ﰡ
﴿المص﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ القرآن الكريم ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ ضيق ﴿مِنْهُ﴾ أي لا يكن في صدرك غم أو ضيق من عدم إيمانهم بما أبلغته إليهم من القرآن المنزل عليك؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾ أي ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ﴾ ﴿وَذِكْرَى﴾ تذكيراً ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ﴾ غيره ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ تطيعونهم في معصيته تعالى والكفر به
﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ﴾ ظالمة ﴿أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ عذابنا ﴿بَيَاتاً﴾ ليلاً ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ أي وقت القيلولة. والمعنى: فجاءها عذابنا ليلاً أو نهاراً؛ كما نريد
﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ دعاؤهم وتضرعهم ﴿إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ﴾ حين جاءهم عذابنا
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي الأمم عما فعلوه من عصيان رسلهم، وكفرهم بربهم ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ عما أجيبوا به، وما لاقوه من عنت وتكذيب
﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم﴾ لنخبرنهم بما فعلوه ﴿بِعِلْمِ﴾ منا؛ لأنا حاضرون معهم، مشاهدون لأعمالهم
﴿وَالْوَزْنُ﴾ للأعمال الحسنة أو السيئة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يوم القيامة ﴿الْحَقِّ﴾ العدل؛ لا زيادة في السيئات، ولا نقصان للحسنات (انظر آية ٤٧ من سورة الأنبياء) ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي ما يوزن له من الحسنات ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
الفائزون
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي نقصت حسناته ﴿فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم﴾ حرموها من النعيم، وأضاعوها في الجحيم ﴿بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ أي يجحدون
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي جعلناكم متمكنين منها، قادرين عليها؛ ذوي مكانة فيها ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا﴾ أي في الأرض ﴿مَعَايِشَ﴾ أي أسباباً للمعيشة؛ من مطعم ومشرب وملبس؛ فضلاً من لدنه تعالى
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي خلقنا أصلكم وأباكم آدم من طين ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ أي صورنا آدم في صورته الإنسانية، ونفخنا فيه الروح. أو يكون معنى ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾: إشارة إلى حكمه تعالى وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم - منذ بدايته حتى نهايته - وتصويره لهم على حقيقتهم التي علمها قبل أن يصورهم، وإثبات جميع ذلك في اللوح المحفوظ؛ الذي أثبت فيه تعالى كل ما هو كائن ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ كان الأمر بالسجود لما خلقه الله تعالى بيديه؛ لا لأن آدم مستوجب
-[١٨٠]- للسجود مستحق له؛ قال تعالى: ﴿يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ وقد ابتدأ اللعين، يحاجّ رب العالمين؛ فأهلك نفسه ومن اتبعه إلى يوم الدين
﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ظناً منه أن النار جسم شفاف نوراني، والتراب جسم كثيف ظلماني؛ وهو أول من قال بالقياس؛ وفاته أن القياس لا يجوز مع صريح النص؛ فقد أمره تعالى بالسجود وهو عالم أنه مخلوق من نار، وأن آدم مخلوق من تراب؛ وهو جل شأنه ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ فانزل من الجنة ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ دل ذلك على أن التفاخر بالأنساب من أشد الكبر ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ أي من أهل الصغار؛ وهو الذل والهوان؛ وهكذا كان الجزاء من جنس العمل: لما تكبر إبليس وتعالى على أمرالله: أذله الله تعالى، وألحق به الصغار والهوان؛ وطرده من جنته، وحرمه من رحمته
﴿قَالَ﴾ إبليس لربه ﴿أَنظِرْنِي﴾ أي أمهلني
﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ أضللتني؛ أي بإغوائك لي؛ وهذه إحدى مكائد الشيطان اللعين؛ حيث ينسب الإضلال لرب العالمين إذ أنه تعالى لم يضله إلا بعد أن ضل بنفسه، وانحط إلى درك المخالفة، وجادل ربه تعالى مجادلة الند للند، وعاب خلقه وصنعه، وعصى أمره ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس، ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس وينسبون الأضلال لهادي الضلال، والإغواء لمن ينهى عن الغي ويعاقب عليه؛ ويقولون: إن إبليس أعلم ب الله ممن ينفي عن ربه الإضلال والإغواء (انظر آية ٢٠٠ من سورة الشعراء) ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ أي لبني آدم ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي أمنعهم عن الطريق القويم الموصل إليك
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ أي من قبل الآخرة؛ التي هي أمامهم وبين أيديهم؛ أشككهم فيها، وأزين لهم عدم مجيئها وأنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ من قبل الدنيا؛ لأنها وراءهم؛ أحببهم فيها، وأزيدهم تمسكاً بها ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من قبل الحق؛ لأنه يوصف باليمين؛ أزين لهم أكله، وأشبه عليهم أمر دينهم ﴿وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ من قبل الباطل؛ أشهي لهم المعاصي، وأدفعهم إلى ارتكابها
لقد جاءك إبليس يا ابن آدم من كل جانب، ومن كل وجهة؛ لكنه لم يأتك من فوقك؛ فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمته ورضوانه ومغفرته، فهلم إلى ربك، ادعه يستجب لك، واطلب منه أن ينجيك من إبليس ومن ترصده لك، وإيقاعه بك فهو وحده القادر على حمايتك وعصمتك عصمنا الله تعالى من المهالك، وأعاذنا ممن جعله فتنة للناس ولم يجعل له سلطاناً عليهم، وأذل جنده، وأضعف كيده ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾
﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً﴾ معيباً محقراً ﴿مَّدْحُوراً﴾ مطروداً
﴿وَيَا آدَمُ
-[١٨١]- اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ﴾ حواء ﴿الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فيها ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أيَّ شجرة؛ نهاهما ربهما عنها امتحاناً لهما وابتلاء؛ وليسجل عليهما ضعفهما، وليلجأ إليه بالاستغفار، ويجأرا إليه بالتضرع ﴿فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بالعصيان (انظر آية ٣٥ من سورة البقرة)
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ﴾ استتر واختفى ﴿سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ﴾ عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره كانت وسوسته بأن ﴿قَالَ﴾ لهما ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أي كراهة أن تكونا ضمن الملائكة المقربين ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ الباقين أبداً
﴿وَقَاسَمَهُمَآ﴾ حلف لهما على صحة ما يقول
﴿فَدَلاَّهُمَا﴾ أهبطهما من درجات الجنة الرفيعة العالية، إلى دركات الأرض الوضيعة السافلة ﴿بِغُرُورٍ﴾ أي غرر بهما وخدعهما؛ وما كانا يتوهمان أن مخلوقاً يقسم ب الله تعالى كاذباً ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾ التي نهيا عن الأكل منها ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ جعلا يلزقان ويشدان ﴿عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ قيل: هو ورق التين.
هذا وقد زعم بعض من لاقيت من المتكلمين أن قصة الأكل من الشجرة ليس على حقيقته؛ بل هو عن طريق المجاز: وقد أريد به الالتقاء الذي يتم بين الرجل وزوجه، وأن قول إبليس ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ هو خلود آدم وحواء بأبنائهما إلى يوم القيامة وقوله: ﴿وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى﴾ هو ملك الدنيا، والخلافة فيها؛ وأن الشجرة قد تكون على حقيقتها وأن ما تم بينهما كان تحتها وفي ظلها؛ واستدل على رأيه بما بدا لهما من سوءاتهما عند الالتقاء - المشار إليه بالأكل من الشجرة - وهو زعم مخالف لجميع ما بأيدينا من أقوال المفسرين؛ ولم يبلغ بعد حد الإقناع الذي يلزمنا بالقول به، والدعوة إليه
﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ بعصيانك ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا﴾ خطيئتنا ﴿وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الهالكين وقد أراد تعالى بإيراد تلك القصة على هذا الوجه: أن يعلمنا كيف يخسر المعاند «إبليس» نفسه، ويوردها موارد الهلكة، وكيف ينجو المعترف بذنبه، اللاجىء إلى ربه «آدم» فقد ﴿اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾
﴿قَالَ اهْبِطُواْ﴾ انزلوا من الجنة ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ المقصود: آدم وذريته، والشيطان وقبيله؛ أو بعض ذرية آدم لبعضها أعداء ﴿وَلَكُمْ﴾ جميعاً ﴿فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ موضع قرار ﴿وَمَتَاعٌ﴾ تمتع ﴿إِلَى حِينٍ﴾ وهو انقضاء الأجل
﴿قَالَ فِيهَا﴾ أي في الأرض ﴿تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ تبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء
﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾ يستر عوراتكم التي أراد الشيطان إظهارها ﴿وَرِيشاً﴾
-[١٨٢]- لباساً للزينة ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ الذي يقي الجسم مما يؤذيه من الحر والبرد، أو هو لباس الحرب وقيل: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾
الإيمان وخشية الله تعالى بدليل قوله تعالى ﴿ذلِكَ خَيْرٌ﴾ أي لباس التقوى - الذي يقي عذاب الله تعالى وغضبه - خير من كل لباس؛ و ﴿ذلِكَ﴾ اللباس الذي أنزلناه عليكم ليواري سوءاتكم ﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالة على وحدانيته؛ فمن المعلوم أن اللباس لا يعدو أنواعاً ثلاثة؛ كلها تدل على قدرته تعالى، ومزيد لطفه وإبداعه؛ فالصوف: من أشعار الأنعام وأوبارها، والقطن والكتان: مما تنتجه الأرض من خيراتها، والحرير: تنتجه وتنسجه حشرة من حشرات الأرض؛ بوحي من ربها، وإرشاد من خالقها؛ وجميع ذلك - من حيوان ونبات - مسخر من عند الله تعالى لو أراد منعه لامتنع؛ فتعالى المنعم المتفضل فما أروع عظاته، وما أبدع آياته
﴿يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ احذروا لئلا يضلنكم ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ معشره وجنوده ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ لأنهم أجسام شفافة لا ترى ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي قرناء لهم وأعواناً
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ﴾ أي إذا فعل الذين لا يؤمنون ﴿فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾ في حين أن تقليد المذنب في ذنبه، والآثم في إثمه لا يقوم عذراً للمقلد ﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ احتجوا بتقليد الجهال، وافتروا على ذي الجلال وظنوا أن علم الله تعالى بكفرهم أمر منه به، ورضا عنه
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل؛ فيجب اتباع أمره؛ لا معاندته ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أي توجهوا بكليتكم إليه، وأخلصوا نفوسكم عند كل سجود. أو أقيموا وجوهكم بالدعاء له في مواطن الصلاة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ وكان ذلك عند دخوله المحراب ﴿وَادْعُوهُ﴾ اعبدوه ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي مخلصين له العبادة؛ لأن العبادة بلا إخلاص كلا عبادة (انظر آية ١٧ من سورة البقرة) ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾
أي كما بدأكم من العدم، يعيدكم بعد العدم
﴿فَرِيقاً هَدَى﴾ الله بهدايته ﴿وَفَرِيقاً حَقَّ﴾ وجب ﴿عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾ استوجبوها بانصرافهم عن نداء الحق؛ ونبذهم كلام ربهم وراء ظهورهم؛ ولم يوجب ربهم الضلالة عليهم ظلماً لهم؛ وكيف لا يستحقونها وقد وصفهم الله تعالى بقوله ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ﴾ يوالونهم ويعبدونهم ﴿مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ فحق عليهم غضب ربهم، ووجب انتقامه منهم؛ بتركهم في ضلالهم يعمهون
﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها؛ قيل: إنهم كانوا يطوفون بالبيت عرايا فنزلت. ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ أي ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ مما أحله الله ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ بتناول ما حرم. أو ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ ما يكفي لحفظ
-[١٨٣]- أودكم، وبقاء حياتكم ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ بالزيادة على ذلك؛ ولا يجوز لإنسان يؤمن ب الله واليوم الآخر أن يطعم هو وأولاده فاخر الطعام، وجاره يتضور جوعاً، ويفتقر إلى الخبز القفار؛ وكفى بالمرء سرفاً أن ينيل بطنه كل ما تشتهي وقد جرت عادة أفاضل القوم على أن يطعمون الغير ما يشتهونه هم، ويحرمون أنفسهم مما يبتغون؛ زجراً لها وتأديباً وهذا إذا جاز في شريعتهم فإنه غير ملزم لغيرهم؛ لأن الله تعالى لم يكلف الناس ما يشق عليهم
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ وإنما هم حرموا على أنفسهم الطيبات، ليحظوا بالخيرات، ولم يطلقوا إسارها ليأمنوا عثارها وليصدق عليهم قول الحليم الكريم ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي أن زينة الله والطيبات من الرزق ستكون يوم القيامة خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. كيف لا؛ وقد أطعموا الطعام على حبه، وجعلوا هواهم تحت أرجلهم ورضا ربهم نصب أعينهم؛ وآثروا غيرهم على أنفسهم فاحرص - هديت وكفيت - على الإيثار لا الأثرة، والإنفاق لا الجمع، واحذر البطنة؛ فإنها تذهب الفطنة قال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شر من بطنه» وقد جمع القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ أصول الطب وخلاصة تجارب الأولين، وحكمة علوم الآخرين ويعتبر من أعظم قواعد حفظ الصحة. وعدم الإسراف في الأكل والشرب: وقاية من كثير من الأمراض الفتاكة؛ كأمراض القلب، والكبد، والسكر، والضغط العالي وتصلب الشرايين
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ جمع فاحشة؛ وهي القبائح ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ كالقتل والسب ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ كالزنا والغيبة والنميمة ﴿وَالإِثْمَ﴾ المعصية ﴿وَالْبَغْيَ﴾ الظلم والكبر ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ حجة أو دليلاً
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم السابقة المكذبة ﴿أَجَلٌ﴾ وقت لنزول العذاب الذي قدره الله تعالى عليها ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ وقت نزول العذاب المعد لاستئصالهم
﴿يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ أي إن يجئكم ﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾ آمن ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أعماله ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدنيا ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّنِ افْتَرَى﴾ اختلق ﴿أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ؛ من الرزق والأجل ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ ملائكة الموت ﴿﴾ أي قال لهم ملائكة الموت ﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره؛ أي أين هم؟ هل يستطيعون كشف الضر عنكم، أو دفع الموت، أو تخليصكم من أيدينا؟ ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أي غابوا عنا
﴿قَالَ﴾ لهم ربهم ﴿ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ﴾
أي تداركوا وتلاحقوا
-[١٨٤]- واجتمعوا ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ أي الأمم المتأخرة ﴿لأُولاَهُمْ﴾ لمن تقدمهم من الأمم ﴿رَبَّنَا هَؤُلاءِ﴾ المتقدمين ﴿أَضَلُّونَا﴾ لأنهم ضلوا قبلنا ابتداء فاتبعناهم في ضلالهم؛ ظناً منا أنهم مهتدون ﴿فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً﴾ أي مضاعفاً ﴿قَالَ لِكُلٍّ﴾ منكما ﴿ضِعْفَ﴾ من العذاب: تابعاً ومتبوعاً، متقدماً ومتأخراً لأن الأولين أتتهم رسلنا فكذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، والآخرين أتتهم رسلنا فكذبوهم وآذوهم؛ فالأولين والآخرين في الكفر سواء فكما أن الخطأ لا يبرر الخطأ؛ كذلك كفر الأولين لا يصح أن يتخذ سبباً لكفر الآخرين و ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ﴾ أي قالت الأمم المتقدمة ﴿لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ إذ أنكم كفرتم كما كفرنا؛ فلم يزد فضلكم علينا؛ لكنكم لو كنتم اعتبرتم بما حل بنا وآمنتم: كان ذلك فضلاً يميزكم علينا. وبذلك انقطعت حجة المتأخرين على المتقدمين، وتساووا في الكفر برب العالمين وحينئذ يقول رب العزة للفريقين ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ تعملون
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ القرآن ﴿وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ﴾ فلم يؤمنوا بها ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ﴾ أي لا يصعد لهم عمل صالح ولا يقبل منهم، أو لا تنزل لهم رحمة من السماء، أو لا تفتح لأرواحهم بعد الموت؛ بل يذهب بها إلى سجين؛ وما أدرك ما سجين ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ أبداً ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة؛ ويطلق الجمل أيضاً على حبل السفينة الغليظ، وعلى النخل؛ وقد علق الله تعالى دخولهم الجنة على مستحيل؛ فلن يدخل الجمل - سواء كان بعيراً، أو حبلا، أو نخلاً - في خرت الإبرة؛ كما علق تعالى رؤية موسى له؛ على استقرار الجبل فلم يستقر؛ بل جعله ربك دكاً وخرَّ موسى صعقاً
﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ فراش ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ أغطية؛ فكانت النار لهم وطاء وغطاء. وقد جعل الله تعالى العذاب مكان الأمن والدعة والراحة؛ عافانا الله تعالى برحمته من غضبه ونقمته
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي إن الإيمان والأعمال الصالحة في وسع كل إنسان؛ فلا حجة لمقصر، ولا عذر لمتخلف
وهل ترى من قصد إلى المسجد؛ فتوضأ وصلى وابتهل إلى ربه: خسر من ماله، أو من صحته، أو من عرضه؛ مثل من قصد إلى حانة أو ماخور؛ فخسر ماله وصحته وعرضه بل خسر أيضاً دنياه وآخرته وربما جره ذلك إلى أشد العقوبات، وأفتك الأمراض فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي الطريقين أهدى وأرخص وأيسر؟ طريق الجنة، أم طريق النار؟ وحقاً إن النار لتشرى بالنقود،
-[١٨٥]- والجنة تنال بالمجان وقد تمت المنة، وكملت النعمة، وسقطت المعذرة، وقامت لله الحجة البالغة؛ بقوله ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم﴾ أي صدور أهل الجنة ﴿مِّنْ غِلٍّ﴾ حقد وعداوة، وذلك من تمام نعمته تعالى على عباده المؤمنين ﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي هدانا لصالح العمل؛ الذي أدخلنا بسببه الجنة ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ إلى ذلك ﴿لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ قيل: إن أهل النار يرون مقاعدهم من الجنة لو كانوا مهتدين؛ فيكون ذلك حسرة عليهم، وتعذيباً لهم وإن أهل الجنة يرون مقاعدهم من النار لو لم يهتدوا؛ فيقولون ﴿الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ ﴿وَنُودُواْ﴾ أي نادى الملائكة أصحاب الجنة
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى مناد ﴿بَيْنَهُمْ﴾ بين أهل النار ﴿أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين؛ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وتعريضها للعقاب
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ يمنعون الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه الحق ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي يحاولون أن يجعلوا طريقه القويم ودينه المستقيم؛ معوجاً ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ﴾ بالبعث والحساب والجزاء ﴿كَافِرُونَ﴾ لا يصدقون بمجيء القيامة
﴿وَبَيْنَهُمَا﴾ أي بين الجنة والنار، أو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ﴿حِجَابٍ﴾ حاجز؛ وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ وهو سور الأعراف المعني بقوله جل شأنه ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ﴾ جمع عرف؛ وهو كل مرتفع من الأرض، ومنه سمي عرف الديك: لارتفاعه. وقيل: سمي الأعراف: لأن أصحابه يعرفون الناس جميعاً: أهل الجنة وأهل النار ﴿رِجَالٌ﴾ هم أناس تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة؛ فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فجعلوا هنالك حتى يقضي الكريم فيهم بما يشاء؛ وسيدخلهم الجنة بفضله ومغفرته ورحمته وزعم بعضهم أن المقصود بأصحاب الأعراف: الملائكة؛ وأنهم يناقشون أهل النار بأمر ربهم؛ وهو قول يتجافى مع الصواب والمنطق؛ فقد عرفهم الله تعالى بقوله ﴿رِجَالٌ﴾ ولا يطلق هذا التعريف على ملائكة الرحمن وهؤلاء الرجال ﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ﴾ من أصحاب الجنة وأصحاب النار ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامتهم؛ فأهل الجنة يعرفون ببياض الوجه ونضرته، وبالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأهل النار يعرفون بسواد وجوههم، وبالقترة التي ترهقهم ﴿وَنَادَوْاْ﴾ أي نادى أصحاب الأعراف ﴿أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ قائلين لهم ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾
أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد ﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ في دخولها
﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ﴾ أي إذا اتجهت أبصار أصحاب الأعراف ﴿تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ دعوا الله تعالى قائلين
-[١٨٦]- ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ في هذه النار
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاٍ﴾ من أصحاب النار ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بهيئاتهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا، وبكفرهم وكبرهم ﴿قَالُواْ﴾ لهم ﴿مَآ أَغْنَى عَنكُمْ﴾ من النار ﴿جَمْعُكُمْ﴾ كثرتكم واجتماعكم في الدنيا ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإيمان بالله، وتتعالون على مخلوقاته. ويشيرون إلى أهل الجنة؛ قائلين لأهل النار
﴿أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ في الدنيا أنهم ﴿لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ منه، ولا يدخلهم جنته، وها هو قد قيل لهم ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ وقيل: يقال ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾ لأهل الأعراف
﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ﴾ نتركهم في العذاب كالمنسيين ﴿كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ فلم يعملوا له ﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا﴾ كتبنا التي أنزلناها على رسلنا ﴿يَجْحَدُونَ﴾ ينكرون ويكذبون
﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ﴾ هو القرآن الكريم ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ بيّناه؛ بالقصص والأخبار، والوعد، والوعيد، وفصلنا فيه بين الحق والباطل ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ منا بحق ما بيناه، وصحة ما فصلناه ﴿هُدًى﴾ لمن اتبعه ﴿وَرَحْمَةً﴾ لمن تمسك به
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظرون ﴿إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي إلا أن يأتي ما وعدوا به في القرآن من البعث والحساب، وما يستتبعه من العذاب
﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ يوم القيامة؛ وحينئذ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أي نسوا الوعد والوعيد في الدنيا ﴿لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ فقد تحقق الآن ما أنذرونا به ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ إلى الدنيا ﴿فَنَعْمَلَ﴾ فيها من الصالحات ﴿غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ من السيئات ﴿قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بأن ألقوا بها في الجحيم والعذاب الأليم ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ غاب ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي ما كانوا يعبدونه من الأصنام
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود ﴿أَيُّ﴾ يغطيه بظلامه ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ سريعاً ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ سائرات بقدرته، منظمات للكون بارادته؛ كل منها يعمل في الحدود التي رسمها له خالقه ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ﴾ جميعاً؛ من ملك، وإنسان، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد ﴿وَالأَمْرُ﴾ كله له لا يشاركه فيه أحد من خلقه ﴿تَبَارَكَ﴾ تعالى وتعاظم
﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ﴾ اعبدوه ﴿تَضَرُّعاً﴾ تذللاً واستكانة لطاعته ﴿وَخُفْيَةً﴾ بخشوع قلوبكم، وصحة يقينكم؛ لا مجاهرين بذلك؛ بقصد المراءاة؛ كشأن أهل النفاق ولقد كان من سبقنا من علية القوم ما من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، وكانوا لا يعملون في الجهر إلا ما قصد به وعظ الغير إلى ما اتعظوا به، وهدايتهم إلى ما اهتدوا أو أريد بالدعاء: السؤال والطلب؛ وقد كانوا يجهدون في الدعاء؛ فلا يسمع لهم صوت
-[١٨٧]- إن كان فلا يكون إلا همساً بينهم وبين ربهم - هذا وقد ذكر الله عبداً صالحاً من عباده فرضي فعله؛ فقال ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
المتجاوزين للحد في رفع الصوت بالدعاء، أو المتجاوزين لحد الأدب في الدعاء؛ كمن يطلب رتبة النبيين، أو كمن يسأل ما لا يجوز عقلاً؛ ومن المعلوم أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بمستحيل، فلا يجوز أن يدعو إنسان ربه قائلاً: يا رب اجعل هذا النهر لبناً سائغاً، أو عسلاً صافياً؛ فهذا - ولو أنه غير مستحيل على قدرة الله تعالى - فإنه مستحيل عقلاً وعادة؛ ومثل هذا الداعي ساخر بدينه، مستهزىء بربه
﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ أي لا تكفروا بعد إذ أمركم بالإيمان وأقام على وحدانيته الدليل والبرهان، ولا تظلموا بعد إذ أمركم بالعدل، وأبان لكم مغبة الظلم، ولا تعصوا بعد إذ عرفكم جزاء الطائعين، وعاقبة المتقين وجماع القول أن الله تعالى أراد بما أمر به ونهى عنه: إصلاح العباد والبلاد؛ فمن ابتغى وراء ذلك: فقد بالغ في الفساد والإفساد ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً﴾ مبشرات ﴿بَيْنَ يَدَيِ﴾ أمام ﴿رَحْمَتِهِ﴾ المطر؛ وسماه رحمة لأنه سبب في الرخاء والخصب والنماء؛ وجميعها رحمة وأي رحمة ﴿بُشْرىً﴾ حملت الرياح ﴿سَحَاباً ثِقَالاً﴾ ممتلئاً ماءً ﴿سُقْنَاهُ﴾ أي سقنا السحاب بواسطة الرياح ﴿لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ جدب لا نبات فيه ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ أي بواسطة الرياح، أو بالسحاب ﴿الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ أي بالماء ﴿مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ التي يحتاجها الإنسان ﴿كَذلِكَ﴾ أي مثل إحياء الأرض بالثمار والنبات، وإخراجها للأرزاق والأقوات؛ بعد قحطها وموتها ﴿نُخْرِجُ الْموْتَى﴾ أحياء من قبورهم ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتذكرون بهذه الأمثال التي نضربها لكم؛ فتؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ الذي طابت تربته، وعذبت مشاربه ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ﴾ ثمراته وخيراته
﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بقدرته وحكمته، وفي هذا إشارة إلى أن إخراج النبات والثمرات - ولو أن سببه صنع البشر رأي العين - لا يكون إلا بإذن الحكيم العليم، الخالق القادر ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ أي والبلد الذي خبثت تربته، وأسنت مشاربه ﴿لاَ يَخْرُجُ﴾ نباته ﴿إِلاَّ نَكِداً﴾ رديئاً مصاباً بالعاهات والآفات؛ وهذا مشاهد في وقتنا الحاضر؛ إذ أصيب الثمار والنبات بسائر ضروب المعاطب؛ وما ذاك إلا بجناية الخلق على أنفسهم: بنسيانهم الأعز الأكرم، المتفضل بسائر النعم، وانصرافهم عن إلههم ومولاهم ويصح أن يكون ذلك مثالاً للمؤمن والكافر؛ ويكون معنى قوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ أي أهله؛ وهو كقوله جل شأنه ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهلها ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ الذي يعمل أهله بجد واجتهاد
-[١٨٨]- في دينهم ودنياهم ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ﴾ أي ثواب إحسانهم وإيمانهم كثيراً غزيراً ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ بتفضله وإحسانه؛ وهو الجنة، وأنعم بها من منة ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ أي الذي خبث أهله، وساءت أعمالهم، وكفروا بربهم؛ وركنوا إلى الكسل والخمول ﴿لاَ يَخْرُجُ﴾ نباته ﴿إِلاَّ نَكِداً﴾ أي ثواب أعمالهم النار وبئس القرار ويجوز أن يكون المراد بالبلد: الجسد.
وطيبه: أكل الحلال، والابتعاد عن كل ما هو حرام. ونباته: أعماله؛ تخرج كلها حسنة، مليئة بالطاعات، موصلة إلى الجنات والجسد الذي خبث بأكل الحرام، وارتكاب الآثام: لا يخرج عمله إلا سيئاً؛ موصلاً إلى النار، وغضب الجبار فكذلك بنو آدم: خلقوا من نفس واحدة - بل من طينة واحدة - فمنهم من آمن ب الله وكتبه ورسله؛ فطاب ومنهم من كفر ب الله وكتبه ورسله فخبث (انظر آية ١٧٢ من سورة البقرة) ﴿كَذلِكَ﴾ أي مثل هذه الأمثال التي نضربها، والآيات التي نسوقها ﴿نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾ نوضحها ونبينها، ونكررها
﴿قَالَ الْمَلأُ﴾ أي السادة والأشراف ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ السفينة ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ﴾ أي عمي عن الحق ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ أي في خفة عقل
﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ موعظة تذكركم ﴿وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ﴾ في الأرض؛ تملكونها، وتنتفعون بخيراتها ﴿مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ وقد أهلكهم الله تعالى بكفرهم وذنوبهم ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ زيادة في الجسم والعزم ﴿فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ﴾ أنعمه
﴿وَنُذُرِ﴾ ندع ونترك ﴿مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الأصنام ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ به من العذاب
﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ﴾ عذاب ﴿وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ﴾ يعني بها الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات، والعزى، ومناة؛ وما شاكلها ﴿مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ حجة وبرهان ﴿فَانْتَظِرُواْ﴾ العذاب الموعود الذي تستعجلون به ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ له؛ فنزل بهم العذاب، وأوقع الله تعالى عليهم العقاب
﴿فأَنْجَيْناهُ﴾ أي أنجينا هوداً ﴿وَالَّذِينَ﴾ آمنوا ﴿مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ بأن حففناهم بلطفنا الخفي، وأنجيناهم من عذاب بئيس؛ لا ينزل إلا بأمرنا، ولا يدفع إلا برحمتنا ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ الدابر: الأصل؛ أي استأصلناهم فلم نبق منهم أحداً
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ عبر تعالى بالأخ - في مثل هذه المواضع - لأن كل نبي بعثه الله تعالى من قومه: زيادة في تألفهم ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ حجة واضحة ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ معجزته؛ أخرجها ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ علامة على صدقي ووحدانيته ﴿فَذَرُوهَا﴾ دعوها واتركوها
﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ﴾ أسكنكم ﴿فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا﴾ السهل: الأرض المستوية ﴿فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ﴾ نعمه ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ العثى: أشد الفساد
﴿قَالَ الْمَلأُ﴾ السادة والأشراف ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ﴾ عن الإيمان ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ﴾ وهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ﴾ الكافرون ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ أي كفروا بأن صالحاً مرسل من ربه، وأن الناقة آية منه تعالى
﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ﴾ قتلوها
-[١٩٠]- ﴿وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ استكبروا عن طاعته ﴿وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ من العذاب
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي متلبدين بالأرض باركين على الركب ميتين
﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ أعرض صالح عنهم ﴿وَقَالَ﴾ لقومه - بعد نزول العذاب بهم وموتهم - ﴿يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي﴾ التي كلفني بإبلاغها لكم، وأرسلني بها لهدايتكم ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ باتباعي والإيمان ب الله تعالى وطاعته؛ خشية أن ينزل بكم ما نزل، ويحل بكم ما حل ﴿وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ فعصيتموني وكفرتم بربكم؛ فحل بكم عذابه الموعود الذي استعجلتموه، ويومه المشهود الذي عاينتموه وخطاب صالح عليه السلام لقومه بعد موتهم: تسجيل لأداء ما كلفه الله تعالى بأدائه، وتسجيل لتكذيبهم وكفرهم؛ ولا شك أنهم سامعون لقوله؛ بدليل مخاطبة الرسول لقتلى المشركين يوم بدر: ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً﴾ وقال لمن حوله: ﴿قَالُواْ نَعَمْ﴾
﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ الكبيرة؛ وقد كانوا يأتون الذكران ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ في العصيان
﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي يتنزهون عما نفعله من إتيان الرجال في الأدبار.
هذا وفعلة قوم لوط من أشنع الفواحش، وأبشع الجرائم، يأباها أحط الحيوانات، فما بالك بأكرم المخلوقات
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ جميع من آمن به ﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الباقين في العذاب
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً﴾ عجيباً؛ ليس كسائر المطر، الذي يأتي بالثمر؛ بل أنزل عليهم من السماء ناراً تستعر ليس بالمطر الذي يبعث الرخاء والرحمة، والسعة والنعمة؛ بل أمطرتهم السماء ناراً وأحجاراً، وبعثت فيهم موتاً ودماراً ويقال «أمطر» في العذاب، و «مطر» في الرحمة ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ ومآلهم؟ إذ دمرناهم وأحرقناهم وأهلكناهم
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ وهو صهر موسى عليهما السلام؛ الذي زوجه إحدى ابنتيه وقال له «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾ حجة ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ تدل على صدقي ﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾ في معاملاتكم
-[١٩١]- ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ﴾ تنقصوا ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾ بالكفر والعصيان ﴿بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ ببعث الرسل، وإنزال الكتب
﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ طريق ﴿تُوعَدُونَ﴾ من التوعد؛ أي تهددون من آمن بشعيب. والتوعد: التهدد. ويقال في الخير: وعد. وفي الشر: أوعد. قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
﴿وَتَصُدُّونَ﴾ تمنعون الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه القويم ﴿وَتَبْغُونَهَا﴾ تريدونها ﴿عِوَجَا﴾ معوجة؛ غير مستقيمة؛ لتمنعوا الناس عن سلوكها
﴿قَالَ الْمَلأُ﴾ السادة والأشراف من قوم شعيب ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ﴾ عن الإيمان به ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ﴾ جميعاً ﴿فِي مِلَّتِنَا﴾ التي نحن عليها ﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ أي أتعيدوننا في ملتكم؛ ولو كنا كارهين لهذه الملة، ساخطين عليها
﴿قَدِ افْتَرَيْنَا﴾ اختلقنا ﴿عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ آمنا بغيره، و ﴿عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾ بعنايته وتوفيقه، وهدايته إلى معرفته ﴿وَمَا يَكُونُ﴾ ما يجوز، وما يحق ﴿لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ أي إلا أن يكون قد سبق في علمه تعالى شقوتنا وانحرافنا عن الحق الذي أمرنا باتباعه ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ﴾ كان، أو هو كائن ﴿عِلْماً﴾ كيف لا؛ وهو جل شأنه خالق كل شيء، وهو السميع العليم
-[١٩٢]- ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ ليهدينا سبلنا (انظر آية ٨١ من سورة النساء) ﴿رَبَّنَا افْتَحْ﴾ احكم ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ الحاكمين
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ متلبدين بالأرض، باركين على الركب ميتين
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ كأن لم يقيموا فيها. والمغنى: المسكن
﴿فَتَوَلَّى﴾ أعرض ﴿عَنْهُمْ وَقَالَ﴾ لهم ﴿يقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي﴾ التي أرسلني بها إليكم؛ فكذبتموني ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ فلم تستمعوا لنصحي ﴿فَكَيْفَ آسَى﴾ أحزن ﴿عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ بذلت لهم سبل الهداية؛ فازدادوا فجوراً وكفراً، وأسدي لهم النصح؛ فأبوا إلا عتواً وعناداً
﴿أَخَذْنَا أَهْلَهَا﴾ عاقبناهم ﴿بِالْبَأْسَآءِ﴾ الفقر ﴿وَالضَّرَّآءِ﴾ المرض ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ﴾ يتذللون
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ﴾ أبدلناهم مكان الفقر والمرض ﴿الْحَسَنَةَ﴾ الغنى والعافية ﴿حَتَّى عَفَوْاْ﴾ نمت أموالهم، وكثرت أولادهم؛ يقال: عفا الشعر والنبات: إذا كثر. وقد عرَّف تعالى أنه أخذهم بالشدة فلم تنجع، وأخذهم باللين فلم ينفع ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ﴾ كما مسنا؛ أرادوا أن ينسبوا ذلك إلى الدهر، وإن ما حاق بهم: حاق بمن كان قبلهم؛ وهذا ضرب من ضروب الكفر ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالعذاب ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة؛ بعد أن بذلنا في إقناعهم كل الأسباب؛ من نعمة وعذاب، وإغناء وإقناء، وصحة وإعلال، ونوال ونكال؛ فاستحقوا بذلك الإهلاك والاستئصال
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى﴾ الذين كفروا ب الله تعالى، وجحدوا أنعمه، وكذبوا رسله؛ لو أنهم ﴿آمَنُواْ﴾ بربهم ﴿وَاتَّقَواْ﴾ بطشه وعذابه ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ﴾ بالمطر والنبات. فانظر - يا رعاك الله - إلى قول مولاك ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ﴾ ولم يقل: ﴿أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ وقال: ﴿بَرَكَاتٍ﴾ ولم يقل: ﴿رِزْقاً﴾ وشتان بين الفتح والإنزال، البركات والأرزاق فالمطر وحده لا يكفل الخصب والإنبات أما البركات فهي وحدها كفيلة بكل شيء.
-[١٩٣]- ﴿وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالعذاب
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ عذابنا وانتقامنا ﴿بَيَاتاً﴾ ليلاً
﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ﴾ مكره بهم: أخذه إياهم من حيث لا يشعرون
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ أولم يتبين ﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أهلكناهم بسببها ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ نغطي عليها ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ النصح؛ وذلك عقوبة لهم على انصرافهم عن آيات ربهم؛ وعدم اعتبارهم بما امتحنهم به من تعذيب، وما منحه لهم من نعيم
﴿تِلْكَ الْقُرَى﴾ التي ذكرناها، وذكرنا أنباءها، ومن أرسل إليها؛ والمقصود بالقرى: أصحابها وساكنيها؛ وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ أخبارها ما نثبت به فؤادك؛ وليتعظ بذلك قومك، وليعلموا أنهم إن بقوا على كفرهم؛ فسيكون حالهم مثل حالهم ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات الظاهرات ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ بالرسل ولا بالمعجزات ﴿بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ أي بما كذب به آباؤهم وأسلافهم، أو ﴿بِمَا كَذَّبُواْ﴾ به ﴿مِن قَبْلُ﴾ إتيان الرسل إليهم؛ أي إنهم ظلوا بكفرهم متمسكين، وعلى تكذيبهم ثابتين. وقيل: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ إذ ردوا بعد الموت ﴿بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ ﴿كَذلِكَ﴾ مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله تعالى على قلوب الكافرين والمكذبين ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ يختم ويغطي ﴿عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ لأنهم كفروا ابتداء، وأصروا على الكفر انتهاء، وأصموا آذانهم عن الاستماع إلى النصح، وأغلقوا قلوبهم بأقفال من الغفلة والعناد فحق عليهم غضب ربهم، وتخليه عن هدايتهم ولا يخفى أن كفرهم سابق على تغطية الله تعالى قلوبهم؛ وأن طبع الحكم العدل على قلوبهم؛ كان عقوبة على عنادهم وتمسكهم بكفرهم
﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾ أي ليس لهم وفاء ولا أمانة
﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ فكفروا بها.
﴿حَقِيقٌ﴾ جدير ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ﴾ بمعجزة ظاهرة
﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ﴾ معجزة
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ بين واضح؛ لا لبس فيه ولا إبهام، ولا تمويه ولا خداع
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾ أخرجها من جيبه ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ مشرقة كإشراق الشمس، ولم يكن بياضاً معتاداً، كبياض البرص؛ وإلا لم تكن معجزة
﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أي أخرهما ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾ جامعين
﴿وَجَآءَ السَّحَرَةُ﴾ الذين جمعتهم رسل فرعون من المدائن
﴿قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾ بسحرك أولاً
﴿قَالَ﴾ موسى ﴿أَلْقَوْاْ﴾ أنتم بسحركم أولاً ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ﴾ بسحرهم ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ يؤخذ من هذا أن السحر إن هو إلا تمويه على العقول، وخدع للأبصار؛ وليس نقلاً للأشياء عن حقيقتها وطبيعتها؛ كشأن المعجزة التي تسندها قوة الخالق الأعظم تبارك وتعالى وذلك لأن الساحر لو أحال طبيعية الأشياء؛ لكان ما يأتي به معجزة أو هو كالمعجزة التي يأتي بها الأنبياء عليهم السلام، وكان لا فرق بينه وبين النبي؛ ولقام العذر لمن انخدع به ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ من الرهبة؛ أي أخافوهم وأزعجوهم.
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾ تتناول بسرعة؛ والمعنى أنها تبتلع ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ ما يكذبون؛ أي ما يموهون به على أعين الناس من سحرهم؛ والإفك: أسوإ الكذب
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ الذي أراده الله تعالى، وانتصر رسول رب العالمين، على رسول إبليس اللعين ولقفت عصا موسى حبال السحرة وعصيهم، وظهر أمر الله تعالى، وعلت كلمته، وانهار صرح الكفر ودالت دولته
﴿فَغُلِبُواْ﴾ أي غلب فرعون وقومه ﴿هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ﴾ رجعوا ﴿صَاغِرِينَ﴾ ذليلين مقهورين ولما بان للسحرة شأن موسى وأحسوا بما أبداه وأظهره، وعلموا أن ذلك ليس من جنس السحر الذي يخدعون أعين الناس به؛ وأنه يستعين فيما يأتيه بقدرة خارقة لطبائع الأشياء، ويستمد بقوة إلهية محسوسة؛ ولو أنها غير منظورة حينئذ علموا أنه يدعو إلى الحق، وأن فرعون يدعو إلى الباطل؛ وخروا سجداً لله، و
{قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} استفهام؛ أي أآمنتم ﴿بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ بالإيمان ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ﴾ وهو إظهار الإيمان بموسى؛ ليؤمن به باقي الناس
﴿قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ راجعون
﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ﴾ أي وما تعاقبنا؛ يقال نقم منه: إذا عاقبه ﴿إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾ الدالة عليه؛ وهي ما رأيناه من معجزات ظاهرات ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً﴾ هب لنا من لدنك صبراً واسعاً، وأكثره علينا حتى يفيض ويغمرنا
﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ﴾ أتترك ﴿مُوسَى وَقَوْمَهُ﴾ ممن آمن به من بني إسرائيل ﴿لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ﴾ يدعك ويتركك ﴿وَآلِهَتَكَ﴾ قيل: كان لعدو الله تعالى بقرة يعبدها؛ وقد قرأ مجاهد وابن عباس «وإلاهتك» وكان القائلون لذلك خاصة فرعون وبطانته؛ وهكذا شأن بطانة السوء في كل زمان ومكان: تدس للعاملين المصلحين؛ عند الملوك الجاهلين المستبدين؛ وتفهمهم أن في بقاء أمثال هؤلاء خطراً على عروشهم وهكذا أيضاً شأن الحمقى من الملوك والرؤساء: يحيطون ملكهم وجبروتهم بسياج من السطوة والبطش؛ لتتوفر لهم بذلك أسباب الاستقرار والانقياد ولذا كان جواب فرعون على تحريض ملئه له
﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
-[١٩٦]- نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ عالون بالقدرة، والكثرة، والغلبة، والقهر. وهذا هو شأن المستبد الظالم الغاشم المبطل؛ الذي لا يعتمد إلا على ظلمه وقوته وقسوته أما الذي ينشد العدل، ويرغب في الحق؛ ويسعى إلى الإصلاح؛ فهو إذا غلب على أمره: لجأ إلى مولاه يستهديه ويستعينه ويسترشده؛ لذا
﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ على أعدائكم ﴿وَاصْبِرُواْ﴾ على أذاهم؛ ف الله معكم، وهو ناصركم ﴿إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا﴾ يملكها ﴿مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الأتقياء ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ النهاية الحسنة المحمودة ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب
﴿قَالُواْ﴾ أي قال بنو إسرائيل - أصحاب موسى - حين سمعوا مقالته: لقد ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا﴾ بقتل الأبناء، واستحياء النساء ﴿وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ بإيذاء فرعون لنا، ووعيده وتهديده ﴿قَالَ﴾ موسى لقومه ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ فرعون وملئه ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ مكانهم ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أتحسنون هذه الخلافة، أم تكونون - كمن سبقكم - من المفسدين؟ وقد أهلك الله تعالى عدوهم، واستخلفهم في الأرض كما وعدهم؛ فكانوا أضل من فرعون وأطغى، وكانوا من أسوأ الأمم فساداً وإفساداً؛ لعنهم الله تعالى
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ﴾ بالقحط؛ يقال: أسنت القوم؛ بمعنى أقحطوا
﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ الخصب والغنى ﴿قَالُواْ لَنَا هَذِهِ﴾ أي نستحقها بعملنا وعلمنا؛ ولم يشكروا الله تعالى عليها ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ قحط وبلاء ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾ يتشاءموا ﴿بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾
زاعمين أنهم سبب الشؤم الواقع بهم ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ﴾ أي إنما سبب شؤمهم عند الله؛ وهو عملهم الذي يعملونه، والذي استوجبوا عليه ما أسموه طيرة وشؤماً هذا والتطير والتشاؤم من العادات التي ذمها القرآن الكريم، ونهى عنها الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» «إذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» وقال أيضاً: «من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» لقد تشاءم الكافرون من أنبيائهم، في حين أن الشؤم هم سببه ومصدره؛ فقد تشاءم قوم موسى بموسى، وتشاءم قوم صالح بصالح: ﴿قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ وفي شتى العصور تشاءم الكافرون بالمرسلين وبالمؤمنين ﴿قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ هذا وقد جرى بعض المسلمين على نهج هؤلاء الكافرين؛ فتشاءموا من الأوقات، ومن الأيام، ومن الأشخاص؛ وهي عادة مرذولة يأباها الإسلام ويحض على نبذها ومنعها؛ ولا يقبلها دين سماوي، ولا عقل راجح؛ ومن عجب أنهم يستدلون ببعض آيات
-[١٩٧]- الكتاب الكريم على ما يزعمونه؛ ويوردون قوله تعالى: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ ﴿فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ ولا ندري أي من يوم من هذه الأيام الثمانية نختصه بالنحس دون الآخر - وقد شملت الآية الكريمة كل أيام الأسبوع ولياليه - فبان لنا من ذلك: أن النحس متعلق بذات الأشخاص الواقع عليهم النحس؛ وذلك بسبب شؤم معاصيهم، وبعدهم عن مرضات ربهم ولم يخلق الله تعالى الأيام نحساً كلها، أو سعادة كلها؛ فبعضها نحس على أناس، سعد على آخرين؛ ورب إنسان تصور نحسه في يوم من الأيام، فصار هذا اليوم مصدر سعادة له لا يترقبها ولا يتوهمها ونخرج من هذا البحث بنتيجة واحدة لا ثاني لها: هي أن ﴿مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ فسييسره ربه لليسرى؛ وأيامه كلها هناء، ولياليه كلها سعادة؛ غير ما أعده الله تعالى له من خير عميم، ونعيم مقيم أما ﴿مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ فسييسره ربه للعسرى؛ وأيامه نحسات، ولياليه مدلهمات؛ غير ما أعده له ربه من جحيم، وعذاب أليم
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ كل ما طاف وغلب؛ من مطر، أو مرض، ونحوهما: فهو طوفان. ومنه قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ وورد: أنه الموت المتتابع الذريع؛ ولعله الطاعون. وقيل: هو طوفان من الماء؛ أحاط بهم، ودخل منازلهم، وعلا حتى وصل إلى حلوقهم سبعة أيام ﴿وَالْجَرَادَ﴾ سلطه الله تعالى عليهم؛ فلم يدع لهم طعاماً يأكلونه ﴿وَالْقُمَّلَ﴾ وهو السوس الذي يأكل الحنطة فلا يدع إلا قشرها؛ أفنى الجراد ما زرع ليؤكل، وأباد السوس ما أعد للأكل، وقيل: «القمل» صغار الجراد؛ الذي لا أجنحة له، أو هو قمل الرأس المعروف ﴿وَالضَّفَادِعَ﴾ امتلأت الدنيا بها من حولهم؛ حتى إن الرجل ليفتح فمه ليتكلم؛ فتثب واحدة منه فتدخل في فيه ﴿وَالدَّمَ﴾ قيل: صارت مياههم دماً.
وقيل: هو الرعاف. وقد أرسل الله تعالى عليهم هذه الآفات ﴿آيَاتُ﴾ عظات ﴿مّفَصَّلاَتٍ﴾ ظاهرات؛ لا يخفى على عاقل أنها من عند الله. أو ﴿مّفَصَّلاَتٍ﴾ بمعنى متفرقات ﴿فَاسْتَكْبَرُواْ﴾ عن الإيمان، ولم يجيبوا داعي الرحمن
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ العذاب المذكور. وقيل: هو عذاب آخر عذبوا به بعد إذ لم يؤمنوا بما مر من الآيات؛ وهو الطاعون ﴿قَالُواْ يمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ أي بما اختصك به من إجابة الدعاء، وقبول الرجاء؛ و ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ تذهب بهم حيث تشاء
﴿فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ﴾ وهو انتهاء أعمارهم بالغرق ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ ينقضون وعدهم وتوبتهم
﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ في البحر الذي لا يدرك قعره
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ﴾ وهم بنو إسرائيل؛ رفعهم من حضيض الذل، إلى أوج العز ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ يبنون
﴿فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ﴾ يقبلون مواظبين ﴿عَلَى﴾ عبادة ﴿أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ﴾ أي قال بنو إسرائيل لموسى ﴿يمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً﴾ نعبده ﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ يعبدونها ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ عجباً لبني إسرائيل: رأوا ما حل بفرعون وقومه جزاء كفرهم ب الله وذاقوا حلاوة نصرهم على عدوهم - جزاء إيمانهم - وحينما يرون أناساً يعبدون الأصنام يقولون: كيف يكون لهم آلهة ولا يكون لنا إلهاً نعبده كما يعبدون؟ ونسوا أنعم الله تعالى عليهم
﴿إِنَّ هَؤُلآءِ﴾ الذين ترونهم يعبدون الأصنام ﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾
أي إن ما هم فيه هلاك وخسران. و ﴿مُتَبَّرٌ﴾ مدمر مكسر
﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ﴾ الذي خلقكم، واصطفاكم، وأهلك عدوكم وأنجاكم؛ أغيره ﴿أَبْغِيكُمْ﴾ أبغي لكم ﴿إِلَهاً﴾ معبوداً ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فكيف تبتغون غيره، وتطلبون معبوداً سواه؛ وتقولون: ﴿اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾؟ اذكروا يا بني إسرائيل
﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ الخطاب موجه لليهود الموجودين في عصر النبي؛ أي اذكروا إذ أنجينا آباءكم وأسلافكم؛ أو هو تذكير لمنته تعالى على بني إسرائيل ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ أشده وأسوأه ﴿﴾ يستبقونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء ﴿وَفِي ذَلِكُمْ﴾ العذاب والتقتيل ﴿بَلاءً﴾ ابتلاء ومحنة، أو ﴿وَفِي ذَلِكُمْ﴾ العذاب نعمة لكم؛ لأن سنته تعالى جرت على رفع درجات من ابتلى، وإعلاء شأن من امتحن
﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى﴾ بالمناجاة ﴿ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ فتكون أربعين؛ صامها موسى استعداداً لهذا اللقاء، وتأهباً لتلقي أوامر الله تعالى ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ﴾ ما وقته له من الوقت ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ أي كن خليفتي فيهم، وراعياً لهم
﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ (انظر آية ١٦٤ من سورة النساء) ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي﴾ نفسك ﴿أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ أي لأنظر إليك وأراك ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ تجلى أمره بأن جعل الجبل لا يستقر، وتجلت قدرته بأن ﴿جَعَلَهُ دَكّاً﴾ أي مدكوكاً؛ وليس معنى التجلي: ظهور المولى - جل وعلا - للجبل، أو إبداء نوره؛ كما ذهب إليه أكثر المفسرين؛ والذي حصل: أن الجبل تزلزل واهتز، وانهارت أركانه، وتصدع بنيانه، ومادت أحجاره، وتساقطت صخوره
﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقاً﴾ مصعوقاً؛ مغشياً عليه من هول ما رأى ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ من غشيته، اتجه بكليته و ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ ربي؛ تقدست عن الرؤية، وتعاليت عن الوصف
-[١٩٩]- (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من قولي: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعظمتك، المصدقين بعلوك وتنزيهك فقبل الله تعالى توبته؛ و
﴿قَالَ﴾ له معدداً أفضاله عليه ﴿يمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ اصطفيتك: اخترتك (انظر آية ١٦٤ من سورة النساء) ﴿فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ﴾ من التوراة، وبلغها لقومك ﴿وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لي على هذا الاصطفاء
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ﴾ وذلك لأن التوراة كانت تنزل على موسى مكتوبة في الألواح، أو كان يكتبها - بأمر ربه - في الألواح؛ ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في صفة هذه الألواح؛ وهل كانت من ياقوت أو زبرجد، أو زمرد، أو من سدر الجنة؛ مما خاض فيه أكثر المفسرين، وأطنبوا في وصفه؛ حيث لا حاجة بنا إلى ذلك ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ من التنبيه إلى وجود الله تعالى والتذكير بعظمته ﴿مَّوْعِظَةٌ﴾ لهم ﴿وَتَفْصِيلاً﴾ تبييناً ﴿لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاجون إليه لمعاشهم ومعادهم ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ بجد وعزم واجتهاد ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾ وذلك لأن في التوراة: الحسن والأحسن؛ كالاقتصاص والعفو، فإن العفو خير من القصاص، وكاتباع الأوامر واجتناب النواهي، فإن اتباع الأوامر خير من اجتناب النواهي ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي سأريكم ما حل بفرعون وقومه من عذاب وتشريد، وأورثكم أرضهم وديارهم؛ والمراد بدار الفاسقين: مصر
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي﴾ دلائل قدرتي وعظمتي
﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ﴾ فلا يؤمنون بي، ولا يصدقون رسلي ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ﴾ دالة على وحدانيتي ﴿لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ طريق الهدى والصلاح ﴿لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ﴾ طريق الفساد والضلال ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ طريقاً لهم يتمسكون به، ويسيرون فيه ﴿ذلِكَ﴾ الصرف عن الآيات، والوقوع في الضلالات ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ بعد ظهورها ووضوحها؛ فاستحقوا بذلك الصرف عما ينجي، والوقوع فيما يردي
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ فلم يؤمنوا بها؛ واتخذوا لقدرة الله تعالى وآياته أسباباً؛ كقولهم: إن المطر بالنوء، وإن الزلازل من تفاعلات أرضية، وإن البراكين ترجع إلى أسباب طبيعية؛ كتسرب ماء البحار وتبخره من الحرارة ومحاولته الخروج، وإن الأرض والكواكب تدور في أفلاكها بقوى مغناطيسية، ودوافع جاذبية، وإن الأرض كانت قطعة من الشمس فزالت منها، وانفصلت عنها؛ وهم بهذه التعلات والأسباب يحاولون أن يسندوا كل كائن إلى أسباب طبيعة؛ يدفع بعضها بعضاً بغير حاجة إلى موجد أو إلى صانع؛ ناسين الخالق الرازق، القادر
-[٢٠٠]- القاهر، العظيم الجبار؛ فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً سبحانه ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ وهؤلاء المكذبين: كذبوا بآيات الله تعالى ﴿وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ﴾ وهي القيامة، والبعث، والحساب، والجزاء ﴿حَبِطَتْ﴾ بطلت ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ التي عملوها في الدنيا؛ فلا يقام لها وزن؛ فكم من عالم: ملأ علمه طباق الأرض؛ وسارت مخترعاته في طولها والعرض؛ وهو من أهل النار: لكفره بالله، وإيمانه بالقوى التي أوجدها الله بقدرته ومشيئته وكم من جاهل: صفت نيته، وحسنت عبادته؛ وآمن بمولاه؛ فكان من أهل النجاة ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ أي هل يجزى هؤلاء المكذبون الغافلون؛ يوم القيامة من العذاب ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي إلا جزاء ما عملوا في الدنيا
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ﴾ أي بعد ذهابه لميقات ربه ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ أي مما يتحلون به من الذهب والفضة ﴿عِجْلاً جَسَداً﴾ أي عجلاً مجسماً ﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾ له صوت؛ والخوار: صوت البقر؛ وقد كان إبليس اللعين يدخل في جسد العجل، ويخور كما يخور، وقيل: صنعوه بحيث إذا تعرض للهواء: خرج منه صوت يشبه خوار العجل ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ عبدوه
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ﴾ هو كناية عن اشتداد الحسرة والندامة
﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى﴾ من ميقات ربه ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ بعد أن تلقى أمر ربه ووحيه ﴿غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ مما رآهم عليه من الإنصراف عن عبادة الله تعالى؛ - الخالق الرازق، الضار النافع، السميع العليم - إلى عبادة صنم أخرس؛ لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ تعجلتم سخطه وغضبه وعذابه ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ﴾ التي في يده، وفيها التوراة، التي تلقاها عن ربه ليبلغها لهم؛ وذلك ليتفرغ للنضال مع أخيه هارون؛ الذي استخلفه عليهم؛ وقد توهم أن هارون لم يقم بما استخلفه عليه، وأهمل في اتباع أوامره ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ فهال ذلك هارون؛ وخشي على نفسه من أخيه موسى، ورأى وضوح عذر موسى في هذا الاعتداء - رغم أن هارون كان مضطراً ومغلوباً على أمره - ﴿قَالَ﴾ هارون لموسى معتذراً ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾ بعد ذهابك ﴿وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ﴾ بما تفعله الآن معي ﴿وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي لا تجعلني - بعدائك لي - في مصاف الكافرين ويؤخذ من هذه الآية أن حالة الغضب لا يصح أن تقاوم بالشدة؛ بل باللين، خصوصاً بين متحابين فانظر كيف أن هارون عليه السلام حينما قابل غضب أخيه وبأسه بلينه وهدوئه: سكن موسى وطلب لنفسه ولأخيه الغفران
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾
-[٢٠١]- التي وسعت كل شيء
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ﴾ عبدوا ﴿الْعِجْلَ﴾ وهم اليهود ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ غير ما أعد لهم في الآخرة من عذاب أليم مقيم
﴿وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ أي سكن؛ وبه قرأ معاوية بن قرة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى عليه السلام كان من أشد الناس غضباً، وأنه من شدة غضبه صك ملك الموت ففقأ عينه، وهي فرية إسرائيلية؛ نعوذ ب الله من الوقوع فيها ﴿أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا﴾ أي فيما نسخ فيها وكتب ﴿هُدًى﴾ من الله ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ يخافون بطشه وعقابه
﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ أي من قومه ﴿لِّمِيقَاتِنَا﴾ أي للوقت الذي ضربناه له للإتيان بهم ليعتذروا عن عبادة العجل، ويستغفروا مما جنت أيديهم ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة؛ وذلك لأنهم لم يفارقوا قومهم - حين عبدوا العجل - ولم ينهروهم على عبادته؛ وهم غير الذين سألوا الرؤية، وأخذتهم الصاعقة ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ محنتك وابتلاؤك؛ حين كلمتني وسمعوا كلامك، فطمعوا في رؤيتك. أخذها موسى عليه السلام من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ﴾ وقد فتنهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا، وزاغوا وأزاغوا ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي تبنا ورجعنا ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ﴾ قرأ الحسن: «من أساء» من الإساءة ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ انظر كيف قيد الرحمة التي وسعت كل شيء بتقوى الله، وإيتاء الزكاة فاعلم أيها المؤمن أن أمامك طريقين؛ أيهما سلكت جوزيت من جنس عملك: فإما أن تشح بمالك وتضحي برحمة الرحيم الرحمن؛ الذي يطمع في رحمته كل إنسان، وإما أن تؤدي ما فرضه الله تعالى عليك من الزكاة؛ فتسعك رحمته، وتشملك مغفرته (انظر آية ١٤صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ جاء في إنجيل برنابا - على لسان عيسى عليه السلام - ما نصه: «إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور، ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب، وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم، وإن مما يعزيني أن لا نهاية لدينه؛ لأن الله سيحفظه صحيحاً حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا ألله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم» إصحاح ٩٧ ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ وهو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم - في الجاهلية - من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ كلحم الخنزير والميتة
-[٢٠٢]- والدم، وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله تعالى ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي يضع عنهم القيود والتشديد الذي كان على بني إسرائيل؛ بسبب أعمال عملوها، وذنوب ارتكبوها ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ﴾ أي بمحمد عليه الصلاة والسلام ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ عظموه ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ وهو القرآن العظيم؛ وأكرم به من نور
رب إن الهدى هداك وآيا
تك نور تهدي بها من تشاء
نور القلوب، وشفاء الصدور، وكلام الحكيم العليم، العزيز الرحيم ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ﴾ الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ وأتى بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء وقد أرسله الله تعالى أميّاً؛ ليكون ذلك أذهب للريبة، وأبعد للشبهة؛ أرسله أمياً وهو أعلم العلماء، وأحكم الحكماء
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية، والتأديب في اليتم
﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى﴾ يعني بني إسرائيل ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة؛ آمنوا بمحمد ﴿يَهْدُونَ﴾ الناس ﴿بِالْحَقِّ﴾ الذي تمسكوا به ﴿وَبِهِ﴾ أي بالحق ﴿يَعْدِلُونَ﴾ في أحكامهم فيما بينهم؛ فبه يعطون، وبه يأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون. وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها أمة فيما وراء الصين؛ وهو ليس بشيء
﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ أي فرقناهم ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً﴾ الأسباط: أولاد الولد؛ وكانوا اثنتي عشرة قبيلة؛ من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ﴾ طلبوا السقيا؛ لانعدام الماء في التيه ﴿فَانبَجَسَتْ﴾ فانفجرت ﴿مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ بعدد الأسباط؛ والسبط: القبيلة من اليهود ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ كل سبط ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ العين الخاصة بشربهم ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ﴾ وهو كل ما منَّ الله تعالى به على عباده؛ من غير تعب ولا نصب ﴿وَالسَّلْوَى﴾ كل ما يتسلى به. وقيل: طائر، ويطلق أيضاً على العسل ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي من الرزق السهل، الحلال الطيب المباح. (انظر آيتي ١٧٢ من سورة البقرة. و٥٨ من هذه السورة)
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ بيت المقدس ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ أي أمرنا حطة. وهي بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة ﴿وَادْخُلُواْ الْبَابَ﴾ أي باب القرية ﴿سُجَّداً﴾ مطأطئين الرؤوس، خاضعين لله الذي تفضل عليكم
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ فلم يقولوا «حطة» بل قالوا: حنطة في شعيرة. ولم يسجدوا؛ بل زحفوا على أستاههم؛ ولم يقصدوا من وراء ذلك سوى المخالفة ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً﴾
عذاباً
﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ أي قريبة منه، راكبة لشاطئه «ميناء» قيل: هي أيلة؛ بين مدين والطور، وقيل: هي ساحل مدين ﴿إِذْ يَعْدُونَ﴾ يعتدون ويتجاوزون حدود الله تعالى ﴿فِي السَّبْتِ﴾ في يوم السبت - وهو يومهم المعظم في ديانتهم - وقد أمروا بعدم العمل فيه ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً﴾ ظاهرة على وجه الماء؛ فتنة لهم وابتلاء؛ وإن الله تعالى ليبتلي المؤمن ليزداد أجراً بصبره، ويبتلي الكافر ليزداد عذاباً بكفره ﴿كَذلِكَ﴾ أي إتيان الحيتان وظهورها على وجه الماء في يوم السبت؛ الذي حرم فيه الصيد، وعدم إتيانها في الأيام الأخرى التي أبيح فيها؛ كذلك ﴿نَبْلُوهُم﴾ نشدد عليهم البلاء والاختبار والامتحان ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ بسبب فسقهم، وتركهم لأمر ربهم
﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ﴾ طائفة ﴿مِنْهُمْ﴾ من بني إسرائيل؛ لطائفة أخرى كانت تعظ الذين اعتدوا في السبت، وتقول لهم: احذروا مخالفة ربكم، والزموا أوامره. فقالت الطائفة الضالة لهذه الطائفة الآمرة بالمعروف ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ في الدنيا بأعمالهم ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿عَذَاباً﴾ إنما ننهاهم ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أي نعظهم ليكون ذلك عذراً لنا عند ربنا؛ إذ قمنا بما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ بسبب وعظنا لهم
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أهملوه وتركوه واستمرأوا الكفر والمخالفة ﴿أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ﴾ وهي الطائفة التي كانت تعظهم وتنهاهم ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ شديد البؤس ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي بخروجهم من طاعة الله تعالى إلى معصيته
﴿فَلَماَّ عَتَوْاْ﴾ تكبروا ﴿عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً﴾ أي كالقردة في المهانة أو «قردة» على الحقيقة ﴿خَاسِئِينَ﴾ صاغرين مطرودين
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ أي أقسم وأعلم ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ أي على اليهود ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ﴾ يقال: سامه خسفاً: إذا أولاه ذلاً ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ بالقتل، والأسر، وأخذ الجزية. فبعث الله تعالى عليهم سليمان، وبعده بختنصر؛ فأعمل فيهم القتل والسبي، وضرب الجزية على من بقي منهم؛ فكانوا يؤدونها إلى المجوس؛ حتى بعث الله تعالى نبينا محمداً فضربها عليهم؛ ثم بعث الله تعالى عليهم بعد ذلك أمة الألمان، فأرتهم من الذل والعذاب ألواناً لم يرها مخلوق من قبل؛ حتى أنهم ليجمعونهم بالآلاف ويطلقون عليهم الغاز الخانق، ويضعونهم في النيران أليس ذلك مما تأذن به المنتقم الجبار في سالف الأزمان؟
وسيظل اليهود طول العمر، وأبد الدهر؛ تحت نير الذل والعذاب ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾
﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾
-[٢٠٤]- فرقناهم ﴿فِي الأَرْضِ أُمَماً﴾ فرقاً ﴿مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ المؤمنون الذين آمنوا بمحمد وبما أنزل إليه ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ﴾ أي الكافرون ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ أي امتحناهم بالنعم والنقم، والخصب والجدب، والغنى والفقر، والصحة والمرض ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى ربهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويؤمنون بعد كفرهم. لكنهم لم يفعلوا
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ الخلف بالجزم: الأولاد الطالحون، وبفتح اللام: الصالحون ﴿وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ التوراة عن آبائهم ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى﴾ العرض: المتاع. والأدنى: القريب، أو الأخس الأحقر. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ وهكذا شأن الفجار الأشرار: يعملون كل ما يؤهلهم للنار، ويطمعون في المغفرة بلا عمل ولا استغفار ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ﴾ أي مثل العرض الأدنى المذكور ﴿يَأْخُذُوهُ﴾ أيضاً؛ وهم في ذلك كمثل المذنب الذي يطمع في المغفرة، ولا يحاول ترك الذنوب؛ بل يصر عليها، ويداوم على فعلها. ومن المقطوع به: أنه «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» فكيف بالكبيرة مع الإصرار؟ ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾ وهو أخذ العهود عليهم بإقامة التوراة والعمل بما فيها، و ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ فلا ينسبوا إليه ما لم يقله، ولا يطمعوا في مغفرته بغير توبة ولا عمل ﴿وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ﴾ أي ما في الكتاب ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ﴾ وما فيها من نعيم مقيم ﴿خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الله ويخشون عقابه
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾ يستمسكون ﴿بِالْكِتَابِ﴾ ويعملون بما فيه. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «والذين استمسكوا بالكتاب» ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ التي أمرناهم بإقامتها
﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ قلعناه ورفعناه فوق رؤوسهم ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ الظلة: كل ما أظلك من سقف، أو سحاب ﴿وَظَنُّواْ﴾ تأكدوا ﴿أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ لا محالة؛ حينئذٍ قلنا لهم ﴿خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم﴾ من الشرائع، والأوامر، والنواهي ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجد وعزم واهتمام ﴿وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ﴾ بالعمل
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ قائلاً لهم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ﴾ بأنك ربنا.
وهذا من باب التمثيل والتخييل. والمعنى: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، والبراهين على وحدانيته، فشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله تعالى فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية فكأنه تعالى أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ وكأنهم ﴿قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ﴾ وهذا التمثيل شائع سائغ في لغة العرب وأشعارهم ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ أي أشهدناكم على أنفسكم؛ لئلا تقولوا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا﴾ الإيمان ﴿غَافِلِينَ﴾ فلم نعلم عنه شيئاً
﴿أَوْ تَقُولُواْ
-[٢٠٥]- إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا﴾ ب الله ﴿مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ سرنا على سيرتهم، واتبعناهم في عباداتهم ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ من آبائنا
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ يا محمد ﴿نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ قيل: هو رجل من بني إسرائيل؛ أوتي علماً غزيراً، وقيل: هو أميةبن أبي الصلت. وأعجب الأقوال: قول بعض المفسرين: إنه نبي من أنبياءالله؛ يقال له: بلعم، أو بلعام، وقد أنزل عليه كتاباً. وهو قول باطل؛ يرده العقل والنقل؛ فإن الله تعالى ليس كأحدنا: فيخطىء في اصطفاء عباده، واختيار أنبيائه؛ و ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ أي كفر بها ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ أي إن الشيطان جعله تابعاً له ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الهالكين؛ من غوى الفصيل: إذا هلك
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ أي بهذه الآيات؛ ووفقناه للعمل بما فيها ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ﴾ سكن ﴿إِلَى الأَرْضِ﴾ أي إلى الدنيا، ورغب فيها، ومال إليها ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ واتباع الهوى من أشد الموبقات المهلكات؛ وهو إحدى موارد النار؛ فقد خلق الله تعالى الإنسان مزيجاً بين الخير والشر؛ وأبان له عن كليهما حق التبيين قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ ثم ميزه بالعقل الذي يعقله عن الفجور المؤدي إلى النار، ويمهد له سبيل التقوى المؤدي إلى الجنة وما من إنسان - كائن من كان - إلا ويميز في نفسه بين الخير والشر، والطيب والخبيث؛ وقد تقل قدرته على هذا التمييز، أو تنعدم أصلاً؛ إذا كان مصاباً بفساد عقله، أو بذهابه
غير أنه لا يمكن القول بأن ثمت مخلوقاً قد عدم التمييز بين الخير والشر انعداماً تاماً؛ وهو في تمام صحته، وكمال عقله. بل لا بد أن تكون لديه فكرة كاملة عن أن بعض الأعمال شر وبعضها خير؛ وإذا قلنا بغير ذلك فلماذا يستخفي عن الأعين حينما يتطلب هواه منه أمراً محذوراً غير مشروع؟
حتى الحيوان الأعجم فإنه يحس في قرارة نفسه ما هو شر، وما هو خير، وما هو مشروع، وما هو غير مشروع. أرأيت إلى القطة كيف استطاعت أن تميز بين ما هو مباح، وما ليس بمباح؛ فبينما هي تأكل ما تعطيه لها آمنة مطمئنة؛ إذا بها تفر فراراً بما تسرق أو تخطف، وتتوارى به عن الأعين؛ وتنظر إليك شزراً نظر الخائف المرتعب
فالإنسان إذا ما اتبع هواه، ولم يستطع أن يقاوم في نفسه قوى الشر: فقد انحط بإنسانيته إلى مرتبة هي دون مرتبة البهائم أما إذا قاوم هواه، وحارب نفسه، وألزمها الخير المحض، وجنبها الإثم والشر: فقد ترقى
-[٢٠٦]- بها إلى مراتب الأملاك، وصار أهلاً لخلافة الله تعالى في أرضه، وخليقاً بتبوء جنته، والتقلب في نعمته ﴿فَمَثَلُهُ﴾ أي مثل من أخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ أو تتركه يلهث المعنى: أنه ضال سواء وعظته أم لم تعظه؛ كالكلب إن طردته فسعى لهث. وإن تركته على حاله آمناً هادئاً لهث. وهو تمثيل البلاغة، بادىء الروعة؛ يضرب لطالب الدنيا وحدها؛ فهو دائماً ذليل مهان؛ تابع لشهواته، عابد لملذاته ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾ عليهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يتدبرون فيها؛ فيؤمنون
﴿سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي بئس المثل مثلهم ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ بالتكذيب، وتعريضها للعقاب الدنيوي، والعذاب الأخروي
﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ﴾ إلى دينه ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ لأن الهداية جاءته تفضلاً من لدن العزيز الكريم ﴿وَمَن يُضْلِلِ﴾ يتركه بغير هداية ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وقد أضلهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا قال تعالى:
﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ﴾
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ خلقنا ﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ﴾ خلقناهم ليؤمنوا بي وبرسلي؛ فكفروا بي وكذبوا رسلي. ومهدنا لهم سبيل الهدى؛ فاتبعوا الهوى، وأبنا لهم طريق الرشد؛ فأبوا إلا طريق الغي ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ كسائر قلوب الناس؛ خلقناها لهم ليفقهوا بها؛ ولكنهم وضعوا عليها أكنة وأقفالاً تمنعها من الفهم؛ فأضحوا ﴿لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ﴾ خلقناها لهم للإبصار والاستبصار، وللتفرقة بين النافع والضار، وللنظر إلى دلائل قدرته تعالى بعين الاعتبار؛ لكنهم وضعوا عليها غشاوة فعموا عن رؤية الحق، وأصبحوا ﴿لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ﴾ خلقناها لهم للاستماع إلى النصح والرشد؛ لكنهم صموا عن سماع الهدى؛ فأمسوا ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ﴾ فحق عليهم وصف ربهم ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ سبيلاً من الأنعام، و ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عما ينجيهم
﴿وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى﴾ سميت أسماؤه تعالى بالحسنى: لأنها حسنة اللفظ والمعنى، حسنة في القلب والسمع؛ كيف لا وهي تدل على اللطف والجود، والكرم، والرحمة، والرأفة، والود، والهداية ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾ أي تقربوا إليه تعالى بها؛ واطلبوا منه ما تشاءون بأسمائه الكريمة: فيطلب الإنسان بكل اسم ما يليق به؛ كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا معز أعزني، يا غفار اغفر لي، يا رزاق ارزقني، يا قهار اقهر من ظلمني، يا تواب تب علي، يا هادي اهدني، وهكذا.
وهذه الأسماء: صفات لذاته تعالى؛ إذ أن اسمه العظيم الأعظم هو «الله» وعلى ذلك كبار القوم؛
-[٢٠٧]- ألا ترى إلى قوله جل شأنه «ولله» وهو المسمى «الأسماء» أي التسميات التي يتسمى بها، أو الصفات التي يتصف بها (انظر آية ١١٠ من سورة الإسراء) ﴿وَذَرُواْ﴾ اتركوا ﴿الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ أي يميلون فيها، ويتركون القصد؛ كما فعل المشركون في تسمية أوثانهم: فاشتقوا اللات من «الله» والعزى من «العزيز»
﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ﴾ جماعة ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ أي يحكمون بالحق عدلاً
﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ أمهلهم ﴿إِنَّ كَيْدِي﴾ الكيد: المكر. والمراد به: العذاب. أي إن عذابي ﴿مَتِينٌ﴾ قوي شديد
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ﴾ أي ليس بصاحبهم محمد ﴿مِّن جِنَّةٍ﴾ جنون. وكانوا يقولون: شاعر مجنون ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ بين الإنذار واضحه
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ﴾ نظر اعتبار واستبصار ﴿فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ملكه تعالى ﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ فيهما؛ وأن كل ذلك يدل على وجود الله تعالى ووحدانيته، ووجوب الإيمان به، والتصديق برسله ﴿وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ فيقبضوا على ما هم عليه من تكذيب وكفر؛ فليسارعوا في الإيمان، قبل فوات الأوان وإذا لم يؤمنوا بما سقناه لهم من الدلائل ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي فبأي تخويف وترهيب، وتبشير وترغيب؛ بعد الذي جاء به محمد لهدايتهم يهتدون؟
﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ أي من يتركه ربه بغير هداية: فلن يستطيع أحد هدايته. وإضلاله تعالى لا يعدو أن يتركه في طغيانه؛ ما دامت أمامه سبل الهداية فلم يحاول سلوكها ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ العمه: التحير والتردد
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ﴾
متى ﴿مُرْسَاهَا﴾ إرساؤها؛ أي إثباتها وإقرارها ووقتها ﴿لاَ يُجَلِّيهَا﴾ لا يظهرها ﴿لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ وحده لا يشركه أحد - من ملك أو رسول - في ذلك ﴿ثَقُلَتْ﴾ عظمت ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي على أهلهما؛ لما ينتظرانه فيها من أهوال ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ أي كأنك عالم بها ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ﴾ وحده
﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً﴾ ألحقه بها ﴿وَلاَ ضَرّاً﴾ أدفعه عنها ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ﴾ أي يقويني ويعينني عليه ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ أي لو كنت أعلم الغيب لتحريت مواضع النجاح، ومواطن النجاة؛ ولما كنت غالباً تارة، ومغلوباً أخرى (انظر آية ٥٠ من سورة الأنعام)
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ آدم عليه السلام ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا﴾ من جنسها ﴿زَوْجَهَا﴾ حواء ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ ليستأنس بها، ويطمئن إليها ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ أي جامعها ﴿فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ﴾ ثقل حملها ﴿دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً﴾ أي نسلاً صالحاً
﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ﴾ المعنى:
-[٢٠٨]- إنه كان من نسل آدم عليه السلام من كفر ب الله تعالى، وجعل له شركاء في العبادة؛ والتثنية بالنسبة للذكر والأنثى
﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ به في العبادة ﴿مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ يخلق الله تعالى الحجارة - التي هم من جنسها - ويخلق الإنسان منها الأصنام التي يعبدها
﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ أي لا تستطيع الأصنام
﴿لَهُمْ﴾ أي لعابديهم ﴿نَصْراً﴾ على عدوهم ﴿وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ لو أراد أحد الناس بهم سوءاً؛ وها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد حطمها تحطيماً، وتركها جذاذاً؛ وقال لعبدتهم ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾
﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ﴾ أي وإن تدعوا هذه الآلهة ﴿إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ لأنهم لا يسمعونكم، ولا يرونكم ﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ أي سيان عندهم دعاؤكم وصمتكم؛ فكيف يهديكم إلى الرشاد؛ من إذا دعي إليه: استوى عنده دعاؤكم وصمتكم؛ لأنه لا يسمع ولا يعقل
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ مملوكون له؛ كما أنتم له مماليك ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾ يجيبوكم لما دعوتموهم إليه. وإلا فكيف تعبدون ما لا يسمع ولا يعقل؟
﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ كأرجلكم ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ﴾ كأيديكم ﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ﴾ كأعينكم ﴿أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ كآذانكم؟ فإذا كانوا لم يبلغوا بعد حد العابدين المخلوقين؛ فكيف تسوونهم بأحسن الخالقين؟ ﴿فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ تؤجلون وتمهلون
﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ العفو: ضد الجهد؛ أي تسهل في معاملة الناس من غير كلفة، ولا تطالبهم بما يشق عليهم، أو ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي الزيادة. والمعنى: لا تأخذ للصدقات إلا مما زاد عن حاجتهم. قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ﴾ وقيل: إنها نسخت بعد نزول آية الزكاة ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ المعروف والجميل من الأعمال. وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾:
هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك وحقاً إن من يرى ما فعله الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بأعدائه؛ بعد أن أوسعوا في الكيد له، وأفرطوا في إيذائه والنيل منه إن من يرى ذلك الإيذاء والبلاء، ويرى بعد ذلك معاملته لهم؛ بعد أن أمكنه الله تعالى منهم، ودخل مكة - فاتحاً ظافراً - بجيش عرمرم لجب؛ لم تر جزيرة العرب مثله من قبل؛ يكتسح مكة، وتطؤها خيله؛ والبلاد جميعاً في قبضته وتحت رحمته؛ وقد شملها - مع القدرة - عفوه، وعمها - مع القوة - عدله فلم تثره عليهم حفيظة، أو تحفزه على الفتك بهم ضغينة في حين أن مثلهم قليل عليه هلاك النفوس، وقطع الرؤوس
-[٢٠٩]- انظروا إلى أبي سفيانبن حرب؛ وقد فعل بالمؤمنين ما فعل، وآذاهم أبلغ الإيذاء، وأنزل بهم صنوف البلاء: فهو الذي نكل بهم أشد التنكيل في أحد، وزلزلهم في الخندق، وهاج عليهم القبائل، وحرض عليهم الكفار والمنافقين وانظروا عفو الرسول عنه، بعد أن أمكن الله منه: فإن عفوه عليه الصلاة والسلام لم يقف عند حد فك أسره وإنجائه من الموت فحسب؛ بل قد منَّ عليه بما أعظم شأنه، ورفع رأسه: فقد قال عند دخول مكة «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فأي معروف هذا، وأي فضل، وأي عفو؟ ورب قائل يقول: إن إكرام أبي سفيان وتكريمه، والعفو عنه: إنما كان لرفعته في قبيلته، وكرامته على قومه. فها هو ذا «وحشي» ذلك العبد الحبشي، الذي لا أهل له يدفعون عنه، ولا عشيرة تؤويه، ولا قبيلة تحميه؛ وهو الذي أدمى قلب المسلمين، بقتل إمام المجاهدين: عم الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام «حمزة» سيد الشهداء؛ وقد جيء بوحشي إلى رسولهالله؛ وقد أسلم - أو تظاهر بالإسلام وقتذاك خشية القتل - ولا شيء حينئذٍ أحب إلى سائر المسلمين من أن يروا دمه؛ كما رأوا أحشاء حمزة وقد طعنه وحشي بحربته خيانة وغدراً فلم يكن شأن الرسول معه سوى أن قال له: «غيب عني وجهك فلا أرينك»
فأي مثل هذا لضبط النفس، والعفو الجميل وإننا لو أردنا أن نورد طرفاً مما كان عليه من كريم الخصال، وحميد الفعال: لما وسعتنا الأسفار الضخام؛ فتبارك الذي خصه بمحاسن الأخلاق (انظر آية ٤ من سورة القلم)
﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾ الطائف: العسس. شبه به بدء وسوسة الشيطان؛ لأنه عليه اللعنة يأتي متلصصاً؛ وبعد أن يتمكن من ضحيته: يتحكم فيها بأمرها بالمنكر، ونهيها عن المعروف
﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾ أي يكونون مدداً لهم، ويعضدونهم
﴿قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا﴾ أي هلا اخترتها واختلقتها ﴿هَذَا بَصَائِرُ﴾ أي هذا القرآن بصائر: وهو جمع بصيرة؛ وهي الحجة الواضحة
﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ﴾ حال قراءته في الجهر ﴿وَأَنصِتُواْ﴾ حال قراءته في السر. وهذا في غير الصلاة؛ إذ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وذهب بعضهم إلى أن الاستماع والإنصات واجبان على المأموم عند قراءة الإمام
﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ حين استماعك للقرآن وما فيه من عظات ﴿تَضَرُّعاً﴾ تذللاً وتخشعاً وتواضعاً ﴿وَخِيفَةً﴾ من أن يعاقبك مولاك على تقصير
-[٢١٠]- وقع منك ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ﴾ أي أقل من الجهر؛ لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى حسن التفكر ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ هو ما قبل طلوع الشمس ﴿وَالآصَالِ﴾ هو ما بعد العصر إلى المغرب. والمراد: واذكر ربك في كل وقت
﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾ هم الملائكة.
210
سورة الأنفال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
210