تفسير سورة الإنسان

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى مخبراً عن الإنسان، أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه، فقال تعالى :﴿ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾ ثم بيّن ذلك فقال جل جلاله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ أي أخلاط، والمشج والمشيج، الشيء المختلط بعضه في بعض، قال ابن عباس : يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، وقال عكرمة ومجاهد : الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، وقوله تعالى :﴿ نَّبْتَلِيهِ ﴾ أي نختبره كقوله جلَّ جلاله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧، الملك : ٢ ]، ﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ أي جعلنا له سمعاً وبصراً يتمكن بهما من الطاعة والمعصية، وقوله جلّ وعلا :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جلَّ وعلا :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وكقوله جلّ وعلا :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ] أي بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذا قول عكرمة ومجاهد والجمهور، وروي عن الضحّاك والسدي ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ يعني خروجه من الرحم، وهذا قول غريب، والصحيح المشهور الأول، وقوله تعالى :﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ منصوب على الحال في الهاء في قوله :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ تقديره : فهو في ذلك ما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الصحيح :« كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها »، وقد تقدم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« لكل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفواً »، وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« ما من خارج يخرج إلاّ ببابه رايتان : راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته ».
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه، من السلاسل والأغلال والسعير وهو اللهب، والحريق في نار جهنم كما قال تعالى :﴿ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾ [ غافر : ٧١-٧٢ ]، ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده :﴿ إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ﴾، وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة، قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل، ولهذا قال :﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور، هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويروون بها، قاب بها، قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور، وقال بعضهم : هو من عين كافور، وقوله تعالى :﴿ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ أي يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم، والتفجير هو الاتباع، كما قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠ ]، وقال :﴿ وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً ﴾ [ الكهف : ٣٣ ] وقال مجاهد :﴿ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ يقودونها حيث شاءوا، وقال الثوري : يصرفونها حيث شاءوا، وقوله تعالى :﴿ يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر، وفي الحديث :« من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه »، ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي يكون ﴿ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ أي منتشراً عاماً على الناس إلاّ من رحم الله، قال ابن عباس : فاشياً، وقال قتادة : استطار والله شر ذلك اليوم ملأ السماوات والأرض.
وقوله تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ ﴾ قيل : على حب الله تعالى لدلالة السياق عليه، مجاهد ومقاتل، واختاره ابن جرير كقوله تعالى :﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، وكقوله تعالى :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ]، وروى البيهقي عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنباً أول ما جاء العنب، فأرسلت صفية يعني امرأة فانتشرت عنقوداً بدرهم، فاتبع الرسول سائل، فلما دخل به قال السائل : السائل، فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه، وفي الصحيح :« أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما، وأما الأسير فقال الحسن والضحّاك : الأسير من أهل القبلة، وقال ابن عباس :« كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين، يشهد لهذا أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء »
2645
، وقال عكرمة : هم العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وقد وصى رسول الله ﷺ بالإحسان إلى الأرقاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول :« الصلاة وما ملكت أيمانكم » قال مجاهد : هو المحبوس، أي يطعمون الطعام لهؤلاء، وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله ﴾ أي رجاء ثواب الله ورضاه ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً ﴾ أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشركونا عند الناس، قال مجاهد : أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأتى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير، قال ابن عباس ﴿ عَبُوساً ﴾ ضيقاً ﴿ قَمْطَرِيراً ﴾ طويلاً، وقال عكرمة : يعبس الكافر يومئذٍ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وقال مجاهد :﴿ عَبُوساً ﴾ العابس الشفتين، ﴿ قَمْطَرِيراً ﴾ قال : يقبض الوجه باليسور، وقال سعيد بن جبير وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول ﴿ قَمْطَرِيراً ﴾ تقلص الجبين وما بين العينين من الهول، وقال ابن زيد : العبوس الشر، والقمطرير الشديد، وقال ابن جرير : والقمطرير هو الشديد، يقال : هو يوم فمطرير ويوم قماطر، ويوم عصيب وعصبصب.
قال الله تعالى :﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ﴾ وهذا من باب التجانس البليغ، ﴿ فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم ﴾ أي آمنهم مما خافوا منه، ﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً ﴾ أي في وجوههم، ﴿ وَسُرُوراً ﴾ أي في قلوبهم وهذه كقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [ عبس : ٣٨-٣٩ ] وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه. قال كعب بن مالك في حديثه الطويل :« وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضي الله عنها، » دخل عليَّ رسول الله صلى الله وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه « » الحديث. وقوله تعالى :﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم ﴿ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾ أي منزلاً رحباً، وعشياً رغداً، ولباساً حسناً.
2646
يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم فقال تعالى :﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك ﴾ تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات، وأن ألأرائك هي السرر تحت الحجال، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾ أي ليس عندهم حرّ مزعج، ولا برد مؤلم، ﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا ﴾ أي قريبة إليهم أغصانها، ﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ أي متى تعاطاه دنا القطف إليه، تدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع، كما قال تعالى :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ٢٣ ] قال مجاهد : إن قام ارتفعت معه بقدر، وإن قعد تذلّلت له حتى ينالها، وإن اضطجع تذلّلت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى :﴿ تَذْلِيلاً ﴾، وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد، وقوله جلَّت عظمته :﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ ﴾ أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي في من فظة، وأكواب الشراب وهي التي لا عرى لها ولا خراطيم، وقوله :﴿ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ ﴾ فالأول منصوب بخبر كان، أي كانت قوارير، والثاني منصوب إما على الدلية أو تمييز، قال ابن عباس : بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلاّ من زجاج، فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا، قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلاّ قد أعطيتهم في الدنيا شبه إلاّ قوارير من فضة، وقوله تعالى :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ أي على قدر ريّهم لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي معدة لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة، وقال ابن عباس :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ قدرت للكف، وقال الضحّاك : على قدر كف الخادم، وهذا لا ينافي القول الأول، فإنها مقدرة في القدر والري.
وقوله تعالى :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾ أي ويسقون - يعني الأبرار أيضاً - في هذه الأكواب ﴿ كَأْساً ﴾ أي خمراً، ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ﴾ فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل، وهو حار ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفاً كما قاله قتادة وغير واحد، وقد تقدم قوله جلا وعلا :﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله ﴾ [ الإنسان : ٦ ]، وقال هاهنا :﴿ عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً ﴾ أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلاً، قال عكرمة، اسم عين في الجنة. وقال مجاهد : سميت بذلك لسلامة مسيلها وحدة جريها، وقوله تعالى :﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ أي يطوف على أهل الجنة ولدان من ولدان الجنة ﴿ مُّخَلَّدُونَ ﴾ أي على حالة واحدة، مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، وقوله تعالى :﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ أي إذا رأيتهم في صباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ﴿ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾ ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن، قال قتادة : ما من أهل الجنة من أحد إلاّ يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه، وقوله جلا وعلا :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ أي وإذا رأيت يا محمد ﴿ ثَمَّ ﴾ أي هناك يعني في الجنة ونعيمها، وسعتها وارتفاعها، وما فيها من الحبرة والسرور ﴿ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾ أي مملكة لله هناك عظيمة، وسلطاناً باهراً، وثبت في الصحيح
2647
« أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً إليها :» إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها « »، وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً :« إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه » فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى؟.
وقوله جلَّ جلاله :﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ( السندس ) وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، و ( الاستبرق ) وهو ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباس، ﴿ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾ وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [ الحج : ٢٣، فاطر : ٣٣ ] لما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد، والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأُخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ أي يقال لهم ذلك تكريماً لهم وأحساناً إليهم كما قال تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ]، وكقوله تعالى :﴿ ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير.
2648
يقول تعالى ممتناً على رسوله ﷺ بما أنزله عليه من القرآن العظيم، ﴿ فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره، واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره، ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك، بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس، فالآثم هو الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه، ﴿ واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ أي أول النهار وآخره، ﴿ وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ [ الإسراء : ٧٩ ] الآية، وكقوله تعالى :﴿ ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ المزمل : ١-٢ ]، ثم قال تعالى منكراً على الكفّار ومن أشبههم حب الدنيا والإقبال عليها، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم، ﴿ إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾ يعني يوم القيامة، ثم قال تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾، قال ابن عباس مجاهد : يعني خلقهم ﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾ أي وإذا شئنا بعثنا يوم القيامة، وبدلناهم فأعدناهم خلقاً جديداً، وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة، وقال ابن جرير :﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾ أي وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٣٣ ]، وكقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩-٢٠، فاطر : ١٦-١٧ ] ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ ﴾ يعني هذه السورة تذكرة، ﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ أي طريقاً ومسلكاً، أي من شاء اهتدى بالقرآن، ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله إِنَّ الله ﴾ أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعاً ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ أي عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾، ثم قال :﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ أي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
Icon