تفسير سورة الفجر

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٣٠ وقيل‏ :‏ ٢٩

سورة الفجر
مكية، وآياتها ٣٠ وقيل ٢٩ [نزلت بعد الليل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥)
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ. وقيل:
بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر: عشر ذى الحجة. فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي: العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية. وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روى عن النبي ﷺ أنه فسرهما بذلك «١».
وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهى عنه، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم إِذا يَسْرِ إذا يمضى، كقوله وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وقرئ: والوتر بفتح الواو، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد، وفي الترة: الكسر وحده «٢». وقرئ: الوتر بفتح الواو وكسر التاء: رواها يونس عن أبى عمرو، وقرئ: والفجر، والوتر، ويسر: بالتنوين، وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق. وعن ابن عباس: وليال عشر، بالإضافة. يريد: وليال أيام عشر. وياء يَسْرِ تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة. وأما في الوقف فتحذف مع
(١). قلت: التعليل من كلام الزمخشري. وأصله عند النسائي وأحمد والبزار والحاكم والبيهقي في الشعب الثالث والعشرين من رواية خير بن نعيم عن أبى الزبير عن جابر. قال: لا نعلمه إلا بهذا الاسناد.
(٢). قوله «وفي الترة الكسر وحده» في الصحاح «الموتور» الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول:
وتره وترا وترة، وكذلك: وتره حقه، أى: نقصه. (ع)
الكسرة. وقيل: معنى «يسرى» يسرى فيه هَلْ فِي ذلِكَ أى فيما أقسمت به من هذه الأشياء قَسَمٌ أى مقسم به لِذِي حِجْرٍ يريد: هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو: هل في إقسامى بها لذي حجر، أى: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر: العقل، لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سمى عقلا ونهية، لأنه يعقل وينهى. وحصاة: من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال: إنه لذو حجر، إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها، والمقسم عليه محذوف وهو «ليعذبن» يدل عليه قوله أَلَمْ تَرَ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٦ الى ١٤]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد، كما يقال لبنى هاشم: هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم، تسمية لهم باسم جدّهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مجدا تليدا بناه أوّله أدرك عادا وقبلها إرما «١»
فإرم في قوله بِعادٍ إِرَمَ عطف بيان لعاد، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل إِرَمَ بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير: بعاد إرم، على الإضافة. وتقديره:
بعاد أهل إرم، كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضا للتعريف والتأنيث.
وقرأ الحسن: بعاد أرم، مفتوحتين. وقرئ: بعاد إرم، بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ:
بورقكم. وقرى: بعاد إرم ذات العماد، بإضافة إرم إلى ذات العماد، والإرم: العلم، يعنى: بعاد أهل أعلام ذات العماد. وذاتِ الْعِمادِ اسم المدينة. وقرئ: بعاد إرمّ ذات العماد، أى جعل الله ذات العماد رميما بدلا من فعل ربك، وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. ومنه قولهم: رجل معمد وعمدان: إذا كان طويلا. وقيل: ذات البناء الرفيع، وإن كانت صفة
(١). لابن الرقيات، يصف رجلا بأنه حاز مجدا تليدا. أى: قديما. وشبهه بالحصن المبنى على طريق المكنية وبناه تخييل، أى شرعه وجدده أوله، أى: آباؤه الأولون: أدرك هذا المجد من جدود الممدوح عادا وإرما قبله أى: قبل عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فعقب عاد هذا: هم عاد الأولى، ومن بعدهم:
عاد الثانية.
747
للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين. وروى أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال:
أبنى مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة: وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد «١»، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها مثل عاد فِي الْبِلادِ عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتى الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم، أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير: لم يخلق مثلها، أى: لم يخلق الله مثلها جابُوا الصَّخْرَ قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا، كقوله وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. قيل له: ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد، كما فعل بماشطة بنته وبآسية الَّذِينَ طَغَوْا أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا. أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط: إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وعن عمر بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. المرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد «مفعال» من رصده، كالميقات من وقته. وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال: إنّ ربك لبالمرصاد يا فلان، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة، فلله درّه أىّ أسد
(١). أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبى صالح عن أبى لهيعة عن خالد بن أبى عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطولا. قلت: آثار الوضع عليه لائحه.
748
فرّاس كان بين ثوبيه، يدق الظلمة بإنكاره، ويقصع أهل الأهواء «١» والبدع باحتجاجه.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٥ الى ١٦]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦)
فإن قلت: بم اتصل قوله «٢» فَأَمَّا الْإِنْسانُ؟ قلت: بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعى للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها. فإن قلت: فكيف توازن قوله، فأما الإنسان، إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ وقوله وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ «٣» وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما، تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور.
أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت: هما متوازنان من حيث إنّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه، وذلك أن قوله فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربى أكرمن وقت الابتلاء، فوجب أن يكون فَيَقُولُ الثاني خبرا لمبتدإ واجب تقديره. فإن قلت: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت: لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة. ونحوه قوله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. فإن قلت:
هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت: لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة «٤»، وأما التقدير فليس بإهانة له، لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركا للكرامة، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهينا له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمنى بالهدية، ولا تقول: أهاننى
(١). قوله «ويقصع أهل الأهواء» في الصحاح «قصعت الرجل» صغرته وحقرته. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت: كيف اتصل قوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ بما قبله... الخ» قال أحمد: قوله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة ولا يأمره إلا بها: فاسد الصدر، مبنى على أصله الفاسد، سليم العجز.
(٣). قال محمود: «فان قلت كيف توازن قوله فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ وقوله وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ قال أحمد: يريد أنه صدر ما بعد أما الأولى بالاسم، وما بعد أما الثانية بالفعل. ومقصود السائل أن يكونا مصدرين: إما باسمين أو بفعلين.
(٤). قال محمود: «فان قلت هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟ وأجاب بأن البسط إكرام من الله تعالى العبد من غير سابقة»
قال أحمد: «قيد زائد تفريعا على أصله الفاسد، والحق أن كل نعمة من الله كذلك.
ولا أكرمنى إذا لم يهد لك. فإن قلت: فقد قال فَأَكْرَمَهُ فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله رَبِّي أَكْرَمَنِ وذمّه عليه، كما أنكر قوله أَهانَنِ وذمّه عليه. قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنه إنما أنكر قوله ربى أكرمن وذمّه عليه، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا مستوجبا على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «١» وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
والثاني: أن ينساق الإنكار والذّمّ إلى قوله رَبِّي أَهانَنِ يعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله فَأَكْرَمَهُ «٢» وقرئ: فقدر بالتخفيف والتشديد. وأكرمن، وأهانن: بسكون النون في الوقف، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)
كَلَّا ردع للإنسان عن قوله. ثم قال: بل هناك شرّ من القول «٣». وهو: أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة، وحض أهله
(١). قال محمود: «فان قلت: فقد قال فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله ربى أكرمن وذمه عليه كما أنكر قوله ربى أهانن وذمه عليه، وأجاب بأمرين، أحدهما أن المنكر عليه اعتقاده أن إكرام الله تعالى له عن استحقاق لمكان نسبه وحسبه وجلالة قدره، كما كانوا يعتقدون الاستحقاق بذلك على الله، كما قال: إنما أوتيته على علم» قال أحمد: والقدري لا يبعد عن ذلك، لأنه يرى أن النعيم الأعظم في الآخرة حق العبد على الله واجب له عليه ليس بتفضل ولا ممنون.
(٢). قال محمود: «الثاني أن سياق الإنكار والذم إلى قوله رَبِّي أَهانَنِ بمعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير اعترف بتفضل الله تعالى، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هو انا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله فأكرمه» قال أحمد: كأنه يجعل قوله فَأَكْرَمَهُ توطئة لذمه على قوله أَهانَنِ لا أنه مذموم معه.
(٣). قال محمود: «إنما أضرب عن الأول للاشعار بأن هنا ما هو أشر من القول الأول... الخ» قال أحمد:
وفي هذه الآية إشعار بابطال الجواب الثاني من جوابي الزمخشري، فانه جعل قوله أَكْرَمَنِ غير مذموم، ودلت هذه الآية على أن المعنى أن للمكرم بالبسط بالرزق حالتين، إحداهما: اعتقاده أن إكرام الله له عن استحقاق، الثانية أشد من الأولى: وهي أن لا يعترف بالإكرام أصلا، لأنه يفعل أفعال جاحدى النعمة، فلا يؤدى حق الله الواجب عليه في المال من إطعام اليتيم والمسكين.
على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام، ويحبونه فيشحون به وقرئ: يكرمون، وما بعده بالياء والتاء. وقرئ: تحاضون، أى: يحض بعضكم بعضا: وفي قراءة ابن مسعود: ولا تحاضون بضم التاء، من المحاضة أَكْلًا لَمًّا ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام. قال الحطيئة:
إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا «١»
يعنى: أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم. وقيل: كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون تراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنقاقه، ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الورّاث البطالون حُبًّا جَمًّا كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)
كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، ويومئذ بدل من إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ وعامل النصب فيهما يتذكر دَكًّا دَكًّا دكا بعد دك. كقوله: حسبته بابا بابا، أى: كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثا.
فإن قلت: ما معنى إسناد المجيء إلى الله، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة قلت: هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه: مثلت حاله في ذلك محال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم صَفًّا صَفًّا ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقوله وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وروى أنها لما
(١). للحطيئة. واللم: الجمع بين الحلال والحرام من غير فرق. وروى «ربه» بدل «أهله» والطواحن:
الأضراس. وتسمى: الأرحاء جمع وحى، يقول: إذا كان الأكل جمعا، أى: ذا جمع بين الخبيث والطيب يتبع صاحبه الذم، فلا طهر الله تلك الأضراس التي تطحن ذلك المأكول، والدعاء عليها: دعاء على صاحبها.
نزلت تغير وجه رسول الله ﷺ وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليا رضى الله عنه، فجاء فاحتضنه من خلفه وقبله بين عاتقيه، ثم قال: يا نبىّ الله، بأبى أنت وأمى ما الذي حدث اليوم، وما الذي غيّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال على: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع «١». أى يتذكر ما فرّط فيه، أو يتعظ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ومن أين له منفعة الذكرى، لا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين: يوم يتذكر، وبين وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى تناف وتناقض قَدَّمْتُ لِحَياتِي هذه، وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لعشر ليال خلون من رجب، وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقا بقصدهم وإرادتهم، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء «٢» والبدع، وإلا فما معنى التحسر؟ قرئ: بالفتح، يعذب ويوثق. وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبى عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره. والضمير للإنسان الموصوف. وقيل هو أبىّ بن خلف أى لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه، لتناهيه في كفره وعناده، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقرئ بالكسر، والضمير لله تعالى، أى: لا يتولى عذاب الله أحد، لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم. أو للإنسان، أى: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ على إرادة القول، أى: يقول الله للمؤمن يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ إمّا أن يكلمه إكراما له كما كلم موسى صلوات الله عليه، أو على لسان ملك. والْمُطْمَئِنَّةُ الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك، ويشهد للتفسير الأوّل: قراءة أبىّ بن كعب: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. فإن قلت:
متى يقال لها ذلك؟ قلت: إمّا عند الموت. وإمّا عند البعث، وإمّا عند دخول الجنة. على معنى:
ارجعي إلى موعد ربك راضِيَةً بما أوتيت مَرْضِيَّةً عند الله فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمى في سلكهم وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم، وقيل: النفس الروح.
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من طريق عطية عن أبى سعيد به وأتم منه. [.....]
(٢). قوله «كمذهب أهل الأهواء» إن كان المراد بهم أهل السنة لقولهم بأن الله هو الخالقى لفعل العبد فهم يثبتون له الاختيار فيه لأنهم يثبتون له الكسب فيه وإن كان المراد بهم من قال بالجبر المحض وهم القائلون بأن العبد لا دخل له في فعله أصلا، بل هو كالريشة المعلقة في الهواء، فكلامه مسلم لظهور بطلان مذهبهم. (ع)
Icon