تفسير سورة الأعراف

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْأَعْرَافِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢).
(المص) : قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وَ «كِتَابٌ» خَبَرُهُ، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيِ: الْمَدْعُوُّ بِهِ «المص»، وَكِتَابٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: هَذَا، أَوْ هُوَ. وَ (أُنْزِلَ) : صِفَةٌ لَهُ.
(فَلَا يَكُنْ) : النَّهْيُ فِي اللَّفْظِ لِلْحَرَجِ، وَفِي الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ؛ أَيْ: لَا تَحْرَجْ بِهِ.
وَ (مِنْهُ) : نَعْتٌ لِلْحَرَجِ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ أَيْ: لَا تَحْرَجْ مِنْ أَجْلِهِ.
وَ (لِتُنْذِرَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِأُنْزِلَ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَكُنْ؛ أَيْ: لَا تَحْرَجْ بِهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِنْزَالِ، فَالْهَاءُ فِي مِنْهُ لِلْكِتَابِ، أَوْ لِلْإِنْزَالِ. وَالْهَاءُ فِي «بِهِ» لِلْكِتَابِ. (وَذِكْرَى) : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَنْصُوبٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أُنْزِلَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ لِتُنْذِرَ وَتُذَكِّرَ؛ أَيْ: وَلِذِكْرَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كِتَابٍ. وَالثَّانِي: خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَهُوَ ذِكْرَى.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ تُنْذِرَ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْهَاءِ فِي «بِهِ»، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ الْجَارُّ لَمْ يُعَدْ.
قَالَ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ رَبِّكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأُنْزِلَ، وَيَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وَيَكُونَ حَالًا؛ أَيْ: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كَائِنًا مِنْ رَبِّكُمْ. وَ (مِنْ دُونِهِ) : حَالٌ مِنْ أَوْلِيَاءَ، وَ (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) : مِثْلُ: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) [الْبَقَرَةِ: ٨٨]. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
وَ «تَذَكَّرُونَ» بِالتَّخْفِيفِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْإِدْغَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) (٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) : فِي «كَمْ» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَ «مِنْ قَرْيَةٍ» تَبْيِينٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ، وَالْخَبَرُ «أَهْلَكْنَاهَا»، وَجَازَ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى «كَمْ» ؛ لِأَنَّ كَمْ فِي الْمَعْنَى «قُرًى». وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَكْنَاهَا صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ، وَالْخَبَرُ «فَجَاءَهَا بَأْسُنَا» وَهُوَ سَهْوٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ «كَمْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ أَهْلَكْنَاهَا، وَالتَّقْدِيرُ: كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكْنَا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ عَلَى «كَمْ» وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا؛ لِأَنَّ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ إِذْ أَشْبَهَتْ رُبَّ، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا كَقَوْلِهِ: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النَّحْلِ: ٩٨] : أَيْ: أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ؛ أَيْ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَالْقَلْبُ هُنَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَيَبْقَى مَحْضَ ضَرُورَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا فَجَاءَ أَهْلُهَا. (بَيَاتًا) : الْبَيَاتُ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الظَّرْفِ. (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَ «أَوْ» لِتَفْصِيلِ الْجُمَلِ؛ أَيْ: جَاءَ بَعْضُهُمْ بَأْسُنَا لَيْلًا وَبَعْضُهُمْ نَهَارًا، وَالْوَاوُ هُنَا وَاوُ «أَوْ» وَلَيْسَتْ حَرْفَ الْعَطْفِ سُكِّنَتْ تَخْفِيفًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) [الْبَقَرَةِ: ١٠٠].
قَالَ تَعَالَى: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) (٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (دَعْوَاهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ كَانَ، وَ (إِلَّا أَنْ قَالُوا) : الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِعِلْمٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ: عَالِمِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْوَزْنُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَ (يَوْمَئِذٍ) : خَبَرُهُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ وَالْوَزْنُ كَائِنٌ يَوْمَئِذٍ. وَ (الْحَقُّ) : صِفَةٌ لِلْوَزْنِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: هَذَا الْوَزْنُ. وَيَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ صِفَةً؛ لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) (٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا كَانُوا) :«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ؛ أَيْ: بِظُلْمِهِمْ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَسِرُوا.
قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش قَلِيلا مَا تشكرون﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعَايِشَ) : الصَّحِيحُ أَنَّ الْيَاءَ لَا تُهْمَزُ هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَصْلِيَّةٌ، وَحُرِّكَتْ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مُحَرَّكَةٌ، وَوَزْنُهَا مَعْيِشَةٌ كَمَحْبِسَةٍ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا الْفَتْحَ، وَأُعِلَّتْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْوَاحِدِ كَمَا أُعِلَّتْ فِي يَعِيشُ، وَهَمَزَهَا قَوْمٌ، وَهُوَ بِعِيدٌ جِدًّا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شِبْهُ الْأَصْلِيَّةِ الزَّائِدَةِ، نَحْوَ سَفِينَةٍ وَسَفَائِنَ. (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) : مِثْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) : أَيْ إِيَّاكُمْ. وَقِيلَ: الْكَافُ لِلْجِنْسِ الْمُخَاطَبِ، وَهُنَا مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ قَدْ تَقَدَّمَتْ. (لَمْ يَكُنْ) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢).
قَوْلُهُ
تَعَالَى
: (أَلَّا
) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَ (إِذْ) : ظَرْفٌ لِتَسْجُدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ) : الْجَارُّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ: خَلَقْتَنِي كَائِنًا مِنْ نَارٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِخَلَقْتَنِي، وَلَا زَائِدَةٌ؛ أَيْ: وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِمَا) : الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِـ (لَأَقْعُدَنَّ) وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ. (صِرَاطَكَ) : ظَرْفٌ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: عَلَى صِرَاطِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (١٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) : هُوَ جَمْعُ شَمَالٍ، وَلَوْ جُمِعَ أَشِمْلَةً وَشَمْلَاءَ جَازَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَذْءُومًا) : يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ، وَهُوَ مِنْ ذَأَمْتُهُ إِذَا عِبْتُهُ، وَيُقْرَأُ: «مَذُومًا» بِالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَلْقَى حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى الذَّالِ وَحَذَفَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مَذِيمًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ ذَامَهُ يَذِيمُهُ ذَيْمًا، فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ وَاوًا، كَمَا قَالُوا فِي مَكِيلٍ: مَكُولٌ، وَفِي مَشِيبٍ: مَشُوبٌ، وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ حَالَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَدْحُورًا» حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي «مَذْءُومًا».: (لَمَنْ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَسَدَّ الْقَسَمُ الْمُقَدَّرُ وَجَوَابُهُ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَأَمْلَأَنَّ).
وَ (مِنْكُمْ) : خِطَابٌ لِجَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا خِطَابٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذِهِ الشَّجَرَةَ) : يُقْرَأُ هَذِي بِغَيْرِ هَاءٍ، وَالْأَصْلُ فِي «ذَا» : ذَيٌّ لِقَوْلِهِمْ فِي التَّصْغِيرِ: ذَيًّا فَحُذِفَتِ الْيَاءُ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفًا، وَقُلِبَتِ الْيَاءُ الْأُولَى أَلِفًا؛ لِئَلَّا تَبْقَى مِثْلَ كَيْ، فَإِذَا خَاطَبْتَ الْمُؤَنَّثَ، رُدَّتِ الْيَاءُ، وَكُسِرَتِ الذَّالُ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّغْيِيرُ. وَأَمَّا الْهَاءُ فَجُعِلَتْ عِوَضًا مِنَ الْمَحْذُوفِ حِينَ رُدَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَوُصِلَتْ بِيَاءٍ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُ هَاءِ الضَّمِيرِ فِي اللَّفْظِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (٢٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ سَوْآتِهِمَا) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ. وَيُقْرَأُ بِوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَلْقَى حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى الْوَاوِ، وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَذَلِكَ عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا. وَيُقْرَأُ «سَوْأَتُهُمَا» عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ جِنْسٌ. (إِلَّا أَنْ تَكُونَا) : أَيْ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَا، فَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. (مَلَكَيْنِ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [الْبَقَرَةِ: ١٣٠]. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) : الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ مُبْدَلَةٍ مِنْ لَامٍ، وَالْأَصْلُ دَلَّلَهُمَا مِنَ الدَّلَالَةِ، لَا مِنَ الدَّلَالِ، وَجَازَ إِبْدَالُ اللَّامِ لَمَّا صَارَ فِي الْكَلِمَةِ ثَلَاثُ لَامَاتٍ.
(بِغُرُورٍ) : يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ؛ أَيْ: وَهُمَا مُغْتَرَّانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَطَفِقَا) : فِي حُكْمِ كَادَ، وَمَعْنَاهَا الْأَخْذُ فِي الْفِعْلِ.
وَ (يَخْصِفَانِ) : مَاضِيهِ خَصَفَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَالتَّقْدِيرُ: شَيْئًا «مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ».
وَقُرِئَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفًا، وَمَاضِيهِ أَخْصَفَ، وَبِالْهَمْزَةِ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَخْصِفَانِ أَنْفُسَهُمَا.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ تَعْلِيلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٢٠].
(عَنْ تِلْكُمَا) : وَقَدْ ذَكَرْنَا أَصْلَ «تِلْكَ». وَالْإِشَارَةُ إِلَى الشَّجَرَةِ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَالْمُخَاطَبُ اثْنَانِ، فَلِذَلِكَ ثَنَّى حَرْفَ الْخِطَابِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (٢٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) : الْوَاوُ فِي الْأَصْلِ تَعْطِفُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِالظَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ.
وَتُخْرَجُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْمَعْنَى فِيهَا مَفْهُومٌ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرِيشًا) : هُوَ جَمْعُ رِيشَةٍ، وَيُقْرَأُ رِيَاشًا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ رِيشٌ، مِثْلُ رِيحٍ وَرِيَاحٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ مِثْلُ اللِّبَاسِ. (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى رِيشًا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْزِلُ اللِّبَاسُ وَالرِّيشُ، قِيلَ: لَمَّا كَانَ الرِّيشُ وَاللِّبَاسُ يَنْبُتَانِ بِالْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ يَنْزِلُ، جُعِلَ مَا هُوَ الْمُسَبَّبُ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ، وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَ (ذَلِكَ) : مُبْتَدَأٌ، وَ (خَيْرٌ) : خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ لِبَاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِلِبَاسُ؛ أَيِ: الْمَذْكُورُ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَخَيْرٌ الْخَبَرُ. وَقِيلَ: لِبَاسُ التَّقْوَى خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَسَاتِرُ عَوْرَاتِكُمْ لِبَاسُ التَّقْوَى، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ؛ أَيْ: وَلِبَاسُ التَّقْوَى سَاتِرُ عَوْرَاتِكُمْ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ
مُضَافٍ؛ أَيْ: وَلِبَاسُ أَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلِبَاسُ الِاتِّقَاءِ الَّذِي يُتَّقَى بِهِ النَّظَرُ، فَلَا حَذْفَ إِذًا.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (٢٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ) : النَّهْيُ فِي اللَّفْظِ لِلشَّيْطَانِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا الشَّيْطَانَ فَيَفْتِنَكُمْ. (كَمَا أَخْرَجَ) : أَيْ فِتْنَةً كَفِتْنَةِ أَبَوَيْكُمْ بِالْإِخْرَاجِ. (يَنْزِعُ عَنْهُمَا) : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِنْ شِئْتَ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَخْرَجَ، وَإِنْ شِئْتَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَيْنِ لَهُمَا، وَيَنْزِعُ حِكَايَةُ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ؛ لِأَنَّ نَزْعَ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا كَانَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ. فَإِنْ قِيلَ: الشَّيْطَانُ لَمْ يَنْزِعْ عَنْهُمَا اللِّبَاسَ، قِيلَ: لَكِنَّهُ تَسَبَّبَ فَنُسِبَ الْإِخْرَاجُ وَالنَّزْعُ إِلَيْهِ. (هُوَ وَقَبِيلُهُ) : هُوَ تَوْكِيدٌ لِضَمِيرِ الْفَاعِلِ لِيَحْسُنَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا) : فِي تَقْدِيرِ الْكَلَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ «الْقِسْطِ» عَلَى الْمَعْنَى؛ أَيْ: أَمَرَ رَبِّي فَقَالَ أَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا. وَالثَّانِي: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَقْبِلُوا وَأَقِيمُوا. وَ (الدِّينَ) : مَنْصُوبٌ بِمُخْلِصِينَ، وَلَا يَجُوزُ هَنَا فَتْحُ اللَّامِ فِي «مُخْلِصِينَ» : لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَفْعُولِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ لَا يُسَمَّى الْفَاعِلُ. (كَمَا) : الْكَافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: تَعُودُونَ عَوْدًا كَبَدْئِكُمْ. (فَرِيقًا هَدَى) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَنْصُوبٌ بِهَدَى، «وَفَرِيقًا» الثَّانِي مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
وَأَضَلَّ فَرِيقًا، وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَحْذُوفِ، وَالْكَلَامُ كُلُّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «تَعُودُونَ»، «وَقَدْ» مَعَ الْفِعْلِ مُرَادَةٌ تَقْدِيرُهُ: تَعُودُونَ قَدْ هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «فَرِيقًا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَالٌ، وَ «هَدَى» وَصْفٌ لِلْأَوَّلِ، وَ (حَقَّ عَلَيْهِمُ) : وَصْفٌ لِلثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ. وَقَرَأَ بِهِ أُبَيٌّ. وَلَمْ تُلْحَقْ تَاءُ التَّأْنِيثِ بِـ «حَقَّ» لِلْفَصْلِ، أَوْ لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) : ظَرْفٌ لِـ «خُذُوا» وَلَيْسَ بِحَالٍ لِلزِّينَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: عِنْدَ قَصْدِ كُلِّ مَسْجِدٍ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هِيَ) : هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَفِي الْخَبَرِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: (خَالِصَةً) : عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ؛ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِخَالِصَةٍ؛ أَيْ: هِيَ خَالِصَةٌ لِمَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا، وَ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ظَرْفٌ لِخَالِصَةٍ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ تَعَلُّقُ الظَّرْفَيْنِ بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلتَّبْيِينِ. وَ (يَوْم) لَا: ظَرْفٌ مَحْضٌ وَ (فِي) مُتَعَلِّقَةٌ بِآمَنُوا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ لِلَّذِينِ، وَخَالِصَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ، وَفِي مُتَعَلِّقَةٌ بِآمَنُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ لِلَّذِينِ، وَفِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَعْمُول الظّرْف الذى هُوَ اللَّام أى يسْتَقرّ للَّذين آمنُوا فى الْحَيَاة الدُّنْيَا وَخَالِصَةٌ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِلَّذِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «خَالِصَةٌ». وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ حَالًا مِنَ الظَّرْفِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ «خَالِصَةً» نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا لِلَّذِينِ، أَوْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِذَا جَعَلْتَهُ خَبَرًا، أَوْ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي حَالِ خُلُوصِهِمَا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أَيْ: إِنَّ الزِّينَةَ يُشَارِكُونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَخْلُصُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِي «خَالِصَةً» زِينَةُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ الَّتِي، وَالْمَصْدَرُ إِذَا وُصِفَ لَا يَعْمَلُ، وَلَا قَوْلُهُ «أَخْرَجَ» لِأَجْلِ الْفَصْلِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا «حَرَّمَ» وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَجْلِ الْفَصْلِ أَيْضًا. (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ) : قَدْ ذَكَرْنَا إِعْرَابَ نَظِيرِهِ فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَنْعَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٣٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) : بَدَلَانِ مِنَ الْفَوَاحِشِ. وَ (بِغَيْرِ الْحَقِّ) : مُتَعَلِّقٌ بِالْبَغْيِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْمَصْدَرِ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَبْغُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ فِي الْمَصْدَرِ ضَمِيرٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَاءَ أَجَلُهُمْ) : هُوَ مُفْرَدٌ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ آجَالُهُمْ عَلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَجَلًا.
قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِرُسُلٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ رُسُلٍ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (٣٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الْكِتَابِ) : حَالٌ مِنْ (نَصِيبُهُمْ).
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) (٣٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلِكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ «خَلَتْ» وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأُمَمٍ. وَ (مِنَ الْجِنِّ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَتْ، أَوْ صِفَةٌ أُخْرَى لِأُمَمٍ. (فِي النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِادْخُلُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِأُمَمٍ، أَوْ ظَرْفًا لَخَلَتْ. (ادَّارَكُوا) : يُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَأَصْلُهَا تَدَارَكُوا، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ دَالًا، وَأُسْكِنَتْ لِيَصِحَّ إِدْغَامُهَا، ثُمَّ أُجْلِبَتْ لَهَا هَمْزَةُ الْوَصْلِ؛ لِيَصِحَّ النُّطْقُ بِالسَّاكِنِ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدِ الدَّالِ، وَوَزْنُهُ عَلَى هَذَا افْتَعَلُوا، فَالتَّاءُ هُنَا بَعْدَ الدَّالِ مِثْلُ اقْتَتَلُوا. وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ: «تَدَارَكُوا» عَلَى الْأَصْلِ؛ أَيْ: أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقُرِئَ «إِذَا إِدَّارَكُوا» بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عَمَّا قَبْلَهَا وَكَسْرِهَا عَلَى نِيَّةِ
الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالِابْتِدَاءِ بِهَا.
وَقُرِئَ «إِذَا ادَّارَكُوا» بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ وَالدَّالُ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٌ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ الثَّانِي مُدْغَمًا، كَمَا قَالُوا: دَابَّةٌ وَشَابَّةٌ، وَجَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ، كَمَا جَازَ فِي الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ «اثْنَا عَشْرَ» بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَسَتَرَاهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَ (جَمِيعًا) : حَالٌ. (ضِعْفًا) : صِفَةٌ لِعَذَابٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُضَعَّفٍ، أَوْ مُضَاعَفٍ. وَ (مِنَ النَّارِ) : صِفَةٌ أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) : أَيْ: لِكُلٍّ عَذَابٌ ضِعْفٌ مِنَ النَّارِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ. (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) : بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَبِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تُفَتَّحُ) : يُقْرَأُ بِالتَّاءِ؛ وَيَجُوزُ فِي التَّاءِ الثَّانِيَةِ التَّخْفِيفُ وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ.
وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْأَبْوَابِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِلْفَصْلِ أَيْضًا. (الْجَمَلُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْجَمَلُ الْمَعْرُوفُ
وَيقْرَأ فى الشاذ بِسُكُون الْمِيم وَالْأَحْسَن أَن يكون لُغَة لِأَن تَخْفيف المفتوح ضَعِيف
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِهَا، وَهُوَ الْحَبْلُ الْغَلِيظُ، وَهُوَ جَمْعٌ مِثْلُ صَوْمٍ وَقَوْمٍ، وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَهُوَ جَمْعٌ مِثْلُ أَسَدٍ وَأُسُدٍ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمِيمَ سَاكِنَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى تَخْفِيفِ الْمَضْمُومِ. (سَمِّ الْخِيَاطِ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ. (وَكَذَلِكَ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «نَجْزِي» عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَوَاشٍ) : هُوَ جَمْعُ غَاشِيَةٍ، وَفِي التَّنْوِينِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَنْوِينُ الصَّرْفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ «غَوَاشِي»، فَنَقَصَ بِنَاؤُهَا عَنْ بِنَاءِ مَسَاجِدَ، وَصَارَتْ مِثْلَ سَلَامٍ، فَلِذَلِكَ صُرِفَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عِوَضٌ مِنَ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ حَرَكَةِ الْيَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَلَمَّا حُذِفَتِ الْحَرَكَةُ، وَعُوِّضَ عَنْهَا بِالتَّنْوِينِ، حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ يَضِيقُ هَذَا الْكِتَابُ عَنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٤٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) : مُبْتَدَأٌ، وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: «لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» وَالتَّقْدِيرُ: مِنْهُمْ، فَحُذِفَ الْعَائِدُ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشُّورَى: ٤٣].
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ «أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ»، وَ «لَا نُكَلِّفُ» مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣).
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْخَبَرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ «تِلْكَ» مُبْتَدَأٌ، وَالِابْتِدَاءُ لَا يَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ نَعْتًا لِتَلْكُمْ، أَوْ بَدَلًا، وَأُورِثْتُمُوهَا الْخَبَرُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ؛ لِأَنَّ الْكَافَ حَرْفٌ لِلْخِطَابِ، وَصَاحِبُ الْحَالِ لَا يَكُونُ حَرْفًا، وَلِأَنَّ الْحَالَ تَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ لَا يَتِمُّ بِتِلْكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا) :«أَنْ» يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ، وَأَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً.
(حَقًّا) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَيَكُونَ وَجَدْنَا بِمَعْنَى عَلِمْنَا. (مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ) : حُذِفَ الْمَفْعُولُ مِنْ «وَعَدَ» الثَّانِيَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَعَدَكُمْ، وَحَذَفَهُ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا وَعَدَ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي نَعِيمَنَا وَعَذَابَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا وَعَدَنَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّارِ شَرٌّ، وَالْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ أَوْعَدَ، وَوَعَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ أَكْثَرَ. (نَعَمْ) : حَرْفٌ يُجَابُ بِهِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فِي إِثْبَاتِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، وَنُونُهَا وَعَيْنُهَا مَفْتُوحَتَانِ، وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْإِتْبَاعِ. (بَيْنَهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَذَّنَ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمُؤَذِّنٍ. (
أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ؛ أَيْ: بِأَنَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ قَوْلٌ، وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَنَصْبِ اللَّعْنَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ؛ أَيْ: فَقَالَ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (٤٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَرًّا وَنَصْبًا وَرَفْعًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَادَوْا) : الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى رِجَالٍ. (أَنْ سَلَامٌ) : أَيْ: أَنَّهُ سَلَامٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ. (لَمْ يَدْخُلُوهَا) أَيْ: لَمْ يَدْخُلْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بَعْدُ. (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) : فِي دُخُولِهَا؛ أَيْ: نَادَوْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَلَا مَوْضِعَ لِقَوْلِهِ «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» عَلَى هَذَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنَّهُمْ نَادَوْهُمْ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا، وَلَكِنَّهُمْ دَخَلُوهَا، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ فِيهَا فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا حَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْقَاءَ) : هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَلَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ تِفْعَالٌ - بِكَسْرِ
التَّاءِ - إِلَّا تِلْقَاءٌ وَتِبْيَانٌ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوَ التِّمْثَالِ، وَالتِّمْسَاحِ، وَالتِّقْصَارِ. وَانْتِصَابُ «تِلْقَاءَ» هَاهُنَا عَلَى الظَّرْفِ؛ أَيْ: نَاحِيَةَ أَصْحَابِ النَّارِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَغْنَى) : وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» نَافِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَنَالُهُمُ) : تَقْدِيرُهُ: أَقْسَمْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَنَالَهُمْ، فَلَا يَنَالُهُمْ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ.
(ادْخُلُوا) : تَقْدِيرُهُ: فَالْتَفَتُوا إِلَى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالُوا: ادْخُلُوا، وَيُقْرَأُ فِي الشَّاذِّ: وَادْخُلُوا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَذَلِكَ يُقَالُ بَعْدَ دُخُولِهِمْ. (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ) : إِذَا قُرِئَ «ادْخُلُوا» عَلَى الْأَمْرِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ حَالًا؛ أَيِ: ادْخُلُوا آمِنِينَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ رُجُوعًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (٥٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ أَفِيضُوا) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «أَنْ» مَصْدَرِيَّةً وَتَفْسِيرِيَّةً. وَ (مِنَ الْمَاءِ) : تَقْدِيرُهُ: شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ. (أَوْ مِمَّا) : قِيلَ: «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَاحْتُجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «حَرَّمَهُمَا» وَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا، وَحَرَّمَهُمَا عَلَى الْمَعْنَى، فَيَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ؛ أَيْ: كُلًّا مِنْهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (٥١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَرًّا وَنَصْبًا وَرَفْعًا. وَ (لَهْوًا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَالتَّفْسِيرُ مَلْهُوًّا بِهِ، وَمَلْعُوبًا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَيَّرُوا عَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّ الدِّينَ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْعَادَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى عِلْمٍ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصَّلْنَاهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمٍ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْهَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ؛ أَيْ: فَصَّلْنَاهُ عَالِمِينَ؛ أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَّا.
(هُدًى وَرَحْمَةً) : حَالَانِ؛ أَيْ: ذَا هُدًى وَذَا رَحْمَةٍ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَأْتِي) : هُوَ ظَرْفٌ لِـ «يَقُولُ» :(فَيَشْفَعُوا لَنَا) : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. (أَوْ نُرَدُّ) : الْمَشْهُورُ الرَّفْعُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ «مِنْ شُفَعَاءَ» تَقْدِيرُهُ: أَوْ هَلْ نُرَدُّ. (فَنَعْمَلَ) : عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا وَيُقْرَأُ بِرَفْعِهَا؛ أَيْ: فَهَلْ نَعْمَلُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَيُقْرَآنِ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الَاسْتِفْهَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (٥٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ) : فِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «خَلَقَ» وَخَبَرُ إِنَّ عَلَى هَذَا «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ». وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُغْشِي بِالتَّخْفِيفِ وَضَمِّ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَغْشَى، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ؛ أَيْ: يُغْشِي اللَّهُ اللَّيْلَ النَّهَارَ. وَيُقْرَأُ «يُغَشِّي» بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَيُقْرَأُ «يَغْشِي» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَاللَّيْلُ فَاعِلُهُ. (يَطْلُبُهُ) : حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ النَّهَارِ. وَ (حَثِيثًا) : حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّهَارِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَطْلُبُ اللَّيْلُ النَّهَارَ مَحْثُوثًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: طَلَبًا حَثِيثًا. (وَالشَّمْسَ) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الشَّمْسَ، وَمَنْ رَفَعَ اسْتَأْنَفَ.
قَالَ تَعَالَى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخُفْيَةً) : يُقْرَأُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْمَصْدَرَانِ حَالَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَمِثْلُهُ: (خَوْفًا وَطَمَعًا) [الْأَعْرَافِ: ٥٦].
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَرِيبٌ) : إِنَّمَا لَمْ تُؤَنَّثْ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمَطَرَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ وَالتَّرَحُّمَ بِمَعْنًى، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى النَّسَبِ؛ أَيْ: ذَاتُ قُرْبٍ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ طَالِقٌ، وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَمَا قَالُوا: لِحْيَةٌ دَهِينٌ، وَكَفٌّ خَضِيبٌ. وَقِيلَ: أَرَادُوا الْمَكَانَ؛ أَيْ: أَنَّ مَكَانَ رَحْمَةِ اللَّهِ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: فَرَّقَ بِالْحَذْفِ بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنَ النَّسَبِ وَبَيْنَ الْقَرِيبِ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بُشْرًا) : يُقْرَأُ بِالنُّونِ وَالشِّينِ مَضْمُومَتَيْنِ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَفِي وَاحِدِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَشُورٌ، مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ؛ أَيْ: يَنْشُرُ الْأَرْضَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ بِمَعْنَى مَرْكُوبٍ؛ أَيْ: مَنْشُورَةً
بَعْدَ الطَّيِّ، أَوْ مُنَشَّرَةً؛ أَيْ: مُحْيَاةً مِنْ قَوْلِكَ؛ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَهُوَ مُنْشَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَاشِرٍ، مِثْلَ نَازِلٍ وَنُزُلٍ، وَيُقْرَأُ بِضَمِّ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ عَلَى تَخْفِيفِ الْمَضْمُومِ،
575
وَيُقْرَأُ: نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَشَرَ بَعْدَ الطَّيِّ، أَوْ مِنْ قَوْلِكَ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ؛ أَيْ: عَاشَ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ؛ أَيْ: نَاشِرَةً أَوْ ذَاتَ نَشْرٍ، كَمَا تَقُولُ جَاءَ رَكْضًا؛ أَيْ: رَاكِضًا. وَيُقْرَأُ «بُشُرًا» بِالْبَاءِ وَضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرٍ، مِثْلُ قَلِيبٍ وَقُلُبٍ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِسُكُونِ الشِّينِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى (يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [الرُّومِ: ٤٦]. وَيُقْرَأُ «بُشْرَى» مِثْلُ حُبْلَى؛ أَيْ: ذَاتَ بِشَارَةٍ، وَيُقْرَأُ: «بَشْرًا» بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَرْتُهُ إِذَا بَشَّرْتَهُ. (سَحَابًا) : جَمْعُ سَحَابَةٍ، وَكَذَلِكَ وَصَفَهَا بِالْجَمْعِ. (لِبَلَدٍ) : أَيْ: لِإِحْيَاءِ بَلَدٍ. (بِهِ الْمَاءَ) : الْهَاءُ ضَمِيرُ الْبَاءِ، أَوْ ضَمِيرُ السَّحَابِ، أَوْ ضَمِيرُ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي «بِهِ» الثَّانِيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ نَبَاتُهُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَرَفْعِ النَّبَاتِ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيُقْرَأْ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ النَّبَاتِ؛ أَيْ: فَيُخْرِجُ اللَّهُ، أَوِ الْمَاءُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْرُجُ. (إِلَّا نَكِدًا) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ حَالٌ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ؛ أَيْ: ذَا نَكِدٍ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا، وَهُوَ لُغَةٌ،
576
وَيُقْرَأُ: نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَشَرَ بَعْدَ الطَّيِّ، أَوْ مِنْ قَوْلِكَ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ؛ أَيْ: عَاشَ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ؛ أَيْ: نَاشِرَةً أَوْ ذَاتَ نَشْرٍ، كَمَا تَقُولُ جَاءَ رَكْضًا؛ أَيْ: رَاكِضًا. وَيُقْرَأُ «بُشُرًا» بِالْبَاءِ وَضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرٍ، مِثْلُ قَلِيبٍ وَقُلُبٍ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِسُكُونِ الشِّينِ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى (يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [الرُّومِ: ٤٦]. وَيُقْرَأُ «بُشْرَى» مِثْلُ حُبْلَى؛ أَيْ: ذَاتَ بِشَارَةٍ، وَيُقْرَأُ: «بَشْرًا» بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَرْتُهُ إِذَا بَشَّرْتَهُ. (سَحَابًا) : جَمْعُ سَحَابَةٍ، وَكَذَلِكَ وَصَفَهَا بِالْجَمْعِ. (لِبَلَدٍ) : أَيْ: لِإِحْيَاءِ بَلَدٍ. (بِهِ الْمَاءَ) : الْهَاءُ ضَمِيرُ الْبَاءِ، أَوْ ضَمِيرُ السَّحَابِ، أَوْ ضَمِيرُ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي «بِهِ» الثَّانِيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ نَبَاتُهُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَرَفْعِ النَّبَاتِ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَيُقْرَأْ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَصْبِ النَّبَاتِ؛ أَيْ: فَيُخْرِجُ اللَّهُ، أَوِ الْمَاءُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْرُجُ. (إِلَّا نَكِدًا) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ حَالٌ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ؛ أَيْ: ذَا نَكِدٍ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْضًا، وَهُوَ لُغَةٌ،
وَيُقْرَأُ «يُخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَنَكِدًا مَفْعُولُهُ.
قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) :«مِنْ» زَائِدَةٌ، وَ «إِلَهٌ» مُبْتَدَأٌ، وَ «لَكُمْ» الْخَبَرُ.
وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ فِي الْوُجُودِ، وَ «لَكُمْ» تَخْصِيصٌ وَتَبْيِينٌ. وَ «غَيْرُهُ» بِالرَّفْعِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ صِفَةٌ «لِإِلَهٍ» عَلَى الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِي: هُوَ
بَدَلٌ مِنَ الْمَوْضِعِ، مِثْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِالْجَرِّ صِفَةً عَلَى اللَّفْظِ. (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : وُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعِظَمِ، وَالْمُرَادُ عِظَمُ مَا فِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٦٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَوْمِهِ) : حَالٌ مِنَ الْمَلَأِ، وَ (نَرَاكَ) : مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ (فِي ضَلَالٍ) : حَالًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ فَيَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٦٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُبَلِّغُكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِرَسُولٍ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الضَّمِيرُ فِي «لَكِنِّي»، وَلَوْ كَانَ يُبَلِّغُكُمْ لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ رَسُولٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْجَارُّ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنْ رَبِّ)، (
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ) : بِمَعْنَى أَعْرِفُ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ «مَا» وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمُ؛ أَيِ: ابْتِدَاءُ عِلْمِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَا» أَوْ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ رَبِّكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ (ذِكْرٌ)، وَأَنْ تَتَعَلَّقَ بِجَاءَكُمْ.
(عَلَى رَجُلٍ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ذِكْرٍ؛ أَيْ: نَازِلًا عَلَى رَجُلٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِجَاءَكُمْ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَزَلَ إِلَيْكُمْ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ؛ أَيْ: عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أَوْ لِسَانِ رَجُلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) (٦٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْفُلْكِ) : هُوَ حَالٌ مِنْ «الَّذِينَ» أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي مَعَهُ، وَالْأَصْلُ فِي (عَمِينَ) : عَمِيِينَ فَسُكِّنَتِ الْأُولَى وَحُذِفَتْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (٦٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُودًا) : بَدَلٌ مِنْ أَخَاهُمْ، وَأَخَاهُمْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ، وَكَذَلِكَ أَوَائِلُ الْقِصَصِ الَّتِي بَعْدَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (٦٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَاصِحٌ أَمِينٌ) : هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الْخَلْقِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «بَسْطَةً» وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِزَادَكُمْ. وَالْآلَاءُ جَمْعٌ، وَفِي وَاحِدِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ: إِلَى - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَأَلِفٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ اللَّامِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَذَلِكَ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحْدَهُ) : هُوَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوَائِدِ، وَفِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ اللَّهِ؛ أَيْ: لِنَعْبُدَ اللَّهَ مُفْرَدًا وَمُوَحَّدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِينَ؛ أَيْ: مُوَحِّدِينَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ظَرْفٌ؛ أَيْ: لِنَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى حَالِهِ؛ قَالَهُ يُونُسُ؛ وَأَصْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ الْإِيحَادُ مِنْ قَوْلِكَ أَوْحَدْتُهُ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَالْأَلِفُ وَهُمَا الزَّائِدَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٧١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ رَبِّكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «رِجْسٌ» وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِوَقَعَ.
(فِي أَسْمَاءٍ) ؛ أَيْ: ذَوِي أَسْمَاءٍ أَوْ مُسَمَّيَاتٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٧٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (آيَةً) : حَالٌ مِنَ النَّاقَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى مَا فِي «هَذِهِ» مِنَ التَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي «آيَةً» «لَكُمْ»، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ حَالًا مِنْ «آيَةً»، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «نَاقَةُ اللَّهِ» بَدَلًا مِنْ هَذِهِ أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَ «لَكُمْ» الْخَبَرُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ «آيَةً» حَالًا، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى «عَلَامَةً وَدَلِيلًا». (تَأْكُلْ) : جَوَابُ الْأَمْرِ. (فَيَأْخُذَكُمْ) : جَوَابُ النَّهْيِ. وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ وَمَوْضِعُهُ حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ سُهُولِهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «قُصُورًا»، وَمَفْعُولًا ثَانِيًا لِـ «تَتَّخِذُونَ»، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَتَّخِذُونَ لَا عَلَى أَنْ «تَتَّخِذُونَ» يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ؛ بَلْ إِلَى وَاحِدٍ. وَ (مِنْ) : لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الِاتِّخَاذِ. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى تَتَّخِذُونَ؛ فَيَكُونُ «بُيُوتًا» مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مِنَ الْجِبَالِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيَكُونَ بُيُوتًا الْمَفْعُولَ، وَمِنَ الْجِبَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: «مِنْ سُهُولِهَا».
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٧٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِمَنْ آمَنَ) : هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» بِإِعَادَةِ الْجَارِّ؛ كَقَوْلِكَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ بِأَخِيكَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (٧٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَصْبَحُوا) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّامَّةَ، وَيَكُونُ «جَاثِمِينَ» حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ النَّاقِصَةَ، وَجَاثِمِينَ الْخَبَرَ، وَفِي دَارِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِـ «جَاثِمَيْنِ».
قَالَ تَعَالَى: (ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (٨١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلُوطًا) : أَيْ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا، أَوْ: وَاذْكُرْ لُوطًا. وَ (إِذْ) : عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ظَرْفٌ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ ظَرْفًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ رِسَالَةَ لُوطٍ إِذْ. (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا) : فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ فِي «أَتَأْتُونَ» تَقْدِيرُهُ: مُبْتَدِئِينَ. (أَئِنَّكُمْ) : يُقْرَأُ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الثَّانِيَةِ، وَتَلْيِينُهَا، وَهُوَ جَعْلُهَا بَيْنَ
الْيَاءِ وَالْأَلِفِ. وَيُقْرَأُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ. (شَهْوَةً) : مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. (مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) : صِفَةٌ لِرِجَالٍ؛ أَيْ: مُنْفَرِدِينَ عَنِ النِّسَاءِ. (بَلْ أَنْتُمْ) : بَلْ هُنَا لِلْخُرُوجِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ. وَقِيلَ: هُوَ إِضْرَابٌ عَنْ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مَا عَدَلْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ مُسْرِفُونَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٨٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) : يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَفِي الْأَنْعَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَطَرًا) : هُوَ مَفْعُولُ أَمْطَرْنَا، وَالْمَطَرُ هُنَا الْحِجَارَةُ كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً) [هُودٍ: ٨٢].
قَالَ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَبْخَسُوا) : هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَهُمَا: «النَّاسَ» وَ «أَشْيَاءَهُمْ». وَتَقُولُ بَخَسْتُ زَيْدًا حَقَّهُ؛ أَيْ: نَقَصْتُهُ إِيَّاهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُوعِدُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَقْعُدُوا. (مَنْ آمَنَ) : مَفْعُولُ تَصُدُّونَ، لَا مَفْعُولُ تُوعِدُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ مَفْعُولَ الْأَوَّلِ لَكَانَ تَصُدُّونَهُمْ. (وَتَبْغُونَهَا) : حَالٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [آلِ عِمْرَانَ: ٩٩] فِي آلِ عِمْرَانَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (٨٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) : أَيْ: وَلَوْ كَرِهْنَا تُعِيدُونَنَا. «وَلَوْ» هُنَا بِمَعْنَى إِنَّ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَقِيلُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَصْلِهَا، وَيَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ كُنَّا كَارِهِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (٨٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدِ افْتَرَيْنَا) : هُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ «إِنْ عُدْنَا». وَسَاغَ دُخُولُ قَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ نَزَّلُوا الِافْتِرَاءَ عِنْدَ الْعَوْدِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ، فَقَرَنُوهُ بِقَدْ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى قَدِ افْتَرَيْنَا الْآنَ إِنْ هَمَمْنَا بِالْعَوْدِ. (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ) : الْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقِيلَ: إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَ (عِلْمًا) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَنْعَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (٩٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذًا لَخَاسِرُونَ) :«إِذًا» هُنَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهِيَ حَرْفٌ مَعْنَاهُ الْجَوَابُ، وَيَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَيْسَ ذَا مَوْضِعَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) (٩٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا) : لَكَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَفِي الْخَبَرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: كَأَنْ لَمْ يُغْنَوْا فِيهَا، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ أُخْرَى، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَغْنَوْا، أَوْ نَصْبٌ بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا»، وَ (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) عَلَى هَذَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَذَّبُوا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [الْأَعْرَافِ: ٩٠]. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ «كَأَنْ لَمْ» حَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (٩٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى عَفَوْا) : أَيْ: إِلَى أَنْ عَفَوْا؛ أَيْ: كَثُرُوا.
(فَأَخَذْنَاهُمْ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عَفَوْا.
قَالَ تَعَالَى: (أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٩٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّهَا وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَيُقْرَأُ بِسُكُونِهَا؛ وَهِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَفَأَمِنُوا إِتْيَانَ الْعَذَابِ ضُحًى، أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ لَيْلًا؟. وَ (بَيَاتًا) : الْحَالُ مِنْ بَأْسِنَا؛ أَيْ: مُسْتَخْفِيًا بِاغْتِيَالِهِمْ لَيْلًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (٩٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ) : الْفَاءُ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَعْقِيبِ الْعَذَابِ «أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ».
قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (١٠٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ، وَفَاعِلُهُ: «أَنْ لَوْ نَشَاءُ»، وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ؛ أَيْ: أَوَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ عِلْمُهُمْ بِمَشِيئَتِنَا، وَيُقْرَأُ بِالنُّونِ، وَأَنْ لَوْ نَشَاءُ مَفْعُولُهُ. وَقِيلَ: فَاعِلُ يَهْدِي ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) : الْفَاءُ لِتَعْقِيبِ عَدَمِ السَّمْعِ بَعْدَ الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) (١٠١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا) : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ) [آلِ عِمْرَانَ: ٤٤] وَقَدْ ذُكِرَ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا) [الْبَقَرَةِ: ٢٥٢]، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (١٠٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِأَكْثَرِهِمْ) : هُوَ حَالٌ مِنْ «عَهْدٍ». وَمِنْ زَائِدَةٌ؛ أَيْ: مَا وَجَدْنَا عَهْدًا لِأَكْثَرِهِمْ.
(وَإِنْ وَجَدْنَا) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: وَإِنَّا وَجَدْنَا. وَاللَّامُ فِي «لَفَاسِقِينَ» لَازِمَةٌ لَهَا؛ لِتَفْصِلَ بَيْنَ أَنِ الْمُخَفَّفَةَ وَبَيْنَ إِنْ بِمَعْنَى «مَا»، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: مِنَ الثَّقِيلَةِ «إِنْ» بِمَعْنَى «مَا»، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) [الْبَقَرَةِ: ١٤٣].
قَالَ تَعَالَى ﴿ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فظلموا بهَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَيْفَ كَانَ) : كَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ. (عَاقِبَةُ) : اسْمُهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «فَانْظُرْ».
قَالَ تَعَالَى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (١٠٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَقِيقٌ) : هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «أَنْ لَا أَقُولَ» عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ شَدَّدَ الْيَاءَ
فِي «عَلَيَّ»، وَ «عَلَيَّ» مُتَعَلِّقٌ بِـ «حَقِيقٌ»، وَالْجَيِّدُ أَنْ يَكُونَ «أَنْ لَا» فَاعِلُ «حَقِيقٌ» ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ حَقٌّ عَلَيَّ، وَيُقْرَأُ عَلَى إِلَّا، وَالْمَعْنَى وَاجِبٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ، وَحَقِيقٌ هَاهُنَا عَلَى الصَّحِيحِ صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، كَمَا تَقُولُ أَنَا حَقِيقٌ بِكَذَا؛ أَيْ: أَحَقُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ شَدَّدَ الْيَاءَ أَنْ يَكُونَ «حَقِيقٌ» صِفَةً لِرَسُولٍ، وَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ؛ أَيْ: عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) (١٠٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا هِيَ) :«إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ، وَهِيَ مَكَانٌ، وَمَا بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ. وَ (ثُعْبَانٌ) : خَبَرُهُ. وَقِيلَ: هِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. قَالُوا أرجه وأخاه وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: (مَاذَا يُنْفِقُونَ). وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِ الْمَلَأِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ مَاذَا تَأْمُرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ»،
وَ «أَرْجِئْهُ» : يُقْرَأُ بِالْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَهُوَ الْجَيِّدُ، وَبِالْإِشْبَاعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ خَفِيَّةٌ؛ فَكَأَنَّ الْوَاوَ الَّتِي بَعْدَهَا تَتْلُوَ الْهَمْزَةَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، وَمِنْ هُنَا ضَعُفَ قَوْلُهُمْ: عَلَيْهِ مَالٌ بِالْإِشْبَاعِ.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَعَ الْهَمْزِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَ حَرْفٌ صَحِيحٌ سَاكِنٌ، فَلَيْسَ قَبْلَ الْهَاءِ مَا يَقْتَضِي الْكَسْرَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ الْهَاءَ كَسْرَةَ الْجِيمِ، وَالْحَاجِزُ غَيْرُ حَصِينٍ.
وَيُقْرَأُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ: مِنْ أَرْجَيْتُ بِالْيَاءِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُ الْهَاءَ وَيُشْبِعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُشْبِعُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٥].
قَالَ تَعَالَى: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) (١١٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِكُلِّ سَاحِرٍ) : يُقْرَأُ بِأَلِفٍ بِعْدَ السِّينِ، وَأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ مَعَ التَّشْدِيدِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) (١١٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَئِنَّ لَنَا) : يُقْرَأُ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّلْيِينِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَبِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (١١٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) : فِي مَوْضِعِ أَنْ وَالْفِعْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَفْعٌ؛ أَيْ: أَمْرُنَا إِمَّا الْإِلْقَاءُ. وَالثَّانِي: نَصْبٌ؛ أَيْ: إِمَّا أَنْ تَفْعَلَ الْإِلْقَاءَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) : أَيْ: طَلَبُوا إِرْهَابَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى أَرْهَبُوهُمْ، مِثْلُ قَرَّ وَاسْتَقَرَّ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) (١١٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ أَلْقِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ. (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَعَ تَخْفِيفِ التَّاءِ مِثْلُ تَكَلَّمَ. وَيُقْرَأُ «تَلَقَّفُ» بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ تَتَلَقَّفُ، فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، وَوُصِلَتْ بِمَا قَبْلَهَا فَأَغْنَى عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَيُقْرَأُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَمَاضِيهِ لَقِفَ مِثْلُ عَلِمَ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (١٢١) (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (١٢٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالُوا آمَنَّا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ أَيْ: فَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ قَدْ قَالُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. (رَبِّ مُوسَى) : بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (١٢٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ) : يُقْرَأُ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يُحَقِّقُ الثَّانِيَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَلِفٍ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ: كَأَرْبَعِ أَلِفَاتٍ.
وَيُقْرَأُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا فِي الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ حَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ.
وَقُرِئَ: «فِرْعَوْنُ وَأَمَنْتُمْ» بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (١٢٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَنْقِمُ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمَائِدَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (١٢٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَذَرَكَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى لِيُفْسِدُوا، وَسَكَّنَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَضَمَّهَا بَعْضُهُمْ؛ أَيْ: وَهُوَ يَذَرُكَ. وَيُقْرَأُ: «وَإِلَهَتَكَ» مِثْلَ الْعِبَادَةِ وَالزِّيَارَةِ، وَهِيَ الْعِبَادَةُ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١٢٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُورِثُهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «اللَّهِ».
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِالسِّنِينَ) : الْأَصْلُ فِي سَنَةٍ سَنَهَةٌ، فَلَامُهَا هَاءٌ؛ لِقَوْلِهِمْ عَامَلْتُهُ مُسَانَهَةً. وَقِيلَ: لَامُهَا وَاوٌ لِقَوْلِهِمْ سَنَوَاتٍ. وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ تَجْعَلُهَا كَـ «الزَّيْدُونَ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ النُّونَ حَرْفَ الْإِعْرَابِ، وَكُسِرَتْ سِينُهَا إِيذَانًا بِأَنَّهَا جُمِعَتْ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ. (مِنَ الثَّمَرَاتِ) : مُتَعَلِّقٌ بِنَقْصٍ، وَالْمَعْنَى: وَبِتَنَقُّصِ الثَّمَرَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (١٣٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَطَّيَّرُوا) : أَيْ: يَتَطَيَّرُوا، وَقُرِئَ شَاذًّا «تَطَيَّرُوا» عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي.
(طَائِرُهُمْ) : عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، وَيُقْرَأُ طَيْرُهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٣٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَهْمَا) : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ «مَهْ» بِمَعْنَى اكْفُفْ؛ وَ «مَا» اسْمٌ لِلشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فَاطِرٍ: ٢]. وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَ «مَهْ» مَا الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٣٨] ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْأَلِفُ الْأُولَى هَاءً لِئَلَّا تَتَوَالَى كَلِمَتَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، وَمَوْضِعُ الِاسْمِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا نَصْبٌ بِـ: «تَأْتِينَا» وَالْهَاءُ فِي «بِهِ» تَعُودُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) (١٣٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الطُّوفَانَ) : قِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ طُوفَانَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُغْرِقُ الْكَثِيرُ. (وَالْجَرَادَ) : جَمْعُ جَرَادَةٍ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ. (وَالْقُمَّلَ) : يُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ. قِيلَ: هُمَا
لُغَتَانِ. وَقِيلَ: هُمَا الْقُمَّلُ الْمَعْرُوفُ فِي الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُشَدَّدُ يَكُونُ فِي الطَّعَامِ. (آيَاتٍ) : حَالٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (١٣٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) : يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بَادْعُ؛ أَيْ: بِالشَّيْءِ الَّذِي عَلَّمَكَ اللَّهُ الدُّعَاءَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥).
(إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) : هُمْ مُبْتَدَأٌ، وَيَنْكُثُونَ الْخَبَرُ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْرَثْنَا) : يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَالْأَوَّلُ: " الْقَوْمَ ". وَ " الَّذِينَ كَانُوا " نَعْتٌ، وَفِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: (مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) : وَالْمُرَادُ أَرْضُ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ. وَ (الَّتِي بَارَكْنَا) : عَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ صِفَةُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ. وَالثَّانِي: صِفَةُ الْأَرْضِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْصُوفِ قَبْلَ الصِّفَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِأَوْرَثْنَا. " الَّتِي بَارَكْنَا "؛ أَيِ: الْأَرْضَ الَّتِي بَارَكْنَا؛ فَعَلَى هَذَا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ ظَرْفٌ لِيُسْتَضْعَفُوا. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَهُ: يُسْتَضْعَفُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَمَّا حُذِفَ الْحَرْفُ وُصِلَ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ فَنُصِبَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ الَّتِي بَارَكْنَا صِفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْأَرْضَ، أَوِ الْمُلْكَ. (مَا كَانَ يَصْنَعُ) :" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِي اسْمِ كَانَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ ضَمِيرُ " مَا " وَخَبَرُهَا يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: يَصْنَعُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْمَ كَانَ " فِرْعَوْنُ "؛ وَفِي يَصْنَعُ ضَمِيرُ فَاعِلٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أَنْ يَعْمَلَ فِي فِرْعَوْنَ فَلَا يُقَدَّرُ تَأْخِيرُهُ، كَمَا لَا يُقَدَّرُ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ فِي قَوْلِكَ قَامَ زَيْدٌ.
وَقِيلَ: " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ، وَ " كَانَ " زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَلَكِنَّ " كَانَ " النَّاقِصَةَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ " مَا " وَبَيْنَ صِلَتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [الْبَقَرَةِ: ١٠]. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَاجُ " كَانَ " إِلَى اسْمٍ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا صِلَةُ " مَا " فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّفْسِيرِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْإِيضَاحُ وَتَمَامُ الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ نَجْعَلَ فِرْعَوْنَ اسْمَ كَانَ، وَفِي " يَصْنَعُ " ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ. وَ (يَعْرِشُونَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ، وَكَذَلِكَ (يَعْكُفُونَ) وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِيهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١٣٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) : الْبَاءُ هُنَا مُعَدِّيَّةٌ كَالْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ؛ أَيْ: أَجَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ وَجَوَّزْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) : فِي " مَا " ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَهَا، وَحَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الظَّرْفَ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَآلِهَةٌ بَدَلٌ مِنْهُ، تَقْدِيرُهُ: كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ، وَالْكَافُ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ صِفَةٌ لِإِلَهٍ؛ أَيْ: إِلَهًا مُمَاثِلًا لِلَّذِي لَهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ " مَا " كَافَّةً لِلْكَافِ إِذْ مِنْ حُكْمِ الْكَافِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمُفْرَدِ، فَلَمَّا أُرِيدَ دُخُولُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ كُفَّتْ بِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا هُمْ فِيهِ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: " مَا " مَرْفُوعَةً بِمُتَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ قَوِيٌّ بِوُقُوعِهِ خَبَرًا، وَأَنْ تَكُونَ " مَا: مُبْتَدَأً، وَمُتَبَّرٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١٤٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَغَيْرَ اللَّهِ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ مَفْعُولُ أَبْغِيكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَبْغِي لَكُمْ؛ فَحُذِفَ اللَّامُ. (إِلَهًا) : تَمْيِيزٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ " إِلَهًا " مَفْعُولُ أَبْغِيكُمْ، وَ " غَيْرَ اللَّهِ " صِفَةٌ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فَصَارَتْ حَالًا. (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) : هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِوَاعَدْنَا، وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: إِتْيَانَ ثَلَاثِينَ، أَوْ تَمَامَ ثَلَاثِينَ. وَ (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : حَالٌ تَقْدِيرُهَا: فَتَمَّ مِيقَاتُ [رَبِّهِ كَامِلًا]. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولُ تَمَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَلَغَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: بَلَغَتْ أَرْضُكَ جَرِيبَيْنِ. وَ (هَارُونَ) : بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ لَكَانَ نِدَاءً، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَهُ دَكًّا) : أَيْ: صَيَّرَهُ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، فَمَنْ قَرَأَ «دَكًّا» جَعَلَهُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَدْكُوكِ. وَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: ذَا دَكٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْمَدِّ جَعَلَهُ مِثْلَ أَرْضٍ دَكَّاءَ، أَوْ نَاقَةٍ دَكَّاءَ، وَهِيَ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا. وَ (صَعِقًا) : حَالٌ مُقَارِنَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (١٤٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَأُرِيكُمْ) : قُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنِ الْإِشْبَاعِ وَفِيهَا بُعْدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (١٤٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبِيلَ الرُّشْدِ) : يُقْرَأُ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الشِّينِ، وَبِفَتْحِهِمَا، وَ «سَبِيلَ الرَّشَادِ» بِالْأَلِفِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) : مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «حَبِطَتْ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ «هَلْ يُجْزَوْنَ» وَحَبِطَتْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي كَذَّبُوا، وَقَدْ مُرَادَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (١٤٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ حُلِيِّهِمْ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَكَسْرِ اللَّامِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ جَمْعٌ أَصْلُهُ حُلُوَى، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الْأُخْرَى، ثُمَّ كُسِرَتِ اللَّامُ إِتْبَاعًا لَهَا.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَاللَّامِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَتْبَعَ الْكَسْرُ الْكَسْرَ. (عِجْلًا) : مَفْعُولُ اتَّخَذَهُ. وَ (جَسَدًا) : نَعْتٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنْ حُلِيِّهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعِجْلٍ، قُدِّمَ فَصَارَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِاتَّخَذَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: إِلَهًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١٤٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَيْدِيهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَضْبَانَ) : حَالٌ مِنْ مُوسَى. وَ (أَسِفًا) : حَالٌ آخَرُ بَدَلٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي غَضْبَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ مُوسَى، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الرَّأْسِ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَخِيهِ. (قَالَ ابْنَ أُمَّ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ، وَبِفَتْحِهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَلِفَ مَحْذُوفَةٌ، وَأَصْلُ الْأَلِفِ الْيَاءُ، وَفُتِحَتِ الْمِيمُ قَبْلَهَا، فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا، وَبَقِيَتِ الْفَتْحَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا، كَمَا قَالُوا: يَا بِنْتَ عَمَّا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ جَعَلَ ابْنَ وَالْأُمَّ بِمَنْزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَنَاهُمَا عَلَى الْفَتْحِ.
(فَلَا تُشْمِتْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ. وَ (الْأَعْدَاءَ) : مَفْعُولُهُ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ، وَالْأَعْدَاءُ فَاعِلُهُ، وَالنَّهْيُ فِي اللَّفْظِ لِلْأَعْدَاءِ، وَفِي الْمَعْنَى لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مُوسَى كَمَا تَقُولُ لَا أَرَيْنَكَ هَاهُنَا، وَقُرِئَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ، وَنَصْبِ الْأَعْدَاءِ؛ وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَشْمَتْ أَنْتَ بِيَ، فَتُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٣٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ «إِنَّ رَبَّكَ بَعْدَهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: غَفُورٌ لَهُمْ، أَوْ رَحِيمٌ بِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْأَلْوَاحِ.
(لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) : فِي اللَّامِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هِيَ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ رَبِّهِمْ
فَمَفْعُولُ يَرْهَبُونَ عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ. وَالثَّانِي: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ يَخْشَعُونَ لِرَبِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لَمَّا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (١٥٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) : اخْتِيَارٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَقَدْ حُذِفَ هَاهُنَا، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَوْمِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «سَبْعِينَ» بَدَلًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، وَالِاخْتِيَارُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخْتَارٍ، وَمُخْتَارٍ مِنْهُ، وَالْبَدَلُ يُسْقِطُ الْمُخْتَارَ مِنْهُ، وَأَرَى أَنَّ الْبَدَلَ جَائِزٌ عَلَى ضَعْفٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ «سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ». (أَتُهْلِكُنَا) : قِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ؛ أَيْ: أَتَعُمُّنَا بِالْإِهْلَاكِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ النَّفْيُ؛ أَيْ: مَا تُهْلِكُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ. وَ (مِنَّا) : حَالٌ مِنَ السُّفَهَاءِ. (تُضِلُّ بِهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي فِتْنَتِكَ، إِذْ لَيْسَ هُنَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُدْنَا) : الْمَشْهُورُ ضَمُّ الْهَاءِ، وَهُوَ مِنْ هَادَ يَهُودُ إِذَا تَابَ، وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مِنْ هَادَ يَهِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ حَرَّكَ؛ أَيْ: حَرَّكْنَا إِلَيْكَ نُفُوسَنَا. (مَنْ أَشَاءُ) : الْمَهْشُورُ فِي الْقِرَاءَةِ الشِّينُ، وَقُرِئَ بِالسِّينِ وَالْفَتْحِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ؛ أَيْ: أُعَاقِبُ الْمُسِيءَ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) : فِي الَّذِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هُوَ جَرٌّ عَلَى أَنَّهُ
صِفَةٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي: نَصْبٌ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي. وَالثَّالِثُ: رَفْعٌ؛ أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ «يَأْمُرُهُمْ» وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
(الْأُمِّيَّ) : الْمَشْهُورُ ضَمُّ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ النِّسْبَةِ كَمَا قَالُوا أُمَوِيٌّ. وَالثَّانِي: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ وَهُوَ الْقَصْدُ؛ أَيِ: الَّذِي هُوَ عَلَى الْقَصْدِ وَالسَّدَادِ.
(يَجِدُونَهُ) : أَيْ: يَجِدُونَ اسْمَهُ. وَ (مَكْتُوبًا) : حَالٌ. وَ (عِنْدَهُمْ) : ظَرْفٌ لِمَكْتُوبٍ أَوْ لِيَجِدُونَ. (يَأْمُرُهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَّذِينِ، وَقَدْ ذُكِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّبِيِّ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مَكْتُوبٍ. (إِصْرَهُمْ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَهُوَ جِنْسٌ، وَيُقْرَأُ: «آصَارَهُمْ» عَلَى الْجَمْعِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الثِّقَلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الْأَغْلَالَ. (وَعَزَّرُوهُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمَائِدَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٨).
598
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) : مَوْضِعُ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي؛ أَيْ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ؛، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِإِلَيْكُمْ وَحَالِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَطَّعْنَا بِمَعْنَى صَيَّرَنَا، فَيَكُونُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِرَقًا. وَ (عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا لُغَاتٌ، قَدْ قُرِئَ بِهَا. وَ (أَسْبَاطًا) : بَدَلٌ مِنَ «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ»، لَا تَمْيِيزَ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ. وَ (أُمَمًا) : نَعْتٌ لِأَسْبَاطٍ، أَوْ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ وَأَنَّثَ «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ» ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً. (أَنِ اضْرِبْ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (١٦١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حِطَّةٌ) : هُوَ مِثْلُ الَّذِي فِي الْبَقَرَةِ. وَ (نَغْفِرْ لَكُمْ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا هَاهُنَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَنِ الْقَرْيَةِ) : أَيْ عَنْ خَبَرِ الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ النَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ،
599
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) : مَوْضِعُ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي؛ أَيْ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ؛، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِإِلَيْكُمْ وَحَالِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِرَسُولٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَطَّعْنَا بِمَعْنَى صَيَّرَنَا، فَيَكُونُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَفْعُولًا ثَانِيًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِرَقًا. وَ (عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا لُغَاتٌ، قَدْ قُرِئَ بِهَا. وَ (أَسْبَاطًا) : بَدَلٌ مِنَ «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ»، لَا تَمْيِيزَ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ. وَ (أُمَمًا) : نَعْتٌ لِأَسْبَاطٍ، أَوْ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ وَأَنَّثَ «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ» ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً. (أَنِ اضْرِبْ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (١٦١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (حِطَّةٌ) : هُوَ مِثْلُ الَّذِي فِي الْبَقَرَةِ. وَ (نَغْفِرْ لَكُمْ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا هَاهُنَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَنِ الْقَرْيَةِ) : أَيْ عَنْ خَبَرِ الْقَرْيَةِ، وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ النَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: إِذْ يَعْدُونَ،
وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِحَاضِرَةٍ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ خَرِبَتْ، وَيَعْدُونَ خَفِيفٌ، وَيُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ، وَالْأَصْلُ يَعْتَدُونَ، وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي «يَخْصِفُ». (إِذْ تَأْتِيهِمْ) : ظَرْفٌ لِـ «يَعْدُونَ». وَ (حِيتَانُهُمْ) : جَمْعُ حُوتٍ، أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا، وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. (شُرَّعًا) : حَالٌ مِنَ الْحِيتَانِ. (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ «لَا تَأْتِيهِمْ».
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٦٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعْذِرَةً) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ؛ أَيْ: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ؛ أَيْ: وَعْظُنَا لِلْمَعْذِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ؛ أَيْ: نَعْتَذِرُ مَعْذِرَةً.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا.
وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ نَعْتٌ لِلْعَذَابِ، مِثْلُ شَدِيدٍ. وَالثَّانِي: هُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ النَّذِيرِ؛ وَالتَّقْدِيرُ: بِعَذَابٍ ذِي بَأْسٍ؛ أَيْ: ذِي شِدَّةٍ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ وَتَقْرِيبِهَا مِنَ الْيَاءِ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ لَا يَاءَ بَعْدَهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ صِفَةٌ مِثْلُ قَلِقٍ وَحَنِقٍ. وَالثَّانِي: هُوَ مَنْقُولٌ مِنْ بِئْسَ الْمَوْضُوعَةِ لِلذَّمِّ إِلَى الْوَصْفِ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ إِتْبَاعًا، وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَأَصْلُهَا فَتْحُ الْبَاءِ وَكَسْرُ الْهَمْزَةِ، فَكَسَرَ الْبَاءَ إِتْبَاعًا، وَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ تَخْفِيفًا، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ مَكَانَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ كَمَا تَقُولُ فِي ذِئْبٍ ذِيبٌ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، وَأَصْلُهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ أُبْدِلَتْ يَاءً، وَيُقْرَأُ بِيَاءَيْنِ عَلَى فَيْعَالٍ، وَيُقْرَأُ: «بَيَسَ» بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَأَصْلُهُ بَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَهَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، إِلَّا أَنَّ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ عَلَى الْيَاءِ، وَلَمْ تُقْلَبِ الْيَاءُ أَلِفًا؛ لِأَنَّ حَرَكَتَهَا عَارِضَةٌ. وَيُقْرَأُ «بَيْأَسٌ» مِثْلُ ضَيْغَمٍ، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا مِثْلُ سَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُهُ مِنَ الْهَمْزِ. وَيُقْرَأُ «بَأْيَسٌ» بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعِيلٌ، وَيُقْرَأُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ مِثْلَ عِثِيرٍ وَحِدِيمٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَأَذَّنَ) : هُوَ بِمَعْنَى أَذَّنَ؛ أَيْ: أَعْلَمَ. (
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) : يَتَعَلَّقُ بِتَأَذَّنَ أَوْ بِـ «يَبْعَثَ»، وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِـ «يَسُومُهُمْ» ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ أَوِ الصِّفَةَ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ. أَوْ حَالٌ. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) : صِفَةٌ لِأُمَمٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَ (دُونَ ذَلِكَ) : ظَرْفٌ، أَوْ خَبَرٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الْأَنْعَامِ: ٩٤].
قَالَ تَعَالَى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٩٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرِثُوا الْكِتَابَ) : نَعْتٌ لِخَلَفَ. (يَأْخُذُونَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَرِثُوا. (وَدَرَسُوا) : مَعْطُوفٌ عَلَى «وَرِثُوا». وَقَوْلُهُ: «أَلَمْ يُؤْخَذْ» مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا، وَيُقْرَأُ ادَّارَسُوا، وَهُوَ مِثْلُ ادَّارَكُوا فِيهَا، وَقَدْ ذُكِرَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) وَالتَّقْدِيرُ: مِنْهُمْ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ أَيْ: لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لَمَّا كَانَ الصَّالِحُونَ جِنْسًا، وَالْمُبْتَدَأُ وَاحِدًا مِنْهُ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ ضَمِيرٍ. وَيُمَسِّكُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمَاضِي مِنْهُ مَسَكَ،
وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَمْسَكَ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ تَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ؛ أَيْ: عَمِلَ بِهِ وَالْكِتَابُ جِنْسٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ نَتَقْنَا) : أَيِ: اذْكُرْ إِذْ... وَ (فَوْقَهُمْ) : ظَرْفٌ لِنَتَقْنَا، أَوْ حَالٌ مِنَ الْجَبَلِ غَيْرُ مُؤَكِّدَةٍ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ تَخْصِيصٌ لَهُ بِبَعْضِ جِهَاتِ الْعُلُوِّ. (كَأَنَّهُ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْجَبَلِ أَيْضًا. (وَظَنُّوا) : مُسْتَأْنَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى نَتَقْنَا، فَيَكُونَ مَوْضِعُهُ جَرًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَقَدْ مَعَهُ مُرَادَةٌ. (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ) : أَيْ: وَاذْكُرْ. (مِنْ ظُهُورِهِمْ) : بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ أَيْ: مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَأَعَادَ حَرْفَ الْجَرِّ مَعَ الْبَدَلِ، وَهُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. (أَنْ تَقُولُوا) : بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ؛ أَيْ: مَخَافَةَ أَنْ تَقُولُوا، وَكَذَلِكَ: (أَوْ تَقُولُوا).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) : الْكَلَامُ كُلُّهُ حَالٌ مِنَ الْكَلْبِ تَقْدِيرُهُ: يُشْبِهُ الْكَلْبَ لَاهِثًا فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ تَعَالَى: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَاءَ) : هُوَ بِمَعْنَى بِئْسَ، وَفَاعِلُهُ مُضْمَرٌ؛ أَيْ: سَاءَ الْمَثَلُ. وَ (مَثَلًا) : مُفَسِّرُ «الْقَوْمُ» ؛ أَيْ: مِثْلَ الْقَوْمِ، لَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مِنْ جِنْسِ فَاعِلِ بِئْسَ، وَالْفَاعِلُ الْمَثَلُ، وَالْقَوْمُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَثَلِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَثَلُ الْقَوْمِ، فَحَذَفَهُ وَأَقَامَ الْقَوْمَ مَقَامَهُ.
قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِجَهَنَّمَ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذَرَأْنَا؛ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ: كَثِيرٍ؛ أَيْ: كَثِيرًا لِجَهَنَّمَ، وَ (مِنَ الْجِنِّ) : نَعْتٌ لِكَثِيرٍ. (لَهُمْ قُلُوبٌ) : نَعْتٌ لِكَثِيرٍ أَيْضًا.
قَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) : الْحُسْنَى صِفَةٌ مُفْرَدَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَجْمُوعٍ، وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ. (يُلْحِدُونَ) : يُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَمَاضِيهِ أَلْحَدَ، وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَمَاضِيهِ لَحَدَ، وَهُمَا لُغَتَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا) : نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (١٨٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) : مُبْتَدَأٌ، وَ (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ فَسَرَّهُ الْمَذْكُورُ؛ أَيْ: سَنَسْتَدْرِجُ الَّذِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُمْلِي) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: وَأَنَا أُمْلِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى «نَسْتَدْرِجُ»، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١٨٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا بِصَاحِبِهِمْ) : فِي «مَا» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَافِيَةٌ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِمْ بِهِ جَنَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ؛ أَيْ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أَيَّ شَيْءٍ بِصَاحِبِهِمْ مِنَ الْجُنُونِ مَعَ انْتِظَامِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ خَرَجَ عَنْ زَعْمِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ عَسَى) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هِيَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مَلَكُوتٍ. وَ (أَنْ يَكُونَ) : فَاعِلُ عَسَى، وَأَمَّا اسْمُ يَكُونَ فَمُضْمَرٌ فِيهَا وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.
وَ (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ كَانَ، وَالْهَاءُ فِي «بَعْدِهِ» ضَمِيرُ الْقُرْآنِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا هَادِيَ) : فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. (
وَيَذَرُهُمْ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَبِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ «فَلَا هَادِيَ». وَقِيلَ: سُكِّنَتْ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (١٨٧).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَيَّانَ) : اسْمٌ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى مَتَى، وَهُوَ خَبَرٌ لِـ «مُرْسَاهَا». وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ السَّاعَةِ؛ تَقْدِيرُهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ زَمَانِ حُلُولِ
السَّاعَةِ. وَ (مُرْسَاهَا) : مُفْعَلٌ مِنْ أَرْسَى، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ؛ أَيْ: مَتَى أَرْسَاهَا. (إِنَّمَا عِلْمُهَا) : الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ؛ وَ «عِنْدَ» : الْخَبَرُ. (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ) : أَيْ: ثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ أَيْ: تَثْقُلُ عِنْدَ وُجُودِهَا. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ. (حَفِيٌّ عَنْهَا) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ؛ أَيْ: مَعْنِيٌ بِطَلَبِهَا، فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ. وَالثَّانِي: أَنْ «عَنْ» بِمَعْنَى الْبَاءِ؛ أَيْ: حَفِيٌّ بِهَا، وَكَأَنَّكَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَحَفِيٌّ بِمَعْنَى مَحْفُوٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِنَفْسِي) : يَتَعَلَّقُ بِأَمْلِكُ، أَوْ حَالٌ مِنْ نَفْعٍ. (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ. (لِقَوْمٍ) : يَتَعَلَّقُ بِبَشِيرٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَبِنَذِيرٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ.
قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَرَّتْ بِهِ) : يُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ الْمُرُورِ، وَمَارَتْ بِالْأَلِفِ، وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ مِنَ الْمَوْرِ، وَهُوَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) : يُقْرَأُ بِالْمَدِّ عَلَى الْجَمْعِ؛ وَشِرْكًا بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالتَّنْوِينِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ: جَعَلَا لِغَيْرِهِ شِرْكًا؛ أَيْ: نَصِيبًا. وَالثَّانِي: جَعَلَا لَهُ ذَا شِرْكٍ، فَحُذِفَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمُضَافُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) (١٩٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ) : قَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٦].
وَ (أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) : جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ صَمَتُّمْ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (١٩٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَشْدِيدِ النُّونِ؛ وَ (عِبَادٌ) : خَبَرُ إِنَّ. وَ (أَمْثَالُكُمْ) : نَعْتٌ لَهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: تَدْعُو بِهِمْ، وَيُقْرَأُ: «عِبَادًا»، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ، وَأَمْثَالُكُمُ الْخَبَرُ، وَيُقْرَأُ «إِنْ» بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ بِمَعْنَى «مَا»، وَعِبَادًا خَبَرُهَا، وَ «أَمْثَالَكُمْ» يُقْرَأُ بِالنَّصْبِ نَعْتًا لِعِبَادًا، وَقَدْ قُرِئَ أَيْضًا: «أَمْثَالُكُمْ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِبَادًا حَالًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ، «وَأَمْثَالُكُمْ» الْخَبَرُ، وَإِنْ بِمَعْنَى «مَا» لَا تَعْمَلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَتَعْمَلُ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) (١٩٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا) : يُقْرَأُ بِضَمِّ اللَّامِ وَكَسْرِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ) [الْبَقَرَةِ: ١٧٣].
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى تَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُقْرَأُ بِحَذْفِ الثَّانِيَةِ فِي اللَّفْظِ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْأُولَى، وَلَا يَاءَ بَعْدَهَا، وَحَذْفِ الثَّانِيَةِ مِنَ اللَّفْظِ تَخْفِيفًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طَيْفٌ) : يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَصْلُهُ طَيِّفٌ، مِثْلُ
مَيِّتٍ، فَخُفِّفَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَصْدَرُ طَافَ يَطِيفُ، إِذَا أَحَاطَ بِالشَّيْءِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ يَطُوفُ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً، كَمَا قُلِبَتْ فِي أَيْدٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُقْرَأُ طَائِفٌ عَلَى فَاعِلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَمُدُّونَهُمْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ مَدَّ يَمُدُّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) [الْبَقَرَةِ: ١٥] وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَمَدَّهُ إِمْدَادًا. (فِي الْغَيِّ) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى لِلَّهِ؛ أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً؛ أَيْ: فَاسْتَمِعُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (٢٠٥).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) : مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ،
Icon