلى حَدِّ الإلجاء، وهو يُنَافِي التَّكْلِيف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسُولُ من الملائكة، لما تقدَّم في «الأنعام» في قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام: ٩]، فلم يَبْقَ إلا أن إيصال التَّكالِيف إلى الخَلْقِ بواسطة إنسان يبلغهم، وينذرهم ويحذرهم، وهذا جوابُ شُبَهِهم.
قوله: «أوَ عَجْبتُمْ» ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره: أكذَّبْتُمْ وعجبتم «أنْ جَاءَكُمْ» أي: مِنْ جاءكم، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ.
«مِنْ رَبِّكُمْ» صفةٌ ل «ذِكْر».
«عَلَى رَجُلٍ» : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: [قال الفرَّاءُ] : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ، أي: على لِسَانِ رَجُل «.
وقيل: على بمعنى»
مع «، أي: مع رجل فلا حذف.
وقيل: لا حاجة إلى حَذْف، ولا إلى تضمين حرف؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ، وهذا أوْلى؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ.

فصل في معنى» الذكر «


قال ابنُ عَبَّاسٍ: الذَّكْرُ الموعظة.
وقال الحَسَنُ: إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ.
وقيل: المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز.
وقيل: بيان»
عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ «أي تعرفون نسبه، فهو منكم نسباً.
»
ليُنْذِرْكُمْ «أي: لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه.
»
وَلِتَتَّقُوا «أي: لكي تَتَّقُوا.
»
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون «أي: لكي ترحموا.
182

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قال الجُبُّائِيُّ، والكَعْبِيُّ، والقاضي: دلَّتْ هذه الآية على أنَّهُ تعالى أراد من بعثة الرُّسُل إلى الخلق التَّقْوَى، والفوزَ بالرَّحْمَةِ، وذلك يبطل قول من قالك إنَّهُ تعالى أراد من بعضهم الكُفْرَ والعِنَادَ، وخلقهم لأجل العذاب والنارِ.
والجوابُ بأن نقول: إن لم يَتَوَقَّفِ الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقَّف لزم الجَبْرُ، ومتى لزم ذلك، وجب القطعُ بأنَّهُ تعالى أراد الكُفْرَ، وذلك يبطلُ مذهبكم.
قوله:» فَكَذَّبُوهُ «: أي في ادِّعَاءِ النُّبوُّةِ والرِّسالةِ.
»
فَأنْجَيْنَاهُ «من الطُّوفان، وأنجْينا من كان معه [وكانوا أرْبَعِينَ رجلاً، وأربعين امرأة].
وقيل: عشرةٌ: بَنُوه: حَامٌ، وسامٌ، ويافث، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين.
»
فِي الفُلْكِ «أي: في السَّفِينَةِ، وأغرقنا الكُفَّارَ والمكذِّبين، وبين العِلَّة في ذلك فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ﴾.
قوله:»
فِي الفُلْكِ «يجوزُ أن يتعلق ب» أنْجَيْنَاهُ «، أي: أنجيناه في الفلك، [ويجوز أن تكون» فِي «حينئذٍ سببيَّةً أي: بسبب الفُلْكِ] كقوله:» إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ «، ويجوزُ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً، أي: الذين استقرُّوا في الفلك معه.
»
وعَمِيْنَ «جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة.
وقيل: عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة، [قال ابن عباس: عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد، والنَّبوة والمعَادِ قال أهل اللُّغَة] : غير عارفٍ بأموره، وأعْمَى أي في البَصَرِ.
قال زُهَيْرٌ: [الطويل]
٢٤٩٩ - وأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ
قاله اللَّيْثُ وقيل: عم وأعْمَى بمعنىً، كخَضِرٍ وأخْضَر.
183
وقال بعضهم:» عَم «فيه دلالةٌ على ثبوت الصِّفةِ واستقرارها [كفَرِح] وضيّق، ولو أريد الحدوث لَقِيلَ: عامٍ كما يقال: فارحٌ وضَائِقٌ.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: قريء»
قَوْماً عَامِينَ «.
184
قوله :" أوَ عَجْبتُمْ " ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره : أكذَّبْتُمْ وعجبتم " أنْ جَاءَكُمْ " أي : مِنْ جاءكم، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ.
" مِنْ رَبِّكُمْ " صفةٌ ل " ذِكْر ".
" عَلَى رَجُلٍ " : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ :[ قال الفرَّاءُ ]١ : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ، أي : على لِسَانِ رَجُل ".
وقيل : على بمعنى " مع "، أي : مع رجل فلا حذف.
وقيل : لا حاجة إلى حَذْف، ولا إلى تضمين حرف ؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ، وهذا أوْلى ؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ.

فصل في معنى " الذكر "


قال ابنُ عَبَّاسٍ : الذَّكْرُ الموعظة٢.
وقال الحَسَنُ : إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ٣.
وقيل : المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز.
وقيل : بيان " عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ " أي تعرفون نسبه، فهو منكم نسباً.
" ليُنْذِرْكُمْ " أي : لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه.
" وَلِتَتَّقُوا " أي : لكي تَتَّقُوا.
" وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون " أي : لكي ترحموا.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة


قال الجُبُّائِيُّ، والكَعْبِيُّ، والقاضي٤ : دلَّتْ هذه الآية على أنَّهُ تعالى أراد من بعثة الرُّسُل إلى الخلق التَّقْوَى، والفوزَ بالرَّحْمَةِ، وذلك يبطل قول من قال : إنَّهُ تعالى أراد من بعضهم الكُفْرَ والعِنَادَ، وخلقهم لأجل العذاب والنارِ.
والجوابُ بأن نقول : إن لم يَتَوَقَّفِ الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقَّف لزم الجَبْرُ، ومتى لزم ذلك، وجب القطعُ بأنَّهُ تعالى أراد الكُفْرَ، وذلك يبطلُ مذهبكم.
١ سقط من أ..
٢ ذكره البغوي في تفسيره (٢/١٦٩)..
٣ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٢٤..
٤ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٢٥..
قوله :" فَكَذَّبُوهُ " : أي في ادِّعَاءِ النُّبوُّةِ والرِّسالةِ.
" فَأنْجَيْنَاهُ " من الطُّوفان، وأنجْينا من كان معه [ وكانوا أرْبَعِينَ رجلاً، وأربعين امرأة ]١.
وقيل : عشرةٌ : بَنُوه : حَامٌ، وسامٌ، ويافث، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين.
" فِي الفُلْكِ " أي : في السَّفِينَةِ، وأغرقنا الكُفَّارَ والمكذِّبين، وبين العِلَّة في ذلك فقال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ﴾.
قوله :" فِي الفُلْكِ " يجوزُ أن يتعلق ب " أنْجَيْنَاهُ "، أي : أنجيناه في الفلك، [ ويجوز أن تكون " فِي " حينئذٍ سببيَّةً أي : بسبب الفُلْكِ ]٢ كقوله :" إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ٣ "، ويجوزُ٤ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً، أي : الذين استقرُّوا في الفلك معه.
" وعَمِيْنَ " جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة٥.
وقيل : عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة، [ قال ابن عباس : عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد، والنَّبوة والمعَادِ٦ قال أهل اللُّغَة ]٧ : غير عارفٍ بأموره، وأعْمَى أي في البَصَرِ.
قال زُهَيْرٌ :[ الطويل ]
وأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ٨
قاله اللَّيْثُ وقيل : عم وأعْمَى بمعنىً، كخَضِرٍ وأخْضَر.
وقال بعضهم :" عَم " فيه دلالةٌ على ثبوت الصِّفةِ واستقرارها [ كفَرِح ] وضيّق، ولو أريد الحدوث لَقِيلَ : عامٍ كما يقال : فارحٌ وضَائِقٌ.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ٩ : قرئ " قَوْماً عَامِينَ ".
١ سقط من أ..
٢ سقط من أ..
٣ أخرجه البخاري (٦/٤٠٩) كتاب بدء الخلق: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه حديث (٣٣١٤) ومسلم (٤/٢٠٢٢) كتاب البر والصلة: باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي حديث (١٣٣/٢٦٤٢) من حديث ابن عمر..
٤ في أ: ويحق..
٥ ينظر تفسير الآية ١٨ من سورة البقرة..
٦ ذكره البغوي في تفسيره ٢/١٦٩..
٧ سقط من ب..
٨ تقدم..
٩ ينظر: الكشاف ٢/١١٥..
قوله «أخَاهُمْ» نصب ب «أرْسَلْنَا» الأولى، كأنه قيل: لقد أرسلنا نُوحاً، وأرسلنا إلى عادٍ أخاهُم، وكذلك ما يأتي من قوله: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٣]، ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ [الأعراف: ٨٥] ﴿وَلُوطاً﴾ [الأعراف: ٨٥]، ويكونُ ما بعد «أخَاهُم» بدلاً أو عطف [بيان]. وأجاز مكيٌّ أن يكون النَّصْبُ بإضمار «اذْكُرْ» وليس بشيء لأنَّ المعنى على ما ذكرنا مع عدمِ الاحْتِيَاجِ إليه.
و «عاد» اسم للحيِّ، ولذلك صَرَفَه، ومنهم من جعله اسْماً للقبيلة ولذلك [منعه] قال: [الرجز]
٢٥٠٠ - شَهْدَ عَادَ فِي زَمَانِ عَادِ ابْتَزَّهَا مَبَارِكَ الجِلادِ
الأصل اسم الأب الكبيرِ، وهو عادُ بْنُ عوصِ بْنِ إرمِ بْنِ سَامِ بن نوُحٍ فسُمِّيت به القبيلةُ، أو الحيّ.
وقيل: عادُ بْنُ أرمٍ بْنِ شَالِخ بِنْ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نوح وهودُ بْنُ عبد الله بْنِ رَبَاحِ بْنِ الجَارُودِ ابْنِ عَادِ بِنْ عوص بن إرمٍ بْنِ سَامِ بْنِ نُوح، وهي عادٌ الأولى، وكذلك ما أشبهه من نحو «ثَمُود» إن جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه، وإن جعلته اسماً لمؤنث مَنَعتهُ، وقد بَوَّبَ له سيبويه باباً.
184
وأمّا هو فاشتهر في ألْسِنَةِ النُّحَاةِ إنه عَرَبِيٌّ، وفيه نظر؛ لأن الظَّاهِرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نُوح، ولوط أنَّهُ أعجمي، ولأن: أبَا البركاتِ النَّسَّابَةَ الشَّريفَ حكى: أن أهلَ وعلى هذا يكون «هُودُ» أعجمياً، وإنَّمَا صُرِفَ لما ذكر في أخوته نوحٍ ولُوطٍ.
وهود اسمه عابرُ بْنُ شَالِح بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.

فصل في نسب هود


اتَّفقوا [على] أن هوداً ما كان أخاهم في الدِّين، واختلفوا في أنَّه هل كان هناك قَرَابَةٌ أم لا.
قال الكَلْبِيُّ: «كان واحداً منهم».
وقال آخرون: كان من غيرهم، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين:
الأول: قال الزَّجَّاجُ: كان من بني آدم، ومن جِنْسِهِمْ، لا من الملائكة، ويكفي هذا القَدَرُ في تسمية الأخوة، والمعنى: أنّا بعثنا إلى عادٍ واحداً من جنسهم، لِيَكُون الفَهْمُ والأنس بكلامه وأفعاله أكْمَلُ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني.
قال ابن إسحاق: وكان أوسطهم نَسَباً، وأفْضَلَهُم حُسْناً.
روي أن عاداً كانت ثلاثَ عَشْرَةَ قبيلةً ينزلون الرِّمال، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارةٍ، وكانت بلادهم أخصبَ البلاد، فسخط الله عليهم؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصْنَامَ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بِمَكَّةَ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا.
الثاني: «أخاهم» أي صاحبهم، ورسولهم، والعرب تسمِّي صاحب القوم أخَا القَوْم، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨] أي: صاحبتها، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إن أخَا صداء قَدْ أذن»
يريدُ صَاحِبَهُمْ.

فصل في مكان قوم عاد


اعلم أنَّ عاداً قوماً كانوا باليمينِ بالأحقاف.
قال ابن إسحاق: «والأحقافُ: الرَّمْلُ الذي بين عُمَان إلى حضرموت».
واعلم أن ألفاظ هذه القصَّةِ موافقة للألْفَاظِ المذكورة في قصَّةِ نوح - عليه السَّلامُ - إلا في أشياء.
185
[الأول] : أن في قصَّة نُوحٍ: «فقال يا قَوْم» بالفاء، وهنا قال بغير فاء، فالفرق أنَّ نُوحاً - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - كان مواظباً على دعوتهم، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة، وأما هودٌ فلم يبلغ إلى هذا الحدِّ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نُوح دون كلام هود.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قُلْتَ: لم حذف العَاطِف من قوله [قال يا قوم] ولم يقل «فقال» كما في قِصَّةِ نوح.
قلت: هو على تَقْدير سُؤالِ سائلٍ قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: له: «قال يا قوم».
الثاني: قال في قصة نوح: ﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩].
وهنا قال: «أَفَلاَ تَتَّقُونَ»، والفرقُ بينهما أنَّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعةِ العظيمةِ، وهي الطُّوفَانُ العظيم، فلا جرم أخبر نُوحٌ عن تلك الواقعة فقال: ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
وأمّا واقعة هود - عليه السَّلامُ - فقد سبقتها واقعة نوح، وكان عهد النَّاسِ بتلك الواقعة قريباً، فلا جرم قال: «أفَلاَ تَتَّقُونَ» أي: تعرفون أنَّ قوم نوح لمَّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنْزل بهمْ ذلكَ العذاب الذي اشتهر خَبَرُهُ في الدُّنْيَا، فكان ذلك إشَارَةً إلى التَّخْوِيفِ بتلك الوَاقِعَةِ.
الثالث: قال في قصَّة نُوحٍ ﴿قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٦٠].
وقيل: في هود: ﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ فوصف الملأ بالكُفْرِ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ.
قاله الزَّمخشريُّ وغيره، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى: ﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦] وقال: ﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها.
الرابع: حكي عن قَوْم نُوح قولهم: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ وحكي عن قوم هُود قولهم: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ [الأعراف: ٦٦] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ، فلذلك قالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة.
وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى
186
السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ، ثم قالوا: ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ في ادِّعَاءِ الرِّسالة.
قال ابءنُ عبَّاسٍ: في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به.
وقيل: في حُمْقِ، وخفَّةِ عَقْلٍ، وجهالةٍ.
﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ اختلفُوا في هذا الظن فقيل: المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى: ﴿الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] وهو كثير.
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ: كان ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر.
الخامس: قال نوح - عليه السلامُ -: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾.
وقال هود عليه السلام: ﴿وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ﴾، فأتى نوح بصيغة الفعل، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل، ونوح - عليه السلام - قال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهود لم يقل ذلك، وإنَّما زاد كونه «أمِيناً»، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب «دلائِلِ الإعْجازِ» أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً.
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ، والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح: ٥].
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال: «وأنْصَحُ لَكُمْ».
وأما قول هود - عليه السلامُ -: ﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً، ويوماً فيوماً.
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام، فلم يبعد أن يقال: إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور:
أحدها: الرَّدُ عليهم في قولهم: ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾.
187
وثانيها: أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة.
وثالثها: كأنَّهُ قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟
والأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد.
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ، بل قابلها بالحلم، ولم يزد على قوله: ﴿لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ﴾، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان: ٧٢].
وقوله: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ، وإنَّمَأ فعل ذلك؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ.
السادس: قال نوحٌ عليه السلامُ: ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، [وفي قصَّةُ هود حذف قوله: ﴿وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة.
قوله: «إذْ جَعَلَكُمْ» في «إذْ» وجهان:
أحدهما: أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل: «واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ»، ومفعول «اذْكُرَوا» محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: ﴿فاذكروا آلآءَ الله﴾، ولأن قوله: ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ﴾، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «إذْ» مفعول «اذْكُرُوا» أي: اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف.
قوله: «فِي الخَلْقِ» يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي: في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ: «كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعاً».
وتقدم الكلامُ على «بسطة» في البقرة.
188
قوله: ﴿فاذكروا آلآءَ الله﴾، أي: نعمه، وهو جمع مفرده «إلْي» بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ؛ كحِملْل وأحْمَالِ، أو «ألْيٌ» بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ: كقُفْل، وأقْفَالٍ، أو «إلى» بكسر الهمزة، وفتح اللام؛ كضِلَع وأضلاع، وعِنَب وأعْنَاب، أو «ألَى» بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء؛ قال العْشضى: [المنسرح]
٢٥٠١ - أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى
يُنشد بكسر الهمزة، وهو المشهورُ، وبفتحها؛ ومثلها «الآنَاء» جمع «إِنْي» أو «أُنْي» أو «إِنّى» أو «أَنّى».
وقال الأخفش: «إنْوٌ».
والآناء الأوقات كقوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠]، وسيأتي.
ثم قال: «لعلَّكُم تُفْلِحُونَ» فلا بُدَّ هاهنا من إضمار؛ لأنَّ الصَّلأاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر، بل لا بدّ من العمل، والتقدير: فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون.
قوله: «لِنَعْبُدَ» متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه.
واعلم أنَّ هوداً - عليه السلام - لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدَّلِيل القاطع، وهو أنَّهُ بيَّن أنَّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها؛ لأنَّهَا جمادات، والجمادُ لا قُدْرَةَ له على شَيْءٍ أصلاً - لم يكن للقوم جوابٌ عن هذه الحُجَّةِ إلا التمسك بالتَّقْليد فقالُوا: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ فأنكروا عليه أمره لهم بالتَّوحيد، وترك التقليد للآباء، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله: «أفَلاَ تَتَّقُونَ» وذلك أنَّهُم نسبوه إلى الكذب، وظنُّوا أنَّ الوعيد لا يتأخر، ثم قالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ جوابه محذوف أو متقدِّم ب «ما»، وذلك لأنَّ قوله: ﴿اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ مشعر بالتَّهْديد والتّضخويف بالوعيد، فلهذا قالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾.
قوله: ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ جوابه محذوف أو مُتَقَدِّم، وهو فأت به.
واعلم أنَّ القوم كانُوا يتقدون كذبه لقولهم: ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ فلهذا قالوا: ﴿فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ [الشعراء: ٣١] وإنَّما قالُوا كذلِكَ لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر، فعند ذلك قال هود - عليه السلام -: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ﴾، أي: وجب عليكم.

فصل في تفسير هذه الآية


قال القَاضِي: تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر؛ لأنَّ بعد كفرهم وتكذيبهم
189
حدثت هذه الإرادة، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل.
أحدها: أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ﴾.
وثانيها: أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع، كقوله: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١].
وثالثها: أن يحمل قوله: «وقع» على معنى وجد وجعل، والمعنى: إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل.
قوله: «مِن رَّبِّكُمْ» إمَّا متعلق ب «وقع» و «من» للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال، إذْ كانت في الأصل صفة ل «رجس».
والرِّجْس: العذاب والسين مبدلة من الزاي.
وقال ابن الخطيب: لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى: ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
[الأحزاب: ٣٣] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ.
وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ.
قوله: «أتُجَادِلُونَنِي» استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً، وسمُّو آخر منها باللاَّتِ، وليس له من الإلهية شيء.
قوله: «سَمَّيْتُمُوهَا» صفة ل «أسْمَاء»، وكذلك الجملة من قوله: ﴿مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ.
و «مِنْ سُلْطَانِ» مفعول «نزَّلَ»، و «مِنْ» مزيدةٌ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال: فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين.
فقوله: «مِنَ المُنْتَظِريْنَ» خبر «إني»، و «مَعَكُمْ» فيه ما تقدَّم في قوله: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين}، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون «مَعَكُمْ» هو الخبر و «مِنَ المُنْتَظِرِينَ» حال، والتقديرُ: إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله، وليس بذلك؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار، لمقابلة قوله: «فانْتَظِرُوا» فلا يُجعل فضلة.
190
الثالث : قال في قصَّة نُوحٍ ﴿ قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ ﴾.
وقيل : في هود :﴿ قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ ﴾ فوصف الملأ بالكُفْرِ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ١.
قاله الزَّمخشريُّ٢ وغيره، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى :﴿ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ] وقال :﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [ هود : ٤٠ ] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها.
الرابع : حكي عن قَوْم نُوح قولهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ وحكي عن قوم هُود قولهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين ﴾ [ الأعراف : ٦٦ ] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ، فلذلك قالوا :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة.
وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ، ثم قالوا :﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين ﴾ في ادِّعَاءِ الرِّسالة.
قال ابنُ عبَّاسٍ : في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به.
وقيل : في حُمْقِ، وخفَّةِ عَقْلٍ، وجهالةٍ.
﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين ﴾ اختلفُوا في هذا الظن فقيل : المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] وهو كثير.
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ٣ : كان ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حصول الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر.
١ المصدر السابق..
٢ ينظر: الكشاف ٢/١١٦..
٣ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٢٧..
الخامس : قال نوح - عليه السلامُ - :﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾.
وقال هود عليه السلام :﴿ وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ ﴾، فأتى نوح بصيغة الفعل، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل، ونوح - عليه السلام - قال :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، وهود لم يقل ذلك، وإنَّما زاد كونه " أمِيناً "، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب " دلائِلِ الإعْجازِ " أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً.
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ، والاستمرار على ذلك الفعل١.
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ [ نوح : ٥ ].
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال :" وأنْصَحُ لَكُمْ ".
وأما قول هود - عليه السلامُ - :﴿ وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً، ويوماً فيوماً.
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام، فلم يبعد أن يقال : إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور٢ :
أحدها : الرَّدُ عليهم في قولهم :﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين ﴾.
وثانيها : أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة.
وثالثها : كأنَّهُ قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟
والأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد.
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾ لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ، بل قابلها بالحلم، ولم يزد على قوله :﴿ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ].
وقوله :﴿ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ، وإنَّمَأ فعل ذلك ؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ.
١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٢٧..
٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٧..
السادس : قال نوحٌ عليه السلامُ :﴿ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، [ وفي قصَّةُ هود حذف قوله :﴿ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾١، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة٢.
قوله :" إذْ جَعَلَكُمْ " في " إذْ " وجهان :
أحدهما : أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل :" واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ "، ومفعول " اذْكُرَوا " محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك :﴿ فاذكروا آلاءَ الله ﴾، ولأن قوله :﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ﴾، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ٣ :" إذْ " مفعول " اذْكُرُوا " أي : اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف.
قوله :" فِي الخَلْقِ " يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي : في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ :" كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعاً٤ ".
وتقدم الكلامُ على " بسطة " في البقرة.
قوله :﴿ فاذكروا آلاءَ الله ﴾، أي : نعمه، وهو جمع مفرده " إلْي " بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ ؛ كحِملْل وأحْمَالِ، أو " ألْيٌ " بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ : كقُفْل، وأقْفَالٍ، أو " إلى " بكسر الهمزة، وفتح اللام ؛ كضِلَع وأضلاع، وعِنَب وأعْنَاب، أو " ألَى " بفتحهما كقَفَا وأقْفَاء ؛ قال العْشضى :[ المنسرح ]
أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى٥
يُنشد بكسر الهمزة، وهو المشهورُ، وبفتحها ؛ ومثلها " الآنَاء " جمع " إِنْي " أو " أُنْي " أو " إِنّى " أو " أَنّى ".
وقال الأخفش٦ :" إنْوٌ ".
والآناء الأوقات كقوله :﴿ وَمِنْ آنَاءِ الليل ﴾ [ طه : ١٣٠ ]، وسيأتي.
ثم قال :" لعلَّكُم تُفْلِحُونَ " فلا بُدَّ هاهنا من إضمار ؛ لأنَّ الصَّلاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر، بل لا بدّ من العمل، والتقدير : فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون.
١ سقط من أ..
٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٢٨..
٣ ينظر: الكشاف ٢/١١٧..
٤ تقدم..
٥ ينظر: ديوانه ٢٨٥، مجاز القرآن ١/٢١٨، معاني الزجاج ٢/٣٨٤، الدر المصون ٣/٢٩١..
٦ ينظر: معاني القرآن للأخفش ١/٢١٣..
قوله :" لِنَعْبُدَ " متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه.
واعلم أنَّ هوداً - عليه السلام - لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدَّلِيل القاطع، وهو أنَّهُ بيَّن أنَّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها ؛ لأنَّهَا جمادات، والجمادُ لا قُدْرَةَ له على شَيْءٍ أصلاً - لم يكن للقوم جوابٌ عن هذه الحُجَّةِ إلا التمسك بالتَّقْليد فقالُوا :﴿ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ فأنكروا عليه أمره لهم بالتَّوحيد، وترك التقليد للآباء، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله :" أفَلاَ تَتَّقُونَ " وذلك أنَّهُم نسبوه إلى الكذب، وظنُّوا أنَّ الوعيد لا يتأخر، ثم قالوا :﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ جوابه محذوف أو متقدِّم ب " ما "، وذلك لأنَّ قوله :﴿ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ مشعر بالتَّهْديد والتّخويف بالوعيد، فلهذا قالوا :﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾.
قوله :﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ جوابه محذوف أو مُتَقَدِّم، وهو فأت به.
واعلم أنَّ القوم كانُوا يتقدون كذبه لقولهم :﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين ﴾ فلهذا قالوا :﴿ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ الشعراء : ٣١ ] وإنَّما قالُوا كذلِكَ لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر، فعند ذلك قال هود - عليه السلام - :﴿ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي : وجب عليكم.

فصل في تفسير هذه الآية


قال القَاضِي١ : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر ؛ لأنَّ بعد كفرهم وتكذيبهم
حدثت هذه الإرادة، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل٢.
أحدها : أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت :﴿ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ ﴾.
وثانيها : أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع، كقوله :﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ [ النحل : ١ ].
وثالثها : أن يحمل قوله :" وقع " على معنى وجد وجعل، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل.
قوله :" مِن رَّبِّكُمْ " إمَّا متعلق ب " وقع " و " من " للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال، إذْ كانت في الأصل صفة ل " رجس ".
والرِّجْس : العذاب والسين مبدلة من الزاي.
وقال ابن الخطيب : لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى :﴿ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ.
وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ.
قوله :" أتُجَادِلُونَنِي " استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً، وسمُّوا آخر منها باللاَّتِ، وليس له من الإلهية شيء.
قوله :" سَمَّيْتُمُوهَا " صفة ل " أسْمَاء "، وكذلك الجملة من قوله :﴿ مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ.
و " مِنْ سُلْطَانِ " مفعول " نزَّلَ "، و " مِنْ " مزيدةٌ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال : فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين.
فقوله :" مِنَ المُنْتَظِريْنَ " خبر " إني "، و " مَعَكُمْ " فيه ما تقدَّم في قوله :﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون " مَعَكُمْ " هو الخبر و " مِنَ المُنْتَظِرِينَ " حال، والتقديرُ : إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله، وليس بذلك ؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار، لمقابلة قوله :" فانْتَظِرُوا " فلا يُجعل فضلة.
١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٢٩..
٢ ينظر المصدر السابق ١٤/١٢٩-١٣٠..
قوله: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ لأنهم استحقوا الرحمة بسبب إيمانهم و ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي: استأصلناهم، وأهْلكناهُم عن آخرهم وما كانوا مؤمنين، فإن قيل: لما أخبر عنهم بأنَّهُم كانوا مكذبين لَزِمَ القطع بأنَّهم كانوا غير مؤمنين فمنا الفائدة في قوله بعد ذلك ﴿وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.
فالجوابُ: أن معناه أنَّهُم مكذبون في علم الله منهم أنَّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً، فلو علم أنَّهم سيؤمنون لأبقاهم.
ثمود: اسم رجل: وهو ثَمُودُ بْنُ عاد بْن إرم بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ، وهو أخو جديس، فثمود وجديس أخوان، ثم سُمِّيت به هذه القبيلة.
قال أبُو عَمرو بْن العلاء: سميت ثمود لقلَّة مائها، والثَّمَدُ: الماء القليلُ: [قال النابغة: [البسيط]
٢٥٠٢ - أحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ إلَى حَمَامٍ شِرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ]
وكانت مساكنهم «الحجر» بين «الحِجاز» و «الشَّام» إلى «واد القرى»، والأكثر منعه الصرف اعتباراً بما ذكرناه أوَّلاً، ومن جعله اسماً للحيّ صرفه، وهي قراءة الأعمش، ويحيى بن وثَّابٍ في جميع القرآن، وقد ورد القرآن بهم صَرِيحاً.
قال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُم بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ [هود: ٦٨].
وسيأتي الخلاف من القُرَّاء السَّبْعةِ في سورة «هُودٍ» وغيرها.
وصالح: اسم عربيٌّ، وهو صالح بن آسف.
وقيل: ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسف بن كَاشِح بْنِ أروم بْنِ ثَمُودَ [ابن جاثر].
«قال: يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِن إله غيرُهُ» أمرهم بعبادة الله، ونهاهم عن عبادة غير الله، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء.
191
قوله: ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾.
قد كثر إيلاءُ هذه اللَّفظة العوامل، فهي جارية مَجْرَى «الأبْطح» و «الأبْرَقِ» في عدم ذكر موصوفها.
وقوله: «مِن ربِّكُمْ» يحتمل أن يتعلق ب «جَاءَتْكُمْ» و «مِنْ» لابتداء الغايةِ مجازاً، وأنْ تتعلق بمحذوف؛ لأنَّها صفةٌ بيِّنة، ولا بدَّ من حذف مُضاف، أي: من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته.
وهذا يدلُّ على أنَّ كُلَّ شيءٍ كان يذكر الدلائل على صحَّةِ التَّوْحيدِ، ولم يكتف بالتَّقْلِيدِ، وإلاَّ كان ذكر البينة - وهي الحجة - هاهنا لغواً.
قوله: ﴿هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾ أضاف النَّاقة إليه على سبيل التفضيلِ، كقولك: بيت الله، وروح الله؛ لأنَّهَا لم تتوالد بين جمل وناقة، بل خَرَجَتْ من حَجَرٍ.
و «آيَةً» نصبَ على الحال؛ لأنَّها بمعنى العلامة، والعاملُ فيها إمَّا معنى التنبيه، وإما معنى الإشارةِ، كأنَّهُ قال: أنبهكم عليها، وأشير إليها في هذه الحال.
ويجوزُ أن يكون العامل مُضْمَراً تقديرُهُ: انظروا إليها في هذه الحال، والجملة لا محلَّ لها؛ لأنَّها كالجواب لسُؤالٍ مقدَّر، كأنهم قالوا: أين آيتك؟ فقالك هذه ناقةُ الله.
وقوله: «لَكُم» أي: أعني لكم به، وخصّوا بذلك، لأنَّهُم هم السَّائِلُوهَا، أو المنتفعون بها من بين سَائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا.
ويحتمل أن تكون «هَذِه نَاقَةُ الله» مفسرة لقوله: «بَيِّنَةٌ» ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تستدعي شيئاً يتبين به المدعى، فتكون الجملة في محل رفع على البدل، وجاز إبدالُ جملة من مفرد؛ لأنَّهَا في قوته.

فصل في إعجاز الناقة


اختلفوا في وجه كون النَّاقة آيةً:
فقال بعضهم: «كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة».
قال القاضي: إن صحَّ هذا فهو معجزٌ من جهاتٍ:
أحدها: خروجها من الجَبَلِ.
والثانية: كونها لا من ذَكَرٍ وأنثى.
والثالثة: كمالُ خَلْقِها من غير تَدْرِيجٍ.
وقيل: إنّضما كانت آية؛ لأجل أنَّ لها شرب يوم، ولجميع ثمود شرب يوم، واستيفاء ناقةِ شرب أمَّة من الأمَمِ عجيب.
192
وقيل: إنَّما كانت آيَة؛ لأنَّهُم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم.
وقال الحسَنُ بالعكس من ذلك فقال: إنَّها لم تحلب قطرة لبن قط.
وقيل: وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الوُرُودِ على المَاءِ، وفي يوم امتناعها تَرِدُ جميع الحيوانات.
واعلم أنَّ القرآن قد دلَّ على أنَّها آية، ولكن من أي الوُجُوه؟ فليس في القرآن ذكره.

فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم


فإن قيل: تلك النَّاقَةُ كانت آية لكلِّ أحد، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله: «لَكُمْ آيَة».
فالجوابُ: من وجهين:
الأول: أنَّهم عاينوها، وغيرهم أُخبروا عنها، ولَيْسَ الخبر كالمُعاينة.
193
الثاني: لَعلَّه يثبت سائر المعجزات، إلاَّ أنَّ القَوْمَ التمسوا من صَالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقْتِرَاح، فأظهرها الله تعالى لهم، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص.
قوله: «فَذَرُوهَا تَأْكُلْ» أي: العشب في أرض اللَّهِ، أي: ناقة الله، [فذروها تأكل في أرض ربَّها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها منن النبات من إنباتكم.
وقيل: يجوز تعلقه بقوله: «فَذَرُوهَا»، وعلى هذا فتكون المسألة من التَّنازع وإعمال الثَّاني، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني فقال: ﴿تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ وانجزم «تأكلْ» جواباً للأمر وقد تقدَّم الخلافة في جازمه: هل هو نفس الجملة الطَّلَبِيَّةِ أو أداء مقدّرة؟.
وقرأ أبو جعفر: «تَأكُلُ» برفع الفِعْلِ على أنَّهُ حال، وهو نظير: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥، ٦] رفعاً وجزماً.
قوله: ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾ أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن «الباء» للتعدية، أي: لا توقعوا عليها سوءاً ولا تلصقوه بها. ويجوز أن تكون للمصاحبة، أي: لا تمسُّوها حال مصاحبتكم للسُّوء.
قوله: «فَيَأخُذَكُمْ» نصب على جواب النَّهْي، أي: لا تجمعوا بين السمّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيَّاكم، وهم وإنْ لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنَّهم تعاطوا أسبابه.
قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لعلي بن أبي طالب: «أشْقَى الأوَّلِيْنَ عَاقِرُ نَاقَةِ صالحٍ، وأشْقَى الآخَرِيْنَ قَاتِلُكََ»
194
قيل: لمَّا أهلك الله - تعالى - عاد عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وعمّروا أعماراً طوالاً.
قوله: ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض﴾ بوَّأه: أنزله منزلاً، والمباءَةُ المنزل، وتقدَّمت هذه
194
المادة في «آل عمران»، وهو يتعدى لاثنين، فالثَّاني محذوف أي: بوَّأكم منازل.
و «فِي الأرْضِ» متعلّق بالفِعْلِ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله: «تَتَّخِذُونَ».
قوله: «تَتَّخِذُونَ» يجوز أن تكون المُتَعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقاً بالاتخاذ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من قصوراً إذ هو في الأصل صِفَةٌ لها لو تَأخَّر، بمعنى أنَّ مادة القُصُور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله: ﴿واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ [الأعراف: ١٤٨] [أي مادته من الحلي].
وقيل: «مِنْ» بمعنى «في». وفي التَّفسير أنَّهُم كانوا يسكنون في القُصُورِ صَيْفاً، وفي الجبال شِتَاء، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما «مِنْ سُهُولِهَا» والسهلُ من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن، والسهولة: التّيسير.
قوله: «قُصُوراً» [والقصور هو جمع قصر] وهو البيت المُنِيفُ، سُمِّي بذلك لقصور النَّاس عن الارتقاء إليه، أو لأن عامة النَّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم، أو لأنَّهُ يقتصر به على بقعة من الأرض، بخلاف بيوت الشّعر والعُمُد، فإنَّهَا لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها؛ أو لأنَّه يقصر من فيه أي: يحبسه، ومنه: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام﴾ [الرحمن: ٧٢].
قوله: ﴿وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً﴾ يجُوزُ أن يكون نصب «الجِبَالَ» على إسْقَاطِ الخافض أي: من الجبال، كقوله: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]، فتكون «بُيُوتاً» مفعوله.
ويجوز أن يُضَمَّن «تَنْحِتُونَ» معنى ما يتعدَّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بُيُوتاً بالنحت أو تصيرونَها. [بيوتاً بالنَّحت.
ويجوز أن تكون «الجبَالَ» هو المفعول به و «بُيُوتاً» حال مقدرة كقولك: خِطْ هذا الثَّوب جبة [وابْرِ هذه القصبة قلماً؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حالة الخياطة والبري]، أي: مُقَدّراً له كذلك] و «بُيُوتاً» وإن لم تكن مشتقة فإنَّهَا في معناه أي: مسكونة.
وقرأ الحسنُ: «تَنْحَتُون» بفتح الحاء. وزاد الزَّمَخْشَرِيُّ أنه قرأ «تنحاتُونَ» بإشباع الفتحة [ألفاً]، وأنشد: [الكامل]
195
٢٥٠٣ - يَنْبَاعُ مِنْ ذْفَرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ................................
وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالكٍ بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسنِ.
والنَّحتُ: النَّجر في شيء صُلب كالحجر والخشبِ.
قال: [البسيط]
٢٥٠٤ - أمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسسلَةٍ واللَّيْلأُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِن السَّاجِ

فصل في جواز البناء الرفيع


قال القُرْطُبِي: استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها، وبقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ [الأعراف: ٣٢]. وبقوله عليه الصَّلاة والسلام: «إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ»
ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم، فإنَّهُ يجوز، وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام: «إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ»
وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ»
قوله: ﴿فاذكروا آلآءَ الله﴾ أي نعم الله عليكم.
﴿وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ قرأ الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة.
و «مُفْسِدِيْنَ» حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا.
و «فِي الأرْضِ» متعلق بالفعل قبله أو ب «مفسدين».
196
قوله: «قَالَ المَلأُ» قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ «وَقَال» بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقة لمصاحفِ الشَّام، فإنها مرسومة فيها، والباقون بحذفها: إما اكتفاء بالربط المعنوي، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم، وهذا موافقة لمصاحفهم، وهذا كما تقدَّم في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ [الأعراف: ٤٣] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك.
قوله: ﴿الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا﴾.
السين في «اسْتَكْبَرُوا» و «اسْتُضْعَفُوا» يجوز أن تكون على بابها من الطلب، أي: طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف.
ويجوزُ أن يكون «اسْتَفْعَلَ» بمعنى: فعل [كَعَجِبَ] واسْتَعْجَبَ.
واللاَّم في «الذِينَ اسْتَضْعَفُوا» للتبليغ، ويضعف أن تكون للعلّة، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء، وبالذين استضعفوا المساكين.
قوله: ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ بدلٌ من «الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» بإعادة العامل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ، إن عاد الضَّمير في «مِنْهُم» على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح.
والثاني: بدلُ بعض من كلٍّ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربين: مؤمنين وكافرين، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء.
وقوله: «أتَعْلَمُونَ» في محل نصب بالقول.
و «مِن رَّبِّهِ» متعلق ب «مُرْسَلٌ»، و «من» لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف.
واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم: إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون، أي: مُصَدّقون، فقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما آمنتم به، أي: بالذي جاء به صالح.
قوله: ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ﴾ متعلق ب «مُؤمِنُونَ» قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة.
قوله: «قَالَ الذي» «ما» موصولة، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار
197
للموصول وعائده؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله: ﴿بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
قوله: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» أصل العَقْرِ: كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٢٥٠٥ - وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
ثم أطلق على كل نَحْرِ «عَقْرٌ»، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري.
وقال ابن قتيبة: «العَقْرُ: القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة».
وقيل: العقر: الجرح. وعليه قول امرئ القيس: [الطويل]
٢٥٠٦ - تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ
يريد: جَرَحْتَهُ بثقلك وتمايلك، والعَقْر والعُقر بالتفح، والضمّ [الأصل]، ومنه عَقَرْتُه أي: أصبتُ عقره يعني أصله كقولهم: كَبَدْتُه ورَأسْتُه أي: أصبت كَبِدَهُ ورأسه، وعَقَرْتُ النخل: قطعته من أصله، والكَلْبُ العقور منه، والمرأة عَاقِرٌ، وقد عُقِرَت.
والعقر بالضَّمِّ آخر الولد وآخر بيضة يقال: عُقر البيض.
والعَقار بالفتح: الملك من الأبنية، ومنهُ «ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهمِ إلاَّ ذُلُّوا»، وبعضهم يخصه بالنَّخل.
والعُقارُ بالضمِّ: الخمر؛ لأنَّها كالعَاقِرَة للعقل، ورفع عَقِيْرَتَهُ أي: صَوْتَهُ، وأصله أن رجلاً عَقَر رجْلَه فرفع صوته فاستعير لكلِّ صائحٍ، والعُقر بالضمِّ: المَهْرُ.
وأضاف العقر إليهم مع أنَّه ما كان باشره إلا بعضهم؛ لأنَّهُ كان برضاهم.
قوله: «وَعَتَوْا» العُتُوُّ، والعُتِيُّ: النُّبُوُّ أي: الارتفاع عن الطَّاعة يقال منه: عَتَا يَعْتُوا عُتْوّاً وعُتِيّاً بقلب الواوين ياءين، والأحسن فيه إذا كان مصدراً تصحيح الواوين كقوله: ﴿وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾ [الفرقان: ٢١] وإذا كان جمعاً الإعلالُ نحو: قوم عُتِيٌّ، لأنَّ الجمع أثقلُ، قياسُه الإعلال تخفيفاً.
وقوله: ﴿أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ [مريم: ٦٦] محتمل للوجهين قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
198
الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم: ٨] أي: حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله: [الكامل]
٢٥٠٧ -....................... وَمِنَ العَنَاءِ رِيَاضَةُ الهَرِمِ
وقيل: العاتي: الجاسي أي اليَابِسُ. ويقال: عَثَا يَعْثُوا عُثُوّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى؛ لأنَّهُ يقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيّاً وعثا يَعْثُوا عُثُواً، [فهو في إحْدَى لغتيه يشاركه «عَتَا» بالمثناة وزناً ومعنى، ويقاربه في حروفه. والعيث أيضاً - بتقديم الياء من أسْفَل] على الثاي المثلثة - هو الفساد، فيحتمل أن يكون أصلاً، وأن يكون مقلوباً فيه.
وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المدرك حِسّاً، والعِثِيَّ في المدرك حكماً، وقد تقدَّم طرفٌ من هذا.
ومعنى الآية: استكبورا عن امتثال امر ربّهم وكذّبوا بنبيهم.
قوله: ﴿وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا﴾ يجوزُ لك على رواية من يسهِّل الهمزة وهو وَرْشٌ والسوسي أن تقلب الهمزة واواً، فتلفظ بصورة «يَا صالح وُتِنا» في الوصل خاصة تُبْدل الهمزة بحركة ما قبلها، وإن كانت منفصلة من كلمة أخْرَى.
وقرأ عاصمْ وعيسى بْنُ عُمَرَ «أُوْتِنَا» بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلطِ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلاَّ على التوهُّم؟
قوله: «بِمَا تَعِدُنَا» العائِدُ محذوف أي: «تَعِدُناه» ولا يجوز أن تقدر «تَعِدُنا» متعدياً غليه بالباء، وإنْ كان الأصْلُ تعديته إليه بها، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن «بِمَا» متعلِّقٌ ب «الإتيان»، و «به» متعلق ب «الوعد» ثم قالوا ﴿إِن كُنتَ مِنَ المرسلين﴾ وإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوَعْدِ والوَعِيدِ.
قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال﴾ [المزمل: ١٤].
وقال اللَّيثُ: الرَّجْفَةُ: الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب. ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه.
وقيل: أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح.
199
قال ابن أبي ربيعة: [الطويل]
٢٥٠٨ - ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ
والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجمعه الأرَاجِيفُ، ومنه «الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ».
وقوله: ﴿تَرْجُفُ الراجفة﴾ [النازعات: ٦].
كقوله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١].
ومنه [الطويل]
٢٥٠٩ - تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ
قوله: ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [يعني في بلدهم، كما يقال: دار الحرب، ودار البزّازين].
الجثوم: اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد: «الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل» وأنشد لجرير: [الوافر]
٢٥١٠ - عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ
قال الكَرْمَانِيّ: حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة، فذكر كل واحد بالأليق [به] وقيل: في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم، وقيل: المراد بها الجنس.

فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية


الفاء في «فأخذتهم» للتَّعقيب، وقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم: ﴿ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: ٦٥]
فالجوابُ: أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم: ﴿ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ﴾، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل، واحمرّت في اليوم الثاني: واسودَّت في اليوم الثالث، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم.
ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله: «فَأئْتِنَا» أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان. ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ، والتقديرُ: فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم.
200

فصل في دحض شبهة للملاحدة.


لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾، وفي موضع آخر ﴿الصيحة﴾ [هود: ٦٧]، وفي موضع آخر ﴿بالطاغية﴾ [الحاقة: ٥] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم؛ رجفت قلوبهم فماتوا، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما.
وأمّا «بالطَّاغية» فالباء للسببية، والطَّاغية: الطغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للملك الجبَّار: طاغية، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ، ففي أهلكوا بالطاغيَة، أي: بطغيانهم كقوله:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ﴾ [الشمس: ١١].
قال أبو مسلم: «الطَّاغية: اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان: ﴿إِنَّ الإنسان ليطغى﴾ [العلق: ٦]، وقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ﴾ [الشمس: ١١].
وقال غير الحيوان: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء﴾ [الحاقة: ١١] أي: غلب وتجاوز عن الحدِّ.

فصل في شهود الناقة


قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك فمن الإلجاء.
وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني، واسودُّوا في اليود الثالث، مع مشاهدة تلك المعجزة العظيمة، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره؟
فالجوابُ: أن يقال: إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً.
قوله:»
فَأصْبَحُوا «يجوز أن تكون النَّاقصة و» جَاثِمينَ «خبرها و» في دَارِهِم «متعلّق به، ولا يجوز أن يكثونَ الجارُّ خبراً و» جَاثِمِين «حال، لعدم الفائدة بقولك: ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، وإن جاز الوجهان في قولك: أصبح زيد في الدَّار جالساً.
ويجوز أن تكون التامة، أي: دخلوا في الصباح، و»
جَاثِمِينَ «حال، والأول أظهر.
201
قوله: ﴿فتولى عَنْهُمْ﴾.
قيل: إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فتولى﴾ و» الفاءُ «تقتضي التعقيب.
وقيل: تولّى عنهم قبل موتهم لقوله: ﴿وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين﴾ فدلَّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوْجُهٍ:
[الأول] : قوله لهم»
يَا قَوْم «، والأموات لا يوصفون بالقوم، لاشتقاق لفظ القوم من القيام، وهو مفقود في حقِّ الميت.
والثاني: أنَّ هذه الكلمات خِطَاب معهم، وخطاب الميت لا يجوز.
والثالث: قوله: ﴿وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين﴾ يقتضي كونهم بحيث تصحُّ حصول المحبّة فيهم.
ويمكن الجوابُ: بأنَّه قد يقولُ الرَّجلُ لصاحبه الميت، وقد كان نصحه فلم يقبل النَّصيحة، حتى ألقى نفسه في الهلاك: يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل، وكمن منعتك فلم تمتنع، فكذا هاهنا.
وفائدتُهُ: إمّا لأن يسمعه الحيُّ فيعتبر به، وينزجِر عن مثل تلك الطريقة، وإما لإحراق قلبه بسبب تلك الواقعة، فإذا ذكر ذلك الكلام فرَّجت تلك القضية من قلبه.
وذكروا جواباً آخر، وهو أن صالحاً - عليه السلامُ - خاطبهم بعد كونهم»
جَاثِمِينَ «، كما خاطب نبينا - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قتلى» بدر «.
فقيل: تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال:»
مَا أنْتُمْ بأسْمَعَ مِنْهُم، ولكنْ لا يَقْدِرُونَ على الجوابِ «
وقيل: في الآية تقديمٌ وتأخير، تقديره: فتولَّى عنهم وقال: يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغَتُكم رسالةَ ربِّي، فأخذتهم الرجفة.
202
قوله :" قَالَ الذي " " ما " موصولة، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار للموصول وعائده ؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله :﴿ بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾.
قوله :" فَعَقَرُوا النَّاقَةَ " أصل العَقْرِ : كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي *** فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ١
ثم أطلق على كل نَحْرِ " عَقْرٌ "، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري٢.
وقال ابن قتيبة :" العَقْرُ : القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة ".
وقيل : العقر : الجرح. وعليه قول امرئ القيس :[ الطويل ]
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً *** عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ٣
يريد : جَرَحْتَهُ بثقلك وتمايلك، والعَقْر والعُقر بالتفح، والضمّ [ الأصل ]٤، ومنه عَقَرْتُه أي : أصبتُ عقره يعني أصله كقولهم : كَبَدْتُه ورَأسْتُه أي : أصبت كَبِدَهُ ورأسه، وعَقَرْتُ النخل : قطعته من أصله، والكَلْبُ العقور منه، والمرأة عَاقِرٌ، وقد عُقِرَت.
والعقر بالضَّمِّ آخر الولد وآخر بيضة يقال : عُقر البيض.
والعَقار بالفتح : الملك من الأبنية، ومنهُ " ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهمِ إلاَّ ذُلُّوا "، وبعضهم يخصه بالنَّخل.
والعُقارُ بالضمِّ : الخمر ؛ لأنَّها كالعَاقِرَة للعقل، ورفع عَقِيْرَتَهُ أي : صَوْتَهُ، وأصله أن رجلاً عَقَر رجْلَه فرفع صوته فاستعير لكلِّ صائحٍ، والعُقر بالضمِّ : المَهْرُ.
وأضاف العقر إليهم مع أنَّه ما كان باشره إلا بعضهم ؛ لأنَّهُ كان برضاهم.
قوله :" وَعَتَوْا " العُتُوُّ، والعُتِيُّ : النُّبُوُّ أي : الارتفاع عن الطَّاعة يقال منه : عَتَا يَعْتُوا عُتْوّاً وعُتِيّاً بقلب الواوين ياءين، والأحسن فيه إذا كان مصدراً تصحيح الواوين كقوله :﴿ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١ ] وإذا كان جمعاً الإعلالُ نحو : قوم عُتِيٌّ، لأنَّ الجمع أثقلُ، قياسُه الإعلال تخفيفاً.
وقوله :﴿ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٦ ] محتمل للوجهين قوله :﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً ﴾ [ مريم : ٨ ] أي : حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله :[ الكامل ]
. . . *** وَمِنَ العَنَاءِ رِيَاضَةُ الهَرِمِ٥
وقيل : العاتي : الجاسي أي اليَابِسُ. ويقال : عَثَا يَعْثُوا عُثُوّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى ؛ لأنَّهُ يقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيّاً وعثا يَعْثُو عُثُواً، [ فهو في إحْدَى لغتيه يشاركه " عَتَا " بالمثناة وزناً ومعنى، ويقاربه في حروفه. والعيث أيضاً - بتقديم الياء من أسْفَل ]٦ على الثاي المثلثة - هو الفساد، فيحتمل أن يكون أصلاً، وأن يكون مقلوباً فيه.
وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المدرك حِسّاً، والعِثِيَّ في المدرك حكماً، وقد تقدَّم طرفٌ من هذا.
ومعنى الآية : استكبورا عن امتثال أمر ربّهم وكذّبوا بنبيهم.
قوله :﴿ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا ﴾ يجوزُ لك على رواية من يسهِّل الهمزة وهو وَرْشٌ والسوسي أن تقلب الهمزة واواً، فتلفظ بصورة " يَا صالح وُتِنا " في الوصل خاصة تُبْدل الهمزة بحركة ما قبلها، وإن كانت منفصلة من كلمة أخْرَى.
وقرأ عاصمْ٧ وعيسى بْنُ عُمَرَ " أُوْتِنَا " بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلطِ ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلاَّ على التوهُّم ؟
قوله :" بِمَا تَعِدُنَا " العائِدُ محذوف أي :" تَعِدُناه " ولا يجوز أن تقدر " تَعِدُنا " متعدياً غليه بالباء، وإنْ كان الأصْلُ تعديته إليه بها، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن " بِمَا " متعلِّقٌ ب " الإتيان "، و " به " متعلق ب " الوعد " ثم قالوا ﴿ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين ﴾ وإنما قالوا ذلك ؛ لأنَّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوَعْدِ والوَعِيدِ.
١ ينظر ديوانه ص ١١، رصف المباني ٣٤٩، ٤٤٧، وشرح شواهد المغني ٢/٥٥٨ ومغني اللبيب ١/٢٠٩، التصريح ١/٢٧١، الدر المصون ٣/٢٩٤..
٢ ينظر: تهذيب اللغة ١/٢١٥..
٣ تقدم..
٤ سقط من أ..
٥ البيت ينظر: عيون الأخبار ٢/٣٦٩، وشرح المفضليات ١/٦٥، اللسان (جسا)، الدر المصون ٣/٢٩٥..
٦ سقط من أ..
٧ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٣٤، والدر المصون ٣/٢٩٥..
قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ﴾ قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال ﴾ [ المزمل : ١٤ ].
وقال اللَّيثُ : الرَّجْفَةُ : الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب. ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه.
وقيل : أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح.
قال ابن أبي ربيعة :[ الطويل ]
ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ١
والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجمعه الأرَاجِيفُ، ومنه " الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ ".
وقوله :﴿ تَرْجُفُ الراجفة ﴾ [ النازعات : ٦ ].
كقوله :﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا ﴾ [ الزلزلة : ١ ].
ومنه [ الطويل ]
تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ٢
قوله :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ يعني في بلدهم، كما يقال : دار الحرب، ودار البزّازين ].
الجثوم : اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد :" الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل " وأنشد لجرير :[ الوافر ]
عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ٣
قال الكَرْمَانِيّ : حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة، فذكر كل واحد بالأليق [ به ] وقيل : في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم، وقيل : المراد بها الجنس.

فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية


الفاء في " فأخذتهم " للتَّعقيب، وقوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ﴾ يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم :﴿ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى :﴿ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ]
فالجوابُ : أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم :﴿ ائتنا بِمَا تَعِدُنَا ﴾، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل، واحمرّت في اليوم الثاني : واسودَّت في اليوم الثالث، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم.
ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله :" فَائْتِنَا " أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان. ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ، والتقديرُ : فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم.

فصل في دحق شبهة للملاحدة.


لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ﴾، وفي موضع آخر ﴿ الصيحة ﴾ [ هود : ٦٧ ]، وفي موضع آخر ﴿ بالطاغية ﴾ [ الحاقة : ٥ ] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة ؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم ؛ رجفت قلوبهم فماتوا، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما.
وأمّا " بالطَّاغية " فالباء للسببية، والطَّاغية : الطغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للملك الجبَّار : طاغية، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ، ففي أهلكوا بالطاغيَة، أي : بطغيانهم كقوله :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ١١ ].
قال أبو مسلم٤ :" الطَّاغية : اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان :﴿ إِنَّ الإنسان ليطغى ﴾ [ العلق : ٦ ]، وقال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ١١ ].
وقال غير الحيوان :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء ﴾ [ الحاقة : ١١ ] أي : غلب وتجاوز عن الحدِّ.

فصل في شهود الناقة


قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك من الإلجاء.
وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني، واسودُّوا في اليود الثالث، مع مشاهدة تلك المعجزة٥ العظيمة، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره ؟
فالجوابُ : أن يقال : إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً.
قوله :" فَأصْبَحُوا " يجوز أن تكون النَّاقصة و " جَاثِمينَ " خبرها و " في دَارِهِم " متعلّق به، ولا يجوز أن يكونَ الجارُّ خبراً و " جَاثِمِين " حال، لعدم الفائدة بقولك :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم ﴾، وإن جاز الوجهان في قولك : أصبح زيد في الدَّار جالساً.
ويجوز أن تكون التامة، أي : دخلوا في الصباح، و " جَاثِمِينَ " حال، والأول أظهر.
١ البيت ينظر: البحر المحيط ٤/٣١٩، القرطبي ٧/٢٤٢، الدر المصون ٣/٢٩٦..
٢ البيت ينظر: اللسان (رجف)، الدر المصون ٣/٢٩٦..
٣ البيت لجرير ينظر: ديوانه ٢١٧، مجاز القرآن ١/٢١٨، الدر المصون ٣/٢٩٦..
٤ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٣٥..
٥ في أ: المعجزات..
قوله :﴿ فتولى عَنْهُمْ ﴾.
قيل : إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى :﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فتولى ﴾ و " الفاءُ " تقتضي التعقيب.
وقيل : تولّى عنهم قبل موتهم لقوله :﴿ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين ﴾ فدلَّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوْجُهٍ :
[ الأول ] : قوله لهم " يَا قَوْم "، والأموات لا يوصفون بالقوم، لاشتقاق لفظ القوم من القيام، وهو مفقود في حقِّ الميت.
والثاني : أنَّ هذه الكلمات خِطَاب معهم، وخطاب الميت لا يجوز.
والثالث : قوله :﴿ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين ﴾ يقتضي كونهم بحيث تصحُّ حصول المحبّة فيهم.
ويمكن الجوابُ : بأنَّه قد يقولُ الرَّجلُ لصاحبه الميت، وقد كان نصحه فلم يقبل النَّصيحة، حتى ألقى نفسه في الهلاك : يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل، وكمن منعتك فلم تمتنع، فكذا هاهنا.
وفائدتُهُ : إمّا لأن يسمعه الحيُّ فيعتبر به، وينزجِر عن مثل تلك الطريقة، وإما لإحراق١ قلبه بسبب تلك الواقعة، فإذا ذكر ذلك الكلام فرَّجت تلك القضية من قلبه.
وذكروا جواباً آخر، وهو أن صالحاً - عليه السلامُ - خاطبهم بعد كونهم " جَاثِمِينَ "، كما خاطب نبينا - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قتلى " بدر ".
فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف ؟ فقال :" مَا أنْتُمْ بأسْمَعَ مِنْهُم، ولكنْ لا يَقْدِرُونَ على الجوابِ "
وقيل : في الآية تقديمٌ وتأخير، تقديره : فتولَّى عنهم وقال : يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغَتُكم رسالةَ ربِّي، فأخذتهم الرجفة.
١ في أ: لاحتراق..
قوله تعالى: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ القصة. في نصب «لُوطاً» وجهان:
أحدهما: أنه منصوب ب «أرْسَلْنَا» الأوَّلِ، و «إذ» ظرف الإرسال.
والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار «اذْكُرْ»، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان:
أحدهما - وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من «لوطاً» قال: «بمعنى: واذكر وقت إذ قال لقومه» وهذا على تسليم تصرف «إذ».
202
والثاني: أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره: «واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ» ف «إذ» مصوبة ب «رسالة». قاله أبُو البقاء، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال.
وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه، فإنَّهُ ساكنُ الوسط، مركب من ثلاثة أحرف.
، لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق، فلا يقال: إنه من السُّحق وهو البعد؛ وإنَّمَا صرف لخفته؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط، فأمَّا لطتُ الحوضَ، وهذا أليط فصحيح، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق.
وهو: لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم، ، فهاجر إلى الشَّام، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين، وأنزل لوطاً الأردن، فأرسله اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى أهل سَدُوم.
قوله: «أتأتُونَ الفَاحِشَة» أتفعلون السيئة المتناهية في القبح، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢].
﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين﴾ في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جواباً لسؤال وألا تكون جواباً.
203
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإن قلت: ما موقع هذه الجملة» ؟
قلت: لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله: «أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ» ثُمَّ وبخهم عليها فقال: أنتم أوَّلُ من عملها. أو تكون جواباً لسؤال مقدَّر، كأنَّهُم قالوا: لِمَ لا تأتيها؟ فقال: «ما سبقكم بها أحَدٌ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به» وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة، كقوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٣٧] وقال الشَّاعِر: [الكامل]
٢٥١١ - وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني.................................
والباء في «بِهَا» فيها وجهان:
أظهرهما أنها حالية، أي: ما سبقكم أحدٌ مصاحباً لها أي: ملتبساً بها.
والثاني: أنَّها للتعدية.
قال الزمخشريُّ: الباءُ للتعدية من قولك: «سَبَقْته بالكُرة» إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ».
قال أبو حيان: «والتّعدية هنا قلقة جداً؛ لأنَّ» الباء «المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر «كان معناه: أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دفعت زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدْفَعْتُ زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر: أسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جعلت زَيْداً يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي: تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا».
و «مِنْ» الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض.
والوجه الثاني من وجهي الجملة: أنَّها حال، وفي صاحبها وجهان:
والثاني: هو المفعول أي: أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم.
قال عمرو بن دينار: «ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط».
قوله: «أإنَّكُمْ» قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصم: «إنكم» على الخبر المستأنف، وهو بيان تلك الفاحشة، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ، فقرأ ابنُ كثير بهمة غير
204
ممدودة وتليين الثَّانية، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية، والباقون بهمزتين على الأصل.
قال الواحديُّ: «كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله تعالى:» أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ «، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر».
قوله: ﴿لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً﴾ قيل: نصب «شَهْوَةٍ» على أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير.
وقيل: إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال، أي: مشتهين أو باق على مصدريَّته، ناصبة «أتَأتُونَ» ؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون.
ويقال: شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً، [وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ] قال الشَّاعر: [الطويل]
٢٥١٢ - وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ... إذَا مَا النُّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.
قوله: ﴿مِّن دُونِ النسآء﴾ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ متعلق بمحذوف، لأنَّهُ حال من «الرِّجالِ» أي: أتأتونهم منفردين عن النِّساء.
والثاني: أنَّهُ متعلِّق ب «شَهْوَة»، قاله الحوفيُّ. وليس بظاهر أن تقول: «اشتهيتُ من كذا»، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا.
والثالث: أن يكُون صفة ل «شهوة» أي: شهوة كَائِنَة من دونهن.
قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ «بل» للإضراب، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة، فقيل: عن مذكور، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة، أو عن توبيخهم وتقريرهم، والإنكار عليهم.
وقيل: بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ. واختف فيه:
فقال أبُو البقاء: «تقديرُهُ: ما عَدَلْتُم بل أنتم».
وقال الكَرْمَانيُّ: «بل» ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذراً أي: «لا عذر لكم بل».
وجاء هان بصفة القوم اسم الفاعل وهو «مُسْرِفُونَ» ؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي؛ فإنَّهَأ أسماء.
205
وجاء في النمل [٥٥] ﴿تَجْهَلُونَ﴾ دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال.

فصل في الإسراف


معنى «مُسْرِفُونَ» أي: يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ.
قال الحسنُ: «كانوا لا ينكحون إلا الغرباء».
وقال الكلبيُّ: «إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها أهلُ البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره، فأمر الله - تعالى - السَّماءَ أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم.
206
قوله :" أإنَّكُمْ " قرأ نافعٌ١ وحفصٌ عن عاصم :" إنكم " على الخبر المستأنف، وهو بيان تلك الفاحشة، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ، فقرأ ابنُ كثير بهمزة غير ممدودة وتليين الثَّانية، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية، والباقون بهمزتين على الأصل.
قال الواحديُّ٢ :" كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله تعالى :" أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ "، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر ".
قوله :﴿ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً ﴾ قيل : نصب " شَهْوَةٍ " على أنه مفعول من أجله، أي : لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير.
وقيل : إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال، أي : مشتهين أو باق على مصدريَّته، ناصبة " أتَأتُونَ " ؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون.
ويقال : شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً، [ وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ ]٣ قال الشَّاعر :[ الطويل ]
وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ : ارْتَحِلْ *** إذَا مَا النُّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَكَرَّتِ٤
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران٥.
قوله :﴿ مِّن دُونِ النساء ﴾ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ متعلق بمحذوف، لأنَّهُ حال من " الرِّجالِ " أي : أتأتونهم منفردين عن النِّساء.
والثاني : أنَّهُ متعلِّق ب " شَهْوَة "، قاله الحوفيُّ. وليس بظاهر أن تقول :" اشتهيتُ من كذا "، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا.
والثالث : أن يكُون صفة ل " شهوة " أي : شهوة كَائِنَة من دونهن.
قوله :﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾ " بل " للإضراب، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة، فقيل : عن مذكور، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة، أو عن توبيخهم وتقريرهم، والإنكار عليهم.
وقيل : بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ. واختلف فيه :
فقال أبُو البقاء٦ :" تقديرُهُ : ما عَدَلْتُم بل أنتم ".
وقال الكَرْمَانيُّ :" بل " ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذراً أي :" لا عذر لكم بل ".
وجاء هان بصفة القوم اسم الفاعل وهو " مُسْرِفُونَ " ؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي ؛ فإنَّهَا أسماء.
وجاء في النمل [ ٥٥ ] ﴿ تَجْهَلُونَ ﴾ دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال.

فصل في الإسراف


معنى " مُسْرِفُونَ " أي : يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ.
قال الحسنُ :" كانوا لا ينكحون إلا الغرباء " ٧.
وقال الكلبيُّ :" إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس ؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها٨ أهلُ البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره، فأمر الله - تعالى - السَّماءَ أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم٩.
١ ينظر: السبعة ٢٨٥، ٢٨٦، والحجة ٤/٤٣، ٤٤، وحجة القراءات ٢٨٧، وإعراب القراءات ١/١٩٢، والعنوان ٩٦، وشرح شعلة ٣٩٢، وإتحاف ٢/٥٤..
٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٣٧..
٣ سقط من أ..
٤ البيت للحطيئة ينظر: ديوانه ١١٨، الطبري ١٢/٥٤٨، الدر المصون ٣/٢٩٨..
٥ ينظر تفسير الآية ١٤ من سورة آل عمران..
٦ ينظر: الإملاء ١/٢٧٩..
٧ ذكره القرطبي في تفسيره ٧/١٥٦ عن الحسن..
٨ النجعة: عند العرب: المذهب في طلب الكلإ في موضعه. ينظر اللسان (نجع)..
٩ ذكره القرطبي في تفسيره ٧/١٥٦..
قوله: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ العامَة على نصب «جَوَابَ» خبراً للكون، والاسمُ «أن» وما في حيِّزِهَا وهو الأفصح؛ إذ فيه جعل الأعرف اسماً.
وقرأ الحسن «جوابُ» بالرَّفع، وهو اسمها، والخبر «إلاَّ أن قالُوا» وقد تقدَّم ذلك.
وأتى هنا بقوله «ومَا»، وفي النّمل [٥٦] والعنكبوت [٢٤] «فَمَا»، والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأنَّ المراد أنَّهُم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته، وأما الواو فالعتقيب أحدُ محاملها، فتعيَّن هنا أنَّها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنَّها اقتضت ذلك بوضعها.
قوله: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي: أخرجوا لوطاً وأتباعه. ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي: يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ.
وقيل: «يَتَطَهَّرونَ» أي: يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ.
وقيل: «يَتَطَهَّرونَ» يتباعَدُنَ عن المعاصي والآثام.
وقيل: «يَتَطَهَّرُونَ» أي على سبيل السخرية بهم، كما يقول بعض الفسقة لمن وعظة من الصلحاء: أبْعِدُوا عنَّا هذا المتقشّفَ، وأريحونا من هذا المتزهِّدِ.
المراد ب «أهله» : أنصاره وأتباعه.
206
وقال ابن عباس: «المراد: النتاه» وقوله: «إلا امْرَأتَهُ» أي: زوجتهُ، يقال: امرأةُ الرَّجل أي زوجته ويقال: رجل المرأة بمعنى زوجها؛ لأنَّ الزوج بمنزلة المالك لها، وليست المرأة بمنزلة المالك للرّجل.
وقوله: «مِنَ الغَابِرِينَ» يعني الباقين في العذاب.
وقيل: من الباقين المعمّرين قد أتى عليها دَهْرٌ طويل فهلكت، فهي مع من هلك.
يقال: غبر الشيء يغبرغبوراً إذا مكث وبقي.
وقوله: ﴿كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ جواب سؤال مقدَّر، وهذا كما تقد في البقرة، وفي أوَّل هذه السُّورة في قصة «إبليس».
والغابر: المقيم وهذا [هو] مشهور اللُّغة، وأنشدوا قول بي ذُؤَيْبٍ الهذلي: [الكامل]
٢٥١٣ - فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ وإخَالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ
ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيته في الضَّرْع، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً، قال أبو كبير الهُذَلِيُّ، ويروى لتأبَّط شَرّاً: [الكامل]
٢٥١٤ - ومُبَرَّأ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ
ومعنى «مِنَ الغَابِرِينَ» في الآية أي: من المقيمن في الهلاكِ.
وقال بعضهم: «غبر بمعنى مضى وذهب» ومعنى الآية يساعده؛ وأنشد للأعشى: [السريع]
٢٥١٥ - عَضَّ بِمَا أبْقَى المَوَاسِي لَهُ مِنْ أمِّهِ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ
أي: الزمان الماضي.
وقال بعضهم: غَبَرَ: أي غاب، ومنه قولهم: «غَبَر عَنَّا زماناً».
وقال أبُو عبيدة: «غبر: عُمِّر دَهْراً طويلاً حتّى هَرِمَ»، ويدلُّ له: ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ [الصافات: ١٣٥].
وقد تقدَّم. والحاصل أنَّ الغبور مشتركٌ ك «عَسْعَسَ»، أو حقيقة ومجازٌ وهو المرجح. والغبارُ: ما يبقى من التُّراب المُثَارِ ومنه: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠].
207
تخييلاً لتغيرها واسودادها والغَبْراء: الأرْضُ؛ قال طرفةُ: [الطويل]
208
قوله: «وأمْطَرْنَا» قال أبو عُبَيْدٍ: «يقال: مُطِر في الرحمة، وأمْطِر في العذاب».
وقال [أبو القاسم] الرَّاغِبُ: ويقال: مطر في الخير، وأمطر في العذاب، قال تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً﴾ [الحجر: ٧٤].
وهذا مردود بقوله تعالى: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فإنهم إنَّما عنوا بذلك الرحمة، وهو من أمْطَرَ: وأمْطرتهم، وقوله تعالى هنا: «وأمْطَرْنا» ضُمِّن معنى «أرْسَلْنَا» ولذلك عُدِّي ب «عَلَى»، وعلى هذا ف «مَطَراً» مفعولٌ به لأنَّهُ يُراد به الحجارة، ولا يُرَادُ به المصدر أصلاً، إذ لو كان كذلك لقيل: أمطار.
ويوم مَطِيرٌ: أي: مَمْطُورٌ. ويوم ماطر ومُمْطِرٌ على المجاز كقوله: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه ومطير بمعنى مُمْطِر؛ قال: [الطويل]
٢٥١٦ - رَأيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي وَلاَ أهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ المُمَدَّدِ
٢٥١٧ - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَاديَيْنِ تَرَنَّمِي سَقَاكِ من الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا
فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السَّحاب يمطرُ غيرها، ونكَّر «مطراً» تعظيماً، والمرادُ بالمطر هنا يعني حجارة من سجيل.
قال وهب: «هي الكبريت والنَّار فانظر كَيْفَ كان عاقِبةُ المجرمين».

فصل في إيجاب اللواط الحد


اللِّوَاط يوجب الحد، وهذه الآية تدلُّ عليه من وجوه:
الأول: أنَّهُ ثبت في شريعةِ لُوطٍ رجم اللوطيّ، والأصل بقاء ما ثبت إلى أنْ يرد الناسخ، ولم يرد في شرع مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما ينسخه، فوجب الحكم ببقائه.
الثاني: قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
الثالث: قوله تعالى: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾.
والمرادُ من هذه العاقبة ما سبق ذكر من إنْزالِ الحجر عليهم من المجرمين الذين
208
يعملون عمل قوم لوط؛ لأنَّ ذلك هو المدلول السابق، فينصرف إليه ذكر الحكم عقيب الوَصْفِ مشعراً بالعليَّة.
وقال أبو حنيفة: «اللَّوَاطُ لا يوجب الحدَّ».
واختلفوا في حدّ اللاَّئط: فقال بعضهم: «يُرجم مُحْصَناً كان، أو غير محصن، وكذلك المفعول به إن كان محتلماً».
وقال بعضهم: «إنْ كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن أدّب وحبس».
وقال أبو حنيفة: يُعزَّر، [وحجة الجمهور أن الله تعالى] عذب قوم لوط بالرجم وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَلَ قَوْمِ لوطٍ فاقْتُلُوا الفاعلَ والمَفْعُولَ بِهِ»
وروي عن أبي بكر الصديق أنَّهُ حَرَّقَ رجُلاً يُسَمّى الفُجَاءَة حين عمل عمل قوم لوط بالنَّار، وأحرقهم ابن الزُّبير في زمانه، ثم أحرقهم هِشامُ بنُ الوليدِ، ثم أحرقهم خالد القَسْريُّ ب «العراق».
وروي أن سبعة أخذوا في زمان ابن الزُّبير في لواط، فسألَ عنهم، فوجد أرْبَعةً منهم أحصنوا، فخرج بهم من الحرم، فرُجموا بالحجارة حتى ماتوا، وحد الثلاثة، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا، وهذا مذهب الشافعي.
قال ابن العربيِّ: الأوَّلُ أصحُّ سنداً وهو مذهب مالك.
فإن أتى البهيمة قيل: يقتل هو والبهيمة.
وقيل: يقتل دون البهيمة.
209
قوله تعالى: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ القصة.
اختلف في «مَدْيَنَ» : فقيل: أعجميٌّ، فمنعه للعُجْمَةِ والعلمية، وهو مدين بن إبراهيم - عليه السلام - فسُمِّيت به القبيلة.
209
وقيل: هو عربيٌّ اسم بلد، قاله الفرَّاءُ، وأنشد: [الكامل]
٢٥١٨ - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهِدْتُهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجُودَا
فمنعهُ للعَلِميَّة والتَّأنيث.
ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف، أي: وإلى أهل مدين، ولذلك أعاد الضَّمير في قوله: «أخَاهُم» على الأهل، ويجوز أن يراد بالمكان سَاكِنُوه، فروعي ذلك بالنِّسْبَةِ إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربياً قالوا: فهو شاذ، إذ كان من حقِّه الإعلال كمتاع ومقام، ولكنهم شذُّوا فيه كما شذوا في مَرْيم ومَكْوذَة، وليس بشاذٍ عند المبرِّد، لعدم جَرَيَانِهِ على الفعل، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه.
قوله: «شُعَيْباً» يجوز أن يكون تصغير شَعْب أو شِعْب هكذا قالوا، والأدبُ ألاَّ يقالَ ذلك، بل هذا موضوضعٌ على هذه الزِّنَةِ، وأمَّا أسماءُ الأنْبِيَاءِ فلا يدخلُ فيها تصغيرٌ ألْبَتَّةَ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشُعَيْب عليه السلام، وهو عربي لا أعجمي.

فصل


قال عطاء: «هو شعيبُ بْنُ نويب بنِ مَدْينَ بنِ إبراهيمَ».
وقال ابْنُ إسحاقَ: «هو شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم، وأم ميكائيل بنت لوط».
وقيل: هو شُعَيْبُ بنُ ميرون بن مدْينَ، وكان شعيب أعمى، ويقال له: «خِطِيبُ الأنْبِيَاء» لحسن مراجعته قومه وكان أهل كفر وبخس للكَيْلِ والميزان، وهم أصحاب الأيكة.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء.
﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ واعلم أنَّ المراد من البيِّنَةِ هنا المعجزة، ولم تذكر في القرآن. كما لم يذكر في القرآن كثير من مُعْجِزاتِ رسُولِنَا.
قال الزمخشريُّ: «ومن معجزات شعيب أنَّهُ دفع إلى موسى عصاه وصارت ثعباناً، وأيضاً قال لموسى - عليه [الصلاة] والسلام -: هذه الأغنام تلد أوْلاداً فيها سواد وبياض، وقد وهبتها لك، فكان الأمر كذلك».
210
قوله: ﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾.
اعلم أنَّ قوم شُعَيْبٍ كانوا مشغوفين بالبَخْسِ والتَّطْفيف.
فإن قيل: «الفاء» في قوله: «فأوفوا» توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره، وهو قوله: ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فكيف وجهه؟
فالجوابُ: كأنَّهُ يقول لهم: البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشَّيءِ القليل، وهو مستقبح في العقل، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر «فَأْفُوا الكَيْلَ».
وقال هنا: «الكَيْلَ» ولم يقل: «المِكْيَالَ» كما في سورة هود [٨٤] ؛ لأنَّهُ أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال: «العيش» لما يعاش به.
قوله: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ﴾ قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وهو يتعدّى لاثنين، وهما «النَّاس» و «أشياءهم»، أي: لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ، والسرقة والرشوة، وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل.
قوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾.
وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة، وهما يوجبان الفَسَادَ، لا جَرَمَ قال بعده: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾.
وقيل: أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ.
وقيل: أراد بقوله: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ﴾ المنع من فساد الدُّنيا، وبقوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ المنع من فساد الدِّين.
واختلفوا في معنى «بَعْدَ إصْلاحِهَا» : فقيل: بعد أن صلحت ببعثة الرسل.
وقيل: بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ.
ثم قال: «ذَلِكُمْ» وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي «خَيْرٌ لَّكُمْ» في الآخرة ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ مصدِّقين بما أقول.
211
يجوز أن تكون «الباء» على حالها من الإلصاق أو المصاحبة، أو تكون بمعنى «في» يقال: قَعَدَ لَهُ كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها، فقعد بمكان: الباء للغلصاق، وقد التصق بذلك المكان،
211
و «على» للاستعلاء، وقد علا ذلك المكان، و «في» للحلول، وقد حلّ ذلك المكان.
و «تُوعَدُونَ»، و «تَصُدُّون»، و «تَبْغُونَ» هذه الجمل أحوال [أي] : لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين.
ولم يذكر الزعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ: ومفعول «تصدُّون» «مَنْ آمَن».
قال أبُو البقاء: «مَنْ آمَنَ» مفعول «تَصُدُّونَ» لا مفعول «تُوعدُونَ»، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال: «تَصُدُّونَهُم»، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول: «تَصُدُّونهم» لكنه ليس القرآن كذا، فدل على أن «تُوعَدُونَ» ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - يكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهِر.
وظاهرُ كلام الزمخشري: أنَّهَا من التَّنَازُع، وأنَّهُ من أعمال الأوَّل، فإنَّهُ قال: فإن قلت: إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في «من آمَنَ بِهِ» ؟
قلتُ: إلى كلِّ صراطٍ، تقديره: تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظَّاهِر الذي هو «سبيل الله» موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم.
قال أبو حيَّان: «وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير، ووضع ظاهر موضع مضمر، إذ الأصل خلاف ذلك كُلَّهِ، ولا ضرورة تَدْعُوا إليه، وأيضاً فإنَّهُ من أعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [كقوله] :[مجزوء الكامل]
٢٥١٩ - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِري نَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ
فأعمل»
يُغشي «ورفع به» شُعَاعه «وحذفَ الضمير من» لَمَحُوا «تقديره: لمحوه، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ.
والضَّمير في»
به «: إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال:» به «فذكَّر، وقال:» وتَبْغُونها عِوَجاً «فأنَّث، ومثله: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨] [وقد تقدَّم] نحو قوله: ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ [آل عمران: ٩٩] في آل عمران.
212
ومعنى الآية أنَّهُم كانوا يجلسون على الطَّريق فيقولون لمن يريدُ الإيمانَ بشُعَيْبٍ: إنَّ شُعَيْباً كذاب فلا يفتننَّك عن دينك، ويتوعدون المؤمنين بالقَتْل، ويخوفونهم.
قال الزمخشريُّ: قوله: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ أي: ولا تقتدوا بالشَّيْطان في قوله: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦] قال: والمرادُ من قوله: «صِرَاطٍ» كلُّ ما كان من مناهج الدِّين ويدلُّ عليه قوله: ﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾.
قوله: «وَاذْكُرُوا» إمَّا أن يكون مفعوله محذوفاً، فيكون هذا الظَّرف معمولاً لذلك المفعول أي: اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن يجعل نفس الظرف مفعولاً به. قاله الزمخشريُّ.
وقال ابن عطية: «إنّ» الهاء «في» به «يجوز أن تعود على شعيب عند مَنْ يرى أنَّ القُعُودَ على الطرق للردِّ عن شعيب، وهو بعيد؛ لأن القائل:» ولا تقعدوا «هو شعيب، وحينئذ كان التركيب» مَنْ آمَنَ بِي «، والادِّعَاءُ بأنَّهُ من باب الالتفات بعيد جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال:» [يا] هذا أنا أقول لك لا تُهِنْ مَنْ أكرَمَه «أي: مَنْ أكرمني.
قوله: ﴿إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾.
قل الزَّجَّاج:»
هذا الكلام يحتمل ثلاث أوجه: كثر عددكم بعد القلّة، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقوة بعد الضعف «قال السدي:» كانوا عشارين «.
[قوله] :﴿وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾.
»
كيف «وما في حيِّزها معلِّقة للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض.
والنظرُ هنا التفكُّرُ، و»
كيف «خبر كان، واجب التقديم.
والمعنى: انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: جزاء قوم لوط من الخزي والنكار وعذاب الاستئصال.
213
قوله: ﴿وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ﴾ أي: اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنين ومكذبين، و «طائفة» الثانية عطف على «طائفة» الأولى فهي اسم كان و «لم يؤمنوا» معطوف على «آمنوا» الذي هو خبر كان، عَطَفَتْ
213
اسماً على اسم، وخبراً على خبر، ومثله لو قلت: «كان عبد الله ذاهباً وبكر خارجاً»، عطفْتَ المرفوع على مثله، وكذلك المنصوب، وقد حذف وصف طائفة الثانية لدلالة وصف الأولى عليه، إذ التقدير: «طائفة منكم لم يؤمنوا»، وحذف أيضاً متعلق الإيمان في الثانية، لدلالة الأولى عليه، إذ التقديرك لم يؤمنوا بالذي أُرسلت به، والوصف بقوله: منكم الظاهر أو المقّر هو الذي سَوغ وقوع «طائفة» اسماً ل «كان» من حيث أن الاسم في هذا الباب كالمتبدأ، والمبتدأ لا يكون نكرة إلا بمسوّغٍ تقدم التنبيه عليه.
قوله «فَاصْبِرُوا» يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه، وأن يكون للكافرين منهم، وأن يكون للفريقين، وهذا هو الظاهر أَمَرَ المؤمنين بالصبر ليحصُل لهم الظفر والغلبة، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقوله: ﴿قُلْ تَرَبَّصُواْ﴾ [الطور: ٣١]، أو على سبيل التنازل معهم أي: اصبروا فستعلمونَ مَنْ ينتصر ومن يَغْلب مع علمه بأن الغلبة له و «حتى» بمعنى «إلى» فقط.
وقوله «بيننا» غَلَّب ضمير المتكلم على المخاطب، إذ المرادُ بيننا جميعاً من مؤمن وكافر، ولا حاجة إلى ادِّعاء حذف معطوف تقديره: بيننا وبينكم. ثم قال: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ أي: أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف.
214
قوله تعالى: ﴿قَالَ الملأ الذين استكبروا﴾ هم الرؤساء ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب﴾ ونخرج أتباعك من قريتنا.
وقوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ عطف على الكاف، و «يا شعيبُ» اعتراض بين المتعاطفين.
قوله: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ عطف على جواب القسم، إذ التقدير: والله لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ، فالعَوْدُ مُسند إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه.
فإن قيل: إن شعيباً لم يكن قطّ على دينهم ولا ملتهم، فكيف يحسن أن يقال: «أو لتعودن في ملتنا»، وقوله: ﴿قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً﴾ يدل أيضاً على ذلك؟.
فالجواب: إن «عاد» في لسان العرب لها استعمالان.
أحدهما - وهو الأصل - أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول.
والثاني: استعمالُها بمعنى «صار»، وحينئذ ترفعُ الاسم وتنصبُ الخبرَ، فلا تكتفي بمرفوع وتفتقر إلى منصوب، [وهذا عند بعضهم] ومنهم من منع أن تكون بمعنى «صار» فمن مجيئها بمعنى «صار» قوله: [الطويل]
214
٢٥٢٠ - وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا ما تَرَكْتُهُ أخَا القَومِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شَارِبُهَ
وَبِالْمَحْضَ حَتَّى عَادَ جَعْداً عَنَطْنَطاً إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
فرفع ب «عاد» ضمير الأول ونصب بها «جَعْداً»، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً قال: [الطويل]
٢٥٢١ - فَإنْ تَكُنْ الأيَّامُ أحْسَنَ مُدَّةً إليَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّْ ذُنُوبُ
أي: صار لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان، وعلى هذا فزال الإشكال، والمعنى: لتصرينّ في ملتنا بعد أن لم تكونوا، ف «في ملتنا» خبر على هذا وأمّا على الأول فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا القول من رؤسائهم، قصدوا به التلبيس على العوام، والإيهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ.
الثاني: أنهم خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم.
الثالث: أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالة سكوته قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه، وهو ساكت عنهم بريء مِنْ معبودهم غير الله.
وعدَّى «عاد» ب «في» الظرفية، كأن المِلَّة لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم.
قوله: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ الاستفهامُ للإنكار تقديره: أيوجدُ منكم أحد هذين الشيئين: أعني الإخراج من القرية، والعَوْد في الملة على كل حال حتى في حال كراهتنا لذلك؟.
وقال الزمخشري: «الهمزةُ للاستفهام، والواوُ واو الحال تقديره: أتعيدوننا في ملَّتكم في حال كراهتنا».
قال أبو حيان: «وليست هذه واو الحال، بل واو العطف، عطفت هذه الحال على حال محذوفة، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» رُدُّوا الساَّئِلَ ولَوْ بِظلْفٍ مُحرقٍ «
215
ليس المعنى: رُدُّوه حال الصدقة عليه بظلف مُحرق، بل معناه: رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلفٍ محرق، وقد تقدّمت هذه المسألة، وأنه يصح أن تُسمَّى واو الحال وواو العطف [وتحرير ذلك، ولولا تكريره لما كرَّرْته].
وقال أبو البقاء: و «لو» هنا بمعنى «إنْ» لأنها للمستقبل، ويجوز أن تكون على أصلها، ويكون المعنى: لو كنا كارهين في هذا الحال أي أن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه.
وقوله: «لأنها للمستقبل» ممنوع.
قوله: «إنْ عُدْنَا» شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي: فقد افترينا، حذف لدلالة ما تقدم عليه، وعند أب زيد والمبرد والكوفيين هو قوله: «فقد افتَرْينا» وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء.
وقال أبو البقاء: «قد افترينا بمعنى المستقبل؛ لأنه لم يقع، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب» إنْ عُدْنا «وساغ دخولُ» قد «هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب» قد «، وكأنَّ المعنى: قد افترَيْناه الآن إن هَمَمْنا بالعود».
وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري، كأنه قيل: ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر.
والثاني: أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه، والتقدير: والله لقد افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً، وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد: [الكامل]
٢٥٢٢ - بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
قال: «كما تقول: افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً» ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا، وهو محلُّ الفائدة؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو: [الكامل]
٢٥٢٣ - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ
قوله: ﴿بَعْدَ إذْ نَجَّانَا﴾ منصوب ب «نعود» أي: ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها.

فصل في معنى التنجية


وفي معنى ﴿نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ وجوه:
216
الأول: علمنا قبحه وفساده وبطلانه.
الثاني: أن الله نجّى قومه من تلك الملة، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر.
الثالث: أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم، فقوله: ﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ أي على حسب معتقدكم.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه متصل.
والثاني: أنه منقطع. ثم القائلون بالاتصال مختلفون: فمنهم من قال: هو مستنثى من الأوقات [العامة] والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم؛ لأنه عَصَمهم.
ومنهم من قال: «هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير: ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى».
وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [به] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به».
قال أبو حيان: «وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر».
قال شهاب الدين: «قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال: وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد، لأن فيه تبعيض الملّة».
وقيل: هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب.
قال ابن عطية: «ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء، ولو كان الكلام: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ﴾ قوي هذا التأويل».
وهذا الذي قاله سهوٌ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد «إنْ» الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له ب «أنْ» المصدرية.
وقيل: إن الضمير في قوله: «فيها» ليس عائداً على المِلَّة، بل عائد على الفِرْية، والتقدير: وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه.
217

فصل في بيان المشيئة


استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير.
فأمّا وجه استدلال اهل السنة فمن وجهين:
الأول: قوله: ﴿إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ [يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى -، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله ﴿إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ ].
الثاني: أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، وتلك الملة كفر، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر.
قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ [إبراهيم: ٣٥] وكان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ». وقال يوسف - عليه السلام -: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً﴾ [يوسف: ١٠١] وأجاب المعتزلة بوجوه:
أحدها: أن قوله: «ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [الله] أن يعيدنا إيها قضية [شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء.
وثانيها: أن هذا مذكور على طريق التبعيد] كما يقال: لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط.
وثالثها: قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى -، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى -
218
كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى، وإن كان غسل الرجلين أفضل.
219
ورابعها: أن المراد بقوله: ﴿لنخرجنك يا شعيب﴾ أي من القرية، فيكون المراد بقوله: ﴿أن نعود فيها﴾ أي القرية.
220
وخامسها: أن نقول: يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر؛ لأن {وما كان لنا أن
221
نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله} معناه: فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيءها، فقوله: «لنا أن نعود
222
فيها} أي يكون ذلك العود جائزاً، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل، فإنه
223
تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [عودنا في ملتكم
224
فإنا نعود إليها، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله] بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم.
وسادسها: قال الجبائي: المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب: ﴿وما كان لنا أن نعود في ملتكم﴾ فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ، لا جرم قال: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ والمعنى: إلا أن يشاء الله بقاء بعضها، فيدلّنا عليه، فحينئذ نعود إليها، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة، فهذه أسئلة القوم.
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين:
الأول: أن ظاهر قوله ﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله﴾ يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيهن ولم يكن حراماً، قالوا: وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى.
الثاني: ان قولهم: «لنخرجنّك أو لتعودُنَّ» لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.
واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب.
قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ نصب «عِلْماً» على التمييز وهو منقول من الفاعلية، تقديره: وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٢٤] والمعنى: أحاط علمه بكل شيء.
ثم قال: ﴿عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا﴾ فيما توعدوننا به، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾.
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: «احكم واقض».
وقال الفراء: «وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ».
225
وعن ابن عباس قال: «ما كنت أدري قوله ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا﴾ حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: أفاتحك أي: أحاكمك»، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير.
وقيل: بلغة مُرَاد وأنشد: [الوافر]
٢٥٢٤ - ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
قال الزجاج: وجائز أن يكون قوله: ﴿افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين، وكرر ﴿بيننا وبين قومنا﴾ بخلاف قوله: ﴿حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا﴾ [الأعراف: ٨٧] زيادة في تأكيد تمييزه، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ [أي: خير الحاكمين أو خير المظهرين، وذا معنى قول من على المعنيين]، والمراد به الثناء على الله تعالى.
226
قوله :" إنْ عُدْنَا " شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترينا، حذف لدلالة ما تقدم عليه، وعند أب زيد والمبرد١ والكوفيين هو قوله :" فقد افتَرْينا " وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء.
وقال أبو البقاء٢ :" قد افترينا بمعنى المستقبل ؛ لأنه لم يقع، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب " إنْ عُدْنا " وساغ دخولُ " قد " هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب " قد "، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعود ".
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري٣، كأنه قيل : ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر.
والثاني : أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه، والتقدير : والله لقد افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً، وجعله ابن عطية احتمالاً٤ وأنشد :[ الكامل ]
بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ٥
قال :" كما تقول : افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً " ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا، وهو محلُّ الفائدة ؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو :[ الكامل ]
إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ٦
قوله :﴿ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا ﴾ منصوب ب " نعود " أي : ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها.

فصل في معنى التنجية


وفي معنى ﴿ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ وجوه :
الأول : علمنا قبحه وفساده وبطلانه.
الثاني : أن الله نجّى قومه من تلك الملة، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر.
الثالث : أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم، فقوله :﴿ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ أي على حسب معتقدكم.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ﴾ في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أنه متصل.
والثاني : أنه منقطع. ثم القائلون بالاتصال مختلفون : فمنهم من قال : هو مستنثى من الأوقات [ العامة ] والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم ؛ لأنه عَصَمهم.
ومنهم من قال :" هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير : ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى ".
وقال ابن عطية :" ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [ به ] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به٧ ".
قال أبو حيان٨ :" وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله :﴿ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر ".
قال شهاب الدين٩ :" قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال : وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد، لأن فيه تبعيض الملّة ".
وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب.
قال ابن عطية١٠ :" ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء، ولو كان الكلام :﴿ إِلاَّ إن شَاءَ ﴾ قوي هذا التأويل ".
وهذا الذي قاله سهوٌ ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد " إنْ " الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له ب " أنْ " المصدرية.
وقيل : إن الضمير في قوله :" فيها " ليس عائداً على المِلَّة، بل عائد على الفِرْية، والتقدير : وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه.

فصل في بين المشيئة


استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر١١، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير.
فأمّا وجه استدلال أهل السنة فمن وجهين :
الأول : قوله :﴿ إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ [ يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى -، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله ﴿ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا ﴾ ] ١٢.
الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، وتلك الملة كفر، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر١٣.
قال الواحدي١٤ : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عليه الصلاة والسلام - :﴿ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] وكان محمد صلى الله عليه وسلم يقول :" يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ " ١٥. وقال يوسف - عليه السلام :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً ﴾ [ يوسف : ١٠١ ].
وأجاب المعتزلة بوجوه١٦ :
أحدها : أن قوله :" ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [ الله ] أن يعيدنا إليها قضية [ شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء.
وثانيها : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ]١٧ كما يقال : لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط.
وثالثها : قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ﴾ ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو ؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى -، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى، وإن كان غسل الرجلين أفضل١٨.
ورابعها : أن المراد بقوله :﴿ لنخرجنك يا شعيب ﴾ أي من القرية، فيكون المراد بقوله :﴿ أن نعود فيها ﴾ أي القرية.
وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر ؛ لأن ﴿ وما كان لنا أن فيها إلاَّ أن يشاء الله ﴾ معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها، فقوله :﴿ لنا أن نعود فيها ﴾ أي يكون ذلك العود جائزاً، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [ بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله ]١٩ بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم٢٠.
وسادسها : قال الجبائي٢١ : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب :﴿ وما كان لنا أن نعود في ملتكم ﴾ فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ، لا جرم قال :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها، فيدلّنا عليه، فحينئذ نعود إليها، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة، فهذه أسئلة القوم٢٢.
وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين٢٣ :
الأول : أن ظاهر قوله ﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ﴾ يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه، ولم يكن حراماً، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى.
الثاني : أن قولهم :﴿ لنخرجنّك أو لتعودُنَّ ﴾ لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.
واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب.
قوله :﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ نصب " عِلْماً " على التمييز وهو منقول من الفاعلية، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى :﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ [ مريم : ٢٤ ] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء.
ثم قال :﴿ عَلَى الله تَوَكَّلْنَا ﴾ فيما توعدوننا به، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال :﴿ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ﴾.
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي :" احكم واقض " ٢٤.
وقال الفراء :" وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح ؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ ".
وعن ابن عباس قال :" ما كنت أدري قوله ﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا ﴾ حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك٢٥ "، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير.
وقيل : بلغة مُرَاد وأنشد :[ الوافر ]
ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ٢٦
قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله :﴿ افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين، وكرر ﴿ بيننا وبين قومنا ﴾ بخلاف قوله :﴿ حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا ﴾ [ الأعراف : ٨٧ ] زيادة في تأكيد تمييزه، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال :﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين ﴾ [ أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين، وذا معنى قول من على المعنيين ]٢٧، والمراد به الثناء على الله تعالى.
١ ينظر: المقتضب ٢/٦٦..
٢ ينظر: الإملاء ١/٢٨٠..
٣ ينظر: الكشاف ٢/١٣٠..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٢٨..
٥ تقدم..
٦ تقدم..
٧ في أ: يتعبده..
٨ ينظر : البحر المحيط ٤/٣٤٦..
٩ ينظر: الدر المصون ٣/٣٠٤..
١٠ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٢٩..
١١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٤٥..
١٢ سقط من ب..
١٣ ينظر تفسير الرازي ١٤/١٤٥..
١٤ ينظر تفسير الرازي ١٤/١٤٥..
١٥ أخرجه مسلم ٤/٢٠٤٥ كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (١٧/٢٦٥٤) وأخرجه الترمذي ٤/٣٩٠-٣٩١ كتاب القدر: باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن (٢١٤٠) وقال: وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمر وعائشة، وهذا حديث حسن، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس، وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح..
١٦ ينظر: الفخر الرازي ١٤/١٤٥..
١٧ سقط من أ..
١٨ قد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره – وعليه الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب مسحهما، وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني: أن المتوضىء مخير بين غسلهما ومسحهما، وعليه الحسن البصري، وهو محكي عن ابن جرير الطبري، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث: أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا، وعليه بعض أهل الظاهر كـ "داود" والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، لأمور:
أولا: الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه –صلى الله عليه وسلم- وفيها أنه غسل رجليه. منها أولا: ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جماعة توضئوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال: "ويل للأعقاب من النار" وفيه دلالة على أن استيعاب الرجلين بالغسل واجب. وثانيا – ما روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدميه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فأحسن وضوءك".
وثالثا: ما روى أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يال رسول الله، كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا" وذكر الحديث: إلى أن قال "ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا. ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم". وهو من أحسن الأدلة في المسألة.
ورابعا : ما قال البيهقي: روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم – في الوضوء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، كما أمره الله تعالى. قال البيهقي: وفي هذا دلالة على أن الله تعالى أمر بغسلهما. وخامسا: حديث لقيط بن صبرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وخلل بين الأصابع" وهو حديث صحيح، رواه الترمذي وغيره، وصححوه. وفيه دلالة للغسل –وسادسا: بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه".
وثانيا: الإجماع قال الحافظ في الفتح: "ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك "يعني غسل الرجلين" إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك "اهـ". رواه سعيد بن منصور اهـ شوكاني.
ثالثا: أنهما عضوان محدودان في كتاب الله تعالى كاليدين، فإنه قال: (إلى الكعبين) كما قال: "إلى المرافق" فكان واجبهما الغسل كاليدين واحتج من لم يوجب غسل الرجلين أولا بقوله تعالى: ﴿وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم﴾ بالجر على إحدى القراءتين في السبع، بعطف الأرجل على الرءوس، كما عطف الأيدي على الوجوه، فعطف الممسوح على الممسوح. وثانيا: بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان" وثالثا: بما روي عن أنس أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال: " أمر الله تعالى بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين" فقال أنس: صدق الله و كذب الحجاج. "فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم". قرأها جرا. ورابعا: بما روي عن ابن عباس أنه قال: "إنما هما غسلتان ومسحتان" وعنه أيضا: "أمر الله بالمسح" وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين ويأبى الناس إلا الغسل. وخامسا: بما روي عن رفاعة من حديث المسيء صلاته. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمره الله تعالى، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه". وسادسا: بما روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء، فرش على رجله اليمنى، وفيها نعله ثم فتلها، ثم صنع بالأخرى كذلك. وسابعا: بقياس حاصله: أنه عضو لا مذخل له في التيمم، فجاز مسحه كالرأس.
والجواب عن احتجاجهم بالآية: أنها قرئت بالنصب والجر والرفع، وقراءة النصب والجر سبعيتان. قرأ بالنصب نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه. وقرأ بالجر ابن كثير وحمزة وأبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر عنه. وأما الرفع فقراءة الحسن.
أما قراءة النصب فيكون أرجلكم فيها معطوفا على الوجه والأيدي. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ بالنصب، وقال: هو من المقدم والمؤخر يعني أن "وامسحوا برؤوسكم" مقدم على "وأرجلكم" وهو مؤخر عنه – ونظم الآية على الترتيب هكذا: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم" وقرأ ابن عباس بالنصب، وقال: يرجع إلى الغسل، وكذلك مجاهد وعروة. والنصب صريح في الغسل فعلى هذه القراءة لا دلالة فيها على المسح.
وأما قراءة الرفع فأرجلكم مبتدأ والخبر يحتمل أن يكون مغسولة أو ممسوحة على السواء. ولعل هذه شبهة القائلين بالتمييز بين الغسل والمسح. لكن أدلة الجمهور المتقدمة تعين أن الخبر مغسولة. وأما قراءة الجر فالجواب عنها من وجوه: -أولا: قال سيبويه والأخفش وغيرهما: إن جرها بالجوار للرؤوس "لا بحكم العطف عليها". مع أن الأرجل منصوبة. كما تقول العرب: "جحر ضب خرب" بجر خرب على جوار ضب، وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾، فجر أليما على جوار يوم، وهو منصوب صفة لعذاب، ولا يعكر على الجر بالمجاورة وجود الواو، فإن الجر بالمجاورة مع الواو مشهور في أشعارهم. من ذلك قول الشاعر:
لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول
فجر موثقا لمجاورته منفلت، وهو مرفوع معطوف على أسير. فإن قيل: الجر بالمجاورة إنما يكون فيما لا لبس فيه، وهذا فيه لبس. قلنا: لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إليهما اتفاقا ويدل على أن الجر بالمجاورة لا بالعطف أن المسح لو كان في كتاب الله تعالى لكان الاتفاق فيه، والاختلاف في الغسل. وقد اتفقنا على جواز الغسل. على أن السنة والإجماع قد بينا أن المراد من فرض الرجلين الغسل. ومع هذا فلا لبس مطلقا. وثانيا: قال أبو علي الفارسي قراءة الجر وإن كانت عطفا على الرؤوس، فالمراد بها الغسل، لأن العرب تسمي خفيف الغسل مسحا، ولهذا إنهم يقولون: مسحت للصلاة. يريدون به الغسل. وإنما عبر عن غسل الرجلين بالمسح طلبا للاقتصاد فيه، لأنهما مظنة الإسراف، لغسلهما بالصب عليهما. وبجعل الباء المقدرة على هذا للإلصاق، ولا للتبعيض. يدل لهذا أنه حد فرض الرجلين بالكعبين مع أن المسح لا يجب فيه الاستيعاب، فدل على أنه أراد به الغسل. وثالثا: نقول إنها وإن كانت معطوفة على الرؤوس فإنه أراد به مسح الرجلين في حالة مخصوصة، وهي حالة لبس الخف، فالمراد بمسح الرجل مسح الخف.
والتحديد الكعبين، مع أن مسح الخف لا يجب فيه الاستيعاب، إنما هو لبيان محل الإجزاء فيه. وأما قول علي رضي الله عنه، فإنه أراد به: إذا لبس الخف. لما روي عنه أنه مسح على الخف وقال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع؛ ومن رأى المسح على الخفين لا يرى مسح الرجلين. وروى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: "اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم". فدل على أنه أراد المسح في حالة لبس الخفين. وأما الجواب عن احتجاجهم بقول أنس فمن وجوه:
أحدها: أن أنسا أنكر على الحجاج كونه الآية تدل على يقين الغسل، وكان يعتقد أن الغسل إنما علم وجوبه من بيان السنة، فهو موافق للحجاج في الغسل مخالف له في الدليل. وهذا الجواب هو المشهور- والثاني: أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة، فكأنه لم يكن بلغه قراءة النصب، وهذا غير ممتنع، ويؤيد هذا التأويل : أن أنسا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على الغسل، وكان أنس يغسل رجليه، وهذا الجواب ذكره البيهقي وغيره. والثالث: سلمنا أن كلام أنس يتعذر تأويله، لكن ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وفعل الصحابة وقولهم، مقدم عليه فلم يكن حجة، وأما الجواب عن قول ابن عباس فمن وجهين: أحدهما: أنه ليس بصحيح ولا معروف عنه، وإن كان قد رواه ابن جرير عنه إلا أن إسناده ضعيف، بل الصحيح الثابت عن أنه كان يقرأ (وأرجلكم) بالنصب. ويقول: عطف على المغسول. هكذا رواه عنه الأئمة الحفاظ، منهم: أبو عبيدة القاسم وجماعات القراء والبيهقي وغيره بأسانيدهم. وقد ثبت في صحيح البخاري عنه أنه توضأ فغسل رجليه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وثانيهما كالجواب الأخير في كلام أنس المتقدم، والأول أصحهما –وأما الجواب عن حديث رفاعة فهو أنه على لفظ الآية، فيقال فيه كما قيل في الآية. وأما حديث علي فالجواب عنه من أوجه أحسنها: أنه ضعيف، ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ فلا يحتج به، لو لم يخالفه غيره، فكيف وهو ماخلف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة؟ الثاني: أنه لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه، لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث: أنه محمول على أنه غسل الرجلين في النعلين، فقد ثبت عنه من أوجه كثيرة غسل الرجلين، فوجب حمل الرواية المحتملة على الروايات الصحيحة الصريحة – وأما قياسهم على الرأس فمنتقض برجل الجنب، فإنه لا مدخل لها في التيمم، ولا يجزىء مسحها بالاتفاق. وأما القائلون بوجوب المسح وهم الإمامية، فلم يأتوا بحجة، وجعلوا قراءة النصب في الآية عطفا على محل قوله: برؤوسكم (وهو النصب) ومنهم من يجعل الباء الداخلة على الرؤوس زائدة، والأصل (وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم) بل رجحوه بقرب الرؤوس، ولا يصح متمسكا لهم، لمخالفة الكتاب والسنة المتواترة قولا وفعلا. ولو سلم هذا لهم، فبماذا يجيبون عن الأحاديث المتواترة؟ وقد علمت أن هذا الخلاف منهم لم يكن شيئا يذكر في جانب الإجماع، إذ لا اعتداد بهم فيه.
مذهب الشافعية جواز المسح على الخف الشرعي، لمن ليس يشرطه بدلا عن غسل الرجلين في الوضوء، وعليه الصحابة والجمهور وبه قال عامة الفقهاء، وبه قال مالك في رواية عنه وروى الشافعي عنه أنه قال: يكره ذلك، وقالت الشيعة والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري: لا يجوز –وهو رواية ابن أبي ذؤيب عن مالك أنه أبطل المسح على الخفين في آخر أيامه، ويدل للشافعية أولا: إجماع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين، سواء كان لحاجة، أو لغيرها حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي. فخلاف الشيعة والخوارج لا يعتد به، فقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روي عنه منهم إنكاره، فقد روي عنه إثباته. وقال: ليس في المسح على الخفين اختلاف هو جائز اهـ. وقال: جماعات من السلف نحو هذا وقال ابن عبد البر لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره، إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته. وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا، ثانيهما: للمسافر دون المقيم. وثانيا: السنة المروية من الطرق المختلفة بالأسانيد الصحيحة المتواترة معنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه وترخيصه فيه. واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه.
فمن ذلك أولا: ما ثبت في الصحيحين عن جرير البجلي –رضي الله تعالى عنه- قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين، ورواه أبو داود وزاد في روايته قالوا لجرير: إنما كان هذا قبل نزول المائدة –فقال جرير: وما أسلمت إلا بعدها، وكان إسلام جري.

١٩ سقط من أ..
٢٠ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٤٦..
٢١ ينظر: المصدر السابق..
٢٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٤٦..
٢٣ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٤٦..
٢٤ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٤-٥ عن ابن عباس والحسن وقتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور ٣/١٩١ وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢٥ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٥ وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/١٩١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" والبيهقي في "الأسماء والصفات"..
٢٦ البيت ينظر: أمالي القالي ٢/٢٨١ ومجاز القرآن ١/٢٢٠، والبحر ٤/٣٤٤ والصحاح (رسل)، واللسان (رسل)، و "فتح" والتاج (فتح)، إصلاح المنطق ١١٢. الدر المصون ٣/٣٠٤، والطبري ٩/٣ والقرطبي ١٣/٩٤، والسمط ٩٢٧، وفي عزو البيت اختلاف، قال الميمني في السمك ما حرفه: "البيت رواه يعقوب في الإصلاح ١/١٨٨ غير معزوّ، وروايته :"بني عمرو" وكذا في اللسان (فتح) منسوبا للأسعر الجعفي، وفي زيادات الجمهرة ٢/٤ برواية "بني بكر بن عبد" منسوبا لأعشى قيس (ولم يرو له)... ولكن ليس ثمة أحد من العشو في كندة، فـ "الأعشى" فيه مصحف "الأسعر" وهو من جعفي بطن من كندة، وقال أبو محمد بن السيرافي (وعنه اللسان اللسان مادة قتا): وجدت هذا البيت للشويعر الجعفي، على خلاف ما رواه يعقوب، ثم وجدت لمحمد بن حمران أبي حمران في الحماسة الصغرى لأبي تمام ص ٤٦:
أبلغ بني حمران أنـ *** ـني عن عداوتكم غني
بتقييد القافية في تسعة أبيات (السمط ٩٢٨)، والجعفي هو مرثد بن حمران الجعفي، يكنى أبا حمران (ولعل محمد بن حمران مصحف مرثد..) وهو جاهلي، راجع ترجمته في المؤتلف ٤٧، والسمط ٩٤"..

٢٧ سقط من أ..
لمّا بيَّن عظيم ضلالهم بتكذيب شعيب بيَّن أنهم لم يقتصروا على التكذيب حتى أضلّوا غيرهم ولاموهم على متابعة شعيب بقولهم: ﴿لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً [إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾.
قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون﴾ «إذن» حرفُ جواب وجزاء، وقد تقدّم الكلام عليها
226
مُشْبعاً] وهي هنا معترضة بين الاسم والخبر، وقد توهمَّ بعضهم فجعل «إذن» هذه «إذا» الظرفية في الاستقبال نحو [قولك] :«ألْزِمُك إذا جئتني» أي وقت مجيئك.
قال: «ثم حُذِفَت الجملة المضافةُ هي إليها، والأصل: إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون، ف» إذا «ظرف والعاملُ فيه» لخاسرون «، ثم حذفت الجملة المضافة إليها وهي» اتبعتموه «، وعُوِّضَ منها التنوين، فلما جيء بالتنوين وهو ساكن التقى بمجيئه ساكنان، هو والألفُ قبله، فحُذِفَت الألفُ لالتقاء الساكنين، فبقي اللفظ» إذن «كما ترى».
وزعم هذا القائل أن ذلك جائز بالحَمْل على «إذا» التي للمضيّ في قولهم: «حينئذٍ» و «يومئذٍ» فكما أن التنوين هنا عوض عن جملة عند الجمهور كذلك هنا.
وردّ أبو حيان هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكم ل «إذا» الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه.
قال شهاب الدين: وهذا ليس بلازم إذ لذلك القائل أن يقول: قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ﴾ [يوسف: ٧٩].
وقد رأيت كلام القرافي في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرُّطبُ إذا جفَّ؟ فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن» أن «إذن» هذه هي «إذا» الظرفية، قال: كالتي في قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة: ١] فحذفت الجملة، وذكره إلى آخره.
وكنت لمّا رأيته تعجبت غاية العجب كيف يَصْدرُ هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه، فذهب تعجبي منه، فإن لم يكن ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في هذه المسألة سَلَفٌ، وإلاَّ فقد اتحد الأصل، والظاهر أنه غيره.
وقوله: «إنكم» هو جواب والقسم الموطَّأ له باللاَّم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما جوا بالقسم الذي وطَّأتْه اللام في قوله: ﴿لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً﴾ وجوابُ الشرط؟.
قلت: قوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون﴾ سادٌّ مسد الجوابين.
قال أبو حيان: «فالذي قاله النحويون: إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك وجب مُضِيُّ فعل الشرط فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذكر جواب الشرط فهو قريب، وإن عنى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم، لأن الجملة يمتنع ألا يكون لها محل من الإعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإعراب».
وهذه المسألة قد تقدَّمَتْ مِراراً واعتراض الشيخ عليه، وتقدَّم جوابه ويعني الشيخ بقوله: لأنَّ الجلمة يمتنع أن يكون لها محلٌّ من الغعراب إلى آخره؛ لأنها من حيث كونها.
227
جواباً للشرط تستدعي ألا يكون لها محل إذ الجملة [الابتدائية] لا محل لها.

فصل في معنى الخسران


قوله: «لخاسرون» أي في الدين، وقال بعضهم: «في الدنيا أي مغببونون».
وقال عطاء: «جاهدون».
وقال الضحاك: «عجزة».
228
قال الكلبي: «الزلزلة الشديدة المهلكة».
وقال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم، فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، فألهبها الله عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً.
وروي أن الله حبس عنهم الريح سبعة أيّام ثم سلط عليهم الحرّ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل، فإذا تحته أنهار وعيون، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم، فذلك قوله: «عذاب يوم الظلة».
[قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة]، وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم [الصيحة] صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة فهلكوا بالظلة جميعاً.
قال أبو عبد الله البَجِلِيُّ: كان أبْجَدْ وهَوَّز وحُطِّي وكَلَمُنْ وسَعْفَص وقَرَشَت ملوكَ «مَدْيَنَ»، وكان ملكُهُمْ في زمن شعيب يوم الظُّلَّة «كَلَمُنْ»، فلما هلك، قالت ابنته تبكيه:
[الرمل]
٢٥٢٥ - كَلَمُنْ هَدَّمَ رُكْني هُلكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ
سَيِّدُ القَوْمِ أتَاهُ الْ حَتْفُ نَارٌ تَحْتَ ظُلَّهْ
جُعِلَتْ نَاراً عَلَيْهِم دَارُهُمْ كالمُضْمَحِلَّهْ
وقد تقدم الكلام على قوله: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾.
قوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً﴾ فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده.
قال الزمخشري: «وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهْلِكوا واستُؤصلوا كأن لم يُقيموا في دارهم؛ لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى».
قال شهاب الدين: «قوله:» يفيد الاختصاص «هو معنى قول الأصوليين:» يفيد الحصر «على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت: زيد العالمن والخلاف في قولك: العالم زيد أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ».
الثاني: أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملةُ من قوله: ﴿كانوا هم الخاسرين﴾ في محل رفع خبراً له، وهو وخبره خبر الأول، و ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ﴾ : إمَّا اعتراض، وإمَّا حال من فاعل «كذَّبوا».
الثالث: أن يكون الموصولُ الثاني خبراً بعد خبر عن الموصول الأول، والخبر الأول الجملة التشبيهية.
الرابع: أن يكون الموصول الثاني بدلاً من قوله: ﴿وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٩٠] فكأنه قال: «وقال الذين كفروا منهم الذين كذّبوا شعيباً» وقوله: ﴿لئن اتبعتم شعيباً﴾ معمول للقول فليس بأجنبي.
الخامس: أنه صفة له، أي: للذين كفروا من قومه.
هذه عبارة عن أبي البقاء، وتابعه أبو حيان عليها، والأحسن أن يقال: بدلٌ من الملأ أو نعت له؛ لأنه هو المحدَّثُ عنه والموصول صفة له، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل «كذَّبوا».
وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً باعتبارين: أعني كونه أول أو ثانياً، ويجوز أن يكون بدلاً من فاعل «يغنوا» أو منصوباً بإضمار «أعني» أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها، وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداء يفيد الاختصاص قال: «أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه، وقد تقدَّم موضحاً».
229
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا﴾ يغنون: بمعنى يقيمون يقال: غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى، وقيَّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، فهو أخصُّ من مطلق الإقامة؛ قال الأسَودُ بْنُ يَعْفُرَ: [الكامل]
٢٥٢٦ - وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بأنْعَمِ عِيشَةٍ فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ
وقيل: معنى اآية هنا من الغِنَى الذي هو ضد الفقر، قاله الزجاج وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية؛ وأنشدوا: [الطويل]
٢٥٢٧ - غَنِيَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُك والغِنَى [كما الدَّهرُ في أيَّامِهِ العُسْرُ واليُسْرُ]
كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيناً وغلْظَةً وكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكأسمهما الدَّهْرُ
قالوا: معناه استغنينا ورضينان فمعنى ﴿كأن لم يغنوا فيها﴾ كأن لم يعيشوا فيها مستغنين.
قال ابن الخطيب: فعلى هذا التفسير شبّه الله - تعالى - حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر: [الطويل]
٢٥٢٨ - كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أهْلَهَا فأبَادَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي والحُدُودُ العَواثِرُ
وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال: ﴿وغني ي مكان كذا إذا طال مقامه فيه مُسْتَغْنِياً به عن غيره «.
قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾
كرر قوله: ﴿الذين كذبوا شعيباً﴾ تعظيماً لذمهم وتعظيماً لما يستحقون من الجزاء، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل لغيره:» أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي هنا أعرضانا «، ولمَّا قال القوم: ﴿لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون﴾ بيَّن الله - تعالى - أن الذين لم يتبعوه وخافوه هم الخاسرون، وقد تقدم الكلام على قوله:» فتولّى عنهم «في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله.
قال الكلبي:»
لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم «.
230

فصل في الدلالة من الآية


دلّت الآية على أشياء: منها: أن ذلك العذابإنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار.
[ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي].
ومنها: أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب - عليه السلام -؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات.
231
قوله: ﴿فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ «كيف» هنا مثل «كيف» في: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] وتقدم الكلام على «آسى» وبابه.
وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش: «إيسى» بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعة، وتقدم أنها لغة بني أخْيَل في «الفاتحة»، ولزم من ذلك قلب الفاء بعدها ياءً؛ لأن الأصل أأسى بهمزتين.
والأسى: شدة الحظن قال العجّاج: [الرجز]
٢٥٢٩ - وانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ منْ فَرْطِ الأسَى... والأسى: الصبر.
وفي المعنى قولان:
الأول: أنه اشتد حزنه على قومه، لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الإيمان، فلمّما نزل بهم الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة حزن، ثم عزى نفسه وقال: ﴿كيف آسى على قوم كافرين﴾، لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصْرارِهِمْ على الكُفْرِ.
الثاني: أنَّ المعنى: لقد أعْذَرْتُ إليكم في الإبلاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّحْذِير مما حلَّ
231
بكم؛ فلم تسمعوا قولي، ولم تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي «فَكْيَفَ آسَى عَلَيْكُمْ»، بمعنى أنَّكُمْ لستم مستحقِّين بأنْ آسى عليكم.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ﴾ الآية.
لمَّا عرَّفنا أحوال هؤلاءِ الأنْبِيَاءِ، وما جرى على أمَمِهِمْ كان من الجَائزِ أن يُظَنَّ أنَّهُ تعالى ما أنزل عذاب الاستئِصَالِ إلاّ في زمن هؤلاء الأنبياء فَقَطْ؛ فَبَيَّنَ في هذه الآيَةِ أنَّ هذا الهلاكَ قد فعلهُ بغيرهم، وبيَّن العِلَّة الَّتي فعل بها ذلك فقال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء﴾، وفيه حذفٌ وإضمار وتقديره: «من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ، أو فكذبه أهْلُهَا». وذكر القريةَ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ.
قوله: «إلاَّ أخَذْنَا» هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، و «أخَذْنَا» في محلِّ نَصْبٍ [على الحَالِ] والتَّقديرُ: وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها، والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد «إلاَّ» إلاَّ بأحد شرطين: إمَّا تقدُّم فعل كهذه الآية، وإمَّا أن يصحب «قَدْ» نحو: ما زيد إلاَّ قد قَامَ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتنع فلا يجوز: ما زيد إلاَّ قام.
قوله: ﴿بالبأسآء والضرآء﴾.
قال الزَّجَّاجُ: «البَأسَاءُ: كلُّ ما ينالم من الشِّدَّةِ في أحوالهم، والضراء: ما ينالهم من الأمْرَاضِ».
وقيل: «على العكس».
وقال ابْنُ مسعود: «البَأسَاءُ: الفقر، والضَّرَّاءُ: المَرَضُ».
وقيل: «البَأسَاءُ في المال، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ».
وقيل: «البَأسَاءُ: البؤس، وضيقُ العيشِ، والضَّرَّاءُ: الضرُّ وسوءُ الحال».
وقيل: «البَأسَاءُ: في الحزن والضَّرَّاءُ: في الجدب».
«لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» لكي يَتَضَرَّعُوا؛ فيتوبوا.
232
قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ ﴾ الآية.
لمَّا عرَّفنا أحوال هؤلاءِ الأنْبِيَاءِ، وما جرى على أمَمِهِمْ كان من الجَائزِ أن يُظَنَّ أنَّهُ تعالى ما أنزل عذاب الاستئِصَالِ إلاّ في زمن هؤلاء الأنبياء فَقَطْ ؛ فَبَيَّنَ في هذه الآيَةِ أنَّ هذا الهلاكَ قد فعلهُ بغيرهم، وبيَّن العِلَّة الَّتي فعل بها ذلك فقال :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء والضراء ﴾، وفيه حذفٌ وإضمار وتقديره :" من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ، أو فكذبه أهْلُهَا ". وذكر القريةَ ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة ؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ.
قوله :" إلاَّ أخَذْنَا " هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، و " أخَذْنَا " في محلِّ نَصْبٍ [ على الحَالِ ]١ والتَّقديرُ : وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها، والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد " إلاَّ " إلاَّ بأحد شرطين : إمَّا تقدُّم فعل كهذه الآية، وإمَّا أن يصحب " قَدْ " نحو : ما زيد إلاَّ قد قَامَ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتنع فلا يجوز : ما زيد إلاَّ قام.
قوله :﴿ بالبأسآء والضراء ﴾.
قال الزَّجَّاجُ :" البَأسَاءُ : كلُّ ما ينالهم من الشِّدَّةِ في أحوالهم، والضراء : ما ينالهم من الأمْرَاضِ٢ ".
وقيل :" على العكس ".
وقال ابْنُ مسعود :" البَأسَاءُ : الفقر، والضَّرَّاءُ : المَرَضُ " ٣.
وقيل :" البَأسَاءُ في المال، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ " ٤.
وقيل :" البَأسَاءُ : البؤس، وضيقُ العيشِ، والضَّرَّاءُ : الضرُّ وسوءُ الحال " ٥.
وقيل :" البَأسَاءُ : في الحزن والضَّرَّاءُ : في الجدب " ٦.
" لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ " لكي يَتَضَرَّعُوا ؛ فيتوبوا.
١ سقط من أ..
٢ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٥٠..
٣ ينظر: تفسير البغوي ٢/١٨٣..
٤ المصدر السابق..
٥ المصدر السابق..
٦ المصدر السابق..
بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة﴾ ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [في
232
البدن والمال] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ، والاشتغال بالشُّكْرِ.
وفي «مكان» وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف، والمعنى: بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [الحال الحسنة]، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ، وهو الذي تصحبه «الباء» في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ، فزيدٌ هو المأخوذ، وعمرو المتروكُ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين:
أولهما: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ﴾ [البقرة: ٥٩].
والثاني: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾ [البقرة: ٢١١].
ف «مَكَانَ» و «الحَسنَة» مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [وهو «الحَسَنَةُ» ]، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو «مكان».
والثاني: أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ، والتَّقديرُ: «ثمَّ بَدَّلْنَا [في] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ» إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن «بدَّل» لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ.
والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا: الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ.
قال أهل اللُّغَةِ: «السَّيِّئَةُ: كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ، والحسنَةُ: كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ».
قوله: «حَتَّى عَفَوا» «حتَّى» هنا غائيةٌ، وتقدير مَنْ قدّرها ب «إلَى» فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار «أنْ» ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها، ومن الفعل، [وأمّا الماضي] فلا يطَّرِدُ حذف «أنْ» معه، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة، أي: حتَّى أن عفوا، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ: «حتَّى عَفَوْا أي: إلى أن عفوا».
ومعنى «عَفَوا» هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر، ومنه: «وأعْفُوا اللِّحَى» يُقَالُ: عَفَاه، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ: [الوافر]
٢٥٣٠ - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ
وفي الحديث: «إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حضلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ: [الطويل]
233
٢٥٣١ - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ........................
وقول لَبِيد: [الوافر]
٢٥٣٢ - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة.

فصل في المراد من الآية


ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة، وهي النِّعءمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ.
» حتى عفوا «كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، وقالوا من غرتهم وغفلتهم: ﴿قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء﴾، أي: هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ.
قوله: «فَأخَذْنَاهُمْ»
.
قال أبُو البقاءِ: «هو عطفٌ على» عَفَوْا «. يريدُ: وما عطف عليه أيضاً، أعني أنَّ الأخذ ليس متسبباً عن الَفَاءِ فقط، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط.
و»
بَغْتَةً «إمَّا حالاً أو مَصْدراً، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة، ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ حال أيضاً وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ؛ لأنَّ» بَغْتَةً «تفيدُ إفادتها، سواء أعْرَبْنَا» بغتة «حالاً أم مَصْدراً.
واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة.
234
لمّا بيَّن أنَّ الذين عَصَوا وتَمَرَّدُوا؛ أخذهم بَغْتَةً بيَّن في هذه الآية انَّهُم لو أطَاعُوا فتح عليهم أبْوابَ الخيرات، وقد تقدَّمَ أنَّ ابن عامر يَقْرَأُ: «لَفَتَّحنْا» بالتَّشديد ووافقه هنا عيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ، وأبو عبد الرَّحْمنِ السُّلمِيُّ.
234
وأصل البركة المواظبةُ على الشَّيءِ، أي تابعنا عليهم المطر والمراد ب «بَرَكَات السَّماءِ» المَطَرُ، وب «بركات الأرْضِ» النَّبَاتُ والثَّمَارُ وكثرة المواشي والأمن والسَّلامة، وذلك لأنَّ السَّماءَ تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما يَحْصُلُ المَنَافِع، والخَيْرَات بخلق الله تعالى تدبيره.
ثم قال: ﴿ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالجدب والقَحْطِ ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من الكفر والمَعْصِيَةِ، ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ يعني «مكَّة» وما حولها ﴿أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ أي: العذاب، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم، وهو حال النَّومْ باللَّيْل، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ.
وقوله: «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو، ويحتملُ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ.
قوله: «أفَأمِنَ».
قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو؟.
قلتُ: المعطوف عليه قوله:»
فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً «، [وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى﴾ إلى:» يَكْسِبُونَ «وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء؛ لأنَّ المعنى:» فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك] أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً «.
قال أبُو حيَّان: وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام»
. وقد تقدَّم تحقيقه، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ، وهو قوله: «فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً».
قوله: «بَيَاتاً» تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً.
وقوله: «وهُمْ نَائِمُونَ» جدملة حاليّة، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في «بَيَتاً» ؛ لأنَّهُ يتحمَّلأ ضميراً لوقوعه حالاً، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ.
قوله: «ضُحىً» مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ، ويكون متصرفاً وغير متصرف، [
235
فالمتصرَّفُ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو: «ضُحاك ضحىً مُبَرَك».
فإن قلت: «أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً» فهذا لا يتصرّف، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال: «ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً، وغير متصرِّلإ إذا كان من يوم بعينه» ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [متى] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك قال تعالى: ﴿والضحى﴾ [الضحى: ١] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل، وقال تعالى: ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: ١] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار.
ويقال: ضُحى، وضحاءُ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ، وإذا فتحت مَدَدْتَ.
وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقسر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ.
والضُّحى مُؤنَّثٌ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على «ضُحَيٌّ» بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحَاءُ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما: تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً: وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً، ومنه قوله: ﴿وَلاَ تضحى﴾ [طه: ١١٩] [أي] : لا تبرزُ للشمس.
ويقال: ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة، وضَحْيَاء بالمدِّ أي: مضيئة إضاءَةُ الضُّحى، والأضْحِيَة وجمعها: أضَاحِ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ»
وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة.
قوله: «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» حالٌ، وهذا يقوِّي أنَّ «بَيَاناً» ظرفٌ لا حال، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال، وأتى [بالحال] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل.
قال النَّحَّاسُ: «وفي الصَّحاح: اللَّعِبُ معروفٌ، واللّعْبُ مثله، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى، ورجل تَلْعَابَةٌ: كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر، وجارته لَعُوبٌ».
236
وقرأ نافع وابن عامِر وابنُ كثيرٍ «أوْ» بسكون الواو والباقون بفتحها، ففي القراءة الأولى تكونُ «أو» بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم.
قال ابنُ الخطيبِ: تسعتملُ على ضَرْبَيْن:
أحدهما: أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله: زيد أو عمرو جاءك، والمعنى: أحدهما جاء.
والثاني: أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك: «أنَا أخْرُجُ» ثم تقول: «أو أقيم» أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنك قلت: لا بل أقيمُ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل «أو» للإضراب، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ.
وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير، وليس بظاهرٍ.
وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور.
وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا: التَّوبيخُ، والتَّقريعُ.
وقال أبُو شَامَة وغيره: «إنَّهُ بمعنى النَّفي».
وكرّرت الجملة في قوله تعالى: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ :«أفَأمِنوا» توكيداً لذلك، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد.
237
ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ يعني " مكَّة " وما حولها ﴿ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ﴾ أي : العذاب، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم، وهو حال النَّومْ باللَّيْل، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ.
وقوله :" وَهُمْ يَلْعَبُونَ " يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو، ويحتملُ في كُفْرِهِم ؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ.
قوله :" أفَأمِنَ ".
قال الزَّمخشريُّ١ :" فإن قلت : ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو ؟.
قلتُ : المعطوف عليه قوله :" فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً "، [ وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ﴾ إلى :" يَكْسِبُونَ " وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء ؛ لأنَّ المعنى :" فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك ]٢ أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً ".
قال أبُو حيَّان٣ : وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام ". وقد تقدَّم تحقيقه، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ، وهو قوله :" فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً ".
قوله :" بَيَاتاً " تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ٤ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً.
وقوله :" وهُمْ نَائِمُونَ " جملة حاليّة، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في " بَيَاتاً " ؛ لأنَّهُ يتحمَّل ضميراً لوقوعه حالاً، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ.
قوله :" ضُحىً " مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ، ويكون متصرفاً وغير متصرف، [ فالمتصرَّفُ ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو :" ضُحاك ضحىً مُبَرَك ".
فإن قلت :" أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً " فهذا لا يتصرّف، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال :" ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً، وغير متصرِّف إذا كان من يوم بعينه " ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [ متى ] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك قال تعالى :﴿ والضحى ﴾ [ الضحى : ١ ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل، وقال تعالى :﴿ والشمس وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار.
ويقال : ضُحى، وضحاءُ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ، وإذا فتحت مَدَدْتَ.
وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ.
والضُّحى مُؤنَّثٌ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على " ضُحَيٌّ " بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحَاءُ٥ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما : تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً : وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً، ومنه قوله :﴿ وَلاَ تضحى ﴾ [ طه : ١١٩ ] [ أي ]٦ : لا تبرزُ للشمس.
ويقال : ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة، وضَحْيَاء بالمدِّ أي : مضيئة إضاءَةُ الضُّحى، والأضْحِيَة وجمعها : أضَاحِ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام :" مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ " ٧
وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة.
قوله :" وَهُمْ يَلْعَبُونَ " حالٌ، وهذا يقوِّي أنَّ " بَيَاناً " ظرفٌ لا حال، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال، وأتى [ بالحال ] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل ؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل.
قال النَّحَّاسُ :" وفي الصَّحاح٨ : اللَّعِبُ معروفٌ، واللّعْبُ مثله، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى، ورجل تَلْعَابَةٌ : كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر، وجارته لَعُوبٌ ".
وقرأ نافع وابن عامِر٩ وابنُ كثيرٍ " أوْ " بسكون الواو والباقون بفتحها، ففي القراءة الأولى تكونُ " أو " بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم.
قال ابنُ الخطيبِ١٠ : تسعتملُ على ضَرْبَيْن :
أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله : زيد أو عمرو جاءك، والمعنى : أحدهما جاء.
والثاني : أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك :" أنَا أخْرُجُ " ثم تقول :" أو أقيم " أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنك قلت : لا بل أقيمُ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل " أو " للإضراب، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ.
وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير، وليس بظاهرٍ.
وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور.
وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا : التَّوبيخُ، والتَّقريعُ.
وقال أبُو شَامَة وغيره :" إنَّهُ بمعنى النَّفي ".
وكرّرت الجملة في قوله تعالى :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ﴾ :" أفَأمِنوا " توكيداً لذلك، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد.
١ ينظر: الكشاف ٢/١٣٤..
٢ سقط من أ..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٥٠..
٤ ينظر تفسير الآيتين ٤، ٤٠ من هذه السورة..
٥ في أ: والضحى..
٦ سقط من أ..
٧ متفق عليه من رواية جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح ٩/٦٣٠ كتاب الذبائح والصيد (٧٢) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله تعالى" (الحديث ٥٥٠٠ وأخرجه مسلم في الصحيح ٣/١٥٥١ كتاب الأضاحي، باب وقتها الحديث ١/١٩٦٠..
٨ ينظر: الصحاح ١/٢١٩..
٩ ينظر: السبعة ٢٨٧، والحجة للقراء السبعة ٤/٥٢، وإعراب القراءات ١/١٩٦، وحجة القراءات ٢٨٩، والعنوان ٩٦، وشرح شعلة ٣٩٣، وشرح الطيبة ٤/٣٠٢، وإتحاف ٢/٥٥..
١٠ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٥١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ يعني " مكَّة " وما حولها ﴿ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ﴾ أي : العذاب، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم، وهو حال النَّومْ باللَّيْل، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ.
وقوله :" وَهُمْ يَلْعَبُونَ " يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو، ويحتملُ في كُفْرِهِم ؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ.
قوله :" أفَأمِنَ ".
قال الزَّمخشريُّ١ :" فإن قلت : ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو ؟.
قلتُ : المعطوف عليه قوله :" فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً "، [ وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ﴾ إلى :" يَكْسِبُونَ " وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء ؛ لأنَّ المعنى :" فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك ]٢ أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً ".
قال أبُو حيَّان٣ : وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام ". وقد تقدَّم تحقيقه، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ، وهو قوله :" فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً ".
قوله :" بَيَاتاً " تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ٤ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً.
وقوله :" وهُمْ نَائِمُونَ " جملة حاليّة، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في " بَيَاتاً " ؛ لأنَّهُ يتحمَّل ضميراً لوقوعه حالاً، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ.
قوله :" ضُحىً " مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ، ويكون متصرفاً وغير متصرف، [ فالمتصرَّفُ ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو :" ضُحاك ضحىً مُبَرَك ".
فإن قلت :" أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً " فهذا لا يتصرّف، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال :" ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً، وغير متصرِّف إذا كان من يوم بعينه " ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [ متى ] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك قال تعالى :﴿ والضحى ﴾ [ الضحى : ١ ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل، وقال تعالى :﴿ والشمس وَضُحَاهَا ﴾ [ الشمس : ١ ] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار.
ويقال : ضُحى، وضحاءُ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ، وإذا فتحت مَدَدْتَ.
وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ.
والضُّحى مُؤنَّثٌ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على " ضُحَيٌّ " بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحَاءُ٥ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما : تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً : وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً، ومنه قوله :﴿ وَلاَ تضحى ﴾ [ طه : ١١٩ ] [ أي ]٦ : لا تبرزُ للشمس.
ويقال : ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة، وضَحْيَاء بالمدِّ أي : مضيئة إضاءَةُ الضُّحى، والأضْحِيَة وجمعها : أضَاحِ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام :" مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ " ٧
وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة.
قوله :" وَهُمْ يَلْعَبُونَ " حالٌ، وهذا يقوِّي أنَّ " بَيَاناً " ظرفٌ لا حال، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال، وأتى [ بالحال ] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل ؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل.
قال النَّحَّاسُ :" وفي الصَّحاح٨ : اللَّعِبُ معروفٌ، واللّعْبُ مثله، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى، ورجل تَلْعَابَةٌ : كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر، وجارته لَعُوبٌ ".
وقرأ نافع وابن عامِر٩ وابنُ كثيرٍ " أوْ " بسكون الواو والباقون بفتحها، ففي القراءة الأولى تكونُ " أو " بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم.
قال ابنُ الخطيبِ١٠ : تسعتملُ على ضَرْبَيْن :
أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله : زيد أو عمرو جاءك، والمعنى : أحدهما جاء.
والثاني : أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك :" أنَا أخْرُجُ " ثم تقول :" أو أقيم " أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنك قلت : لا بل أقيمُ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل " أو " للإضراب، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ.
وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير، وليس بظاهرٍ.
وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور.
وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا : التَّوبيخُ، والتَّقريعُ.
وقال أبُو شَامَة وغيره :" إنَّهُ بمعنى النَّفي ".
وكرّرت الجملة في قوله تعالى :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ﴾ :" أفَأمِنوا " توكيداً لذلك، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد.
١ ينظر: الكشاف ٢/١٣٤..
٢ سقط من أ..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٥٠..
٤ ينظر تفسير الآيتين ٤، ٤٠ من هذه السورة..
٥ في أ: والضحى..
٦ سقط من أ..
٧ متفق عليه من رواية جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح ٩/٦٣٠ كتاب الذبائح والصيد (٧٢) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله تعالى" (الحديث ٥٥٠٠ وأخرجه مسلم في الصحيح ٣/١٥٥١ كتاب الأضاحي، باب وقتها الحديث ١/١٩٦٠..
٨ ينظر: الصحاح ١/٢١٩..
٩ ينظر: السبعة ٢٨٧، والحجة للقراء السبعة ٤/٥٢، وإعراب القراءات ١/١٩٦، وحجة القراءات ٢٨٩، والعنوان ٩٦، وشرح شعلة ٣٩٣، وشرح الطيبة ٤/٣٠٢، وإتحاف ٢/٥٥..
١٠ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٥١..

ومعنى: «مَكْرَ اللَّهِ» أي إضافة المخلوق إلى الخَالقِ كقولهم: ناقة الله، وبيتُ الله، والمرادُ بشهِ فعلٌ يعاقب به الكفرة، وأضيف إلى الله لمَّا كان عقوبة الذَّنْبِ، فإنَّ العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذَّنْبِ الذي وقعت عليه العقوبة.
قال ابن عطيَّة: «وهو تأويلٌ حسنٌ».
وقال البَغَوِيُّ: «مَكْرُ اللَّهِ: استدراجُهُ إيَّاهُم بما أنْعَمَ عليهم في دنياهم».
وقد تقدَّم في آل عمران في قوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [الآية: ٥٤] أنَّه من باب المُقَابلَةِ أيضاً.
و «الفاء» في قوله: «فَلاَ يأمَنُ» للتَّنْبِيهِ على أنَّ العذابَ يعقب أمن مَكْرَِ اللَّهِ.
قال ابنُ الخطيبِ: «وقوله:» مَكْرَ اللَّهِ «المرادُ أنْ يأتيهم عذابُهُ من حيث لا
237
يَشْعُرُونَ، قاله على وجه التَّحْذيرِ، وسمى هذا العذاب مَكْراً تَوَسُّعاً؛ لأنَّ الواحد منا إذا أرَادَ المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاءِ من حيث لا يَشْعُرُ».
238
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ يريدُ كبراء مكَّةَ.
قرأ الجمهور: «يَهْد» بالياء من تحت، وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّهُ المصدرُ المؤوَّلُ من «أن» وما في حيِّزها، والمفعول محذوفٌ، والتقديرُ: أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم، وإصابتنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شئنا ذلك، فقد سبكنا المصدر من «أنْ» ومن جواب لو.
والثاني: أنَّ الفاعل هو ضميرُ الله تعالى، أي: أو لم يبيِّن الله ويُؤيِّدُه قراءةُ من قرأ «نَهْدِ» بالنون.
الثالث: أنَّهُ ضمير عائدٌ على ما يفهم من سياق الكلام، أي: أو لم يهد ما جرى للأمم السَّالِفَةِ كقولهم: إذَا كَانَ غَداً فأتني أي: إذا كان ما بيني وبينكَ مما دلَّ عليه السِّياق.
وعلى هذين الوجهين، ف «أنْ» وما في حيِّزها بتأويلِ مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعُولِ والتَّقديرُ: أو لم يبين ويوضِّح الله أو ما جرى لأمم إصابتنا إيَّاهُم بذنوبهم أي: بعقاب ذُنُوبِهِم لو شئنا ذلك.
وقرأ مُجاهدٌ وقتادةُ ويعقوبُ: «نَهْدِ» بنون العَظَمَةِ و «أنْ» مفعولٌ فقط، و «أنْ» هي المخفَّفةُ من الثَّقيلة و «لَوْط فاصلةٌ بينها وبين الفِعْلِ، وقد تقدَّم أنَّ الفصل بها قليل.
و»
نَشَاءُ «وإن كان مُضَارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى؛ لأنَّ» لو «الامتناعية تخلِّصُ المضارع للمُضِيِّ.
وفي كلام ابن الأنْبَاريِّ خلافه، فإنَّهُ قال في»
ونَطْبَعُ «:» هذا فعل مستأنفٌ ومنقطعٌ مما قبله؛ لأنَّ قوله: «أصَبْنَا» ماضٍ و «نَطْبع» مستقبل ثم قال: ويجوزُ أن يكون معطوفاً على «أصَبْنَا» إذ كان بمعنى نُصِيبُ، والمعنى: «لو يَشَاءُ يصيبهم ويطبع»، فوضع الماضي موضعَ المستقبلِ عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى: ﴿إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ﴾ [الفرقان: ١٠] [أي:] يجعلُ، بدليل قوله: «ويَجْعَل لَكَ»، وهذا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ في أن «لَوْ» هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ، وتنظير بالآية الأخْرَى مُقَوِّل أيضاً، وسيتي تحقيقُ ذلك عند قوله: «ونَطْبَعُ»
238
وقال الفرَّاءُ: «وجاز أنْ تَرُدَّ» يَفْعل « [على فَعَلَ] في جواب» لو «كقوله: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ﴾ [يونس: ١١] فقوله:» فَنَذَرُ «مردود على» لقضى «، وهذا قولُ الجمهور، ومفعول» يَشَاءُ «محذوف لدلالةِ جواب» لو «عليه، والتَّقديرُ: لو يشاء تعذيبهم، أو الانتقام منهم.
وتى جوابها بغير لام، وإن كان مبنيّاً على أحد الجائزين وإن كان الأكثر خلافه، كقوله تعالى: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾
[الواقعة: ٧٠].
قوله: «ونَطْبَعُ»
في هذه الجملة أوْجُهٌ:
أحدها: أنَّهَا نسقٌ على «أصَبْنَاهم» وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنَّهُ بمعناه، وقد تقدَّم أنَّ «لو» تخلِّص المضارع للمُضِيِّ، ولما حكى أبُو حيَّان كلام ابن الأنْبَارِيْ المتقدم قال: «فَجَعل» لو «شرطيّةً بمعنى» إنْ «ولم يجعلها التي هي لِما كان سيقعُ لوقوع غيره، ولذلِكَ جعل» أصَبْنَا «بمعنى نُصِيبُ.
ومثال وقوع»
لو «بمعنى» إن «قوله: [الكامل]
٢٥٣٣ - لا يُلْفِكَ الرَّاجِيكَ إلاَّ مُظْهِراً خُلُقَ الكِرَامِ ولَوْ تكُونُ عَدِيمَا
وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردَّهُ الزَّمخشريُّ من حيث المعنى، لكن بتقدير: أن يكون»
ونَطْبَعُ «بمعنى» طَبْعَنا «فيكون قد عطف المضارع على المَاضِي لكَوْنِهِ بمعنى المضاي وابن الأنباري جعل التَّأويل في» أصَبْنَا «الذي هو جواب» لو نَشَاءُ «فجعله بمعنى» نُصِيبُ «فتأوَّلَ المعطوف عليه وهو الجوابُ، وردَّهُ إلى المستقبل، والزمخشريُّ تأوَّلَ المعطوف وردَّهُ إلى المضي وأنتج ردُّ الزَّمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يصحُّ».
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل يجوزُ أن يكون» وَنَطْبَعُ «بمعنى» طَبَعْنَا «كما كان» لَوْ نَشَاءُ «بمعنى» لَوْ شِئْنَا «ويعطف على» أصَبْنَاهُم «؟
قلت: لا يساعدُ على المعنى؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مطبوعاً على قلوبهم، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذُّنوب والإصابةِ بها، وهذا التَّفسيرُ يؤدِّي إلى خلوِّهِم من هذه الصِّفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصَفُوا بها»
.
قال أبو حيَّان: «وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ، وملخصهُ: أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، سواءً تأوَّلْنَا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب» لو «لم يقع بَعْدُ، سواءً كانت حرفاً لما كان سيقعُ لوقوع غيره أمْ بمعنى» إن «الشَّرطية، والإصابة لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقعٌ، فلا يَصِحُّ أن تعطف على الجوابِ. فإن تؤوِّل» ونُطِبعُ «على معنى: ونستمرُّ
239
على الطَّبْعِ على قلوبهم، أمكن التَّعاطف؛ لأنَّ الاستمرار لم يقع بعدُ، وإن كان الطَّبْعُ قد وقع».
قال شهابُ الدِّين: «فهذا الوجه الأوَّلُ ممتنعٌ لما ذكره الزَّمخشريّ».
ونقل ابنُ الخطيبِ عن الزَّمَخْشَري أنَّهُ قال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» أصَبْنَاهُمْ «؛ لأنَّهُم كانوا كُفَّاراً، إذْ كل كَافِرِ فهو مَطْبُوعٌ على قلبه، فقوله بعد ذلك: ﴿وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ﴾ يَجْرِي مَجْرَى تحصيل الحاصلِ وهو مُحَالٌ».
قال ابن الخطيب: «وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن هذا منافياً لصِحَّةِ العطفِ».
الوجه الثاني: أن يكون «نَطْبَعُ» مستأنفاً، ومنقطعاً عمَّا قبله فهو في نيَّةِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ أ: ونحن نَطْبَعُ.
وهذا اختيار الزَّجَّاج والزمخشري وجماعة.
الثالث: أن يكون معطوفاً على «يَرثُونَ الأرْضَ» قال الزَّمَخْشَرِيُّ.
قال أبو حيَّان: «وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعطوف على الصِّلةِ صلةٌ، و» يَرِثُونَ «صلة ل» الَّذين «؛ فَيَلْزِمُ الفصلُ بين أبعاض الصِّلة بأجنبي، فإن قوله: ﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ﴾ إمَّا فاعل ل» يَهد «أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديريْنِ فلا تعلق له بشيء من الصِّلة، وهو أجنبيٌّ منها، فلا يفصل به بين أبعاضها، وهذا الوجْهُ مؤدٍّ إلى ذلك فهو خطأ».
الرابع: أن يكون معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» كأنَّهُ قيل: يغفلون عن الهداية، ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِم قاله الزَّمخشريُّ أيضاً.
قال أبو حيَّان: «وهو ضعيف؛ لأنَّه إضمار لا يحتاج إليه، إذْ قد صحَّ عطفه على الاستِئْنافِ من باب العطفِ على الجُمَلِ، فهو معطوف على مَجْمُوع المصدَّرة بأداء الاستفهام، وقد قاله الزَّمخْشَرِيُّ وغيره.
وقوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أتى ب»
الفاء «هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثَرِ الطَّبْع على قلوبهم.

فصل في بيان أنه تعالى ق يمنع العبد من الإيمان


استدل أهل السُّنَّةِ بقوله تعالى: ﴿وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون﴾ على أنَّهُ تعالى قد يمنع البعدَ من الإيمانِ، والطَّبعُ والختم والرَّيْنُ والغشاوةُ والصدُّ والمنع واحد على ما تقدَّم.
240
قال الجبائِيُّ: المرادُ من هذا الطبع أنَّهُ تعالى يسمُ قلوب الكفَّارِ بسماتِ وعلامت نعرف الملائكة بها أنَّ صاحبها لا يؤمن، وتلك العلامةُ غير مانعة من الإيمان.
وقال الكعبيُّ: إنَّمَا أضاف الطَّبْعَ إلى نفسه، لأجْلِ أنَّ القومَ إنَّما صاروا إلى ذلك الكُفْرِ عند أمره وامتحانه، فهو كقوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٦] وقد تقدَّم البَحْثُ في مثل ذلك.
241
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: كقوله: ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ﴾ [هود: ٧٢] في كونه مبتدأ وخبراً وحالاً يعني أن «تِلْكَ» مبتدأ مشارٌ بها إلى ما بعدها، و «القُرَى» خبرها، و «نَقُصُّ» حال أي قاصِّينَ كقوله: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً﴾ [النمل: ٥٢].
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى «تِلْكَ القُرَى» حتى يكون كلاماً مفيداً؟
قلت: هو مفيدٌ ولكن بالصِّفةِ في قولك: «هو الرَّجُلُ الكريم» يعني أنَّ الحال هنا لازمه ليفيد التَّركيب كما تلزم الصِّفةِ في قولك: «هو الرَّجُلُ الكريمُ» ألا ترى أنَّكَ لو اقتصرت على «هو الرَّجُلُ» لم يكن مفيداً، ويجوزُ أن تكون «القُرَى» صفة لتلك، و «نقصُّ» الخبر، ويجوز أن يكون «نقصُّ» خبراً بعد خبر.
و «نَقُصُّ» يجوز أن يكون على حاله من الاستقابل أي: قد قصصنا عليك من أبْنَائِهَا ونحن نَقُصُّ عليك أيضاً بعض أبنائها [ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي، أي: قد قَصَصْنَا عليك من أبنائها] وأُشير بالبُعْدِ تنبيهاً على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب، وأراد القصص المتقدمة.
وفي قوله: «القُرَى» ب «أل» تعظيم كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ [البقرة: ٢٢]، وقول الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوْلَئِكَ المَلأُ مِنْ قُريشٍ»، وقول أمية: [البسيط]
٢٥٣٤ - تِلْكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أبْوَالاً
و «مِنْ» للتبعيض كما تقدَّم؛ لأنَّهُ إنَّما قصَّ عليه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما فيه عظةٌ وانزجارٌ دون غيرهما، وإنَّما قصّ أنباء أهل القرى؛ لأنَّهم اغتروا بطول الإمهال مع
241
كثرة النِّعم فتوهموا أنَّهُم على الحقِّن فذكرها الله - تعالى - لقوم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾.
قوله: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ﴾ الظَّاهِرُ أنَّ الضَّمائرَ عائدة على أهل القرى.
وقال يمان بن رئاب: «إنَّ الضميرين الأوَّلين لأهل القرى، والضَّميرُ في» كذَّبُوا «لأسْلافِهم. وكذا جوَّزهُ ابن عطية أيضاً أي:» فما كان الأبناء ليؤمِنُوا بما كذَّب به الآباء «، وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجُحُودِ، وأنَّ نفي الفِعْلِ معها أبْلَغُ.
و»
ما «موصولة اسميَّة، وعائدها مَحْذُوفٌ؛ لأنَّه مَنصوبٌ متَّصل أي: بما كذبوه [ولا يجوز أن يقدر به وإن كان الموصول مجرورا بالباء أيضاً لاختلاف المتعلقن وقال هنا» بما كذبوا «] فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي» يونس «ذكره فقال: ﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ﴾ [يونس: ٧٤]، والفرق أنَّهُ لمَّا حذفه في قوله:
﴿ولكن
كَذَّبُواْ﴾
[الأعراف: ٩٦] أستمرّ حذفه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ﴾ [يونس ٧٤].
﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ [يونس: ٧٣] فناسب ذكره موافقة قال معناه الكرمَانِيّ.

فصل في معنى «ما كانوا ليؤمنوا»


قال ابن عباس والسُّدِّيُّ: «فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عن إرسالي بما كذبوا به يوم أخذنا مِيثاقَهُم حين أخرِجُوا من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقرُّوا باللِّسانِ وأضمروا التَّكذيب».
وقال الزَّجَّاجُ: «فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيةِ تلك المعجزات بما كَذَّبُوا قبل رؤية المُعْجِزَاتِ».
وقيل: معناه ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم في دار التكليف ليؤمنوا بما كذَّبُوا به قبل إهلاكهم، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨].
[وقيل: إنه قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل] وقيل: ليؤمنوا في الزَّمانِ المستقبل
قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين﴾.
قال الزَّجَّاجُ: والكاف في «كذلك» في محلِّ نصب [أي: مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإيمان يطبع الله على قلوب الكفرة الجانين].
قوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٢].
قوله «لأكْثَرِهِمْ» فيه وجوه:
242
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالاً أي: ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته.
الثاني: أن يكون حالاً من «عهد» ؛ لأنَّه في الأًل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُو البقاءِ غيره.
وعلى هذين الوجهين ف «وَجَدَ» متعدِّية لواحد وهو «من عَهْدٍ»، و «منْ» مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين.
الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو «مِنْ عَهْدٍ». وقد يترجَّحُ هذا بأنَّ «وَجَدَ» الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى: والثَّانية لمعنى آخر.

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس: يريدُ: وما وجدنا لأكثرهم من عهد، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢].
وقال ابن مَسْعُودٍ: «المرادُ بالعهد هاهنا الإيمان، لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ [مريم: ٨٧] أي قال: لا إله إلا الله».
وقيل: المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوةِ [تقديره:] وما وجدنا لأكثرهم من الوفاءِ بالعهد.
قوله: «وَإنْ وَجدْنَا» «إنْ» هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها.
وقال الزَّمخشريُّ: «وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا».
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاء هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّر ضمير الحديث بل غيره فقال: «واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا». وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصَّحيح، وفي «كأن» التَّشبيهية، وأمَّا «إنْ» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدَّم إيضاحه.
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكْثَرَهُم»، والثاني «لفاسقين»، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول «إنْ» المخفَّفة، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة
243
بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخةِ له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللاَّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد.
قال مَكيٌّك «ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون» إن «نافية، واللاَّم بمعنى» إلاَّ «في قوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ [البقرة: ١٤٣].
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، مارقين عن الدِّينِ، وقيل: ناقضين العَهْدَ.
وقوله:»
لأكْثَرهُم «، و» أكْثَرهُم «، و» من بعدهم «: إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في» لأكثرهُم «و» أكْثَرهُمْ «لعموم النَّاسِ والضَّمير في» من بعدهم «للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين.
وأيضاً، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً.
244
قوله: «لأكْثَرِهِمْ» فيه وجوه:
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالاً أي: ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته.
الثاني: أن يكون حالا من «عهدِ» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُوا البقاءِ غيره.
وعلى هذين الوجهين ف «وَجَدَ» متعدِّية لواحد وهو «من عَهْدٍ»، و «منْ» مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين.
الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو «مِنْ عَهْدٍ». يترجَّحُ هذا بأنَّ «وَجَدَ» الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى، والثَّانية لمعنى آخر.

فصل في معنى الآية


قال ابن عباس: يريدُ: وما وجدنا لأكثرهم من عهد، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
وقال ابن مَسْعُودٍ: «المرادُ بالمعهد هاهنا الإيمان، لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ [مريم: ٨٧] أي قال: لا إله إلا الله».
وقيل: المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوة [تقديره:] وما وجدنا لأكثرهم من الفواءِ بالعهد.
قوله: «وَإنْ وَجَدْنَا» «إنْ» هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها.
وقال الزَّمخشريُّ: «وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا».
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاءِ هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّره ضمير الحديث بل غيره فقال: «واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا». وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصَّحيح، وفي «كأن» التَّبيهية، وأمَّا «إنْ» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدَّم إيضاحه.
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكْثَرَهُم»، والثاني «لفاسقين»، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول «إنْ» المخفَّفة، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخِة له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللاَّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد.
قال مَكيٌّ: «ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ»، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون «إن» نافية، واللاَّم بمعنى «إلاَ» في قوله تعالى:
﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ [البقرة: ١٤٣].
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، ماريقين عن الدِّين، وقيل: ناقضين العَهْدَ.
وقوله: «لأكْثَرهُم»، و «أكْثَرهُم»، و «من بعدهم» : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في «لأكثرهُم» و «أكْثَرهُمْ» لعموم النَّاسِ والضَّمير في «من بعدهم» للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين.
وأيضاً، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً.
اعلم أنَّ الكناية في قوله: «مِنْ بَعْدِهِمْ» يجوز أنْ تعود إلى الأنبياء الذين جرى
244
ذكرهم وهم: نُوحٌ، وصالحٌ، وشعيبٌ وهود ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدَّم إهلاكهم.
وقوله: «بآياتنا» أي بأدلَّتِنَا ومعجزاتنا، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النبي لا بد له من آية ومعجزة يتميز بها عن غيره، وإلا لم يكن قوله أولى من قول غيره.
قال ابن عباس: أوَّلُ آياته العَصَا ثم اليَدُ، ضرب بالعصا باب فرعون فَفَزعَ منها فشاب رَأسَهُ، فاسْتَحْيَا فخضب بالسَّوادِ، فهو أوَّلُ من خضب، قال: وآخر الآيات الطَّمْسُ، قال: وللعصا فوائِدُ:
منها ما هو مذكور في القرآن كقوله: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨]، وقوله: ﴿اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ [البقرة: ٦٠]، ﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ [الشعراء: ٦٣].
وذكر ابن عباس أشياء أخرى: منها أنَّهُ كان يغرسها فتنبت كالثمر وانقلابها ثعباناً وكان يحارب بها اللُّصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه.
ومنها أنَّها كانت تشتعل في الليل كالشَّمْعَةِ ومنها أنَّها كانت تصيرُ كالحَبْلِ الطَّويلِ فينزح الماء من البئر العميقة.
ومنها أنَّهُ كان يضربُ بها الأرْضَ فَتَنْبُتُ.
واعلم أنَّ المذكور في القرآن مَعْلُومٌ، وأمَّا المذكور في غير القرآن فإن ورد في خبر صحيح فهو مقبول، وإلاَّ فلا. قوله: «فَظَلَمُوا بها» يجوز أن يضمن «ظَلَمُوا» معنى «كَفَرُوا» فيتعدَّى بالياء كتعديته ويؤيده ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]، ويجوز أن تكون «الباء» سببيّة والمفعول محذوف تقديره: فظلموا أنْفُسَهُم وظلموا النَّاسَ بمعنى صدوهم عن الإيمان بسبب الآيات.
والظُّلْمُ: وضع الشَّيءِ في غير موضعه فظلمهم: وضع الكُفْرِ موضع الإيمان.
قوله: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ «كَيْفَ» خبر ل «كان» مقدَّمٌ عليها واجب التَّقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام، و «عَاقِبَة» اسمها وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب على إسْقَاطِ حرف الجرِّ إذ التقديرُ: فانظر إلى كذا، والمعنى: فانْظُرْ بعين عقلك كيف فعلنا بالمفسدين.
245
كان يُقَالُ لمُلُوكِ مصر الفراعِنَة، كما يقال لملوك فارس الأكَاسِرَة، فكأنه قال: يا مَلِكَ [مصر] وكان اسمه قابوس وقيل: الوليدُ بْنُ مُصْعبِ بْنِ الرَّيَّان.
وقوله: ﴿رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ يدلُّ على وجود الإله تعالى، فإنَّهُ يدلُّ على أنَّ للعالم ربٌّ يربيه، وإله يوجده ويخلقه.
قوله: «حَقِيقٌ» أي واجب «عَلَى أنْ لا أقُولُ».
قرأ العامة «على أنْ» ب «عَلَى» التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها.
ونافع قرأ «عليّ» ب «عَلَى» التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم.
فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه:
قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفي المشهورةِ [إشكال]، ولا يخلو من وجوده:
أحدها: أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله: [الطويل]
٢٥٣٥ -......................... وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ
معناه: وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ.
قال أبُو حيَّان:»
وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه «.
وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً، [المنع مطلقاً]، التَّفصيل: بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ، أو لا فيمتنع، وقد تقدَّم إيضاحه، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم.
وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى، إذ الأصلُ: قول الحق حقيق عليَّ، فقلب اللفظ فصار:»
أنَّ حقيق على قول الحقِّ «.
قال:»
والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له «.
والثالث: أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت»
هيجّني «معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله: [البسيط]
246
٢٥٣٦ - إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ
الرابع: أن تكون» عَلَى «بمعنى» الباء «، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسيُّ، قالوا: إنَّ» على «بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى» على «في قوله: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ [الأعراف: ٨٦] أي: على كلٍّ.
وقال الفرَّاءُ: العرب تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش»
حقيق بأن لا أقول «إلاَّ أنَّ الأخفش قال:» وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت: «ذهبتُ على زيْدٍ» تريد: «بزيدٍ» لم يجز «، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ.
الخامس: - وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[في وصف نفسه] بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى: إنِّي رسول من رب العالمين قال له: كذبت فيقول: أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي: واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به.
قال أبُو حيَّان: ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون «أن لا أقُول»
صفة له كما تقول: أنَا على قول الحقِّ أي: طريقتي وعادتي قول الحقّ.
السادس: أن تكون «على» متعلقة ب «رَسُول».
قال ابن مقسم: حقيقٌ من نعت «رَسُول» أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ، وهذا معنى صحيح واضحٌ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق «على» ب «رسول»، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب «حقيق».
قال أبُو حيَّان: وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في «عَلَى» «أرسلت» وقال أخيراً: «لأنهم غفلوا عن تَعْليق» على «ب» رسول «، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله، وذلك لا يَجُوزُ، وأمَّا تعليقه ب» أرسلت «مقدَّراً لدلالةِ لفظ» رَسُوله «عليه فهو تقديرٌ سائغ.
ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ»
على «ب» رسول «أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له.
قال شهابُ الدِّين:»
وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم:
247
والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ «.
وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله:»
حقيق «، و» عليَّ «خبر مقدَّمٌ،» ألاَّ أقُولَ «مبتدأ مؤخر، كأنَّهُ قيل: عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي: فلا أقُولُ إلا الحقَّ.
الثاني: أن يكون»
حَقِيقٌ «خبراً مقدماً، و» ألاَّ أقولَ «مبتدأ على ما تقدَّم بيانه.
الثالث:»
أن لا أقول «فاعلٌ ب» حقيقٌ «كأنَّهُ قيل: يحقُّ ويجبُ أن لا أقول، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق» عليَّ «ب» حقيقٌ «لأنَّك تقول:» حقَّ عليهِ كذا «قال تعالى: ﴿أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ [الأحقاف: ١٨]. وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر.
وأمّا رفع «حقيقٌ»
فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً، ويجوز أن يكون صفةً ل «رَسُول»، وعلى هذا فيضعف أن يكون «مِنْ رب» صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [على الصَّريحة]، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس «رَسُول»، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن يكون خبراً ثانياً. ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها.
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ، وهل هو بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره.
وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره: «إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال:» وحقيقق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل «.
قال شمرٌ:»
تقولُ العربُ: حقَّ عليَّ أن أفعل كذا «.
وقال الليثُ:»
حقَّ الشَّيء معناه وجب، ويحقُّ عليك أن تفعله، وحقيق عليَّ أنْ أفعله، فهذا بمعنى فاعلٍ «ثم قال: وقال اللَّيْثُ: وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تَقُولُ: فلان محقوقٌ عليه أن يفعل.
قال العشى: [الطويل]
248
وقال جريرٌ: [البسيط]
٢٥٣٨ -.............................. قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ
ثم قال:» وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق «انتهى.
[وقرأ أبَيٌّ»
بأن لا أقُولَ «وهذه تقوي أنَّ» على «بمعنى الباء].
وقرأ عبدُ الله والأعمشُ»
لاّ أقُولَ «دون حرف جرّ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ» على «كما هو قراءة العامَّةِ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة.
والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ، والحقيق مبالغة فيه.
قوله:»
إلاَّ الحَقَّ «هذا استثناء مفرَّغٌ، و» الحقُّ «يجوزُ أن يكون مفعولاً به، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة، وأن يكون منصوباً على المصدر أي: القول الحق.
قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ يعني العَصَا واليد ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة، فقال فرعونُ مجيباً له: ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ والمعنى: إنْ كنت جئت من عند من أرْسَلَكَ بآيةٍ؛ فأحضرها عندي لتصحَّ دعواك.
فإن قيل قوله: ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله؟
والجوابُ: أنَّ هذا نظير قولك: إنْ دخلت الدَّارَ فأنت طالق إن كلمت زيداً، وهاهنا المؤخر في اللَّفظ يكون مقدماً في المعنى؛ كما سبق تقريره.
249
قوله :" حَقِيقٌ " أي واجب " عَلَى أنْ لا أقُولُ ".
قرأ العامة " على أنْ " ب " عَلَى " التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها.
ونافع قرأ١ " عليّ " ب " عَلَى " التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم.
فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه :
قال رحمه الله :" وفي المشهورةِ [ إشكال ]، ولا يخلو من وجوده :
أحدها : أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله :[ الطويل ]
. . . *** وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ٢
معناه : وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ.
قال أبُو حيَّان٣ :" وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه ".
وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً، [ المنع مطلقاً ]٤، التَّفصيل : بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ، أو لا فيمتنع، وقد تقدَّم إيضاحه، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم.
وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى، إذ الأصلُ : قول الحق حقيق عليَّ، فقلب اللفظ فصار :" أنَّ حقيق على قول الحقِّ ".
قال :" والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له ".
والثالث : أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت " هيجّني " معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله :[ البسيط ]
إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي *** وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ٥
الرابع : أن تكون " عَلَى " بمعنى " الباء "، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء٦ والفارسيُّ٧، قالوا : إنَّ " على " بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى " على " في قوله :﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ ﴾ [ الأعراف : ٨٦ ] أي : على كلٍّ.
وقال الفرَّاءُ : العرب تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش " حقيق بأن لا أقول " إلاَّ أنَّ الأخفش قال :" وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت :" ذهبتُ على زيْدٍ " تريد :" بزيدٍ " لم يجز "، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ.
الخامس :- وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عليه الصلاة والسلام - [ في وصف نفسه ]٨ بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى : إنِّي رسول من رب العالمين قال له : كذبت فيقول : أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي : واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به.
قال أبُو حيَّان٩ : ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون " أن لا أقُول " صفة له كما تقول : أنَا على قول الحقِّ أي : طريقتي وعادتي قول الحقّ.
السادس : أن تكون " على " متعلقة ب " رَسُول ".
قال ابن مقسم : حقيقٌ من نعت " رَسُول " أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ، وهذا معنى صحيح واضحٌ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق " على " ب " رسول "، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب " حقيق ".
قال أبُو حيَّان١٠ : وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في " عَلَى " " أرسلت " وقال أخيراً :" لأنهم غفلوا عن تَعْليق " على " ب " رسول "، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين ؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله، وذلك لا يَجُوزُ، وأمَّا تعليقه ب " أرسلت " مقدَّراً لدلالةِ لفظ " رَسُوله " عليه فهو تقديرٌ سائغ.
ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ " على " ب " رسول " أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له.
قال شهابُ الدِّين١١ :" وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم : والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ ".
وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله :" حقيق "، و " عليَّ " خبر مقدَّمٌ، " ألاَّ أقُولَ " مبتدأ مؤخر، كأنَّهُ قيل : عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي : فلا أقُولُ إلا الحقَّ.
الثاني : أن يكون " حَقِيقٌ " خبراً مقدماً، و " ألاَّ أقولَ " مبتدأ على ما تقدَّم بيانه.
الثالث :" أن لا أقول " فاعلٌ ب " حقيقٌ " كأنَّهُ قيل : يحقُّ ويجبُ أن لا أقول، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق " عليَّ " ب " حقيقٌ " لأنَّك تقول :" حقَّ عليهِ كذا " قال تعالى :﴿ أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ﴾ [ الأحقاف : ١٨ ]. وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر.
وأمّا رفع " حقيقٌ " فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً، ويجوز أن يكون صفةً ل " رَسُول "، وعلى هذا فيضعف أن يكون " مِنْ رب " صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [ على الصَّريحة ]، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس " رَسُول "، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن يكون خبراً ثانياً. ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها.
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ، وهل هو بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول ؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره.
وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره :" إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال :" وحقيق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل ".
قال شمرٌ :" تقولُ العربُ : حقَّ عليَّ أن أفعل كذا ".
وقال الليثُ :" حقَّ الشَّيء معناه وجب، ويحقُّ عليك أن تفعله، وحقيق عليَّ أنْ أفعله، فهذا بمعنى فاعلٍ " ثم قال : وقال اللَّيْثُ : وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تَقُولُ : فلان محقوقٌ عليه أن يفعل.
قال العشى :[ الطويل ]
لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ *** وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ١٢
وقال جريرٌ :[ البسيط ]
. . . *** قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ١٣
ثم قال :" وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق " انتهى.
[ وقرأ أبَيٌّ١٤ " بأن لا أقُولَ " وهذه تقوي أنَّ " على " بمعنى الباء ]١٥.
وقرأ عبدُ الله والأعمشُ١٦ " لاّ أقُولَ " دون حرف جرّ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ " على " كما هو قراءة العامَّةِ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة.
والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ، والحقيق مبالغة فيه.
قوله :" إلاَّ الحَقَّ " هذا استثناء مفرَّغٌ، و " الحقُّ " يجوزُ أن يكون مفعولاً به، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة، وأن يكون منصوباً على المصدر أي : القول الحق.
قوله :﴿ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ يعني العَصَا واليد ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة.
١ ينظر : الحجة ٤/٥٦، والسبعة ٢٨٧، وحجة القراءات ٢٨٩، وإعراب القراءات ١/١٩٦، والعنوان ٩٦، وشرح شعلة ٣٩٣، وشرح الطيبة ٤/٣٠٣، وإتحاف ٢/٥٥..
٢ البيت لخداش بن زهير ينظر: الأضداد ١٥٣، لسان العرب (ضطر)، أمالي المرتضى ١/٤٦٦، سر صناعة افعراب ١/٣٢٣، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٠٣، الدر المصون ٣/٣١٤..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٥٦..
٤ سقط من أ..
٥ البيت للنابغة الذبياني ينظر: ديوانه ص ٢٠٣، الكتاب ١/٢٨٦، الخصائص ٢/٤٢٤، لسان العرب (هيج) الدر المصون ٣/٣١٤. جمهرة أشعار العرب ٥٢-٥٦..
٦ ينظر: معاني القرآن له ١/٣٨٦..
٧ ينظر: الحجة ٤/٥٧..
٨ سقط من أ..
٩ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٥٦..
١٠ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٥٧..
١١ ينظر: الدر المصون ٣/٣١٥..
١٢ البيت للأعشى ينظر: ديوانه ص ٢٧٣، تخليص الشواهد ص ١٨٨: الصاحبي في فقه اللغة ٢١٦، خزانة الأدب ٣/٢٥٢، ٥/٢٩١، ٢٩٣ كتاب الصناعتين ص ١٤٣، لسان العرب (حقق)، الإنصاف ١/٥٨ الدر المصون ٣/٣١٥..
١٣ عجز بيت وصدره:
قل للأخيطل إذ جد الجراء بنا
ينظر: ديوانه ٣١٢، التهذيب (حق) الدر المصون ٣/٣١٥..

١٤ ونسبها ابن عطية إلى عبد الله بن مسعود.
ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٣٥، والبحر المحيط ٤/٣٥٧، والدر المصون ٣/٣١٥..

١٥ سقط من أ..
١٦ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٣٥، البحر المحيط ٤/٣٥٧، الدر المصون ٣/٣١٥، والتخريجات النحوية ١٩٣، ٣٦٦..
فقال فرعونُ مجيباً له :﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ والمعنى : إنْ كنت جئت من عند من أرْسَلَكَ بآيةٍ ؛ فأحضرها عندي لتصحَّ دعواك.
فإن قيل قوله :﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله ؟١
والجوابُ : أنَّ هذا نظير قولك : إنْ دخلت الدَّارَ فأنت طالق إن كلمت زيداً، وهاهنا المؤخر في اللَّفظ يكون مقدماً في المعنى ؛ كما سبق تقريره.
١ ينظر: تفسير الرازي ١٤/١٥٧..
لما طلب فرعون من موسى إقَامَةِ البَيِّنَةِ على صحَّةِ دعواه، بين الله تعالى أنَّ معجزته كانت قلب العصا ثعباناً، وأظهار اليد البيضاء.
249
«فإذَا» فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً:
ظرف مكان، أو زمان، أو حرف.
وقال ابن عطية هنا: «وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبراً عن جثة، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ».
قال شهابُ الدِّين: «والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ، وهو مذهب سيبويه».
وأمَّا كونها زماناً فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً.
وقوله: «من حيث كانت خبراً عن جثَّة» ليست هي هنا خبراً عن جُثَّة، بل الخبرُ عن «هي» لفظ «ثُعْبَان» لا لَفْظ «إذا».
والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرْتُه بالمَاءِ، شُبِّه في انسيابه بأنْسِيَابِ الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ. ومنه مَثْعَبُ المطر، وفي الحديث: «جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دماً»

فصل


فإن قيل إنَّهُ وصفها هنا بكونها ثُعْبَاناً، وهو العظيمُ الهائل الخلق، وفي موضع آخر يقول: ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌ﴾ [النمل: ١٠]، والجان من الحيَّاتِ الخفيف الضّئيل الخلق، فكيف الجَمْعُ بين هاتين الصّفتين؟
وقد أجاب الزَّمَخْشَرِيُّ في غير هذا المكان بجوابين:
أحدهما: أنَّهُ يجمع لها بين الشيئين: أي كبر الجُثَّةِ كالثُّعْبَانِ وبين خفَّةِ الحركة، وسرعة المشي كالجَان.
والثاني: أنَّها في ابتداء أمرها تكون كالجَان، ثمَّ يتعاظمُ ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثُعْبَاناً.
وفي وصف الثُّعبانِ بكونه مُبيناً وجوه:
أحدها: أنُّهُ تمييز ذلك عمَّا جاءت به السَّحرَة من التمويه الذي يلتبسُ على من لا يعرف سببه.
250
وثانيها: أنَّهم شاهدوا كونه حيَّةً، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه.
وثالثها: أنَّ الثَّعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي لكاذب.
251
النّزع في اللُّغَةِ عبارة عن إخراج الشَّيء عن مكانه، فقوله: «نَزعَ يَدَهُ» أي أخرجها من جَيْبِهِ ومن جناحه، بدليل قوله: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ [النمل: ١٢]، وقوله: ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾ [طه: ٢٢].
قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ﴾ قال ابن عباس: «كان لها نور ساطع يضيء بين السَّماء والأرض»، واعلم أنَّهُ لمَّا كان البياض كالعيب بيَّن تعالى في غير هذه الآية أنَّهُ كان من غير سوء.
قوله: «للنَّاظرينَ» متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة ل «بيضاء» وقال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: بم تعلق للناظرين؟ قلت: يتعلَّقُ ب» بيضاء «والمعنى: فإذا هي بيضاء للنَّظارة، ولا تكون بيضاء للنَّظَّارةِ إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ، يجتمعُ النَّاس للنَّظر إليه، كما يجتمع النَّظَّارة للعجائب».
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يريدُ تفسير الإعراب؟ وإنَّما أراد التعلُّق المعنويُّ لا الصّناعي، كقولهم: هذا الكلامُ يتعلق بهذا الكلام. أي إنَّهُ من تتمَّةِ المعنى له.
فإن قيل: إنَّ كثرة الدَّلائل توجب القوَّةَ في النَّفْسِ، وسيأتي في سورة طه - إن شاء الله تعالى - أن انقلاب العصا أعظم من اليد البيضاء.
اعلم أنَّهُ سبحانه وتعالى أسند القول في هذه السُّورة إلى الملأ، وفي «الشعراء» [٣٤] أسند القول إلى فرعون في قوله: «قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ»، وأجاب الزَّمَخْشَرِيُّ عن ذلك بثلاثة أوْجُهٍ:
أحدها: أن يكون هذا الكلام صادراً منه ومنهم، فحكى هنا عنهم وفي الشَّعراء عنه.
والثاني: أنَّهُ قاله ابتداء، وتلقَّته عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم.
والثالث: أنَّهُم قالوه عنه للنَّاسِ على طريق التَّبليغ، كما يفعل الملوكُ، يرى الواحدُ منهم الرّأي فيبلغه الخاصَّة، ثم يبلغوه لعامَّتهم، وهذا الثَّالِثُ قريبٌ من الثَّانِي في المعنى.
251
وقولهم: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ يعنون أنَّهُ ليأخذ بأعين النَّاسِ حتى يخيل إليهم العصا حيَّة، واليد بيضاء، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ آدم اللّون، ويرى الشَّيء بخلاف ما هو عليه، وكان السّحر غالباً في ذلك الزمان، ولا شَكَّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة، فالقوم زَعَمُوا أن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في النِّهاية من علم السّحر، فلذلك أتى بتلك الصّيغة، ثم ذكروا أنَّه إنَّما أتى بذلك السّحر طلباً للملك والرّئاسة فقالوا: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾ [الأعراف: ١١٠].
252
قوله: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا»، والجمهور على «تَأمُرُونَ» بفتح النُّونِ، وروى كردم عن نافعٍ كسرها، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون «ماذا» كلمة اسماً واحداً في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «تَأمُرُون» بعد حذف الياء، ويكون المفعول الأوَّلُ ل «تَأمُرُونَ» محذوفاً، وهو ياء المتكلم والتقديرُ: بأي شْيءٍ تأمرونني.
وعلى قراءة نافع لا تَقُول إنَّ المفعول الأوَّلَ محذوف، بل هو في قوَّةِ المَنْطُوق به؛ لأنَّ الكسرة دالة عليه، فهذا الحَذْفُ غير الحذف في قراءة الجماعة.
ويجوزُ أن تكون «ما» استفهاماً في محل رفع بالابتداء، و «ذا» موصول، وصلته العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديرُهُ: فما الذي تأمرونيه.
وقدّره ابن عطية «تَأمُرُونِي بِهِ»، وردَّ عليه أبُو حيَّان بأنَّهُ يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله، ثم اعتذر عنه بأنَّه أراد التقدير الأصلي، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف، فاتّصل الضَّميرُ بالفعل. وهذه الجملة هل هي من كلام المَلأ، ويكونُون قد خاطبوا فِرعَوْنَ بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطب الملوك بصِيغَةِ الجمع، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي: فقال لهم فرعون فماذا تَأمُرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾ ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى: ﴿قالوا أَرْجِهْ﴾ [الأعراف: ١١١].
وهل «تَأمُرُونَ» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس.
وقال الزمخشريُّ: «هو من أمَرْتُه فأمرني بكذا أي: شاورته فأشار عليَّ برأي».
قوله: ﴿قالوا أَرْجِهْ﴾ في هذه الكلمة هنا وفي «الشُّعراءِ» [٣٦] ست قراءات في
252
المشهور المتواتر، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على روايها. وضبط ذلك أنْ يقال: ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه.
فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أرجِئْهو بهمزة ساكنة، وهاء متصلة بواو.
والثانية: قراءة أبي عَمْرو: أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو.
الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صفة.
وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همة فأوَّلهَا: قراءة الأخوين: «أرْجِهْ» بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً.
الثانية: قراءة الكسائيِّ، وورشٍ عن نافعٍ: «أرْجِهِي» بهاء متصلة بياء.
الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء.
فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال: أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قرئ قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ﴾ [الأحزاب: ٥١] بالهَمْزِ وعدمه، وهذا كقولم: تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان.
وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي: «ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [غيره]، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ».
وقال ابنُ مُجَاهدٍ: «وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة».
وقال الحُوفِيُّ: «ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد».
وقال أبو البقاءِ: «ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر».
وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين:
أحدهما: أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين، وله شواهدٌ [مذكورة في موضعها]، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت.
253
[الثاني: أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عيلها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت].
وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه:
الأولُ: أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في ﴿أَنبِئْهُم﴾ [البقرة: ٣٣]، ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ [القمر: ٢٨] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ.
الثالث: أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ.
وقد استضعف أبُو البقاءِ قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال: «وَأرْجِئْهُ» يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشابع وهو الجيِّد، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم: «عليهمي مال» بالإشْبَاع.
قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا التَّضْعيف ليس بشيء؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو:» منهو، وعنهو، وأرجِئْهو «إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو ﴿عَنْهُ تلهى﴾ [عبس: ١٠] بتشديد التَّاءِ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر: [الرجز]
٢٥٣٧ - لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ
٢٥٣٩ - لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ
» هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه «.
قال شهابُ الدِّين:»
وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدَّم شواهدها، فلا حاجةَ إلى الإعادة «.
قوله:»
وَأخَاهُ «الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في» أرْجِهْ «ويضعف نصله على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي.
254
قال عطاءٌ:» معنى أرْجِهْ أي أخّره «.
وقيل: احبسه وأخاه، وهو قول قتادة والكَلْبِي، وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس.
والثاني: أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل.
قوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ﴾.
»
فِي المَدَائِنِ «متعلق ب» أرْسِلُ «، و» حَاشِرينَ «مفعول به، ومفعول» حَاشِرِين «محذوفة أي: حاشرين السَّحَرة، بدليل ما بعده.
و»
المَدائِنُ «جمع مَدينَةٍ، وفيها ثلاثُة أقوال:
أصحها: أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو: معايش ومعيشة، [ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو: مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ].
قال أبُو حيَّان:»
ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا: مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة «.
قال شهابُ الدِّين:»
قد قال الزجاجي: المدن في الحقيقةِ جمع المدين، لأنَّ المدينة لا تُجْمَععْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن «ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم.
القول الثاني: أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ.
الثالث: أن وزنها مفعولة، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال: «هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه
255
وَقَهَرَهُ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو؛ لأنَّها زائدة، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو، والخلاف جارٍ في المحذوف، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟ الأوَّلُ قول الأخْفَشِ، والثَّاني قول المَازني، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ.

فصل في تعريف» المدينة «


المدينةُ معروفةٌ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ، أي: أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ.
ونقل القاضي عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ»
نينوى «بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وهي قرية بالموصل.
قال ابن الخطيب:»
وهذا النَّفْلُ مشكل؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
256
قرأ الأخوان هنا وفي سورة «يونس» [٧٩] «سحّار» والباقون «ساحر»، فسحَّارٌ للمبالغة وساحر يحتملها، ولا خلاف في التي في «الشُّعراء» أنها سحَّارٌ مثال مبالغة.
واختلفوا في السَّاحر والسحَّار: فقيل: السَّاحر الذي يعلم السِّحْرَ ولا يعلم، والسحَّارُ الذي يعلم.
وقيل: السَّاحِرُ من يكون سحره في وقت دون وقت، والسحَّارُ من يديم السحر.
و «الباء» في قوله: «بِكلّ» يحتمل أن تكون باء التَّعدية ويحتمل أن تكون بمعنى مع.
وقال ابن عباس وابن إسحاق والسُّدِّيُّ: إنَّ فرعون اتخذ علمه من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية يقال لها: الفرما يعلموهم فعلموهم سحراً كثيراً، فلما بعث إلى
256
السَّحرة جاءوا ومعلمهم معهم. وهذه الآية تدلُّ على كثرة السَّحرةِ في ذلك الزَّمانِ، وذلك يدلُّ على صِحَّةِ قول المتكلِّمين من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان، فلما كان السِّحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته من جنس السحر. ولما كان الطبُّ غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطبِّ. ولما كانت الفصحاة غالبة على أهل زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت معجزته من جنس الفصاحة.
257
وحذف ذكر الإرْسَالِ لعلم السَّامع.
وفي قوله: ﴿إِنَّ لَنَا لأَجْراً﴾ وجهان:
أظهرهما: أنَّهَا لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها استئناف جواب لسؤال مقدر، ولذلك لم تعطف بالفاء على ما قبلها.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: «وجاءَ السَّحرةُ فرعون فقالوا».
قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا: «أإن لنا لأراً» وهذا قد سبقه إليه الواحديُّ إلاَّ أنه قال: «ولم يقل» فقالوا «لأنَّ المعنى لما جاءوا قالوا» فلم يصحَّ دخول الفاء على هذه الوَجْهِ.
والوجه الثاني: أنَّهَا في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل «جاءُوا» قاله الحوفي.
وقرأ نَافِعٌ وابن كثير وحفصٌ عن عاصم «إنَّ» بهمزة واحدة بكسر الألف على الخبر والباقُونَ بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم من التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمه.
فقراءة الحَرَميِّيْن على الإخبار، وجوَّز الفارسيُّ أن تكون على نيَّةِ الاستفهامِ يدلُّ عليه قراءة البقاين.
قال الواحديُّ: الاستفهام أحْسَنُ في هذا الموضع؛ لأنَّهُم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا، ولا يقطعون على أن لهم الأجر، ويقوي ذلك إجماعهم في سورة «الشعراء» على الاستفهام.
257
وحجَّةُ نافع وابن كثير أنَّهُما أرادا همزة الاستفهام، ولكنهما حذفا ذلك من اللَّفْظِ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢] وقول الشاعر: [المنسرح]
٢٥٤٠ - أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ...............................
وقول الآخر: [الطويل]
٢٥٤١ -................................ وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وكقوله: ﴿هذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦] التقدير: أهذا ربي؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنَّهُ مذهب أبي الحسن ونكر «أجراً» للتعظيم.
قال الزَّمخشريُّ: «كقول العربِ: إنَّ له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة».
قوله: «إنْ كُنَّا» شرط جوابه محذوفٌ للدِّلأالة عليه عند الجمهور، أو ما تقدَّم عند من يجيز تقديم جواب الشَّرْط عليه.
و «نَحْنُ» يجوز فيه أن يكون تأكيداً للضَّمير المرفوع، وأن يكون فصلاً فلا محل له عند البصريين، ومحله الرَّفع عند الكسائيِّ، والنَّصب عند الفرَّاء.
258
فإن قيل: قوله: ﴿وإنكم لمن المقربين﴾ معطوف على ماذا؟ فالجوابُ أنَّهُ معطوف على محذوف، وهو الجملة التي نابت «نعم» عنها في الجاوب إذا التقديرُ: قال: نعم إنَّ لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين، أي: إني لا أقصركم على الثَّواب، بل أزيدكم عليه بأن أجعلكم من المقرّبين عندي.
قال المتكلمون: «وهذا يدلُّ على أنَّ الثواب إنَّما يَعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم».
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى، ويدلُّ على أن السَّحَرَة ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالحسرة في دفع موسى، ويدلُّ على أن السَّحَرَة لم يقدروا على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلبِ الأجْرِ والمال من فرعون؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فَلَمَ لم يقلبوا التراب ذهباً، ولِمَ لَمْ ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفسهم مُلُوك العالم. والمقصودُ من هذه الآيات تنبيه الإنسان على الاحتراز عن الاغترار بكلمات أهل الأبَاطيل.
قوله: ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾ : إمَّا هنا للتخيير، ويطلق عليها حرف عطف مجازاً.
قال المفسرُون: «تأدَّبوا مع موسى - عليه السلام - فكان ذلك سبب إيمانهم».
258
قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ في باب «أمّا» : و «إمّا» إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة، وإذا كنت مشترطاً أو شاكّاً أو مخيراً فهي مكسورةٌ، تقول في المفتوحة: إمّا اللَّه فأعْبُدْه، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ، فإن كنت مشترطاً فتقول: إمّا تعطينَّ زيداً فإنه يشكرك قال تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم﴾ [الأنفال: ٥٧]، وتقولُ في الشَّكِّ: لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو، وتقولُ في التَّخْيير: لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها.
والفرق بين «إمّا» إذا كانت للشكِّ وبين «أو» أنك إذا قلت: «جاءني زَيْدٌ أو عمرو» فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت: أو عمرو، فصار الشك فيهما، فأوَّلُ الاسمين في «أو» يجوز أن يحسن السكوت عليه، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ: قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول: أو أبوك.
وإذا ذكرت «إمّا» فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك، فلا يجوز أن تقول: ضربت إمَّا عبد الله وتسكت. وفي محل: ﴿أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: النصب بفعلٍ مقدَّر أي: افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا، كذا قدّره أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي: اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا.
وقدره مكي وأبو البقاءِ فقالا: «إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء».
قال مَكِّيٌّ: كقوله: [البسيط]
٢٥٤٢ - قَالُوا: الرُّكُوبَ فَقُلْنَا: تِلْكَ عَادَتُنَا...............................
بنصب «الركوب» إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين.
الثاني: الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره: أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا.
الثالث: أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به.
فإن قيل: كيف دخلت «أن» في قوله: ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾ وسقطت من قوله: ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٦].
فالجواب قال الفراء: دخول «أن» في «إما» في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار، وهي في موضع نصب كقولك: اختر ذا أو ذا، كأنَّهُم قالوا: اختر أن تلقي أو نلقي، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه «أن»
259
وقال غيره: «إنَّما أتى هنا ب» أن «المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٦]. لأن «أن»
وما بعدها هنا: إمّا مفعول به او مبتدأ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً، بل لا بُدَّ أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد «إمّا» خبر ثان ل «آخرُونَ»، وإمَّا صفة له، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري.
وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير: إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك - لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم - أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا.
260
قوله: ﴿قَالَ أَلْقَوْاْ﴾ وفيه سؤالٌ: وهو أنَّ إلقاءهم كان سحراً ومعارضة للمعجزة، وذلك كفر، فكيف يجوز لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يأمُرَهُم به؟.
والجوابُ من وجوه:
أحدها: أنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما أمرهم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أن يكون حقّاً، فإذا لم يكن كذلك فالأمرُ هناك كقول القائل لغيره: اسقني الماء من الجرَّةِ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرَّةِ، فأمَّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألْبَتَّةَ كذلك هاهنا.
قال الفرَّاءُ: «المعنى: ألْقُوا إن كنتم مُحِقِّين، وألقوا على ما يصح ويجوز».
وقيل: تهديدٌ لهم أي: ابتدأوا بالإلْقَاءِ فسترون ما يحل بكم في الافتضاح.
وثانيها: أنَّ القوْمَ إنَّمَا جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصي، وعلم موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التَّخيير في التَّقْدِيم والتَّأخير، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراءً لشأنهم، وقلَّة مبالاته بهم وثقة بما وعده اللَّهُ به من التَّأييد، وأنَّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً، ولأنَّ الأمر لا يستلزمُ الإرادة.
وثالثها: قوله عليه السلامُ كان يريدُ إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له: هات وقل واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنَّهُ يظهر لكل أحدٍ ضعفها وسقوطها، فكذا هاهنا.
وقال الفرَّاء: في الكلام حذفٌ، والمعنى: قال لهم موسى: إنكم لن تغلبوا
260
ربَّكم، ولن تبطلوا آياته، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلامِ الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة.
وإنما أمرهم تعجيزاً لهم وقطعاً لشبهتهم واستبطالهم، ولئلا يقولوا: لو تركنا نَفْعَلُ لَفَعَلْنَا بمعانٍ كثيرة.
قوله: ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس﴾.
قال القاضي: «لو كان السِّحْرُ حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم، لا أعينهم، فثبتَ أنَّ المُرَاد أنَّهم تخيَّلُوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفقِ ما تَخَيَّلُوهُ».
وقال الواحديُّ: «بل المرادُ: سَحَرَوا أعْيُنَ النَّاسِ، أي قلبوها عن صحَّةِ إدراكها، بسبب تلك التَّمْوِيهاتِ».
وقيل: إنهم أتوا بالحِبالِ والعصيِّ ولطَّخوا تلك الحِبالَ بالزِّئْبَقِ وجعلوا الزِّئبقَ في دواخل تلك العصي، فلمَّا أثر تَسْخين الشَّمْسِ فيها تحركت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرةً جداً فتخيَّل النَّاسُ أنَّها تتحرَّك وتلتوي باختيارها وقدرتها.
قوله تعالى: ﴿واسترهبوهم﴾ يجوز أن يكون استفعلَ فيه بمعنى أفعل أي: أرهبوهم، وهو قريب من قولهم: قرّ واستقرّ، وعظّم واستَعْظَمَ وهذا رأي المبرِّدِ.
ويجوز أن تكون السين على بابها، أي استدعوا رهبة النَّاس منهم، وهو رأي الزجاج.
روي أنَّهم بَعثُوا جماعة يُنَادُونَ عند إلْقاءِ ذلك: أيها الناس احْذَرُوا. وروي عن ابن عباس أنَّهُ خيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيَّاتٌ مثل عصا موسى، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إليه ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾.
وقال المحققون هذا غير جائزِ؛ لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لما كان نبياً من عند اللَّه كان على ثقة ويقين من أنَّ القوم لَنْ يغلبوه، وهو عالم بأن ما أتَوْا به على وجه المعارضة من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
فإن قيل: ألَيْسَ أنَّهُ تعالى قال: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾ [طه: ٦٧].
فالجوابُ: ليس في الآية أن هذه الخيفة إنَّما حصلت لهذا السَّبب، بل لعله عليه [الصَّلاةِ] والسَّلام خاف من وقوع التَّأخير في ظهور حجّته على سحرهم
261
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ أي عندهم؛ لأنه كان كثيراً. روي أنَّ الأرض كانَتْ ميلاً في ميل فامتلأت حيات يركبُ بعضها بعضاً.
262
يجوز في «أن» : أن تكُون المفسِّرة لمعنى الإيحَاءِ.
ويجوزُ أنْ تكون مصدريّةً؛ فتكونُ هي، وما بعدها مفعول الإيحَاءِ.
قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ قرأ العامَّةُ: «تَلَقَّفُ» بتشديد القافِ، من «تَلَقَّفَ» والأصلُ: «تَتَلَقَّفُ» بتاءيْنِ، فحذفت إحداهُمَا، إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية وقد تقدَّم ذلك في نحو ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
والبزِّيُّ: على أًلها في إدغامِهَا فيما بعدها، فيقرأُ: «فإذا هي تَّلَقَّفُ» بتشديد التاء أيضاً، وقد تقدم تحقيقه عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧].
وقرأ حفصٌ «تَلْقَفُ» بتخفيف القافِ من «لَقِفَ» ك «عَلِمَ يَعْلَمُ»، ورَكِب يَرْكَبْ «.
يقال: لَقِفْتُ الشَّيءَ ألْقَفُهُ لَقْفاً، ولَقَفَاناً، وتَلقفتُهُ أتَلقَّفُهُ تَلَقُّفاً: إذا أخَذْتهُ بِسُرعةٍ، فأكَلْتَهُ أو ابْتَلَعْتَهُ.
وفي التفسير: أنها ابتلعَتْ جميع ما صَنَعُوه، وأنشدُوا على: لَقِفَ يَلْقَفُ، ك»
عَلِمَ يَعْلَمُ «قول الشَّاعِر: [السريع]
262
ويُقَالُ: رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ، بَيِّن الثَّقافة واللَّقَافة. ويُقَالُ: لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ، قاله أبُو عُبيدٍ.
ويقالُ: تَلْقَفُ، وتَلْقَمُ، وتَلْهَمُ: بمعنىً واحدٍ.
والفَاءُ في» فإذَا هِيَ «يجوزُ أن تكُون العاطفة، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها، والتقديرُ:» فألْقَاهَا فإذا هِيَ «.
وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو:»
خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ «جوَّز زيادتها هُنَا.
وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا.
وأمَّا على الأوَّل - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه.
قوله:»
مَا يَأفكونَ «يجوزُ في» ما «أن تكون بمعنى» الذي «والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي يأفِكُونهُ.
ويجوز أن تكُون»
ما «مصدرية،» والمصدر «حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ.
وذلك قولُهُ: ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ يَجُوز أن تكون»
ما «بمعنى» الذين «، فيكونُ المعنى: بَطَلَ الحبالُ والعِصيُّ الذي عملوا به السِّحر: أي: زَالَ، وذهب بِفُقْدانِهَا، وأن تكون مصدرية، أي: وبطل الذي كانوا يعملونه، أو عملهم.
وهذا المصدرُ يجوزُ أن يكون على بابه.
وأن يكون واقعاً موقع المفعول به. بخلاف»
مَا يَأفكُون «فإنَّ يتعيَّنُ أن يكُونُ واقعاً موقع المفعُول به ليصحَّ المعنى؛ إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يصحُّ تسلُّطُه عليها.
ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ: قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه.
قال ابنُ عبَّاسٍ:»
مَا يَأفِكُونَ «يُريدُ: يَكْذِبُونَ، والمعنى: أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ، أي: يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ.
قوله: ﴿فَوَقَعَ الحَقُّ «قال مُجاهدٌ والحسنُ: ظَهَرَ.
وقال الفرَّاءُ:»
فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ «.
قال أهْلُ المعاني: الوُقُوعُ: ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرَّهِ، {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، من السِّحْرِ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا: لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنا وعصينا ولم تُفْقَدْ، فلما فقدت؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر الله.
263
قال القَاضِي: قوله:» فَوَقَعَ الحَقُّ «: يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً.

فصل


قلت: فإن قيل: قوله:»
فوقع الحَقُّ «يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ.
فكان قوله: ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ تكريراً.
فالجوابُ: أنَّ المرادَ: مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها، وهي الحِبَالُ والعصا، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ.

فصل


قوله:»
فَغَلِبُوا هُنالِكَ «يجوزُ أن يكون مكاناً، أي: غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وقيل: يجوزُ أن يكون زماناً، وهذا ليس أصْلُهُ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١].
ويقول الآخر: [الكامل]
٢٥٤٤ -.................................. فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ؟
ولا حُجَّةَ فيهما، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ.
قوله:»
وانقلبُوا صاغرينَ «أي: ذليلين مقهورين. وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ، إذا جعلنا الانقلابِ قبل إيمان السحرةِ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى: صاروا، كما فسَّره الزمخشريُّ، أي: صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين.
ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى: صاروا: لأنَّ اللا لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم.
قوله: ﴿وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾.
قال مقاتل:»
ألْقاهُمُ اللَّهُ «. وقيل: ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا.
قال الأخفشُ: من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا.
ف»
ساجدين «حال من السَّحرة، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ.
264
وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى.
ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل» انْقَلَبُوا «، فإنَّهُ قال:» يجوزُ أن يكُون حالاً، أي: فانْقَلَبُوا صاغرين «.
قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله»
وَألقى السَّحرةُ «.
قوله: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾.
قال المفسِّرونَ: لما قالوا: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾ قال فِرعونُ: إيّايَ تعنُون؛ فقالوا: ﴿رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾، ف:»
ربِّ مُوسَى «يجوز أن يكون نعتاً ل:» ربِّ العالمينَ «، وأن يكون بدلاً، وأنْ يكون عطف بيان.
وفائدُ ذلك: نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى، لقول فرعونَ
﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] وقدَّمُوا «مُوسَى»
في الذِّكْرِ على «هَارُونَ» وإن كان هارون أسَنَّ منه، لكبره في في الرُّتْبَةِ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا.
ولذلك قال في سورة طه: ﴿بِرَبِّ هَارُونَ وموسى﴾ [طه: ٧٠] لوقوع «موسى» فاصلةً، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى.

فصل


احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾ على أن غيرهم ألقاهُم، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى.
وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ:
أحدها: أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم.
وثانيها: ما تقدَّم من تفسير الأخفش.
وثالثها: أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم.
والجوابُ: أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسل، وهو مُحَالٌ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالىن فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى.

فصل


فإن قيل: إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾.
265
فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ؟.
فالجوابُ، من وجوه، أحدها: أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفِة والإيمان، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهاراً للتَّذلل، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور.
وثانيها: لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾.

فصل


فإن قيل: لمّا قالوا: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾ دخل موسى وهارون في ملة العالمي، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك؟
فالجواب من وجهين:
الأول: ان التقدير آمنا برب العالمين، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون.
الثاني: خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً، وتفضيلاً كقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
قوله: «آمنتم» اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراءِ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره، وهم في ذلك على أربع مراتب.
الأولى: قراءة الأخوينِ، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكارٍ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك، لأنَّهَا فاءُ الكلمة، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ: الأولى للاستفهام، والثَّانيةُ همزة «أفْعَلَ»، والثَّالثةُ فاء الكلمة، فالثَّالثة يجبُ قبلها ألفاً، لما تقدم أوَّل الكتاب، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ.
الثانية: قراءة حفص وهي «منتم» بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى، ولقراءة الباقين.
الثالثة: قراءة نافعٍ وابن عمروٍ وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة، وهو استفهام إنكاري، كما تقدم.
266
الرابعة: قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ.
وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء ب «أآمنتم» بهمزتين، أولاهما محققة والثَّأنية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي، وحال الوصل يقرأ: «قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم» بإبدال الأولى واواً، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو: مُرْجَؤونَ، و ﴿يُؤَاخِذُكُمُ﴾ [البقرة: ٢٢٥] ومُؤجَّلاً أم في كلمتنين كهذه الآيةِ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله: ﴿وَإِلَيْهِ النشور أَأَمِنتُمْ﴾ [الملك: ١٥ - ١٦] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه.
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص: أعني بهمزة واحدة بعدها ألف، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه الزّيّ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة؛ فيبدلها واواً في حال الوصل.
ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ، والضميرُ في «به» عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله: ﴿قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾ ويجوزُ أن يعود على موسى، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله ﴿آمَنتُمْ بِهِ﴾ فالضَّميرُ لموسَى لقوله ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ﴾.

فصل


اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
الأولى: قوله: ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة﴾ أي: إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك.
الثانية: أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة، وإبطال ملكهم.
ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب.
وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس، وابن مسعودٍ وغيرهما.
267
من الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ؟ فقال الساحر: واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما، فهذا قولُ فرعون: ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة﴾.
قال القاضي: وقوله ﴿قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية، لأنَّهُ لو كان غلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعثوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين.
قوله: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» حُذِفَ مفعولُ العلم، للعلم به، أي: تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيدٌ مجمل، ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله: «لأقَطَّعَنَّ» جاء به في جملةٍ قَسَمِيِّةِ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله.
وقرأ مجاهدُ بنُ جبر، وحميد المكي، وابنُ مُحَيْصنٍ:
«لأقْطعَنَّ» مخففاً من «قَطَعَ» الثلاثي، وكذا لأصْلُبَنّكُم من «صَلَبَ» الثلاثي.
رُوي بضم اللام وكسرها، وهما لغتان في المضارع، يُقال: صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْليُهُ.
قوله: «مِنْ خلافٍ» يُحتمل أن يكون المعنى: على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقَّ طرفاً، فيقطع اليدَ اليمنى، والرِّجل اليسرى، وكذا هو في التفسير، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنَّهُ قال: مُختلفةً، يُحْتملُ أن يكون المعنى: لأقَطَّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون «مِنْ» تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل، وهو بعيدٌ.
و «أجْمَعِينَ» تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ ب «كلّ» وجيء هنا ب «ثُمَّ»، وفي: طه والشعراء بالواو، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة، فلا تَنَافِيَ بين الآيات.

فصل


اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك.
وقال غيره: لم يقع من فرعون ذلك، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم: «وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ».
وقوله: ﴿إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين، أحدهما: أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ، لقوله بعد ذلك ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ﴾ فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ.
وجَوَّزُوا أن يعود عليهم، وعلى فرعون، أي: إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى للَّهِ،
268
فيُجازي كلاًّ بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ.
قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه ب «مِنْ» وأنَّهُ على التَّضمين.
وقوله: ﴿إلاَّ أنْ آمنَّا﴾ يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله، أي: ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ.
قوله «لَمَّا جَاءَتْنَا» يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارس، وأحد قولي سيبويه، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي: آمنَّا حين مجيء الآيات، وأن تكون حرف وجوب لوجوب، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره: لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف.
قوله: «لَمَّا جَآءَتْنَا» معنى الإفراغ في اللَّغَةِ: الصَّبُّ. وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه.
ونكَّرُوا «الصَّبْر» وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ، أي: صبراً كَاملاً تاماً، كقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] أي: على حياة كاملة تامَّةٍ.
وقوله: ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أي: توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى. واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد.
فقال: إنَّهُم قالوا أوَّلاً: ﴿آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾، ثمَّ ثانياً، «وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ»، فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان.
قوله: ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾.
[اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله، فقال له قومه: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض].
أي: يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ.
قوله: «وَيَذَركَ» العامةُ «ويَذَرَكَ» بالغيبةِ، ونصب الرَّاءِ، وفي النَّصْبِ وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ عطف على «لِيُفْسِدُوا» والثاني: أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء؛ كقول الحُطيئةِ: [الوافر]
٢٥٤٣ - وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَم تَزَلْ تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ
٢٥٤٥ - ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ؟
والمعنى: كيف يكون الجمعث بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي: لا يمكن وقوعُ ذلك.
269
وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة «وَيَذَرُكَ» برفع الرَّاء، وفيها ثلاثة أوُجه:
أظهرها: أنَّه عطف نسق على «أتذر» أي: أتطلق له ذلك.
الثاني: أنه استئناف أي، إخبار بذلك.
الثالث: أنَّهُ حالٌ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُكَ.
وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ «وَيَذَرْكُ» بالجزم، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه جزم على التَّوهُّم، كأنه توهَّم جزم «يُفْسِدُوا» في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ، كقوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: ١٠] بجزم «أكُنْ».
والثاني: أنَّهَأ تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] وبابه.
وقرأ أنس بن مالك «ونَذَرُكَ» بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ، تَوَعَّدُوهُ بذلك، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً. وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ، فلا حاجة إلى ذكره.
وقرأ العامةُ «آلهَتَكَ» بالجمع.
رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤].
وقرأ علي بنُ أبي طالب، وابنُ مسعود، وابن عبَّاسٍ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ «وإلاهتكَ»، وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّ «الإلاهَةَ» اسمٌ للمعبود، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون، وهي الشَّمْسُ.
رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ، والشَّمْسُ تُسَمَّى «الإهَةً»، عَلَماً عليها، ولذلك مُنِعَت الصَّرف، للعمليَّة والتأنيث؛ قال الشَّاعرُ: [الوافر]
270
والثاني: أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة، أي وتذرُ عبادتك، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه.
ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة، ويقرأ «وإلاهتك»، وكان يقول: إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.
قال ابنُ الخطيبِ: والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا: إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ، بل الأقربُ ان يقال: إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع، وكان يقُولُ: مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق، والمُربي لهم فهو نفسه.
فقوله: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] أي: مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم.
وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] أي: لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ على ظاهره.
قوله: «قَالَ سَنُقَتِّلُ» قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ. وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا «يُقَتِّلُونَ أبناءكم» بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف.
فتخلص من ذلك انَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف، وابن كثير يُخَفف «سنَقْتُل» ويثقل «يُقَتِّلُونَ»، والباقون يثقِّلونها.
قوله: «ونستحيي نِسَاءهُمْ». أي نتركهم أحياء. والمعنى: أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسسعى في تقليل رهطه وشيعته، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نساءهم.
ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ أي: إنَّمَا نترك موسى لامِنْ عجزٍ وخوفٍ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه.
قال ابنُ عباس: أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى، فقال لهم مُوسَى: ﴿استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ﴾ يعني أرض مصر.
271
قوله: «يُورِثهَا» في محلِّ نصب على الحَالِ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: الجلالة، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه.
والثاني: أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي: إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ، ويجوز أن يكون «يُورِثُهَا» خبراً ثانياً، وأنْ يكون خبراً وحده، و «لِلَّهِ» هو الحالُ، و «مَن يشاءُ» مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة.
وقرأ الحسنُ، ورُويت عن حفص «يُوَرِّثُهَا» بالتشديد على المبالغة، وقرئ «يُورَثها» بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو: «مَن يَشَاءُ». والألفُ واللاَّم في «الأرض» يجوزُ أن تكون للعهدِ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم، أو للجنس، وقرأ ابن مسعود بنصب «العَاقِبَة» نسقاً على الأرض و «للمتَّقينَ» خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل.

فصل


قال الزخشريُّ: فإن قلت: لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها؟.
قلت: هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا: «وقَالَ الملأ» فهي معطوفة على ما سبقها من قوله: ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾. والمرادُ من قوله: «والعاقِبَةُ» أي النَّصْرُ والظفر، وقيل: الجَنَّةُ.

فصل


قوله: ﴿قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾. لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا، و ﴿قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا﴾ لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانوا مستضعفين في يد فرعون، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة، ويمنعهم من الترفة، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهثم، فقالوا هذا الكلام.

فصل


فإن قيل: هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر.
272
فالجواب: أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ.
فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ، بل استكشافاً لكيفية ذلك.
فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾. قال سيبويه: «عَسَى» طمع وإشفاق. قال الزَّجَّاجُ: وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول: هذا ضعيف؛ لأنَّ لفظ «عسى ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم.
قال القرطبي: «جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ. وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وفتحثوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى، وتبعهم فرعون، فكان وراءهم، والبحرُ أمامهم، فحقَّقَ اللَّه الوعد: بأن غرق فرعون وقومه، وأنجاهم»
.
ثُم بيَّن بقوله: ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ.
واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ، وهو على اللَّهِ محال، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال، وقد يراد به الرُّؤية، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها.
قال الزَّجَّاجُ: أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم.
فإن قيل: إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ، لأن الفاءَ في قوله: «فَيَنْظُرَ:» للتعقيب، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ.
فالجواب: أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ، والتَّعلق نسبة حادثة، والنِّسَبُ والإضافاتُ؛ لا وجود لها في الأعيانِ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى.
273
وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم، وأموالهم؛ فعبدُوا والعِجْلَ.
274
قوله :﴿ فَوَقَعَ الحَقُّ ﴾ قال مُجاهدٌ والحسنُ : ظَهَرَ. ١
وقال الفرَّاءُ :" فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ ".
قال أهْلُ المعاني : الوُقُوعُ : ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرَّهِ، ﴿ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ من السِّحْرِ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا : لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنا وعصينا ولم تُفْقَدْ، فلما فقدت ؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر الله.
قال القَاضِي : قوله :" فَوَقَعَ الحَقُّ " : يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً.

فصل


قلت : فإن قيل : قوله :" فوقع الحَقُّ " يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ.
فكان قوله :﴿ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ تكريراً.
فالجوابُ : أنَّ المرادَ : مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها، وهي الحِبَالُ والعصا، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ.

فصل


١ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٢٣ عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/١٩٩-٢٠٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ..
قوله :" فَغَلِبُوا هُنالِكَ " يجوزُ أن يكون مكاناً، أي : غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وقيل : يجوزُ أن يكون زماناً، وهذا ليس أصْلُهُ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون ﴾ [ الأحزاب : ١١ ].
ويقول الآخر :[ الكامل ]
. . . *** فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ ؟١
ولا حُجَّةَ فيهما، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ.
قوله :" وانقلبُوا صاغرينَ " أي : ذليلين مقهورين. وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ، إذا جعلنا الانقلابِ قبل إيمان السحرةِ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى : صاروا، كما فسَّره الزمخشريُّ، أي : صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين.
ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى : صاروا : لأنَّ الله لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم.
١ تقدم..
قوله :﴿ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ ﴾.
قال مقاتل :" ألْقاهُمُ اللَّهُ ١ ". وقيل : ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا.
قال الأخفشُ : من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا.
ف " ساجدين " حال من السَّحرة، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ.
وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى.
ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل " انْقَلَبُوا "، فإنَّهُ قال :" يجوزُ أن يكُون حالاً، أي : فانْقَلَبُوا صاغرين ".
قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله " وَألقى السَّحرةُ ".
١ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٦٨ عن مقاتل..
قوله :﴿ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾.
قال المفسِّرونَ : لما قالوا :﴿ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾ قال فِرعونُ : إيّايَ تعنُون.
فقالوا :﴿ رَبِّ موسى وَهَارُونَ ﴾، ف :" ربِّ مُوسَى " يجوز أن يكون نعتاً ل :" ربِّ العالمينَ "، وأن يكون بدلاً، وأنْ يكون عطف بيان.
وفائدةُ ذلك : نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى، لقول فرعونَ ﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] وقدَّمُوا " مُوسَى " في الذِّكْرِ على " هَارُونَ " وإن كان هارون أسَنَّ منه، لكبره في الرُّتْبَةِ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا.
ولذلك قال في سورة طه :﴿ بِرَبِّ هَارُونَ وموسى ﴾ [ طه : ٧٠ ] لوقوع " موسى " فاصلةً، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى.

فصل


احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى :﴿ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ ﴾ على أن غيرهم ألقاهُم، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى.
وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ :
أحدها : أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم.
وثانيها : ما تقدَّم من تفسير الأخفش.
وثالثها : أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم.
والجوابُ : أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسل، وهو مُحَالٌ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالى، فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى.

فصل


فإن قيل : إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا :﴿ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾.
فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ ؟.
فالجوابُ، من وجوه، أحدها : أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفِة والإيمان، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهاراً للتَّذلل، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور.
وثانيها : لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا :﴿ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾.

فصل


فإن قيل : لمّا قالوا :﴿ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾ دخل موسى وهارون في جملة العالمين، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن التقدير آمنا برب العالمين، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون.
الثاني : خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً، وتفضيلاً كقوله :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ].
قوله :" آمنتم " اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراءِ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره، وهم في ذلك على أربع مراتب.
الأولى : قراءة الأخوينِ١، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكارٍ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك، لأنَّهَا فاءُ الكلمة، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ : الأولى للاستفهام، والثَّانيةُ همزة " أفْعَلَ "، والثَّالثةُ فاء الكلمة، فالثَّالثة يجبُ قلبها ألفاً، لما تقدم أوَّل الكتاب، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ.
الثانية : قراءة حفص وهي " آمنتم " بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى، ولقراءة الباقين.
الثالثة : قراءة نافعٍ وابن عمروٍ وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة، وهو استفهام إنكاري، كما تقدم.
الرابعة : قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ.
وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء ب " أآمنتم " بهمزتين، أولاهما محققة والثَّانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي، وحال الوصل يقرأ :" قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم " بإبدال الأولى واواً، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو : مُرْجَؤونَ، و ﴿ يُؤَاخِذُكُمُ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] ومُؤجَّلاً أم في كلمتين كهذه الآيةِ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله :﴿ وَإِلَيْهِ النشور أَأَمِنتُمْ ﴾ [ الملك : ١٥-١٦ ] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه.
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزة واحدة بعدها ألف، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه البزّيّ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة ؛ فيبدلها واواً في حال الوصل.
وقد قرئ لقنبل أيضا بثلاثة أوجه في هذه السورة وصلا وهي : تسكين الهمزة بعد الواو المبدلة، أو تحريكها، أو إبدالها ألفا، وحينئذ نطق بقدر ألفين.
ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ، والضميرُ في " به " عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله :﴿ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾ ويجوزُ أن يعود على موسى، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله ﴿ آمَنتُمْ بِهِ ﴾ فالضَّميرُ لموسَى لقوله ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ﴾.

فصل


اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام-.
الأولى : قوله :﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة ﴾ أي : إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك.
الثانية : أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة، وإبطال ملكهم.
ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب.
وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس، وابن مسعودٍ وغيرهما.
من الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عليه الصلاة والسلام - : أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ ؟ فقال الساحر : واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما، فهذا قولُ فرعون :﴿ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة ﴾٢.
قال القاضي : وقوله ﴿ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ﴾ دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية، لأنَّهُ لو كان إلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين.
قوله :" فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ " حُذِفَ مفعولُ العلم، للعلم به، أي : تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيدٌ مجمل.
١ ينظر: السبعة ٢٩٠-٢٩١، والحجة ٤/٦٨-٧١، وإعراب القراءات ١/٢٠١-٢٠٣، وحجة القراءات ٢٩٢-٢٩٣، والعنوان ٩٧، وإتحاف ٢/٥٨-٥٩..
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٢٤..
ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله :" لأقَطَّعَنَّ " جاء به في جملةٍ قَسَمِيِّةِ ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله.
وقرأ مجاهدُ بنُ جبر١، وحميد المكي، وابنُ مُحَيْصنٍ :
" لأقْطعَنَّ " مخففاً من " قَطَعَ " الثلاثي، وكذا لأصْلُبَنّكُم من " صَلَبَ " الثلاثي.
رُوي بضم اللام وكسرها، وهما لغتان في المضارع، يُقال : صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْليُهُ.
قوله :" مِنْ خلافٍ " يُحتمل أن يكون المعنى : على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقَّ طرفاً، فيقطع اليدَ اليمنى، والرِّجل اليسرى، وكذا هو في التفسير، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنَّهُ قال : مُختلفةً، يُحْتملُ أن يكون المعنى : لأقَطَّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون " مِنْ " تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل، وهو بعيدٌ.
و " أجْمَعِينَ " تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ ب " كلّ " وجيء هنا ب " ثُمَّ "، وفي : طه والشعراء بالواو، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة، فلا تَنَافِيَ بين الآيات.

فصل


اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا ؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك٢.
وقال غيره : لم يقع من فرعون ذلك، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم :" وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ".
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٤٠، والبحر المحيط ٤/٣٦٥، والدر المصون ٣/٣٢٥، وإتحاف ٢/٥٩..
٢ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٧٠..
وقوله :﴿ إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾ جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين، أحدهما : أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ.
لقوله بعد ذلك ﴿ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا ﴾ فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ.
وجَوَّزُوا أن يعود عليهم، وعلى فرعون، أي : إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى اللَّهِ، فيُجازي كلاًّ بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ.
قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه ب " مِنْ " وأنَّهُ على التَّضمين.
وقوله :﴿ إلاَّ أنْ آمنَّا ﴾ يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به، أي : ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله، أي : ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ.
قوله " لَمَّا جَاءَتْنَا " يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارس، وأحد قولي سيبويه، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي : آمنَّا حين مجيء الآيات، وأن تكون حرف وجوب لوجوب، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره : لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف.
قوله :" ربنا أفرغ علينا صبرا " معنى الإفراغ في اللَّغَةِ : الصَّبُّ. وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه.
ونكَّرُوا " الصَّبْر " وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ، أي : صبراً كَاملاً تاماً، كقوله تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ﴾ [ البقرة : ٩٦ ] أي : على حياة كاملة تامَّةٍ.
وقوله :﴿ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ أي : توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى. واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد.
فقال : إنَّهُم قالوا أوَّلاً :﴿ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ﴾، ثمَّ ثانياً، " وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ "، فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان.
[ اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ].
أي : يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ.
قوله :" وَيَذَركَ " العامةُ " ويَذَرَكَ " بالغيبةِ، ونصب الرَّاءِ، وفي النَّصْبِ وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ عطف على " لِيُفْسِدُوا " والثاني : أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء ؛ كقول الحُطيئةِ :[ الوافر ]
٢٥٤٦ - تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا
ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ ؟١
والمعنى : كيف يكون الجمع بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي : لا يمكن وقوعُ ذلك.
وقرأ الحسنُ٢ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة " وَيَذَرُكَ " برفع الرَّاء، وفيها ثلاثة أوُجه :
أظهرها : أنَّه عطف نسق على " أتذر " أي : أتطلق له ذلك.
الثاني : أنه استئناف أي، إخبار بذلك.
الثالث : أنَّهُ حالٌ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ، أي : وهو يَذَرُكَ.
وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ " وَيَذَرْكُ " بالجزم، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّه جزم على التَّوهُّم، كأنه توهَّم جزم " يُفْسِدُوا " في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ، كقوله :﴿ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] بجزم " أكُنْ ".
والثاني : أنَّهَا تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] وبابه.
وقرأ أنس بن مالك " ونَذَرُكَ " بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ، تَوَعَّدُوهُ بذلك، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً. وقرأ عبد الله والأعمش٣ بما يخالف السَّوادَ، فلا حاجة إلى ذكره.
وقرأ العامةُ " آلهَتَكَ " بالجمع.
رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله :﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ].
وقرأ علي بنُ أبي طالب٤، وابنُ مسعود، وابن عبَّاسٍ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ " وإلاهتكَ "، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّ " الإلاهَةَ " اسمٌ للمعبود، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون، وهي الشَّمْسُ.
رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ، والشَّمْسُ تُسَمَّى " إلاهَةً "، عَلَماً عليها، ولذلك مُنِعَت الصَّرف، للعمليَّة والتأنيث ؛ قال الشَّاعرُ :[ الوافر ]
تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا٥
والثاني : أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة، أي وتذرُ عبادتك، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه.
ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة، ويقرأ " وإلاهتك "، وكان يقول : إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ.
قال ابنُ الخطيبِ : والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا : إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ، بل الأقربُ أن يقال : إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع، وكان يقُولُ : مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق، والمُربي لهم فهو نفسه.
فقوله :﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] أي : مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم.
وقوله :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] أي : لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى :﴿ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ على ظاهره.
قوله :" قَالَ سَنُقَتِّلُ " قرأ نافعٌ٦ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ. وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا " يُقَتِّلُونَ أبناءكم " بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف.
فتخلص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف، وابن كثير يُخَفف " سنَقْتُل " ويثقل " يُقَتِّلُونَ "، والباقون يثقِّلونها.
قوله :" ونستحيي نِسَاءهُمْ ". أي نتركهم أحياء. والمعنى : أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسعى في تقليل رهطه وشيعته، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نساءهم.
ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله :﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ أي : إنَّمَا نترك موسى لا مِنْ عجزٍ وخوفٍ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه.
١ تقدم..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٤١، البحر المحيط ٤/٣٦٧، الدر المصون ٣/٦٢٥..
٣ ينظر: الكشاف ٢/١٤٣، وقال الزمخشري : وقرئ: وإلاهتك أي عبادتك وروي أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك، وخافوا أن يغلبوا على الملك... وينظر: البحر المحيط ٤/٣٦٧، والدر المصون ٣/٣٢٥..
٤ المصدر السابق..
٥ البيت منسوب في التهذيب (أله) إلى عتيبة بن الحارث اليربوعي، وفي اللسان (أله) إلى مية بنت أم عتبة ينظر القرطبي ٧/١٦٧، والبغوي ٢/١٨٩، ولباب التأويل ٢/١٦٣..
٦ ينظر: السبعة ٢٩٢، والحجة ٤/٧١، ٧٢، وإعراب القراءات ١/٢٠٣، وحجة القراءات ٢٩٤، والعنوان ٩٧، وشرح الطيبة ٤/٣٠٤، وشرح شعلة ٣٩٥، وإتحاف ٢/٦٠..
قال ابنُ عباس : أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى، فقال لهم مُوسَى :﴿ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ ﴾ يعني أرض مصر١.
قوله :" يُورِثهَا " في محلِّ نصب على الحَالِ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الجلالة، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه.
والثاني : أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي : إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ، ويجوز أن يكون " يُورِثُهَا " خبراً ثانياً، وأنْ يكون خبراً وحده، و " لِلَّهِ " هو الحالُ، و " مَن يشاءُ " مفعولٌ ثان ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة.
وقرأ الحسنُ٢، ورُويت عن حفص " يُوَرِّثُهَا " بالتشديد على المبالغة، وقرئ٣ " يُورَثها " بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو :" مَن يَشَاءُ ". والألفُ واللاَّم في " الأرض " يجوزُ أن تكون للعهدِ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم، أو للجنس، وقرأ ابن مسعود٤ بنصب " العَاقِبَة " نسقاً على الأرض و " للمتَّقينَ " خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل.

فصل


قال الزخشريُّ٥ : فإن قلت : لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها ؟.
قلت : هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا :" وقَالَ الملأ " فهي معطوفة على ما سبقها من قوله :﴿ وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ﴾. والمرادُ من قوله :" والعاقِبَةُ " أي النَّصْرُ والظفر، وقيل : الجَنَّةُ.

فصل


١ ذكره القرطبي في تفسيره (٧/١٦٨) عن سعيد بن جبير..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٤٢، والبحر المحيط ٤/٣٦٧، والدر المصون ٣/٣٢٦..
٣ المصدر السابق..
٤ وقرأ بها أبي كما في الكشاف ٢/١٤٣، والبحر المحيط ٤/٣٦٧، والدر المصون ٣/٣٢٦..
٥ ينظر: الكشاف ٢/١٤٣..
قوله :﴿ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾. لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا، و ﴿ قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا ﴾ لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عليه الصلاة والسلام - كانوا مستضعفين في يد فرعون، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة، ويمنعهم من الترفة، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهم، فقالوا هذا الكلام.

فصل


فإن قيل : هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر.
فالجواب : أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ.
فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ، بل استكشافاً لكيفية ذلك.
فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ﴾. قال سيبويه :" عَسَى " طمع وإشفاق. قال الزَّجَّاجُ : وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأنَّ لفظ " عسى " ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم.
قال القرطبي١ :" جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ. وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وفتحوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى، وتبعهم فرعون، فكان وراءهم، والبحرُ أمامهم، فحقَّقَ اللَّه الوعد : بأن غرق فرعون وقومه، وأنجاهم ".
ثُم بيَّن بقوله :﴿ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ.
واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ، وهو على اللَّهِ محال، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال، وقد يراد به الرُّؤية، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها.
قال الزَّجَّاجُ : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم.
فإن قيل : إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ، لأن الفاءَ في قوله :" فَيَنْظُرَ :" للتعقيب، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ.
فالجواب : أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ، والتَّعلق نسبة حادثة، والنِّسَبُ والإضافاتُ ؛ لا وجود لها في الأعيانِ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى.
وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم، وأموالهم ؛ فعبدُوا والعِجْلَ.
١ ينظر: تفسير القرطبي ٧/١٦٨..
لما قال موسى لقومه: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ [الأعراف: ٢٩] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر.
«والسِّنينَ» : جمعُ سنة، وفيها لغتان أشهرهما: إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة.
قال النُّحَاةُ: إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ، وسيأتي في لامه كلامٌ، واللغة الثانيةُ: أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً. نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ. ثم لك فيها لغتان: إحدهما: ثبوتُ تنوينها. والثانية: عدمهُ.
قال الفرَّاءُ: هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر، وغير مصروفة عند بني تميم، ووجه حذف التنوين التَّخفيف، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله: [الطويل]
٢٥٤٧ - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ لَعْبِنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا
وجاء في الحديث: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ» «وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ» باللُّغتين، وفي لام سَنَةٍ لغتان، أحدهما: أنَّهَا واو لقولهم: سنوات وسَانَيْتُ، وسُنَيَّةٌ. الثانية: أنَّها هاء لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة، وليس هذا الحكمُ المذكور
274
أعني: جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ «سِنينَ» بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو: ثُبَةٍ وثُبين، وقُلة، وقُلينَ.

فصل


قال شهابُ الدِّين: «وتَحرَّزْتُ بقولي: حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه، نحو: لِدة وعِدَة.
وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبّى، وقد شَذَّ قولهم: لِدُونَ في المحذوف الفاء، وظِبُونَ في المكسَّر.
٢٥٤٨ - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا
واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ، ولم تُغَيَّر نحو: مائة ومئين، وفئة وفئين، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو: سنين، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدّاً، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان: أعني السَّلامة، والكسر نحو: ثُبين وقُلين.
قال أبُو عَلِي: السَّنة على معنيين: أحدهما: يراد بها العام. والثاني: يراد بها الجدْب.
وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا: أسْنَتَ القَوْمُ.
قال: [الكامل]
٢٥٤٩ - عَمْرُوا الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ
وقال حاتم الطائِيُّ: [الطويل]
275
ويُؤيِّدُ ذلك في سورة يوسف [الآية ٤٧] :» ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً﴾ ثم قال: ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ [يوسف: ٤٨] فهذا في الجدب.
وقال: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس﴾
[يوسف: ٤٩].
وقوله: «مِنَ الثَّمَرَاتِ» متعلِّق ب «نَقْصٍ».
قال قتادةُ: أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار.
«لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ» يتَّعظون، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب، وترغب فيما عند اللَّهِ.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: ٥١].

فصل


قال القاضي: هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم، وأجاب الواحديُّ: «بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ، بل إنَّ تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء، والامتحان، فكذا ههنا».
ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ، والمعصيةِ.
فقال: ﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه﴾.
قال ابْنُ عبَّاسٍ: يُريد بالحسنةِ: العُشْبَ، والخصب، والمواضي، والثَّمار وسعة الرزق، والعافية، أي: نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة. ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي: قَحْط وجدْب وبلاء ومرض: ﴿يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾ أي: يتشاءمُوا بموسى، ومن معه، ويقولُوا: إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه.
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ: كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط.

فصل


أتى في جانب الحَسَنَة ب «إذا» الَّتي للمحقق، وعُرِّفَتِ الحسنة، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى، ولأنَّها أمر محبوبٌ، كلُّ أحدٍ يتمانه، وأتى في جانب السيئة ب «إن» التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال: فإن قلت: كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب «إذا» وتعريفُ الحسنة و ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ ب «إن» وتنكير السيئة؟
276
قلت: لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب، لكثرته واتِّساعه، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ، ولا يقع إلاَّ شيء منها، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ.
قوله «يَطَّيَّرُوا» الأصْلُ: «يتطيَّروا» فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ، لمقاربتها لها.
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: وطلحةُ بنُ مصرف «تَطَيَّروا» بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ. إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً، كقوله: [الخفيف]
٢٥٥٠ - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا
٢٥٥١ - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ
وقوله: [البسيط]
٢٥٥٢ - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك. والتَّطير: التَّشاؤُم، وأصلُهُ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه، ثمَّ أطلق على الحَظِّ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ.
وأنشدوا للبيد: [الوافر]
٢٥٥٣ - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ
الاشْرَاكَ جمع شِرْكٍ، وهو النَّصيب. أي: طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ: أي: الرِّئاسة للذكر، فهذا معناه: تَفَرَّق، وصار لكُل أحد نصيبُه، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ، ثم غلبَ على ما ذكرناه.
قوله: ﴿ألا إنما طائرهم عند الله﴾ أي حَظُّهم، وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم أي: سبب شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم.
قال ابن عباس: يريد شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم.
قال ابن عباس: يريد شُؤمَهُمْ عند الله، أي من قِبَل الله، أي: إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ.
قال الفَرَّاءُ: وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام - ب «المدينة»، فقالوا: غَلَتْ أسْعَارُنَا، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا، وكثرت أمواتنا.
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة، فقال: «لا طيرة ولا هامة» - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ.
وأصل الفَألِ: الكلمة الحسنة، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً،
277
فأثبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفَألَ، وأبطل الطِّيرةَ. والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها؛ بخلاف طيرانِ الطير، وحَرَكَاتِ البهائم، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال، ثم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [أي] : أن الكل من الله تعالى؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الاسبابِ المحسوسة، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدجره، والحق أن الكل من الله؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته، أو ممكن لذاته، والواجب لِذَاتِهِ واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته، فكان الكل من الله - تعالى -، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى.
قال الأزهريُّ: قيل للشُّؤم طاءر وطير، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها.
قال القُرْطُبِيُّ: وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم: تَطّيَّر. وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ: وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءهم بالبَارحِ: وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ. وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك.
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْ صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها.
فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا» وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم، وإن أخذت شمااً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم، فنهى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هذا بقوله «أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا» هكذا في الحديث.
وأهل العربيَّة يقولون: «وكناتِهَا»، والوكْنَةُ: اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ. والوَكْنُ: اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ، وهُوا الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ.
ويقال: وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً: دخل في الوَكْنِ، ووكن بَيْضَهُ، وعليه:
278
حضنه، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ.
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: «مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ».
قيل: وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ.
قال: «أنْ يقُولَ أحَدُكم: اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ إله غَيرُك، ثُمَّ يمضي إلى حاجته»
قوله ﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا﴾. لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة.
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء.
«مَهْمَا» اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك «إنْ» هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً.
كقوله: [الرجز]
٢٥٥٤ - مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ
يريد: ما لي اللِّيلة مالي؟ والهاءُ للسَّكت. وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد: [الطويل]
٢٥٥٥ - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا
وقول الآخر: [الكامل]
279
وقول الآخر: [الكامل]
٢٥٥٦ - عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ
٢٥٥٧ - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ
قال: ف «مَهْمَا» هنا ظرف زمان، والجمهور على خلافه، وما ذكره متأوّل، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك.
فقال: وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها ويحسب «مَهْمَا» بمعنى «متى ما».
ويقولُ: مَهْمَا جئتني أعطيتك، وهذا من كلامِهِ، وليس من واضع العربية، ثم يذهبُ فيفسِّر: ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ﴾ [الأعراف: ١٣٢] بمعنى الوقت، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه.
قال شهابُ الدِّين: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ.
وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ: جميع النَّحويين يقول إنَّ «مَهْمَا» و «مَا» مثل «مَنْ» في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب. وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة
وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما. وهي اسمٌ لا حرفٌ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها، ولا يعودُ الضَّمير على حرف؛ لقوله: ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ﴾ فالهاءُ في «بِهِ» تعود على «مَهْمَا» وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً.
واختلف النَّحويون في «مَهْمَا» هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبة مِنْ «مَا مَا» كُرِّرَتْ «ما» الشَّرطيَّة توكيداً، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف «ما» الأولى هاء.
وقيل: زيدت «ما» على «ما» الشَّرطية، كما يُزَادُ على «إنْ» «ما» في قوله: «فَإمَّا يَأتينَّكُم».
فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة.
وقال قَوْمٌ: هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر، و «مَا» الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً.
وقال بعضهم: لا تركيب فيها هنا، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ، ثم قالوا ﴿مَا تَأْتِنَا بِهِ﴾ ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ.
280
قال شهابُ الدِّين: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة».
وقال قومٌ: إنَّهَا مركَّبةً من «مَهْ» بمعنى اكفف و «مَن الشَّرطيَّةِ» ؛ بدليل قول الشاعر: [الطويل]
٢٥٥٨ - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ
فأبْدِلَتْ نونُ «مَنْ» ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة، والتَّنوين ألفاً، وهذا ليس بشيء بل «مَهْ» على بابها من كونها بمعنى: اكْفُفْ، ثم قال: مَنْ يستمعُ.
وقال قوم: بل هي مركَّبة مِنْ «مَنْ» و «مَا» فأبدلت نونُ «مَنْ» هاءً، كما أبدلوا من ألف «ما» الأولى هاءً، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء، وإن افترقَا في شيء واحد، ذكره مكيٌّ.
ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً؟ والنَّصْبُ من وجهين:
أظهرهما: على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ، والتقديرُ: مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا، ف «تَأتِنَا» مُفَسِّرة ل تُحَضر، لأنَّهُ من معناه.
والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و «بِهَا» عائدان على «مَهْمَا»، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ، والثاني المعنى، فإنَّ معناها الآية المذكورة، ومثله قول زُهَيْرٍ: [الطويل]
٢٥٥٩ - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
ومثله: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] فأعَادَ الضَّمير على «ما» مؤنثاً، لأنَّهَا بمعنى الآية.
وقوله: «فَمَا نَحْنُ» يجوز أن تكون «ما» حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم.

فصل


قال ابْنُ عباس، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق:
281
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ﴾ [الأعراف: ١٣٢] فهو سِحْرٌ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً، عند ذلك دَعَا عليهم فقال: يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء، وبيوت بني إسرائيل، وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قضامُوا في المَاءَ إلى ترابيهم، ومن جَلَسَ منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت.
فقالوا لموسى: ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر؛ فنُؤمِنُ بك، ونرسل معك بني إسرائيل.
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط، وأخصبت بلادهم.
فقالوا: ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد.
وقالوا: لا نُؤمِنُ بك، ولا نرسل معك بني إسرائيل؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ، فأكل عامَّة زرعهم، وثمارهم، وأوراق الشَّجَرِ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم، وباتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى.
وقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة.
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام، وفي الخَبَرِ «مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم» فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد؛ فألقاه في البحر.
وقيل: إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت.
وكانت قد بقيت من زروعهم، وغلاتهم بقيّة.
فقالُوا: قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا، فأقَامُوا شَهْراً في عافية.
فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته.
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا.
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته، ويهم أن يتكلَّم، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ.
282
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع، فأرسل عليها المطر؛ فأحملتها، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم.
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً، فما يستقون من الآبار والأأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر، فَشَكَوْا إلى فرعون.
فقال: إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً، وما يَلِي القبطي دماً، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً، حتى كانت المرأةُ من آلفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ: اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها؛ فيعود دماً في الإناء، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً، فإذا مَجّته في فِيهَا؛ صَارَ دَماً، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: يا مُوسى ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز﴾ [١٣٤]. إلى آخر الآية.
أحدهما: أنَّهُ جمع: طُوفَانة، أي: هو اسمُ جنس ك: قمح وقمحة، وشعير وشعيرة.
وقيل: هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ.
وقال: هو «فُعْلان» من الطَّواف، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ، وواحدته في القياس «طُوفَانَة» ؛ وأنشد: [الرمل]
٢٥٦٠ - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ
والطُّوفان: المَاءُ الكثير، قاله اللَّيْثُ؛ وأنشد للعجّاج: [الرجز]
٢٥٦١ - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا... شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة... وقال أبُو النَّجْمِ: [الرجز]
283
وقيل: الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ: ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ، والقَتْلِ الذَّريع، والمَوْتِ الجارفِ، قاله الزَّجَّاجُ.
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالموتِ تارةً، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى، وتلا قوله: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ [القلم: ١٩] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في «طَائِفَة» إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة.
والجَرَادُ معروف، وهو جَمْعُ: جَرَادةٍ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء.
يقال: جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى، ك: نَمْلَة، وحمامة.
قال أهلُ اللُّغَةِ: وهو مشتقٌّ من «الجَرْدِ».
قالوا: والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً.
يقال: أرْضٌ جَرْدَاء، أي: مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ، إذا ذَهَبَ زئبره.

فصل


قال القرطبيُّ: اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ.
فقيل: يُقتل، لأنَّ في تركها فساد الأموال، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال المسلم إذا أخذَ ماله، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة، والعقرب؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ.
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذَا دَعَا على الجراد قال: «اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ، وأفْسِد بيضَه، واقطع دابرهُ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ».
فقال رجل: يَا رسُول اللَّهِ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره؟
قال: «إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ» وهذا قول جمهور الفقهاءِ.
وقيل: لا يُقْتَلُن لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ.
وقد رُوِي «لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ»
والقُمَّلُ: قيل: هي القِرْدَان، وقيل: دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا.
وقال سعيدُ بن جبير: هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة.
وقال ابْنُ السِّكِّيت، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ؛ فيأكل السُّنبلة، وهي غضة
284
قبل أن تقوى، وحينئذٍ يطولُ الزَّرءعُ ولا سنبل له.
وقيل: إنَّهَا الحمنان الواحدة: حَمْنَانَة، نوع من القِرْدَان.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى «بعين شمس» فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا قراءة الحسن «والقَمْل» بفتح القاف وسكون الميم، فيكونُ فيه لغتان: القُمَّل «كقراءة العامةِ و» القَمْل «كقراءة الحسن البصري.
وقيل: القملُ البراغيث، وقيل: الجعلان.
والضفَادعُ: جمع ضِفْدَع، بزنة دِرْهَم، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة»
زِبْرِج «وقدْ تُبْدَلُ عَيءنُ جمعه ياء، كقوله: [الرجز]
٢٥٦٢ - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا
٢٥٦٣ - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ
وشَذَّ جمعُهُ على: ضِفْدَعَات، والضِّفْدَعُ: مؤنَّث، وليس بمذكر، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ.
فيقال: ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث، نحو حمامة، وجرادة، ونملة.

فصل


روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال: نَهَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قتل: الصُّرَدِ والضِّفْدَع، والنَّمْلَةِ، والهُدْهُدِ. ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ دليلة إلى الموضع، والسكينةَ مقداره، فلمَّا صار إلى البقعَةِ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت: ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي.
285
فنهى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قتل الصُّرَدِ؛ لأنه كان دليل إبراهيم، وعن قتل الضّفدع؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ غبراهيم، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت، وأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله، ولكن نار يسعرها الله بها؛ فَجَعَلَ» نقيقها «تسبيحاً.
والدَّم ذكرناه وهو معروف.
قال زيد بنُ أسلم: الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف، ونقله الزمخشريُّ.
قوله: «آيَاتٍ مفصّلات»
. آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ ممزياً بعضها من بعض، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان:
أحدهما: مُفَصَّلات أي: مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره.
وقي: مُفَصّلات أي: فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة، أو يستمرون على المُخالفةِ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ ﴿وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾.
فصل فإن قيلَ لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم مُحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق؟
فالجوابُ: قال بعضُ أهل السُّنَّةِ: يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد.
وقال آخرون: إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد. وأجاب المُعتزلَةُ: برعاية الصالح، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً. فظهر الفرقُ.
قوله: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز﴾، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ، وغيره.
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: الطاعون.
وقيل: مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد. وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء﴾ [البقرة: ٥٩].
قوله ﴿بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾. يجوزُ في هذه الباء وجهان:
أظهرهما: أن تتعلَّق ب «ادْعُ أي: ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به.
والثاني: أنَّها باء القسم.
قال الزمخشريُّ: والباء إمَّا تتعلَّق ب»
ادْع «على وجهين:
286
أحدهما: اسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُنتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً ب» لنُؤمِنَنَّ «أي:» أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك «.

فصل


اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيّاً مجاب الدَّعْوَة، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه.
وقوله: ﴿فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى﴾. أي: العذاب. إلى أجلٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّقَ ب «كَشَفْنَا وهو المشهور، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه»
لَمَّا «يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول.
لا يُقالُ: لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرضى كَذَا، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا: وقتُ إيمانهم، وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ: استمرارَ رفع الرِّجْزِ.
كأنه قيل: فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ»
الأجَلَ «بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه، وإنَّما احتاج إلى ذلك، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم، أو غرقهم؟
والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من»
الرِّجز «أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل، والمعنى: أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً.
قال أبُو حيَّان: وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب»
لمَّا «جاء ب» إذا «الفجائية أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن.
قوله:»
هم بَالِغُوهُ «في محلِّ جرٍ صفة ل» أجَلٍ «والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم.
وقوله: ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ هذه»
إذَا «الفُجَائيَّةِ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً: و» هُمْ «مبتدأ، و» ينكُثُونَ «خبره، و» إذَا «جوابُ» لمَّا «كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور.
287
قال الزمخشريُّ: ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ جواب» لَمَّا «يعني: فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا.
قال أبُو حيان:»
ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير «. انتهى. يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار، كما تقدَّم، حتَّى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في» لَمَّا «أنَّهَا ظَرْفٌ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل، وما بعد» إذَا «لا يعمل فيما قبلها، كما تحرَّر في موضعه.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هشام»
يَنْكِثُون «بكسر الكاف، والجمهور على الضَّمِّ، وهما لغتان في المضارع.
والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصله: مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث: نِكثٌ ك: ذِبْح، وَرِعْي. والجمعُ: أنكاث، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات.
قوله: «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ»
هذه الفاءُ سببيَّة، أيْ: تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير: فَأرَدْنَا الانتقام، والانتقام في اللُّغَةِ: سلب النعمة بالعذابِ.
و «في اليمِّ» متعلق ب «أغْرَقْنَاهُم»، واليَمّ: البحر، والمشهور أنَّهُ عربيّ.
قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]
٢٥٦٤ - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا يَمٌّ تراضَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ
وقال ابْنُ قتيبةَ: أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ.
وقيل: بالعبرانيَّة. والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري: اليَمّ: البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره.
وقيل: هو لُجَّة البحر ومعظم مائه.
وقال الهروِيُّ - في «غريبيه» -: واليَمُّ: البَحْرُ الذي يقالُ له: إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ. وهذا ليس بجيد، لقوله تعالى: ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ [القصص: ٧] والمرادُ: نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون.

فصل


قيل: واشتقاقه من التيمم، وهو القصد، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه.
288
قوله: «بِأنَّهُمْ» الباء للسببيّة، أي: أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا، وكونهم عَنْهَا غافلين، أي: غَافِلينَ عن آياتنا، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره.
وقيل: يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب «انتَقَمْنَا» ويُعْزَى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ انَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان.
وقال الجمهور: إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة، فَذُمّوا عليها، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه.

فصل


قوله: «وَأوْرَثْنَا» يتعدى لاثنين، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو: وَرِثْتُ أبي، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ.
فأولهما: القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له.
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أنَّهُ «مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا».
وفي قوله: ﴿التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ على هذا وجهان: أحدهما: أنَّه نعتٌ ل: مشارق ومغارب. والثاني: أنَّهُ نعتٌ للأرض، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ.
وهو نظيرُ قولك: قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ.
وقال أبُو البقاءِ هنا: وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ. وهذا سبْقُ لسان أو قلم، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ، بل على ما أضيف إلى الموصوف.
والثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو: ﴿التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي: أورثناهم الأرض التي باركنا فيها.
وفي قوله تعالى: ﴿مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا﴾ وجهان: أحدهما: هو منصوبٌ على الظَّرف ب «يُسْتَضْعَفُونَ». والثاني: أنَّ تقديره: يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب، هكذا قال أبو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين: ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب «في» فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟
289
الوجه الثالث: أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ، تقديره: أورثناهم الأرضَ، أو الملكَ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ، أي: يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى: وَجَدَهُ ذَا كَذَا، والمُرَادُ بالأرْضِ: أرَضُ الشَّام.
وقيل: أرض مصر، لأنها أرض القبط.
وقيل: مصر والشَّام، ومشارقها، ومغاربها جهات المشرق، والمغرب ﴿الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا﴾ بإخراج الزَّرع، والثِّمار، والأنهار.
وقيل: المرادُ جملة الأرض؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ.
قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى﴾. قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع.
قال الزمخشر] ُّ: ونظيره: ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ [النجم: ١٨]. يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ.
قال أبُو حيَّان: ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير: لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ، وهو أبلغُ.
قال شهابُ الدِّين: في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨] وهذه الآية، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى: قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض﴾ [القصص: ٥] إلى قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ﴾ [القصص: ٦] والحُسْنَى: تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة.
وقيل: معنى تمام الكلمةِ: إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بغهلاك عدوهم. ومعنى: «تَمَّتْ» أي: مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم: تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه.
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب «تَمَّتْ» والبَاءُ للسببيَّةِ و «مَا» مصدريةٌ، أي: بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي: على أذَى فرعون وقومه.
قوله: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾. يجوزُ ههنا أوجه: أحدها: أن يكون فِرْعَونُ اسم كان، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ «ما» والعائد محذوف، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه.
فقال: لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك: قام زيدُ. يعني: أنَّ قولك: «قَامَ زَيْدٌ» يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ «قام» فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ، وزيد: مبتدأ
290
مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل، فكذا هنا؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ.
وقال: ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ: يقومُ زيدٌ، على الابتداء والخبر، والتَّقديم والتَّأخير، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ.
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي، فإنه كل باب الابتداء، والخبر، ولكن الجَواب عن ذلك: أنَّ المانع في «قَامَ زيدٌ» هو اللَّبس، وهو مفقودٌ هَهُنَا.
الثاني: أنَّ اسمَ «كان» ضميرٌ عائدٌ على «مَا» الموصولة، ويَصْنَعُ مسندٌ ل «فِرْعَوْن» والجُملةُ خبر «كان» والعائدُ محذوف أيضاً، والتَّقديرُك ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث: أن تكون «كان» زائدةً و «مَا» مصدرية والتقديرُ: ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون. أي: صُنْعَهُ، ذكره أبُو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً، وإن كانت «مَا» موصولة اسمية، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ: ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون.
الرابع: أن «ما» مصدرية أيضاً و «كان» لَيْسَتْ زائدةً بن ناقصة، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ «كان» فهي مفسِّرة لضمير.
وقال أبُو البقاءِ هنا: وقيل: ليست «كان» زائدةً، ولكن «كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين» ما «وبين صلتها، وقد تقدَّم ذلك في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠] وعلى هذا القول تحتاج» كان «إلى اسم.
ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ؛ لأَّ الجُلة التي بعدها صلةُ»
ما «فلا تَصْلُح للتَّفسير، فلا يحصُل بها الإيضاحُ، وتمامُ الاسم، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل» فرعون «اسم» كان «وفي:» يَصْنَعُ «ضمير يعود عليه.
قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً: يلزم أن تكون الجملة من قوله: يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل»
كان «ويمتنع أن تكون صلةً ل» ما «.
وقوله: فتدعُوا الحاجةُ أي: ذلك الوجُه الذي بدأت به، واستضعفه، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً، والتَّدميرُ: الإهلاكُ.
قال الليث: الدَّمَارُ: الهَلاك التَّامن يقال: دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً: أي: هلكوا
291
وهو مُتَعَدٍّ بنفسه، فأمَّا قوله: ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ﴾ [محمد: ١٠] بمفعولُه محذوفٌ، أي: خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم.
وقوله: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ أي: في أرض مصر من العمارات.
قوله:» يَعْرِشُونَ «قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل ﴿يَعرُشُونَ﴾ بضم الرَّاءِ.
والباقون بالكسر فيهما، وهما لغتانِ:»
عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ. والكَسْرُ لغة الحِجَازِ.
قال اليَزِيديُّ: وهي أفصحُ.
وقال مُجاهدٌ: ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت. وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة، من غَرْس الأشجَار. وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير. وهذا آخر قصةِ فرعونَ.
292
فقال :﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه ﴾.
قال ابْنُ عبَّاسٍ : يُريد بالحسنةِ : العُشْبَ، والخصب، والمواشي، والثَّمار وسعة الرزق، والعافية، أي : نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق١ النِّعمة. ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ أي : قَحْط وجدْب وبلاء ومرض :﴿ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ﴾ أي : يتشاءمُوا بموسى، ومن معه، ويقولُوا : إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه.
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ : كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط٢.

فصل


أتى في جانب الحَسَنَة ب " إذا " الَّتي للمحقق، وعُرِّفَتِ الحسنة، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى، ولأنَّها أمر محبوبٌ، كلُّ أحدٍ يتمناه، وأتى في جانب السيئة ب " إن " التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب " إذا " وتعريفُ الحسنة و ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ ب " إن " وتنكير السيئة ؟
قلت : لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب، لكثرته واتِّساعه، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ، ولا يقع إلاَّ شيء منها، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ.
قوله " يَطَّيَّرُوا " الأصْلُ :" يتطيَّروا " فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ، لمقاربتها لها.
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ٣ : وطلحةُ بنُ مصرف " تَطَيَّروا " بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ. إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً، كقوله :[ الخفيف ]
مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّئ كُنْتُ مِنْهُ كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ٤
وقوله :[ البسيط ]
إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا٥
وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك. والتَّطير : التَّشاؤُم، وأصلُهُ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه، ثمَّ أطلق على الحَظِّ، والنَّصيب السَّيِّئ بالغَلبَةِ.
وأنشدوا للبيد :[ الوافر ]
تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ٦
الأشْرَاكَ جمع شِرْكٍ، وهو النَّصيب. أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ : أي : الرِّئاسة للذكر، فهذا معناه : تَفَرَّق، وصار لكُل أحد نصيبُه، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ، ثم غلبَ على ما ذكرناه.
قوله :﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ أي حَظُّهم، وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم.
قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله، أي من قِبَل الله، أي : إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ.
قال الفَرَّاءُ : وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام – ب " المدينة "، فقالوا : غَلَتْ أسْعَارُنَا، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا، وكثرت أمواتنا.
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة، فقال :" لا طيرة ولا هامة " - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ.
وأصل الفَألِ : الكلمة الحسنة، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ، وأبطل الطِّيرةَ. والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها ؛ بخلاف طيرانِ الطير، وحَرَكَاتِ البهائم، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال، ثم قال تعالى :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ أي ] : أن الكل من الله تعالى ؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الأسبابِ المحسوسة، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدره، والحق أن الكل من الله ؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته، أو ممكن لذاته، والواجب لِذَاتِهِ واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته، فكان الكل من الله - تعالى -، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى.
قال الأزهريُّ٧ : قيل للشُّؤم طائر وطير، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها.
قال القُرْطُبِيُّ : وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم : تَطّيَّر. وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ : وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءم بالبَارحِ : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ. وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك.
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْا صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها.
فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أيّ حال كان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام :" أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا " وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم، وإن أخذت شمالاً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله " أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا ". هكذا في الحديث.
وأهل العربيَّة يقولون :" وكناتِهَا "، والوكْنَةُ : اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ. والوَكْنُ : اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ، وهُو الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ.
ويقال : وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ٨ وَكْناً ووكُوناً : دخل في الوَكْنِ، ووكن بَيْضَهُ، وعليه : حضنه، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ.
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال :" مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ٩ ".
قيل : وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ.
قال :" أنْ يقُولَ أحَدُكم : اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ إله غَيرُك، ثُمَّ يمضي إلى حاجته " ١٠
١ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٧٤ عن ابن عباس..
٢ تقدم..
٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٧٠، الدر المصون ٣/٣٢٧..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ البيت في ديوانه ٢٠٠، ومجالس ثعلب ١/٧٨، أمالي القالي ١/٩٥، اللسان (شرك)، الدر المصون ٣/٣٢٨..
٧ ينظر: تهذيب اللغة ١١/٤٢٦..
٨ في ب وكن الطير يكن وكونا إذا حضر بيضة..
٩ أخرجه احمد (٢/٢٢٠) وذكره الهيثمي في المجمع ٥/١٠٥ وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات..
١٠ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٣١..
قوله ﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا ﴾. لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة.
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء.
" مَهْمَا " اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك " إنْ " هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً.
كقوله :[ الرجز ]
مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ ؟ أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ١
يريد : ما لي اللِّيلة مالي ؟ والهاءُ للسَّكت. وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان ؛ وأنشد :[ الطويل ]
وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا٢
وقول الآخر :[ الكامل ]
عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ٣
وقول الآخر :[ الكامل ]
نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ٤
قال : ف " مَهْمَا " هنا ظرف زمان، والجمهور على خلافه، وما ذكره متأوّل، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك.
فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها ويحسب " مَهْمَا " بمعنى " متى ما ".
ويقولُ : مَهْمَا جئتني أعطيتك، وهذا من كلامِهِ، وليس من واضع العربية، ثم يذهبُ فيفسِّر :﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] بمعنى الوقت، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه.
قال شهابُ الدِّين : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ.
وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ : جميع النَّحويين يقول إنَّ " مَهْمَا " و " مَا " مثل " مَنْ " في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب. وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة.
وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما. وهي اسمٌ لا حرفٌ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها، ولا يعودُ الضَّمير على حرف ؛ لقوله :﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ ﴾ فالهاءُ في " بِهِ " تعود على " مَهْمَا "، وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً.
واختلف النَّحويون في " مَهْمَا " هل هي بسيطة أو مركبة ؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة مِنْ " مَا مَا " كُرِّرَتْ " ما " الشَّرطيَّة توكيداً، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف " ما " الأولى هاء.
وقيل : زيدت " ما " على " ما " الشَّرطية، كما يُزَادُ على " إنْ " " ما " في قوله :" فَإمَّا يَأتينَّكُم ".
فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة.
وقال قَوْمٌ : هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر، و " مَا " الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً.
وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ، ثم قالوا ﴿ مَا تَأْتِنَا بِهِ ﴾ ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ.
قال شهابُ الدِّين٥ :" وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة ".
وقال قومٌ : إنَّهَا مركَّبةً من " مَهْ " بمعنى اكفف و " مَن الشَّرطيَّةِ " ؛ بدليل قول الشاعر :[ الطويل ]
أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ٦
فأبْدِلَتْ نونُ " مَنْ " ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة، والتَّنوين ألفاً، وهذا ليس بشيء بل " مَهْ " على بابها من كونها بمعنى : اكْفُفْ، ثم قال : مَنْ يستمعُ.
وقال قوم : بل هي مركَّبة مِنْ " مَنْ " و " مَا " فأبدلت نونُ " مَنْ " هاءً، كما أبدلوا من ألف " ما " الأولى هاءً، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء، وإن افترقَا في شيء واحد، ذكره مكيٌّ.
ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً ؟ والنَّصْبُ من وجهين :
أظهرهما : على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ، والتقديرُ : مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا، ف " تَأتِنَا " مُفَسِّرة ل تُحَضر، لأنَّهُ من معناه.
والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و " بِهَا " عائدان على " مَهْمَا "، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ، والثاني المعنى، فإنَّ معناها الآية المذكورة، ومثله قول زُهَيْرٍ :[ الطويل ]
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئ مِنْ خَلِيقةٍ وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ٧
ومثله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] فأعَادَ الضَّمير على " ما " مؤنثاً، لأنَّهَا بمعنى الآية.
وقوله :" فَمَا نَحْنُ " يجوز أن تكون " ما " حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم.

فصل


١ البيت لعمرو بن ملقط الطائي ينظر: شرح المفصل لابن يعيش ٧/٤٤، الهمع ٢/٥٨، الدرر ٢/٧٤، المغني ١/١٠٨، الخزانة ٩/١٨، الجنى الداني ٦١١، ٥١، اللسان (مهه)، التهذيب (مه) النوادر ٦٢، الدر المصون ٣/٣٢٨..
٢ البيت لحاتم الطائي ينظر: ديوانه ١٧٤، خزانة الأدب ٩/٢٧ مغني اللبيب ٣٣١، الهمع ٢/٥٧، الدرر ٥/٧١، شرح الأشموني ٣/٥٨١، شرح شواهد المغني ٧٤٤، الجنى الداني ٦١٠، الحماسة ٤/١٧١٣، شرح الشافية الكافية ٣/١٦٢٧، القرطبي ٧/١٩٣، الدر المصون ٣/٣٢٨..
٣ البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر: الديوان ٢٧٧، شرح الكافية الشافية ٣/١٦٢، الرضي في شرح الكافية ٢/٢٥٣، الدر المصون ٣/٣٢٨..
٤ البيت لطفيل الغنوي ينظر: ديوانه ١٠٤، الأشموني ٤/١٢، شرح الكافية الشافية ٣/١٦٢٧، الدر المصون ٣/٣٢٨..
٥ ينظر: الدر المصون ٣/٣٢٩..
٦ البيت قيل لحاتم الطائي ينظر: الخزانة ٩/١٦، شرح المفصل لابن يعيش ٤/٨، شرح القصائد العشر ٧٨، شرح الرضي ٢/٢٥٣، التهذيب ٥/٣٨٥، اللسان (مهه) الدر المصون ٣/٣٢٩..
٧ ينظر ديوانه ٣٢، شرح القصائد العشر ٢٤٠، المغني ١/٣٢٣، الأشموني ٤/١٠، الهمع ٣٥١٢. الدرر ٢/٧٤، مغني اللبيب ١/٣٢٣، ٣٣٠، البحر المحيط ٤/٣٧١، الجنى الداني ١٦٢، شرح قطر الندى ص ٣٧، همع الهوامع ٢/٣٥، ٥٨، الدر المصون ٣/٣٢٩..
قال ابْنُ عباس، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق :
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ﴿ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] فهو سِحْرٌ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً، فعند ذلك دَعَا عليهم فقال : يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك ؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء، وبيوت بني إسرائيل، وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قامُوا في المَاءَ إلى تراقيهم، ومن جَلَسَ منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت.
فقالوا لموسى : ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر ؛ فنُؤمِنُ بك، ونرسل معك بني إسرائيل.
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط، وأخصبت بلادهم.
فقالوا : ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر ؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد.
وقالوا : لا نُؤمِنُ بك، ولا نرسل معك بني إسرائيل ؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ، فأكل عامَّة زرعهم، وثمارهم، وأوراق الشَّجَرِ ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم، وابتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى.
وقالوا : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة.
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام، وفي الخَبَرِ " مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم " فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد ؛ فألقاه في البحر.
وقيل : إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب ؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت.
وكانت قد بقيت من زروعهم، وغلاتهم بقيّة.
فقالُوا : قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا، فأقَامُوا شَهْراً في عافية.
فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته.
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا.
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام ؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته، ويهم أن يتكلَّم، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ.
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع، فأرسل عليها المطر ؛ فأحملتها، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم.
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً، فما يستقون من الآبار والأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر، فَشَكَوْا إلى فرعون.
فقال : إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد ؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً، وما يَلِي القبطي دماً، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً، حتى كانت المرأةُ من الفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ : اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها ؛ فيعود دماً في الإناء، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً، فإذا مَجّته في فِيهَا ؛ صَارَ دَماً، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام١،
فقالوا : يا مُوسى ﴿ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز ﴾ [ ١٣٤ ]. إلى آخر الآية.
أحدهما : أنَّهُ جمع : طُوفَانة، أي : هو اسمُ جنس ك : قمح وقمحة، وشعير وشعيرة.
وقيل : هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ.
وقال : هو " فُعْلان " من الطَّواف، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ، وواحدته في القياس " طُوفَانَة " ؛ وأنشد :[ الرمل ]
غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا *** خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ٢
والطُّوفان : المَاءُ الكثير، قاله اللَّيْثُ ؛ وأنشد للعجّاج :[ الرجز ]
وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا٣ ***. . .
شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة.
وقال أبُو النَّجْمِ :[ الرجز ]
وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا *** شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا٤
وقيل : الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ : ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ، والقَتْلِ الذَّريع، والمَوْتِ الجارفِ، قاله الزَّجَّاجُ.
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى، وتلا قوله :﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ القلم : ١٩ ] وهذه المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في " طَائِفَة " إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة.
والجَرَادُ معروف، وهو جَمْعُ : جَرَادةٍ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء.
يقال : جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى، ك : نَمْلَة، وحمامة.
قال أهلُ اللُّغَةِ : وهو مشتقٌّ من " الجَرْدِ ".
قالوا : والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً.
يقال : أرْضٌ جَرْدَاء، أي : مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ، إذا ذَهَبَ زئبره.

فصل


قال القرطبيُّ : اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ.
فقيل : يُقتل، لأنَّ في تركها فساد الأموال، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة، والعقرب ؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ.
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال :" اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ، وأفْسِد بيضَه، واقطع دابرهُ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ " ٥.
فقال رجل : يَا رسُول اللَّهِ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره ؟
قال :" إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ " وهذا قول جمهور الفقهاءِ.
وقيل : لا يُقْتَلُ، لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ.
وقد رُوِي " لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ "
والقُمَّلُ : قيل : هي القِرْدَان، وقيل : دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا.
وقال سعيدُ بن جبير : هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة٦.
وقال ابْنُ السِّكِّيت، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ ؛ فيأكل السُّنبلة، وهي غضة قبل أن تقوى، وحينئذٍ يطولُ الزَّرعُ ولا سنبل له.
وقيل : إنَّهَا الحمنان الواحدة : حَمْنَانَة، نوع من القِرْدَان.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى " بعين شمس " فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل٧، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا قراءة الحسن٨ " والقَمْل " بفتح القاف وسكون الميم، فيكونُ فيه لغتان : القُمَّل " كقراءة العامةِ و " القَمْل " كقراءة الحسن البصري.
وقيل : القملُ البراغيث، وقيل : الجعلان.
والضفَادعُ : جمع ضِفْدَع، بزنة دِرْهَم، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة " زِبْرِج " وقدْ تُبْدَلُ عَينُ جمعه ياء، كقوله :[ الرجز ]
وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ *** ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ٩
وشَذَّ جمعُهُ على : ضِفْدَعَات، والضِّفْدَعُ : مؤنَّث، وليس بمذكر، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ.
فيقال : ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث، نحو حمامة، وجرادة، ونملة.

فصل


روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال : نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم١٠ عن قتل : الصُّرَدِ والضِّفْدَع، والنَّمْلَةِ، والهُدْهُدِ. ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ، فكان الصرد دليله إلى الموضع، والسكينةَ مقداره، فلمَّا صار إلى البقعَةِ ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت : ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي.
فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ ؛ لأنه كان دليل إبراهيم، وعن قتل الضّفدع ؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ إبراهيم، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت، وأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله، ولكن نار يسعرها الله بها ؛ فَجَعَلَ " نقيقها " تسبيحاً.
والدَّم ذكرناه وهو معروف.
قال زيد بنُ أسلم : الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف، ونقله الزمخشريُّ.
قوله :" آيَاتٍ مفصّلات ". آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي : أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ مميزاً بعضها من بعض، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان :
أحدهما : مُفَصَّلات أي : مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره.
وقي : مُفَصّلات أي : فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة، أو يستمرون على المُخالفةِ ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾.

فصل


فإن قيلَ : لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ، فما الفائدة في تواليها ؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق ؟
فالجوابُ : قال بعضُ أهل السُّنَّةِ : يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد.
وقال آخرون : إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد. وأجاب المُعتزلَةُ : برعاية الصالح، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً. فظهر الفرقُ.
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٣٤-٣٨)..
٢ البيت لحسيل بن عرفطة: ينظر الوساطة ٤٤١، البحر ٤/٣٧٢١، التهذيب ١٤/٣٣، النوادر ٧٧، المنصف ٢/٢٢٨، معاني الأخفش ٢/٥٣١، اللسان: طوف، الدر المصون ٣/٣٣٠..
٣ ينظر: التاج واللسان (طوف)، الدر المصون ٣/٣٣٠..
٤ ينظر جامع البيان ١٣/٥٤، البحر ٤/٣٧٢، الدر المصون ٣/٣٣٠ النكت والعيون ٢/٤٩..
٥ أخرجه ابن ماجه ٣٢٢١ من طريق موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن جابر وأنس وإسناده ضعيف جدا..
٦ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٣٣) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٠٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر..
٧ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٧٨ عن سعيد بن جبير..
٨ ينظر: الشواذ ٤٥، الدر المصون ٣/٣٣٠..
٩ ينظر الكتاب ٢/٢٧٣، ابن يعيش ١٠/٢٨، المقرب ٢/١٧١، الهمع ٢/١٥٧، الدرر ٢/٢١٣، الأشموني ٤/٣٣٧، اللسان: حزق، الدرر المصون ٣/٣٣١..
١٠ أخرجه أحمد في المسند ١/٣٣٢، ٣٤٧، والدارمي في السنن ٢/٨٨-٨٩ كتاب الأضاحي باب النهي عن قتل الضفادع والنحلة وأبو داود في السنن ٥/٤١٨ كتاب الأدب باب في قتل الذر الحديث ٥٢٦٧، وابن ماجه في السنن ٢/١٠٧٤، كتاب الصيد باب ما ينهى عن قتله الحديث (٣٢٢٤)، وصححه ابن حبان، وأورده الهيثمي في موارد الظمآن ص ٢٦٥ كتاب الأضاحي باب ما نهي عن قتله الحديث (١٠٧٨) والصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم ونصفه أسود، (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث ٣/٢١)..
قوله :﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز ﴾، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ، وغيره.
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : الطاعون.
وقيل : مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد. وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السماء ﴾ [ البقرة : ٥٩ ].
قوله ﴿ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾. يجوزُ في هذه الباء وجهان :
أظهرهما : أن تتعلَّق ب " ادْعُ أي : ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به.
والثاني : أنَّها باء القسم.
قال الزمخشريُّ : والباء إمَّا تتعلَّق ب " ادْع " على وجهين :
أحدهما : اسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً ب " لنُؤمِنَنَّ " أي :" أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك ".

فصل


اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيّاً مجاب الدَّعْوَة، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه.
وقوله :﴿ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز ﴾. أي : العذاب. إلى أجلٍ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ ب " كَشَفْنَا " وهو المشهور، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه " لَمَّا " يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول.
لا يُقالُ : لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرى كَذَا، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا : وقتُ إيمانهم، وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ : استمرارَ رفع الرِّجْزِ.
كأنه قيل : فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ " الأجَلَ " بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه، وإنَّما احتاج إلى ذلك، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم، أو غرقهم ؟
والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من " الرِّجز " أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل، والمعنى : أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً.
قال أبُو حيَّان١ : وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب " لمَّا " جاء ب " إذا " الفجائية أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن.
قوله :" هم بَالِغُوهُ " في محلِّ جرٍ صفة ل " أجَلٍ " والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم.
وقوله :﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ هذه " إذَا " الفُجَائيَّةِ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً : و " هُمْ " مبتدأ، و " ينكُثُونَ " خبره، و " إذَا " جوابُ " لمَّا " كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور.
قال الزمخشريُّ :﴿ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ جواب " لَمَّا " يعني : فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا.
قال أبُو حيان :" ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير ". انتهى. يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار، كما تقدَّم، حتَّى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في " لَمَّا " أنَّهَا ظَرْفٌ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل، وما بعد " إذَا " لا يعمل فيما قبلها، كما تحرَّر في موضعه.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ٢ وأبو هشام " يَنْكِثُون " بكسر الكاف، والجمهور على الضَّمِّ، وهما لغتان في المضارع.
والنَّكْثُ : النَّقْضُ، وأصله : مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث : نِكثٌ ك : ذِبْح، وَرِعْي. والجمعُ : أنكاث، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات.
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٧٤..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٣٣٢..
قوله :" فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ " هذه الفاءُ سببيَّة، أيْ : تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير : فَأرَدْنَا الانتقام، والانتقام في اللُّغَةِ : سلب النعمة بالعذابِ.
و " في اليمِّ " متعلق ب " أغْرَقْنَاهُم "، واليَمّ : البحر، والمشهور أنَّهُ عربيّ.
قال ذو الرُّمَّة :[ البسيط ]
دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا يَمٌّ تراطَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ١
وقال ابْنُ قتيبةَ : أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ.
وقيل : بالعبرانيَّة. والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري : اليَمّ : البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره.
وقيل : هو لُجَّة البحر ومعظم مائه.
وقال الهروِيُّ - في " غريبيه " - : واليَمُّ : البَحْرُ الذي يقالُ له : إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ. وهذا ليس بجيد، لقوله تعالى :﴿ فَأَلْقِيهِ فِي اليم ﴾ [ القصص : ٧ ] والمرادُ : نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون.

فصل


قيل : واشتقاقه من التيمم، وهو القصد، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه.
قوله :" بِأنَّهُمْ " الباء للسببيّة، أي : أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا، وكونهم عَنْهَا غافلين، أي : غَافِلينَ عن آياتنا، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وبه قال الزَّجَّاجُ٢ وغيره.
وقيل : يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب " انتَقَمْنَا " ويُعْزَى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ أنَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان.
وقال الجمهور : إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة، فَذُمّوا عليها، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه.

فصل


١ ينظر ديوانه ١/٤١٠، شرح المفصل لابن يعيش ٥/١٥٤، البحر ٤/٣٦٣ جامع البيان ١٣/٧٤، اللسان: رطن، الدر المصون ٣/٣٣٢..
٢ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٢/٤١٠..
قوله :" وَأوْرَثْنَا " يتعدى لاثنين، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ.
فأولهما : القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له.
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها : أنَّهُ " مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا ".
وفي قوله :﴿ التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ على هذا وجهان : أحدهما : أنَّه نعتٌ ل : مشارق ومغارب. والثاني : أنَّهُ نعتٌ للأرض، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ.
وهو نظيرُ قولك : قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ.
وقال أبُو البقاءِ١ هنا : وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ. وهذا سبْقُ لسان أو قلم، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ، بل على ما أضيف إلى الموصوف.
والثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو :﴿ التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أي : أورثناهم الأرض التي باركنا فيها.
وفي قوله تعالى :﴿ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا ﴾ وجهان : أحدهما : هو منصوبٌ على الظَّرف ب " يُسْتَضْعَفُونَ ". والثاني : أنَّ تقديره : يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه ؛ فنصب، هكذا قال أبو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين : ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب " في " فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين ؟
الوجه الثالث : أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ، تقديره : أورثناهم الأرضَ، أو الملكَ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ، أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى : وَجَدَهُ ذَا كَذَا، والمُرَادُ بالأرْضِ : أرَضُ الشَّام.
وقيل : أرض مصر، لأنها أرض القبط.
وقيل : مصر والشَّام، ومشارقها، ومغاربها جهات المشرق، والمغرب ﴿ الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا ﴾ بإخراج الزَّرع، والثِّمار، والأنهار.
وقيل : المرادُ جملة الأرض ؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ.
قوله :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى ﴾. قرأ الحسنُ٢ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع.
قال الزمخشري : ونظيره :﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ [ النجم : ١٨ ]. يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ.
قال أبُو حيَّان : ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير : لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ، وهو أبلغُ.
قال شهابُ الدِّين٣ : في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو ﴿ مَآرِبُ أخرى ﴾ [ طه : ١٨ ] وهذه الآية، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى : قوله :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض ﴾ [ القصص : ٥ ] إلى قوله :﴿ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ﴾ [ القصص : ٦ ] والحُسْنَى : تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة.
وقيل : معنى تمام الكلمةِ : إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بإهلاك عدوهم. ومعنى :" تَمَّتْ " أي : مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم : تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه.
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب " تَمَّتْ " والبَاءُ للسببيَّةِ و " مَا " مصدريةٌ، أي : بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي : على أذَى فرعون وقومه.
قوله :﴿ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ ﴾. يجوزُ ههنا أوجه : أحدها : أن يكون فِرْعَونُ اسم كان، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ " ما " والعائد محذوف، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه.
فقال : لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك : قام زيدُ. يعني : أنَّ قولك :" قَامَ زَيْدٌ " يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ " قام " فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ، وزيد : مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل، فكذا هنا ؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ.
وقال : ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ : يقومُ زيدٌ، على الابتداء والخبر، والتَّقديم والتَّأخير، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ.
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا ؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي، فإنه ك : باب الابتداء، والخبر، ولكن الجَواب عن ذلك : أنَّ المانع في " قَامَ زيدٌ " هو اللَّبس، وهو مفقودٌ هَهُنَا.
الثاني : أنَّ اسمَ " كان " ضميرٌ عائدٌ على " مَا " الموصولة، ويَصْنَعُ مسندٌ ل " فِرْعَوْن " والجُملةُ خبر " كان " والعائدُ محذوف أيضاً، والتَّقديرُ : ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث : أن تكون " كان " زائدةً و " مَا " مصدرية والتقديرُ : ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون. أي : صُنْعَهُ، ذكره أبُو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين٤ : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً، وإن كانت " مَا " موصولة اسمية، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ : ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون.
الرابع : أن " ما " مصدرية أيضاً و " كان " لَيْسَتْ زائدةً، بل ناقصة، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ " كان " فهي مفسِّرة لضمير.
وقال أبُو البقاءِ٥ هنا : وقيل : ليست " كان " زائدةً، ولكن " كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين " ما " وبين صلتها، وقد تقدَّم ذلك في قوله :﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [ البقرة : ١٠ ] وعلى هذا القول تحتاج " كان " إلى اسم.
ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ ؛ لأَّن الجُملة التي بعدها صلةُ " ما " فلا تَصْلُح للتَّفسير، فلا يحصُل بها الإيضاحُ، وتمامُ الاسم، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل " فرعون " اسم " كان " وفي :" يَصْنَعُ " ضمير يعود عليه.
قال شهابُ الدِّين٦ بعد فرض كونها ناقصةً : يلزم أن تكون الجملة من قوله : يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل " كان " ويمتنع أن تكون صلةً ل " ما ".
وقوله : فتدعُو الحاجةُ أي : ذلك الوجُه الذي بدأت به، واستضعفه، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً، والتَّدميرُ : الإهلاكُ.
قال الليث : الدَّمَارُ : الهَلاك التَّام، يقال : دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً : أي : هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه، فأمَّا قوله :﴿ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ ﴾ [ محمد : ١٠ ] بمفعولُه محذوفٌ، أي : خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم.
وقوله :﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴾ أي : في أرض مصر من العمارات.
قوله :" يَعْرِشُونَ " قرأ٧ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل ﴿ يَعرُشُونَ ﴾ بضم الرَّاءِ.
والباقون بالكسر فيهما، وهما لغتانِ :" عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ. والكَسْرُ لغة الحِجَازِ.
قال اليَزِيديُّ : وهي أفصحُ.
وقال مُجاهدٌ : ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت٨. وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة، من غَرْس الأشجَار. وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير. وهذا آخر قصةِ فرعونَ.
١ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٨٣..
٢ ينظر: الشواذ ٤٥، الدر المصون ٣/٣٣٣..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٣٣..
٤ ينظر: الدر المصون ٣/٣٣٤..
٥ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٨٣..
٦ ينظر: الدر المصون ٣/٣٣٤..
٧ ينظر البشر ٢/٢٧١ الحجة ص ٢٩٤ إتحاف فضلاء النشر ٢/٦١ السبعة ص ٢٩٢، الدر المصون ٣/٣٣٤..
٨ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٤٥) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢١٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ..
قوله: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ﴾ كقوله: ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: ٥٠] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية، وأن تكون للحاليَّة، كقوله: [الوافر]
٢٥٦٥ -............................. تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا
وقد تقدَّم. و «جاوز» بمعنى: جاز، ف «فاعل» بمعنى «فَعَل».
وقرأ الحسنُ، وإبراهيم، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى «فَعَلَ» المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر.
قوله: يَعْكُفُونَ صفة ل «قَوْم». وقرأ الأخوان «يَعْكِفُونَ» بكسر الكاف، وتروى
292
عن ابي عمرو أيضاً، والباقون بالضمِّ، وهما لغتان في المضارع ك «يَعْرشُون». وقد تقدَّم معنى «العكوف» واشتقاقه في البقرة.
قال قتادة: كان أولئك القومُ من لَخْم، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ.
وقال ابنُ جريج: كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ.
قال الكلبيُّ: عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ.
قوله: ﴿قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها﴾ أي: مثالاُ نعبده. ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ، وإنَّمَا معناه: أجعل لنا شيئاً نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة، وكان ذلك لشدَّة جهلهم، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهو خالقُ الجسمِ، والحياةِ والقدرةِ، والعقلِ، والأشياءِ المنتفع بها. وليس ذلك إلاَّ الله تعالى.

فصل


واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم، وإنَّما صدرَ من بعضهم؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ.
قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ب «إلهاً»، أي: إلهاً مماثلاُ لإلههم.
وفي «ما» ثلاثةُ أوجه: أحدها: موصولةٌ حرفية، أي: تتأوَّلُ بمصدرِ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة، وإذا حُذِفَتْ صلة «ما» المصدريَّة، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها، كقولهم: لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ، أي: ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه، وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، ف «آلهة» فاعل «ثبت» المقدر، أي: كما أنَّ «أنَّ» المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل «ثبت» المقدر.
وقال أبُو البقاءِ - هذا الوجه - ليس بجيد «والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل».

فصل


قال شهابُ الدِّينِ: كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ «ما» المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله: [الكامل]
293
٢٥٦٦ - وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ
ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة، أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.
الثاني: أن تكون «ما» كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل، فإنَّهَا حرفُ جر، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة، والفعليَّة، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكافِ وفي «رُبَّ» مع «ما» الزَّائدة بعدهما وجهان: العَمَلُ والإهمالُ، وعلى ذلك قول الشَّاعر: [الطويل]
٢٥٦٧ - وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ
وقول الآخر: [الخفيف]
٢٥٦٨ - رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وروي برفع «النَّاس، والجامل» وجرِّهما، هذا إذا أمكن الإعمالُ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية، إذا قيل: بأن «ما» زائدة.
الثالثُ: أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، و «لَهُمْ» صلتها، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و «آلهة» بدلٌ من ذلك الضَّمير، والتَّقديرُ: كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة.
وقال أبُو البقاءِ - في هذا الوجه -: والعَائِدُ محذوفٌ، و «آلهة» بدلٌ منه، تقديره: كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف، بل بالاستتار.
قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ. هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً ل «إنَّ» و «مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذي» وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً.
والثاني: أن يكون الموصولُ مبتدأ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ».
قال الزخشريُّ: وفي إيقاع «هؤلاء» اسماً ل «إنَّ»، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم
294
ألْبتَّة، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا.
قال أبُو حيَّان: «ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل» إنَّ «، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً» إنَّ «وما بعده مرفوعٌ» فذكر ما قرَّرْتُهُ، ونظَّره بقولك: «إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ».
قال: فالأحْسَنُ أن يكون «غلامه» مرفوعاً ب «مضروب»، ثم ذكر الوجه [الثاني] وهو أن يكون «مُتَبَّرٌ» خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً.
وهو كما قال، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.
وقوله ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ كقوله ﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما.
والتَتْبيرُ: التَّكسير، والتَّحطيم. والبطلان قيل: عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته، وإما بعدم فائدته ومقصوده.
قوله: «أغَيْرَ اللَّهِ» الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان: أحدهما: أنَّه مفعولٌ به ل «أبْغِيكُمْ» على حذفِ اللاَّمِ، تقديره: أبغي لكم غير اللَّهِ، أي: أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاص، وفي إلهاً على هذا وجهان: أظهرهما: أنَّهُ تمييز ل «غير»، والثاني: أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.
والثاني: من وجهي «غير» : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل «أببْغِيكُمْ» على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً.
وقال ابنُ عطيَّة: و «غير» منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالاً. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه.
قوله: «أبْغِيكُمْ» قال الواحديُّ.
يقال: بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له.
قال تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾ [التوبة: ٤٧] أي: يبغون لكم. والمعنى: أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً.
295
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ أجابهم بوجوهٍ كثيرة: أوَّلُهَا: حكم عليهم بالجَهْل فقال: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾.
وثانيها: قوله: ﴿إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ الخسران والهلاك.
وثالثها: قوله: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ.
ورابعها: استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ، فقال: ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ أي: أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النِّعم، وهو المُرَادُ بقوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ﴾ يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها.
وفي هذا التَّفضيل قولان: الأول: أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم، الثاني: أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال، مثل: رجل تعلم علماً واحداً، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
296
قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ. هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان : أحدهما : أن يكون خبراً ل " إنَّ " و " مَا " موصولةٌ بمعنى " الَّذي " وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً.
والثاني : أن يكون الموصولُ مبتدأ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ ل " إنَّ ".
قال الزمخشريُّ١ : وفي إيقاع " هؤلاء " اسماً ل " إنَّ "، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم ألْبتَّة، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا.
قال أبُو حيَّان٢ :" ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل " إنَّ "، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً ل " إنَّ " وما بعده مرفوعٌ " فذكر ما قرَّرْتُهُ، ونظَّره بقولك :" إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ ".
قال : فالأحْسَنُ أن يكون " غلامه " مرفوعاً ب " مضروب "، ثم ذكر الوجه [ الثاني ] وهو أن يكون " مُتَبَّرٌ " خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً.
وهو كما قال، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.
وقوله ﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ كقوله ﴿ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما.
والتَتْبيرُ : التَّكسير، والتَّحطيم. والبطلان قيل : عدم الشَّيءِ إمَّا بعدم ذاته، وإما بعدم فائدته ومقصوده.
١ ينظر: الكشاف ٢/١٥٠..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٧٧-٣٧٨..
قوله :" أغَيْرَ اللَّهِ " الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان : أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ل " أبْغِيكُمْ " على حذفِ اللاَّمِ، تقديره : أبغي لكم غير اللَّهِ، أي : أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاس، وفي إلهاً على هذا وجهان : أظهرهما : أنَّهُ تمييز ل " غير "، والثاني : أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.
والثاني : من وجهي " غير " : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل " أبْغِيكُمْ " على ما تقرَّرَ، والأصل : أبغي لكم إلها غير الله، ف " غير الله " صفة ل : إله، فلما قدمت صفة النكرة عليها نصبت حالاً.
وقال ابنُ عطيَّة : و " غير " منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالاً. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه.
قوله :" أبْغِيكُمْ " قال الواحديُّ.
يقال : بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له.
قال تعالى :﴿ يَبْغُونَكُمُ الفتنة ﴾ [ التوبة : ٤٧ ] أي : يبغون لكم. والمعنى : أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً.
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له :﴿ اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ أجابهم بوجوهٍ كثيرة : أوَّلُهَا : حكم عليهم بالجَهْل فقال :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾.
وثانيها : قوله :﴿ إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ أيْ : بِسَبَبِ الخسران والهلاك.
وثالثها : قوله :﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ.
ورابعها : استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ، فقال :﴿ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾ أي : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النِّعم، وهو المُرَادُ بقوله :﴿ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين ﴾، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله :﴿ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ ﴾ يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها.
وفي هذا التَّفضيل قولان : الأول : أنَّهُ تعالى فضلكم على عالمي زمانِكم، الثاني : أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال، مثل : رجل تعلم علماً واحداً، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
قوله: ﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم﴾. قرأ العامة مسنداً إلى المُعَظِّم، وابْنُ عامر أنْجَاكُمْ مسنداً. إلى ضمير اللَّهِ تعالى جرياً على قوله: «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ»، وقرئ: «نَجَّيْنَاكُمْ» مُشِدّداً،
296
و [قد] تقدَّم الخلافُ في تشديد «يقتلون» وتخفيفها قبل هذه الآية، وتقدَّم في البقرةِ إعراب هذه الآية وتفسيرها.

فصل


والفائدةُ في ذكرها ههنا: أنَّهُ تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، فكيف يليقُ الاشتغالُ بعبادة غير اللَّهِ تعالى.
قوله: ﴿وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ﴾ تقدَّم الخلافُ في «وَعَدْنَا» و «وَاعَدْنَا» وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا، أي: وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين، أو إتيانها، أو مناجاتها.
قوله: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ في هذا الضمير قولان: أحدهما: أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي: وأتممنا مواعدته بعشر.
الثاني: أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي.
قال أبُو حيَّان: ولا يظهر؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي: وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ.
قوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ﴾ الفَرْقُ بين الميقاتِ، والوَقْتِ، أن الميقاتَ: ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال، والوقت: وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ، أو تقريره.
وفي نصب «أرْبَعِينَ» أربعةُ أوجُهٍ:
أحدها: أنَّهُ حال.
قال الزَّمخشريُّ: «وأربَعِينَ» نصب على الحَالِ: أي تَمَّ بالغاً هذا العدد.
قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال «أربعين»، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله.
قال شهابُ الدِّين: لا تنافي فيه، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه، وله شواهد منها: زيد في الدَّارِ، أو عندك.
فيقولون: الجارُّ والظَّرْفُ خبر، والخبرُ في الحقيقة: إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما، وكذا يقولون: جاء زيدٌ بثيابه، ف «بثيابه» حال، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي ب «معدوداً.
قال: كقولك: تَمَّ القوم عشرين رجلاً، أي: معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ.
الثاني: أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به.
قال أبُو البقاءِ:»
لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم: بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين «أي: بتضمين» تَمَّ «معنى» بَلَغَ «.
297
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف.
قال ابْنُ عطيَّة:» ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة «، وفي هذا نظرٌ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ.
الرابع: أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز
قال أبُو حيَّان: والأصل: فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز. فهو منقولٌ من الفاعليَّة، يعني فيكون كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ؛ حيثُ قال هناك «إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً، فَتتمَّ»
لذلك ينبغي أن يقال هنا: إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر: فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه.
وقوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ في هذه الجملة قولان:
أظهرهما: أنَّهَا للتأكيد، لأنَّ قوله قبل ذلك: «وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ» فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً.
وقيل: بل هي للتَّأسيس، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات، أو غير ذلك، وهو بعيدٌ.
وقوله رَبِّهِ ولم يقل: مِيَقاتُنَا جَرْياً على «واعَدْنَا» لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له.

فصل


روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر: إن أهلك اللَّه عدوَّهم؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ.

فصل


فإن قيل: «الأربعون» المذكورة في البقرة: هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا، فما فائدة التَّفصيلِ؟ فالجوابُ من وجوه:
الأأول: أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ: كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح
298
المِسْكِ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ.
الثاني: أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ، وإلى العشرةِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد: الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ.
وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الثالث: قال أبُو مسلمٍ في سورة طه: إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه، لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولااء على أَثَرِي﴾ [طه: ٨٣، ٨٤].
فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً.
الرابع: قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وحده، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين.
قوله: ﴿وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني﴾ الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ. الثاني: أنَّه عطفُ بيان له. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار: أعني، وقُرِئ شاذاً بالضَّمِّ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ، أي: يا هارونُ كقوله: ﴿يُوسُفُ﴾ [يوسف: ٢٩].
والثاني: أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، أي: هُو هارونُ. وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار: أعني، فإنَّ كليهما قطع.
وقال أبُو البقاء: «ولو قُرِىءَ بالرَّفْعِ» وذكرهما، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
قال: «ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ؛ فلا تتبعه، ولا تطعه» وقال اخْلُفْني أي: كن
299
خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل.
﴿وَقَالَ موسى﴾ عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ.
فإن قيل: إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ، فكيف جعله خليفة لنفسه؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له.
فالجوابُ: أن الأمْرَ، وإن كان كما ذكرتم، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ.
فإن قيل: لما كان هارُون نبيّاً، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح؟
فالجوابُ: أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ: التَّأكيدُ كقوله تعالى: ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠].
قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا﴾ اللام في لِمِقَاتِنَا للاختصاص، وكذا في قوله تعالى ﴿لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨]، وليست بمعنى عند.
قوله: ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه، أو مع أقوام آخرين. وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موصى بهذا التَّشريف.
وقال القَاضِي: «بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ».

فصل


دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها، وأنكرت المعتزلةُ ذلك، والبحثُ في هذه المسألة مذكورة في كتب أصُولِ الدِّينِ.

فصل


نقل عن ابن عبَّاس أنه قال: جاء موسى ومعه السَّبْعُون، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ.
فقال: ﴿رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾.
300
قوله: «أرنِي» مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ، تقديره: أرني نَفسكَ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول، وأصل «أرِني» «أرْإنِي» فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة، وقد تقدَّم تَحْريرُه.

فصل


فإن قيل: النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية، أو عن مقدِّمتها، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته، وعلى التَّقديرِ الأولِ: يكون المعنى: أرِنِي حَتَّى اراك، وهذا فاسدٌ، وعلى التقدير الثانِي: يكون المعنى: أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين: أحدهما: أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة. والثاني: أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد.
فالجوابُ: أن معنى أرِنِي: اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ.
فإن قيل: كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى؟
قال الحسنُ: هاج به الشَّوق؛ فسأل الرؤية.
وقيل: سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا.
قوله: «لَن تَرَانِي» قد تقدَّم أنَّ «لَنْ» لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال «فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ».
قال شهابُ الدِّينِ: «وعلى تقدير أنّ» لَنْ «ليست مقتضيةً للتَّأبيد، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ: إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ، وللبحث فيه مجال».
والدليل على أنَّ «لَنْ» لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ [البقرة: ٩٥] أخبر عن اليهود، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون: ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] ﴿ياليتها كَانَتِ القاضية﴾ [الحاقة: ٢٧].
فإن قيل: كيف قال: «لَن تَرَانِي» ولم يقل: لن تنظر إليَّ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه.
والاستدراكُ في قوله: ﴿ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ واضح، فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: ﴿ولكن انظر إلى الجبل﴾ فالجوابُ: المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده؛ ألا ترى أنَّهُ لما
301
ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ.

فصل


وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله: ولكِن انظرْ.
قلت: اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل.
وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا، والآخرة.
قوله: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل، واسترقار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً.
قوله ﴿فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ : قال الزَّجَّاجُ: «تَجَلَّى» أي: «ظهر وبان».
ومنه يقالُ: جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا، وجلوتُ السَّيف والمرآة: إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ. وهذا البجل أعظم جبل بمدين يقال له: زبير.
قال ابن عباس: ظهر نُور ربِّهِ للجبل.
قوله: «جَعَلهُ دَكّاً» قرأ الأخوان «دَكَّاءَ» بالمدِّ، غير منوَّن، على وزن «حمراء» والباقون بالقصر والتَّنوين، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها مأخوذةٌ من قولهم: «ناقةٌ دَكَّاء» أي: منبسطة السَّنَام، غير مرتفعة، والمعنى جعله مستوياً. وإما من قولهم: أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله، بل ذهب أعلاه.
وأمَّا قراءةُ الجماعة ف «الدَّكُّ» مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك، أي: مَدْكوكاً، أو من دكَّ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ، والمعنى: جلعه مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ.
وقيل: تسويته بالأرض.
في انتصابه على القراءتين وجهان، أشهرهما: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «جَعَلَ» بمعنى: صَيَّرَ.
والثاني - وهو رأي الأخفش -: أنَّهُ مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّهُ دَكّاً، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً.
وقرأ ابنُ وثَّاب دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد، ك: حُمْر في حمراء، وغُرّ في غَرَّاء أي: جعله قِطَعاً.
302
قال الكلبي: كسراً جبالاً صغاراً. ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ، ووقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وودقان، ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة: ثور، وثبير، وحِرَاء.
قوله: ﴿وَخَرَّ موسى صَعِقاً﴾. الخُرورُ: السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ.
ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ.
قال اللَّيْثُ: الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي.
يقال: صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ، فهو مصعوق.
قال ابنُ عبَّاس: مَغْشياً عليه.
وقال قتادةُ: ميتاً.
يقال: صَعِقَ إذا مات ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ [الزمر: ٦٨] فسَّرُوه بالموتِ.
وقال: ﴿يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [الطور: ٤٥] أي: يموتون.
قال الزمخشريُّ: «صعق أصله من الصَّاعقة».
قال الزمخشريُّ: «صعق أصله من الصَّاعقة».
والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لقوله تعالى ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾.
قال الزَّجَّاجُ: «ولا يقال للميتِ: قد أفاق من موته، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا:
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٦].
قوله: ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ الإفاقة: رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض، وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحلب، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع.
يُقال: اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي: اتركها حتَّى يعود لَبَنُها، والفُواق: ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه [ص١٥] إن شاء الله تعالى.
قوله سُبْحَانَكَ أي: تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك. ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين﴾ بأنك لا تُرَى في الدنيا، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك.
وقيل: أوَّلُ المؤمنين من قومي.
303
قوله :﴿ وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ ﴾ تقدَّم الخلافُ في " وَعَدْنَا " و " وَاعَدْنَا " وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا، أي : وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين، أو إتيانها، أو مناجاتها.
قوله :﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي : وأتممنا مواعدته بعشر.
الثاني : أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي.
قال أبُو حيَّان : ولا يظهر ؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي : وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ.
قوله :﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ ﴾ الفَرْقُ بين الميقاتِ، والوَقْتِ، أن الميقاتَ : ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال، والوقت : وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ، أو تقريره.
وفي نصب " أرْبَعِينَ " أربعةُ أوجُهٍ :
أحدها : أنَّهُ حال.
قال الزَّمخشريُّ :" وأربَعِينَ " نصب على الحَالِ : أي تَمَّ بالغاً هذا العدد.
قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال " أربعين "، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله.
قال شهابُ الدِّين : لا تنافي فيه، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه، وله شواهد منها : زيد في الدَّارِ، أو عندك.
فيقولون : الجارُّ والظَّرْفُ خبر، والخبرُ في الحقيقة : إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما، وكذا يقولون : جاء زيدٌ بثيابه، ف " بثيابه " حال، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي ب : معدوداً.
قال : كقولك : تَمَّ القوم عشرين رجلاً، أي : معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ.
الثاني : أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به.
قال أبُو البقاءِ١ :" لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين " أي : بتضمين " تَمَّ " معنى " بَلَغَ ".
الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف.
قال ابْنُ عطيَّة :" ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة "، وفي هذا نظرٌ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة ؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ.
الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز.
قال أبُو حيَّان٢ : والأصل : فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز. فهو منقولٌ من الفاعليَّة، يعني فيكون كقوله :﴿ واشتعل الرأس شَيْباً ﴾ [ مريم : ٤ ] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ ؛ حيثُ قال هناك " إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً، فَتتمَّ " لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر : فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه.
وقوله :﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ في هذه الجملة قولان :
أظهرهما : أنَّهَا للتأكيد، لأنَّ قوله قبل ذلك :" وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ " فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً.
وقيل : بل هي للتَّأسيس، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات، أو غير ذلك، وهو بعيدٌ.
وقوله رَبِّهِ ولم يقل : مِيَقاتُنَا جَرْياً على " واعَدْنَا " لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له.

فصل


روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك اللَّه عدوَّهم ؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ.

فصل


فإن قيل :" الأربعون " المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا، فما فائدة التَّفصيلِ ؟ فالجوابُ من وجوه :
الأول : أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح المِسْكِ ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ.
الثاني : أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ، وإلى العشرةِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد : الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ٣.
وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث : قال أبُو مسلمٍ في سورة طه : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه، لقوله تعالى :﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي ﴾ [ طه : ٨٣، ٨٤ ].
فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً.
الرابع : قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه الصلاة والسلام وحده، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين.
قوله :﴿ وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني ﴾ الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ. الثاني : أنَّه عطفُ بيان له. الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار : أعني، وقُرِئ٤ شاذاً بالضَّمِّ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ، أي : يا هارونُ كقوله :﴿ يُوسُفُ ﴾ [ يوسف : ٢٩ ].
والثاني : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، أي : هُو هارونُ. وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار : أعني، فإنَّ كليهما قطع.
وقال أبُو البقاء٥ :" ولو قُرِئَ بالرَّفْعِ " وذكرهما، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
قال :" ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ ؛ فلا تتبعه، ولا تطعه " وقال اخْلُفْني أي : كن خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل.
﴿ وَقَالَ موسى ﴾ عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ.
فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ، فكيف جعله خليفة لنفسه ؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له.
فالجوابُ : أن الأمْرَ، وإن كان كما ذكرتم، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ.
فإن قيل : لما كان هارُون نبيّاً، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح ؟
فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ : التَّأكيدُ كقوله تعالى :﴿ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ].
١ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٨٤..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٧٩..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره ٦/٤٨ عن مجاهد وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢١٤) عن ابن عباس وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طرق عنه..
٤ ينظر: الكشاف ٢/١٥١، والبحر المحيط ٤/٣٧٩، والدر المصون ٣/٣٣٨..
٥ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٨٤..
قوله :﴿ وَلَمَّا جَاءَ موسى لِمِيقَاتِنَا ﴾ اللام في لِمِيقَاتِنَا للاختصاص، وكذا في قوله تعالى ﴿ لِدُلُوكِ الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ]، وليست بمعنى عند.
قوله :﴿ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه، أو مع أقوام آخرين. وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده ؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موسى بهذا التَّشريف.
وقال القَاضِي :" بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله ؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ ".

فصل


دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى ؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها، وأنكرت المعتزلةُ ذلك، والبحثُ في هذه المسألة مذكور في كتب أصُولِ الدِّينِ.

فصل


نقل عن ابن عبَّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السَّبْعُون، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ.
فقال :﴿ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾١.
قوله :" أرنِي " مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ، تقديره : أرني نَفسكَ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول، وأصل " أرِني " " أرْإنِي " فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة، وقد تقدَّم تَحْريرُه.

فصل


فإن قيل : النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية، أو عن مقدِّمتها، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته، وعلى التَّقديرِ الأولِ : يكون المعنى : أرِنِي حَتَّى أراك، وهذا فاسدٌ، وعلى التقدير الثانِي : يكون المعنى : أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة. والثاني : أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد.
فالجوابُ : أن معنى أرِنِي : اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ.
فإن قيل : كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى ؟
قال الحسنُ : هاج به الشَّوق ؛ فسأل الرؤية.
وقيل : سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا.
قوله :" لَن تَرَانِي " قد تقدَّم أنَّ " لَنْ " لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال " فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ ".
قال شهابُ الدِّينِ٢ :" وعلى تقدير أنّ " لَنْ " ليست مقتضيةً للتَّأبيد، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ : إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ، وللبحث فيه مجال ".
والدليل على أنَّ " لَنْ " لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ [ البقرة : ٩٥ ] أخبر عن اليهود، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون :﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] ﴿ يا ليتها كَانَتِ القاضية ﴾ [ الحاقة : ٢٧ ].
فإن قيل : كيف قال :" لَن تَرَانِي " ولم يقل : لن تنظر إليَّ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه.
والاستدراكُ في قوله :﴿ ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ واضح، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله :﴿ ولكن انظر إلى الجبل ﴾ فالجوابُ : المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده ؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ.

فصل


وقال الزمخشريُّ٣ : فإن قلت : كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله : ولكِن انظرْ.
قلت : اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل.
وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا، والآخرة.
قوله :﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾ : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل، واستقرار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً.
قوله ﴿ فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ : قال الزَّجَّاجُ :" تَجَلَّى " أي :" ظهر وبان ".
ومنه يقالُ : جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا، وجلوتُ السَّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ. وهذا الجبل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير.
قال ابن عباس : ظهر نُور ربِّهِ للجبل.
قوله :" جَعَلهُ دَكّاً " قرأ الأخوان٤ " دَكَّاءَ " بالمدِّ، غير منوَّن، على وزن " حمراء " والباقون بالقصر والتَّنوين، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها مأخوذةٌ من قولهم :" ناقةٌ دَكَّاء " أي : منبسطة السَّنَام، غير مرتفعة، والمعنى جعله مستوياً. وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله، بل ذهب أعلاه.
وأمَّا قراءةُ الجماعة ف " الدَّكُّ " مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك، أي : مَدْكوكاً، أو من دكَّ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ، والمعنى : جعله مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ.
وقيل : تسويته بالأرض.
في انتصابه على القراءتين وجهان، أشهرهما : أنَّهُ مفعولٌ ثان ل " جَعَلَ " بمعنى : صَيَّرَ.
والثاني - وهو رأي الأخفش - : أنَّهُ مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير : دَكَّهُ دَكّاً، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً.
وقرأ ابنُ وثَّاب٥ دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد، ك : حُمْر في حمراء، وغُرّ في غَرَّاء أي : جعله قِطَعاً.
قال الكلبي : كسراً جبالاً صغاراً. ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد، وودقان، ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور، وثبير، وحِرَاء٦.
قوله :﴿ وَخَرَّ موسى صَعِقاً ﴾. الخُرورُ : السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ.
ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ.
قال اللَّيْثُ : الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي.
يقال : صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ، فهو مصعوق.
قال ابنُ عبَّاس : مَغْشياً عليه٧.
وقال قتادةُ : ميتاً٨.
يقال : صَعِقَ إذا مات.
قال تعالى :﴿ فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] فسَّرُوه بالموتِ.
وقال :﴿ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾ [ الطور : ٤٥ ] أي : يموتون.
قال الزمخشريُّ :" صعق أصله من الصَّاعقة ".
قال الزمخشريُّ :" صعق أصله من الصَّاعقة ".
والقولُ الأوَّلُ أولى ؛ لقوله تعالى ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ ﴾.
قال الزَّجَّاجُ :" ولا يقال للميتِ : قد أفاق من موته، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٦ ].
قوله :﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ ﴾ الإفاقة : رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض، وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحلب، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع.
يُقال : اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي : اتركها حتَّى يعود لَبَنُها، والفُواق : ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه [ ص١٥ ] إن شاء الله تعالى.
قوله سُبْحَانَكَ أي : تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك. ﴿ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين ﴾ بأنك لا تُرَى في الدنيا، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك.
وقيل : أوَّلُ المؤمنين من قومي.
وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر.
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٩٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٢٠) وعزاه لأبي الشيخ..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٣٣٨..
٣ ينظر: الكشاف ٢/١٥٤..
٤ ينظر: السبعة ٢٩٣، والحجة ٤/٧٥، وإعراب القراءات ١/٢٠٥، وحجة القراءات ٢٩٥، وإتحاف فضلاء البشر ٢/٦٢..
٥ ينظر: الكشاف ٢/١٥٥، والبحر المحيط ٤/١٨٤ والدر المصون ٣/٣٣٩..
٦ ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٢٢) عن أنس بن مالك مرفوعا وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ..
٧ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٥٣) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٢٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الرؤية..
٨ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٥٣) عن قتادة..
وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر.
قوله
: ﴿ياموسى
إِنِّي
اصطفيتك عَلَى الناس﴾
. الاصطفاء: استخلاص الصَّفْوَةِ أي: اخترتك واتَّخذتك صفوة على النَّاس.
قال ابنُ عبَّاسٍ: «فَضَّتْتُكَ على النَّاسِ». قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء، وكذلك ﴿أَخِي اشدد﴾ [طه: ٣٠، ٣١].
قوله برسالاتي أي: بسبب.
وقرأ الحرميَّان: برِسالتِي بالإفراد، والمُرادُ به المصدر، أي: بإرْسَالي إيَّاك، ويجوزُ أن يكون على حذفِ مضاف، أي: بتبليغ رسالتي. والرِّسالةُ: نَفْسُ الشَّيء المرسل به إلى الغير.
وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواعِ، وقد تقدَّم ذلك في المائدةِ والأنعام.
قال القرطبيُّ: ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالةِ فاختلف أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كقوله: ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير﴾ [لقمان: ١٩] واختلاف المصوتين، ووحَّدَ في قوله: لصوتُ لما أراد به جنساً واحداً من الأصوات.
قوله: «وَبِكلامي» هي قراءة العامَّةِ، فيحتملُ أن يُرادَ به المصدرُ، أي: بتكليمي إيَّاكَ، كقوله: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ [النساء: ١٦٤] وقوله: [الطويل]
٢٥٦٩ -........................... تُكَلِّمنِي فيها شِفَاءٌ لِمَا بِيَا
أي: بتكليمي إيَّاهَا، ويحتملُ أن يراد به التَّوراة، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن «كلام الله» تسميةً للشيء بالمصدر. وقدَّم الرِّسالةَ على الكلام؛ لأنَّها أسبق، أو ليترقَّى إلى الأشرفِ، وكرَّر حرف الجرِّ، تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء.
304
وقرأ الأعمش: «بِرِسَالاتِي وبِكلمِي» جمع «كلمة» وروى عنه المهدويُّ أيضاً «وتكليمي» على وزن التَّفعيل، وهي تؤيِّدُ أنَّ الكلامَ مصدرٌ.
وقرأ أبو رجاء «بِرِسالتِي» بالإفراد و «بِكَلِمي» بالجمع، أي: وبسمَاع كلمي.

فصل


لما طلب موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرؤية ومنعه الله تعالى، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة، وأمره بشكرها.
كأنَّهُ قال له: إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النِّعَمِ العظيمة كذا وكذا، فلا يضيقُ صدرُكَ بسبب منع الرُّؤيةِ، وانظر إلى أنواع النِّعمِ التي خَصَصْتُك بها واشتغل بشكرها، والمراد: تسليةُ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن منع الرؤية.
فإن قيل: كيف اصطفاهُ على النَّاسِ برسالاته مع أنَّ كثيراً من النَّاسِ قد سَاوَاهُ في الرسالةِ؟ فالجوابُ: أنَّهُ تعالى بيَّن أنَّهُ خصَّهُ من دون النَّاسِ بمجموع الأمرين: وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة، وهذا المجموع لم يحصل لغيره، وإنَّما قال: «عَلَى النَّاسِ» ولم يقل: على الخلق؛ لأنَّ الملائكة تسمع كلام اللَّهِ من غير واسطة كما سمعه موسى.
قال القرطبيُّ: «وَدَلَّ هذا على أنَّ قومه لم يشاركه أحدٌ منهم في التَّكليم ولا أحد من السَّبعين».
وقوله: ﴿فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ﴾ أي: اقْنَعْ بما أعيتك. ﴿وَكُنْ مِّنَ الشاكرين﴾، أي: المظهرين لإحسانِي إليك، وفضلي عليك.
يقال: دَابَّةٌ شكورٌ، إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعْطَى من العَلَف، والشَّاكِرُ متعرض للمزيد؛ كما قال تعالى:
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧].
قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً﴾. قوله: في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ، وأن تكون للعهد؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا.
وقال ابنُ عطيَّة أل عوض من الضمير، تقديره: في ألواحه، وهذا كقوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١] أي: مأواه. أمَّا كاون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون. وأمَّا قوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر، والكوفيون: يجعلون أل عوضاً من الضمير. والبصريون: يُقَدِّرُونَهُ، أي: هي المأوى له، وأما في هذه الية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك.
305
وفي مفعول «كتبنا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ «موعِظَةً»، أي: كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً. و ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ على هذا فيه وجهان، أحدهما: متعلِّقٌ ب «كَتَبْنَا» والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل «مَوْعِظَةً» فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، و «لِكُلِّ شيءٍ» صفة ل «تفصيلاً».
والثاني: أنَّهُ ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءً﴾.
قال الزمخشريُّ ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ في محل نصب مفعول «كَتَبْنَا»، و «مَوعِظَةً وتفْصِيلاً» بدل منه، والمعنى: كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ.
الثالث: أنَّ المفعول محل المجرور.
وقال أبُو حيَّان - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري -: ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ، وهو أن يكونَ مفعولُ «كَتَبْنَا» موضع المجرور، كما تقولُ: «أكلت من الرغيف» و «مِنْ» للتبعيض، أي: كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء، وانتصب «مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً» على المفعول من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل.
قال شهابُ الدِّينِ: «والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري، فليس وجهاً ثالثاً».
قوله: «بِقُوَّةٍ» حالٌ: إمَّا من الفاعل، أي: ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسه بقوة، أَي: بقوَّةِ دلائلها وبراهينها، والأول أوضح. والجملةُ من قوله: «فَخُذْهَا» يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله ﴿فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ﴾ وعاد الضَّميرُ علىمعنى «ما» لا على لفظها. ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة «كَتَبْنَا» والتقدرُ: وكتبنا فقلنا: خُذْهَا، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ، أو على الرِّسالاتِ، أو على كُلِّ شيءٍ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء.
قال القرطبيُّ: «فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني. ويقال: رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين،» والرِّجليْنِ «.

فصل


قال الكلبيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل: كانت عشرة، وقيل سبعة.
306
وقال الواحديُّ: كانت من زُمُردَة.
وقيل: من زبرجدة خضراء، وقيل: ياقوتة، وقيل: من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً.
وقال وهْبٌ: من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى.
قيل: رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به، وإلاّ وجب السُّكوت عنه. وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم.
وقوله: ﴿مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله: ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ ثم قال: «فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ» أي: بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ.
قوله: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾. الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ.
٢٥٧٠ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ
وهو مذهبُ الكسائي.
وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب «قُلْ»، وهان لم يُذْكَرْ «قُلْ»، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه؛ لأنَّ معنى «وأمُرْ» و «قُلْ» واحد.
قوله: «بِأحْسَانِهَا» يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في: «بِقُوَّةٍ»، وعلى هذا فمفعولُ «يَأخُذُوا» محذوفٌ تقديرُه: يَأخُذُوا أنفسهم، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة، وأحسنها مفعول به، والتقديرُ: يأخُذُو أحسنها كقوله: [البسيط]
٢٥٧١ -.............................. سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ
وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ [البقرة: ١٩٥].
307
و «أحسن» يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها، وأن لا تكون بل بمعنى «حَسَنَة».
كقول الفرزدق: [الكامل]
٢٥٧٢ - إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ
أي: عزيزةٌ طويلةٌ.
فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة، وجب أن يكون الكلُّ حسناً.
وقوله: ﴿يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض.
وأجابُوا بوجوه: منها: أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو، والانتصار، والصبر، أي: فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً، لقوله: ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٥٥] وقوله: ﴿الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾
[الزمر: ١٨].
قالوا: فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب.
ومنها: قال قُطْرُبٌ:
﴿يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾ أي: بحسنها، وكلها حسن؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: ٤٥] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم. ومنها: أن الحسن يدخلُ تحته الواجب، والمندوب، والمباح وأحسن هذه الثلاثة: الواجبُ، والمندوبُ.
قوله: ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين﴾ جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني: دَارَ.
والثاني: أنَّها قلبية، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ: وقيل: «دَارَ الفاسِقِينَ» ما دَارَ إليه أمرهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام.
قال ابءنُ عطيَّة - معترضاً على هذا الوجه -: ولَوْ كَانَ من رؤية القلب، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل.
ولو قال قائلك المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى، فهو مُقَدَّرٌ أي: مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال: إنَّهَا جهنم - قيل له: لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان، لا يليق بكتاب الله تعالى.
308
قال أبُو حيان: «وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب» أعْلَمَ «لدلالة المعنى عليه جائزٌ، فيجوزُ في جواب: هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف» منطلقاً «لدلالة الكلام السَّابق عليه».

فصل


قال شهابُ الدِّين: هذا مُسَلَّمٌ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ؟
ثم قال: «وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً، والثانِي، والثَّالِثُ في باب» أعْلَمَ «يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً».
قال شهابُ الدِّين: «حذفُ الاختصار لدليلٍ، ولا دليلَ هَنَا».
ثم قال: «وفي قوله لأنَّهَا - أي:» سَأريكُمْ «- داخلةٌ على المبتدأ، والخبر تجوُّزٌ» ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن: «سَأوريكُمْ» بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان: أحدهما قاله الزمخشريُّ -: «وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ: أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ، فإن المعنى: بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه».
والثاني: - ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع، فيتولَّد منها الواو، قال «وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو».
قال شهابُ الدِّين: وهذا كقول الشاعر: [البسيط]
309
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وقسامة بن زيد «سأورثُكُمْ» قال الزمخشريُّ: وهي قراءة حسنةٌ، يصحِّحُهَا قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم﴾ [الأعراف: ١٣٧].

فصل


في قوله: ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين﴾ وجهان: الأول: أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان:
أحدهما: قال ابن عباس والحسنُ ومجاهدٌ: هي: جهنم وهي مصيرهم في الآخرة، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم.
وثانيهما: قال قتادةُ وغيره: سأدخلكم الشَّام؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ، والعمالقةِ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها.
الوجه الثاني: المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر، قالهُ عطيةُ العوفيُّ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة.
وقال السُّدِّيُّ: هي مصارع الكفار.
310
قوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً ﴾. قوله : في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ، وأن تكون للعهد ؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا.
وقال ابنُ عطيَّة١ أل عوض من الضمير، تقديره : في ألواحه، وهذا كقوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ] أي : مأواه. أمَّا كون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون. وأمَّا قوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر، والكوفيون : يجعلون أل عوضاً من الضمير. والبصريون : يُقَدِّرُونَهُ، أي : هي المأوى له، وأما في هذه الآية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك.
وفي مفعول " كتبنا " ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها : أنَّهُ " موعِظَةً "، أي : كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً. و ﴿ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ على هذا فيه وجهان، أحدهما : متعلِّقٌ ب " كَتَبْنَا " والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل " مَوْعِظَةً " فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، و " لِكُلِّ شيءٍ " صفة ل " تفصيلاً ".
والثاني : أنَّهُ ﴿ مِنْ كُلِّ شَيْءً ﴾.
قال الزمخشريُّ ﴿ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ في محل نصب مفعول " كَتَبْنَا "، و " مَوعِظَةً وتفْصِيلاً " بدل منه، والمعنى : كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ.
الثالث : أنَّ المفعول محل المجرور.
وقال أبُو حيَّان٢ - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري - : ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ، وهو أن يكونَ مفعولُ " كَتَبْنَا " موضع المجرور، كما تقولُ :" أكلت من الرغيف " و " مِنْ " للتبعيض، أي : كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء، وانتصب " مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً " على المفعول من أجله، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل.
قال شهابُ الدِّينِ٣ :" والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري، فليس وجهاً ثالثاً ".
قوله :" بِقُوَّةٍ " حالٌ : إمَّا من الفاعل، أي : ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي : ملتبسه بقوة، أَي : بقوَّةِ دلائلها وبراهينها، والأول أوضح. والجملةُ من قوله :" فَخُذْهَا " يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ ﴾ وعاد الضَّميرُ على معنى " ما " لا على لفظها. ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة " كَتَبْنَا " والتقديرُ : وكتبنا فقلنا : خُذْهَا، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ، أو على الرِّسالاتِ، أو على كُلِّ شيءٍ ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء.
قال القرطبيُّ :" فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني. ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين، والرِّجليْنِ ".

فصل


قال الكلبيُّ : خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر٤، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل : كانت عشرة، وقيل سبعة.
وقيل : إنها لوحان.
وقال الواحديُّ : كانت من زُمُردَة.
وقيل : من زبرجدة خضراء، وقيل : ياقوتة، وقيل : من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً.
وقال وهْبٌ : من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى.
قيل : رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به، وإلاّ وجب السُّكوت عنه. وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم.
وقوله :﴿ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله :﴿ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ثم قال :" فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ " أي : بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ.
قوله :﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾. الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ.
وقيل : الجزم على إضمار اللام تقديره : ليأخذوا ؛ كقوله :[ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ *** إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ٥
وهو مذهبُ الكسائي.
وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب " قُلْ "، وهنا لم يُذْكَرْ " قُلْ "، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه ؛ لأنَّ معنى " وأمُرْ " و " قُلْ " واحد.
قوله :" بِأحْسَنِهَا " يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في :" بِقُوَّةٍ "، وعلى هذا فمفعولُ " يَأخُذُوا " محذوفٌ تقديرُه : يَأخُذُوا أنفسهم، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة، وأحسنها مفعول به، والتقديرُ : يأخُذُوا أحسنها كقوله :[ البسيط ]
. . . *** سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ٦
وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ].
و " أحسن " يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها، وأن لا تكون بل بمعنى " حَسَنَة ".
كقول الفرزدق :[ الكامل ]
إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا *** بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ٧
أي : عزيزةٌ طويلةٌ.
فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة، وجب أن يكون الكلُّ حسناً.
وقوله :﴿ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض.
وأجابُوا بوجوه : منها : أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو، والانتصار، والصبر، أي : فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً، لقوله :﴿ واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ الزمر : ٥٥ ] وقوله :﴿ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [ الزمر : ١٨ ].
قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب.
ومنها : قال قُطْرُبٌ :
﴿ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ﴾ أي : بحسنها، وكلها حسن ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم. ومنها : أن الحسن يدخلُ تحته الواجب، والمندوب، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجبُ، والمندوبُ.
قوله :﴿ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين ﴾ جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين، أحدهما : ضمير المخاطبين، والثاني : دَارَ.
والثاني : أنَّها قلبية، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى : سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ : وقيل :" دَارَ الفاسِقِينَ " ما دَارَ إليه أمرهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام.
قال ابنُ عطيَّة٨ - معترضاً على هذا الوجه - : ولَوْ كَانَ من رؤية القلب، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل.
ولو قال قائل : المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى، فهو مُقَدَّرٌ أي : مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال : إنَّهَا جهنم - قيل له : لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان، لا يليق بكتاب الله تعالى.
قال أبُو حيان٩ :" وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب " أعْلَمَ " لدلالة المعنى عليه جائزٌ، فيجوزُ في جواب : هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً ؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف " منطلقاً " لدلالة الكلام السَّابق عليه ".

فصل


قال شهابُ الدِّين١٠ : هذا مُسَلَّمٌ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ ؟
ثم قال :" وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً، والثانِي، والثَّالِثُ في باب " أعْلَمَ " يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً ".
قال شهابُ الدِّين :" حذفُ الاختصار لدليلٍ، ولا دليلَ هَنَا ".
ثم قال :" وفي قوله لأنَّهَا - أي :" سَأريكُمْ " - داخلةٌ على المبتدأ، والخبر تجوُّزٌ " ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن١١ :" سَأوريكُمْ " بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريُّ - :" وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ : أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ، فإن المعنى : بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه ".
والثاني :- ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع، فيتولَّد منها الواو، قال " وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو ".
قال شهابُ الدِّين : وهذا كقول الشاعر :[ البسيط ]
اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا *** يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي *** مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ١٢
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم. وقرأ ابنُ١٣ عبَّاسٍ، وقسامة بن زيد " سأورثُكُمْ " قال الزمخشريُّ : وهي قراءة حسنةٌ، يصحِّحُهَا قوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا القوم ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].

فصل


في قوله :﴿ سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين ﴾ وجهان : الأول : أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : قال ابن عباس١٤ والحسنُ ومجاهدٌ : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم.
وثانيهما : قال قتادةُ وغيره : سأدخلكم الشَّام ؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ، والعمالقةِ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها١٥.
الوجه الثاني : المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر، قالهُ عطيةُ العوفيُّ ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة.
وقال السُّدِّيُّ : هي مصارع الكفار١٦.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٥٢..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٨٦..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٤٠..
٤ ذكره الرازي في تفسيره ١٤/١٩٢..
٥ البيت لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥ وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩/١١، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر ٥/٦١، أسرار العربية ص ٣١٩، ٣٢١، الإنصاف ٢/٥٣٠، الجنى الداني ص ١١٣، رصف المباني ص ٢٥٦، صناعة الإعراب ١/٣٩١، شرح الأشموني ٣/٥٧٥، شواهد المغني ١/٥٩٧، شرح المفصل ٧/٣٥، ٦٠، ٦٢، ٩/٢٤، الكتاب ٣/٨، اللامات ص ٩٦، مغني اللبيب ١/٢٢٤، المقاصد النحوية ٤/٤١٨، المقتضب ٢/١٣٢، المقرب ١/٢٧٢ همع الهوامع ٢/٥٥..
٦ تقدم..
٧ ينظر ديوانه ٢/١٥٥، العمدة ١/٢٥٢، الصاحبي (٥٣٤) ابن يعيش ٦/٩٧، معاهد التنصيص ١/١٠٣، مجاز القرآن ٢/١٢١، العيني ٤/٤٢، الدر المصون ٣/٣٤١..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٥٣..
٩ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٨٨..
١٠ ينظر: الدر المصون ٣/٣٤١..
١١ ينظر: الكشاف ٢/١٥٨، والبحر المحيط ٤/٣٠٨، والدر المصون ٣/٣٤١..
١٢ استشهد ابن هشام بالبيت الثاني في قوله: "أدنو فأنظور" على أن الواو واو الإشباع أشبعت ضمة الظاء فنشأت الواو (مغني اللبيب ٢/٣٦٨ رقم ٥٩٢، أسرار العربية للأنباري ٤٥٠، المفصل لابن يعيش حـ ١٠/١٠٦).
واستشهد به من ذهب إلى أن حركة الإعراب على الباء في كلمة "أب" من الأسماء الستة أما الواو والألف والياء فنشأت عن إشباع حركات الإعراب مستدلا بقول الشاعر في البيت السابق: "فأنظور" فالواو ناتجة عن إشباع الضمة لأنه أراد "فأنظر" (الإنصاف -١٥).
كما استشهد أبو حيان بقوله :"من حيث ما سلكوا " على أن "ما" زائدة وذهب الزجاج إلى أن "حيث" موصولة وليست مضافة، فهي في هذا بمنزلة "الذي" توصل بالجملة فيكمل بها اسما، ولا موضع لها للجمل في الأصل، ولا يجوز على هذا أن يعمل عامل في صلة حيث، كما لا يعمل في صلة الذي ومذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها للمفرد (ارتشاف الضرب لأبي حيان الأندلسي ٢/٢٦١).
ينظر: ديوانه-٢٣٩، والخزانة ١/١٢١ الخصائص ١/٤٢، ٢/٣١٦، ٣/١٢٤، سر صناعة الإعراب ١/٢٩ المخصص ١٢/١٠٣، شروح سقط الزند ٢/٧٤٥، شرح شواهد المغني للسيوطي ٢٦٦، تاج العروس ٣/٣٤٣، ٥٧٥، والفرق بين الحروف الخمسة للسيد البطليوسي ٥٣١، شواهد السيرافي ٣/٢٧٥، الصاحبي ٥٠، حجة الفارسي ١/٥٩، المحتسب ١/٢٥٩، الأمالي الشجرية ١/٢٢١ الإنصاف ٢٣، ٢٤، المفصل لابن يعيش ١٠/١٠٦، المغني ٣٦٨، والهمع ١/١٥٦، ارتشاف الضرب ٢/٢٦١، أسرار العربية للأنباري ٤٥، المغني حـ ٢/٣٦٨ رقم ٥٩٢، الدر المصون ٣/٣٤٢..

١٣ ينظر: البحر المحيط ٤/٣٨٨، والدر المصون ٣/٣٤٢..
١٤ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٥٩-٦٠) عن مجاهد والحسن وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٣٣) عن مجاهد وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وذكره أيضا عن الحسن (٣/٢٣٣) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ..

١٥ ذكره الطبري في تفسيره (٦/٦٠) والرازي (١٤/١٩٤) عن الكلبي..
١٦ ذكره القرطبي في تفسيره (٧/١٧٩) عن قتادة..
قوله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ﴾ الآية.
قال ابْنُ عبَّاسٍ: يريد الَّذينَ يتجبَّرون على عبادي، ويحاربون أوليائي حتَّى لا يؤمنوا
310
سأصرفهم عن قبول آياتي والتَّصْدِيق بها، عُوقبوا بحرمان الهدايةِ لعنادهم الحَقّ كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]. واحْتَجّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ تعالى قد يمنع الإيمان.
وقالت المعتزلة: لا يمكنُ حمل الآية على ذلك لوجوه:
الأوّلُ: قال الجُبَّائِيُّ: لا يجوزُ أن يكون المراد منه أنَّه تعالى يصرفهم عن الإيمان؛ لأن قوله: «سَأصْرِفُ» يتناول المستقبلَ، وقد بيَّن تعالى أنَّهُمْ كفروا وكذَّبُوا من قبل هذا الصرف، لأنَّهُ وصفهم بكونهم: ﴿يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ وبأنَّهُم: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ فدلَّت الآية على أنَّ الكُفْر قد حصل لهم في الزَّمانِ الماضي؛ فدلَّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله.
الثاني: أن قوله ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي﴾ مذكورٌ على وجه العقوبة على التَّكَبُّر والكُفْر، فلو كان المراد من هذا الصَّرْفِ هو كفرهم، لكان معناه أنَّهُ تعالىخلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفِعْل المعاقب عليه لا يجوز؛ فثبت أنَّ المرادَ من هذا الصَّرفِ ليس هو الكفر.
الثالث: أنَّه تعالى لو صَرَفَهُمْ عن اليمان وصدهم عنه، فكيف يمكن أن يقُول مع ذلك: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] ﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠] ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا﴾ [الإسراء: ٩٤] فثبت أنَّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن؛ فوجب حملها على وجوه أخرى:
الأول: قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني: إنَّ هذا الكلام تمام لما وعد اللَّهُ موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرَفَهُمْ، أهلكَهُمْ فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها، وهو تشبيه بقوله: ﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوةِ والرِّسالة.
التَّأويلُ الثَّاني: قال الجُبَّائِيُّ: سأصرفُ المتكبرين عن نَيْل ما في آياتي من العزَّة والكرَامَة المُعَدَّيْن للأنبياء، والمُؤمنين. وإنَّمَا صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم، وذلك يَجْرِي مجرى العقوبة على كُفْرِهِم، وتكبرهم على اللَّهِ.
التَّأويل الثالثُ: أنَّ من الآيات ما لا يُمْكِنُ الانتفاع بها إلاَّ بعد سبق الإيمان، فإذا كَفَرُوا فقد صَيَّرُوا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات، فحينئذٍ يصرفهم اللَّهُ عنها.
التأويل الرابع: أنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إذا علم من حال بعضهم أنَّهُ إذا شاهد تلك الآيات
311
فإنَّه لا يستدلّ بها بل يستخف بها، ولا يقومُ بحقِّها، فإذا علم اللَّهُ ذلك منه، صَحَّ أن يَصْرِفَهُ عنها.
التأويل الخامس: نقل عن الحسن أنَّه قال: إنَّ من الكفار من بالغ في كُفره، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه، فالمراد من قوله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي﴾ هؤلاء.

فصل


المُرضادُ من الصَّرْفِ المَنْع، والمُرَادُ بالآيات: الآياتُ التسع الَّتي أعطاها اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - والأكثرون على أنَّ الآية عامَّة. ومعنى «يَتَكَبَّرُونَ» : أي: يَرَوْنَ أنَّهُم أفضل الخَلْقِ، وأن لهم من الحقِّ ما ليس لغيرهم، وصفةُ التَّكبر لا تكون إلا للَّهِ تعالى.
وقال بعضهم: التَكَبر: إظهار كبر النَّفْسِ على غيرها، والتَّكبر صِفَةُ ذمٍّ في جميع العبادِ وصفةُ مدحٍ في حقِّ الله تعالى؛ لأنَّهُ يستحقُّ إظهار الكبر على ما سواه؛ لأنَّ ذلك في حقه حَقٌّ، وفي حق غيره باطل.
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام يقولُ اللَّهُ تعالى: الطِبْريَاءُ رِدائِي والعظمةُ إزَارِي، فمنْ نَازَعنِي فيهما حَرَّمْتُ عليه الجنَّة «.
قوله:»
بِغَيْرِ الحَقِّ «فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ، أي: يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ.
والثاني: أنه متعلِّق بالفعلِ قبله، أي: يتكبرون بما ليس بحق، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلاَّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة.
قال بعضهم: وقد يكون إظْهَارُ الكبرِ على الغَيْرِ بالحقِّ، فإنَّ للمحقّ أن يتكبَّرَ على المُبْطِلِ وفي الكلامِ المشهور: التَّكبر على المتكبر صدقةٌ.
قوله:»
وإن يَرَوْا الظَّاهرُ أنَّها بصريَّةٌ، ويجوزُ أن تكون قلبية، والثَّاني محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى: كقول عنترة: [الكامل]
٢٥٧٣ - اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ
٢٥٧٤ - وَلَقَدْ نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي: فلا تظني غيره واقعاً مني، وكذا الآية الكريمة، أي: وإن يَرَوْا هؤلاء
312
المتكبرين كل آية جائية، أو حادثة. وقرأ مالك بن دينارٍ «وإن يُرَوْا» مبنياً للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية.
قوله: «سَبِيلَ الرُّشْدِ» قرأ حمزة والكسائي هنا وأبُو عمرو في الكهف في قوله: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: ٦٦] خاصة دون الأولين فيها بفتحتين، والباقون بضمة وسكون واختلف النَّاسُ فيهما هل هما بمعنى واحد.
فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبُخْلِ والبَخَل، والسُّقْم والسَّقَم، والحُزْن والحَزَن.
وقال أبُو عمرو بن العلاءِ: «الرُّشْدُ - بضمة وسكون - الصَّلاحُ في النَّظر، وبفتحتين الدِّين» ولذلك أجمع على قوله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً﴾ [النساء: ٦] بالضمِّ والسُّكثون، وعلى قوله ﴿فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾ [الجن: ١٤] بفتحتين.
ورُوي عن ابن عامر «الرُّشُد» بضمتين وكأنَّهُ من باب الإتباع، كاليُسُر والعُسُر وقرأ السلمي الرَّشَاد بألف فيكون: الرُّشْد والرَّشَد والرَّشَاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام.
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة لا يتَّخِذُوَها، ويتَّخِذُوها بتأنيث الضَّمير، لأنَّ السبيل يَجُوزُ تأنيثُها.
قال تعالى: ﴿قُلْ هذه سبيلي﴾ [يوسف: ١٠٨]. والمُرادُ بسَبيل الرُّشْدِ سبيل الهدى والدين، وسَبيلَ الغَيِّ ضد ذلك. ثُمَّ بيَّن العلة لذلك الصَّرف، وهو كونهم مُكّذِّبينَ بآياتِ اللَّهِ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين، أي: أنَّهم واظبوا على الإعراضِ حتى صَارُوا بِمَنْزلةِ الغافلينَ عَنْهَا.
قوله: «ذَلِكَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، خبره الجارُّ بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم.
والثني: أنَّه في محلِّ نصبٍ، ثم اختلفَ في ذلك.
فقال الزَّمخشريُّ: «صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذلك الصَّرْفَ بعينه». فجعله مصدراً.
وقال ابْنُ عطيَّة: فعلنا ذلك فجعله مفعولاً به وعلى الوجهين فالباءُ في بأنَّهُمْ متعلقةٌ بذلك المحذوف.
313
قوله: ﴿وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾. في هذه الجملة احتمالان:
أحدهما: أنَّهَا نَسَقٌ على خبر أنَّ، أي: ذلك بأنَّهُمْ كذّبوا، وبأنَّهُمْ كانوا غافلين عن آياتنا.
والثاني: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر اللَّهُ تعالى عنهم بأنهم من شأنهم الغفلة عن الآيات وتدبرها.
314
قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ﴾ في خبره وجهان، أحدهما: أنَّهُ الجملةُ من قوله «حَبِطَتْ أعْمالُهُم» و «هل يُجْزَونَ» - خبر ثان، أو مستأنف والثاني: أنَّ الخبر هَلْ يجزونَ والجملةُ من قوله حَبِطَتْ في محلِّ نصب على الحالِ، و «قَدْ» مضمرة معه، عند من يشترط ذلك، وصاحبُ الحال فاعلُ كَذَّبُوا.
قوله: ولقاء الآخرةِ فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف، والتقديرُ: ولقائهم الآخرة. والثاني: أنَّهُ من باب إضافة المصدر للظرف يعني: ولقاء ما وعد الله في الآخرة. ذكرهما الزمخشريُّ.
قال أبُو حيَّان: «ولا يُجيز جُلَّةُ النَّحويين الإضافة إلى الظَّرف، لأنَّ الظَّرف على تقدير» في «، والإضافةُ عندهم على تقدير اللاَّم، أو» مِنْ «فإن اتُّسِعَ في العَامِل جازَ أن يُنْصبَ الظرفُ نَصْبَ المفعول، ويجوزُ إذْ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظَّرف المُتِّسَع في عاملِهِ، وأجازَ بعضً النَّحويين أن تكون الإضافةُ على تقدر» في «كما يفهِمُ ظاهرُ كلام الزمخشري».

فصل


لمَّا ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته وأتبعه ببيان العلّة لذلك الصرف وهُو كونُهم مُكَذِّبينَ بالآياتِ غافلين عنها، فقد كان يَجُوزُ أن يظن أنَّهُمْ يختلفون في باب العقابِ لأنَّ فيهم مَنْ يعمل بعض أعمال البرّ، بيَّن تعالى أنه حال جميعهم، سواء كان متكبراً أو متواضعاً، أو قليل الإحسان، أو كثير الإحسان، فقال: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة﴾ يعني ذلك بجحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالهم محيطة.
قوله: هَلْ يَجْزوْنَ هذا الاستفهامُ معناه النَّفي، لذلك دخلت: «إلاَّ» ولو كان معناه التقرير لكان مُوجباً، فيبعدُ دخول «إلاَّ» أو يمتنع.
وقال الواحديُّ هنا: «لا بد من تقدير محذوفٍ أي: إلا بِمَا كانُوا أو على ما كانُوا، أو جزاء ما كانوا» وتقريره: أنَّ نفس ما كانوا يعملونه لا يُجْزونَهُ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بمقابلة.
314

فصل


احْتَجُّوا على فساد قوله أبي هاشم في أنَّ تاركَ الواجب يستحقُّ العقابَ بمجرَّد أن لا يَفْعَل الواجبَ، وإن لَمْ يَصْدُرْ منه فعلٌ ضدَّ ذلك الواجب بهذه الآية.
قالوا: لأنّها تدلُّ على أنَّه لا جزاء إلاَّ على العملِ، وترك الواجبِ ليس بعملٍ؛ فوجب أن لا يُجازى عليه؛ فثبت أنَّ الجزاء إنَّمَا حصل على فعل ضده.
وأجاب أبوُ هاشم: بأنِّي لا أسمِّي ذلك العقاب جزاءً، فسقطَ الاستدلالُ.
وأجَابُوا عن هذا: بأنَّ الجَزاءَ إنَّمَا سُمِّيَ جزاءً؛ لأنَّهُ يجزي، ويكفي في المَنْعِ عن المَنْهِيِّ، وفي الحثِّ على المأمُور به، فإن ترتَّب العِقَابُ على مجرد ترك الواجبِ؛ كان ذلك العقابُ كافياً في الزَّجْرِ عن ذلك التَّرك، فكان جزاء، فلا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء.
قوله تعالى: ﴿واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ الآية. أي: من بعد مُضيِّة وهذابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب «اتَّخَذَ»، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ، والثَّانية للتَّبعيضِ، ويجوزُ أن يكون «مِن حُلِيِّهِمْ» متعلٌِّاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم.
وقرأ الأخوان مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش.
والباقون بضمِّ اللاَّم، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع «حَلْيِ» ك «طَيٍّ»، فجمع على «فُعُول» ك «فَلْس» و «فُلُوس» فأصله، حُلُويٌّ كثُدِي في «ثُدُوي»، فاجتمعت الياء والواوُ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواوُ ياء، وأدغمت، وكُسرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ: تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على «فُعُول» من المعتلِّ اللاَّم، سواء كان الاعتلال بالياء ك «حُلِيّ» و «ثُدِي» أم بالواو نحو: «عُصِيّ»، و «دُلِيّ» جمع عَصَا ودَلْو. وقرأ يعقوبُ «من حَلِيِّهم» بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ، وهي محتملةٌ لأن يكون «الحَلْي» مفرداً أريد به الجمعُ، أو اسمُ جنسٍ مفرده «حَلْيَة» على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ، و «عِجْلاً» مفعولُ «اتَّخَذَ» و «مِنْ حُلِيِّهم» تقدَّم حكمه. ويجوزُ أن يكون «اتَّخذَ» متعديةً لاثنين بمعنى «صَيَّرَ» فيكون: «مِنْ حُلِيِّهم» هو المفعول الثاني.
وقال أبُو البقاءِ: «وهو محذوفٌ، أي: إلهاً» ولا حاجة إليه. والحَلْيُ: اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ.
315
و «جَسَداً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّهُ نعتٌ. الثَّانِي: أنَّهُ عطفُ بيان، والثالثُ: أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ، وهو أحسنُ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ، أو ممتنع عند الجمهور، وإنَّما قال: «جَسَداً» لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً، أو مرقوماً. والجسد: الجثة.
وقيل: ذات لحم ودمٍ.
قوله: «لَهُ خُوَارٌ» في محل النَّصْبِ نعتاً ل «عِجْلاً»، وهذا يُقَوِّي كون «جَسَداً» نعتاً؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة، وه صوتُ البقرِ خاصّةً، وقد يُسْتَعَارُ للبعير، والخَوَرُ: الضَّعْفُ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ: مجرى الرَّوث، وصوت البهائم أيضاً.
وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبُو السَّمَّال: جُؤار بالجيم والهَمْز، وهو الصَّوت الشديد.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير: كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم: فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل، فجمع السَّامريّ تلك الحلي، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر، من قرية يقال لها سامرة، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل؛ فتحول عِجْلً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ.
وقيل: كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج.
قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة: إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص.
وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل.
وقال آخرون: إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها.
قيل: إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة، وقيل: كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا
316
سكت رفعوا رؤوسهم. وقال وهب: كان يَخُورُ ولا يتحَرّك.
وقال السدي: كان يخور ويمشي. ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى.
فإن قيل لِمَ قال: ﴿واتخذ قَوْمُ موسى﴾ والمتّخذ هو السّامريُّ؟
فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم، ولأنَّ رجلاً منهم باشره.
كما يقال: بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائِلُ والفاعِلُ واحد، والثاني: أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه.
فإن قيل: لم قال: «مِنْ حُلِيِّهم» ولم يكن الحلي لهم، وإنَّما اسْتَعارُوهَا؟
فالجوابُ: أنَّه لَما اهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ﴾ [الدخان: ٢٥]- إلى قوله - ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٨]

فصل


قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى.
قال الحسنُ: كلهم عبدوا العجل غير هارون، لعموم هذه الآية.
ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ﴿رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي﴾ [الأعراف: ١٥١]، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك. وقيل: بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾
[الأعراف: ١٥٩].
قوله: «ألَمْ يَرَوْا» إن قلنا: إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ، تقديره: واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ، وإن قلنا: إنَّها متعدية لواحد بمعنى: صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين، والثاني هو: مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك، ليتوَجَّه عليها الإنكار، والتقدير: يعبدوه، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية، وهو بيعدٌ.

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً، وإمَّا حيواناً، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ.
ثم قال تعالى: ﴿اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل.
317
قوله: ﴿اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ يجُوزُ فيها وجهان: أظهرهما: أنَّهَا استئنافيةٌ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك، ويجوزُ أن تكون حالاً، أي: وقد كانُوا، أي: اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم.
318
قوله تعالى :﴿ واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ ﴾ الآية. أي : من بعد مُضيِّه وذهابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب " اتَّخَذَ "، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ، والثَّانية للتَّبعيضِ، ويجوزُ أن يكون " مِن حُلِيِّهِمْ " متعلٌِّقاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم.
وقرأ الأخوان١ مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش.
والباقون بضمِّ اللاَّم، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع " حَلْيِ " ك " طَيٍّ "، فجمع على " فُعُول " ك " فَلْس " و " فُلُوس " فأصله، حُلُويٌّ كثُدِي في " ثُدُوي "، فاجتمعت الياء والواوُ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواوُ ياء، وأدغمت، وكُسرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ : تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على " فُعُول " من المعتلِّ اللاَّم، سواء كان الاعتلال بالياء ك " حُلِيّ " و " ثُدِي " أم بالواو نحو :" عُصِيّ "، و " دُلِيّ " جمع عَصَا ودَلْو. وقرأ يعقوبُ " من حَلِيِّهم " بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ، وهي محتملةٌ لأن يكون " الحَلْي " مفرداً أريد به الجمعُ، أو اسمُ جنسٍ مفرده " حَلْيَة " على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ، و " عِجْلاً " مفعولُ " اتَّخَذَ " و " مِنْ حُلِيِّهم " تقدَّم حكمه. ويجوزُ أن يكون " اتَّخذَ " متعديةً لاثنين بمعنى " صَيَّرَ " فيكون :" مِنْ حُلِيِّهم " هو المفعول الثاني.
وقال أبُو البقاءِ :" وهو محذوفٌ، أي : إلهاً " ولا حاجة إليه. والحَلْيُ : اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ.
و " جَسَداً " فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها : أنَّهُ نعتٌ. الثَّانِي : أنَّهُ عطفُ بيان، والثالثُ : أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ، وهو أحسنُ ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ، أو ممتنع عند الجمهور، وإنَّما قال :" جَسَداً " لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً، أو مرقوماً. والجسد : الجثة.
وقيل : ذات لحم ودمٍ.
قوله :" لَهُ خُوَارٌ " في محل النَّصْبِ نعتاً ل " عِجْلاً "، وهذا يُقَوِّي كون " جَسَداً " نعتاً ؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة، وه صوتُ البقرِ خاصّةً، وقد يُسْتَعَارُ للبعير، والخَوَرُ : الضَّعْفُ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ : مجرى الرَّوث، وصوت البهائم أيضاً.
وقرأ عليٌّ ٢- رضي الله عنه - وأبُو السَّمَّال : جُؤار بالجيم والهَمْز، وهو الصَّوت الشديد.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم، فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل، فجمع السَّامريّ تلك الحلي، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر، من قرية يقال لها سامرة، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل ؛ فتحول عِجْلاً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ.
وقيل : كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج٣.
قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة : إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص.
وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل.
وقال آخرون : إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها.
قيل : إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة، وقيل : كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وقال وهب : كان يَخُورُ ولا يتحَرّك.
وقال السدي : كان يخور ويمشي. ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى.
فإن قيل لِمَ قال :﴿ واتخذ قَوْمُ موسى ﴾ والمتّخذ هو السّامريُّ ؟
فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم، ولأنَّ رجلاً منهم باشره.
كما يقال : بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائِلُ والفاعِلُ واحد، والثاني : أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه.
فإن قيل : لم قال :" مِنْ حُلِيِّهم " ولم يكن الحلي لهم، وإنَّما اسْتَعارُوهَا ؟
فالجوابُ : أنَّه لَما أهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله :﴿ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ ﴾ - إلى قوله - ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٢٥- ٢٨ ]

فصل


قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى.
قال الحسنُ : كلهم عبدوا العجل غير هارون، لعموم هذه الآية.
ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - :﴿ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي ﴾ [ الأعراف : ١٥١ ]، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك. وقيل : بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ].
قوله :" ألَمْ يَرَوْا " إن قلنا : إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ، تقديره : واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ، وإن قلنا : إنَّها متعدية لواحد بمعنى : صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين، والثاني هو : مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك، ليتوَجَّه عليها الإنكار، والتقدير : يعبدوه، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية، وهو بعيدٌ.

فصل


اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ﴾ وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً، وإمَّا حيواناً، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ.
ثم قال تعالى :﴿ اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل.
قوله :﴿ اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ يجُوزُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّهَا استئنافيةٌ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك، ويجوزُ أن تكون حالاً، أي : وقد كانُوا، أي : اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم.
١ ينظر: السبعة ٢٩٤، والحجة ٤/٨٠، وإعراب القراءات ١/٢٠٧، وحجة القراءات ٢٩٦، وإتحاف ٢/٦٢، ٦٣..
٢ ينظر: الكشاف ٢/١٦٠، والبحر المحيط ٤/٢٩٠، والدر المصون ٣/٣٤٤..
٣ ذكره الرازي في تفسيره ١٥/٦..
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ﴾ الجارُّ قائم مقام الفاعل.
وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال: «سقط» تَتضمَّن مَفعُولاً، وهو ههنا المصدر، الذي هو الإسقاطُ كقولك: «ذُهِبَ بزيد».
قال: وصوابه: وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط؛ لأنَّ «سقط» ليس مصدرُهُ الإسقاط، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر، لا المصدر، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم: «سُقِط في يده» ؛ كقوله امرئ القيس: [الطويل]
٢٥٧٥ - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ
في كون الفعل مُسْنداً للجار، كأنه قيل: صَاحَ المنتهبُ في حجراته، وكذلك المراد سُقِط في يده، أي: سقط النَّدمُ في يده.
فقوله: أي سقط النَّدم في يده، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ، لا ضمير المصدرِ.
ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال: سقط في يده وأسقط أيضاً، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال: سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ. وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير. وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها.
فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي: «قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ». وقال الواحِدي: قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ «سُقِطَ في يدهِ» نَدم، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال: قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ﴾ بمعنى نَدمُوا،
318
نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن، ولمْ تعرفهُ العرب، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ.
فقال أبو نواس: [الرجز]
٢٥٧٦ - ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي... وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ، لأنَّ «فُعِلْتُ» لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ، و «سقط» لازمٌ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ: «سُقطت» كما لا يُقال: رُغبتُ وغُضِب، إنَّما يُقَال: رُغِبَ فيَّ، وغُضِب عَلَيَّ، وذكر أبُو حاتمٍ: «سُقِط فلان في يده» بمعنى ندم. وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم ﴿وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ﴾ و «سُقِطَ القومُ في أيديهم».
وقال أبُو عُبيدة: «يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه: سُقِطَ في يده».
وقال الواحِدِيُ: «وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد:» قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ «يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرضى بالعينِ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها.
فاللائمةُ ترجع عليها، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ، كقوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد «.
الوجه الثاني: أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ [الكهف: ٤٢] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم، وكقوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٣٧] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإناسنُ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه.
وقال الزمخشريُّ:»
ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ «أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها، لأنَّ فاه قد وقع فيها.
وقيل: مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِىءَ رَأسَهُ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها. ومعنى»
في «» على «، فمعنى» في أيديهم «كقوله: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١].
وقيل: هو مَأخُوذٌ من السَّقاط، وهو كثرةُ الخَطَأ، والخَاطِىءُ يَنْدَمُ على فعلهِ.
319
قال ابنُ أبي كاهل: [الرمل]
٢٥٧٧ - كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ
وقيل: هو مأخوذٌ من السَّقيط، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج.
يقال منه: سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال: ثلجت، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى. ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ. واعْلَمْ أنَّ» سُقِطَ في يده «عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك» نِعْمَ وبِئْسَ «.
وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ، أي: سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ.
وقال الزمخشريُّ:»
سَقَطَ العَضُّ «.
وقال ابنُ عطيّة:»
سَقَطَ الخسران، والخيبة «. وكل هذه أمثلةٌ.
وقرأ ابنُ أي عبلة: أسْقِط رباعياً مبنياً للمعفول، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ.

فصل


قوله: ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير، كما زعم بعضهم.
قال القاضِي: يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال: ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ.
ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز.
قوله: ﴿لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا: ﴿لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾.
قرأ الأخوان «تَرْحَمْنَا»
و «تَغْفِر» بالخطاب، «رَبَّنَا» بالنَّصْب، وهي قرايةُ الشعبي
320
وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش، وأيُّوب، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما، «رَبُّنَا» رفعاً، وهي قراءةُ الحسنِ، ومُجاهدٍ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ. فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى، وناسَبهُ الخطاب، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جمسعهم على التَّعَاقُبِ، أو هذا من طائفةٍ، وهذا من طائفةٍ، فمن غلب عليه الخوفُ، وقوي على المُواجهةِ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ.
قال المُفَسِّرُونَ: وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ : هذان حالان من «مُوسَى» عند من يُجيزُ تعدُّد الحال، وعند من لا يُجيزه يجعل «أسِفاً» حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في «غَضْبانَ»، فتكون حالاً مُتداخِلةً، أو يجعلُها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ.
وأقربُ ما يقال: إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس، واختيار الزَّجَّاجِ، واحْتَجُّوا بقوله: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: ٥٥] أي: اغْضَبُونَا، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ.
وهو قول ابن عباس والحسن، والسُّدِّي، ومنه قوله: [المديد]
321
وقالت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي: حَزِينٌ.
قال الواحديُّ: «والقولان مُتقاربانِ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ، والحُزْن من الغَضَبِ» ؛ قال: [البسيط]
٢٥٧٩ -......................... فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ
وقال الأعشى: [الطويل]
٢٥٧٨ - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ
٢٥٨٠ - أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا
فهذا بمعنى: غَضْبَان، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ: الحزين، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ.
ويقال: رَجُلٌ أسِفٌ: إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَآءَ على فاعل.

فصل


اختلفُوا في هذه الحال.
فقيل: إنَّهُ عند هجومه عليهم، عرف ذلك.
وقال أبُو مسلم: بل كان عارفاً بذلك من قبل؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا﴾ وإنَّما كان راجعاص قبل وصوله إليهم.
وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة
﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ [طه: ٥٨].
322
قوله: قال بِئْسَمَا هذا جوابُ «لَمَّا» وتقدَّم الكلامُ على «بِئْسَمَا»، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ «ما خَلَفْتُمُونِي» والتقديرُ: بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ.

فصل


فإن قيل: ما معنى قوله: «من بعدي» بعد قوله «خلفتموني» ؟
فالجواب: معناه: من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ، ونفي الشُّركاءِ، وإخلاص العبادةِ له، أو من بعد ما كتب: احمل بني إسرائيل على التَّوحيد، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين.
قوله: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ : في «أمْرَ» وجهان، أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه، والأصلُ: أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم.
قال الزمخشريُّ: يُقال: عَجِل عن الأمرِ: ذا تركه غير تَامٍّ، ونقيضه تَمَّ عليه، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى «سَبَقَ» فيتعدَّى تَعْديته.
فيقالُ: عَجِلْتُ الأمْرَ، والمعنى: «أعجلتم عَنْ أمر ربكم».
والثاني: أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ: اسْتَعْجَلْتُهُ، أي: حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ.

فصل


قال الواحدي: «معنى العَجَلَة: التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة، لأنَّ معناها: عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ».
ولقائلِ أن يقُولَ: لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾ [طه: ٨٤].
قال ابْنُ عبَّاسٍ: معنى ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ يعني: ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ: وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين، فقد مات.
وقال عطاءٌ: يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم.
وقال الكلبي: أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم.
323
قوله: «وألْقَى الألوَاح» أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب.
قالت الرُّواةُ: كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخرا الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلا والحرام.
ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى، ومثله لا يليقُ بالأنبياء، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح﴾ [الأعراف: ١٥٤] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر، ولا شيء منها، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ، ليس الأمر كذلك، وأنَّهُ أخذها بأعينها.
قوله: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ بذُؤابته ولحيتِهِ، لقوله: ﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾ [طه: ٩٤].
قوله: «يَجُرُّهُ إلَيْهِ» فيه ثلاثةُ أوجْهٍ: أحدها: أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَا، أي: أخَذَهُ جَارّاً إليه.
الثاني: أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط.
والثالث: أنَّها حالٌ من أخِيهِ.
قال أبُو البقاءِ: «وهو ضعيفٌ» يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه.

فصل


الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون: إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا: إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل: فَلِمَ قَالَ: ﴿ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي﴾ ؟
فالجوابُ: أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل.
فقالك قد نيهتهم، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام.
قوله: ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان، وأبو بكر، وابن عامر هُنَا، وفي طه، بكسر الميم، والباقون بفتحها. فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان.
324
مذهبُ البصريين: أنَّهُمَا بُنيا على الفتح، لتركيبهما تركيب «خَمْسةَ عَشَرَ»، فعلى هذا ليس «ابْن» مضافاً ل «أمّ»، بل هو مركَّب معها، فَحَركتُهَا حركةُ بناء.
والثاني: مذهب الكوفيِّينَ: وهو أنَّ «ابن» مضاف ل «أمّ» و «أمّ» مضافة لياءِ المتكلِّمِ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً، كما تُقْلَبُ في المَنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم، نحو: يَا غلاماً، ثم حُذفت الألفُ واجتزىءَ عنها بالفَتْحَةِ، كام يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ، فحينئذ حركة «ابْن» حركةُ إعراب، وهو مضاف ل «أمَّ» فهي في محلِّ خفض بالإضافة.
وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى: أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم، فَكُسِر، فَكُسِرَ آخرُه، ثم اجتُزىء عن الياء بالكسرةِ، فهو نظير: يا أحَدَ عشرِ، ثم: يا أحد عشر بالحذفِ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضاف إليه المُنادَى، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه.
وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزىء عن ألفها بالفتحَةِ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان، في: «ابن أمّ»، و «ابْنَ عَمّ»، و «ابْنَة أمّ»، و «ابنة عمّ».

فصل


فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات:
فُصْحَاهُنَّ: حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قلبُ الياءِ ساكنة أو مفتوحة، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّم في النِّداء، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ، لأنَّه ليس منادى، نحوُ: يا غلام أبِي، ويا غلام أمي، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ، ولكثرة الاستعمالِ.
وقرىء «يا ابْنَ أمِّي» بإثبات الياءِ ساكنةً؛ ومثله قوله: [الخفيف]
ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
خر: [الخفيف]
يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي...............................
325
وقرىء أيضاً: «يَا ابْنَ إمْ» بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ. ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله: [الرجز]
٢٥٨٣ - يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي... وقوله: [الرجز]
٢٥٨٤ - كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا

فصل


إنَّما قال: «ابْنَ أمْ» وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه.
وقيل: كان أخاه لأمِّه دون أبيه، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب.
قوله: ﴿إِنَّ القوم استضعفوني﴾ أي لم يلتفتوا إلى كلامي، يعني: عبدة العجل ﴿وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين﴾ أي: شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم.
قوله: ﴿فَلاَ تُشْمِتْ﴾ العَامَّةُ على ضمِّ التاء، وسكر الميم، وهو من «أشْمَتَ» رباعياً، الأعداء مفعول به.
وقرأ ابْنُ محيصن «فلا تَشْمِتْ» بفتح التَّاءِ وكسر الميم، ومجاهدٌ: بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم، «الأعْدَاءَ» نصب على المفعول به، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان:
أظهرهما: أن «شَمِتَ، أو شَمَتَ» بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه ك: أشْمَتَ الرباعي.
يقال: شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ؛ كما يقال: أشْمَت بي العَدُوَّ.
والثاني: أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي: فلا تَشْمَتْ يا رب، وجاز هذا كما جاز: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ، كقراءة الجماعة، قاله ابْنُ جنِّي.
ولا حاجة إلى هذا التَّكلف؛ لأنَّ «شَمِتَ» الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه، والإضمار على خلاف الأًصل.
وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج -: «فلا تشمت أنت» فجعل الفاعل ضمير «
326
مُوسَى»، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ فإنَّما جاز ذلك للمقابلة في قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] ولا يجُوزُ ذلك في غَيْر المقابلة.
وقرأ حميد بنُ قيس «فلا تَشْمِت» كقراءة ابنِ محيصن، ومجاهد كقراءته فيه أوَّلاً، إلاَّ أنَّهُما رفعا «الأعْدَاء» على الفاعلية، جعلا «شَمِتَ لازماً فرفعا به» الأعداء «على الفاعليَّة، فالنَّهْيُ في اللَّفْظِ للمخاطب والمُرادُ به غيره كقولهم: لا أرَيَنَّكَ ههنا، أي: لا يكن منك ما يقتضي أن تُشْمِتَ بي الأعْدَاءَ.
والإشمات والشَّماته: الفَرَحُ بِبَلِيةٍ تنالُ عَدُوَّك؛ قال: [الكامل]
٢٥٨٥ -............................ والمَوْتُ دُونَ شَماتَةِ الأعْدَاء

فصل


قيل: واشتقاقُها من شوامِتِ الدَّابة، وهي قوائِمُهَا؛ لأنَّ الشَّماتة تَقْلِبُ قلب الحاسِد في حالتي الفرَحِ والتَّرحِ كتقلُّب شوامِت الدَّابة. وتشميت العاطس وتسميته، بالشِّين والسِّين الدعاء له بالخير.
قال أبو عبيد: الشِّينُ أعْلَى اللُّغتين.
وقال ثَعلبٌ: الأصْلُ فيها السِّينُ من السَّمْت، وهو القصد والهَدْي.
وقيل: معنى تشميت العاطس [بالمعجمة] أنْ يُثَبِّتَهُ اللَّه كما يثبت قوائم الدابة.
وقيل: بل التَّفعيل للسَّلب، أي: أزال الله الشَّماتة به وبالسِّين المهملة، أي: رَدَّهُ اللَّهُ إلى سَمْتِهِ الأولى، أي: هيئته، لأنَّهُ يحصل له انزعاج.
وقال أبُو بَكْرٍ: «يقال: شَمَّتَه وشَمَّتَ عليه»
وفي الحديث: وشَمَّت عليهما.

فصل


ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت﴾ أي: ما أقدمت عليه من الغضب، «ولأخِي» إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل ﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾.
327
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ﴾ : هذان حالان من " مُوسَى " عند من يُجيزُ تعدُّد الحال، وعند من لا يُجيزه يجعل " أسِفاً " حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في " غَضْبانَ "، فتكون حالاً مُتداخِلةً، أو يجعلُها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ.
وأقربُ ما يقال : إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء١ وعطاء عن ابنِ عبَّاس٢، واختيار الزَّجَّاجِ، واحْتَجُّوا بقوله :﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٥٥ ] أي : أغْضَبُونَا، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ.
وهو قول ابن عباس والحسن، والسُّدِّي، ومنه قوله :[ المديد ]
غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ *** يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ٣
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - : إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي : حَزِينٌ٤.
قال الواحديُّ :" والقولان مُتقاربانِ ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ، والحُزْن من الغَضَبِ " ؛ قال :[ البسيط ]
. . . *** فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ٥
وقال الأعشى :[ الطويل ]
أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا *** يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا٦
فهذا بمعنى : غَضْبَان، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ : الحزين، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ.
ويقال : رَجُلٌ أسِفٌ : إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَاءَ على فاعل.

فصل


اختلفُوا في هذه الحال.
فقيل : إنَّهُ عند هجومه عليهم، عرف ذلك.
وقال أبُو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل ؛ لقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا ﴾ وإنَّما كان راجعا قبل وصوله إليهم.
وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة
﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ﴾ [ طه : ٥٨ ].
قوله : قال بِئْسَمَا هذا جوابُ " لَمَّا " وتقدَّم الكلامُ على " بِئْسَمَا "، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ " ما خَلَفْتُمُونِي " والتقديرُ : بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ.

فصل


فإن قيل : ما معنى قوله :" من بعدي " بعد قوله " خلفتموني " ؟
فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ، ونفي الشُّركاءِ، وإخلاص العبادةِ له، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التَّوحيد، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا :﴿ اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٣٨ ]، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين.
قوله :﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ : في " أمْرَ " وجهان، أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه، والأصلُ : أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم.
قال الزمخشريُّ٧ : يُقال : عَجِل عن الأمرِ : ذا تركه غير تَامٍّ، ونقيضه تَمَّ عليه، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى " سَبَقَ " فيتعدَّى تَعْديته.
فيقالُ : عَجِلْتُ الأمْرَ، والمعنى :" أعجلتم عَنْ أمر ربكم ".
والثاني : أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ : اسْتَعْجَلْتُهُ، أي : حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ.

فصل


قال الواحدي :" معنى العَجَلَة : التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غير مذمومة، لأنَّ معناها : عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ ".
ولقائلِ أن يقُولَ : لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى ﴾ [ طه : ٨٤ ].
قال ابْنُ عبَّاسٍ : معنى ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ يعني : ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ٨ وقال الحسنُ : وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين٩، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين، فقد مات.
وقال عطاءٌ : يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم١٠.
وقال الكلبي : أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم١١.
قوله :" وألْقَى الألوَاح " أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب.
قالت الرُّواةُ : كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلال والحرام.
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى، ومثله لا يليقُ بالأنبياء، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح ﴾ [ الأعراف : ١٥٤ ] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر، ولا شيء منها، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ، ليس الأمر كذلك، وأنَّهُ أخذها بأعينها.
قوله :﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ﴾ بذُؤابته ولحيتِهِ، لقوله :﴿ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾ [ طه : ٩٤ ].
قوله :" يَجُرُّهُ إلَيْهِ " فيه ثلاثةُ أوجْهٍ : أحدها : أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَ، أي : أخَذَهُ جَارّاً إليه.
الثاني : أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط.
والثالث : أنَّها حالٌ من أخِيهِ.
قال أبُو البقاءِ :" وهو ضعيفٌ " يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه.

فصل


الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا : إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل : فَلِمَ قَالَ :﴿ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ﴾ ؟
فالجوابُ : أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل.
فقالك قد نهيتهم، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل ؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام.
قوله : ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان، وأبو بكر١٢، وابن عامر هُنَا، وفي طه، بكسر الميم، والباقون بفتحها. فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان.
مذهبُ البصريين : أنَّهُمَا بُنيا على الفتح، لتركيبهما تركيب " خَمْسةَ عَشَرَ "، فعلى هذا ليس " ابْن " مضافاً ل " أمّ "، بل هو مركَّب معها، فَحَركتُهَا حركةُ بناء.
والثاني : مذهب الكوفيِّينَ : وهو أنَّ " ابن " مضاف ل " أمّ " و " أمّ " مضافة لياءِ المتكلِّمِ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً، كما تُقْلَبُ في المَنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم، نحو : يَا غلاماً، ثم حُذفت الألفُ واجتزئ عنها بالفَتْحَةِ، كما يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ، فحينئذ حركة " ابْن " حركةُ إعراب، وهو مضاف ل " أمَّ " فهي في محلِّ خفض بالإضافة.
وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى : أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم، فَكُسِرَ آخرُه، ثم اجتُزئ عن الياء بالكسرةِ، فهو نظير : يا أحَدَ عشرِ، ثم : يا أحد عشر بالحذفِ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء ؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضاف إليه المُنادَى، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه.
وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزئ عن ألفها بالفتحَةِ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان، في :" ابن أمّ "، و " ابْنَ عَمّ "، و " ابْنَة أمّ "، و " ابنة عمّ ".

فصل


فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات :
فُصْحَاهُنَّ : حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قلبُ الياءِ ألفا، فيلزم قلب الكسرة فتحة، ثم حذف الألف مجتزأ عنها الفتحة، ثم إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّم في النِّداء، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ، لأنَّه ليس منادى، نحوُ : يا غلام أبِي، ويا غلام أمي، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى ؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ، ولكثرة الاستعمالِ.
وقرئ " يا ابْنَ أمِّي " بإثبات الياءِ ساكنةً ؛ ومثله قوله :[ الخفيف ]
ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي *** أنتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ١٣
خر :[ الخفيف ]
يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي ***. . . ١٤
وقرئ أيضاً :" يَا ابْنَ إمْ " بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ. ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله :[ الرجز ]
يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي١٥ ***. . .
وقوله :[ الرجز ]
كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا *** نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا١٦

فصل


إنَّما قال :" ابْنَ أمْ " وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه.
وقيل : كان أخاه لأمِّه دون أبيه، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى ؛ لأنه كان لين الغضب.
قوله :﴿ إِنَّ القوم استضعفوني ﴾ أي لم يلتفتوا إلى كلامي، يعني : عبدة العجل ﴿ وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعداء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين ﴾ أي : شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم.
قوله :﴿ فَلاَ تُشْمِتْ ﴾ العَامَّةُ على ضمِّ التاء، وسكر الميم، وهو من " أشْمَتَ " رباعياً، الأعداء مفعول به١٧.
وقرأ ابْنُ محيصن " فلا تَشْمِتْ " بفتح التَّاءِ وكسر الميم، ومجاهدٌ : بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم، " الأعْدَاءَ " نصب على المفعول به، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان :
أظهرهما : أن " شَمِتَ، أو شَمَتَ " بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه ك : أشْمَتَ الرباعي.
يقال : شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ ؛ كما يقال : أشْمَت بي العَدُوَّ.
والثاني : أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي : فلا تَشْمَتْ يا رب، وجاز هذا كما جاز :﴿ الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٥ ] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ، كقراءة الجماعة، قاله ابْنُ جنِّي.
ولا حاجة إلى هذا التَّكلف ؛ لأنَّ " شَمِتَ " الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه، والإضمار على خلاف الأًصل.
وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج - :" فلا تشمت أنت " فجعل الفاعل ضمير " مُوسَى "، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله { الله يَسْتَهْزِئُ ب
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٦٤) عن أبي الدرداء..
٢ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/١٠) والقرطبي ٧/١٨٢..
٣ البيت لأبي نواس ينظر: سيبويه ١/٣٢، ابن الشجري ١/٣٢، خزانة الأدب ١/٣٤٥، الخصائص ١/٤٧، منهج السالك ١/١٩١، سفر السعادة ١/١٥٦، المغني ١/١٥٩، الهمع ١/٩٤، ابن عقيل ١/١٩١، روح المعاني ٩/٦٦، العيني ١/٥١٣، الخزانة ١/٣٤٥، الأشموني ١/١٩١، الدرر اللوامع ١/٧٢، أمالي ابن الحاجب ص ٦٣٧، الأشباه والنظائر ٣/٩٤، ٥/٢٨٩، ٦/١١٣، ٧/٢٥، تذكرة النحاة ص ١٧١، ٣٦٦، ٤٠٥، همع الهوامع ١/٩٤ الدر المصون ٣/٣٤٦.
المبتدأ: قسمان: فسم له خبر، وقسم له فاعل أو نائب عنه يغني عن الخبر، وهو الوصف سواء كان اسم الفاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة أو منسوبا وشرطه أن يكون سابقا وأن يكون مرفوعه منفصلا سواء كان ظاهرا أم ضميرا نحو أقائم أنتما، ومنع الكوفيون الضمير فلا يجيزون إلا: أقائمان أنتما أو استفهام بأي أدوانهما كما ولا وإن وغير. كالشاهد الذي معنا الذي استشهد به في قوله: "غير مأسوف على زمن" حيث أجرى قوله: "على زمن" النائب عن الفاعل مجرى الزيدين في قولك: "ما مضروب الزيدان" في أن كل واحد منهما سد مسد الخبر؛ لأن المتضايفين بمنزلة الاسم الواحد فحيث كان نائب الفاعل يسد مع أحدهما مسد الخبر، فإنه يسد مع الآخر أيضا، وكأنه قال: "ما مأسوف على زمن" هذا توجيه ابن الشجري في أماليه.
التوجيه الثاني: لابن جني وابن الحاجب وهو أن –غير- خبر مقدم، وأصل الكلام: "زمن ينقضي بالهم غير مأسوف عليه" وهو توجيه ليس بشيء لما يلزم عليه من التكلفات البعيدة لأن العبارة الواردة في البيت لا تصير إلى هذا إلا بتكلف كثير.
التوجيه الثالث: لابن الخشاب، وحاصله أن قوله "غير" خبر لمبتدأ محذوف تقديره "أنا غير-الخ" وقوله "مأسوف" ليس اسم مفعول، بل هو مصدر مثل "الميسور والمعسور والمجلود والمحذوف" وأراد به هنا اسم الفاعل فكأنه قال "أنا غير آسف-الخ". .

٤ متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح ٢/١٧٢-١٧٣، كتاب الأذان باب إنما جعل الإمام ليؤتم به الحديث ٦٨٧، وأخرجه مسلم في الصحيح ١/٣١١-٣١٢، كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر الحديث (٩٠/٤١٨)..
٥ عجز بيت للمتنبي وصدره:
جزاك ربك بالإحسان مغفرة
ينظر: ديوانه ١/٩٤، الوساطة ٣٨١، وشرح الديوان للعكبري ١/٩٤، ومفردات الراغب ١٧، وتاج العروس ٦/٤٠، والدر المصون ٣/٣٤٧..

٦ ينظر: ديوانه ص ١٦٥، الإنصاف ٢/٧٧٦، مجالس ثعلب ١/٣٨، أمالي ابن الشجري ١/١٥٨، جمهرة اللغة ص ٢٩١، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٥٨، الأشباه والنظائر ٥/٢٣٥، اللسان (خضب)، الدر المصون ٣/٣٤٧..
٧ ينظر: الكشاف ٢/١٦١..
٨ ذكره الرازي في تفسيره ١٥/١٠-١١..
٩ ينظر: المصدر السابق..
١٠ ينظر: المصدر السابق..
١١ ينظر: المصدر السابق..
١٢ ينظر: السبعة ٢٩٥، والحجة ٤/٨٩، وإعراب القراءات ١/٢٠٨، ٢٠٩، وحجة القراءات ٢٩٧، وإتحاف ٢/٦٣..
١٣ البيت لزبير الطائي: ينظر الكتاب ٢/٢١٣، ابن يعيش ٢/١٢، الهمع ٢/٥٤، التصريح ٢/١٧٩، الأشموني ٣/١٥٧، الدرر ٥/٥٧، أوضح المسالك ٤/٤٠، المقتضب ٤/٢٥٠، المقاصد النحوية ٤/٢٢٢، اللسان: شقق الدر المصون ٣/٣٤٨..
١٤ ينظر: البحر ٤/٣٩٤، الدر المصون ٣/٣٤٨..
١٥ البيت لأبي النجم العجلي ينظر الكتاب ٢/٢١٤، المقتضب ٤/٢٥٢، المحتسب ٢/٢٣٨، ابن يعيش ٢/١٢، النوادر لأبي زيد ١٩، التصريح ٢/١٧٩، الهمع ٢/٥٤، الخزانة ١/٤٦٤، الدر المصون ٣/٣٤٨..
١٦ ينظر: العيني ٤/٢٥٠. الدر المصون ٣/٣٤٨..
١٧ وهي قراءة حميد بن قيس، ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٥٧، والبحر المحيط ٤/٣٩٥، والدر المصون ٣/٣٤٨..
ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال :﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت ﴾ أي : ما أقدمت عليه من الغضب، " ولأخِي " إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل ﴿ وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾.
قوله تعالى: ﴿الذين اتخذوا العجل﴾ الآية. المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ -
327
محذُوف، والتقديرُ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى﴾ [طه: ٨٨] وللمفسرين ههنا طريقان: أحدهما: المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم: بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم: ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا﴾ ؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة، وهو أنَّ اللَّهَ أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله: ﴿وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا﴾ هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا.
فإن قيل: السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟
فالجواب: وأخره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلأَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل.
الطريق الثاني: أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا.
قال عطيَّةً العوفيُّ: أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ: ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ في الآخرةِ: ﴿وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا﴾ أراد: ما أصَابَ بني قريظة والنَّير من القتل والجلاء.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هي الجزية.
الوجه الثانيك أن يكون التقديرُ: «إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ» أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي: سينال أولادهم، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
ثمَّ قال: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين﴾ أي: ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة «نَجْزِي المُفْترينَ» الكاذبين.
قال أبُو قلابة: «هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ».
وقال سفيان بنُ عيينة: «هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة».
وقال مالكُ بْنُ أنسٍ: «ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة».
قوله: ﴿والذين عَمِلُواْ السيئات﴾ مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره. والعائد محذوف، والتقدير: غفورٌ لهم ورحيم بهم، كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي منه.
قوله: مِنْ بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: «ثُمَّ تَابُوا» أي: من بعد التوبة.
328
قال أبو حيان: «وهذا أوْلَى، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه، إذ التقدير: من بعد عمل السّيئات والتوبة منها».
قوله: «وَآمَنُوا» يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ، فإن قيل: التَّوبة بعد الإيمان، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ، ويجز أن تكون الواوُ للحال، أي: تَابُوا، وقد آمنوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قوله: «وَلَمَّا سَكَتَ» السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة.
قال الزمخشريُّ: هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك، فترك النُّطق بذلك، وترك الإغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة: ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة؟
وقيل: شَبَّه جمود الغذب بانقطاع كلام المُتكلِّم.
قال يونسُ: « [سال] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ».
وقال الزَّجَّاجُ: مصدر: سَكَتَ الغَضَبُ: السكتةُ، ومصدر: سَكَتَ الرَّجلُ: السُّكُوتُ «وهو يقتضي أن يكون» سكت الغضبُ «فعلاً على حدته.
وقيل: هذا من باب القلب، والأصلُ: ولما سكت موسى عن الغضب، نحو: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي، أي: أدخلت رأسي في القلنسوة.
قاله عكرمةُ: وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم.
وقيل المُرادُ بالسُّكوت: السُّكون والزَّوال، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام، فلا يجوزُ في الغضب.

فصل


ظاهرُ الآية ثدلُّ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة، فحينئذ سكن غضبهُ، وهو الوقت الذي قال فيه: ﴿رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي﴾.
وقوله:»
أخَذَ الألوَاحَ «ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم.
329
وقوله: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى﴾ هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ. وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الألواح، فعلى هذا قوله» وفِي نُسْخَتِهَا «أي:» وفيما نسخ منها «وإن قلنا: الألواح لم تنكسر، وأخذها موسى بأعيانها؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير.
وقوله:»
هُدىً ورَحْمَةٌ «أي: هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب.
قوله: «لِلَّذِين»
متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي: رحمة كائنة للَّذين، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله، كأنَّه قيل: هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره، والجلمةُ صلة الموصول.
قوله: لِررَبِّهم يَرْهَبُونَ. في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ: أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم؛ كقول الشاعر: [الوافر]
٢٥٨٦ - ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا
أو في قليل عند آخرين؛ كقوله تعالى: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢].
والثاني: أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ، تقديره: يرهبون عقابه لأجله، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش.
الثالث: أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف، تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم.
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر، وإبقاءُ معموله، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته.
الرابع: أنَّخا متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً، تقديره: يخشعون لربَّه. وذكرهُ أبُوا البقاء، وهو أولى مِمَّا قبله.
وقال ابْنُ الخطيبِ: قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول، وإن كان الفعل متعدياً، كقوله: قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة، وألْقَى يَدَهُ «وألقى بيده»، قال تعالى {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ
330
الله يَرَى} [العلق: ٤] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢]، وقد ذكروا مثل هذا في قوله: ﴿وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران: ٧٣].
331
قوله :﴿ والذين عَمِلُواْ السيئات ﴾ مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره. والعائد محذوف، والتقدير : غفورٌ لهم ورحيم بهم، كقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ [ الشورى : ٤٣ ] أي منه.
قوله : مِنْ بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله :" ثُمَّ تَابُوا " أي : من بعد التوبة.
قال أبو حيان :" وهذا أوْلَى، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه، إذ التقدير : من بعد عمل السّيئات والتوبة منها ".
قوله :" وَآمَنُوا " يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ، فإن قيل : التَّوبة بعد الإيمان، فكيف جاءت قبله ؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ، ويجوز أن تكون الواوُ للحال، أي : تَابُوا، وقد آمنوا ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
قوله :" وَلَمَّا سَكَتَ " السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة.
قال الزمخشريُّ١ : هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك، فترك النُّطق بذلك، وترك الإغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة : ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة ؟
وقيل : شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المُتكلِّم.
قال يونسُ :" [ سال ] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ ".
وقال الزَّجَّاجُ : مصدر : سَكَتَ الغَضَبُ : السكتةُ، ومصدر : سَكَتَ الرَّجلُ : السُّكُوتُ " وهو يقتضي أن يكون " سكت الغضبُ " فعلاً على حدته.
وقيل : هذا من باب القلب، والأصلُ : ولما سكت موسى عن الغضب، نحو : أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي، أي : أدخلت رأسي في القلنسوة.
قاله عكرمةُ : وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم.
وقيل المُرادُ بالسُّكوت : السُّكون والزَّوال، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت ؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام، فلا يجوزُ في الغضب.

فصل


ظاهرُ الآية دلُّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة، فحينئذ سكن غضبهُ، وهو الوقت الذي قال فيه :﴿ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي ﴾.
وقوله :" أخَذَ الألوَاحَ " ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم.
وقوله :﴿ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ﴾ هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ. وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني.
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الأولى٢، فعلى هذا قوله " وفِي نُسْخَتِهَا " أي :" وفيما نسخ منها " وإن قلنا : الألواح لم تنكسر، وأخذها موسى بأعيانها ؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير.
وقوله :" هُدىً ورَحْمَةٌ " أي : هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب.
قوله :" لِلَّذِين " متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي : رحمة كائنة للَّذين، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله، كأنَّه قيل : هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره، والجملةُ صلة الموصول.
قوله : لِرَبِّهم يَرْهَبُونَ. في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ : أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله :﴿ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [ هود : ١٠٧ ] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم ؛ كقول الشاعر :[ الوافر ]
ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا٣
أو في قليل عند آخرين ؛ كقوله تعالى :﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ].
والثاني : أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ، تقديره : يرهبون عقابه لأجله، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش.
الثالث : أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف، تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم.
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر، وإبقاءُ معموله، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته.
الرابع : أنَّها متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً، تقديره : يخشعون لربَّهم. ذكرهُ أبُو البقاء، وهو أولى مِمَّا قبله.
وقال ابْنُ الخطيبِ : قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول، وإن كان الفعل متعدياً، كقوله : قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة، وألْقَى يَدَهُ " وألقى بيده "، قال تعالى ﴿ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى ﴾ [ العلق : ٤ ] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله ﴿ رَدِفَ لَكُم ﴾ [ النمل : ٧٢ ]، وقد ذكروا مثل هذا في قوله :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٧٣ ].
١ ينظر: تفسير الكشاف ٢/١٦٣..
٢ ذكره الرازي في تفسيره ١٥/١٤ والقرطبي ٧/١٨٦..
٣ تقدم..
قوله تعالى: واخْتَارَ مُوسَى. الآية، «اخْتَار» يتعدَّى لاثنين، لإى أوَّلهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ، ويجوزُ حذفُهُ.
تقول: اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف «من» فتقولُ «زَيْداً الرِّجَالَ» قال: [البسيط]
٢٥٨٧ - اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ
وقال الرَّاعي: [الطويل]
٢٥٨٨ - فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا
وقال الفرزدق: [الطويل]
٢٥٨٩ - مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ، حصرهُ النحاة في ألفاظ، وهي: «اختار» و «أمَرَ».
كقوله: [البسيط]
٢٥٩٠ - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ
و «اسْتَغْفَرَ»، كقوله: [البسيط]
331
و «سَمَّى» ؛ كقوله: سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ، وإن شِئْتَ: زَيْداً، و «دَعَا» بمعناه؛ قال: [الطويل]
٢٥٩١ - سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ
٢٥٩٢ - دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو، ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ
و «كَنَى» ؛ تقولُ: كَنَيْتُه بفلانٍ، وإن شئت: فلاناً.
و «صَدَقَ» قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ [آل عمران: ١٥٢]، و «زَوَّجَ» ؛ قال تعالى: ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾. ولم يزد أبُو حيَّان عليها.
ومنها أيضاً: «حدَّث» و «نَبَّأ» و «أخْبَرَ» و «خَبَّرَ» إذا لم تُضُمَّنْ معنى «أعْلَمَ».
قال تعالى: ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ [التحريم: ٣] ؛ وقال: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ [مريم: ٣].
وتقول حدَّثْتُكَ بكذا، وإن شئت: كذا؛ قال: [الطويل]
٢٥٩٣ - لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا
و «قومه» مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا، والتقديرُ: واختار موسى سبعين رجلاً من قومه، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ «قَومَهُ» مفعول أول، و «سَبْعِينَ» بدلٌ، أي: بدل بعض من كل، ثم قال: «وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ، وأنَّ التقدير: سَبْعِينَ رجلاً منهم».
قال شهابُ الدِّين: إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً؛ لأنَّ فيه حذف شيئين.
أحدهما: المختار منه؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ، ومختار منه، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه.
والثاني: أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه، وهو «مِنْهُمْ» كما قدره أبُو البقاء، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح.
قال ابْنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا، وأراد ب «قَوْمَهُ» السبعين المعتبرين منهم؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه.
وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات.

فصل


الاختيار: افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة.
يقال: اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره، وأصل اختارَ: اختير، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو: بَاعَ: ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً.
332

فصل


ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة؛ فاصرُوا اثنين وسبعين.
فقال: ليتخلف منكم رجلان؛ فتشاجروا.
فقال: إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً، فاختارهم، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى الميقات.
واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر؟
فقال بعضً المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية.
قالوا: إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى، ودخل فيه.
وقال للقوم: ادنُوا، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه.
وقالوا: ﴿ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة﴾ [البقرة: ٥٥] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا.
فقال موسى: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ﴾ [الأعراف: ١٥٥] وهو قولهم ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣].
وقيل: المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام، وطلب الرُّؤيةِ، واختلفوا فيه.
فقيل: إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ﴾، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه.
أولها: أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل.
وثانيها: أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل.
وثالثها: أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا: اعْطِنَا ما تُعْطِه
333
أحداً قبلنا، ولا تعطيه أحداً بعدنا، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة.
واحتجوا لهذا القول بوجوه: أحدها: أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاح إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأما ذكر بعض القصَّةِ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب، والأولى صون كلام الله عنه.
وثانيها: أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال: أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ﴾ علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول.
وثالثها: أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ، ولم يذكر أن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخذته الرَّجفة، وكيف يقال أخذته الرجفة، وهو الذي قال: ﴿لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية.
وقيل: المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون: فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ، فأخذتهم الرَّجفة هناك.

فصل


اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ.
فقيل: إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ.
قال السُّديُّ: قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم؟ فأحياهم الله. فمعنى قوله ﴿لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ﴾ أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ
334
بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم، ولم يصدقوا أنهم ماتوا.
فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموني.
وقيل: إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى، ودعا؛ فكشف الله عنهم الرعدة.
قوله:» لميقاتِنَا «متعلقٌ ب» اختيارَ «أي: لأجل ميقاتنا، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي: اختارهم مخصصاً بهم الميقات، كقولك: اختر لك كذا.
قوله»
لَوْ شِئْتَ «مفعلوُ المشيئة محذوف، أي: لو شئت إهلكانا، و» أهلكْتَهُم «جواب» لَوْ «والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله: ﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠] وفي قوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾
[الواقعة: ٧٠].
ومعنى من قبل أي قبل الاختيار، وأخذ الرَّجفة.
وقوله: «وإيَّايَ»
قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله، إذ كان يمكن أن يقال: أهلكتنا. وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً، لأنَّ مقصوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ، بخلاف قومه. وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطلف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء: ١٣١] وقوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممتحنة: ١].
قوله: «أتُهْلِكُنَا» يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي: أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي، أي: ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره، قاله ابنُ الأنباري.
قال وهو كقولك: أتهينُ من يكرمك «؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان.
قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾.
قال الواحديُّ: الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ: إن هو إلاَّ زيد، وإن هي إلاَّ هند، والمعنى: إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتنوا، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق. ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى، فقال: ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ﴾.
ثم قال الواحديُّ: وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر.
335
قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل: تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية.
فمعنى قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ أي: امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها، وأمَّا قوله: ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ﴾ ففيه وجوه: أحدها: تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف، ويبقى على الإيمان، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه، وثانيها: أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك، أي: تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء، وثالثها: أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى، وضلال من ضَلَّ، جاز أن يُضافَ إليه.

فصل


واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه، وتقريره من وجوه:
الأول: أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر، إلاَّ لداعية مرجحة، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى، وعند حصول الداعية يجب الفعل، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى.
الثاني: أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان، والحقَّ، والصدقَ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى.
الثالث: لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق، وأنَّ الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه، وهو محالٌ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد، وأمَّا إبطال تأويلاتهم، فقد تقدَّم مراراً.
قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان: أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي: حال كونها مُضلاًّ بها، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ، ومنعه أبُو البقاءِ قال: «لعدم العامل فيها» وقد قدم البحث معه مراراً.
قوله: «أنْتَ وَلينَا» يفيد الحَصْرَ، أي: لا ولي لنا، ولا ناصر، ولا هادي إلاَّ أنت، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله: ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ﴾.
وقوله: ﴿فاغفر لَنَا وارحمنا﴾ المُرادُ منه: أنَّ إقدامه على قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾
336
جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها.
وقوله: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ أي: أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل، أو للثَّواب الجزيل، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض، بل لمحض الفضل والكرم.
قوله: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب. ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران: أحدهما: دفع الضَّرر والثاني: تحصيل النَّفع، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله: ﴿فاغفر لَنَا﴾ [الأعراف: ١٥٥] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ، وهو قوله ﴿واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً﴾ والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا، النَّعمةُ والعافيةُ، والحسنةُ في الآخرة: المغفرة والجنة.
قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ العامَّةُ على ضم الهاءِ، من هاد يَهُود بمعنى: مال؛ قال: [السريع]
٢٥٩٤ - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ
أو «تَابَ» من قوله: [الرجز]
٢٥٩٥ - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ... ومن كلام بعضهم: {المجتث]
٢٥٩٦ - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ
وقرأ زيد بنُ علي، وأبو وجزة «هِدْنَا» بكسر الهاء مِنْ «هَادَ يَهِيدُ» أي: حَرَّكَ. أجاز الزمخشريُّ في «هُدْنا»، و «هِدْنا» - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى: مِلْتَا، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا، وفيه نظر؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس.
فيقال في «عقتُ» من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ: «عِقْت» بالكَسْرِ فقط، أو الإشمام، وفي: «بعت يا عبد» إذا قصد أن غيره باعه «بُعْت» بالضم فقط أو الإشمام، ولكن سيبويه جوَّز في «قيل وبيع» ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز.
337
و «هِيَ» ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ: إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ. وقيل يعندُ على مسألة الإرادة من قوله: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] أي: إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ.
قوله: ﴿عذابي أُصِيبُ بِهِ﴾ مبتدأ وخبر. والعامَّةُ على «مَنْ أشَاءُ» بالشِّينِ المعجمةِ.
وقرأ زيدُ بن علي، وطاووس، وعمرو بن فائد «أسَاءُ بالمهملة.
قال الدَّانِي: لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن، ولا عن طاووس، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة، وقرأها سفيان بْنُ عيينة، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرىء فصاح به وأسمعه.
فقال سفيانُ:»
لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع «. يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك.
ومعنى الآية: إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي: أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣].
قال عطيَّةُ العوفي:»
وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ «ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن، لسعة رحمةِ الله للمؤمن، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه.
قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج: لما نزلت: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ فتمنَّاها اليهودُ والنصارى. وقالوا: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي﴾ [الأعراف: ١٥٧].
واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين:
الأول: المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، وهو المُرادُ بقوله:»
للَّذينَ يتَّقُونَ «.
والثاني: الأفعال، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه، فالأول: هو الزكاة وهو المراد بقوله»
ويُؤتُونَ الزَّكاةِ «والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان، فيدخل فيه
338
الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله: ﴿والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢، ٣].
339
ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ، وهو قوله ﴿ واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة ﴾ والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا، النَّعمةُ والعافيةُ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة.
قوله :﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ العامَّةُ على ضم الهاءِ، من هاد يَهُود بمعنى : مال ؛ قال :[ السريع ]
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ١
أو " تَابَ " من قوله :[ الرجز ]
إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ ٢***. . .
ومن كلام بعضهم :{ المجتث ]
يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ٣
وقرأ٤ زيد بنُ علي، وأبو وجزة " هِدْنَا " بكسر الهاء مِنْ " هَادَ يَهِيدُ " أي : حَرَّكَ. أجاز الزمخشريُّ في " هُدْنا "، و " هِدْنا " - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْتَا، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا، وفيه نظر ؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس.
فيقال في " عقتُ " من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ :" عِقْت " بالكَسْرِ فقط، أو الإشمام، وفي :" بعت يا عبد " إذا قصد أن غيره باعه " بُعْت " بالضم فقط أو الإشمام، ولكن سيبويه جوَّز في " قيل وبيع " ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز.
و " هِيَ " ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ. وقيل يعودُ على مسألة الإرادة من قوله :﴿ أَرِنَا الله جَهْرَةً ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ.
قوله :﴿ عذابي أُصِيبُ بِهِ ﴾ مبتدأ وخبر. والعامَّةُ على " مَنْ أشَاءُ " بالشِّينِ المعجمةِ.
وقرأ زيدُ٥ بن علي، وطاووس، وعمرو بن فائد " أسَاءُ " بالمهملة.
قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن، ولا عن طاووس، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة، وقرأها سفيان بْنُ عيينة، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرئ فصاح به وأسمعه.
فقال سفيانُ :" لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع ". يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك.
ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله ﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾.
قال عطيَّةُ العوفي :" وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ " ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن، لسعة رحمةِ الله للمؤمن، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه.
قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله :﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ فتمنَّاها اليهودُ والنصارى. وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله ﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي ﴾٦.
واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين :
الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، وهو المُرادُ بقوله :" للَّذينَ يتَّقُونَ ".
والثاني : الأفعال، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله " ويُؤتُونَ الزَّكاةِ " والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله :﴿ والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢، ٣ ].
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٠٠، والدر المصون ٣/٣٥٢..
٢ تقدم..
٣ البيت للزمخشري ينظر: الكشاف ٢/١٢٩، وروح المعاني ٩/٧٦، وحاشية الشهاب ٣/٢٢٤، والدر المصون ٣/٣٥٢..
٤ ينظر: الكشاف ٢/١٦٥، والمحرر الوجيز ٢/٤٦٠، والبحر المحيط ٤/٤٠٠، والدر المصون ٣/٣٥٣..
٥ وقرأ بها الحسن كما في الكشاف ٢/١٦٥، والمحرر الوجيز ٢/٤٦١، والبحر المحيط ٤/٤٠٠، والدر المصون ٣/٣٥٣..
٦ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٨٠-٨١) عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.
وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٤١) عن ابن جريج وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ..

قوله ﴿الذين يَتَّبِعُونَ﴾ في محلِّه أوجه:
أحدها: الجر نعتاً لقوله ﴿الذين يَتَّقُونَ﴾.
الثاني: أنَّهُ بدلٌ منه.
الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على القطع.
الرابع: أنَّهُ مرفوع على خبر مبتدأ مضمر وهو معنى القطع أيضاً.
الخامس: أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذٍ وجهان: أحدهما الجملةُ الفعليَّةُ من قول: «يأمُرهُمْ بالمَعْرُوفِ». والثاني: الجملةُ الأسميَّةُ من قوله: ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ [الأعراف: ٨] ذكر ذلك أبُو البقاءِ، وفيه ضعف بل مَنْعٌ كيف يجعل: «يَأمْرُهُم» خبراً وهو من تتمسة وَصْفَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو على أنَّهُ معمولٌ للوجدان عند بعضهم؟ كيف يجعل ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ خبراً لهذا الموصول؟ والموصولُ الثاني وهو قوله: ﴿فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾ يطلبه خبراً، لا يتبادَرُ الذهن إلى غيره، ولو تبادر لم يكن مُعتَبراً.
قوله «الأمِّيَّ» العامَّةُ على ضمِّ الهمزة، نسبةً إمَّا إلى الأمة وهي أمَّةُ العرب؛ وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديث «أنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ»، وإمَّا نسبةً إلى «الأمّ» وهو مصدر «أمَّ يَؤمُّ» أي: قصد يقصد، والمعنى على هذا: أن النبيَّ الكريم مقصود لك أحدٍ، وفيه نظر؛ لأنه كان ينبغي أن يقال: «الأَمِّيّ» بفتح الهمزة.
وقد يقال: إنَّهُ من تغيير النَّسب، وسيأتيأنَّ هذه قراءةٌ لبعضهم، وإمَّا نسبةً إلى «أمِّ القرى» وهي مكة وإمَّا نسبةً إلى الأمّ، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادته من أمه.
وقرأ يعقوب الأَمِّيَّ بفتح الهمزة، وخَرَّجهَا بعضُهُمْ، على أنَّهُ من تَغْييرِ النَّسبِ، كما قالوا في النَّسب إلى أمَيَّة: أموي، وخرَّجها بعضُهم على أنَّها نسبةٌ إلى «الأَمِّ» وهو القصد، أي الذي هو على القصْدِ والسَّدادِ، وقد تقدم ذلك في القراءة الشهيرة، فكل من القراءتين يحتملُ أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى.
339
قوله يَجِدُونَهُ الظَّاهرُ أنَّ هذه متعديةٌ لواحد؛ لأنَّها اللُّقْيَة، والتقدير: يَلْقونَهُ أي: يلقَوْنَ اسمه ونعته مَكْتُوباً؛ لأنَّهُ بمعنى: وُجْدَانِ الضالَّة، يكون مَكْتُوباً حالاً من الهاء في يَجِدُونَه.
وقال أبُو عيِّ: «إنَّهَا متعدية لاثنين، أوَّلهما: الهاءُ».
والثاني: «مَكْتُوباً».
قال «ولا بدّ من حذف هذا المضاف، أعني قوله: ذكره، أو اسمه».
قال سيبويه: «تقولُ إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنَّما المعنى هذا اسم عمرو، وهذا ذِكْر عمرو وقال مجاهد وهذا يجوزُ على سعةِ الكلامِ».
قوله ﴿عِندَهُمْ فِي التوراة﴾. هذا الظَّرف، وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب «يَجِدُونَ»، ويجوزُ - وهو الأظهر - أن يتعلَّقا ب «مَكْتُوباً» أي: كُتِبَ اسمُهُ ونَعْتُهُ عندهم في توراتهم وإنجيلهم.
قوله يَأمُرُهُم فيه ستة أوجه: أحدها: أنَّهُ مستأنف؛ فلا محلَّ له حينئذ، وهو قول الزجاج. والثاني: أنَّهُ خبر ل «الّذينَ» قاله أبُو البقاءِ: وقد ذُكِرَ، أي: وقد ذكره فيه ثمَّة. الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الحال من الهاء في يَجِدُونَهُ، ولا بدَّ من التَّجوز في ذلك، بأن يُجْعَلَ حالاً مقدرة، وقد منع أبو عليِّ أن يكون حالاً من هذا الضَّمير.
قال: لأنَّ الضمير للاسم والذِّكْرِ، والاسم والذِّكر لا يأمران يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر؛ فإن تقديره: «يجدون اسمه، أو ذكره»، والذكر أو الاسم لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمَّى.
الرابع: أنه حال من النَّبِيِّ. الخامس: أنَّهُ حال من الضَّمير المُسْتكِن في «مَكْتُوباً». السادس: أنَّهُ مُفَسِّر لِ «مَكْتُوباً» أي: لِمَا كُتِبَ، قاله الفارسي. قال: «كَمَا فَسَّرَ قوله ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ﴾ [المائدة: ٩] [النور: ٥٥] [الفتح: ٢٩] بقوله: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٩]، وكما فسَّر المثل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩] بقوله: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩].
وقال الزَّجَّاجُ هنا: ويجوزُ أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف، وما ذُكِر معه من صفته التي ذُكِرت في الكتابين، وقد استدرك أبُو علي هذه المقالة، فقال: لا وجه لقوله:»
يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف «إن كان يعني أنَّ ذلك مرادٌ؛ لأنَّهُ لا شيء يَدُلُّ على حذفه، ولأنَّا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء، وتفسير الآية أنَّ» وجدت «فيها تتعدَّى لمفعولين فذكر نحو ما تقدم عنه.
قال شهابُ الدِّينِ: وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه؛ لأنَّهُ أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن.
340

فصل


لمَّا بيَّن صفة من تكتب له الرحمة في الدُّنيا والآخرة وهو أن يكون مُتقياً ويؤتي الزكاة، ويؤمن بالآيات، ضمّ إلى ذلك أن يكون مُتَّبِعاً للنبي» الأمِّي الذي يجدُونَهُ مكْتُوباً عندهُمْ في التَّوراةِ والإنجيلِ «واختلفوا في ذلك.
فقال بعضهم: المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته.
وقيل في قوله: والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل؛ لأنَّ من المُحَالِ أن يجدوه فيه قبل ما أنزل اللَّهُ الإنجيل.
وقيل المراد بهم: مَنْ لَحِقَ من بني إسرائيل أيَّام الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فبيَّنَ تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلاَّ إذا اتبعوا الرسول الأمِّيَّ، وهذا هو الأقرب، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن.
ووصف هذا النبي بتسع صفات:
الأأولى: كونه رسولاً، وهو في العُرفِ من أرسله اللَّهُ إلى الخلق لتبليغ التَّكاليف.
الثاني: كونه نبيّاً، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى.
والثالثة: كونه أميّاً.
قال الزجاج: وهو الذي على صفة أمة العرب، كما تقدم في قوله عليه السلام: «إنا أمَّة أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب»

قال المحقِّقُون: وكونه أميّاً بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه:
الأول: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى مَنْظُوماً مرَّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطب ثم أعادها؛ فلا بد أن يزيد فيها، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أنه ما كان يكتبُ وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك من المعجزات وإيله الإشارة بقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦].
الثاني: لو كان يُحسِن القراءة والخَطَّ لكان مُتَّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلَّما أتى به من غير تعلم، ولا مطالعة؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المرادُ من قوله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون﴾ [النعكبوت: ٤٨] الثالث: أن تعلَّم الخط شيء سهل فإن أقلَّ النَّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطَّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلُّ على نقص عظيم في الهمم، ثم إنَّهُ تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيثُ
341
لم يتعلم الخط الذي يسهُل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين، وذلك من الأمُورِ الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات.
الصفة الرابعة: قوله: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهذا يدُلُّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأنَّ ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأنَّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفّرات، والعاقلُ لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر النَّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكوراً في التَّوراة والإنجيلِ كان معجزة له دالةً على صدقهِ.
قال عطاءُ بنُ يسار: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاصِ، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة.
قال: أجَلْ، واللَّه إنَّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ﴿ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ [الأحزاب: ٤٥] وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سمِّيْتُكَ المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يفعو، ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملَّة العَوْجَاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعْيُناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً.
وعن كعب قالك إني أجدُ في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظّ، ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون، يحمدون الله في كل منزل، وعلى كلِّ نجد، يأتزرُون على أنصافهم، ويغضون أطرافهم، صَفُّهُمْ في الصلاة وصفهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جوِّ السماءِ، لهم في جوف الليل دَويٌّ كدويِّ النحل، مولده بمكَّة، ومخاهره بطيبة، ومُلْكُهُ بالشَّام.
الصفة الخامسة: قوله: ﴿يَأْمُرُهُم بالمعروف﴾ أي: بالإيمان، وقيل: الشَّريعة والسُّنة.
قال عطاءٌ: بمكارم الأخراق، وخلع الأنداد، وصلة الأرحام.
السادسة: قوله ﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر﴾ أي: عن الشرك.
وقيل: ما لا يعرف في كل شريعة ولا سنَّةٍ.
342
وقيل: المنكرُ عبادة الأوثان، وقطع الأرحام.
السابعة: قوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات﴾.
قيل: ما كانوا يُحَرِّمونه في الجاهليَّة: من البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامِ.
قال ابنُ الخطيب: وهذا بعيد لوجهين:
الأول: أنه على هذا التقدير تصير الآية ويحلُّ لهم المُحللات وهذا محضُ التكرير.
والثاني: أنَّ على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة، لأنَّ لا ندري الأشياء التي أحلَّها اللَّهُ ما هي وكم هي؟.
بل الواجب أن يكون المرادُ بالطَّيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ لأن تناولها يفسد اللَّذة والأصل في المنافع الحل فدلَّت هذه الآية على أنَّ الأصل في كلِّ ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحِلُّ إلاَّ بدليل منفصل.
الصفة الثامنة - قوله ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾.
قال عطاءٌ عن ابن عباس: يريد الميتة والدَّم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله: ﴿ذلكم فِسْقٌ﴾ [المائدة: ٣].
قال ابنُ الخطيب: وأقول ههنا: كل ما يستخبثه الطَّبع [وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم، والأصل في المضار الحرمة، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع] فالأصْلُ فيه الحُرمَةُ إلاَّ بدليلٍ منفصل، وعلى هذا يحرم بيع الكلب، قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الكلبُ خبيثٌ، وخَبيثُ ثَمنُهُ»، فدخل في قوله تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾.
الصفة التاسعة: قوله ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾.
قرأ ابنُ عامر آصارهم بالجمع، على صفة «أفْعَال» فانقلبت الهمزةُ التي هي فاء الكلمة ألفاً لسبقها بمثلها، والباقُون بالإفرادِ. فمن جمع فباعتبار متعلِّقاته وأنواعه، وهي كثيرة، ومن أفْردَ؛ فلأنه اسمُ جنسٍ.
وقرأ بعضهم أَصْرَهُمْ بفتح الهمزةِ، وبعضهم أُصْرَهُمْ بضِّمها.
والإصْرُ: الثِّقلُ الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحرَاك لثقله، أي: إنَّ شريعة موسى كانت شديدةً، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه المادة في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً﴾ [البقرة: ٢٨٦] والأغلالُ جمع غُلٍّ، وهو هنا مثلٌ لِمَا كَلِّفُوهُ كقطع أثر البول، وقتل النَّفس في التَّوبةِ، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللَّحم وجعلها الله
343
أغلالاً؛ لأنَّ التَّحريمَ يمنع من الفعل كما أنَّ الغل يمنع من الفعل.

فصل


وقيل: كانوا إذَا قاموا إلى الصَّلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وقد تقدم تفسير مادة «الغل» في آل عمران عند قوله:
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [١٦١] وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأصل في المضار ألا تكون مشروعة؛ لأنَّ كلَّ ما كان ضرراً كان إصْراً وغلاًّ، وهذا النص يقتضي عدم المشروعية، كقوله: «لا ضرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلامِ» وقول «بُعثِتُ بالحنفيّة السَّمْحَةِ السَّهْلهِ»
فإن قيل: كيف عطف الأغلالَ وهو جمع على الإصْرِ وهو مفرد؟.
فالجواب: أنَّ الأصل مصدر يقع على الكثير والقليلِ.
قوله: ﴿فالذين آمَنُواْ بِهِ﴾.
قال ابنُ عبَّاسِ: يعني من اليهود وعَزَّرُوهُ يعني وقَّرره.
قال الزمخشريُّ: أصلُ العزْر المَنْعُ، ومنه التَّعزير؛ لأنَّهُ يمنع من معاودة القبيح وتقدَّم تفسيرُ التعزير في المائدة، والعَامَّةُ على التشديد وعَزَّرُوهُ.
وقرأ الجحدريُّ وعيسى بن عمر، وسليمان التيمي: بتخفيفها، وجعفر بن محمد وعَزَّرُوهُ بزايين معجمتين. ونَصَرُوهُ أي على عَدُوِّهِ. ﴿واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ وهو القرآن.
وقيل: الهدى والبينات والرسالة.

فصل


قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى أنزلَ مَعَهُ وإنَّما أُنزِلَ مع جبريل؟.
قلت: معناه أُنزل مع نُبوته؛ لأنَّ استنباءهُ كان مَصْحُوباً بالقرن مَشْفُوعاً به، ويجوزُ أن يتعلَّق ب «اتَّبَعُوا» أي واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبي والعمل بسنته، وبما أمَرَ به ونَهَى عنه أو اتبعُوا القرآن كما اتَّبعه مصاحبين له في اتِّباعه، يعني بهذا الوجه الأخير أنَّهُ حال من فاعل اتَّبَعُوا.
وقيل: «مَعَ» بمعنى «عَلَى» أي: أُنْزِلَ عليه. وجوَّزَ أبُو حيان أن يكون معه ظَرْفاً في موضع الحال.
قال: العامل فيها محذوفُ تقديره: أنزل كائناً معه، وهي حالٌ مُقدَّرة كقوله:
344
مَرَرْتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، فحالةُ الإنزال لم يكن معه، لكنَّه صار معه بعدُ، كما أنَّ الصيدَ لم يكن وقت المرور.
ثُمَّ لمَّا ذكر تعالى هذه الصِّفات، قال: ﴿أولئك هُمُ المفلحون﴾ أي: الفائزونُ في الدُّنيا والآخرة.
345
قوله تعالى: ﴿قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق.
وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ ب «رَسُولُ»، وجَمِيعاً حال من المجرورِ ب «إلى».

فصل


هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ.
وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ: إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم؛ لأن قوله ﴿ياأيها الناس﴾ خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ، وقد أقرّوا بكونِهِ رسولاً حقّاً صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق؛ فوجب ونُه صادقاً في هذا القول.

فصل


هذه الآيةُ دلَّت على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء؟.
فقال بعضهم: نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثً إلى الذين كانوا معه، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي»
345
المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها.
قوله: ﴿الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾. يجوزُ فيه: الرَّفْعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [الأعراف: ٥٧]، والجَرُّ من وجهين: إمَّا النَّعْتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها.
قال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يكون جَرّاً على الوصفِ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله «إليْكُمْ جَمِيعاً».
واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل، فقال: ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله او بدلاً منه، لما فيه من الفصل بينهما ب «إلَيْكُمْ» وبحالٍ، وهو مُتعلِّقٌ ب «رَسُولُ».
قوله ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ﴾ لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ، وكذلك قوله «يُحْيي ويُمِيتُ» هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ.
قاله الزمخشريُّ: وقال أبُو حيَّان: «وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه».

فصل


وقال الحُوفيُّ: إن «يُحْيِ ويُمِيتُ» في موضع خبر لا إله.
: «لأنَّ الإله» في موضع رفع بالابتداء، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع.
قال: والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ. ويعني بالجملةِ قوله: ﴿لاا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ويعني باسم الله، أي: الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ.
وقال أبُو حيَّان: والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى.
وقال في غعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ.
قوله: ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾.

فصل


اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه، والأصلُ يجب
346
تقديمه فلهذا بدأ بقوله: فأمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله: ﴿وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ﴾ وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً؛ لأنَّ معجزاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت على نوعين.
الأول: المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة.
الثانيك المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع ونحوها، وهي تسمى بكلمات الله، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة. ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمّضا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات، وهذا هو المُرادُ بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ﴾.
وقرأ مجاهدٌ وعيسى وكلمته بالتَّوحيد، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ -: «أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ» ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم.
قال الزمشريُّ: فإن قلت: هَلاَّ قيل: فآمنوا باللَّه وبِي، بعد قوله ﴿يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ﴾ ؟.
قلت: عدل عن الضمير، إلى الاسم الظاهر، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة، وتفادياً من العصبية لنفسه.
قوله: واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل.

فصل


فإن قيل: إذا أتى الرَّسسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا، كان ذلك تركاً لمتابعته والآية تدلُّ على وجوب المتابعةِ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا.
فالجوابُ: أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع؛
347
لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل، قيل: إنَّهُ تابعهُ عليه، ولوْ لَمْ يأتِ به، قيل: إنه خالفه، وإن كان كذلك، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته.
بقي علينا أنَّ لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب؟.
فنقول: حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها.
وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للتردي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال، فلا بد من تأويلاها فيلتفت إليه.
قوله تعالى: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.
لمَّا وصف الرسول، وذكر أنه يجل على الخلق متابعته، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه ويبن أنهم جماعة، لأن لفظ «الأمَّة» ينبىء عن الكثرة.
واختلفوا فيهم.
فقيل: هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا.
فإن قيل: إنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ «الأمة» ينبىء عن الكثرة.
فالجواب: إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز غطلاق لفظ «الأمَّةِ» عليهم كقوله تعالى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠].
وقيل: إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرٌّ بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع.
وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ: لمَّأ كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء، تبرأ وسبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرف على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردن، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق.
وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم.
348
فقالوا: يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منا أحْمَدَ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام، فردَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على مُوسَى السلام، ثم أقرأهم عشر سورة من القرآن نزلت بمكة، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أنه يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا، ويتركوا السَّبْتَ.
وقوله: ﴿يَهْدُونَ بالحق﴾ يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ؛ قال الزَّجَّاجُ: العدلُ: الحُكْمُ بالحق.
يقال هو يقضي بالحق، ويعدل وهو حاكم عادلٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء﴾ [النساء: ١٢٩] وقوله ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا﴾ أنعام: ١٥٢]
349
قوله تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾.
لمَّا وصف الرسول، وذكر أنه يجل على الخلق متابعته، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه ويبن أنهم جماعة، لأن لفظ " الأمَّة " ينبئ عن الكثرة.
واختلفوا فيهم.
فقيل : هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا.
فإن قيل : إنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ " الأمة " ينبئ عن الكثرة.
فالجواب : إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز إطلاق لفظ " الأمَّةِ " عليهم كقوله تعالى ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [ النحل : ١٢٠ ].
وقيل : إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرٌّ بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع.
وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ : لمَّا كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء، تبرأ وسبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرق على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردن، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق١.
وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم.
فقالوا : يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منكم أحْمَدَ ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مُوسَى السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أنه يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا، ويتركوا السَّبْتَ.
وقوله :﴿ يَهْدُونَ بالحق ﴾ يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ ؛ قال الزَّجَّاجُ : العدلُ : الحُكْمُ بالحق.
يقال هو يقضي بالحق، ويعدل وهو حاكم عادلٌ، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء ﴾ [ النساء : ١٢٩ ] وقوله ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا ﴾ [ أنعام : ١٥٢ ]
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٨٩) عن ابن جريج وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٥٠) عنه وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ..
قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ﴾.
الظَّاهِرُ أن قَطَّعْنَاهُمُ مُتَعدٍّ لواحد؛ لأنه لمْ يُضَمَّنْ معنى ما يتعدَّى لاثنين، فعلى هذا يكون اثْنَتَيْ حالاً من مفعول: قَطَّعْنَاهُمُ أي: فَرَّقْنَاهم مَعْدُودينَ بهذا العدد.
وجوَّز أبُو البقاءِ أن يكون قَطَّعْنَا بمعنى «صَيَّرْنَا»، وأن اثْنَتَيْ مفعولٌ ثانٍ وجزم الحُفِيُّ بذلك.
وتمييز: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ محذوف، لفهم المعنى، تقديره: اثْنَتَيْ عشرة فرقةٌ، و «اسْبَاطاً» بدلٌ من ذلك التمييز. وإنَّما قلتُ إن التَّمييزَ محذوفٌ، ولم أجعل أسْبَاطاً هو المُمَيِّز لوجهين، أحدهما: أنَّ المعدودَ مُذَكَّر؛ لأنَّ أسْبَاطاً جمع «سِبْط» فكان يكون التركيبُ: اثني عشر.
الثاني: أنَّ تمييز العدد المركَّبِ، وهو من «أحد عشر» إلى «تِسْعَة عَشَرَ» مفردٌ منصوبٌ وهذا - كما رأيت - جمع، وقد جعله الزمخشريُّ تمييزاً له معتذراً عنه، فقال: فإن قلت: مُمَيِّزٌ ما عدا العشرة مفردٌ، فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلاَّ قيل: اثني عشر سِبْطاً!؟
قلتُ لو قيل ذلك، لم يكن تحقيقاً؛ لأن المُرادَ وقطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عشْرَةَ قبيلة، وكلُّ قبيلة أسباط لا سِبْط، فوضع «أسْبَاطاً» موضع «قبيلة» ؛ ونظيره قوله: [الرجز]
٢٥٩٧ - بَيْنَ رَمَاحَيْ مَالِكِ ونَهْشَلِ... قال أبُو حيان: وما ذهب إليه من أنَّ كلَّ قبيلةٍ أسباط خلافُ ما ذكره النَّاسُ،
349
ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب. وقالوا: الأسْبَاطُ جمع وهم الفرق، والأسباطُ في ولد إسحاق كالقبائل في ولد غسماعيل، ويكون على زعمه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ [البقرة: ١٣٦] معناه: والقبيلةُ، وقوله: «وهو نظير قوله: بين رماحي مالكٍ ونهشَلِ» ليس بنظيره، لأنَّ هذا من باب تثنية الجمع، وهو لا يجوزُ إلا في ضرورةٍ، وكأنَّهُ يشيرُ إلى أنه لوْ لمْ يُلْحَظُ في الجمع كونُه أُريد به نوعق من الرِّمَاحِ لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظَ في «الأسْبَاط» - وإن كان جمعاً - معنى القبيلة فمُيِّزَ به كَما يُمَيَّزُ بالفرد.
وقال الحُوفِيُّ: يجوز أن يكون على الحذفِ، والتقديرُ: اثنتي عشرة فرقةً أسبَاطاً ويكون «أسْبَاطاً» نعتاً ل «فرقة»، ثم حذف الموصوفُ، وأقيمت الصِّفةُ مقامه و «أمَماً» نعتٌ لأسباط، وأنَّثَ العدد، وهو واقعٌ على الأسباطِ وهو مذكَّرٌ، وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال: [الوافر]
٢٥٩٨ - ثَلاثَةُ أنْفُسٍ....................................................
يعني: رجلاً، وقال: [الطويل]
٢٥٩٩ -............. عَشْرُ أبْطُنٍ...............................
بالنَّظَرِ إلى القبيلةِ، ونظيرُ وصف التمييزِ المقرر بالجمعِ مراعاةً للمعنى قول الشَّاعر: [الكامل]
٢٦٠٠ - فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُوداً كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأسْحمِ
فوصف «حَلُوبَةً» وهي مفردة لفظاً ب «سُوداً» وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع.
وقال الفراء: إنَّما قال: «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ» والسِّبْطُ مذكر؛ لأنَّ ما بعده «أمم» فذهب التأنيث إلى الامم، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط لكان جائزاً.
واحتج النحويون على هذا بقوله: [الطويل]
٢٦٠١ - وإنْ قريشاً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلهَا العَشْرِ
ذهب بالبطْن إلى القبيلةِ، والفصيلة، لذلك أنَّثَ، والبطن ذَكَرٌ.
وقال الزَّجَّاج: المعنى: وقطَّعْنَاهُمْ اثنتي عشرةَ فرقةً أسْبَاطاً، من نعتِ فرة كأنَّهُ قال: جَعَلْنَاهُم أسباطاً وفرَّقناهم أسباطاً، وجوَّز أيضاً أن يكون «أسْبَاطاً» بدلا من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ: وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
350
وقال بعضهم: تقديرُ الكلامِ: وقطعناهم فرقاً اثْنَتَيْ عشرَةَ، فلا يحتاجُ حينئذٍ إلى غيره.
وقال آخرون: جعل كلَّ واحدٍ من الاثنتي عشرةَ أسباطاً، كما تقولُ: لزيد دراهم، ولفلانٍ دراهمُ: فهذه عشرون دراهم يعني أن المعنى على عشرينات من الدَّراهِم.
ولو قلت: لفلان، ولفلان، ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكُلِّ في عشرين واحدة، والمعنى على خلافه.
وقال جماعةٌ منهم البَغَوِيُّ: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخير تقديره: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة».
وقوله: أثمماً إمَّا نعتٌ ل «أسْبَاطاً»، وإمَّأ بدل منها بعد بدلٍ على قولنا: إنَّ «اسْبَاطاً» بدلٌ من ذلك التَّمييز المقدَّر. وجعلهُ الزمخشريُّ أنه بدل من «اثْنَتَيْ عَشْرَة» ؛ قال: بمعنى: «وقطَّعْنَاهم أمَماً»، لأنَّ كل أسباط كانت أمَّةً عظيمةً وجماعة كثيفة العدد، وكلُّ واحد تؤمُ خلاف ما تؤمُّهُ الأخرى فلا تكادُ تأتلف «. انتهى.
وقد تقدَّم القولُ في»
الأسْبَاط «.
وقرأ أبان بنُ تغلبَ»
وقَطَعْنَاهُمْ «بتخفيف العينِ والشَّهيرةُ أحسن؛ لأنَّ المقامَ للتَّكثيرِ، وهذه تحتمله أيضاً.
وقرأ الأعمش وابن وثَّابِ، وطلحة بنُ سليمان»
عَشِرَة «بكسر الشِّينِ، وقد رُوي عنهم فَتْحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبُو حَيْوَةَ، ولطحة بن مصرف.
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة [٦٠]، وأنَّ الكسر لغةُ تميم والسُّكُونَ لغةُ الحجاز.
قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ﴾. وتقدمت هذه القصَّةُ في البقرةِ.
»
أن اضرب «يجوز في» أنْ «أن تكون المفسِّرة للإيحاء، وأن تكون المصدرية.
قال الحسنُ: ما كان إلاَّ حجراً اعترضه وإلاَّ عصاً أخذها.
وقوله:»
فانبجَسَتْ «كقوله:» فانْفَجَرتْ «إعراباً وتقديراً ومعنىً، وتقدَّم ذلك في البقرة.
وقيل: الانبجَاسَ: العرق.
قال أبو عمرو بنُ العلاءِ:»
انبَجَستْ «: عَرِقَتْ، وانفَجَرَتْ: سالتْ. ففرَّق بينهما بما ذُكر.
351
قال المفسِّرون: إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام كان إذا ضرب الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثُمَّ يسيل، وهُمَا قَرِيبَان من الفرقِ المذكور في النَّضْح والنَّضْخ.
وقال الرَّاغِبُ: بَجَسَ الماءُ وانبَجَسَ انفَجَرَ، لكنَّ الانبجاسَ أكثرُ ما يقالُ فيما يَخْرج من شيء ضيق، والانفجار يُستعملُ فيه وفيما يخرج من شيء واسع؛ ولذلك قول تعالى: ﴿فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾، وفي موضع آخر ﴿فانفجرت﴾ البقرة: ٦٠]، فاستُعْمِلَ حيث شاق المخرجُ اللفظتان. يعني: ففرَّق بينهما بالعُمُوم والخُصُصِ، فكلُّ انبجاس انفجارٌ من غير عكس.
وقال الهَرَوِيُّ: يقالُ: انبَجَسَ، وتَبَجَّسَ، وتَفَجَّرَ، وتَفَّتقَ بمعنى واحدٍ. وفي حديث حذيفة ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبجُسُهَا الظَّفُر غَيْرَ رَجُلَيْنِ يعني: عمر وعليّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. الآمَّةُ: الشّجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مثل يعني أَنَّ الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يقدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمبضع فعبَّر عن زَلل الإنسان بذلك، وأنه تفاقهم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها.
قوله: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾.
قال الزمخشريُّ: «الأناسُ» اسمُ جمع غير تكسير نحو: رخال وثناء وتؤام، وأخواتٍ لها، ويجوز أن يقال: إن الأصل: الكَسْرُ، والتكسيرُ والضَّمة بدلٌ من الكسرةِ لما أبدلت في نحو: سُكَارَى وغُيَارى من الفتحةِ.
قال أبُو حيان: ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنَّهُ لم يُنْطَقْ ب «إناس» بكسر الهمزة، فيكون جمع تكسير، حتَّى تكون الضمَّةُ بدلاً من الكسرة بخلاف «سُكَارَى» و «غُيَارَى» فإنَّ القياس فيه «فَعَانَى» بفتح فاء الكلمة، وهو مَسْمُوعٌ فيهما.
والثاني: أنَّ «سُكَارى» و «عُجَالى» و «غُيارى» وما ورد من نحوها ليست الضَّمَّةُ فيه بدلاً من الفتحة، بل نصَّ سيبويه في كتابه على أنَّه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، كان أنَّ «فَعَالَى» جمعُ تكسيرٍ أصلٌ وإن كان لا ينقاسُ الضَّمُّ كما ينقاسُ الفتح.
قال سيبويه - في الأبنيةِ أيضاً -: «ويكون» فُعَالى «في الاسم نحو: حُبَارَى، وسُمَانَى، ولُبَادَى، ولا يكون وصفاً إلاَّ وصفاً إلاَّ أن يُكَسَّرَ عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعُجَالى». فهذا نَصَّان من سيبويه على أنَّهُ جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسير أصْلاً لم يَسُغْ أن يُدَّعَى أن أصله فَعَلى وأنه أبدلت الحركة فيه. وذهب المُبَرِّدُ إلى أنه اسمُ جمع أعني «فُعَالى» بضم الفاءِ، وليس بجمع تكسير. فالزمخشريُّ لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه
352
سيوبيه، ولا إلى ما ذهب إليه المُبَرِّدُ؛ لأنَّه عند المبرد اسمُ جمعٍ فالضَّمَّةُ في فائه أصلٌ وليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثلاثاً.

فصل


قال المفسِّرُون: إنهم احتاجوا في التيه إلى ماءٍ يشربونه، فأمر اللَّهُ تعالى موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلأامُ - أن يضرب بعصاه الحَجَرَ، وكانوا يذرءونه مع أنفسهم، فيأخذون منه قدر الحاجة، ولمَّا أن ذكر تعالى كيف كان يستقيمُ، ذكر ثانياً أنَّهُ ظَلَّل الغَمَامَ عليهم في التِّيه تقيهم حرَّ الشَّمْسِ، وثالثاً: أنَّهُ أنزل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى، ومجموع هذه الأأحوالِ نعمة من اللَّهِ تعالى.
ثُمَّ قال: ﴿اكُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ والمُرادُ قَصْرُ نفوسهم على ذلك المطعُومِ، وترك غيره.
وقلأ عيسى الهَمانِيُّ مَا رَزَقْتُكُم بالإفراد.
ثمَّ قال ومَا ظَلَمُونَا وفيه حذف؛ لأنَّ هذا الكلامَ إنَّمَا يَحْسُنُ ذكره لو أنَّهم تعدوا ما أمرهم اللَّهُ به، إمَّا لكونهم ادَّخَرُوا ما منعم اللَّهُ منه، أو أقدمُوا على الأكل في وقت منعهم اللَّهُ منه؛ أو لأنَّهم سألوا عن ذلك مع أنَّ اللَّهَ منعهم منه والمكلف إذَا ارتكبَ المَحْظُورَ فهو ظالم لنفسه، ولذلك وصفهم اللَّهُ بقوله: ﴿ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ؛ لأنَّ الملكف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلاَّ نَفْسَهُ.
353
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية﴾ الآيةُ.
اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه:
أحدها: أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ.
وثانيها: قال في سورة لابقرة «ادخلوا» وقال هاهنا «اسكنوا».
وثالثها: قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء، وههنا بالواو.
وارابعها: قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا.
وخامسها: قدَّم هناك قوله ﴿وادخلوا الباب سُجَّداً﴾ على «وقولُوا حِطَّةٌ» وههنا على العكس.
353
وسادسها: قال في البقرة ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] وههنا «خطِيئَاتِكُمْ».
وسابعها: قال هنا: «وسَنزِيدُ المُحْسنينَ» بالواو وههنا حذفها.
وثامنهها: قال في البقرة «فأنزلْنَا» وههنا «فأرْسَلْنَا».
وتاسعها: قال هناك: ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: ٥٨]. وقال ههنا «يَظْلِمُونَ».
وهذه ألفاظٌ لا مناقاةَ بينها ألبتة، ويمكن ذكر فوائِدهَا.
أما قوله ههنا: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ إعلاماً للسَّامع بان هذا القائل هو ذاك، وأمَّا قوله هنا «ادْخُلُوا»، وههنا «اسْكُنُوا» فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً، ثم سكونها ثانياً.
وأمَّا قوله هنا «فَكُلُوا» بالفاءِ وههنا بالواوِ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة، كما يوجد بعضها ينعدم، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله.
وأمَّا بعد ذلك، فيكون سكنى لا دخولاً، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده، فلهذا قال ﴿ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ﴾ [البقرة: ٥٨] وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحل الفرق.
وأمَّا قوله هناك «رغَداً» ولم يذكره هنا؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكر حالة السُّكنى، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة.
وأمَّا قوله هناك: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ وههنا على العكس، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير.
قال الزمخشريُّ: التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا «الحِطَّة» على دخول الباب، أو أخَّرُوَاها فهم جامعون في الإيجاد بينهما.
قال أبُو حيَّان: وقوله: سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا، كما قال تعالى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾ [إبراهيم: ٢١].
فصل قال شهابُ الدِّين: يعني كونه أتى بعد لفظ «سواء» ب «أوْ» دون «أمْ»، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد «سواء» وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرىء
﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦] والرَّدُ بمثل هذا غير «طائل».
وأما قوله في البقرة ﴿خَطَايَاكُمْ﴾ وههنا «خَطِيئَاتِكُم» فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب
354
سواء كانت قليلة، أو كثيرة، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء.
وأما قوله هناك «وسَنَزِيدُ» بالواوِ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف، كأنَّ قائلاً قال: وماذا حصل بعد الغُفْرانِ؟
فقيل لهخ: «سَنَزِيدُ المُحْسنينَ».
وأام قوله هناك «فأنَزلْنَا»، وههُنَا «فأرْسَلْنَا» فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ، والإرسَال يشعر بها، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل، ثمَّ جعله كثيراً، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله ﴿فانبجست﴾ [الأعراف: ١٦٠] وقوله ﴿فانفجرت﴾ [البقرة: ٦٠].
وأمَّا قوله هناك ﴿عَلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ [البقرة: ٥٩]، وههُنَا «عَلَيْهِمْ» فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك، وأمَّا قوله هَهُنَا «يَظْلمُونَ» وهناك «يَفْسُقُونَ» فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا نفسهم، وبكونهم فاسقين، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ.
قوله: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم﴾ قد تقدَّم الخلافُ في «نَغْفِر» وأمَّا «خَطِيئَاتِكُمْ» فقرأها ابن عامر «خَطِيئَتُكُم» بالتَّوحيد، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله، والفرض أنه يقرأ «تغفرْ» بالتَّاء من فوق. ونافع قرأ «خَطِيئَاتِكُم» بجمع السَّلأامة، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّهُ يقرأ «تُغْفرُ لكم» كقراءة ابن عامر.
وأبو عمرو قرأ «خَطَايَاكُم» جمع تكسير، ويَقْرأ «نَغْفِرْ» بنون العظمة. والباقون «نَغْفِرْ» كأبي عمرو، «خَطِيئَاتِكُمْ» بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو «خطاياهم» بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح.
وقرأ ابنُ هرمز «تُغْفَرْ» بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول، كنافع، «خَطَايَاكُم» كأبي عمرو، وعنه «يَغْفِرْ» بياء الغيبة، وعنه «تَغْفِر» بفتح التَّاءِ من فوق، على معنى أنَّ «الحِطَّة» سببٌ للغفران، فنسب الغفران إليها.
355
وأما قوله هناك " فأنَزلْنَا "، وههُنَا " فأرْسَلْنَا " فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ، والإرسَال يشعر بها، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل، ثمَّ جعله كثيراً، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله ﴿ فانبجست ﴾ [ الأعراف : ١٦٠ ] وقوله ﴿ فانفجرت ﴾ [ البقرة : ٦٠ ].
وأمَّا قوله هناك ﴿ عَلَى الذين ظَلَمُواْ ﴾ [ البقرة : ٥٩ ]، وههُنَا " عَلَيْهِمْ " فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك، وأمَّا قوله هَهُنَا " يَظْلمُونَ " وهناك " يَفْسُقُونَ " فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ.
قوله :﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم ﴾ قد تقدَّم الخلافُ في " نَغْفِر " وأمَّا " خَطِيئَاتِكُمْ " فقرأها ابن عامر١ " خَطِيئَتُكُم " بالتَّوحيد، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله، والفرض أنه يقرأ " تغفرْ " بالتَّاء من فوق. ونافع قرأ " خَطِيئَاتِكُم " بجمع السَّلامة، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ؛ لأنَّهُ يقرأ " تُغْفرُ لكم " كقراءة ابن عامر.
وأبو عمرو قرأ " خَطَايَاكُم " جمع تكسير، ويَقْرأ " نَغْفِرْ ٢ " بنون العظمة. والباقون " نَغْفِرْ " كأبي عمرو، " خَطِيئَاتِكُمْ " بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو " خطاياهم " بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح.
وقرأ ابنُ٣ هرمز " تُغْفَرْ " بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول، كنافع، " خَطَايَاكُم " كأبي عمرو، وعنه " يَغْفِرْ " بياء الغيبة، وعنه " تَغْفِر " بفتح التَّاءِ من فوق، على معنى أنَّ " الحِطَّة " سببٌ للغفران، فنسب الغفران إليها.
١ ينظر في هذه القراءة : السبعة ٢٩٦، والحجة ٤/٩٤-٩٥، وإعراب القراءات ١/٢١٠، وحجة القراءات ٢٩٨-٣٠٠، وإتحاف ٢/٦٥-٦٦..
٢ ينظر: السابق..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٦٧، والدر المصون ٣/٣٥٩..
قوله تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾ الآية.
المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء:
الأول: المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
والثاني: أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها. ولمَّا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً أمياً لم يعلم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة.
قوله: «عَنِ القَرْيَةِ» لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ، أي: عن خبر القرية، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله «إذْ يَعْدُون».
وقيل: هو منصوب ب «حَاطِرَة».
قال أبُو البقاء: وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت.
وقدر الزمخشريُّ: المُضاف «أهل» أي: عن أهل القرية، وجعل الظرف بدلاً من «أهل» المحذوف فإنَّهُ قال: «إذْ يَعْدُون» بدل من القرية، والمرادُ بالقرية: أهلُها كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت، وهو من بدل الاشتمال.
قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ؛ لأن «إذْ» من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ، ولا يدخل عليها حرفُ جر، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول «عن» عليها؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ «عن» عليها لم يجز، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو: يوم إذ كان كذا، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب «اذكر» فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً.
وقال الحوفيُّ: «إذ» متعلقةٌ ب «سَلْهم».
قال أبُو حيان: وهذا لا يتصوَّر، لأن «إذْ» لما مضى، و «سَلْهم» مستقبلٌ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين.
356
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك «يَعَدُّون» بفتح العين وتشديد الدَّالِ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله ﴿لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت﴾ [النساء: ١٥٤] والأصل: تَعْتَدوا، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها.
وقُرىء «يُعِدُّونَ» بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من: أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد.

فصل


معنى الآية: واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي: بقرية، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ [البقرة: ١٩٦].
قال ابنُ عباس، وأكثر المفسرين: هي قرية يقال لها: أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر.
وقيل: مدين.
وقال الزُّهري: هي طبرية الشَّامِ، والعرب تسمِّ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ، و «يَعْدُون في السَّبتِ» يتجاوزون حد اللَّه فيه، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه، والسَّبْتُ: مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا، إذا تركوا العمل في سبتهم، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك، وهو مثل الخرس، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت، واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروفُ، وهو من الرَّاحةِ والقطع، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات، وفي الخبر عن رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ»
قال القرطبي: قال علماؤنا: لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً.
قوله: «إذْ تَأتيهم» العامل فيه «تَعْجون» أي: إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ.
357
وقال الزمخشريُّ: و «إذ تأتيهم» بدلٌ من «إذ يَعْدُونَ» بدل بعد بدل، يعني: أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا.
و «حِيتَان» جمع «حُوت»، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ: الحُوتُ.
قوله «شُرَّعاً» حالٌ من «حِيتَانُهُمْ» وشُرَّعٌ: جمعُ شارع.
وقرأ عمر بن عبد العزيز: «يَوْمَ إسباتهم» وهو مصدر «أسبت» إذا دخل في السَّبْت.
وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر «لا يَسْبُتُونَ».
وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه «لا يُسْبِتُونَ» بضم الياء وكسر الباء، من أسْبَت، أي: دخل في السبت.
وقُرىء: «يُسْبَتُونَ» بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن.
قال: أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بن يَسْبِتُوا، والعاملُ في: « ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ﴾ قوله:» لا تَأتيهمْ «أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب» لا «عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب: الجواز مطلقاً كهذه الآية، والمنع مطلقاً، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز.
ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة. من شرع فهو شارع، ودار شارعة أي: قريبة من الطريق، ونجوم شارعة أي: دنت من المغيب، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها.
وقال الضَّحَّاكُ: متتابعة.

فصل


قال ابنُ عباس ومجاهد: إنَّ اليهود أمرةوا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه، واختاروا السبت، فابتلاهم الله به، وحرم عليهم الصَّيْدَ، وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به.
فقوله ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ أي لا يَفْعَلُونَ السبت، يقال: سَبَتَ يَسْبِتُ إذا
358
عظم السبت. والمعنى: يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ، كما يقالك أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا، أي: دخلنا في الجمعة، والظهر، والشهر.
كما يقال: أصبحنا أي: دخلنا في الصباح.
قوله: «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ». ذكر الزجاجُ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين:
أحدهما: قال الزَّجَّاج: أي: مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم، فموضع الكاف نصبٌ ب «نَبْلُوهُم».
قال ابن الأنباري: ذلك إشارةٌ إلى ما بعده، يريد: نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان، وينقطع الكلام عند قوله «لا تَأتيهمْ».
الوجه الثاني: قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون: ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّاعاً، ويكون «نَبْلُوهُم» مستأنفاً.
قال أبو بكر: وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً﴾ والتقدير: ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ، أي: لا تأتي مثل ذلك الإتيان.
قوله: «بِمَا كَانُوا» الباءُ سببيةٌ و «ما» مصدريةٌ، أي: نَبْلُوهم بسبب فسقهم، ويضعُفُ أن تكون بمعنى «الذي» لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج.
فقالك وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليوم السَّبْتُ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْلإِ، وترفع مع سائر الأيام فتقول: اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع.
قال شهابُ الدِّين: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع؛ لأنَّه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليومُ الثاني. وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ، قالا: لأنَّ اليوم بمنزلة: الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها: أنه إذا ذُكر «اليوم» مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى.
كأنك قلت: اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية.

فصل


قال المفسِّرُون: وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال: إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا.
359
وقيل: وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم تأخذونها يوم الأحدش، ففعلوا ذلك زماناً، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا، فأحذوا، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم، وبعضهم فعل، ولم ينته، وبعضهم سكت وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٤] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّأهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ، فقسموا القرية بجدارٍ، للمسلمين باب، وللمعتدين بابٌ، ولعنهم داودُ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم شأناً، لعلّ الخمر غلبتهمن فعلوا الجدار، فإذا هم قِرَدَةٌ.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ؛ كالغيبة، ونكاح المحلِّل، وما أشبههما من الحيلِ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذكل اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى.
قوله: ﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾.
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول.
فقيل: كانوا من الفرقة الهالكة؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم: انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾.
فقال النَّاهُونَ ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ أي موعظتنا ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية، قالوا:
﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾.
ومعناه: أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ. «ولَعلَّهُم يتَّقُون» أي: يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال: «ولعلَّكُم تتَّقُونَ».
«مَعْذِرَةً» قرأ العامَّةُ: «مَعْذِرَةٌ» رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر، أي: موعظتنا معذرة.
وقرأ حفصٌ عن عاصم، وزيد بن علي، وعيسى بنُ عمر، وطلحةُ بنُ مصرف: «مَعْذِرَةٌ» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه:
360
أظهرها: أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي: «وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة».
وقال سيبويه: ولو قال رجلٌ لرجلٍ: معذرةً إلى الله وإليك من كذا، لنصب.
الثَّاني: أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها، تقديره: نَعْتَذِرُ مَعْذرةً.
الثالث: ان ينصب انتصابَ المفعول به؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً، والمفردُ الثالث: والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به، ك «قلت خطبة».
وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ.
قال: لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً.
ولكنهم قيل لهم: لِمَ تَعِظُونَ؟
«فَقَالُوا» موعظتنا معذرةً.
والمَعْذِرَةُ: اسمُ مصدر وهو العذر.
وقال الأزهري: إنَّها بمعنى الاعتذارِ، والعذرُ: التَّنصلُ من الذَّنبِ.
قوله: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و «ما» موصولةٌ بمعنى «الذي» أي: فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون.
قال ابنُ عطيَّة: ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر.
قال أبُو حيان: ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان.
قال شهابُ الدِّين: يعني ابنُ عطية بقوله: «الذِّكرُ نفسُهُ» أي: نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال: فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به، وبقوله: «مَا كان فيه الذِّكر» نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل «ما» بمعنى «الذي» قال: إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين.

فصل


النِّسيان يطلق على السَّاهي، والعامد التَّارك لقوله: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي: تركوه عن قصد، ومنه قوله تعالى: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧].

فصل


المعنى: فلمَّا تركوا ما وعظوا به، ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ﴾ أي الذين أقدموا على المعصية.
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة. فقنل عن ابن عبَّاسٍ: أنَّهُ توقَّف فيهم، ونقل
361
عنه: هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت، ولا نقول شيئاً.
وقال الحسنُ: نجت الفرقتانِ، وهلكت العاصية، لأنهم لما قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾ دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ.
فإن قيل: إن ترك الوعظِ معصية، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله: ﴿وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾.
فالجوابُ: هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين.
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال: أسمعُ الله يقول: ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟
قال عكرمةُ: قلت له: جعلني اللَّهُ فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال: نَجتِ السَّاكتةُ، وهذا قول يمان بن رباب، والحسن، وابن زيد.
قوله: «بعذابٍ بئيسٍ». أي: شديد.
قرا نافعٌ، وأبو جعفر، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة، وابن عامر بهمزة ساكنة.
وفيهما أربعة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أنهاكم عن قيل وقال» بالإعراب والحكاية، وكذا قولهم: «مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ»، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك: نِضْوا ونِقْض.
والثاني: أنَّهُ وصف وضع على فعل ك: حِلْف.
الثالث: أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة، فخفَّفَ الهمزة؛ فالتقت ياءان، ثم كسر الياء إتباعاً، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ، فحذفت الياء المكسورة؛ فصار اللَّفظُ «بِيْسٍ» وهو تخريج الكسائيِّ.
362
الرابع: أن أصله بَئِس بوزن «كَتِف» ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة، ثمَّ أبدلت يا ك: بِيرٍ وذِيبٍ.
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً ك: حِلْف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء، وهمزة مفتوحتين، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك: ضَيْغَم، وصَيْرَف، وصَيْقَل، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ.
وقرأ امرؤُ القيسِ: [الرجز]
٢٦٠٢ - كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا... يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا
وقرأ باقي السبعة «بَئِيسٍ» بزنه «رَئِيسٍ» وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ وصفٌ على «فَعِيلٍ» ك: شَدِيدٍ، وهو للمبالغة وأصله فاعل.
والثاني: أنه مصدرٌ وصف به أي: بعذابٍ ذي بأس بَئِيس، ف «بَئِيسٍ» مصدر مثل: النكثير والقدير، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني: [مجزوء الكامل]
٢٦٠٣ - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى... لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء.
وقرأ يعقوبُ القارئ «بَئِسَ» بوزن «شَهِدَ»، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ، وزيد بن علي.
وقرأ نصرُ بنُ عاصم «بَأسَ» بوزن «ضَرَبَ» فعلاً ماضياً.
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار «بَأس» فعلاً ماضياً، وأصله «بَئِس» بكسر الهمزة، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك: شَهْدَ في قوله: [الرجز]
٢٦٠٤ - لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ... وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ، والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع «بَيْسٍ» بفتح الباء، وسكون الياء مثل: كَيْلٍ، وأصله «بَيْئَس» مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك: مَيْت في: مَيِّت.
363
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية «بَيْئٍسٍ» كقراءة أبي بكر عنه، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة، وهذه قد ردَّها النَّاسُ؛ لأن «فَيْعِلاً» بكسر العين في المعتلِّ، كما أن «فَيْعَلاً» بفتحها في الصحيح ك: سَيِّد وضَيْغَم، على أنه قد شذّ «صَيْقِل» بالكسر، و «عَيَّل» بالفتح.
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن «بَأسٍ» بفتح الباء والهمزة وجر السِّين، بزنة «جَبَلٍ».
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بَئِسٍ» مثل كبد وحذر.
قال عبيد الله بن قيس: [المديد]
٢٦٠٥ - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة.
قالوا: قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها. ورويت هذه عن الأعمش أيضاً.
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة، والهمزة مشددة، فعلاً ماضياً، ك «شَمَّرَ»، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك: «رَئِيسٍ»، غلاَّ أنهم كسروا الباء، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو: بِعِير، وشِعِير، وشِهيد، سواء أكان اسماً أم صفة.
وقرأ الحسن والأعمس «بِئْيَسٍ» بياء مكسورة، ثم همزة ساكنة، ثم يا مفتوحة، بزنة «حِذْيَم»، و «عِثْيَر».
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو: بِئْسَ الرجل زيدٌ.
ورُويت عن أبي بكر.
وقرأ الحسن أيضاً كذلك، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة، وتخريجها كالتي قبلها، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ: مررت برجلٍ بِئْسَ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل، أو بئس رجلاً.
قال النَّحَّاس: وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت، أي: ونعمت الخصلة، والتقدير: بِئْسَ العذابُ.
قال شهابُ الدِّينِ: أبو حاتم معذورٌ في القراءة، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ، ومن
364
اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل «نِعْمَتْ» هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام.
قال أبُو حيَّان: فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتَّلخيص: أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ، ورباعَّيتَهُ، فالثُّلاثي اسماً: بِئْسٍ، وَبِيْسٍ، وبَيْسٍ، وبَأْسٍ، وبَأَسٍ، وبَئِسٍ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ، وبَئِسَ، وبَأَسَ، وبَأْسَ، وبَيِسَ.
والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، وبِيْئِسٍ، وبَيْئِسٍ، وبَيِّسٍ، وبَئِيْسٍ، وبِئَيْسٍ، وبِئْيِسٍ، وبِئْيَسٍ، وفعلاً: بَأَّسَ «.
وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة.
قال: وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء، وبَيَس بفتحهما.
قال: وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت، ولم تقلب الياء ألفاً، لأنَّ حركتها عارضةٌ. وبَأْيَسٍ بفتح الباء، وسكون الهمزة وفتح الياء.
قال: وهو بعيد إذ ليس في الكلام»
فَعْيَل «وبَيْآس على فَيْعَال. وهو غريب.
قوله تعالى: ﴿فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ﴾ الآية.
قال ابنُ عباسٍ «أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية»
والعُتو: هو الإباء والعصيان.
فإن قيل: إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه، وليس المراد ذلك.
فالجواب: ليس المراد أنهم أبوا عن النهي، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به.
وقوله: ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾.
قال بعضهم ليس المراد منه القول؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك.
قال: وفيه دلالة على أن قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] هو بمعنى الفعل لا الكلام.
وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع، فيكون أبلغ.
قال ابنُ الخطيب: وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ: أصبح القوم قردةً خاسئين؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس
365
ثمَّ هلكوا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ: أن شباب القوم صاروا قردة، والشُّيُوخ خنازير، وهذا خلاف الظَّاهر.
366
قوله :﴿ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾.
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول.
فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة ؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب ؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ﴾.
فقال النَّاهُونَ ﴿ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ ﴾ أي موعظتنا ﴿ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ ﴾، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية، قالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ. . . مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ ﴾.
ومعناه : أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ. " ولَعلَّهُم يتَّقُون " أي : يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال :" ولعلَّكُم تتَّقُونَ ".
" مَعْذِرَةً " قرأ العامَّةُ :" مَعْذِرَةٌ " رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر، أي : موعظتنا معذرة.
وقرأ حفصٌ عن عاصم، وزيد بن علي١، وعيسى بنُ عمر، وطلحةُ بنُ مصرف :" مَعْذِرَةٌ " نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي :" وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة ".
وقال سيبويه٢ : ولو قال رجلٌ لرجلٍ : معذرةً إلى الله وإليك من كذا، لنصب.
الثَّاني : أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها، تقديره : نَعْتَذِرُ مَعْذرةً.
الثالث : أن ينصب انتصابَ المفعول به ؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً، والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به، ك " قلت خطبة ".
وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ.
قال : لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً.
ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُونَ ؟
" فَقَالُوا " موعظتنا معذرةً.
والمَعْذِرَةُ : اسمُ مصدر وهو العذر.
وقال الأزهري : إنَّها بمعنى الاعتذارِ، والعذرُ : التَّنصلُ من الذَّنبِ.
١ ينظر: السبعة ٢٩٦، والحجة ٤/٩٧، وإعراب القراءات ١/٢١٠-٢١١ وحجة القراءات ٣٠٠، وإتحاف ٢/٦٦..
٢ ينظر: الكتاب لسيبويه ١/١٦١..
قوله :﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و " ما " موصولةٌ بمعنى " الذي " أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون.
قال ابنُ عطيَّة١ : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر.
قال أبُو حيان٢ : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان.
قال شهابُ الدِّين٣ : يعني ابنُ عطية بقوله :" الذِّكرُ نفسُهُ " أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به، وبقوله :" مَا كان فيه الذِّكر " نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر ؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل " ما " بمعنى " الذي " قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئين المتغايرين.

فصل


النِّسيان يطلق على السَّاهي، والعامد التَّارك لقوله :﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي : تركوه عن قصد، ومنه قوله تعالى :﴿ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ].

فصل


المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به، ﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ ﴾ أي الذين أقدموا على المعصية.
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة. فنقل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت، ولا نقول شيئاً.
وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ، وهلكت العاصية٤، لأنهم لما قالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ﴾ دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم ؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظِ.
فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية، والنَّهي عنه أيضاً معصية ؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله :﴿ وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾.
فالجوابُ : هذا غير لازمٍ ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية، ولو قام به البعض سقط عن الباقين.
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول :﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة٥ ؟
قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه وقالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ﴾، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم، فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما ؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ، وهذا قول يمان بن رباب، والحسن، وابن زيد.
قوله :" بعذابٍ بئيسٍ ". أي : شديد.
قرأ نافعٌ، وأبو جعفر، وشيبةٌ بيْسٍ٦ بياء ساكنة، وابن عامر بهمزة ساكنة.
وفيهما أربعة أوجه :
أحدها : أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام :" أنهاكم عن قيل وقال " بالإعراب والحكاية، وكذا قولهم :" مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ "، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك : نِضْو ونِقْض.
والثاني : أنَّهُ وصف وضع على فعل ك : حِلْف.
الثالث : أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة، فخفَّفَ الهمزة ؛ فالتقت ياءان، ثم كسر الياء إتباعاً، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ، فحذفت الياء المكسورة ؛ فصار اللَّفظُ " بِيْسٍ " وهو تخريج الكسائيِّ.
الرابع : أن أصله بَئِس بوزن " كَتِف " ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة، ثمَّ أبدلت ياء ك : بِيرٍ وذِيبٍ.
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً ك : حِلْف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء، وهمزة مفتوحتين، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك : ضَيْغَم، وصَيْرَف، وصَيْقَل، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ.
وقرأ امرؤُ القيسِ :[ الرجز ]
كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا *** يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا٧
وقرأ باقي السبعة " بَئِيسٍ " بزنه " رَئِيسٍ " وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ وصفٌ على " فَعِيلٍ " ك : شَدِيدٍ، وهو للمبالغة وأصله فاعل.
والثاني : أنه مصدرٌ وصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بَئِيس، ف " بَئِيسٍ " مصدر مثل : النكير والقدير، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني :[ مجزوء الكامل ]
حَنَقاً عليَّ ولا أرَى *** لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً٨
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء٩.
وقرأ يعقوبُ القارئ " بَئِسَ " بوزن " شَهِدَ "، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ، وزيد بن علي.
وقرأ نصرُ بنُ عاصم " بَأسَ " بوزن " ضَرَبَ " فعلاً ماضياً.
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار " بَأس " فعلاً ماضياً، وأصله " بَئِس " بكسر الهمزة، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك : شَهْدَ في قوله :[ الرجز ]
لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ١٠ ***. . .
وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ، والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع " بَيْسٍ " بفتح الباء، وسكون الياء مثل : كَيْلٍ، وأصله " بَيْئَس " مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك : مَيْت في : مَيِّت.
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية " بَيْئٍسٍ " كقراءة أبي بكر عنه، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة، وهذه قد ردَّها النَّاسُ ؛ لأن " فَيْعِلاً " بكسر العين في المعتلِّ، كما أن " فَيْعَلاً " بفتحها في الصحيح ك : سَيِّد وضَيْغَم، على أنه قد شذّ " صَيْقِل " بالكسر، و " عَيَّل " بالفتح.
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن " بَأسٍ " بفتح الباء والهمزة وجر السِّين، بزنة " جَبَلٍ ".
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف " بَئِسٍ " مثل كبد وحذر.
قال عبيد الله بن قيس :[ المديد ]
لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي *** خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ١١
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة.
قالوا : قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها. ورويت هذه عن الأعمش أيضاً.
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة، والهمزة مشددة، فعلاً ماضياً، ك " شَمَّرَ "، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك :" رَئِيسٍ "، إلاَّ أنهم كسروا الباء، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعِير، وشِعِير، وشِهيد، سواء أكان اسماً أم صفة.
وقرأ الحسن والأعمش " بِئْيَسٍ " بياء مكسورة، ثم همزة ساكنة، ثم يا مفتوحة، بزنة " حِذْيَم "، و " عِثْيَر ".
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو : بِئْسَ الرجل زيدٌ.
ورُويت عن أبي بكر.
وقرأ الحسن أيضاً كذلك، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة، وتخريجها كالتي قبلها، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ : مررت برجلٍ بِئْسَ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل، أو بئس رجلاً.
قال النَّحَّاس١٢ : وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت، أي : ونعمت الخصلة، والتقدير : بِئْسَ العذابُ.
قال شهابُ الدِّينِ١٣ : أبو حاتم معذورٌ في القراءة، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل " نِعْمَتْ " هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام.
قال أبُو حيَّان١٤ : فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتَّلخيص : أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ، ورباعَّيتَهُ، فالثُّلاثي اسماً : بِئْسٍ، وَبِيْسٍ، وبَيْسٍ، وبَأْسٍ، وبَأَسٍ، وبَئِسٍ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ، وبَئِسَ، وبَأَسَ، وبَأْسَ، وبَيِسَ.
والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ، وبِيْئِسٍ، وبَيْئِسٍ، وبَيِّسٍ، وبَئِيْسٍ، وبِئَيْسٍ، وبِئْيِسٍ، وبِئْيَسٍ، وفعلاً : بَأَّسَ ".
وقد زا أبو البقاء١٥ أربع قراءات أخر : بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة.
قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء، وبَيَس بفتحهما.
قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت، ولم تقلب الياء ألفاً، لأنَّ حركتها عارضةٌ. وبَأْيَسٍ بفتح الباء، وسكون الهمزة وفتح الياء.
قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام " فَعْيَل " وبَيْآس على فَيْعَال. وهو غريب.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٦٩..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٤١٠..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٦٢..
٤ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/٣٣) عن الحسن..
٥ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/٩٥-٩٦) من طريق عكرمة عن ابن عباس..
٦ ينظر في قراءات هذه الكلمة: السبعة ٢٩٧، والحجة ٤/٩٨-١٠٢ وإعراب القراءات ٢/٢١١، وحجة القراءات ٣٠٠، وإتحاف ٢/٦٦-٦٧..
٧ تقدم..
٨ ينظر: الطبري ١٣/٢٠١، البحر المحيط ٤/٤١١، مجاز القرآن ١/٢٣١، جامع البيان ١٣/٢٠١، والدر المصون ٣/٣٦٢ واللسان "حنق"..
٩ ينظر في قراءات هذه الكلمة : السابق، والمحرر الوجيز ٢/٤٦٩، ٤٧٠، والبحر المحيط ٤/٤١٠-٤١١، والدر المصون ٣/٣٦٢-٣٦٤..
١٠ تقدم..
١١ ينظر: الديوان ١٦٠، وجامع البيان ١٣/٢٠١، والبحر المحيط ٤/٤١٠ والخزانة ٨/٤٩٠، والعيني ٤/٣٧٩، والدر المصون ٣/٣٦٣..
١٢ ينظر: إعراب القراءات ١/٦٤٧..
١٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٦٣..
١٤ ينظر: البحر المحيط ٤/٤١١..
١٥ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٨٨..
قوله تعالى :﴿ فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ الآية.
قال ابنُ عباسٍ " أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية١ " والعُتو : هو الإباء والعصيان.
فإن قيل : إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا ؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه، وليس المراد ذلك.
فالجواب : ليس المراد أنهم أبوا عن النهي، بل أبوا عن امتثال ما أمروا به.
وقوله :﴿ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾.
قال بعضهم ليس المراد منه القول ؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك.
قال : وفيه دلالة على أن قوله :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ] هو بمعنى الفعل لا الكلام.
وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع، فيكون أبلغ.
قال ابنُ الخطيب : وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد ؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ : أصبح القوم قردةً خاسئين ؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس ثمَّ هلكوا٢، ونقل عن ابن عبَّاسٍ : أن شباب القوم صاروا قردة، والشُّيُوخ خنازير٣، وهذا خلاف الظَّاهر.
١ تقدم..
٢ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/٣٤) عن ابن عباس..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٠٢) وذكره الرازي في تفسيره (١٥/٣٤)..
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ الآية.
لمَّا شرح قبائح أعمال اليهود ذكر هنا حكمه عليهم بالذل والصَّغارِ إلى يوم القيامة، و «تَأذَّنَ» فيه اوجه، أحدها: أنَّهُ بمعنى: «آذَنَ» أي: أعْلَمَ.
قال الواحديُّ: وأكثر أهل اللغة على أنَّ: «التَّأذَُّ» بمعنى الإيذان، وهو الإعلامُ.
قال الفارسي: «آذَنَ» أعْلَمَ، و «أذَّنَ» نادى وصاح للإعلام، ومنه قوله ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٤].
قال: وبعض العرب يُجْرِي «آذَنْتُ» مجرى «تَأذَّنْتُ» فيجعل «آذَانَ وتَأذَّنَ» بمعنى فإذا كان «أذَّنَ» أعلم في لغة بعضهم، ف «أذَّنَ» تفعَّل من هذا.
وقيل: معناه: حَتَّمَ وأوْجبَ وهو معنى قول مجاهد: أمر ربك، وقول عطاء: حكم ربّك.
وقال الزمخشري: «تأذَّن» عزم ربك، وهو تفعَّل من الإيذانِ وهو الإعلامُ؛ لأنَّ العازمَ على الأمر يُحدِّثُ به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مُجْرَى فعل القسم ك: عَلِمَ الله، وشَهِدَ الله، ولذلك أجيب بما يجابُ به القسم وهو: «لَيَبْعَثَنَّ».
وقال الطبريُّ وغيره «تَأذَّنَ» معناه «أعْلَمَ»، وهو قلقٌ من جهة التصريف، إذ نسبةُ «تأذَّنَ» إلى الفاعل غيرُ نسبة «أعْلَمَ»، وبين ذلك فرقٌ من التعدي وغيره.
وقال ابن عباس: تأذَّنَ ربُّك قال ربُّكَ.
قوله: ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ فيه وجها: أصحهما: أنَّهُ متعلقٌ ب: لِيَبَعْثَنَّ.
والثاني: أنَّهُ متعلقٌ ب: تَأذَّنَ نقله أبو البقاء، ولا جائزٌ أن يتلعق ب: يَسُومُهُمْ؛ لأن «مَنْ» إمَّا موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف.
366

فصل


الضمير في عليهم يقتضي رجوعه إلى الذين: ﴿َتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ﴾ ﴿الأعراف: ١٦٦]، لكنَّهم قد مسخوا، فلم يستمر عليهم التَّكليف؛ فلذلك اختلفوا:
فقيل: المراد نسلهم.
وقيل: المراد سائر اليهود، فإنَّ أهل القرية كانوا فرقتينن فالمتعدِّي مسخ، وألْحَقَ الذُّلَّ بالبقيَّةِ.
وقال الأكثرون: هُمُ اليهُودَ الذين كانُوا في زمن الرسول - صلى عليه الصَّلاة والسَّلامُ -؛ لأن المقصودَ من الية تخويفهم وزجرهم، وهذا العذابُ في الدُّنْيَا، لأنه نص على أنَّ ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة ثمَّ اختلفوا فيه:
فقيل: هو أخذ الجزيةِ.
وقييل: الاستخفافُ والإهانةُ لقوله تعالى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا﴾
[آل عمران: ١١٢] وقيل: القتل والجلاء الذي وقع بأهل خيبر وبين قريظة والنضير.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ اليهود لا دولة لهم ولا عزَّ، ون الذُّلَّ والصغار لا يفارقهم، وقد ورد في الحديث: أن أتباع الدَّجَّالِ هم اليهود فإن صحَّ فمعناه، أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً، ثم دانوا بإلهيته؛ فذكروا بالاسم الأول، ولوا ذلك لكانوا في وقت اتباعهم الدَّجَّال قد خرجوا عن الذلةِ والقهرِ، وهو خلاف الآيةِ.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب﴾ والمراد التَّحذيرُ من عذابه في الآخرة مع الذِّلةِ في الدُّنيا ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن تاب من الكُفْرِ، واليهوديَّةِ، وآمن باللَّهِ وبرسوله.
367
قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً﴾ الآية.
367
هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٧] جملة اليهود، ومعنى «قَطَّعناهُم» أي: فرقناهم في الأرض، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة، وهذا هو الغالبُ.
وقوله: «أمَماً» إمَّا حالٌ من مفعول «قطَّعْنَاهُم»، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ «قطَّع» تضمَّن معنى: صَيَّر. و «مِنْهُمُ الصَّالحُون» صفة ل «أمم».
وقال أبو البقاء: «أو بدل منه، أي: من أمم». يعني: أنَّهُ حالٌ من مفعول: «قطَّعناهُمْ» أي: فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون.
قيل: المرادُ ب «الصَّالحينَ» الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق.
وقال قتادةُ: هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين.
وقال ابنُ عباس ومجاهد: هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم ك: عبد الله بن سلام وغيره. وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾ أي: من أقام على اليهوديِّةِ.
فإن قيل: لم لا يجُوزُ أن يكون قوله: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾ من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ؟
فالجوابُ: أن قوله بعد ذلك: «لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ» يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ.
قوله: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾ «منهم» خبرٌ مقدم، و «دُون ذلك» : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك.
قال الزمخشري: معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح، ونحوه: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]. بمعنى: مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ. يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ، والتفصيل ب «مِنْ» يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم: منَّ ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ. ؟
وقال ابنُ عطيَّة: فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ ف «دُونَ» بمعنى «غير» يُراد به الكفرة.
قال أبُو حيان: إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ «غيراً»، فليس بصحيحٍ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة، فإن أشير به إلى الصلاح؛ فلا بد من حذفِ مضاف، ليصحَّ
368
المعنى، تقديره: ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح، ليعتدلَ التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة، أي: ومنهم دون أولئك الصالحين، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ؛ لاعتدار التقسيم بدونه.
وقال أبو البقاء: دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله:
﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] وفيه نظر من حيث إن «دُونَ» ليس بخبر.
قوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات﴾ أي: عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ، وهي: النِّعمُ والخصبُ، والعافيةُ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب، والشَّدائدُ.
قال أهل المعاني: وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة، أمَّا النعم فللترغيب، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربِّهم.
قوله: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب﴾ الآية.
الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد؟ أي: يُطلقُ منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح، اولمفتوح في الصَّالح؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين.
قال الفرَّاءُ: يُقال للقرنِ «خَلْف» يعني ساكناً ولمن استخلفته: خَلَفاً، يعني: متحرك اللاَّم.
وقال الزجاج: الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ «خَلْفٌ».
وقال ثعلبُ: النَّاسُ كلُّهم يقولون «خَلَفُ صدْقٍ» للصَّالح، و «خَلْفُ سوء» للطَّالح؛ وأنشد: [الكامل]
٢٦٢٦ - خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا
وقال بعضهم: قد يجيء في الرَّديء «خَلَفَ» بالفتح، وفي الجيد «خَلْف» بالسُّكُون،
369
فمن مجيء الأول قوله: [المتقارب]
٢٦٠٨ -......................... إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ
_ _ومن مجيء الثاني قول حسان: [الطويل]
٢٦٠٩ - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ
وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله: [الرجز]
٢٦١٠ - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ
فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء.
ولهذا قال النَّضْرُ: يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح، و «الخَلْف» بالسُّكون فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ مصدر، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث، وعليه ما تقدَّم من قوله:
٢٦١١ - إنَّا وَجَدُنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ... وإمَّا اسم جمع «خالفِ» ك: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.
وإمَّا اسم جمع «خالِف» ك: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.
قاله ابنُ الأنباري: ورَدُّه عليه، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي: فَسَدَ.
يقال: خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث «لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم».
وقوله: «وَرِثُوا» في محل رفع نعتاً ل «خَلْف» ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا.
وقرأ الحسنَ البصري: وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ، ويجوز أن يكون: يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك.
وقوله: عَرَضَ هذَا الأدْنَى.
370
قال أبُو عبيدٍ: جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء.
يقال: «الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ». وأما العَرَْ بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً. والمعنى: حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا، والمرادُ منه: التَّخسيس والتَّحقير، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها. وتقدَّم الكلامُ عليه.
قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه، وسَيُغْفَرُ معموله، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان: أحدهما الجَاُّ بعده وهو «لَنَا» والثاني: أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي: سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى.
قوله: ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ﴾ هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان:
أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
والثاني: أنَّ الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها.
قال الزمخشري: الواو للحال، أي: يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى. وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة: فيجوز مع عدم التوبة، لأنَّ الفاعل مختار.
والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون: العَرَض المقابل للجوهر.
وقال أبو عبيدة: العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين. كما تقدَّم.
قال المفسِّرون: المراد بالكلامِ: الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ.
وقال الحسنُ: هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا، وأنهم «يستمتعون» منها.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب﴾ أي: التَّوراة: ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب، وتغيير الشَّرائع، لأجل أخذ الرشوةِ.
قوله: ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ﴾ فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من «مِيثَاقُ» ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب.
والثاني: أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ.
والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله.
371
قال الزمخشريُّ: وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان: «ألاَّ يقُولُوا» مفعولاً من أجله ومعناه: لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: «من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة»، و «أنْ» على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية.
الرابع: أنَّ «أنْ» مفسرة ل «مِيثَاقُ الكتابِ» ؛ لنَّهُ بمعنى القولِ، و «لا» ناهية، وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال المتقدِّمة «لا» نافية، والفعلُ منصوبٌ ب «أنْ» المصدرية و «الحَقَّ» يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مصدراً، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه.
قوله: «ودَرَسُوا» فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ: وهو كونُه معطوفاً على قوله: «ألَمْ يُؤخَذْ» ؛ لأنَّهُ تقرير.
فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨] معناه: قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ.
والثاني: أنَّهُ معطوف على «وَرِثُوا».
قال أبُو البقاءِ: ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره.
الثالث: أنه على إضمار «قَدْ» والتقدير: وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية، أي: يقولون: سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل: «يَأخُذُوهُ» أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري: أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ.
وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ، والأصلُ: تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢] وقد تقدم.
ثم قال تعالى: ﴿والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أي: من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة «فلا تَعْقِلُونَ». وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.
وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين: أحدهما: أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد.
372
والثاني: أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي: أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للبقاقين.
قوله: «والَّذينَ يُمَسِّكُون» : فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان: أحدهما: الجملة من قوله ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين﴾ وفي الرَّابط حينئذ أقوال:
أحدها: أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ «ألْ» قائمةٌ مقام الضمير، تقديره: أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١] أي: مَأواهُ، وقوله ﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ [ص: ٥٠] أي: أبوابُها، وقوله: ﴿في أَدْنَى الأرض﴾ [الروم: ٣] أي: أرضهم، إلى غير ذلك.
والثاني: أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو: زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو: أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ.
الثالث: أنَّ الرَّابط هو العموم في «المُصْلحينَ» قاله أبُو البقاء.
قال: «وإن شئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير».
قال شهاب الدين: العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر: [الطويل]
٢٦١٢ - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا
ومنه: نعم الرجُ زيدٌ، على أحد الأوجه:
والوجه الثاني - من وجهي الخبر -: أنَّهُ محذوف، تقديره: والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ﴾ جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ. ولا ضرورة تدعو إليه.
الثاني من وجْهَيْ «الذينَ يُمَسِّكُون» : أنَّه محل جر نسقاً على: «الَّذين يَتَّقُونَ» أي: والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ.
إلاَّ انه قال: ويكون قوله: ﴿إنَّا لا نُضيعُ﴾ اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظرٌ؛
373
لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول: ويكون على هذا مستأنفاص.
وقرأ العامَّةُ «يُمَسِّكُونَ» بالتشديد مِنْ «مَسَّك» بمعنى «تَمَسَّكَ» حكاه أهلُ التصريف أي: إنَّ: «فَعَّلَ» بمعنى «تفَعَّل»، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في «تَمَسَّكْتُ بالحبل».
يقال: مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية «يُمْسِكُونَ» بسكون الميم وتخفيف السين من «أمْسَكَ» وهما لغتان يقال: مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ.
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله: [البسيط]
٢٦١٣ - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ
ولكن «أمْسَك» مُتعدٍّ.
قال تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء﴾ [الحج: ٦٥] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره: يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ، أي: لأوامره ونواهيه.
وحجة عاصم قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، وقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٤].
قال الواحديُّ: والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال: أمسكته، وقَلَّمَا يقال: أمسكت به.
وقرأ عبد الله والأعمش: «اسْتَمْسَكُوا»، وأبي: «تَمَسَّكُوا» على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى: ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى.

فصل


أراد والذين يعملون بما في الكتاب.
قال مجاهدٌ: هم المؤمنون من أهل الكتاب ك: عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مكلةً.
وقال عطاء: أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
374
﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ أي: لا نضيع أجرهم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠].
فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ: أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.
375
قوله :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب ﴾ الآية.
الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد ؟ أي : يُطلقُ منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح، والمفتوح في الصَّالح ؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين.
قال الفرَّاءُ : يُقال للقرنِ " خَلْف " يعني ساكناً ولمن استخلفته : خَلَفاً، يعني : متحرك اللاَّم.
وقال الزجاج : الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك ؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ " خَلْفٌ ".
وقال ثعلبُ : النَّاسُ كلُّهم يقولون " خَلَفُ صدْقٍ " للصَّالح، و " خَلْفُ سوء " للطَّالح ؛ وأنشد :[ الكامل ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب١
وقالوا في المثل : سكت ألفا ونطق خلفا ويعزى هذا إلى الفراء، وأنشد :[ المنسرح ]
خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا *** لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا٢
وقال بعضهم : قد يجيء في الرَّديء " خَلَفَ " بالفتح، وفي الجيد " خَلْف " بالسُّكُون، فمن مجيء الأول قوله :[ المتقارب ]
. . . *** إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ٣
ومن مجيء الثاني قول حسان :[ الطويل ]
لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا *** لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ٤
وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله :[ الرجز ]
إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ *** عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ٥
فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء.
ولهذا قال النَّضْرُ : يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح، و " الخَلْف " بالسُّكون فيه وجهان، أحدهما : أنَّهُ مصدر، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث، وعليه ما تقدَّم من قوله :
إنَّا وَجَدُنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ٦***. . .
وإمَّا اسم جمع " خالفِ " ك : رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.
قاله ابنُ الأنباري : ورَدُّوه عليه، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي : فَسَدَ.
يقال : خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث " لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم " ٧.
وقوله :" وَرِثُوا " في محل رفع نعتاً ل " خَلْف " ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا.
وقرأ الحسنَ البصري : وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ، ويجوز أن يكون : يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك.
وقوله : عَرَضَ هذَا الأدْنَى.
قال أبُو عبيدٍ : جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء.
يقال :" الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ ". وأما العَرَْض بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً. والمعنى : حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا، والمرادُ منه : التَّخسيس والتَّحقير، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب ؛ لأنَّهُ عاجل قريب، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها. وتقدَّم الكلامُ عليه.
قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه، وسَيُغْفَرُ معموله، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان : أحدهما الجَار بعده وهو " لَنَا " والثاني : أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي : سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى.
قوله :﴿ وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ ﴾ هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
والثاني : أنَّ الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها.
قال الزمخشري٨ : الواو للحال، أي : يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى. وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة : فيجوز مع عدم التوبة، لأنَّ الفاعل مختار.
والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون : العَرَض المقابل للجوهر.
وقال أبو عبيدة : العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين. كما تقدَّم.
قال المفسِّرون : المراد بالكلامِ : الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ.
وقال الحسنُ : هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا، وأنهم " يستمتعون٩ " منها١٠.
ثم قال تعالى :﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب ﴾ أي : التَّوراة :﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق ﴾ والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب، وتغيير الشَّرائع، لأجل أخذ الرشوةِ.
قوله :﴿ أَن لاَّ يِقُولُواْ ﴾ فيه أربعةُ أوجه : أحدها : أنَّ محله رفع على البدل من " مِيثَاقُ " ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب.
والثاني : أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ.
والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله.
قال الزمخشريُّ : وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان :" ألاَّ يقُولُوا " مفعولاً من أجله ومعناه : لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة :" من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة "، و " أنْ " على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية.
الرابع : أنَّ " أنْ " مفسرة ل " مِيثَاقُ الكتابِ " ؛ لأنَّهُ بمعنى القولِ، و " لا " ناهية، وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال المتقدِّمة " لا " نافية، والفعلُ منصوبٌ ب " أنْ " المصدرية و " الحَقَّ " يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مصدراً، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه.
قوله :" ودَرَسُوا " فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ : وهو كونُه معطوفاً على قوله :" ألَمْ يُؤخَذْ " ؛ لأنَّهُ تقرير.
فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨ ] معناه : قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ.
والثاني : أنَّهُ معطوف على " وَرِثُوا ".
قال أبُو البقاءِ : ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره.
الثالث : أنه على إضمار " قَدْ " والتقدير : وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية، أي : يقولون : سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل :" يَأخُذُوهُ " أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري١١ : أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ.
وقرأ علي١٢ - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ، والأصلُ : تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف ﴿ فادارأتم فِيهَا ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] وقد تقدم.
ثم قال تعالى :﴿ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ أي : من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة " فلا تَعْقِلُونَ ". وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.
وقرأ ابنُ عامرٍ١٣ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد.
والثاني : أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي : أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للباقين.
١ البيت للبيد، ينظر: الديوان ١٥٧، التهذيب ٧/٣٩٤، اللسان "خلف" والكامل ٤/٣٣، وجامع البيان ١٣/٢١٠، والتفسير الكبير ١٥/٤٣، والبحر المحيط ٤/٤١٣، والألوسي ٩/٩٦، والدر المصون ٣/٣٦٥..
٢ البحر ٤/٤١٣، الدر المصون ٣/٣٦٥، النكت والعيون ٢/٦٧..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٦٦، والمحرر الوجيز ٢/١٩٥..
٤ ينظر: ديوانه ٢٤١، الطبري ١٣/٢٠٩، البحر ٤/٤١٣، الدر اللقيط ٤/٤١٥، الدر المصون ٣/٤٦٦..
٥ ينظر: البحر ٤/٤١٤، القرطبي ٧/٣١١، اللسان: حفف، الدر المصون ٣/٣٦٦..
٦ تقدم..
٧ أخرجه البخاري (٤/١٢٥) كتاب الصوم: باب فضل الصوم حديث ١٨٩٤ ومسلم ٢/٨٠٦ كتاب الصيام: باب فضل الصيام حديث ١٦١/١١٥١ من حديث أبي هريرة..
٨ ينظر: الكشاف ٢/١٧٤..
٩ في ب: لا يشبعون..
١٠ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/٣٧)..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٧٢، والدر المصون ٣/٣٦٧..
١٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٧٣، والبحر المحيط ٤/٤١٥، والدر المصون ٣/٣٦٧..
١٣ ينظر: حجة القراءات ٣٠١، والمحرر الوجيز ٢/٤٧٣، والبحر المحيط ٤/٤١٥، والدر المصون ٣/٣٦٧..
قوله :" والَّذينَ يُمَسِّكُون " : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله ﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين ﴾ وفي الرَّابط حينئذ أقوال :
أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير : المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ " ألْ " قائمةٌ مقام الضمير، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ ؛ كقوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ] أي : مَأواهُ، وقوله ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب ﴾ [ ص : ٥٠ ] أي : أبوابُها، وقوله :﴿ في أَدْنَى الأرض ﴾ [ الروم : ٣ ] أي : أرضهم، إلى غير ذلك.
والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو : زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ.
الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في " المُصْلحينَ " قاله أبُو البقاء.
قال :" وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير ".
قال شهاب الدين١ : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة ؛ وعليه قول الشاعر :[ الطويل ]
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ سَبِيلٌ ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا٢
ومنه : نعم الرجُل زيدٌ، على أحد الأوجه :
والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف، تقديره : والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ ﴾ جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ. ولا ضرورة تدعو إليه.
الثاني من وجْهَيْ " الذينَ يُمَسِّكُون " : أنَّه محل جر نسقاً على :" الَّذين يَتَّقُونَ " أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ.
إلاَّ أنه قال : ويكون قوله :﴿ إنَّا لا نُضيعُ ﴾ اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفا.
وقرأ العامَّةُ " يُمَسِّكُونَ " بالتشديد مِنْ " مَسَّك " بمعنى " تَمَسَّكَ " حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ :" فَعَّلَ " بمعنى " تفَعَّل "، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في " تَمَسَّكْتُ بالحبل ".
يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به.
وقرأ أبو بكر عن عاصم٣، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية " يُمْسِكُونَ " بسكون الميم وتخفيف السين من " أمْسَكَ " وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ.
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله :[ البسيط ]
ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ٤
ولكن " أمْسَك " مُتعدٍّ.
قال تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السماء ﴾ [ الحج : ٦٥ ] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم بالكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي : مصاحبين للكتابِ، أي : لأوامره ونواهيه.
وحجة عاصم قوله تعالى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ]، وقوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]، وقوله :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ [ المائدة : ٤ ].
قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى ؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وههنا أريد به الكثرة ؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به.
وقرأ عبد الله٥ والأعمش :" اسْتَمْسَكُوا "، وأبي٦ :" تَمَسَّكُوا " على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى :﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلاَّ في المعنى.

فصل


أراد والذين يعملون بما في الكتاب.
قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلةً٧.
وقال عطاء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين ﴾ أي : لا نضيع٨ أجرهم، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٣٠ ].
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر ؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.
١ ينظر: الدر المصون ٣/٣٦٨..
٢ البيت لابن ميادة ينظر الكتاب ١/٣٨٦، أوضح المسالك ١/٩٧، أمالي ابن الشجري ١/٢٨٦، الهمع ١/٩٨، الدرر ١/٧٤، المغني ٢/٥٠١، العيني ١/٥٢٣، الدر المصون ٣/٣٦٨..
٣ ينظر: السبعة ٢٩٧، والحجة ٤/١٠٢-١٠٣، وإعراب القراءات ١/٢١٤، وحجة القراءات ٣٠١..
٤ ينظر الديوان ١٣، إعراب النحاس ٢/١٦١، الجامع لأحكام القرآن ٧/٣١٣، البحر ٤/٤١٦، الدر المصون ٣/٣٦٨..
٥ ينظر: الكشاف ٢/١٧٥، والمحرر الوجيز ٢/٤٧٣، والبحر المحيط ٤/٤١٦، والدر المصون ٣/٣٦٨..
٦ ينظر: البحر المحيط ٤/٤١٦، والدر المصون ٣/٣٦٨..
٧ تقدم..
٨ تقدم..
قوله تعالى: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل﴾ الآية.
قال أبو عبيدة: النَّتْقُ: قلعُ الشيء من موضعه، والرَّمْيُ به، ومنه: نَتَقَ ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتِقٌ، ومِنْتَاقٌ: إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: «عليْكُمْ بزواج الأبْكارِ، فإنَّهُنَّ أطْيَبُ أفواهاً، وأنْتَقُ أرْحاماً، وأرضى باليسَيرِ».
وقيل: النتَّق: الجَذْبُ بشدة. ومنه: نتقْتُ السِّقَاءِ إذا جذبْتَهُ لتقتلعَ الزُّبدْةَ من فم القرية.
قال الفرَّاءُ: «هو الرفعُ» وقال ابن قتيبة: الزَّعْزَعَةُ، وبه فَسَّرَهُ مجاهد.
وقال النَّابغة: [الكامل]
٢٦١٤ - لَمْ يُحْرَمُوا حُسنَ الغذَاءِ وأمَّهُمْ طَفَحَتْ عليْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ
وكلُّها معانٍ متقاربة.
قوله: «فَوقَهُمْ» فيه وجهان:
أحدهما: هو متعلِّقٌ بمحذوف، على أنَّه حال من الجَبَل وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ حالةَ النَّتْق لم تكن فوقهم، لكن بالنَّتْق صار فوقهم.
والثاني: أنه ظرفٌ ل: نَتَقْنَا قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ.
قال أبو حيان: ولا يمكن ذلك، إلاَّ أن يُضَمَّن معنى فِعْلِ يمكن أن يعمل في فَوقَهُمْأي: رفعنا بالنَّتْقِ الجبل فوقهم، فيكون كقوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور﴾ [النساء: ١٥٤]. فعلى هذا يكون فَوقَهُمْ منصوباً ب «نتق» لا بمعنى رفع.
قوله: «كأنَّهُ ظُلَّةٌ» في محل نصبٍ على الحالِ من «الجَبَل» أيضاً فتتعدَّد الحال.
وقال مكيٌّ: هي خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كأنه ظُلَّة وفيه بُعد. والظُّلَّة: كل ما أظلك. قال عطاءٌ: سقيفة.
375
قوله وَظَنُّوا فيه أوجه:
أحدها: أنَّهُ في محل جرٍّ نسقاً على نَتَقْنَا المخفوض بالظَّرف تقديراً.
والثاني: أنه حال و «قد» مقدرةٌ عند بعضهم، وصاحبُ الحالِ إمَّا: الجبل أي: كأنَّهُ ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعه بهم، ويضعف أن يكون صاحبُ الحال: هُمْ في: فَوْقَهُمْ.
الثالث: أنه مستأنف، فلا محلَّ له، والظنُّ هنا على بابه.
قال أهل المعاني: قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين.
قال المفسِّرُون: علموا وأيقنوا أنَّهُ واقع بهم والباء على بابها أيضاً.
قيل: ويجوز أن تكون بمعنى «على».
قوله: ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ أي:
وقلنا لهم خذوا ما أتيناكم بقوة بجد واجتهاد.
روي أنهم لمَّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ.
وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم، فلمَّا نظروا إلى الجبل خَرَّ كل واحد منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من صوطه، فلذلك لا ترى يهوديّاً سجد إلا على جانبه الأيسر، ويقولون: هي السَّجدة التي رفعت نَّ بها العقوبة.
قوله واذكُرُوا العامَّةُ على التخفيف أمْراً من: ذَكَرَ يَذْكُرَ: والأعمش واذَّكَرُوا بتشديد الذال من الأذّكار، والأصل: اذتكرُوا، والاذتكار، تقدم تصريفه.
وقرأ ابن مسعود تذكَّرُوا من: «تذكَّر» بتشديد الكاف.
وقرىء وتذَّكَّرُوا بتشديد الذال والكاف والأصل: ولتتذكَّرُوا فأدغمت التاء في الذال، وحُذِفِتْ لامُ الجزم كقوله: [الوافر]
٢٦١٥ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ.............................

فصل


قال ابنُ عبَّاس وغيره: لمَّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل، وفيها التوراة أمرهم بقبولها، والأخذ بها بوة.
376
فقالوا: انشرها علينا، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها.
فقال: بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً، فأمر اللَّهُ الملائكة، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنَّهُ ظُلَّةٌ أي: غمامة فوق رءوسهم.
وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلاَّ سقط هذا الجبلُ عليكم؛ فقبلوها، وأمروا بالسُّجود؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهودِ إلى اليوم.
ويقولون: لا سَجْدَةَ أعظم من سجدةٍ رفعت عنا العذاب.
377
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ﴾ الآية.
قال المفسِّرون: روى مسلم بنُ يسار الجهني أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سُئِلَ عن هذه الآية، فقال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُسألُ عنها، فقال: إنَّ الله تعالى خلق آدَم ثُمَّ مَسحَ ظهرَهُ؛ فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَةً فقال: خَلقْتُ هؤلاء للجنَّةِ وبعمل أهْلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ
ظهرَهُ واستَخرَجَ منه ذرِّيَّةً، فقال: هؤلاء للنَّارِ وبعمل أهلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ.
فقال رجل: يا رسول الله: ففيم العمل؟
فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:»
إنَّ اللَّه بتارَكَ وتعَالَى إذا خَلقَ العبْدَ للجنَّةِ استعملَهُ بعملِ أهْلِ الجنَّةِ حتَّى يمُوتَ على عملٍ مِنْ أعْمالِ أهْلِ الجنَّةِ فيدخله الله الجنَّة، وإذا خلق اللَّهُ العبدَ للنَّارِ استعملهُ بعملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى يمُوتَ على عملِ أهلِ النَّارِ، فيدخلهُ اللَّهُ النَّار «وهذا حديثٌ حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلاً.
377
وقال مقاتل وغيره: إنَّ الله مسحَ صفحةَ ظهر آدمَ اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذَّرِّ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك. ثم قال لهم ألسْتُ بربكُمْ قالُوا بلى. فقال للبيض هؤلاء للجنَّة برحمتي، وهم أصحاب اليمين. وقال للسود هؤلاء للنَّار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشِّمالِ، ثمَّ أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهلُ القبورِ محبوسون حتَّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلابِ الرجالِ، وأرحام النِّساءِ.
قال تعالى يمن نقض العهد: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢] الآية. وإلى هذا القول ذهب سعيدُ بنُ المسيب، وسعيد بن جبير، والضَّحَّاكُ، وعكرمة والكلبي.
وقال بعض أهل التفسير: إن أهل السَّعادَةِ أقَّرُّوا طوعاً وقالوا» بَلَى «، وأهل الشقاوة قالُوه تقيةً وكرهاً. وذلك معنى قوله: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [آل عمران: ٨٣].
واختلفوا في موضع الميقاق.
قال ابن عباس: ببطن نعمان، وهو وادٍ إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدَهْنا في أرض الهندِ، وهو الموضعُ الذي هبط آدم عليه.
وقال الكلبيُّ: بين مكة والطائف.
وروى السُّدي: أن الله أخرجهم جميعاً، وصورهم وجعل لهم عقولاً يعلمون بها، وألسناً ينطقون بها، ثمَّ كلمهم قبلاً أي: عياناً، وقال»
ألسْتُ بِرِبِّكُمْ «؟.
وقال الزَّجَّاجُ: وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فَهْماً تعقل به كما قال تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨].
قال القرطبيُّ: قال ابنُ العربيُّ: فإن قيل: فكيف يجوز أن يُعذِّبَ الله الخلق قبل أن يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم؟
قلنا: ومن أيْنَ يمتنع ذلك، عقلاً أو شرعاً؟
378
فإن قيل: إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك.
قلنا: لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى، والخلقُ بأجمعهم له، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك.
وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه:
الأول: قالوا إن قوله: ﴿مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] ف «مِنْ ظُهُورهمْ» بدلٌ من قوله «بَنِي آدمَ» فيكون المعنى: وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ، وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً.
الثاني: لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال: «مِنْ ظُهورِهمْ» بل قال: من ظهره؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: «ذُريَّتَهُمْ» ولو كان المرادُ آدم لقال: ذُرّيته.
الثالث: أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ [الأعراف: ١٧٣] وهذا لا يليق بأولاد آدم؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً.
الرابع: أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلاَّ من العاقِلِ، ولو كان أولئك الذر عقلاء، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً.
وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال: إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال: إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال.
الخامس: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلاَّ إذا
379
حصلت له بنية وحمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجودِ من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنَّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
السادس: قالوا باطلٌ لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من المثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا، لأنهم لمَّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان.
السابع: قال الكعبيُّ: إن حال أولئك الذّر لا يكونُ أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، فلمَّا لم يمكن توجيه التَّكاليف على الطِّفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرِّ؟
وأجاب الزَّجَّاج عنه بما تقدَّم من تشبيهه بقصة النَّملة، وأيضاً لا يبعدُ أن يعطي اللَّهُ الجبل الفهم حتى يسبح، كما قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] وكما أعطى اللَّهُ العقل للبعير حتَّى سجد للرَّسُول، وللنَّخْلَةِ حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هَهُنَا.
الثامن: أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكون كاملي العقول أم لا، فإن كان الأوَّلُ كانوا مكلفين لا محالة، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدُّنْيَا، فلو افتقر التكليف في الدُّنيا إلى سبق ذلك الميثاق؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولم التَّسلسل وهو محال.
وإن قيل: إنَّهُمْ ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت، فيمتنع توجيه الخطاب والتَّكليف عليهم.
التاسع: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٥ - ٦] ولو كانت تلك الذَّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدَّافق، ولا معنى للإنسان إلاَّ ذلك الشيء فحينئذٍ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدَّافق وذلك رد لنصِّ القرآن.
فإن قالوا: لِمَ لا يجُوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياةِ؟
قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة، وأجمع المسلمون على أنَّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ، فبطل ما ذكرتموه.
380
العاشر: أن تلك الذَّرات إمَّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول.
فنقولُ: إمَّا أن يُقالَ إنَّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك، والأوَّلُ باطلٌ ببديهة العقل.
والثاني: يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات: وقت الميثاق، وفي الدُّنْيَا، وفي القبر، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات: بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين﴾ [غافر: ١١].
الحادي عشر: لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة، والمضغة، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ، والعلقة. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] الآيات.
وقوله: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: ١٧ - ١٩] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول.
وقال أربابُ المعقولات: إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته، وغرائب صنعته، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
وقال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١].
قول العرب: قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي.
وقال الشاعر: [الرجز]
٢٦١٧ - امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة، وليس منافياً لصحة القول الأول.
381

فصل


قال القرطبيُّ: استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول.
قوله «مِنْ ظُهُورهِمْ» بدل من قوله: «مِن بَنِي آدَمَ» بإعادةِ الجارِّ، كقوله: ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣] ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل؟ قولان:
الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك: ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ، و «ذُرِّيَتَهُمْ» مفعول به.
وقرأ الكوفيون وابن كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد، والباقون «ذُرِّيَّاتهم» بالجمع.
قال أبو حيان: ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ «أخذ» محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير «ظُهُورِهِمْ» كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ١٥٤].
قال: وتقديرُ الكلامِ: وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ.
وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس، وناف وافقهم في أول الطور، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين.
قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ: ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب «أخذ» وهو على حذف مضاف، أي: ميثق ذريتهم. يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ؛ لأنَّ من قرأ: «ذُرِّيَّتَهُمْ» بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ.
قال الواحديُّ: الذرية تقع على الواحِدِ والجمع، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد، كقوله: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ [يوسف: ٣١] وعلى الجمع، كقوله: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: ٦] ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ [إبراهيم: ١٠] فكما لم يجمع «بشر» جمع تصحيح، ولا تكسير كذلك لا يجمع «الذريَّة».
382
ومن جمع قال: إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعاً فجمعه حسن، لأنَّ الجموع المكسرة قد معت نحو: الطرقات والجدرات.
قوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ﴾.
أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها، وأمَّا من أنكره، قال: إنَّهَا محمولة على التَّمثيل، أي: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا.
قوله: «بَلَى» جواب: «ألَسْتُ».
قال ابنُ عبَّاس: لو قالوا «نَعَمْ» لكفروا، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب «نعم» كان تصديقاً له، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم، هكذا ينقلونه عن ابن عباس.
وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب «بَلَى» وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر، كقوله: [الوافر]
٢٦١٨ - ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَأنِي
نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي
فأجاب قوله ألَيْسَ ب «نَعَمْ»، مراعاةً للمعنى؛ لأنه إيجاب.
قوله شَهِدْنضا هذا من كلامِ اللَّهِ تعالى، وقيل: من كلام الملائكة، لأنهم لمَّا قالوا بَلَى، قال الله للملائكة: اشهدوا فقال: شهدنا، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: «قالوا بَلَى» لأن كلامَ الذرية قد انقطع ههنا.
وقوله: «أنْ تقُولُوا» أي: لئلا تقولوا ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ تقريره: أنَّ الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرارِ؛ يقولوا ما أقررنا، فأسقط كلمة «لِئَلاَّ» كقوله ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]، أي: لئلاَّ تميد بكم. قاله الكوفيون، وعند البصريين تقديره: شَهِدْنَا كراهة أن تقولوا.
وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة.
وقيل: من كلام الذُّريَّةِ، وعلى هذا فقوله: ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ تقديره: وأشهدهم على نفسهم بكذا وكذا لئلاَّ يقولوا يوم القيامة: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ أو كراهية أن يقولوا ذلك.
383
قال الواحديُّ: وعلى هذا لا يحسن الوقفُ على قوله: بَلَى ولا يتعلَّقُ أن تقوُلُوا ب «شَهِدْنَا» ولكن بقوله: «وأشهدَهُمْ» فلم يجز قطعه عنه.
قوله «أنْ تقُولُوا» مفعولٌ من أجله، والعامِلُ فيه إمَّا شَهِدْنَا أي: شهدنا كراهة أن تقولوا. هذا تأويل البصريين، وأما الكوفيون: فقاعدتهم تقدير «لا» النافية، أي: لئلاَّ تقولوا: كقوله ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥].
كما تقدم.
وقول القطامي: [الوافر]
٢٦١٩ - رَأيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا
أي: أن لا تُباع، وأما: «وأشهدَهُمْ» أي: وأشهدهم لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا، وقد تقدم أن الواحدي قد قالك إنّ شَهِدْنا إذا كان من قول الذُّريَّةِ يتعيَّنُ أن يتعلَّق أن تقولوا ب «أشْهَدَهُمْ» كأنَّه رأى أن التركيب يصير: شَهِدْنَا أن تقولوا، سواءً قرىء بالغيبة أو الخطاب، والشَّاهدُون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعضُ الذرية قال شهدنا أان يقول البعضُ الآخر كذلك.
وذكر الجرجانيُّ عن بعضهم وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ إلى قوله «قَالُوا بَلَى» تمام قصة الميثاق، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبراً آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيمة، فقال: «شَهِدْنَا» بمعنى: نشهد؛ كقوله الحطيئة: [الكامل]
٢٦٢٠ - شَهِدَ الحُطَيئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ.............................
أي: يشهد، فيكون تأويله: يَشْهَدُ أن يقولوا.
وقرأ أبو عمرو: «يَقُولُوا» في الموضعين بالغيبةِ، جرياًعلى الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا: إنّ شَهِدْنَا مُسْنَدٌ لضمير الله تعالى.
وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق أن يقولوا ب «أشهدهم»، ويكون قالوا شِهِدْنَا معترضاً بين الفعل وعلَّته، والخطابُ على الالتفات، فتكون الضَّمائر لشيء واحد.
فإن قيل: كيف يلزم الحجة وأحدٌ لا يذكر الميثاقَ؟
فالجوابُ: أن الله تعالى قد أوضح الدَّلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما
384
أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
قوله: ﴿أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾.
قال المفسرون: المعنى أنَّ المقصود من هذا الإِهاد ألاَّ يقول الكفار إنما أشركنا لأنَّ آباءنا أشركوا فقلَّدناهم فكان الذَّنب لآبائنان فكيف تعذبنا على هذا الشرك، وهو المراد من قوله ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ والحاصل: أنه تعالى لمَّا أخذ عليهم الميثاق، امتنع عليهم التسمك بهذا العذر، وأمَّا الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل، قالوا: معنى الآية: إنَّ نصبنا الدلائل وأظهرنا للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ ما نبَّهنا عليه مُنبِّهٌ، أو كراهة أنْ يقولوا: إنَّما أشركنا على سبيل التَّقليد لأسلافنا؛ لأنَّ نصب الأدلَّةِ على التَّوحيد قائمٌ مقام منعهم.
ثم قال: ﴿وكذلك نُفَصِّلُ الآيات﴾ أي: أن مثل ما فصَّلنا وبينَّا في هذه الآية بين سائر الآيات ليتدبَّرُوا فيرجعوا إلى الحقّ.
وقرأ فرقة يُفَصِّل بياء الغيبة، وهو الله تعالى.
385
قوله :﴿ أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ﴾.
قال المفسرون : المعنى أنَّ المقصود من هذا الإِشهاد ألاَّ يقول الكفار إنما أشركنا لأنَّ آباءنا أشركوا فقلَّدناهم فكان الذَّنب لآبائنا، فكيف تعذبنا على هذا الشرك، وهو المراد من قوله ﴿ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون ﴾ والحاصل : أنه تعالى لمَّا أخذ عليهم الميثاق، امتنع عليهم التسمك بهذا العذر، وأمَّا الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل، قالوا : معنى الآية : إنَّ نصبنا الدلائل وأظهرنا للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة :﴿ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ ﴾ ما نبَّهنا عليه مُنبِّهٌ، أو كراهة أنْ يقولوا : إنَّما أشركنا على سبيل التَّقليد لأسلافنا ؛ لأنَّ نصب الأدلَّةِ على التَّوحيد قائمٌ مقام منعهم.
ثم قال :﴿ وكذلك نُفَصِّلُ الآيات ﴾ أي : أن مثل ما فصَّلنا وبينَّا في هذه الآية بين سائر الآيات ليتدبَّرُوا فيرجعوا إلى الحقّ.
وقرأ فرقة يُفَصِّل١ بياء الغيبة، وهو الله تعالى.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٧٦، والبحر المحيط ٤/٤٢٠، والدر المصون ٣/٣٧٢..
قوله تعالى: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ الآية.
قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود: نزلت هذه الآيةُ في «بلعم بن باعوراء».
وقال مجاهدٌ: بَلعَامُ ابن باعر.
وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاس: كان من بني إسرائيل.
385
وروي عن ابن أبي طلحة: أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين.
قال مقاتل: هو من مدينة البَلْقَاءِ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه، قصد بلده، وغزا أهله وكانوا كفاراً، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه، فقال موسى: يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ؟
فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت من صدره حمامة بيضاء.
وقيل: إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله، دعا عليه موسى، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان، فصار كافراً وهذا بعيدٌ؛ لقوله تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة، ومن كانت هذه حالهُ، كيف يليق به الكفر؟
وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو، فلمَّا أرسل الله تعالى، محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام -، حسدهُ، ثم مات كافراً، وكان قد قصد بعض الملوك، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر، فسأل عنهم، فقيل له: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه، فلما مات أمية، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألها عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقدٌ، أتاه اثنانِ، فكشفنا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكى؟ قال: أبَى، فسألته عن ذلك فقال: خيرٌ أريد بي؛ فصرف عني ثم غشي عليه، فلما أفاق قال: [الخفيف]
٢٦٢١ - كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ
إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاً
ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنشديني شعر أخيك، فأنشدته بعض قصائده.
386
فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: آمن شعره وكفر قلبه»
وأنزل اللَّه فيه هذه الآية.
وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة، فقال لها: لَكِ منها واحدةٌ، فما تريدين؟ قالت: ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها؛ فجلعت أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة]، فصار النَّاس يعيروننا بها، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها.
وقيل: نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتَّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمات هناك طريداً وحيداً.
وقال الحسنُ، وابن كيسان، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يعرفون أبناءهم.
وقال عكرمةُ، وقادة، وأبو مسلم: هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه.
وقوله: «فانسَلَخَ مِنْهَا».
قال ابن عباس: «آتيْنَاهُ آياتِنَا» أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ «فانسَلَخَ مِنْهَا» أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها.
قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشيطان﴾ الجمهور على أتبعَهُ رباعياً، وفيه وجهان: أحدهما: أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو بمالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشياطين. ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من «تَبع»، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره: أتبعه الشيطان خطواتِهِ، أي: جعله تابعاً لها، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى: ﴿واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: ٢١].
وقرأ الحسنُ وطلحةُ بخلاف عنه: فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء، فهل «تبعه» واتبعَهُ بمعنى أو بينهم فرق؟
387
قيل بكل منهما، وأبدى بعضهم الفرق بأن «تَبِعه» مشى في أُره، و «اتَّبعَهُ» إذا وازَاهُ في المشي.
وقيل: «اتَّبعه» بمعنى: استتبعه.
ومعنى الآية: أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له.
وقال عبد الله بن مسلم: «فأتبعه الشيطان». أي: أدركه.
ويقال: تبعت القوم، إذا لحقتهم.
قال أبو عبيد: يقال: أتبعت القوم مثل: أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله ﴿فَكَانَ مِنَ الغاوين﴾ أي: أطاع الشيطان فكان من الضالين.
قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ الضمير في: رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، أي: رفعناه درجة بتلك الآيات.
قال ابن عباس: لرفعناه بعمله.
وقيل: المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق، والمجرور على الآيات، أي: لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات.
قال مجاهد وعطاء.
وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على «الذي» والمراد بالرفع: الأخذُ، كما تقول: رُفِعَ الظَّالمُ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي: لأهلكناه بسبب المعصية.
وهذه أقوال بعيدة، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ.
قوله ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ﴾ «أخْلَدَ» أي: ترامى بنفسه. أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها.
قال أهل العربيَّةِ: أصله من الإخلاد، وهو الدوامُ واللُّزوم، فالمعنى: لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ: [الطويل]
٢٦٢٢ - بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا
ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.
388
قال ابنُ عبَّاس: يريد مال إلى الدُّنيا.
وقال مقاتل: رَضِيَ بالدُّنيا.
وقال الزجاج: ركن إلى الدُّنيا.
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا «الأرض» في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض.
وقوله: «وَاتَّبَعَ هَوَاهُ» أي: أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى، وهذه أشد آية على العلماء؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدَّعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، واتَّبع الهوى، كان بعدهُ عن الله أعظمَ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً»
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام «مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ»
قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: لاهثاً في الحالتين.
قال بعضهم: وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال.
فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط. على الحالِ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال.
نعم قد أوقعو الشَّرطيَّة موقع الجحال، ولكن بعد أن أخروجُها عن حقيقة الشرط.
389
وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما ينقاضها، أو لم يُعْطف، فالأوَّلُ: يستمرُّ فيه تركُ الواو، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله:
﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦ - يس: ١٠].
والثاني: لا بدَّ فيه من الواو نحو: أتَيْتُكَ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل: أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس، إذا عُرِفَ هذا فقوله: ﴿إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه، والتَّرك نقيضان.
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ «أكْلُبٍ»، وفي الكثرةِ على «كلاتٍ»، وشذُّوا فجمعوا «أكْلُباً» على «أكَالِب»، و «كِلاباً» على «كِلابَاتٍ»، وأمَّا «كَلِيبٌ» فاسم جمعٍ؛ ك «فريق»، لا جمع، قال طرفة: [الطويل]
٢٦٢٣ - تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ
وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة.
ويقال: لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع «لَهَثَاً»، و «لُهْثاً» بفتح اللام وضمها، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا، أو عطش، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الأإعراب، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفِّرة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩].
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ، وذلك من وجهين: الأول: أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات، وأخس الحيوانات الكلب، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا، وأخْلَدَ في الأرض، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُوا الكلبُ اللاَّهثُ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء، وفي حالِ الرَّاحةِ، وفي حال العطش، وفي حال الرّي، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا، ويلقي نفسه فيها، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة.
الثاني: أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع
390
لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة، ولا ضرورة، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة.
والثالث: أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة.
قوله: ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ القوم﴾ يجوز أن يُشارَ ب: ذَلِكَ إلى صفة «الكَلْبِ»، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات، أو إلى الكلب، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي: صفة المنسلخ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من: «مثلُ القومِ» أي: ذلك الوصف، وهو وصف المنسلخ، أو وصف الكلب كمثل القوم.

فصل


واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله.
قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم، ويدعوهم إلى طاعة الله، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه، فلم يهتدوا، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ، إن وعظته فهو ضالٌّ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ، مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال.
ثم قال: «فاقْصُصِ القَصَصَ» أي: قصص الذين كَفَرُوا، وكذَّبُوا بآياتنا: «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون» أي: يتَّعِظُون.
قوله: «سَاءَ مثلاً» «سَاءَ» بمعنى: بِئْسَ «، وفاعلها مضمرٌ فيها، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدم [النساء ٣٨] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعة وتأنيثه عند البصريين، وتقدَّم أنَّ» سَاءَ «أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ، إذا عُرِف هذا فقوله:» القَوْمُ «يرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز، وإمَّا من المخصوص.
فالأوَّلُ يقدَّر: ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم، والثاني يقدر: ساء مثلاً مثل القوم، ثم حذف المضاف في التقديرين، وأقيم المضافُ إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها.
وقرأ الحسنُ والأعمشُ وعيسى بن عمر:»
سَاءَ مثلُ القَوْمِ «برفع» مثل «مضافاً للقوم.
391
وروي عن الجحدري كذلك، وروي عنه كسر الميم وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ» القوم «وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون»
سَاءَ «للتَّعَجُّب، مبنيَّةٌ تقديراً على» فَعُلَ «بضمِّ العين كقولهم: لَقَضُوا الرجلُ، و» مَثَل القوْم «فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثل القومِ، والموصولُ على هذا في محل جر، نعتاً ل» قَوم «.
والثاني: أنَّها بمعنى»
بِئْسَ «و» مثلُ القوم «فاعل، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ، والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز، إذا كان الفاعلُ ظاهراً، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً، كقول الشَّاعر: [الوافر]
٢٦٢٤ - تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمَنْعُ مطلقاً، والتَّفصيلُ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو: نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ؛ وعليه قوله: [الوافر]
٢٦٢٥ - تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي

فصل


قال اللَّيْثُ: سَاءَ يَسُوءُ: فعلٌ لازمٌ ومتعد، يقالك ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً، إذا قبح.
فإن قيل: ظاهر قوله: «سَاءَ مَثَلاً»
يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء، وذلك غير جائز؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ؟
فالجوابُ: أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث.
392
قوله: ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ «أنْفُسَهُمْ» مفعول ل «يَظْلِمُونَ» وفيه دليلٌ على تقديم خبر «كان» عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] ف «اليتيمَ» مفعول ب «تقهر» ولا يجوز تقديم «تَقْهَرْ» على جازمه، وهو محتملٌ للبحث.
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون نسقاً على الصلة وهي «كذَّبُوا بآيَاتِنَا» والمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم.
والثاني: أن تكون مستأنفة، أي: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّم المفعولُ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل: وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم.
قوله: ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي﴾ راعى لفظ «مَنْ» فأفرد، وراعى معناها في قوله ﴿فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ فجمع، وياء «المُهْتَدِي» ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ، لثبوتها في الرسم، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء.
وقال الواحديُّ: فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ، ويجوزُ حذفها استخافاً؛ كما قيل في بيت الكتاب: [الوافر]
فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وعنه: [الكامل]
٢٦٢٧ - كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ
قال ابن جني: شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء.

فصل


لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل: أحدها:
393
قال الجُبائيُّ والقاضي: المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ: ﴿فأولئك هُمُ الخاسرون﴾.
وثانيها: قال بعضهم: إنَّ في الآية حذفاً، والتَّقديرُ: من يهده اللَّهُ فيقبل، ويهتدي بهداه؛ فهو المهتدي، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ.
وثالثها: أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي: وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ، ومن يضلل أي: وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً: ﴿فأولئك هُمُ الخاسرون﴾.
ورابعها: من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ.
والجواب من وجوه: الأولُ: أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلّض من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى.
الثاني: أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد.
الثالث: أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره.
وأما التأويل الأول: فضعيف لانه حمل قوله ﴿فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله «فَهُوَ المُهْتَدِي» على الاهتداء إلى الحق في الدنيا، وذلك يوجب ركاكة النظم، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم.
وأما الثاني: فإنه التزام لإضمار زائد، وهو خلاف اللَّفظ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة.
وأما الثالث: فضعيف؛ لأنقول القائلنك فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً، وقياس هذا على قوه: فلان ضلل فلان وكفره، قياس في اللغةِ، وهو في نهاية الفسادِ.
والرابع: باطل؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد.
394
قوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ﴾ الضمير في : رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ : ولو شئنا رفعناه للعمل بها، أي : رفعناه درجة بتلك الآيات.
قال ابن عباس : لرفعناه بعمله١.
وقيل : المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق، والمجرور على الآيات، أي : لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات.
قال مجاهد وعطاء.
وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على " الذي " والمراد بالرفع : الأخذُ، كما تقول : رُفِعَ الظَّالمُ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي : لأهلكناه بسبب المعصية.
وهذه أقوال بعيدة، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ.
قوله ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ﴾ " أخْلَدَ " أي : ترامى بنفسه. أي : ركن إلى الدنيا ومال إليها.
قال أهل العربيَّةِ : أصله من الإخلاد، وهو الدوامُ واللُّزوم، فالمعنى : لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ :[ الطويل ]
بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا٢
ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.
قال ابنُ عبَّاس : يريد مال إلى الدُّنيا٣.
وقال مقاتل : رَضِيَ بالدُّنيا٤.
وقال الزجاج : ركن إلى الدُّنيا.
قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا " الأرض " في هذه الآية بالدنيا ؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض ؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض.
وقوله :" وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي : أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى، وهذه أشد آية على العلماء ؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدَّعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، واتَّبع الهوى، كان بعدهُ عن الله أعظمَ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام " من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً " ٥
وقال عليه الصَّلاة والسَّلام " مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ " ٦
قوله :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ﴾، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي : لاهثاً في الحالتين.
قال بعضهم : وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال.
فلا يقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط. على الحالِ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبرا عن ضمير ما أريد جعل الحال عنه.
فيقال : جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال.
نعم قد أوقعوا الشَّرطيَّة موقع الحال، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما يناقضها، أو لم يُعْطف، فالأوَّلُ : يستمرُّ فيه تركُ الواو، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله :
﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ﴾ [ البقرة : ٦ - يس : ١٠ ].
والثاني : لا بدَّ فيه من الواو نحو : أتَيْتُكَ، وإن لم تأتني ؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل : أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس، إذا عُرِفَ هذا فقوله :﴿ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ﴾ من قبيل النوع الأول ؛ لأنَّ الحمل عليه، والتَّرك نقيضان.
والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ " أكْلُبٍ "، وفي الكثرةِ على " كلاب "، وشذُّوا فجمعوا " أكْلُباً " على " أكَالِب "، و " كِلاباً " على " كِلابَاتٍ "، وأمَّا " كَلِيبٌ " فاسم جمعٍ ؛ ك " فريق "، لا جمع، قال طرفة :[ الطويل ]
تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ٧
وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة.
ويقال : لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع " لَهَثَاً "، و " لُهْثاً " بفتح اللام وضمها، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا، أو عطش، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الإعراب، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفسِّرة لقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ، وذلك من وجهين : الأول : أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات، وأخس الحيوانات الكلب، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا، وأخْلَدَ في الأرض، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُو الكلبُ اللاَّهثُ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء، وفي حالِ الرَّاحةِ، وفي حال العطش، وفي حال الرّي، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا، ويلقي نفسه فيها، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة.
الثاني : أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة، ولا ضرورة، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة.
والثالث : أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة.
قوله :﴿ ذَّلِكَ مَثَلُ القوم ﴾ يجوز أن يُشارَ ب : ذَلِكَ إلى صفة " الكَلْبِ "، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات، أو إلى الكلب، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي : صفة المنسلخ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من :" مثلُ القومِ " أي : ذلك الوصف، وهو وصف المنسلخ، أو وصف الكلب كمثل القوم.

فصل


واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله.
قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم، ويدعوهم إلى طاعة الله، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه، فلم يهتدوا، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ، إن وعظته فهو ضالٌّ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ، مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال٨.
ثم قال :" فاقْصُصِ القَصَصَ " أي : قصص الذين كَفَرُوا، وكذَّبُوا بآياتنا :" لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون " أي : يتَّعِظُون.
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٢٥) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٦٧) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس..
٢ ينظر الطبري ١٣/٢٧٠، جامع البيان ١٢/٢٧٠، التفسير الكبير ١٥/٥٦، حاشية الشهاب ٤/٢٣٦ الأصمعيات ١٩٣، الدر المصون ٣/٣٧٢..
٣ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/٤٦)..
٤ انظر: المصدر السابق..
٥ ذكره الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (١/٥٩) وقال: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بإسناه ضعيف..
٦ أخرجه أحمد في المسند ٣/٤٦٠، وأخرجه الدارمي في السنن ٢/٣٠٤، كتاب الرقاق، باب ما ذئبان جائعان، وأخرجه الترمذي في السنن ٤/٥٨٨، كتاب الزهد: باب (٤٣) الحديث (٦/٢٣٧) وقال: (حسن صحيح)، وأخرجه ابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص ٦١٢، كتاب الزهد باب فتنة المال- الحديث (٢٤٧٢) واللفظ لهم..
٧ تقدم..
٨ ذكره الرازي في تفسيره (١٥/٤٧) عن ابن عباس..
قوله :" سَاءَ مثلاً " " سَاءَ " بمعنى : بِئْسَ "، وفاعلها مضمرٌ فيها، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدم [ النساء ٣٨ ] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين، وتقدَّم أنَّ " سَاءَ " أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ، إذا عُرِف هذا فقوله :" القَوْمُ " غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز، وإمَّا من المخصوص.
فالأوَّلُ يقدَّر : ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم، والثاني يقدر : ساء مثلاً مثل القوم، ثم حذف المضاف في التقديرين، وأقيم المضافُ إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها.
وقرأ الحسنُ١ والأعمشُ وعيسى بن عمر :" سَاءَ مثلُ القَوْمِ " برفع " مثل " مضافاً للقوم.
وروي عن الجحدري كذلك، وروي عنه كسر الميم٢ وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ " القوم " وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون " سَاءَ " للتَّعَجُّب، مبنيَّةٌ تقديراً على " فَعُلَ " بضمِّ العين كقولهم : لَقَضُوا الرجلُ، و " مَثَل القوْم " فاعل بها، والتقدير : ما أسوأ مثل القومِ، والموصولُ على هذا في محل جر، نعتاً ل " قَوم ".
والثاني : أنَّها بمعنى " بِئْسَ " و " مثلُ القوم " فاعل، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ، والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر ؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز، إذا كان الفاعلُ ظاهراً، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً، كقول الشَّاعر :[ الوافر ]
تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا٣
وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجوازُ مطلقاً، والمَنْعُ مطلقاً، والتَّفصيلُ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو : نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ ؛ وعليه قوله :[ الوافر ]
تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي٤

فصل


قال اللَّيْثُ : سَاءَ يَسُوءُ : فعلٌ لازمٌ ومتعد، يقال : ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً، إذا قبح.
فإن قيل : ظاهر قوله :" سَاءَ مَثَلاً " يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء، وذلك غير جائز ؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء ؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ ؟
فالجوابُ : أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث.
قوله :﴿ وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ " أنْفُسَهُمْ " مفعول ل " يَظْلِمُونَ " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو :﴿ فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ ﴾ [ الضحى : ٩ ] ف " اليتيمَ " مفعول ب " تقهر " ولا يجوز تقديم " تَقْهَرْ " على جازمه، وهو محتملٌ للبحث.
وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون نسقاً على الصلة وهي " كذَّبُوا بآيَاتِنَا " والمعنى : الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم.
والثاني : أن تكون مستأنفة، أي : وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّم المفعولُ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل : وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم.
١ ينظر: الكشاف ٢/١٧٩، والمحرر الوجيز ٢/٤٧٩، والبحر المحيط ٤/٤٢٤، والدر المصون ٣/٣٧٣..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٧٩، والبحر المحيط ٤/٤٢٤، والدر المصون ٣/٣٧٣..
٣ البيت لجرير: ينظر ديوانه ١١٧، المقتضب ٢/١٤٨، المفصل لابن يعيش ٧/١٣٢، الخصائص ١/٨٣، الخزانة ٩/٣٩٤، الأشموني ٢/٢٠٣، المقرب ٧٣ ابن عقيل ٢/١٣٠، العيني ٤/٣٠، الدر المصون ٣/٣٧٤..
٤ البيت لأبي بكر بن الأسود. ينظر: المقرب ١/٦٩، وشرح المفصل ٧/١٣٣، والهمع ٢/٨٦، والتصريح ١/٣٩٩، والدرر ٥/٢٢٧، وأوضح المسالك ٢/٣٦٠، وخزانة الأدب ٩/٣٩٥ وشرح الأشموني ١/٢٦٥، والدر المصون ٣/٣٧٤..
قوله :﴿ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي ﴾ راعى لفظ " مَنْ " فأفرد، وراعى معناها في قوله ﴿ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾ فجمع، وياء " المُهْتَدِي " ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ، لثبوتها في الرسم، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء.
وقال الواحديُّ : فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ، ويجوزُ حذفها استخفافاً ؛ كما قيل في بيت الكتاب :[ الوافر ]
فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا١
وعنه :[ الكامل ]
كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ٢
قال ابن جني : شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء.

فصل


لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل : أحدها :
قال الجُبائيُّ والقاضي : المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ :﴿ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾.
وثانيها : قال بعضهم : إنَّ في الآية حذفاً، والتَّقديرُ : من يهده اللَّهُ فيقبل، ويهتدي بهداه ؛ فهو المهتدي، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ.
وثالثها : أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي : وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي ؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ، ومن يضلل أي : وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً :﴿ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾.
ورابعها : من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ.
والجواب من وجوه : الأولُ : أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلاّ من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى.
الثاني : أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد.
الثالث : أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره.
وأما التأويل الأول : فضعيف لأنه حمل قوله ﴿ من يهد الله ﴾ على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله " فَهُوَ المُهْتَدِي " على الاهتداء إلى الحق في الدنيا، وذلك يوجب ركاكة النظم، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم.
وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد، وهو خلاف اللَّفظ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة.
وأما الثالث : فضعيف ؛ لأن قول القائل : فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً، وقياس هذا على قوله : فلان ضلل فلان وكفره، قياس في اللغةِ، وهو في نهاية الفسادِ.
والرابع : باطل ؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد.
١ البيت لمضرس بن ربعي. ينظر: الكتاب ١/٢٧، والخصائص ٢/٢٦٩، والإنصاف ٢/٥٤٥، والمنصف ٢/٧٣، والمغني ١/٢٢٥، وشرح أبيات سيبويه ١/٦٢، وشرح شواهد الشافية ص ٤٨١، ولسان العرب (ثمن)، (يدي) وله أو ليزيد بن الطثرية في شرح شواهد المغني ص ٥٩٨ والمقاصد النحوية ٤/٥٩١، والأشباه والنظائر ٢/٦٠، والإنصاف ٢/٥٤٥ وجمهرة اللغة ص ٥١٢ وخزانة الأدب ١/٢٤٢، الخصائص ٢/٢٦٩، سر صناعة الإعراب ص ٥١٩، ٧٧٧٢، الدر المصون ٣/٣٧٤..
٢ البيت لخفاف بن ندبة ينظر الكتاب ١/٢٧، العمدة ٢/٢٧١، الإنصاف ٢/٥٤٦ ابن يعيش ٣/١٤٠، المغني ١/١٠٥، سر صناعة الإعراب ٢/٧٧٢، شرح أبيات سيبويه ١/٤١٦، شرح المفصل ٣/١٤٠، مغني اللبيب ١/١٠٥، المنصف ٢/٢٢٩، اللسان (تيز)، الدر المصون ٣/٣٧٤..
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ﴾ الآية.
اللام في [قوله] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصولة، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر: [الوافر]
٢٦٢٨ - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ.........................
وقول الآخر: [الطويل]
٢٦٢٩ - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ولَسْتُ أرَى حيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر: [الطويل]
٢٦٣٠ - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن
الثاني: أنها للعلة، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز. وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بذَرَأنَا، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها، لو تأخَّرَ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب، وأنَّ الأصل: ﴿ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً﴾ ؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ، و «مِنَ الجِنِّ» صفة ل «كَثِيراً».

فصل


ومعنى ﴿ذَرَأْنَا﴾ خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة، ومن خلقه الله لجهنَّمَ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها.
قالت عائشةُ: «أدرك النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَارِ، فقالت عائشةُ
395
له: طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ»

فصل


هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ، وأيضاً انه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً، وخبره الصِّدق كذباً، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى، فهو المرادُ.
فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً، وأيضاً: لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ، وذلك لا يقوله عاقلٌ، وأيضاً: إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار، وإنما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى.
فإن قيل: العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ.
فنقولُ: فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق، لزم التسلسل، وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام.
قالت المعتزلة: لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة.
قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾ [النساء: ٦٤] وقال:
396
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ﴾ [الفرقان: ٥٠] وقال: ﴿هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [الحديد: ٩].
وقال: ﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط﴾ [الحديد: ٢٥].
وقال ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [إبراهيم: ١٠].
وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وأمثال هذه الآيات كثيرة. ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس﴾ على ظاهره.
الثاني: أنه تعالى قال بعدها: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا: فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان.
الثالث: أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه، فكذا ههنا، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم.
الرابع: أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ، والثَّواب والعقاب، والترغيب والترهيب، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الخامس: لو خلقهم للنَّارِ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
السادس: أن قوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ﴾ متروك الظَّاهر، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه، فثبت أنه لا بد وأن يقال: إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف. وكأنَّهُ قال: وقد ذَرَأنَا لكي يكفروا، فيدخلوا جهنم، فصارت الآية متروكة الظَّاهر، فيجب بناؤها على قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس﴾ [الذاريات: ٥٦] لأن ظاهرها يصح بدون حذف.
السابع: أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا، فيصيروا إلى جهنم، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار. فكان قولنا أولى.
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، فوجب المصير إلى التأويلن، وتقريره: أنه لما كانت عاقبة كثيرة من الجن والإنس هي دخول النَّارِ. جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة.
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر.
397
أمَّا القرآنُ فقوله تعالى: ﴿وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: ١٠٥].
ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ.
وقال تعالى: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾ [يونس: ٨٨].
وقال: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]. ولم يلتقط لهذا الغرض، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ.
وأما الشعر فقوله: [الطويل]
٢٦٣١ - ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الوالِدَاتُ سِخَالَهَا كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ
وقال: [البسيط]
٢٦٣٢ - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وقال: [الوافر]
٢٦٣٣ - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ
وقال: [المتقارب]
٢٦٣٤ - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَة
هذا منتهى كلام المعتزلة.
واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقِّ ما دل عليه ظاهر اللفظ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية: ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ [الأعراف: ١٧٨] وما بعدها، وهو قوله: ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوى قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً.
قوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ» جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً ل «كِثيراً» أيضاً، وإمَّا حالاً من: «
398
كثيراً» وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً، لوقوعه صفة، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ، أو الحالُ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد، وهو أولى.
وقوله: «لا يَفْقَهُونَ بِهَا» وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلهان وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت: لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة.

فصل


المعنى: لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون. ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب، فقال: ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ أي: أنَّ همتهم الأكل واشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك.
وقيل: لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع.
وقال مقاتلٌ: هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه.
وقيل: لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه.
وقيل: لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال: ﴿أولئك هُمُ الغافلون﴾.

فصل


دلَّت اليةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم، وأبصارهم، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به.
قالت المعتزلةُ: لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخة
399
مانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورة يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه. ولهذا قالوا في المثل: حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأوقى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ.
وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، فإذا كان كذلك كان القول بالجبر لا محيص عنهُ.

فصل


وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً، فقال: فإن قيل: إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري.
ثم أجاب وقال: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئته، وإن شئت أن لا تشاء [لم تشأه] ما أظنك أن تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له؛ بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته؛ فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك فالإنسان مضطر في صورة مختار.
واستدلوا بهذه الآية على أن محل العلم هو القلب؛ لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم.
قوله تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ الآية.
وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخولهم جهنم هو الغفلة عن ذكر الله.
واعلم أن قوله: ﴿ولله الأسماء الحسنى﴾ مذكور في أربع سور:
أولها: هذه السورة.
وثانيها: آخر الإسراء ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾ [الإسراء: ١١٠].
وثالثها: أول طه. ﴿الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى﴾ [طه: ٨].
ورابعها: آخر الحشر ﴿له الأسماء الحسنى﴾ [الحشر: ٢٤].
والحسنى فيها قولان، أظهرهما: أنها تأنيث: " أحسن " والجمع المكسر لغير العاقل يجوز أن يوصف به المؤنث نحو: ﴿مآرب أخرى﴾ [طه: ١٨] ولو طوبق به لكان التركيب " الحسن " كقوله: ﴿من أيام أخر﴾ [البقرة: ١٨٤].
400
والثاني: أن " الحسنى " مصدر على " فعلى " كالرجعى، والبقيا.
قال: [الوافر]. ٢٦٣٥ -
(ولا يجزون من حسنى بسوء.........................)
والأسماء هنا: الألفاظ الدالة على الباري تعالى ك: الله والرحمن.
قال القرطبي: وسمى الله أسماءه بالحسنى؛ لأنها حسنة في الأسماء والقلوب؛ فإنها تدل على توحده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله.
وقال ابن عطية المراد بها التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره. وفيه نظر؛ لأن التسمية مصدر، والمصدر لا يدعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أن معنى فادعوه نادوه بها، كقولهم: يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، اغفر لنا.
وقيل: سموه بها كقولك: سميت ابني بزيد، والآية دالة على أن لله تعالى أسماء حسنة وأن الإنسان لا يدعو الله إلا بها، وأنها توقيفية لا اصطلاحية؛ لأنه يجوز أن يقال: يا جواد ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا فقيه، يا عاقل يا طيب.
وقال تعالى: ﴿يخادعون الله وهو خادعهم﴾ [النساء: ١٤٢].
وقال: ﴿ومكروا ومكر الله﴾ [آل عمران: ٥٤] ولا يقال في الدعاء: يا مخادع يا مكار.
روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ". " إنه وتر يحب الوتر ".
قوله: ﴿وذروا الذين يلحدون في أسمائه﴾ قرأ حمزة هنا، وفي النحل، وحم السجدة يلحدون بفتح الياء والحاء من " لحد " ثلاثيا، والباقون بضم الياء وكسر الحاء، من " ألحد ".
401
فقيل هما بمعنى واحد وهو: الميل والانحراف، ومنه: لحد القبر؛ لأنه يمال بحفرة إلى جانبه، بخلاف الضريح؛ فإنه يحفر في وسطه.
ومن كلامهم، ما فعل الواحد؟ قالوا: لحده اللاحد، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السكيت وقال: هما العدول عن الحق، وألحد: أكثر استعمالا من " لحد "؛ قال: [الرجز] ٢٦٣٦ -
(ليس الإمام بالشحيح الملحد... )
وقال غيره: " لحد: بمعنى: ركن وانضوى، وألحد: مال وانحرف " قاله الكسائي ونقل عنه أيضا: ألحد: أعرض، ولحد: مال.
قالوا: ولهذا وافق حمزة في النخل إذ معناه: يميلون إليه.
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي: " ألحد: مارى وجادل، ولحد: حاد ومال ".
(فصل)
ورجحت قراءة العامة بالإجماع على قوله: ﴿بإلحاد﴾ [الحج: ٢٥].
وقال الواحدي: ولا يكاد يسمع من العرب لاحد، يعني: فامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلته وقد تقدم من كلامهم " لحده اللاحد ". ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماء لآلهتهم فيقولون " اللات " من لفظ الله، و" العزى " من لفظ العزيز، و" مناة " من لفظ المنان، ويجوز أن يراد سموه بلما لا يليق بجلاله، مثل تسميته أبا للمسيح، وكقول النصارى: أب، وابن، وروح القدس.
ثم قال: " سيجزون ما كانوا يعملون " وهذا تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله.
قوله تعالى: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق﴾ الآية.
" من " يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و" يهدون " صفة ل " أمة ".
وقال بعضهم: في الكلام حذف تقديره: وممن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم﴾.
(فصل)
المراد بالأمة العلماء.
قال عطاء عن ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان.
402
وقال قتادة: بلغنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية قال: " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ [الأعراف: ١٥٩].
وقال معاوية: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ".
قوله تعالى: ﴿والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم﴾ الآية.
والذين فيه وجهان: أظهرهما: أنه مبتدأ، ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده.
والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر تقديره: سنستدرج الذين كذبوا، والاستدراج التقريب منزلة منزلة، والأخ قليلا قليلا من الدرج؛ لأن الصاعد يرقى درجة درجة وكذلك النازل.
وقيل: هو مأخوذ من الدرج وهو الطي، ومنه درج الثوب: طواه، ودرج الميت مثله، والمعنى: تطوى آجالهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب: سيستدرجهم بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعل الباري تعالى وهو التفات من المتكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله: " كذبوا "؛ وقال الأعشى في الاستدراج: [الطويل] ٢٦٣٧ -
(فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم)
(ليستدرجنك القول حتى تهره وتعلم أني عنكم غير مفحم)
(فصل)
ويقال: درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم: مات بعضهم إثر بعض.
(فصل)
لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال: ﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ وهذا يعم كل مكذب، وعن ابن عباس: المراد أهل مكة، وهو بعيد.
403
وقال عطاء: سنمكر بهم، وقيل: نأتيهم من مأمنهم كقوله: ﴿فأتاهم اله من حيث لم يحتسبوا﴾ [الحشر: ٢].
وقال الكلبي: نزين لهم أعمالهم لتهلكهم. وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا نعمة.
وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما حمل إليه كنوز كسرى اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ".
قوله: ﴿وأملي لهم﴾ جوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأن أملي وأن يكون مستأنفا، وأن يكون معطوفا على سنستدرج، وفيه نظر: إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونملي بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريبا من الالتفات والإملاء: الإمهال والتطويل، والمتين: القوي، ومنه المتن وهو الوسط؛ لأنه أقوى ما في الحيوان، وقد متن يمتن متانة أي: قوي.
وقرأ العامة إن كيدي بالكسر على الاستئناف المشعر بالعلية.
وقرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد أن كيدي بفتح الهمزة على العلة.
والملي: زمان طويل من الدهر، ومه قوله: ﴿واهجرني مليا﴾ [مريم: ٤٦] أي: طويلا، والمعنى: أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم في العقوبة، ليقلعوا عن المعصية بالتوبة.
وقوله: ﴿إن كيدي متين﴾ قال ابن عباس: يريد: إن مكري شديد قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ﴾. يجوزُ في " ما " أوجه: أحدها: أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ " بصَاحبهم " أي: أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف: الجِنَّة: مصدرٌ يراد بها الهيئة، ك: الرِّكْبَةِ، والجلسة.
404
وقيل: المراد بالجِنَّة: الجِنُّ، كقوله ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس: ٦] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي: مَسِّ جنة، أو تخبيط جنَّة. والثاني: أنَّ " ما " نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون، ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية، فيهما وجهان: أظهرهما: أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا " التَّفكُّر "؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب. والثاني: أنَّ الكلام تمَّ عند قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، إمَّا استفهام إنكار، وإمَّا نفياً. وقال الحوفيُّ إنَّ " مَا بِصَاحبِهِم " معلقةٌ لفعلٍ محذوف، دلَّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم. قال: و" تفكَّر " لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟ الثالث: أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي "، تقديره: أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم، وعلى قولنا: إنَّهَا نافيةٌ يكونُ " مِن جِنَّةٍ " مبتدأ، ومِنْ مزيدةٌ فيه، وبِصَاحِبِهم خبره، أي: مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم.
405
قوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ الآية.
وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخولهم جهنم هو الغفلة عن ذكر الله.
واعلم أن قوله :﴿ ولله الأسماء الحسنى ﴾ مذكور في أربع سور :
أولها : هذه السورة.
وثانيها : آخر الإسراء ﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ [ الإسراء ١١٠ ].
وثالثها : أول طه :﴿ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ﴾ [ طه : ٨ ].
ورابعها : آخر الحشر ﴿ له الأسماء الحسنى ﴾ [ الحشر ٢٤ ].
والحسنى فيها قولان، أظهرهما : أنها تأنيث :" أحسن " والجمع المكسر لغير العاقل يجوز أن يوصف به المؤنث نحو :﴿ مآرب أخرى ﴾ [ طه : ١٨ ] ولو طوبق به لكان التركيب " الحسن " كقوله :﴿ من أيام أخر ﴾ [ البقرة ١٨٤ ].
والثاني : أن " الحسنى " مصدر على " فعلى " كالرجعى، والبقيا.
قال :[ الوافر ]
ولا يجزون من حسنى بسوء ***. . . ١
والأسماء هنا : الألفاظ الدالة على الباري تعالى ك : الله والرحمن.
قال القرطبي٢ : وسمى الله أسماءه بالحسنى، لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنها تدل على توحده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله.
وقال ابن عطية٣ المراد بها التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره. وفيه نظر : لأن التسمية مصدر، والمصدر لا يدعي به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أن معنى فادعوه نادوه بها، كقولهم : يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام اغفر لنا.
وقيل : سموه بها كقولك : سميت ابني بزيد، والآية دالة على أن لله تعالى أسماء حسنة وأن الإنسان لا يدعو الله إلا بها، وأنها توقيفية لا اصطلاحية، لأنه يجوز أن يقال : يا جواد ولا يجوز أن يقال : يا سخي، ويجوز أن يقال : يا عالم، ولا يجوز أن يقال : يا فقيه، يا عاقل يا طبيب.
وقال تعالى :﴿ يخادعون الله وهو خادعهم ﴾ [ النساء ١٤٢ ].
وقال :﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] ولا يقال في الدعاء : يا مخادع يا مكار.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن لله تسعة وتسعين اسما إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " ٤. " إنه وتر يحب الوتر " ٥.
قوله :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ قرأ٦ حمزه هنا، وفي النحل، وحم السجدة يلحدون بفتح الياء والحاء من " لحد " ثلاثيا، والباقون بضم الياء وكسر الحاء، من " ألحد ".
فقيل هما بمعنى واحد وهو : الميل والانحراف، ومنه : لحد القبر، لأنه يمال بحفرة إلى جانبه، بخلاف الضريح، فإنه يحفر في وسطه.
ومن كلامهم، ما فعل الواحد ؟ قالوا : لحده اللاحد، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السكيت وقال : هما العدول عن الحق، وألحد : أكثر استعمالا من " لحد " قال :[ الرجز ]
ليس الإمام بالشحيح الملحد٧
وقال غيره :" لحد : بمعنى : ركن وانضوى، وألحد : مال وانحرف " قاله الكسائي ونقل عنه أيضا : ألحد : أعرض ولحد : مال.
قالوا : ولهذا وافق حمزة في النحل إذ معناه : يميلون إليه.
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي :" ألحد : مارى، وجادل، ولحد : حاد ومال ".

فصل


ورجحت قراءة العامة بالإجماع على قوله :﴿ بإلحاد ﴾ [ الحج : ٢٥ ].
وقال الواحدي : ولا يكاد يسمع من العرب لاحد، يعني : بامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلته وقد تقدم من كلامهم " لحده اللاحد ". ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماء لآلهتهم فيقولون " اللات " من لفظ الله، و " العزى " من لفظ العزيز، و " مناة " من لفظ المنان، ويجوز أن يراد سموه بما لا يليق بجلاله، مثل تسميته أبا للمسيح، وكقول النصارى : أب، وابن، وروح القدس.
ثم قال :" سيجزون ما كانوا يعملون " وهذا تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله.
١ صدر البيت لأبي الغول وعجزه:
ولا يجزون من غلظ بلين
ينظر الحماسة ١/٤٠، ابن يعيش ٦/١٠٠، ١٠٢، الخزانة ٦/٤٣٤، ٨/٣١٤، الدر المصون ٣/٣٧٥..

٢ ينظر: تفسير القرطبي ٧/٢٠٧..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٨٠..
٤ متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح ١٣/٣٧٧، كتاب التوحيد: باب إن لله مائة اسم إلا... الحديث (٧٣٩٢) وأخرجه مسلم في الصحيح ٤/٢٠٦٣، كتاب الذكر. باب أسماء الله تعالى ٢ الحديث (٦/٢٦٧٧) واللفظ لهما..
٥ متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح ١/٢١٤، كتاب الدعوات : باب مائة اسم.. الحديث (٦٤١٠) واللفظ له، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ كتاب الذكر..
٦ ينظر: السبعة ٢٩٨، والحجة ٤/١٠٧-١٠٨، وإعراب القراءات ١/٢١٥، وحجة القراءات ٣٠٣، وإتحاف ٢/٧٠..
٧ البيت لأبي نخيلة، وقيل لغيره: ينظر الكتاب ٢/٣٧١، ابن يعيش ٣/١٢٤، الإنصاف ١/١٣١، الهمع ١/٦٤، الكشاف ٢/١٣٢، البحر ٤/٤١٧، الدر المصون ٣/٣٧٦..
قوله تعالى :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ﴾ الآية.
" من " يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و " يهدون " صفة ل " أمة ".
وقال بعضهم : في الكلام حذف تقديره : وممن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم ﴾.

فصل


المراد بالأمة العلماء.
قال عطاء عن ابن عباس : يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان١.
وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال :" هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " ٢ :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ].
وقال معاوية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " ٣.
١ ذكره الرازي في تفسيره ١٥/٦٠ عن ابن عباس..
٢ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٣٤) وذكر السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٧٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر..
٣ أخرجه البخاري (٧٤٦٠) ومسلم (١٠٣٧/١٧٤) وأحمد ٤/١٠١، من حديث معاوية..
قوله تعالى :﴿ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم ﴾ الآية.
والذين فيه وجهان : أظهرهما : أنه مبتدأ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده.
والثاني : أنه منصوب على اشتغال بفعل مقدر تقديره : سنستدرج الذين كذبوا، والاستدراج التقريب منزلة منزلة، والأخذ قليلا قليلا من الدرج، لأن الصاعد يرقى درجة درجة وكذلك النازل.
وقيل : هو مأخوذ من الدرج وهو الطي، ومنه درج الثوب : طواه، ودرج الميت مثله، والمعنى : تطوى آجالهم.
وقرأ النخعي١ وابن وثاب : سنستدرجهم بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعل الباري تعالى وهو التفات من المتكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله :" كذبوا " وقال الأعشى في الاستدراج :[ الطويل ]
فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره وتعلم أني عنكم غير مفحم٢

فصل


ويقال : درج الصبي : إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم : مات بعضهم إثر بعض.

فصل


لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال :﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ وهذا يعم كل مكذب، وعن ابن عباس : المراد أهل مكة٣، وهو بعيد.
وقال عطاء : سنمكر بهم، وقيل : نأتيهم من مأمنهم كقوله :﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ [ الحشر : ٢ ].
وقال الكلبي : نزين لهم أعمالهم لتهلكهم. وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا نعمة.
وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- لما حمل إليه كنوز كسرى اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول :" سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ".
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٨٢، والبحر المحيط ٤/٤٢٩، والدر المصون ٣/٣٧٦..
٢ ينظران في ديوانه ١٨٢، والكشاف ٢/١٣٣، الكتاب ٢/٢٨ مجاز القرآن ١/٣٠٢، ابن يعيش ٢/٧٤، الجامع لأحكام القرآن ٩/١٣٢، التهذيب ١/٦٤٦، اللسان: سبب، درج، الدر المصون ٣/٣٧٦..
٣ ذكره القرطبي في تفسيره (٧/٢٠٩)..
قوله :﴿ وأملي لهم ﴾ جوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي : وأنا أملي وأن يكونا مستأنفا، وأن يكون معطوفا على سنستدرج، وفيه نظر : إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونملي بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريبا من الالتفات والإملاء : الإمهال والتطويل، والمتين : القوي، ومنه المتن وهو الوسط، لأنه أقوى ما في الحيوان، وقد متن يمتن متانة أي : قوي.
وقرأ العامة إن كيدي بالكسر على الاستئناف المشعر بالعلية.
وقرأ ابن١ عامر في رواية عبد الحميد أن كيدي بفتح الهمزة على العلة.
والملي : زمان طويل من الدهر، ومنه قوله :﴿ واهجرني مليا ﴾ [ مريم : ٤٦ ] أي : طويلا والمعنى : أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم في العقوبة، ليقلعوا عن معصية بالتوبة.
وقوله :﴿ إن كيدي متين ﴾ قال ابن عباس : يريد : إن مكري شديد٢
١ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٨٢، والبحر المحيط ٤/٤٢٩، والدر المصون ٣/٣٧٧..
٢ ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٧٢) عن السدي بهذا اللفظ وعزاه لأبي الشيخ..
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ﴾.
يجوزُ في «ما» أوجه:
أحدها: أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ «بصَاحبهم» أي: أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف: الجِنَّة: مصدرٌ يراد بها الهيئة، ك: الرِّكْبَةِ، والجلسة.
وقيل: المراد بالجِنَّة: الجِنُّ، كقوله ﴿مِنَ الجنة والناس﴾ [الناس: ٦] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي: مَسِّ جنة، أو تخبيط جنَّة.
والثاني: أنَّ «ما» نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون، ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية، فيهما وجهان:
أظهرهما: أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا «التَّفكُّر» ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب.
والثاني: أنَّ الكلام تمَّ عند قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، إمَّا استفهام إنكار، وإمَّا نفياً.
وقال الحوفيُّ إنَّ «مَا بِصَاحبِهِم» معلقةٌ لفعلٍ محذوف، دلَّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم.
قال: و «تفكَّر» لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟
الثالث: أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي»، تقديره: أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم، وعلى قولنا: إنَّهَا نافيةٌ يكونُ «مِن جِنَّةٍ» مبتدأ، ومِنْ مزيدةٌ فيه، وبِصَاحِبِهم خبره، أي: مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم.

فصل


دخول «مِنْ» في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
قال الحسنُ وقتادةُ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام ليلةًعلى الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً، يا بني فلان، يا بني فلان، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه.
فقال قَائِلُهُمْ: إنَّ صاحبكم هذا المجنون، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية.
وقيل: إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، والجهال كانوا يقولون: إنَّهُ جُنُونٌ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض﴾ الآية.
405
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض﴾ واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت.
ثم قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي: أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّت، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات.
فنقول: إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى.
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائزُ لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى، واعتبارات غير متناهية، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل: [المتقارب].
٢٦٣٨ - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ
ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله: ﴿وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال: «وأنْ عَسَى»، و «أنْ» فيها وجهان:
أصحهما: أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والمعنى: لعل
406
آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد، و «عسى» وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها، ولم يفصل بَيْنَ «أنْ» والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء، ومثله ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩] ﴿والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ﴾ [النور: ٩] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء.

فصل


وقد وقع خبرُ «أنْ» جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين، فإنَّ عَسَى للإنشاء و «غَضَبَ اللَّه» دعاء.
والثاني: أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ، يعني التي تنصب المضارع، الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل غلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً، أي: ماضٍ، ومضارع وأمر، و «عَسَى» لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على «ملكوت»، أي: أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون، و «أن يكُون» فاعل «عَسَى» وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت «أنْ» وما في حيَّزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك: أوشك، واخلولق.
وفي اسم: «يَكُون» قولان:
أحدهما: هو ضميرُ الشَّأنِ، ويكونُ: ﴿قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ خبراً لها.
والثاني: أنه: «أجْلُهُمْ»، و «قَدِ اقتربَ» جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير «أجَلُهُم» ولكن قدّضم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها.
وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ [الأعراف: ١٣٧].
قوله: «فَبِأيِّ» مُتعلّق ب «يُؤمِنُونَ» وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب، أي: إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره؟ والهاءُ في: «بَعْدَهُ» تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على: «أجَلُهُمْ»، أي: إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم؟
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تُعلِّق قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟ قلت: بقوله: ﴿عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ ؛ كأنه قيل: لعلَّ أجلهم قجد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح.
قوله تعالى: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ﴾ الآية.
407
لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم.
فقال: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ وهذه الآيةُ تدلُ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها.
قوله: «ويَذَرْهُمْ» قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً، ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع، وأبي عمرو في الشواذ.
فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئناف، أي: وهو يذرهم، ونحن نذرهم، على حسب القراءتين، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله: ﴿فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ﴾ [البقرة: ٢٧١] بجزم «يُكَفّر» ؛ وكقول الشاعر: [الكامل]
٢٦٣٩ - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ
وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر: [الوافر]
٢٦٤٠ - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمكْ لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا
قال: حمل «أسْتَدرِجْ» على موضع الفاء المحذوفة، من قوله: لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ.
والثانيك أنه سكونُ تخفيف، كقراءة أبي عمرو ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران: ١٦٠] و ﴿يُشْعِرْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] ونحوه، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون.
408
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ الآية.
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد، فقال :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت.
ثم قال :﴿ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّات، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات.
فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى.
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائزُ لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى، واعتبارات غير متناهية، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل :[ المتقارب ].
وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ١
ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله :﴿ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال :" وأنْ عَسَى "، و " أنْ " فيها وجهان :
أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً ؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر، ليسعى في تخليص نفسه من هذا الخوف الشَّديد، و " عسى " وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها، ولم يفصل بَيْنَ " أنْ " والخبر وإن كان فعلاً ؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء، ومثله ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ] ﴿ والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ ﴾ [ النور : ٩ ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء.

فصل


وقد وقع خبرُ " أنْ " جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين، فإنَّ عَسَى للإنشاء و " غَضَبَ اللَّه " دعاء.
والثاني : أنَّها المصدرية ؛ قاله أبُو البقاءِ، يعني التي تنصب المضارع، الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيِّدٍ ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل إلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً، أي : ماضٍ، ومضارع وأمر، و " عَسَى " لا يتصرف فكيف يقع صلة لها ؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على " ملكوت "، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون، و " أن يكُون " فاعل " عَسَى " وهي حينئذٍ تامَّةٌ ؛ لأنَّها متى رفعت " أنْ " وما في حيَّزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك : أوشك، واخلولق.
وفي اسم :" يَكُون " قولان :
أحدهما : هو ضميرُ الشَّأنِ، ويكونُ :﴿ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ ﴾ خبراً لها.
والثاني : أنه :" أجْلُهُمْ "، و " قَدِ اقتربَ " جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير " أجَلُهُم " ولكن قدّم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها.
وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله :﴿ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ].
قوله :" فَبِأيِّ " مُتعلّق ب " يُؤمِنُونَ " وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب، أي : إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره ؟ والهاءُ في :" بَعْدَهُ " تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ، أي : بعد خبره وقصته، وأن تعود على :" أجَلُهُمْ "، أي : إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم ؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم ؟
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تُعلِّق قوله :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ قلت : بقوله :﴿ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ ﴾ ؛ كأنه قيل : لعلَّ أجلهم قد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح.
١ البيت لأبي فراس. ينظر الأشباه والنظائر ص ٣، والبحر المحيط ٤/٤٣٠، وروح المعاني ٩/١٢٨، والرازي ١٥/٧٧، وحاشية الشهاب ٤/٢٤٠..
قوله تعالى :﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ ﴾ الآية.
لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم.
فقال :﴿ مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ وهذه الآيةُ تدلُ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها.
قوله :" ويَذَرْهُمْ " قرأ الأخوان بالياء١ وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً، ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع، وأبي٢ عمرو في الشواذ.
فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئناف، أي : وهو يذرهم، ونحن نذرهم، على حسب القراءتين، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين :
أحدهما : أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله :﴿ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾ ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى :﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] بجزم " يُكَفّر " ؛ وكقول الشاعر :[ الكامل ]
أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ٣
وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر :[ الوافر ]
فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمْ لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا٤
قال : حمل " أسْتَدرِجْ " على موضع الفاء المحذوفة، من قوله : لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ.
والثاني : أنه سكونُ تخفيف، كقراءة أبي عمرو ﴿ يَنصُرْكُمُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] و ﴿ يُشْعِرْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] ونحوه، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون.
١ ينظر: السبعة ٢٩٩، والحجة ٤/١٠٩، وإعراب القراءات ١/٢١٦، وحجة القراءات ٣٠٣، وإتحاف ٢/٧٠..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٣١، والدر المصون ٣/٣٧٨..
٣ ينظر التهذيب ١٥/٦٥٤، المحرر الوجيز ٢/٢١٩، البحر ٤/٤٣١، الدر المصون ٣/٣٧٩..
٤ البيت لأبي دؤاد الإيادي: ينظر ديوانه ٣٥٠، تأويل المشكل ٥٦ معاني الفراء ١/٨٨، الخصائص ١/١٧٦، المغني ٢/٤٢٣، شرح شواهد المغني ٢/٨٣٩، اللسان: (علل)، الدر المصون ٣/٣٧٩..
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة﴾ الآية.
408
في كيفية النَّظْمِ وجهان:
الأول: لمَّا تكلم في التَّوحيد، والنُّبَّوةِ، والقشاء، القدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة.
الثاني: لمَّا قال في الآية المتقدمة: ﴿وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٥] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة﴾ ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات.

فصل


قال ابنُ عباس: إنَّ قوماً من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن وقتادة: إن قريشاً قالوا يا محمد: بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟
قال الزمخشريُّ: السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضي فيها في ساعة واحدة، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ.
قوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنَّ أيَّانَ خبر مقدم، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر، والثاني: أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر، ذلك الفعل رافع ل «مُرْسَاهَا» بالفاعليَّةِ، وهو مذهب أبي العباس، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ؛ لأنها بدل [من] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال: والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره: يسألونك عن زمان حلول الساعة. إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحلأنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ ب «عَنْ» فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض، كأنَّهُ قيل: يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه: عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو.
و «أيَّانَ» ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام، ولا يتصرَّفُ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف «متى» فإنَّها يليها النَّوعان، وأكثرُ ما يكون [أيَّان] استفهاماً، كقول الشاعر: [الرجز]
409
٢٦٤١ - إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين.
قال الشاعرُ: [البسيط]
٢٦٤٢ - أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً
وقال آخر: [الطويل]
٢٦٤٣ - إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ
والفَصِيحُ فتح همزتها، وهي قراءة العامَّة.
وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا، وهيلغة سُلَيْم.

فصل


واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ.
واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من «أوَيْتُ إليه» ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل، والمعنى: أي وقت، وأي فعلٍ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاَ مشتقةً من: «أين» ؛ لأنَّ «أيْنَ» ظرف مكان، وأيَّان ظرفُ زمانٍ. ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر، وأن يكون اسم زمان.
وقال الزمخشريُّ: مُرْسَاهَا إرساؤُهَا، أو وقت إرسائها: أي: إثباتها وإقرارها.
قال أبو حيَّان: وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ، لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ.
ويقال: رَسَا يَرْسُو: أي ثبت، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل، نحو: رَسَت السفينةُ
410
تَرْسُوا وأرْسَيْتها، قال تعالى: ﴿والجبال أَرْسَاهَا﴾ [النازعات: ٣٢] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة؛ لقوله ﴿ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء.
قوله: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول، والظَّرف خبره أي: أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره.
وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها. والتَّجَلّي هو الظهور.
وقال مجاهد: لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ نظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ [لقمان: ٣٤] وقوله ﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه: ١٥] ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «متى السَّاعةُ.
فقال:»
ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ «
قال المحققون: والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر، فكيون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة، وأخرها، وكذلك إخفاء ليلة القدر؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ؛ ليكون المكلف مُجِدّاً في الدُّعاءِ في كل اليوم.
قوله:»
فِي السَّمواتِ «يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكون» في «بمعنى» على «أي: على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي، وهو قولُ الحسنِ.
والثاني: أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ، والمعنى: حصل ثقلها، وهو شدَّتها، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.
قال الأصَمُّ: إن هذا اليوم ثقيل جدّاً على السمواتِ والأرض؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب.
وقيل: ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث، والحساب، والسُّؤال، والخوف.
وقال السُّديُّ: ثقل علمها، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها.
قوله: ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ أي فجأة على غفلة، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها.
روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما
411
بيْنَهُما، فلا يتبايَعانِه، ولا طْويانِهِ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا»
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول: «يَسْألُونكَ» وفي عَنْهَا وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقة بيَسْألُونَكَ و: «كأنَّكَ حَفِيٌّ» معترض، وصلتها محذوفةٌ تقديره: خَفِيّ بها.
وقال أبُو البقاءِ: في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل، فإنَّ قوله ﴿كأنَّكَ حَفِيٌّ﴾ حال كما تقدَّم.
والثاني: أنَّ «عَنَ» بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٢٥٩] ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام﴾ [الفرقان: ٢٥] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى ب «عن» بل بالباء كقوله: ﴿كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب «عن» أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها.
والحَفِيُّ: المستقصي عن الشَّيء، المهتبلُ به، المعني بأمره؛ قال: [الطويل]
٢٦٤٤ - سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ
وقال آخر: [الطويل]
٢٦٤٥ - فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا
وقال الأعشى: [الطويل]
٢٦٤٦ - فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا
والإحْفَاءُ: الاستقصاء؛ ومنه إحفاء الشَّوارب، والحافي؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر.
قال الزمخشريُّ: وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ.
قال أبو عبيدة: وهو من قولهم: تحفى بالمسألةِ أي: استَقْصَى، والمعنى: فإنَّكَ
412
أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها، وقيل الحفاوةُ: البرُّ واللُّطْفُ.
قال ابن الأعْرابِي: يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً. والتَّحفي: الكلام واللِّقاء الحسن، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧] أي بارّاً لطيفاً يجيب دعائي. ومعنى الآية على هذا: [يسألونك] كأنَّك بارّق بهم لطيف العشرة معهم، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره: إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة؟ فقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٧] أي: كأنك صديق لهم بارّ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم.
وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ «عَنْ» بمعنى الباء، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى: مفعول أي: مَحْفُوٌّ.
وقيل: بمعنى فعل، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها.
قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾.
اعلم أن قوله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ.
وقوله ثانياً: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ وأجاب عن الثَّانِي بقوله: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ والفرق بين الصورتين: أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة. والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها.
وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا: الله.
فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة، وهو قولنا: اللَّهُ، ثم ختم الآية بقوله: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لا يعلمون أن القيامة حقٌّ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد.
وقيل: لا يَعْلَمُونَ بأنِّ أخبرتك بأَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ.
وقيل: لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ.
قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ الآية.
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها: أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب، ولا أملك لنفْسِي نفعاً، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير،
413
ونظيره قوله في سورة يونس: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ [يونس: ٤٨، ٤٩].
قال ابنُ عبَّاسِ: إنَّ أهل مكة قالوا: يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به، ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية.
وقيل: لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال انظروا أين ناقتي؟ فقال عبدُ الله بن أبي: ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة، ولا يعرف أين ناقته! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ، فوجدوها على ما قال؛ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾.
قوله: «لِنَفْسِي» فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها متعلقة ب «أمْلِكُ».
والثاني: أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب «نَفْعاً» واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ: لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا، وهو وجهٌ حسنٌ.
قوله ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ في هذا الاستثناء وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ متَّصلٌ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه.
والثاني: أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة -، وسبقة إليه مكيٌّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ؛ فوجب أن لا يحصلان لاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر، فعلى جميع التقديرات: لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ.
أجاب القاضي عنه بوجوه:
أحدها: أن ظاهر الآية، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ: «يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو» فيُحمل اللفظُ
414
العام على سبب نزوله، فيكُونُ المرادُ بالنفع: تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره.
وثانيها: أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير﴾ [الأعراف: ١٨٨].
وثالثها: أن التقدير: لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية.

فصل


احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير﴾ واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السواء﴾ قال ابنُ جريجٍ:
قل لا أملك لنفسي نفعاً، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير، أي: من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ.
وقيل: لو كنت أعلم الغيب أي: متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم.
وقيل: ما مسني السُّوء ابتداء يريد: وما مسَّنيَ الجنونُ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ، وقال ابنُ زيدٍ: المرادُ بالسُّوءِ: الضرُّ، والفقرُ، والجوعُ.
قوله ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السواء﴾ عطف على جواب «لو» وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب «لَوْ» المثبت، وإن كان يجوزُ غيره، كما تقدَّم، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ، لأنه يمتنع ذلك فيه.
وقال أبُو حيَّان: ولم تصحب «مَا» النَّافية - أي: اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها، كقوله: ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَضُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه.
قوله: ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ نذير لمن لا يُصدق بما جئت به، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون.
وذكر إحدى الطائفتين؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١].
415
وقد يقال: إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
واللاَّمُ في قوله [القوم] من باب التَّنازُعِ، فعند البصريين تتعلقُ ب «بَشِير» لأنه الثَّاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه.
ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً، أي: نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم.
416
قوله تعالى :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله ﴾ الآية.
وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها : أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب، ولا أملك لنفْسِي نفعاً، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير، ونظيره قوله في سورة يونس :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله ﴾ [ يونس : ٤٨، ٤٩ ].
قال ابنُ عبَّاسِ : إنَّ أهل مكة قالوا : يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به، ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية١.
وقيل : لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال انظروا أين ناقتي ؟ فقال عبدُ الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة، ولا يعرف أين ناقته ! فقال - عليه الصلاة والسلام - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ، فوجدوها على ما قال ؛ فأنزل الله عز وجل ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾.
قوله :" لِنَفْسِي " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة ب " أمْلِكُ ".
والثاني : أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً ؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب " نَفْعاً " واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل ؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا، وهو وجهٌ حسنٌ.
قوله ﴿ إِلاَّ مَا شَاءَ الله ﴾ في هذا الاستثناء وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ متَّصلٌ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه.
والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة -، وسبقه إليه مكيٌّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.

فصل


دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ ؛ فوجب أن لا يحصلان إلاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى ؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ.
أجاب القاضي عنه بوجوه :
أحدها : أن ظاهر الآية، وإن كان عاماً بحسب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ :" يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو " فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره.
وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ].
وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية.

فصل


احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله :﴿ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير ﴾ واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السواء ﴾ قال ابنُ جريجٍ :
قل لا أملك لنفسي نفعاً، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ.
وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم.
وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ، والفقرُ، والجوعُ.
قوله ﴿ وَمَا مَسَّنِيَ السواء ﴾ عطف على جواب " لو " وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب " لَوْ " المثبت، وإن كان يجوزُ غيره، كما تقدَّم، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ، لأنه يمتنع ذلك فيه.
وقال أبُو حيَّان٢ : ولم تصحب " مَا " النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ ألاَّ تصحبها، كقوله :﴿ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]. وفيه نظرٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه.
قوله :﴿ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ نذير لمن لا يُصدق بما جئت به، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون.
وذكر إحدى الطائفتين ؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى، كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ].
وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ].
واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ، فعند البصريين تتعلقُ ب " بَشِير " لأنه الثَّاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه.
ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم.
١ ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣/٢٧٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس، وذكره البغوي في تفسيره (٢/٢٢٠)..
٢ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٣٤..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ الآية.
اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ، وإبطال الشرك.
قال ابنُ عبَّاسٍ: المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من غير أذَى ليسكن إليها أي: ليأنس بها ويأوي إليها قالوا: والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم: أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا مشكل؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد، على خلاف الحسن والتَّشريح. وإذا عرف ذلك فنقول: المرادُ من كلمة مِنْ في قوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه، وتارة بحسب نوعه.
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ «هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ»
والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - «في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون» والمُرادُ: نوعه.
416
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ [البقرة: ٣٥] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا.
﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي: وخلق من نوع الإنسان زوجٍ آدم، أي: جعل زوج آدم إنساناً مثله، «فلمَّا تَغشَّاهَا» أي واقعها وجامعها: ﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً﴾ وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها: «فَمَرَّتْ بِهِ» أي: استمرَّت به، وقامت وقعدت به لم يثقلها.
قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة. وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ: حَمْل وحِمْل.
وحكى يعقبوُ في حمل النَّخْلةِ: الكسر، والحمل في الية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين، وهو الظَّاهِرُ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به، كقولك: حَمَلْتُ زيداً.
قوله: «فَمَرَّتْ» الجمهور على تشديد الراء، أي: استمرت به، أي: قامت وقعدت.
وقيل: هو على القلب أي: فمَرَّ بها أي: استمرَّ ودام.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ: وأبو العالية ويحيى بن يعمر، وأيوب: فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ، وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّ أصلها التشديد، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه، وهذه كقراءة: ﴿وَقَرْنَ﴾ [الأحزاب: ٣٣] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ.
والثاني: أنه من المرية وهو الشَّكُ، أي: فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض؟
وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص، والجحدريُّ: فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ، وفيها أيضاً وجهان، أحدهما: أنَّها من: «مَارَ، يمُورُ» إذا جاء وذهب، ومَارتِ الرِّيحُ، أي: جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ، ووزنه حينئذٍ «فَعَلَتْ» والأصلُ «مَوَرَتْ» ثم قلبت الواو ألفاً فهو ك: طَافَتْ، تَطُوفُ.
والثاني: أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ، وعلى هذا فوزنه «فَاعلَتْ».
والأصْلُ «مَارَيتْ» ك «ضَارَبَتْ» فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين، فهو ك: بَارَتْ، ورَامَتْ. وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ: فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة.
417
وقرأ أبيّ فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في «فَمَارَتْ» أي: أنَّهُ يجوز أن يكون من «المِرْيَة»، والأصلُ: اسْتَمْريَتْ وأن يكون من «المَوْرِ»، والأصلُ: اسْتَمْورَتْ.
قوله: «فَلمَّا أثقَلَتْ» أي: صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ، وأتْمَرَ أي: صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ.
وقيل: دخلت في الثقل؛ كقولهم: أصبح وأمسى، أي: دخل في الصَّباح والمساءِ، وقرئ أثْقِلَتْ مبنيّاً للمفعُولِ.
قوله: «دَعَوا اللَّهَ» متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه، أي: دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً.
قوله: «لَئِنْ آتيْتَنَا» هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل:
فما كان دعاؤهما؟
فقيل: كان دعاؤهما كيت وكيت؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ.
والثاني: أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، تقديره: فقالا لئن آتيتنا، ولنكُوننَّ جوابُ القسم، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر.
وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولداً صالحاً.
والثاني: قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إيتاءً صالحاً، وهذا لا حاجة إليه، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما.

فصل


قال المفسِّرون: المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويّاً مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين.
وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما الذي في بطنكِ؟
قالت: ما أدْرِي، قال: إني أخافُ أن يكُون بهيمةً، أو كلباً، أو خنزيراً، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ؟ أمن دبرك فيقتلك، أو من فيك أو ينشق بطنك؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك، ثمَّ عاد إليها فقال: إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ.
وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذكرت ذلك لآدم.
418
فقال: لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت؛ فعاودها إبليس، فلم يزل بها حتَّى غرَّها؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ.
وروي عن ابن عباسٍ، قال: كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ، فأتاهما إبليسُ، وقال: إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض.
واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه:
أحدها: قوله تعالى: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ.
وثانيها: قال بعدهُ: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية: الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
وثالثها: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركُون من لا يخلُقُ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من.
ورابعها: أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟
وخامسها: أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾ وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟
وسادسها: أن بتقدير أن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، سماه بعبد الحارث، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم، وذلك لا يقوله عاقل؛ فثبت فساد هذا القول.
وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه:
الأول: قال القفالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب
419
المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك، كأنَّهُ تعالى يقولُ: هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد غلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام.
ثم قال تعالى: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ. وهذا قول عكرمة.
والثاني: أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وهم آل أقصى».
والمرادُ من قوله: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ﴾ قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولاهما الأربعة: عبد منافٍ، وعبد العزَّى، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
الثالث: إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام -.
وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه:
أحدها: أن المشركين كانوا يقولون: أنَّ آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا: ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي: ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة.
ثم قال ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ﴾.
فقوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ﴾ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره: فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما؟ :﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك. فيقول المُنْعِمُ: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم يقابلني بالشَّرِّ؟ إنه بريء عن ذلك.
فقوله: يقابلني بالشَّرِّ المراد منه: النفي والتبعيد فكذا ههنا.
ثانيها: إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ﴾، أي: جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة
420
المضاف إليه مقامه وكذا فيما: «آتاهُما» أي أولادهما، كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف ٨٢] أي أهل القريةِ.
فن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله «جَعَلا لَهُ» ؟
قلنا: لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله «جَعَلا» المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع، وهو قوله: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وثالثها: سلَّمْنَا أن الضمير في قوله: ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ﴾ عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل: إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته، وهذا العملُ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين، فلهذا قال اللَّهُ تعالى: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى: «أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه»
التأويل الرابع: سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء، إلاَّ أنَّا نقولُ: إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث.
وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ، كما يقالُ في المثل: أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئا المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد.
قوله: «جَعَلا لَهُ» قيل: ثمَّ مضاف، أي: جعل له أولادهما شركاء، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف.
421
والباقون بضمِّ الشين، وفتح الرَّاء، ومدِّ الكاف مهموزةً، من غير تنوين، جمع «شَريك».
فالشِّركُ مصدرٌ، ولا بد من حذف مضاف، أي: ذوي شركٍ، يعني: إشراك، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر، ويكون المعنى: أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد، وقيلك المرادْ بالشِّركِ: النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ.
وقيل: الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر، وهذان الوجهان لا معنى لهما.
وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما: إنَّ التقدير يجوز أن يكون: جعلا لغيره شِرْكاً.
قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن: كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى: جعلا لغيره شِرْكاً؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره.
قوله: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ قيل: هذه جملةٌ استئنافيةٌ، والضمير في: يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله، وقيل: يعودُ على آدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب «عبد الحارث» وكان أشَارَ بذلك إبليس، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط، وقيل: راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم، وهو قولُ الحسنِ، وعكرمة، أي: جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال:
﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ [البقرة: ٥١] ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ [البقرة: ٧٢] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان ذلك الفعل من آبائهم.
وقيل: لم يكن آدم عَلِمَ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة السّلمي: «عَمَّا تُشرِكُون» بتاء الخطاب وكذلك «أتُشْركُونَ» بالخطابِ أيضاً، وهو التفات.
قوله: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً﴾.
هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى: ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي: أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً؟ وهم يُخلقون، يعني الأصنام.
422
قوله: «وهُمْ يُخْلقُونَ» يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها، ومحتملة للجميع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله: «وهُمْ يُخْلَقُونَ» للمعنى، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم ب «هُم» وجمعهم بالواو والنون، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير، أو يعودُ على الكُفَّارِ، أي: والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً﴾ أي: أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تضرُّ من عصاها، وهو المراد بقوله: ﴿وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾.
قوله: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ﴾ الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار، وضمير النَّصْبِ للأصنام، أي: وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتعابعوكم على مُرادكُم، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين، والمنصوب للكفَّارِ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو، لأجل الجازم، ولا يجوزُ أن يقال: قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة؛ كقوله: [البسيط]
٢٦٤٧ - هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ
ويكون مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ﴾ [يوسف: ٩٠]، ﴿فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ [طه: ٧٧] لأنَّه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك.
قوله: «لا يَتَّبِعُوكُم» قرأ نافع بالتخفيف، وكذا في الشعراء ﴿يَتْبَعُهُمْ﴾ [٢٤٤].
423
والباقون بالتشديد، فقيل: هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم: ﴿فَمَن تَبِعَ﴾ [البقرة: ٣٨٥] وفي موضع ﴿أَفَمَنِ اتبع﴾ [طه: ١٣٢].
وقيل: تَبع اقتفى أثره، واتَّبعه بالتشديد: اقتدى به والأول أظهر.
ثُمَّ أكَّد الكلام فقال: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ والمعنى: سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّين أم أنتم صامتون عن دعائهم، لا يؤمنون، كقوله: ﴿عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] وعطف قوله: ﴿أَمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة، والتقدير: أمْ صَمَتُّم؟
وقال أبُو البقاءِ: جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة، والتقديرُ: أدعوتموهم أم صَمَتُّم؟
وقال ابنُ عطيَّة: عطف الاسم على الفعل؛ إذ التقدير: أمْ صَمَتُّم؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]
٢٦٤٨ - سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ
قال أبُو حيَّان: وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية، إذ الأصل: سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة. والصَّمْتُ: السُّكوت، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ، في الماضي، والضم في المضارع.
ويقال: صَمِتَ، بالكسرِ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات، وإصمت، بكسر الهمزة والميم: اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة، إن كان من «يَصْمُتُ» أو مفتوحة إن كان من «يَصْمَتُ» ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ، وقد قالوا: إصْمِتَة.
والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو: اسْرُب؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ.
424
ثم قال ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ ﴾.
فقوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكاءَ ﴾ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما ؟ :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام -، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك. فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم يقابلني بالشَّرِّ ؟ إنه بريء عن ذلك.
فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا.
ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله ﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ ﴾، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما :" آتاهُما " أي أولادهما، كقوله :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف ٨٢ ] أي أهل القريةِ.
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله " جَعَلا لَهُ " ؟
قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله " جَعَلا " المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع، وهو قوله :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ ﴾ عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته، وهذا العملُ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين، فلهذا قال اللَّهُ تعالى :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى :" أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه " ١
التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث.
وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد.
قوله :" جَعَلا لَهُ " قيل : ثمَّ مضاف، أي : جعل له أولادهما شركاء، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم٢ شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف.
والباقون بضمِّ الشين، وفتح الرَّاء، ومدِّ الكاف مهموزةً، من غير تنوين، جمع " شَريك ".
فالشِّركُ مصدرٌ، ولا بد من حذف مضاف، أي : ذوي شركٍ، يعني : إشراك، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد، وقيل : المرادْ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ.
وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر، وهذان الوجهان لا معنى لهما.
وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً.
قال شهابُ الدِّين٣ : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً ؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره.
قوله :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب " عبد الحارث " وكان أشَارَ بذلك إبليس، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم، وهو قولُ الحسنِ، وعكرمة، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال :
﴿ ثُمَّ اتخذتم العجل ﴾ [ البقرة : ٥١ ] ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم.
وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة٤ السّلمي :" عَمَّا تُشرِكُون " بتاء الخطاب وكذلك " أتُشْركُونَ " بالخطابِ أيضاً، وهو التفات.
١ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح ٤/٢٢٨٩، كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله الحديث (٣٦/٢٩٨٥)..
٢ ينظر: السبعة ٢٩٩، والحجة ٤/١١١، وإعراب القراءات ٢/٢١٦، وحجة القراءات ٣٠٤، وإتحاف فضلاء البشر ٢/٧١..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٨٣..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٨٨، والبحر المحيط ٤/٤٣٨، والدر المصون ٣/٣٨٣..
قوله :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ﴾.
هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان ؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ أي : أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً ؟ وهم يُخلقون، يعني الأصنام.
قوله :" وهُمْ يُخْلقُونَ " يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع ؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها، ومحتملة للجمع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين ؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله :" وهُمْ يُخْلَقُونَ " للمعنى، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم ب " هُم " وجمعهم بالواو والنون، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير، أو يعودُ على الكُفَّارِ، أي : والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا.

فصل


دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله ؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول.
قوله :﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ﴾ أي : أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تضرُّ من عصاها، وهو المراد بقوله :﴿ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾.
قوله :﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ ﴾ الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار، وضمير النَّصْبِ للأصنام، أي : وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتابعوكم على مُرادكُم، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين، والمنصوب للكفَّارِ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً ؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو، لأجل الجازم، ولا يجوزُ أن يقال : قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة ؛ كقوله :[ البسيط ]
هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ١
ويكون مثل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ ﴾ [ يوسف : ٩٠ ]، ﴿ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى ﴾ [ طه : ٧٧ ] لأنَّه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك.
قوله :" لا يَتَّبِعُوكُم " قرأ نافع٢ بالتخفيف، وكذا في الشعراء ﴿ يَتْبَعُهُمْ ﴾ [ ٢٤٤ ].
والباقون بالتشديد، فقيل : هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم :﴿ فَمَن تَبِعَ ﴾ [ البقرة : ٣٨٥ ] وفي موضع ﴿ أَفَمَنِ اتبع ﴾ [ طه : ١٣٢ ].
وقيل : تَبع اقتفى أثره، واتَّبعه بالتشديد : اقتدى به والأول أظهر.
ثُمَّ أكَّد الكلام فقال :﴿ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ﴾ والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّين أم أنتم صامتون عن دعائهم، لا يؤمنون، كقوله :﴿ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦ ] وعطف قوله :﴿ أَمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ ﴾ وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية ؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة، والتقدير : أمْ صَمَتُّم ؟
وقال أبُو البقاءِ : جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة، والتقديرُ : أدعوتموهم أم صَمَتُّم ؟
وقال ابنُ عطيَّة : عطف الاسم على الفعل ؛ إذ التقدير : أمْ صَمَتُّم ؛ ومثله قول الشاعر :[ الطويل ]
سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ٣
قال أبُو حيَّان٤ : وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية، إذ الأصل : سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية ؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة. والصَّمْتُ : السُّكوت، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ، في الماضي، والضم في المضارع.
ويقال : صَمِتَ، بالكسرِ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات، وإصمت، بكسر الهمزة والميم : اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة، إن كان من " يَصْمُتُ " أو مفتوحة إن كان من " يَصْمَتُ " ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ، وقد قالوا : إصْمِتَة.
والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو : أسْرُب ؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ.
١ ينظر: الإنصاف ١/٢٤، وخزانة الأدب ٨/٣٥٩، والدرر ١/١٦٢، سر صناعة الإعراب ٢/٦٣٠، شرح التصريح ١/٨٧، شرح شافية ابن الحاجب ٣/١٨٤، شرح شواهد الشافية ص ٤٠٦، المفصل ١٠/١٠٤، المقاصد النحوية ١/٢٣٤، الممتع في التصريف ٢/٥٣٧، المنصف ٢/١١٥، همع الهوامع ١/٥٢، والدر المصون ٣/٣٨٤..
٢ ينظر: السبعة ٢٩٩، والحجة ٤/١١٣، وإعراب القراءات ١/٢١٩، وحجة القراءات ٣٠٥، وإتحاف ٢/٧١..
٣ ينظر: شرح الأشموني ٢/٤٢١، المقاصد النحوية ٤/١٧٩، الطبري ١٣/٣٢١ والبحر المحيط ٤/٤٣٩، معاني الفراء ١/٤٠١، والعيني ٤/١٧٩، والدر المصون ٣/٣٨٤..
٤ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٣٩..
قوله: «إنَّ الذينَ» العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها، وعبادٌ خبرها، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ بتخفيف إنْ ونصب عباد وأمثالكم، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء، وقال به من البصريين: ابن السراج والفارسي وابن جنِّي، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظماً ونثراً؛ وأنشدوا: [المنسرح]
٢٦٤٩ - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً على أحِدٍ إلاَّ على أضْعَفِ المجانينِ
ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى.
وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه.
وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالاً وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى.
وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ.
والثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول: «إنْ زيدٌ منطلقٌ» ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها، فهي أضعف منها.
الثالث: أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة.
قال أبُو حيان: يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على للة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد.
وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك.
وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له.
وخرَّج ابو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة.
قال: وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة ﴿وَإِنَّ كُلاًّ﴾ [هود: ١١١] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين؛ وأنشد: [الطويل]
٢٦٥٠ -..........................
425
إنَّ حُرَّاسنَا أُسْدَا
قال: وهي لغة ثابتة ثم قال: فإن تأوَّلثوا ما ورد من ذلك؛ نحو: [الرجز]
٢٦٥١ - يَا لَيْتَ أيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعا... أي: تُرَى رواجعاً، فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم.
قال شهابُ الدِّين: فيكون هذا التَّخريج مبنياً على مذهبين.
أحدهما: إعمالُ المخففَّة.
وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل، ولا أرتضيه قليلاً لوروده في المتواتر.
الثاني: أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين، وهو مذهبٌ مرجوح، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه: كون إنْ نافية عاملة، والمخففة الناصبة للجزءين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.
وقرأ بعضهم إنْ مخففة، عباداً نصباً أمثالكم رفعاً، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ، و «تَدْعُونَ» صلتها والعائدُ محذوف، وعباداً حال من ذلك العائد المحذوفِ، أمثالكُم خبره، والتقدير: إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين، فكيف يُعْبَدُون؟
ويضعفُ أن يكون الموصول اسماً منصوب المحل؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ.
وحكى أبُو البقاءِ أيضاً قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها.

فصل


في الآية سؤال: وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنَّها عباد مع أنها جمادات؟
والجواب: من وجوه:
أحدها: أن المشركينَ لمَّا ادعوا أنَّها تضر وتنفعُ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة
426
فاهمة، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم؛ ولهذا قال: ﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٤].
وقال: «إنَّ الذينَ» ولم يقل: «إنَّ الَّتي».
وثانيها: أن هذا اللَّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي: أمرهم أن يكونُوا أحياءً عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم، ولا فضل لهم عليكم، فَلِمَ جعلتُم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً؟
ثم أبطل أن يكونوا عباداً فقال: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ ثم أكَّد البيان بقوله ﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾. ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام ي قوله: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ لام الأمر على معنى التَّعجيزِ، ثمَّ لمَّا ظهر لكلِّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنَّها لا تصلح للعبادة، ونظيره قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنَّها آلهة ومستحقَّة للعبادة.
وثالثها: قال مقاتل: الخطابُ مع قوم كانوا يعبدون الملائكة.
قوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ قرأ العامَّةُ بكسر الطاء، من بطش يبطش، وقرأ أبو جعفر وشيبة، ونافع في رواية عنه: يَبْطُشُونَ بضمها، وهما لغتان، وهما لغتان، والبَطْشُ، الأخْذُ بقوة.
واعلم أنَّهُ تعالى ذكر هذا الدَّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام؛ لأنَّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرِّجلُ القادرةُ على المشي، واليد القادرةُ على البَطْشِ أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعينُ البَاصرةُ والأذنُ السَّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السَّامعة، والباصرة، وعن قوَّةِ الحياة.
وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسانه إلى فضيلة الأصنام ألبتة.
وإذا كان كذلك فكيف يليقُ بالأفضل والأكل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتَّة، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرَّة.
قوله: ﴿قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ﴾ قرأ أبُو عمرو كِيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً، وحذفها وقفاً وهشام بإثباتها في الحالين، والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشامٍ.
427
خلاف مشهور قال أبُو حيان: وقرأ أبُو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ووقفاً.
قال شهابُ الدِّينِ: أبو عمرو لا يثبتها وقفاً ألبتَّة، فإنَّ قاعدته في الياءاتِ الزائدة ما ذكرته، وفي قراءة فَكِيدثونِي ثلاثةُ ألفاظٍ، هذه وقد عُرف حكمُهَا، وفي هود: «فكيدوني جميعاً» أثبتها القراء كلهم في الحالين.
وفي المُرسلاتِ: ﴿فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ [الآية: ٣٩] حذفها الجميعُ في الحالين وهذا نظيرُ ما تقدَّم في قوله ﴿واخشوني﴾ [البقرة: ١٥٠] فإنَّها في البقرة ثابتةٌ للكلّ وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أوَّل المائدة، ومختلف في ثانيتها.

فصل


والمعنى: ادعُوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمَّ كيدوني أنتم وهم فلا تُنظِرُون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنَّ لا قدرة لها على إيصار المضار بوجه من الوجوه.
428
قوله :﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ قرأ العامَّةُ بكسر الطاء، من بطش يبطش، وقرأ أبو جعفر وشيبة، ونافع في رواية عنه : يَبْطُشُونَ بضمها١، وهما لغتان، والبَطْشُ، الأخْذُ بقوة.
واعلم أنَّهُ تعالى ذكر هذا الدَّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام ؛ لأنَّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرِّجلُ القادرةُ على المشي، واليد القادرةُ على البَطْشِ أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعينُ البَاصرةُ والأذنُ السَّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السَّامعة، والباصرة، وعن قوَّةِ الحياة.
وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضيلة الأصنام ألبتة.
وإذا كان كذلك فكيف يليقُ بالأفضل والأكل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتَّة، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرَّة.
قوله :﴿ قُلِ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ قرأ أبُو عمرو٢ كِيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً، وحذفها وقفاً وهشام بإثباتها في الحالين، والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشامٍ. خلاف مشهور قال أبُو حيان : وقرأ أبُو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ووقفاً.
قال شهابُ الدِّينِ : أبو عمرو لا يثبتها وقفاً ألبتَّة، فإنَّ قاعدته في الياءاتِ الزائدة ما ذكرته، وفي قراءة فَكِيدونِي ثلاثةُ ألفاظٍ، هذه وقد عُرف حكمُهَا، وفي هود :" فكيدوني جميعاً " أثبتها القراء كلهم في الحالين.
وفي المُرسلاتِ :﴿ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ [ الآية : ٣٩ ] حذفها الجميعُ في الحالين وهذا نظيرُ ما تقدَّم في قوله ﴿ واخشوني ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ] فإنَّها في البقرة ثابتةٌ للكلّ وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أوَّل المائدة، ومختلف في ثانيتها.

فصل


والمعنى : ادعُوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمَّ كيدوني أنتم وهم فلا تُنظِرُون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنَّ لا قدرة لها على إيصال المضار بوجه من الوجوه.
١ ينظر: إتحاف ٢/٧١، والمحرر الوجيز ٢/٤٨٩، والبحر المحيط ٤/٤٤١..
٢ ينظر: السبعة ٣٠٠، والحجة ٤/١١٤، وإعراب القراءات ١/٢١٩، وإتحاف فضلاء البشر ٢/٧٢..
قوله: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ الله﴾ العامة على تشديد وَلِيِّيَ مضافاً لياء المتكلم المفتوحة، وهي قراءة واضحة أضاف الوليَّ إلى نفسه.
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه «إنَّ وليَّ» بياء واحدة مشددة مفتوحة، وفيها تخريجان:
أحدهما: قال أبُو عليٍّ: إن ياء «فعيل» مدغمةٌ في ياء المتكلم، وإنَّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ، ومنع من العكس.
والثاني: أن يكون وليَّ اسمها، وهو اسمُ نكرة غيرُ مضافِ لياء المتكلم، والأصلُ: إنَّ وليّاً الله ف «وليّاً» اسمها والله خبرها، ثم حذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب]
٢٦٥٢ - فأَلْفَيْتُه غَيْر مُسْتَعْتبٍ ولا ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
وكقراءة من قرأ ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢] ولم يبق إلاَّ الإخبارُ عن نكرةٍ بمرعفة، وهو واردٌ.
428
قال الشاعر: [الطويل]
٢٦٥٣ - وإنْ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً بآبَائِي الشمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ
وقرأ الجحدريُّ في رواية إنَّ وليِّ الله بكسر الياءِ مشددة، وأصلها أنَّهُ سكن ياء المتكلم، فالتقت مع لام التعريف فحذفت، لالتقاء الساكنين، وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو: إنَّ غلام الرَّجلُ.
وقرأ في رواية أخرى إنَّ وليَّ اللَّهِ بياء مشددة مفتوحة، والجلالة بالجرِّ، نقلهما عنه أبو عمرو الدَّاني أضاف الولي إلى الجلالةِ.
وذكر الأخفشُ وأبو حاتم هذه القراءة عنه، ولمْ يذكرا نَصْبَ الياء، وخرَّجها النَّاسُ على ثلاثة أوجه: الأولُ: قولُ الأخفش - وهو أن يكون وَليّ الله اسمُها والَّذي نزَّلَ الكتاب خبرها، والمراد ب «الذين نزّل الكتابَ» جبريل، لقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] :﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس﴾ [النحل: ١٠٢] إلاَّ أنَّ الأخفش قال في قوله ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين﴾ هو من صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل، وفي تحتم ذلك نظرٌ.
والثاني: أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى، والمراد بالموصول النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويكون ثمَّ عائدٌ محذوفٌ لفهم المعنى والتقدير إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نزَّ الله الكتاب عليه، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف، لكنَّه قد جاء قليلاً، كقوله: [الطويل]
٢٦٥٤ - وإنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا وهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
أي: صبة اللَّهُ عليه، وقال آخر: [الطويل]
٢٦٥٥ - فأصْبَحَ مِنْ أسْمَاءَ قَيْسٌ كقَابضٍ عَلى المَاءِ لا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ
أي بما هو قابض عليه. وقال آخر: [الطويل]
١٦٥٦ - لَعَلَّ الَّذي أصْعَدْتني أنْ يَرُدَّنِي إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدرِ الخَيْرَ قَادِرُه
أي: أصعدتني به.
وقال آخر: [الوافر]
429
٢٦٥٧ - ومِنْ حَسَدٍ يَجُوزُ عَليَّ قَوْمِي وأيُّ الدَّهْر ذُو لم يَحْسُدُونِي
أي يحسدوني فيه.
وقال آخر: [الطويل]
٢٦٥٨ - فَقُلْتُ لهَا لاَ والَّذي حَجَّ حَاتِمٌ أخُونُكِ عَهْداً إنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ
أي: حج إليه، وقال آخر: [الرجز]
٢٦٥٩ - فأبْلِغَنَّ خَالدَ بنَ نَضْلَةٍ والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلوْمِ مَنْ يَثقْ
أي: يثقُ به.
وإذا ثبت أنَّ الضمير يُحْذَف في مثل هذه الأماكن، وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوةٌ بها.
والثالث: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: إنَّ وليَّ الله الصَّالحُ، أو من هو صالح وحذف، لدلالة قوله: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين﴾ وكقوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر﴾ [فصلت: ٤١] أي: معذبون، وكقوله ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ﴾ [الحج: ٢٥].

فصل


المعنى ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب﴾ يعني القرآن، أي: يتولاّني وينصرني كما أيَّدني بإنزال الكتاب ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين﴾ قال ابنُ عباسٍ: «يريد الذين لا يعدلُون بالله شيئاً، فاللَّهُ يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم».
قوله: ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾.
وفيه قولان:
الأول: أن المراد منه وصف الأصنام.
فإن قيل: هذه الأشياءُ مذكورة في الآيات المتقدمة، فما الفائدةُ في تكريرها؟
فالجوابُ: قال الواحديُّ: إنَّما أعيد؛ لأنَّ الأول مذكوررٌ للتَّقريع، وهذا مذكورٌ للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز، كأنَّهُ قيل: الإله المعبودُ يجبُ أن يكون
430
بحيثُ يتولّى الصَّالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية.
القول الثانيك أنَّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير اللَّهِ يعني أنَّ الكفار كانُوا يخوفون رسول الله وأصحابه، فقال تعالى: إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة.
فإن قيل: لَمْ يتقدَّم ذكر المشركين، وإنما تقدَّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك؟
والجوابُ: أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى: ﴿قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ﴾ [الأعراف: ١٩٥].
قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمرادُ من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم: جبلان متناظاران أي: مُتقابلان، وإن حملناها على المُشركين أي إنهم وإن كانُوا ينظرون إلى النَّاسِ إلاَّ أنهم لشدَّةِ إعراضهم عن الحقِّ لم ينتقعوا بذلك النَّظِر، والرُّؤيةِ؛ فصاروا كأنَّهُمْ عمي.
431
قوله :﴿ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾.
وفيه قولان :
الأول : أن المراد منه وصف الأصنام.
فإن قيل : هذه الأشياءُ مذكورة في الآيات المتقدمة، فما الفائدةُ في تكريرها ؟
فالجوابُ : قال الواحديُّ : إنَّما أعيد ؛ لأنَّ الأول مذكورٌ للتَّقريع، وهذا مذكورٌ للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز، كأنَّهُ قيل : الإله المعبودُ يجبُ أن يكون بحيثُ يتولّى الصَّالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية.
القول الثاني : أنَّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير اللَّهِ يعني أنَّ الكفار كانُوا يخوفون رسول الله وأصحابه، فقال تعالى : إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة.
فإن قيل : لَمْ يتقدَّم ذكر المشركين، وإنما تقدَّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك ؟
والجوابُ : أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى :﴿ قُلِ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ].
قوله :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمرادُ من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم : جبلان متناظران أي : مُتقابلان، وإن حملناها على المُشركين أي إنهم وإن كانُوا ينظرون إلى النَّاسِ إلاَّ أنهم لشدَّةِ إعراضهم عن الحقِّ لم ينتفعوا بذلك النَّظِر، والرُّؤيةِ ؛ فصاروا كأنَّهُمْ عمي.
قوله: ﴿خُذِ العفو﴾.
قال عبدُ الله بنُ الزُّبير: أمر اللَّهُ نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ.
قال مجاهدٌ: يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسِ وذلك مثل قبول الاعتذار، والعفو المتساهل، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك. روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجبريل: «ما هذا؟ قال: لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال:» إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ «
قال العلماءُ: تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين.
وقال ابنُ عباَّسٍ، والسدُّ، والضحاك، والكلبيُّ: والمعنى خُذ ما عفا لك من
431
أموالهم وهو الفضل من العيال، وذلك معنى قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ [البقرة: ٢١٩] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات.
قوله: ﴿وَأْمُرْ بالعرف﴾، أي: بالمعروف، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع، وقال عطاءٌ: ﴿وَأْمُرْ بالعرف﴾ بلا إله إلا الله وأعرض عن الجاهلين» يعني أبا جهل وأصحابه، نسختها آية السَّيْفِ، وقيل: إذا تسفه عليك الجاهل، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣].
قال جعفرُ الصَّادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية.

فصل


اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله: «خُذِ العَفْوَ» بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية.
وأمَّا قوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمؤ عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ.
قوله تعالى: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ﴾ الآية.
قال: عبدُ الرحم بن زيد: لما نزل قوله: «خُذِ العَفْوَ» الآية: قال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كيف يا رب بالغضب؟»
فنزل قوله: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ﴾ الآية والنَّزْغُ: أدنى حركة تكونُ، قاله الزَّجَّاجُ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت: قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده.
وقال الزمخشري: والنَّزغُ والنِّسْغُ: الغَرْزُ والنَّخْسُ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل «جَدَّ جَدُّه» يعني: قصد بذلك المبالغة.
وقيل: النَّزغ: الإزعاج، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ، وتقريره: أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك
432
أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال: فاستَعِذْ باللَّهِ «وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لَجميع المكلفين. وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة؛ وقوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنَّه تعالى يقول: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾ الآية.
بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُعلى حال الرسُول في هذا الباب؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائيُّ: طَيْفٌ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل.
فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنَّهُ مصدر من: طَافَ يَطِيفُ ك»
بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة: [الكامل]
٢٦٦٠ - أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ
والثاني: أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل: طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة، كقولهم في: مَيِّت مَيْت، وفي: لَيِّن لَيْن، وفي: هَيِّن هَيْن.
ثم «طَيِّف» الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من: طافَ يطيف، أو من: طَافَ يَطُوفُ والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم.
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء.
والثالث: أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ، فقلبت الواو ياءً.
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ.
قال شهابُ الدينِ: وقد قالُوا أيضاً في: حَوْل حَيْل، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه.
وقوله: وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء، بل كان ينبغي أن يقال:
433
وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ. وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من: طاف يطُوف، فيكون ك: قائم وقائلٍ. وأن يكون من: طاف يطيفُ، فيكون ك: بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ: طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل: طَيْف فيجعلهما مصدرين، وقد جاء فاعل مصدراً، كقولهم: أقائماً وقد قعد النَّاسُ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل: طائف أي: فيجعله وصْفاً على فَعْل.
وقال الفارسي: الطَّيْف كالخَطْرة، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما، وقال الكسائيُّ الطَّيف: اللَّمَم، والطَّائف: ما طاف حول الإنسان.
قال ابنُ عطيَّة: وكيف هذا؛ وقد قال الأعشى: [الطويل]
٢٦٦١ - وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ
ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة، وهي سَقْطة؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً.
وقال أبُو زيدٍ النصاريُّ: طَافَ: أقبل وأدبر، يَطُوف طَوْفاً، وطَوَافاً، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً: استدار القومُ من نواحيهم، وطافَ الخيالُ: أمَّ يطيف طَيْفاً. فقد فرَّق بين ذي الواو، وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت.
وزعم السُّهَيْليُّ: أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل، قال: «لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له» قال: فأما قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ [القلم: ١٩] فلا يقالُ فيه «طَيف» ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة؛ وقال حسان: [السريع]
٢٦٦٢ - جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ
وقال السدُّ: الطَّيْفُ الجنون، والطائِفُ: الغضب، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْما - هو بمعنى واحد، وهو النَّزغُ.

فصل


قال المفسرون: الطَّيفُ اللمة والوسوسة.
وقيل: الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان، والطيف اللم والمسُّ وقال
434
سعيدُ بن جبير: هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى، فيكظم الغيظ.
وقال مجاهدٌ: هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه.
﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ هذه «إذَا» الفُجائيَّة كقولك: خرجتُ فإذا زيد، والمعنى: يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر، وقال السديُّ: إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ: إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله.
واعلم أنَّ إذَا في قوله: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾ تستدعي جزاءً.
قوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾. في هذه الآيةِ أوجهٌ:
أحدها: أنَّ الضمير في: «إخوانهم» يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم، أو على الشَّيطان نفسه؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ، بل الجِنْسُ.
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم، والتقديرُ: وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله: [البسيط]
٢٦٦٣ - قَوْمً إذا الخَيْلأُ جَالُوا في كَواثبِهَا.............................
وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له، ولم يَبْرُزْ ضمير.
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ: هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين.
قال الزمخشريُّ: هو أوجهُ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة: «الَّذينَ اتَّقَوا».
الثاني: أنَّ المراد بالإخوان الشياطين، وبالضَّمير المضاف إليه: الجاهلُون، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله، والواو تعودُ على الإخوان، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين، أو غير المتَّقين؛ والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى، وهذا تفسير قتادة.
435
الثالث: أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارث.
قال ابنُ عطيَّة: ويكون المعنى: وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ، أي: وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسنُ أن يتعلَّق بم تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان.
قال أبُو حيَّان: ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب: يمدُّونهم على جهة السببية، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم، نحو: دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ، أي: بسبب هرَّةٍ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كائنين في الغيّ، فيكون في الغيِّ في موضعه، ولا يتعلَّق ب: إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية.
وعندي في ذلك نظرٌ.
فلو قلت: مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر، لكان في جوازه نظر، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاص، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ.
قال شهاب الدين: ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون: بفتح الياء وضم الميم، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [البقرة: ١٥٥].
فقيل: أمَدَّ ومَدَّ لغتان.
وقيل: مَدَّ معناه: جذب، وأمَدَّ معناه من: الإمداد.
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ، كقوله ﴿أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ [المؤمنون: ٥٥] وقوله ﴿وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ﴾ [الطور: ٢٢] ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ [النمل: ٣٦] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على: مددت؛ قال تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] فالوجه ههنا قراءة العامة، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] وقرأ
436
الجحدريُّ: يُمَادُّونهُم من: مادَّهُ بزنة: فاعله، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من: أقْصَرَ، قال الشاعر: [الطويل]
٢٦٦٤ - لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ
وقال امرؤُ القيس: [الطويل]
٢٦٦٥ - سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا
أي: ولا نازع ممَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع، وقرأ عيسى ابن عمر، وابن أبي عبلة «ثُمَّ لا يَقصُرون» بفتح الياء مِن: قَصرَ، أي: لا يَنْقُصُونَ من قوله
﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً﴾ [الأعراف: ١٩٢] وهو تكلف بعيد.
وقوله «فِي الغيِّ» قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو ب «إخوانهم» أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من «إخوانهم» وإمَّا من واو «يَمُدُّونهُم» وإمَّا من مفعوله.

فصل


قال اللَّيث: الإقصارُ: الكَفُّ عن الشَّيء، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى.
قال ابنُ عبَّاسٍ: ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال، وأمَّا المغوي ففي الإضلال. قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي: يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه.
وقيل: يزيدونهم في الضَّلالة.
قوله ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ ﴿قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها﴾ أي: هلاَّ افتعلْتَهَا، وأنشأتها من قبل نفسك، والاجتباء: افتعال من: جباهُ يَجْبيه، أي: يجمعه مختاراً له، ولهذا يقال: أجْتَبَيْتُ الشيء، أي: اخترته.
وقال الزمخشريُّ: اجْتَبَى الشيء، بمعنى جباهُ لنفسه، أي جمعه، كقولك: اجتمعه أو جُبِيَ إليه، فاجتباه: أي أخذهُ، كقولك: جليْتُ له العروس فاجتلاها، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك.
437
قال الفراء: تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه﴾ [الفرقان: ٤] أو يقال: هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء: ٩٠]. وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي، فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾ أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي.
ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدُ في الغرض؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة، فهي كافية في تصحيح النبوة، فطلب الزيادة تعنت؛ فلا جرم قال: قل هذا يعني: القرآن بَصائرُ حجج، وبيان، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، والبصائرُ: جمع بصيرة، أوصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به، أي: هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب.
قال بُو حيَّان: وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذو بصائر ثم قال: وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها إنَّ النَّاس في معارف التوحيد، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام:
إحدها: الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها، وهم أصحاب عين اليقين.
والثاني: الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر، وفي حق القسم الثاني هُدىً، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال: «قَوْمٍ يُؤمنُونَ».
438
قوله تعالى :﴿ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ ﴾ الآية.
قال : عبدُ الرحم بن زيد : لما نزل قوله :" خُذِ العَفْوَ " الآية : قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم " كيف يا رب بالغضب ؟١ "
فنزل قوله :﴿ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ ﴾ الآية والنَّزْغُ : أدنى حركة تكونُ، قاله الزَّجَّاجُ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت : قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان ؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده.
وقال الزمخشري٢ : والنَّزغُ والنِّسْغُ : الغَرْزُ والنَّخْسُ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل " جَدَّ جَدُّه " يعني : قصد بذلك المبالغة.
وقيل : النَّزغ : الإزعاج، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ، وتقريره : أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال :﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين ﴾ ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال : فاستَعِذْ باللَّهِ " وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لَجميع المكلفين. وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة ؛ وقوله :﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنَّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك.
١ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٥٥)..
٢ ينظر: تفسير الزمخشري ٢/١٩٠..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ﴾ الآية.
بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُ على حال الرسُول في هذا الباب ؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو١، والكسائيُّ : طَيْفٌ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل.
فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ ك : بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة :[ الكامل ]
أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ٢
والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة، كقولهم في : مَيِّت مَيْت، وفي : لَيِّن لَيْن، وفي : هَيِّن هَيْن.
ثم " طَيِّف " الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من : طافَ يطيف، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم.
وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء.
والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ، فقلبت الواو ياءً.
قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ.
قال شهابُ الدينِ٣ : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه.
وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ. وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف، فيكون ك : قائم وقائلٍ. وأن يكون من : طاف يطيفُ، فيكون ك : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل : طَيْف فيجعلهما مصدرين، وقد جاء فاعل مصدراً، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل.
وقال الفارسي٤ : الطَّيْف كالخَطْرة، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان.
قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا ؛ وقد قال الأعشى :[ الطويل ]
وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ٥
ولا أدري ما تَعَجُّبُه ؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة، وهي سَقْطة ؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً.
وقال أبُو زيدٍ الأنصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر، يَطُوف طَوْفاً، وطَوَافاً، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم، وطافَ الخيالُ : ألمَّ يطيف طَيْفاً. فقد فرَّق بين ذي الواو، وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت.
وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل، قال :" لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له " قال : فأما قوله تعالى :﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ ﴾ [ القلم : ١٩ ] فلا يقالُ فيه " طَيف " ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة ؛ وقال حسان :[ السريع ]
جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ٦
وقال السدُّ : الطَّيْفُ الجنون، والطائِفُ : الغضب٧، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو بمعنى واحد، وهو النَّزغُ٨.

فصل


قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة.
وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان، والطيف اللمم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى، فيكظم الغيظ٩.
وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه١٠.
﴿ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ هذه " إذَا " الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله.
واعلم أنَّ إذَا في قوله :﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ﴾ تستدعي جزاءً.
١ ينظر: السبعة ٣٠١، والحجة ٤/١٢٠، وحجة القراءات ٣٠٥، وإعراب القراءات ١/٢١٧، وإتحاف ٢/٧٣..
٢ البيت لكعب بن زهير. ينظر: ديوانه ٨٤ والطبري ١٣/٣٣٥، واللسان "ذكر" والكشاف ٢/١٣٩، وشواهد الكشاف ٤/١٩٠ والبحر ٤/٤٤٥، والدر المصون ٣/٣٠٨..
٣ ينظر: الدر المصون ٣/٣٨٨..
٤ ينظر: الحجة ٤/١٢١..
٥ تقدم..
٦ ينظر: ديوانه ١٨٤، والبحر المحيط ٤/٤٤٦، والدر المصون ٣/٣٨٩..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٦/١٥٦) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/٢٨٣) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "ذم الغضب" وابن المنذر وأبي الشيخ..
٨ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٥٧)..
٩ ذكره الواحدي في "الوسيط" (٢/٤٣٨) والسمرقندي في "بحر العلوم" تفسير سورة الأعراف آية ٢٠٢ وأبو حيان في البحر المحيط ٤/٤٥٠، والبغوي في "تفسيره" (٢/٢٢٥)..
١٠ ذكره الواحدي في الوسيط ٢/٤٣٨، والبغوي ٢/٢٢٥، وأبو حيان في البحر المحيط (٢/٢٢٥)..
قوله :﴿ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ﴾. في هذه الآيةِ أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الضمير في :" إخوانهم " يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم، أو على الشَّيطان نفسه ؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ، بل الجِنْسُ.
والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله :[ البسيط ]
قَوْمً إذا الخَيْلُ جَالُوا في كَواثبِهَا ***. . . ١
وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له، ولم يَبْرُزْ ضمير.
وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين.
قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة :" الَّذينَ اتَّقَوا ".
الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله، والواو تعودُ على الإخوان، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين، أو غير المتَّقين ؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى، وهذا تفسير قتادة.
الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّار.
قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسنُ أن يتعلَّق بما تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان.
قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب : يمدُّونهم على جهة السببية، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ، أي : بسبب هرَّةٍ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ، فيكون في الغيِّ في موضعه، ولا يتعلَّق ب : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية.
وعندي في ذلك نظرٌ.
فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر، لكان في جوازه نظر، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معا، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ.
قال شهاب الدين٢ : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ٣ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : ١٥٥ ].
فقيل : أمَدَّ ومَدَّ لغتان.
وقيل : مَدَّ معناه : جذب، وأمَدَّ معناه من : الإمداد.
قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ، كقوله ﴿ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥ ] وقوله ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ ﴾ [ الطور : ٢٢ ] ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ [ النمل : ٣٦ ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت ؛ قال تعالى :﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥ ] فالوجه ههنا قراءة العامة، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] وقرأ٤ الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ، قال الشاعر :[ الطويل ]
لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ *** ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ٥
وقال امرؤُ القيس :[ الطويل ]
سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا *** وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا٦
أي : ولا نازع ممَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع، وقرأ عيسى ابن عمر٧، وابن أبي عبلة " ثُمَّ لا يَقصُرون " بفتح الياء مِن : قَصرَ، أي : لا يَنْقُصُونَ من إمدادهم وهذه الجملة أعني :" وإخوانهم يمدونهم " زعم الزجاج : أنها متصلة بالجملة من قوله ﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ﴾ [ الأعراف : ١٩٢ ] وهو تكلف بعيد.
وقوله " فِي الغيِّ " قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو ب " إخوانهم " أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من " إخوانهم " وإمَّا من واو " يَمُدُّونهُم " وإمَّا من مفعوله.

فصل


قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى.
قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال، وأمَّا المغوي ففي الإضلال. قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه٨.
وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة.
١ صدر بيت لزياد بن منقذ وعجزه:
فوارس الخيل لا ميل ولا فزم
ينظر: المحتسب ١/٢٩١ والبحر المحيط ٤/٤٤٧، والصحاح واللسان "قزم" والكشاف ٢/١٣٩، وشواهد الكشاف ٤/٥٢٥ والدر المصون ٣/٣٨٩..

٢ ينظر: الدر المصون ٣/٣٩٠..
٣ ينظر: السبعة ٣٠١، والحجة ٤/١٢٢، وإعراب القراءات ١/٢١٩، وحجة القراءات ٣٠٦، وإتحاف ٢/٧٣..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٩٣، والبحر المحيط ٤/٤٤٧، والدر المصون ٣/٣٩٠..
٥ البيت لامرئ القيس. ينظر: ديوانه ١٠٩ والبحر المحيط ٤/٤٤٧، واللسان "قرر" والدر المصون ٣/٣٩٠..
٦ ينظر: ديوانه ٥٦ والدر المصون ٣/٢٩٠..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٢/٤٩٣، والبحر المحيط ٤/٤٤٧، والدر المصون ٣/٣٩٠..
٨ انظر: تفسير الرازي ١٥/٨٢..
قوله ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ﴾ يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ ﴿ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها ﴾ أي : هلاَّ افتعلْتَهَا، وأنشأتها من قبل نفسك، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه، أي : يجمعه مختاراً له، ولهذا يقال : اجْتَبَيْتُ الشيء، أي : اخترته.
وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء، بمعنى جباهُ لنفسه، أي جمعه، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه، فاجتباه : أي أخذهُ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك.
قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه ﴾ [ الفرقان : ٤ ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ]. وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي، فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ﴾ أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي.
ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدحُ في الغرض ؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة، فهي كافية في تصحيح النبوة، فطلب الزيادة تعنت ؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج، وبيان، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، والبصائرُ : جمع بصيرة، وأصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب.
قال أبُو حيَّان١ : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً ؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها أنَّ النَّاس في معارف التوحيد، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام :
إحداها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها، وهم أصحاب عين اليقين.
والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر، وفي حق القسم الثاني هُدىً، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال :" قَوْمٍ يُؤمنُونَ ".
١ ينظر: البحر المحيط ٤/٤٨. .
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ﴾ الآية.
لمَّا عظَّم شأن القرآن بقوله: «هَذَا بصائرُ» أردفهُ بقوله: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن﴾.
قوله له متعلقٌ ب: استَمِعُوا على معنى لأجله، والضمير للقرآن، وقال أبو البقاءِ:
438
يجوزُ أن يكون بمعنى للَّه، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعدٌ، وجوَّز أيضاً أن تكون اللام زائدةً: أي فاستمعُوهُ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يجوزُ عند الجمهور إلا في موضعين إمَّا تقديم المعمولِ، أو كون العامل فرعاً، وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى، ولا حاجة إليه.
قوله «وأنصتُوا» الإنصاتُ: السُّكوت للاستماعِ. قال الكميتُ: [الطويل]
٢٦٦٦ - أبُوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بِنصْرِهِ فأنْصَتَ عَنِّي بعده كُلَّ قَائِلِ
قال الفراء: ويقال: نصت ونصت بمعنى واحدٍ، وقد جاء أنْصَت متعديّاً.

فصل


فقوله: ﴿فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ أمرٌ، وظاهر الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون الاستماعُ والسكوتُ واجباً ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال.
أحدها: قال الحسنُ وأهلُ الظاهر: يجب الاستماعُ والإنصات لكل قارئ، سواء كان معلم صبيان أو قارئ طريق.
الثاني: تحريم الكلام في الصَّلاة.
قال أبو هريرة: كانوا يتكلَّمون في الصَّلاة فنزلت هذه الآية، فأمروا بالإنصات.
وقال قتادةُ: كان الرَّجُلُ يأتي وهُم في الصَّلاةِ، فيسألهم: كم صلَّيتم وكم بقي؟ وكانُوا يتكلَّمون في الصَّلاةِ بحوائجهم فأنزل اللَّهُ هذه الآية.
الثالث: نزلت في ترك الجَهْر بالقراءة وراء الإمام.
قال ابنُ عبَّاسٍ: قرأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصَّلاة المكتوبةِ، وقرأ أصحابه وراءهُ رافعينَ أصواتهم؛ فخلطوا عليهم فنزلت هذه الآية، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال الكلبيُّ: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنَّهُ سمع ناساً يقرءون مع الإمام فلمَّا انصرف، قال: أما آن لكم أن تفقهوا ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقال سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد: إنَّ الآية في الخطبة، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام
439
يوم الجمعة، وهذا بعيدٌ لأنَّ الآية مكَّية والجمعة وجبت بالمدينة.

فصل


اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصَّلاةن فروي عن عمر، وعثمان، وعليِّ، وابن عباسٍ ومعاذ، وجوب القراءة سواء جهر الإمامُ بالقراءة أو أسرَّ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي؛ وروي عن ابن عمر، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد: أنَّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ إذا جهر، وبه قال الزهري «: ومالك، وابن المبارك، وأحمد وإسحاق، وروي عن جابر أنَّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر، وبه قال الثَّوري، وأصحابُ الرأي، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية، ومن أوجبها قال: الآية في غير الفاتحةِ، ويقرأ الفاتحة في سكتاتِ الإمام ولا ينازعُ الإمام في القراءة.
قوله تعالى: ﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ الآية.
قال ابن عباس: يعني بالذِّكر: القراءة في الصلاة، يريد يقرأ سراً في نفسه.
قوله «تَضَرُّعاً وخيفَةً»
في نصبهما وجهان:
أظهرهما: أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر. والثاني: أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة.
وقرئ «وخفيَةً» بتقديم الفاءِ، وقيل: هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ. وهو بعيدٌ.
قوله: «ودُونَ الجَهْرِ» قال أبُو البقاءِ: معطوف على تَضَرُّع، والتقديرُ، ومقتصدين. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف علىلمشهور، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال: ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ، لأنَّ الغخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأٌربُ إلى حسن التفكر.

فصل


معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي: تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من
440
وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ: أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رعف الصوت والصياح في الدعاء.
قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب: اذْكُر أي: اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ.
ومعناهما: البكرات والعشيَّات.
وقال أبُو البقاءِ: بالغُدُوِّ متعلق ب: ادعُو وهو سبقُ لسانٍ، أو قلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا، والغُدُوُّ: إما جمع غدوة، ك: قمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي.
وقيل هو مصدرٌ، قال تعالى: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: ١٢] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره: بأوقات الغدو، والآصال جمع: أصُل، وأصُل جمع: أصيل، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل: أصِيل، لأنَّ فعيلاً، لا يجمع على أفعال وقيل: هو جمعٌ ل: أصِيل، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو: يَمِينٌ وأيمانٌ، وقيل: آصال جمع ل: أصُل، وأصُل مفرد، ثبت ذلك من لغتهم، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على «أفْعَال» قالوا: عُنُق وأعْنَاق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع، ويجمعُ على «أصْلأان» ك: رغيفٍ ورُغْفَان، ويُصَغَّر على لفظه؛ كقوله: [البسيط]
٢٦٦٧ - وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَئِلُهَا عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ
واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم: أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد، وتُبْدَل نونه لاماً. ويروى أصيلاً كَيْ.
وقرأ أبو مجلز واسمه: لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري: والإيصَال مصدرُ: أصَلَ أي: دَخَلَ في الأصيلِ، والأصيلُ: ما بين العصر والمغرب.
ثمَّ قال تعالى ﴿وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين﴾ والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله: ﴿وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين﴾ يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائماص، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان.
قوله: ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ﴾ يعني الملائكة المُقرَّبين: «لا يسْتكبرُونَ» لا يتكبَّرُون
441
عن عبادته. لمّا رغَّب رسولهُ في الذِّكر ذكر عُقيبه ما يُقوِّي دواعيه فقال: ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ﴾ أي أنَّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعثِ الشَّهوَةِ والغضب، والحقدِ، والحسدِ، مُواظبُونَ على العبوديَّة والسُّجودِ، والخُضُوعِ، فالإنسانُ المُبتَلَى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية أوْلَى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ، والمرادُ بالعندية القرب الشَّرف
واستدلُّوا بهذه الية على أنَّ الملائكة أفضلُ من البشرِ، لأنَّهُ تعالى لمَّا أمر رسولهُ بالعبادة والذكر قال: ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي: فأنت أحقّ وأولَى بالعبادِة، وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الملائكةُ أفضل منه.
قوله: «ويُسَبِّحُونهُ» أي: يُنزِّهُونه ويقولون سبحان الله: «ولهُ يَسجُدُون».
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: ﴿فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [الحجر: ٣٠، ٣١] والمراد أنهم سجدوا لآدم؟
فالجوابُ: قال بعضُ العلماءِ: الذين سجدُوا لآدم - عليه السلامُ - ملائكة الأرض، وأمَّا ملائكة السَّموات فلا، وقيل: إنَّ قوله «ولهُ يسجُدُون» يفيدُ أنَّهم ما سجدُوا لغيرِ اللَّهِ بهذا العمومِ، وقوله: فسجدُوا لآدم خاص والخاصُّ مقدمٌ على العام.

فصل


روى أبُو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا قَرَأ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فسجد اعتزلَ الشيطان يبكي يقول يا ويلهُ! أمر ابنُ آدمَ بالسجُودِ فسجد فلهُ الجنَّةُ وأمِرْتُ بالسُّجثود فعصيْت فلِيَ النَّارُ»
وعن معدان قال: «سألتُ ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلت: حَدِّثني حديثاً ينفعني اللَّهُ به.
قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سجدةً إلاَّ رفعهُ اللَّهُ بها درجةً وحطَّ عنهُ بها خطيئةً»

وروي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ قَرَأ سُورة الأعرافِ جعل الله بينهُ وبين إبليسَ سِتْراً وكانَ آدمُ شَفِيعاً لهُ يَوْمَ القيامةِ قَرِيباً منهُ»
442
سورة الأنفال
مدنية. قيل: إلا سبع آيات من قوله: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾ [الآية: ٣٠] إلى آخر سبع آيات، فإنها نزلت بمكة، والأصح أنها نزلت بالمدينة، وإن كانت الواقعة بمكة، وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وتسعون كلمة وخمسة آلاف وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم
443
قوله تعالى :﴿ واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ﴾ الآية.
قال ابن عباس : يعني بالذِّكر : القراءة في الصلاة، يريد يقرأ سراً في نفسه١.
قوله " تَضَرُّعاً وخيفَةً " في نصبهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر.
والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي : مُتضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة.
وقرئ " وخفيَةً " ٢ بتقديم الفاءِ، وقيل : هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ. وهو بعيدٌ.
قوله :" ودُونَ الجَهْرِ " قال أبُو البقاءِ : معطوف على تَضَرُّع، والتقديرُ، ومقتصدين. وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف على المشهور، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال : ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ، لأنَّ الإخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأٌربُ إلى حسن التفكر.

فصل


معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي : تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من خلفك.
وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ : أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح في الدعاء٣.
قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب : اذْكُر أي : اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ.
ومعناهما : البكرات والعشيَّات.
وقال أبُو البقاءِ٤ : بالغُدُوِّ متعلق ب : ادعُو وهو سبقُ لسانٍ، أو قلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا، والغُدُوُّ : إما جمع غدوة، ك : قمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي.
وقيل هو مصدرٌ، قال تعالى :﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ [ سبأ : ١٢ ] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره : بأوقات الغدو، والآصال جمع : أصُل، وأصُل جمع : أصيل، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل : أصِيل، لأنَّ فعيلاً، لا يجمع على أفعال وقيل : هو جمعٌ ل : أصِيل، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو : يَمِينٌ وأيمانٌ، وقيل : آصال جمع ل : أصُل، وأصُل مفرد، ثبت ذلك من لغتهم، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على " أفْعَال " قالوا : عُنُق وأعْنَاق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع، ويجمعُ على " أصْلان " ك : رغيفٍ ورُغْفَان، ويُصَغَّر على لفظه ؛ كقوله :[ البسيط ]
وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَائِلُهَا عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ٥
واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم : أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد، وتُبْدَل نونه لاماً. ويروى أصيلاً كَيْ.
وقرأ أبو مجلز٦ واسمه : لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري : والإيصَال مصدرُ : آصَلَ أي : دَخَلَ في الأصيلِ، والأصيلُ : ما بين العصر والمغرب.
ثمَّ قال تعالى ﴿ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين ﴾ والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله :﴿ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين ﴾ يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائما، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان.
١ ذكره الواحدي في الوسيط (٢/٤٤٠) والبغوي (٢/٢٢٦) والقرطبي في تفسيره (٧/٢٢٥)..
٢ ينظر: الدر المصون ٣/٣٩١..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره (٦/١٦٥)..
٤ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٢٩١..
٥ البيت للنابغة ينظر ديوانه ٣٠، الكتاب ٢/٣٢١، المقتضب ٤/٤١٤، شرح المفصل لابن يعيش ٢/٨٠، أوضح المسالك ٢/٣٨٩، مجاز القرآن ١/٣٢٨، التصريح ٢/٣٦٧ الإنصاف ١/١٧٠، معاني الفراء ١/٢٨٨ الدر المصون ٣/٣٩١..
٦ ينظر: الإملاء لأبي البقاء ١/٤٩٤، والبحر المحيط ٤/٤٤٩، الدر المصون ٣/٣٩١..
قوله :﴿ إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ ﴾ يعني الملائكة المُقرَّبين :" لا يسْتكبرُونَ " لا يتكبَّرُون عن عبادته. لمّا رغَّب رسولهُ في الذِّكر ذكر عُقيبه ما يُقوِّي دواعيه فقال :﴿ إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ ﴾ أي أنَّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعثِ الشَّهوَةِ والغضب، والحقدِ، والحسدِ، مُواظبُونَ على العبوديَّة والسُّجودِ، والخُضُوعِ، فالإنسانُ المُبتَلَى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية أوْلَى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ، والمرادُ بالعندية القرب بالشَّرف.
واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الملائكة أفضلُ من البشرِ، لأنَّهُ تعالى لمَّا أمر رسولهُ بالعبادة والذكر قال :﴿ إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ أي : فأنت أحقّ وأولَى بالعبادِة، وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الملائكةُ أفضل منه.
قوله :" ويُسَبِّحُونهُ " أي : يُنزِّهُونه ويقولون سبحان الله :" ولهُ يَسجُدُون ".
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله :﴿ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ [ الحجر : ٣٠، ٣١ ] والمراد أنهم سجدوا لآدم ؟
فالجوابُ : قال بعضُ العلماءِ : الذين سجدُوا لآدم - عليه السلامُ - ملائكة الأرض، وأمَّا ملائكة السَّموات فلا، وقيل : إنَّ قوله " ولهُ يسجُدُون " يفيدُ أنَّهم ما سجدُوا لغيرِ اللَّهِ بهذا العمومِ، وقوله : فسجدُوا لآدم خاص والخاصُّ مقدمٌ على العام.
Icon